الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنك بأعيننا} [الطور: 48]، وقوله:{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13 - 14]، وقوله:{ولتصنع على عيني} [طه: 39]، وقوله تعالى:{يوم يكشف عن ساقٍ} [القلم: 42]، وقوله:{سبِّح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، وقوله:{وهو العلي العظيم} [البقرة: 255]، وقوله:{الكبير المتعال} [الرعد: 9] وقوله: {ذي المعارج} [المعارج: 3]، وقوله:{رفيع الدرجات ذو العرش} [غافر: 15]، وقوله:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون} [الأنعام: 75 - 78].
فهذه الآيات في هذا الجنس الذي ذكره السيد، وأما جميع أجناس المتشابهات في القرآن الكريم فذلك بابٌ واسعٌ.
المقدمة الثامنة: في بيان مراتب التصديق والتأويل والرد.
واعلم أن كل ما أخبر الله تعالى أو رسوله عليه السلام بوجوده، فإنه يجب التصديق بوجوده، ولكن للوجود مراتبٌ متفاوتةٌ، وفيها تردد المصدِّقون، ومن بقي في التصديق متمسكاً بواحدة (1) منها، لم يُنسب إلى صريح التكذيب ما لم يصادم تأويله المعلوم من ضروره الدين للجميع لا للبعض، وحينئذٍ لا يُعذر بتأويله، كتأويلات الباطنية للأسماء الحسنى، وصفات الكمال، وتأويلات غلاة أهل البدع المخرجات من الإسلام، نعوذ بالله من ذلك.
ولهذا
توقَّف كثيرٌ من العلماء في تكفير كثيرٍ ممن خالف الحق من المسلمين
، لتمسُّكهم بعروة التصديق، فمن لم يتمسك بشيء منها، وخرج إلى
(1) في (ف): " بواحد ".
جنس تأويل الباطنية المعلوم بطلانه من الدين ضرورة، مثل تأويل الله جل جلاله بالإمام، وقولهم: إن الله ليس بقادر، وأن معنى القادر في حقه تعالى أنه يخلُقُ من هو قادرٌ، فليس هذا بتأويل، إنما هو تكذيبٌ سمَّته الملاحدة تأويلاً، وصادموا في ذلك ضرورة الدين، وتوصَّلوا بذلك إلى إنكار الجنة والنار، وتأويل المَعَاد الأُخروي برمته، وحاولوا ما لم يتم لهم من الكفر الصريح، والتمويه على العامة بدعوى الإسلام.
وهذه مراتب التصديق بوجود ما أخبر الله تعالى به على الحقيقة، والظاهر، ثم على المجاز والتأويل المستعمل بين علماء الإسلام، ثم نذكر مرتبة الرد.
المرتبة الأولى: الوجود الذاتي، وهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحِسِّ والعقل، ولكن يأخد الحسُّ، والعقل عنه صورته، فيسمى ما يتعلق بالحس منه إدراكاً، ويسمى ما يتعلق بالعقل منه علماً وتصوُّراً ومعرفةً على أحد الاصطلاحين، وهذا كوجود الجنة والنار، والبعث والملائكة، وسائر الأمور، فإن وجودها ذاتي حقيقي، كوجود السماوات والأرض وما فيها من المخلوقات وهذا الوجود هو الذي ليس بمتأول، وما دونه من مراتب الوجود، فإنما يُصار إليه بالتأويل.
وأجمعت الأمة إجماعاًً قطعياً أنه لا يجوز النزول منه إلى ما دونه من مراتب التأويل إلَاّ للضرورة وتعذُّر التصديق به، ولا يُخالف أحدٌ من الظاهرية وغيرهم أن الدليل القاطع العقلي والسمعي يوجب التأويل، ولهذا قال أبو محمد بن حزمٍ، وهو من أئمة الظاهرية:
ألم تر أنِّي ظاهريٌّ وأنني
…
على ما بدا حتَّى يقومَ دليلُ
وقد صرح الإمام أحمد بن حنبل بالتأويل في غير موضعٍ (1)، فهذا يدلُّ على
(1) قال ابن الجوزي في " زاد المسير " 1/ 225: في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} : كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا، وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن =
أنه لم يُخالف في وجوب التأويل أحدٌ ممن يُعْتَدُّ به من جميع الفِرَقِ، وإنما يُنكره في بعض المواضع من يُخالفنا مدَّعياً أن الدليل الذي ألجأ إليه غير صحيحٍ، فالمنازعة في الحقيقة إنما هي في الأدلة الموجبة له، والله أعلم.
المرتبة الثانية: من مراتب الوجود، وهي أُولى مراتب التأويل: الوجود الحِسِّي، وهو ما تمثل (1) في القوة المُبصرة من العين مما لا وجود له خارج العين، فيكون موجوداً في الحسِّ، ويختص به الحاسُّ، ولا يشاركه فيه غيره إلا من تمثَّل له في قوة بصره مثله، وكذلك كل ما يشاهده النائم، وكل ما يشاهده المريض من ذلك، وكل ما يتمثَّلُه أهل الكشف مما لا وجود له في الخارج، إذ قد (2) تتمثَّل لهم صورٌ لا وجود لها خارج حسهم (3) حتَّى إنهم يُشاهدونه كما نشاهد سائر الموجودات، وذكر بعض أهل العلم أنه قد يتمثل للأنبياء عليهم السلام صورٌ في حال الصحة واليقظة على هذه الصفة من غير وجودٍ حقيقي، وينتهي إليهم الوحي والإلهام بواسطتها، فيتلقَّوْنَ منها في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم، وأهل الكشف من الصُّوفية يذكرون مثل ذلك في حال اليقظة والصحة.
وبالجملة، فهذا متفقٌ عليه في المنام وحال تغير العقل، مثل حال المرض (4)، وأما في حال الصحة واليقظة، ففيه خلافٌ، ومن جوَّزه، احتج بأمورٍ:
أولها: قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، وقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إليه من سِحْرِهِمْ أنَّها
= أحمد أنه قال: المراد به: قدرته وأمره قال: وقد بينه في قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} .
وانظر " فتاوى شيخ الإسلام " 16/ 404 - 406.
(1)
في (ش): " يتمثل ".
(2)
في (ش): " وقد ".
(3)
" حسّهم " ساقطة من (ش).
(4)
في (ش): " المريض ".
تَسعَى} [طه: 66]، وهذا -مع نصِّ القرآن عليه- معلومٌ من أحوال السَّحَرةِ وخواص السحر، وفيه ما يدلُّ على جواز وجود الشيء في قوة البصر على سبيلِ التخيل، وإن لم يكن له وجودٌ حقيقيٌّ في حال الصحة واليقظة، ألا ترى إلى قوله تعالى:{يُخَيَّلُ إليه من سحرهم أنها تسعى} ، فإن فيه أنه من (1) رآها يُخَيَّل إليه أنها تسعى، وفيه أنها غير ساعيةٍ في الحقيقة، ولهذا سمَّاه تخييلاً، ومنه قوله تعالى:{فَتَمَثَّل لها بشراً سوياً} [مريم: 17]، ومنه تصوُّر الملائكة لقوم لوطٍ على صور شبابٍ حسانٍ، وتمثُّل جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم على صورة دِحية الكلبي مرة (2)، وعلى صورة أعرابيٍّ مرةً (3)، وإلى ذلك أشار ابن الفارض في قوله (4):
يرى ملكاً يُوحَى إليه، وغيرهُ
…
يرى رجُلاً يوحى إليه بصحبَةِ
وفي الذكر ذكر اللَّبس ليس بمُنكرٍ
…
ولم أعْدُ عن حُكمي كتابٍ وسنةِ
والصحيح: أن صورة جبريل العظيمة لم تُحوَّل عما هي عليه.
الحجة الثانية: قوله عليه السلام: " تنام عيناي ولا ينام قلبي "(5). فإذا ثبت أن قلبه لا ينام، فإنه يتخيل له في النوم ما لا حقيقة له، كما يُخيل له عليه السلام أن في سيفه ثُلْمَةً في وقعة أُحدٍ، وتمثَّلت له بقرٌ مُذَبَّحةٌ (6)، ونحو ذلك مما لا
(1)" من " ساقطة من (د) و (ف).
(2)
أخرجه أحمد 2/ 107، والنسائي في العلم من " الكبرى " كما في " التحفة " 5/ 444 من حديث ابن عمر، وصحَّح إسناده الحافظ في " الإصابة " 1/ 463.
وأخرجه النسائي 8/ 403 من حديث أبي ذر وأبي هريرة بإسناد صحيح. وأخرجه أحمد 6/ 148 و152، والطبراني في " الكبير " 23/ (85) من حديث عائشة، وفيه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف.
(3)
انظر 5/ 505.
(4)
" ديوانه " ص 60.
(5)
تقدم تخريجه 1/ 176.
(6)
أخرح البخاري (3041) و (3622) و (4081) و (7035)، ومسلم (2272)، =
حقيقة له في الخارج، فكذلك غيره في اليقظة مثله في النوم، لأنه على هذا (1) يكون في حال نومه كمن غمض عينيه، وسدَّ أُذنيه، لا يغيب عنه إلَاّ إدراك الحواسِّ، وقلبه محفوظٌ، ولهذا قال ذلك تعليلاً، لكون نومه لا ينقض وضوءه، وفي هذه الحجة مباحث تركتها اختصاراً.
الحجة الثالثة: قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157]، وهي محتملةٌ لا يظهر فيها مرادهم والله أعلم.
الحجة الرابعة: قوله عليه السلام: " عُرِضَتْ علي الجنة والنار في عُرض هذا الحائط "(2)، فإنه عليه السلام قال ذلك في حال اليقظة، في حال صلاة الكُسوف كما ذلك معروف في كتب الحديث (3)، ويستحيل أن تكون الجنة والنار
= والدارمي 2/ 129، وابن حبان من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً:" رأيت في رؤياي أنِّي هززتُ سيفاً فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثمَّ هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء به الله من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقراً والله خير، فإذا هم المؤمنون يوم أحد ".
(1)
" على هذا " ساقطة من (ش).
(2)
قطعة من حديث مطول أخرجه البخاري (7294)، ومسلم (2359)، وابن حبان (106) من حديث أنس رضي الله عنه، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3)
المعروف في كتب الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد صلاة الظهر، فقد روي البخاري (540) من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلَّى الظهر، فقام على المنبر فذكر الساعة، فذكر أن فيها أموراً عظاماً ثم قال:" من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلَاّ أخبرتكم ما دمت في مقامي هذا ". فأكثر الناس في البكاء، وأكثر أن يقول:" سلوني ". فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي؟ قال: " أبوك حذافة " ثم أكثر أن يقول: " سلوني ". فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربَّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً. فسكت. ثمَّ قال:" عُرِضَتْ عليَّ الجنة والنار آنفاً في عُرض هذا الحائط، فلم أر كالخير والشر ". =
مع سعتِهما انتقلتا إلى ذلك الحائط في الحقيقة، وإنما رآهما فيه كما ترى السماء في الماء. أو في المرآة تخيُّلاً لها هناك من غير حقيقةٍ، وإن كانت الرؤية بالمرآة حقيقة عند المخلصين من النُّظَّار، وإنما قصدتُ التمثيل، لانتقاش الصورة الكبيرة في الجسم الصغير، وفي احتجاجهم بهذا الحديث نظر، فإن ألفاظه الصحيحة تدل على أنها رؤيةٌ حقيقة، لأنه صلى الله عليه وسلم هم أن يأخذ من الجنة عُنقُوداً وقال:" لو أخذتُه لأكلتُم منه عُمْرَ الدنيا " أو نحو ذلك، وليس في الحديث أنه رآهما في الحائط فيما علمت، إنما فيه أنه رآهما مطلقاً وقَرُبا منه، والله أعلم.
الحجة السابعة (1): قوله عليه السلام: " يُؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبشٍ أمْلَحَ "(2) الحديث إلى آخره، وقد ثبت عند جمهور علماء الكلام أنه يستحيل أن يكون الموت جسماً على الحقيقة.
الحجة الثامنة: قوله عليه السلام: " من رآني، فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثَّلُ بي "(3)، وهذه الرؤية حِسِّيَّة لا حقيقية، إذ لا تكون رؤيته عليه الصلاة والسلام بمعنى انتقال شخصه الشريف من روضة المدينة، بل على سبيل وجود
= نعم قد ذكر في صلاة الكسوف رؤيته صلى الله عليه وسلم الجنة والنار من حديث عائشة وابن عمر وابن عباس، لكن لم يرد عندهم جملة:" من عُرض الحائط ". انظر " صحيح ابن حبان "(2832) و (2838) و (2841).
(1)
كذا الأصول، فإما أن يكون الخطأ في العد، أو أنه سقط منه الحجة الخامسة والسادسة.
(2)
تقدم تخريجه ص 276 من هذا الجزء.
(3)
أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 261 و342 و410 و425 و463 و469 و472، والبخاري (6993)، ومسلم (2216)، وأبو داود (5123)، والترمذي (2280)، وابن ماجه (3901)، وابن حبان (6051) و (6052).
وأخرجه من حديث أبي جحيفة ابن ماجه (3904)، وأبو يعلى (881)، والطبراني في " الكبير " 22/ (279) - (281) و (301)، وصححه ابن حبان (6053).
صورته الشريفة في حِسِّ النائمِ.
الحجة التاسعة: قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الطويل الثابث في الصحيح في وصف القيامة، قال فيه:" فيتمثَّل لكل فرقةٍ معبودها، فتتبعه حتى يقدم بها النار، ويتمثل لمن كان يعبد عيسى عليه السلام صورة عيسى، فيتبعها حتَّى تقذفه (1) في النار " أو كما جاء في بعض الألفاظ: " شيطان عيسى على صورة عيسى "(2) ولا يكون على هذه الرواية حجة صريحة والله أعلم.
وفي بعض الأحاديث: " ويبقى محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأمته، فيتمثل الرب تبارك وتعالى لهم، فيأتيهم " الحديث خرَّجه الطبراني من طُرق من حديث عبد الله بن مسعودٍ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد ": ورجال أحد طرق الطبراني رجال الصحيح، غير أبي خالدٍ الدَّالاني، وهو ثقة، ذكره في باب جامع في البعث، ورواه قبل ذلك في أول كتاب البعث موقوفاً على ابن مسعودٍ، وخرجه الحاكم في الفتن من " المستدرك "، فقال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الأصبهاني، حدثنا الحسين بن حفصٍ، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كُهيلٍ، عن أبي الزَّعراء، عن ابن مسعودٍ، به، وقال: صحيح على شرط الشيخين (3).
وفي أول كتاب الزكاة من " جامع الأصول "(4) عن ابن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الذي لا يُؤدي زكاة مالِه يُخيَّل إليه مالُه يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان " الحديث. رواه النسائي وأحمد (5) من طريقين عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وهذا إسناد على شرط الشيخين، بل على شرط الجماعة، إلَاّ أن له علةً غير قادحةٍ ذكرها
(1) في (ف): " تقذف به ".
(2)
تقدم تخريجه من حديث أبي هريرة 5/ 84.
(3)
تقدم تخريج حديث ابن مسعود 5/ 91 - 94.
(4)
4/ 569.
(5)
أحمد 2/ 98 و137 و156، والنسائي 5/ 38 - 39.
النسائي وهي: أنَّ عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار رواه عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال النسائي وهو أشبه بالصواب، وعبد العزيز عندنا أثبت من عبد الرحمن. انتهى من " أطراف " المزي (1).
وحديث أبي هريرة رواه البخاري والنسائي ولفظه " مُثِّل " بدلاً من " خُيِّل " كما يأتي قريباً (2). وهذه الرواية للمثال كالمنام الصَّادقِ، إلَاّ أنها في اليقظة، وتحتاج إلى التأويل والتعبير كالمنام، ذكر لي ذلك شيخُنا إمام هذه المعارف عمر (3) بن محمد العَرابي نفع الله به.
ويشهد لهذا أشياء كثيرةٌ معلومةٌ، لا يتسهَّلُ تأويلها لمن مذهبه التأويل إلا بذلك، كقوله تعالى:{أن بُورك من في النار ومن حولها} [النمل: 8]، وقوله:{نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [القصص: 30]، وهو يسمى عالم المثال (4) وهو قرآنيٌّ شهيرٌ. قال الله تعالى:{فَتَمَثَّل لها بَشَراً سويَّا} [مريم: 17]، ومنه رؤيانا له صلى الله عليه وسلم في المنام، ومنه مجيء جبريل عليه في صورة دحية وأعرابي، ومجيء الملائكة إلى إبراهيم ولوطٍ في غير صورهم، وذلك كله بقدرة الله تعالى لا بقدرة الملائكة، ولا نتكلم في ذات الله بشيء من ذلك إلَاّ أن يصح فيه الحديث،
(1)" تحفة الأشراف " 5/ 459.
(2)
انظر ص 299.
(3)
تحرف في (ش) إلى: عمرو، وهو عمر بن محمد بن مسعود بن إبراهيم النشاوري اليمني المعروف بالعرابي نزيل مكة. أخذ باليمن عن أحمد الحرضي المقيم بأبيات حسين ونواحيها، وكان من جلة أصحابه وعن غيره من صلحاء اليمن، ثم قدم مكة في سنة (811)، فاستوطنها حتى مات لم يخرج منها إلَاّ لزيارة المدينة النبوية غير مرة، ومرةً في سنة (819) إلى اليمن، ورزق حظاً وافراً من الصلاح والخير والعبادة، وكان منور الوجه، حسن الأخلاق والمعاشره، مقصوداً بالزيارة والفتوح من الأماكن البعيدة، وتاب على يده خلق كثير، توفي سنة 827 هـ، ودفن بالمعلاة مترجم في " العقد الثمين " 6/ 360، و" الضوء اللامع " 6/ 131 - 132.
(4)
قوله: " وهو يسمى عالم المثال " ساقط من (ش).
ولكن شواهده كثيرةٌ، ويتخرَّج بإثبات عالم المثال مشكلاتٌ صعبةٌ كما ذكره بعض العلماء وذكره ابن قُتيبة في فقء موسى عين ملك الموت والله أعلم (1).
وليس في هذا تشبيهٌ، لأنه كالمنام، ولا ردٌّ لتكليم الله موسى، لأن الكلام صدر من الله حقيقةً، ولكن إسماعه موسى عليه السلام كان بواسطة ذلك المثال، كما أن جبريل عليه السلام كلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقةً، وكلم مريم أيضاً حقيقةً، وإن كان السماع منه بواسطة المثال، وليس ذلك بأعجب من سماع كلام المتكلم من صدى الجبال حين يُجيبه، ولا من رؤية صورة الأشياء العظيمة في المرآة.
ومن أوضح الأدلة على نفي الحلول: ما اتفق أهل النقل على صحته من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في عُرض الحائط وهو في الصلاة، حتى استأخر وتقدَّم ليأخذَ قِطْفَاً من الجنَّة ونحو ذلك.
الحجة العاشرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُوحى إليه وهو بين الناس، فيسمع صوت المَلَكِ، ويرى صورته، ويقرؤه، ويتحفَّظ منه، وليس من الحاضرين من يرى مَلَكاً، ولا يسمع قراءةٌ، وذلك في حال (2) يقظته عليه السلام، وفي غير مرضٍ، وهو حجة على من ثبت عنده من علماء الكلام من المعتزلة أن ذلك لا يصح على الحقيقة، وأنه لو كان ثم أصواتٌ مسموعةٌ، لوجب أن يسمعها الحاضرون.
الحجة الحادية عشرة: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الذي لا يُؤَدِّي زكاة ماله يمثِّلُ الله له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، ثم يلزمه
(1)" تأويل مختلف الحديث " ص 276 - 278، وحديث ملك الموت وموسى عليه السلام هو عند ابن حبان (6223)، وانظر تخريجه فيه.
(2)
" في حال " ساقطة من (ف).
بطوقه، يقول: أنا كَنْزُك، أنا كَنْزُكَ". رواه البخاري والنسائي (1)، وله شواهد، والحجة: " يمثل ".
الحجة الثانية عشرة: أن ذلك من العلوم الضرورية التجريبية الحاصلة لمن ارتاضَ على مُلازمة الخلوة والذكر على شروط أهل التصوُّف، وقد ذكر الرازي في " مفاتح الغيب " أن أهل الخلوة يسمعون أصواتاً لا يشكُّ فيها، وأن هذا مما أقرَّت به الفلاسفة، لأنهم من أهل الخلوة والرِّياضة، ولم يقع النِّزاع في هذا، وإنما رُوِيَ النِّزاع في ماهيته، فروي عن (2) الفلاسفة أنه تخيُّلٌ كالمنام، ولا حقيقة له، واختار الرازي أنه حقيقةٌ، قال: ولا مُوجب للقول بأنه تخيل.
وهذا يقتضي أن هذا (3) أمرٌ مشهورٌ متواترٌ عن أهل الرياضيات، لكنه لا حجة فيه، وإن سلمنا صحته، إذ لا دليل على وجود تلك الأصوات وجوداً ذاتياً، وإنما تصير إلى الوجود الحسي في بعض المواضع، لتعذُّر الوجود الذاتي، ولكن يقوي قولهم إن صحت لهم التجربة الضرورية غير المسموع من الأصوات، وقد ادَّعوا ذلك في صورتين:
الصورة الأولى: ادعى أهل الرياضات من الصوفية أنهما يشاهدون ما خلف الحجاب الكثيف في حال اليقظة، وتواتر هذا عنهم، وهم جمعٌ عظيمٌ، لا يجوز عليهم التَّواطُؤُ على محض البَهت والكذب، فوجب حملُه على الوجود الحسِّي، إذ يستحيل عند جماعة المحققين من أهل الكلام أن يرى ما خلف الحجاب الكثيف، وأما الصوفية، فيسمونه عالم المثال، وقد جمع بعضهم به بين أحاديث ظاهرها التعارض، مثل قوله: "رأيت موسى قائماً في قبره يصلي
(1) البخاري (1403) و (4565)، والنسائي 5/ 39، وأخرجه أيضاً أحمد 2/ 279 و355، وابن حبان (3258).
(2)
" عن " ساقطة من (ش).
(3)
في (ش): " أنه ".
عند الكثيب الأحمر" (1)، مع أنه رآه في السماء في ليلة المعراج وهذا مقام وَعْرٌ.
الصورة الثانية: اشتهر عند أهل العلم أن من خواصِّ بعض المرآة أن يرى منها الدنيا كلها، وهي المرآة المسمى بمرآة المنجِّم، وفيها يقول المعرِّي (2):
لقد عَجِبُوا لأهل البيت لما
…
أتاهم عِلُمهم في مَسْكِ جَفْرِ
ومرآة المنجِّم وهي صُغرى
…
أرتْهُ كلَّ عامرةٍ وقَفْرِ
وقد اشتهرت الرواية، بل تواترت، عن حيٍّ القاضي شرف الدين حسن بن محمد النَّحوي رحمه الله أنه رأى هذه المرآة مع بعض السَّيَّاحين، وأراه فيها أقاليم الدنيا، ومدائن الإسلام، وأراه فيها ما يعرفه القاضي من بعض مزارع صنعاء وحوائطها، ليعرف صِدقَه فيما يجهله من سائر ما رآه في الأقاليم، وحدثني (3) بذلك عن القاضي رحمه الله غير واحد من الثقات.
الحجة الثالثة عشرة: أنه قد ثبت بالضرورة أن العاقل المستيقظ الصحيح قد يتخيَّل الشيء الواحد اثنين، والقائم مُعوَجَّاً، كما يتخيل العمود في الماء، فدل على جواز هذا، لأن كل واحدٍ منهما نظر (4) كاذبٌ في اليقظة والصحة، وإنما كذب لخللٍ وقع، وعذرٍ اتفق في بعض هذه الحجج ما يقرب، وفيها ما هو ضعيفٌ، والله أعلم.
فإذا عرفت هذه الجملة، فلا بد من تفرقة بين الرؤية الحقيقية والحسية، وإلا لزم مذهب بعض منكري العلوم، والفرق في ذلك واضحٌ وهو أن الرؤية الحقيقية تفيد العلم الضروري بالوجود الحقيقي الذي لا يقبل التشكيك مع
(1) أخرجه من حديث أنس ابن أبي شيبة 14/ 307 و308، وأحمد 3/ 120 و148 و248، ومسلم (2375)، والنسائي 4/ 215 و216، وابن حبان (49) و (50).
(2)
في " اللزوميات " 2/ 553. المسك: الجلد، والجفر: ولد المعزى، وقد تقدم الكلام على الجفر في الجزء الأول.
(3)
في (ش): " وحدث ".
(4)
" نظر " ساقطة من (ش).
الإصغاء إلى جانب الشك، وقال ابن عربي الصُّوفي في " الفتوح المكية "، في مقام المعرفة، في النوع السادس من علوم المعرفة، وهو علم الخيال وعالمه المنفصل والمتصل. وهو ركنٌ عظيمٌ من أركان المعرفة، وهذا هو علم البرزخ، وعلم عالم الأجساد التي تظهر فيها الروحانيات، وهو علم سوق الجنة والتجلي الإلهي في القيامة في صورة التبديل، وهو علم ظهور المعاني التي لا تقوم بنفسها مجسدة مثل الموت في صورة كبش، وعلم ما يراه النائم، وعلم المواطن التي يكون فيها الخلق بعد الموت وقبل البعث، وفيه تظهر الصور المرئية في الأجسام الضيائية، يعني المرايا، وهو واسطة العقد، إليه تعرج الحواسُّ، وإليه تنزل المعاني، وهو لا يبرَحُ عن موطنه تعضده الشرائع، وتثبته الطبائع، فهو المشهود له بالتصرف التامِّ، وله التحام المعاني بالأجسام محير الأدلة والعقول.
انتهى ذلك، ويعني بالمتصل: السريع انكشاف بطلانه، وبالمنفصل: البطيء، والله أعلم.
فإذا تقرر هذا، فاعلم أن جماعة من العلماء قد صاروا إلى تأويل أمورٍ كثيرةٍ بهذا الوجود الحسي، فمن ذلك حديث الترمذي في النبي صلى الله عليه وسلم:" أتاني ربي هذه الليلة، فقال لي: أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ "(1). فهذا الإتيان لا يجوز أن يكون موجوداً في الحقيقة، فوجب صرفه إلى الوجود الحسي، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث في " الترمذي " مفسراً (2) بأنها رؤية منامٍ نصَّاً لا تأويلاً.
ومن ذلك حديث حمَّاد بن سلمة مفتي أهل البصرة، فإنه روى عن ابنِ عباس في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل جلاله حديثاًً شديد النكارة، تقشعر لذكره الجلود، ذكره الذهبي في ترجمة حمادٍ (3)، وساق طُرُقَه، ثم قال: فهذه الرؤية.
إن صحت رؤية منامٍ.
(1) تقدم تخريجه 1/ 218 - 219.
(2)
" مفسراً " ساقطة من (ش).
(3)
في " ميزان الاعتدال " 1/ 593 - 594.
وقد تكلم الحفاظ في حماد بن سلمة وقدحوا فيه على جلالته وأمانته لغير سببٍ إلَاّ لروايته لهذا الحديث، فاجتنبه البخاري، وترك روايته، وأما مسلمٌ، فروى عنه مقروناً بآخر، وأورد حديثه في الشواهد والمتابعات، إلَاّ حديثه عن ثابت، وأنكره عليه حميد الطويل التابعي الجليل، وقال:" القول هكذا، فقال حماد: يقوله أنس، ويقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكتمه أنا؟! "
ويحتمل أن يكون من هذا القبيل حديث المواصلة في الصوم في قوله عليه الصلاة والسلام: " أني لست كأحدكم، إني أبيتُ يطعمني ربي ويسقيني "(1)، وحديث عيسى عليه السلام الذي فيه:" آمنتُ بالله وكذبت بصري "(2)، ومن هذا القبيل حديث المعراج بطوله، وما كان فيه من رؤية الأنبياء عليهم السلام، وغير ذلك على أحد قولي العلماء من المفسرين والمحدثين وغيرهم، وهو صريح رواية (3) البخاري في " صحيحه "(4).
والصحيح في الجمع بين الأحاديث ما ذكره بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ذلك في المنام قبل النبوة، ثم رآه في اليقظة بعدها، كما رأى دخول مكة في المنام، ثم في اليقظة، قال الله تعالى:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُون} [الفتح: 27]، وهذا تأويلٌ حسنٌ، لأن في الأحاديث الصحاح ما يدلُّ على أن معجزة الإسراء كانت في اليقظة، ومما صرح في متن الحديث الصحيح
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 281 و315، والبخاري (1965) و (6851) و (7299)، ومسلم (1103)، وابن حبان (3575) و (3576)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
نص الحديث من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رأى عيسى ابن مريم رجلاً يسرق، فقال: أسرقت؟ قال: كلا والله الذي لا إله إلَاّ هو فقال عيسى: آمنت بالله، وكذبت عيني. أخرجه أحمد 2/ 214 و383، والبخاري (3444)، ومسلم (2386).
(3)
في غير (ش): " رواه ".
(4)
برقم (3207) و (3887) من حديث مالك بن صعصعة وأخرجه أيضاً مسلم (164)، وابن حبان (48)، وانظر تمام تخريجه فيه.
أنه كان في المنام قول أنس مرفوعاً في حديث المعراج: " ثم دنا الجبار تعالى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى "(1).
ومنه أحد الأحاديث المتعارضة في وصف الدَّجال، وهو حديث ابنِ عمر المتفق على صحته (2).
وعلى كلا القولين، فهي رؤيا نبوةٍ ورؤيا حقٍّ، كان فيها إثبات التكليف بالصلوات، ورفع منار المناقب النبويات.
وإنما سقتُ الكلام في هذا الوجود الحسِّيِّ، وبسطت فيه، لأن بعض الأشاعرة والصوفية قد ضاقت عليه المسالك في تأويل تلك الأحاديث التي رواها السيد، فَتَمَحَّلَ في تأويلها وأبعد، فجعلها من هذا القبيل، وزعم أنه يحصل يوم القيامة من روعة الأهوال ما يُدهش العقول ويذهلها، كما قال تعالى:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]، وإن أدنى الآلام تُغَيِّر العقول، فكيف بأهوال الآخرة؟
قال: ففي خلال تلك الأهوال تَذْهَلُ العقول، ويرى الناس ذلك الذي جاء في الحديث كما قال عليه السلام مثلما يرى النائم والمريض الشيء من غيرِ حقيقةٍ.
قال: والسببُ في رؤيتهم لذلك أن أهوال القيامة لما غَمَرَتْ عقولهم في
(1) أخرجه البخاري (7517)، وأبو عوانة 1/ 125 و135 من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك، وفي رواية شريك هذه أشياء انفرد بها، لم يتابعه عليها أحد من الحفاظ الأثبات الذين رووا حديث الإسراء وقالوا: إنه اضطرب في حديثه هذا عن أنس، وقال الحافظ في " الفتح " 13/ 485. ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء، بل تزيد على ذلك، ثم ذكرها، وذكر منها قوله: إن الإسراء كان مناماً، ونسبة الدنو والتولي إلى الله عز وجل، والمشهور أنه جبريل عليه السلام.
(2)
البخاري (1354) و (1355)، ومسلم (2930) وهو عند ابن حبان (6785) وانظر تمام تخريجه فيه.
بعض الأحوال، وكان التفكر في خطاب الله تعالى، وما يقول لهم، وما يكون منهم ملء قلوبهم، رأوا ذلك في خلال غمرات الألم، لاهتمامهم بذلك في حال استقامة العقل: قال: ولا يلزم على هذا التأويل أن يجوز في سائر أحوال القيامة أن يكون من هذا القبيل لوجوه:
أحدها: لأنه معلومٌ من الدين ضرورة أن وجود تلك الأحوال (1) كلها ذاتي حقيقيٌّ.
الثاني: إجماع المسلمين على ذلك.
الثالث: أنا بيَّنَّا أنه لا يجوز المصير إلى التأويل إلَاّ لضرورةٍ، ولا ضرورة هناك، والضرورة هنا ألجأت إلى التأويل، مثل ما أولنا كثيراً من تلك الأحاديث التي مر ذكرها، ولم نُؤول سائر أحواله عليه السلام بالمنام.
وأقول كما قال العلامة رحمه الله تعالى: هذا من ضيق العَطَن، والمسافرة عن علم البيان مسافة أعوامٍ، وكأنه توهم في هذه الأحاديث ما توهم السيد من تعذُّر بيانها من أساليب العرب في المجاز، فرَكِبَ الصعب والذُّلول في تأويله، وتقحَّم المسالك المتوعِّرة في تعليله، وسوف يأتي أن الأمر أقرب من ذلك، ولله الحمد.
المرتبة الثالثة: الوجود الخيالي، وهو صورة هذه (2) المحسوسات، إذا غابت في حسِّك، فإنك تقدِرُ على أن تخترع في خيالك صورة فيلٍ أو فرسٍ أو بعيرٍ، وإن كنت مُطبِقاً عينيك، حتى كأنك تشاهده وهو موجودٌ بكمال صورته في دماغك، لا في الخارج، وقد يمكنك أن تخترع صورةً في خيالك ليست في الوجود، ولكنها مجموعةٌ من أشياء موجودةٍ، مثل قصرٍ عظيم من جوهرةٍ شفافةٍ، وقد وردت اللُّغة بالتشبيه بهذا. قيل: ومنه قوله تعالى: {طَلْعُهَا كأنه رؤوس الشياطين} [الصافات: 65]، فرؤوس الشياطين غير معروفةٍ في الوجود، ولكن
(1) في (ف): " الأمور ".
(2)
" لهذه " ساقطة من (ش).
في الخيال أن صورتها قبيحةٌ المنظر فصح (1) ورود التشبيه بها في القرآن العظيم بناءً على وجود صورتها في الخيال، ومن ذلك قول الشاعر:
بحرٌ من المسك موجُهُ الذهب
وقول الآخر:
أيقتُلْنَني والمشرَفِيُّ مُضَاجعي
…
ومسنونةٌ زُرْقٌ كأنياب أغوالِ (2)
وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ إن شاء الله تعالى:
قال الغزالي: ومثال ذلك من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: " كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام عليه عباءتان قطوانيَّتان يُلبِّي، وتُجيبه الجبال والله تعالى يقول: لبيك يا يونس "(3) فالظاهر أن هذا إخبار عن مثل هذه الصورة في خياله عليه السلام، إذ كان وجود هذه الحالة سابقاً على وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المرتبة الرابعة: أن يكون للشيء حقيقةٌ، ويكون له معنى، فيتلقى العقل مجرد معناه دون أن يُثبت صورته في الخارج، ولا في الحس ولا في الخيال، كاليد مثلاً والنفس والعين، فإن لهن صوراً محسوسةً ومتخيَّلةً، ولهنَّ معنى يتلَّقاه
(1) في (ش): " فيصح ".
(2)
البيت لامرىء القيس من قصيدة مطلعها:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي
…
وهل يَعِمَنْ من كان في العُصُر الخالي
والمشرفي: سيف منسوب إلى المشارف قرية تُعْمَلُ فيها السيوف، والزرق المسنونة: النبال شبهها في حدتها ومضائها وبشاعتها بأنياب الأغوال، وهذا تشبيه وهمي. انظر " الديوان " ص 142، و" معاهد التنصيص " 2/ 7.
(3)
أخرجه الدارقطني في " الأفراد " كما في " كنز العمال " 11/ 519 بهذا اللفظ.
وأخرجه أحمد 1/ 216، ومسلم (166)، وابن ماجه (2891)، وابن خزيمة (2632) و (2633)، وابن حبان (3801) بلفظ:" كأنما أنظر إلى يونس على ناقة حمراء، خِطامُ الناقة خُلْبَة (ليف)، عليه جُبَّةٌ له من صوف، يُهِلُّ نهاراً بهذه الثنية ملبياً ".
العقل منهن، فيسمى بأسمائهن، وهو البطش والقدرة لليد فتُسمى القدرةُ يداً، والإدراك للعين، فكل ما أدرك، سُمِّيَ عيناً، وإن لم يكن عيناً، ومحبة الشهوات للنفس، فكل من أحببت له الشهوات ونيل الأماني من ولدٍ أو محبوب سميته نفساً وروحاً. وأمثال ذلك.
وهذا هو المسمى بالمجاز في عُرف الأصوليين وأهل المعاني والبيان وأكثر التأويل يدور عليه، وفيه الجليُّ والدقيق، والقريب والعميق.
والمجاز: مرسلٌ واستعارةٌ، فالمرسل: الذي العلاقة فيه غير المشابهة، كاليد في القدرة والنِّعمة، وله أقسامٌ كثيرةٌ، والاستعارة: حيث تكون العلاقة هي (1) المشابهة، وهي مطلقةٌ ومجردةٌ ومرشحة.
فالمطلقة: التي لا تُتبع بصفات المشبَّه، ولا بصفات المشبه به.
والمجردة: التي لا تُتبع بصفات المشبه، مثل: أسد شاكي السلاح (2).
والمرشحة: التي تتبع بصفات المشبه به، مثل قوله:
له لبِدٌ أظفاره لم تُقَلَّمِ (3)
وقرائن التجوز ثلاث:
الأولى: العقلية، مثل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، لأنه يستحيل في العقل أن القرية تُخبر وتُجيب السائل.
(1)" هي " ساقطة من (ش).
(2)
من قوله: " والمجردة " إلى هنا سقط من (د).
(3)
عجز بيت صدره:
لدى أسدٍ شاكي السلاح مُقَذَّفٍ
وهو لزهير بن أبي سلمى، من جاهليته السائرة:
أمِنْ أُمِّ أوفى دِمنةٌ لم تكلم
…
بحومانة الدرَّاج فالمتثلّم
انظر " الديوان " ص 16 - 37.
الثانية: العُرفية، مثل: بني الخليفةُ المدينة أو القصر، وهزم الأميرُ الجيش، وسد الثغر، ومنه:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36]، وإنما لم تكن القرينة هنا عقلية، لأن الخليفة (1) ممن يجوز في العقل أن يباشر هذه الأمور بنفسه، ولكن ذلك بعيدٌ في العرف، فلهذا (2) سُمِّيت عرفية.
الثالثة: اللفظية، وهي أن يكون في اللفظ ما يدل على التجوز، مثل: لدى أسدٍ شاكي السلاح، ومنه قوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35]، فقوله {مَثَلُ نُورِهِ} يدل على أنه لم يرد أن الله هو النور، وإنما أراد أنه منوِّرُهما، ولو كان هو نفس النور، لقال: مثله، ولم يقل: مثل نوره، ومنها قوله تعالى في هذه الآية:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} فهذه قرينةٌ لفظيةٌ تدل على أنه أراد بقوله: {مَثَلُ نُورِهِ} نور الهدى والعلم، وهذا هو النور المجازي، وأما النور الحقيقي، فقد ساوى الله فيه بين الناس، وهذه قرينةٌ لفظية، ليس معها غيرها، وأما التي قبلها، فهي مصاحبة للقرينة العقلية الدَّالَّةِ على أن الله تعالى ليس كمثله شيء.
وإذا تقرر هذا، فاعرف أمرين:
أحدهما من أنواع المجاز إسناد الفعل إلى ما يُلابس الفاعل الحقيقي أدنى ملابسةٍ على جهة التأويل في إسناد الفعل إلى غير الفاعل الحقيقي، ونعني بالتأويل أن يُقْصِدَ التجوز، ولا يقصد الإسناد الحقيقي، فإنه إذا قصده، كان الكلام حقيقةً، لا مجازاً، وكان المتكلم كاذباً، وذلك مثل قول المؤمن: أنبت الربيعُ البقل، وإذا لم يكن يتأوَّل، لم يكن مجازاً كقول الجاهل: أنبت الربيع البقل، ولهذا لم نحكم بالتجوز في قوله:
أشابَ الصغيرُ وأفنى الكبيـ
…
ـر كَرُّ الغَدَاةِ ومرُّ العَشِي (3)
(1) في (ش): " الأمير ".
(2)
في (ش): " ولهذا ".
(3)
البيت مطلع قصيدة للصّلتان العبدي واسمه: قُثَم بن حُبية شاعر أموي عاصر الفرزدق وجريراً، وله قصيدة في الحُكْمِ بينهما يقول فيها: =
لما لا يعلم ولا يظن أن قائله لم يُرِدْ ظاهره، وإنما حكموا أن التجوز في قول أبي النجم (1):
مَيَّزَ عنه قُنْزُعاً عن قُنْزُعِ
…
جذْبُ الليالي أبطئي أو أسْرِعي
لقوله:
أفناه قيلُ الله للشمس: اطلُعي
وله أقسام كثيرة.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن القرينة على التجوز متى كانت معروفةً عند
= أرى الخَطَفَى بَذَّ الفرزدق شأوه
…
ولكنَّ خيراً من كُلَيْبٍ مُجَاشِعُ
ففضَّل شعر جرير، وفضل قوم الفرزدق.
وبعد البيت الذي استشهد به المؤلف:
إذا هَرَّمَتْ ليلةٌ يومها
…
أتى بعد ذلك يومٌ فَتِي
نَرُوحُ ونغْدُو لحاجاتنا
…
وحاجَةُ من عاش لا تقضي
انظر " الشعر والشعراء " 1/ 502، و" خزانة الأدب، 2/ 182، و" معاهد التنصيص " 1/ 73.
(1)
أبو النجم: هو الفضل بن قُدامة بن عبيد الله العجلي، وهو من رُجَّاز الإسلام، والفحول المتقدمين في الطبقة الأولى منهم، مات في آخر دولة بني أمية.
والرجز من قصيدة مطلعها:
قد أصبحت أمُّ الخيار تدعي
…
عليِّ ذنباً كلُّه لم أصنع
مِنْ أن رأت رأسي كرأس الأصلع
والقُنْزُع كقُنْفُذ، والقنزعة، بضم الزاي وفتحها: وهي الشعر حوالي الرأس والخصلة من الشعر تترك على رأس الصبي، أو هي ما ارتفع من الشعر وطال، وجذبُ الليل: فاعل " ميز " قال في " الصحاح ": جذب الشهر: مضى عامته، وقول: ابطئي أو أسرعي: حال من الليالي على تقدير القول، أو كون الأمر بمعنى الخبر، وصحت من المضاف إليه، لأن المضاف عامل فيهما. وقيل الله: أمره.
انظر " خزانة الأدب " 1/ 363 - 364، و" معاهد التنصيص " 1/ 77.
المتخاطبين، أو عليها دليلٌ قاطع يوجب اليقين حَسُنَتِ المبالغة في التجوز، وكان تناسي التشبيه أفصح وأبلغ، فإذا وصفت زيداً بأنه أسدٌ، جاز أن تنسُبَ إليه جميع صفات الأسد، كما في قوله:
لدي أسد شاكي السلاح مُقَذِّفٍ
…
له لَبِدٌ أظفازه لم تُقَلَّمِ (1)
فوصف الرجل بصفات الأسد من اللَّبِد وطُول الأظفار، وكذلك لو أنك سقت الفن (2) صفةً من صفات الأسد إن أمكنك ذلك، فذكرت صفات الأسدِ ومحلّه وأشباله، ما ازداد المجاز إلَاّ حُسناً، ولم يكن ذلك مما صَعُبَ تأويله في لغة العرب أبداً.
قال علماء المعاني: ولأجل البناء على تناسي التشبيه صح التعجب (3) في قوله:
قامت تُظلِّلُني مِنَ الشَّمسِ
…
نَفْسٌ أعزُّ علي من نفسي
قامت تُظلِّلُني ومن عَجَبٍ
…
شمسٌ تُظَلِّلُني من الشمس (4)
فإنه إنما صح تعجُّبه تناسياً للتجوز، كأنها شمس حقيقية، فأما الشمس المجازية التي هي (5) المرأة الحسناء، فليس بعجبٍ أن تظلِّلَ من الشمس.
قالوا: ولهذا صح النَّهْيُ عن التعجب في قوله:
(1) انظر ص 306، التعليق رقم (3).
(2)
الفن: الطرد، وفن الإبل يفنُّها فناً: إذا طردها. انظر اللسان " فنن ".
(3)
في (ش): " العجب ".
(4)
البيتان لابن العميد أبي الفضل محمد بن الحسين بن محمد الكاتب. قال ابن الأثير: كان من محاس الدنيا اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره من حسن التدبير، وسياسة الملك، والكتابة التي أتى فيها بكل بديع على حسن خُلُق، ولين عِشرة، وشجاعة تامة، وكانت وزارته أربعاً وعشرين سنة، وعاش نيفاً وستين، ومات بهمذان سنة (360 هـ).
(5)
من قوله: " فإنه إنما صح " إلى هنا سقط من (ش).
لا تعجبِو مِنْ بلى غِلالته (1)
…
قد زُرَّ أزراره (2) على القمر (3)
قالوا: ولهذا يُبنى على علو القدر ما يبنى على علو (4) المكان، مثل قوله:
ويَصْعَدُ حتى يظن الجهول
…
بأن له حاجةً في السماءِ (5)
كل هذا ذكره علماء المعاني والبيان، وقد رأيتُ أن أزيد على ما ذكروه من الأمثلة في هذا النوع مطابقةً لمقتضى الحال، فإن الحال يقتضي في كشف غطاء البيان لمسيس الحاجة إلى ذلك.
فمن ذلك كلامُ إمام البُلغاء في هذا المعنى العلامة الزمخشري رحمه الله في " كشافه " في تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، فإنه (6) قد تكلم في هذا بما يشهد لما ذكرته (7)، فقال رحمه الله تعالى ما لفظه (8): فإن قلت: هب أن شِراء الضلالة بالهُدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة، كأن ثم مبايعة على الحقيقة؟
(1) في (ش): " غلائله ".
(2)
في (ش): " أزرارها ".
(3)
البيت لأبي الحسن بن طباطبا العلوي المتوفى سنة 332 هـ، وقبله:
يا من حكى الماءُ فرطَ رِقَّتِه
…
وقلبه في قَسَاوةِ الحجرِ
يا ليت حظي كحظ ثوبك من
…
جسمك يا واحداً من البشرِ
والغلالة شعار يلبس تحت الثوب. انظر " معاهد التنصيص " 2/ 129.
(4)
عبارة "القدر ما يبنى على علو" ساقطة من (ش).
(5)
البيت لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي من قصيدة يرثي بها خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، ومطلعها:
نعاءِ إلى كُلِّ حي نَعَاءِ
…
فتى العرب اختَطَّ رَبْعَ الفناءِ
انظر " الديوان " ص 331، و" معاهد التنصيص " 2/ 152.
(6)
في (ش): " لأنه ".
(7)
في (ش): " ذكر ".
(8)
" الكشاف " 1/ 192 - 194.
قلت: هذا من الصَّنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهي أن تُساق كلمة مساق المجاز، ثم تُقفَّى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن، لم يُر كلاماً أحسن ديباجةً، وأكثر ماء ورونقاً منه، وهو المجاز المرشح، وذلك نحو قول العرب في البليد:
كان أذني قلبه خطلاوان، جعلوه كالحمار، ثمَّ رشَّحوا ذلك روماً لتحقيق البلادة، فادَّعَوْا لقلبه أُذنين، وادعوا لهما الخَطَلَ، ليُمثِّلُوا البلادة تمثيلاً تلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة، ونحو ذلك:
ولمَّا رأيتُ النَّسْرَ عزَّ ابنَ دَأْيَةٍ
…
وعشَّشَ في وكرَيْه، جاش له صدري (1)
لما شبَّه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. ونحوه قول بعض فُتّاكهم في أمه:
فما أم الردين وإنْ أدلَّت
…
بعالمةٍ بأخلاق الكرامِ
إذا الشيطان قصَّع في قفاها
…
تنفَّقناهُ بالحبْلِ التُّؤامِ (2)
أي: إذا دخل الشيطان في قفاها، استخرجناه من نافقائه بالحبل المُثَنَّى المحكم.
(1) البيت أنشده الفراء كما في " اللسان " 5/ 405 و14/ 248، و" خزانة الأدب " 6/ 457، وفيها:" جاشت له نفسي " شبه الشيب بالنسر لبياضه، وشبه الشباب بابن دأيةٍ، وهو الغراب الأسود لأن شعر الشباب أسود.
وعزَّه يَعُزُّه: إذا غلبه وقهره، والمراد بالوكرين الرأس واللحية.
(2)
دلت المرأة وأدلت: حسن تمنعها مع رضاها، ونفي علمها بأخلاق الكرام كناية عن سوء خُلُقِها، وقصع اليربوع: اتخذ القاصعاء أو دخل فيها، وهي جحره الذي يدخل فيه، وتنفق: اتخذ النافقاء أو خرج منها وهي الطرف الثاني من الحجر الذي خرج منه، وتنفقه الصائد: استخرجه منها، فلجحره بابان إذا أتاه الصائد من الأول خرج من الثاني، والحبل التؤام، الحبل المثنى المفتول.
يريد: إذا حرِدَت وأساءتِ الخلق، اجتهدنا في إزالة غضبها، وإزالة (1) ما يسوء من خلقها استعار التقصيع أولاً، ثم ضم إليه التَّنفُّق، ثما الحبل التوأم.
وأنشد العلامة رحمه الله في غير هذا الموضع من " كشافه "(2):
ينازعُني ردائي عبدُ (3) عمروٍ
…
رُويْدَكَ يا أخا عمروِ بن بَكْرِ
لِيَ الشَّطْرُ الذي مَلَكَتْ يميني
…
ودُونَك فاعتَجِرْ منه بشطرِ
قال رحمه الله: أراد بردائه: سيفه، ثم قال: فاعتجر منه بشطرٍ، فنظر إلى المستعار في لفط الاعتجار. انتهى كلامه.
ومن ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِم} [الصف: 8] فذِكْرُ الأفواه هنا من هذا القبيل.
(1) في " الكشاف ": " وإماطة ".
(2)
2/ 432. والبيتان غير منسوبين في " الإيضاح " ص 172.
والأول منهما في " اللسان " 14/ 317.
قال شارح أبيات الكشاف: استعار المنازعة لتسببه في امتداد السيف إليه حتى توسط بينهما كالشيىء يتجاذبه اثنان، واستعار الرداء للسيف بجامع حفظ كل لصاحبه، وعدم الاستغناء عنه، والاعتجار ترشيح، ومعناه التَّلَفُّح والتعمم، فهو ملائم للرداء، ويحتمل أن التركيب كله من باب التمثيل. وعبد عمرو: فاعل، ورويدك: اسم فعل بمعنى: أمهل، والكاف حرف خطاب، قاله الجوهري، وبالنظر لأصله، فهو مصدر، والكاف مضاف إليه، وفيه التفاتٌ، وبكر: أبو قبيلة، والشطر الذي ملكته يمينه: هو مقبض السيف، ودونك: اسم فعل بمعنى: خذ، أي: خذه فتلفع منه بالشطر الآخر، وهو مصدره والأمر للإباحة، وفيه نوع تهكم.
(3)
تحرفت في (ش) إلى: " عند ".
ومن بديع المعنى قوله رحمه الله يرثي شيخَه أبا مضر (1):
وقائلةٍ ما هذه الدُّرَرُ التي
…
تَساقَطُ من عينيك سِمْطَيْنِ سِمْطَيْنِ
فقلتُ لها: بالدُّرُّ التي قد حشا بها
…
أبو مُضَرٍ أُذْني تساقطُ من عيني
ومن مطرباته قول أبي العلاء المعري (2)، وقد أبدع فيه وأغرب:
وسألت: كم بين العقيق وبارقٍ (3)
…
فعجبتُ (4) من بُعْدِ المدى المتطاولِ
وعذَرْتُ طيفَكِ في الزِّيارة إنه
…
يَسري فَيُصْبِحُ دوننا بمراحِِلِ
فإنه لما جعل الطَّيف ممن يزورُ، تناسى التَّجوُّز حتى عيَّب عليه التأخر عن الزيارة، فكأنه سأل عن محل صديقه، فأخبره ببعده المفرط، فعذر بذلك الطيف، وعلم أنه لا يقدر على قطع تلك المسافة المتطاولة في ليلةٍ واحدة، وأنه لا يصح في الطيف أن يأتي في النهار، لأنه وقت اليقظة، وهذا المعنى بهر البُلغاء طرباً.
ومما جاوز الحد في الغرابة من هذا النوع: قول الزمخشري رحمه الله في الكناية عن الجماع:
(1) هو محمود بن جرير الضبي الأصبهاني، مات بمرو سنة سبع وخمس مئة: مترجم في " معجم الأدباء " 19/ 123 - 124، و" بغية الوعاة " 2/ 276. والبيتان في " سير أعلام النبلاء " 20/ 154. وانظر بقية المصادر فيه.
(2)
في " سقط الزند " ص 127.
(3)
في " سقط الزند ": " إلى الغضى ".
(4)
في " سقط الزند ": " فجزعت ".
وقد خطبتُ على أعواد منبره
…
سبعاً رِقاقَ المعاني جزلةَ الكلمِ
وقد اعترض رحمه الله في استعارة هذه الأمور الشريفة لما لا حظ له في مراتبِ الشرفِ.
وللشيخ ابن الفارض في المعنى دقائق لطيفةٌ، فمنها قوله في قصيدةٍ طويلةٍ (1):
كان لي قلبٌ بجرْعاء الحِمى
…
ضاع منِّي (2) هل له رد عَلَيْ
فاعهدوا بطحاء وادي سَلَمٍ
…
فهو ما بين كَداءٍ وكُديْ
فإنه لما تجوز في ضياع قلبه، بنى عليه ما يُبنى على الضياع الحقيقي، فأمرهم بطلب قلبه، وعيَّن لهم الموضع الذي فيه بكداء وكدي، وهما موضعان بمكة المشرفة.
ومن ذلك قوله (3)، وهو لطيفٌ:
وقالوا جَرَتْ حُمْراً دُمُوعُك قُلْتُ عن
…
أُمورٍ جَرَتْ في كثرة الشوق قَلَّتِ
نحرتُ لِضيف (4) السُّهد في جَفْنِيَ (5) الكرى
…
قِرىً، فجرى دمعي دماً فوق وجنتي
(1) في " الديوان " ص 203 والبيت الأول منها:
سائق الأظعان يطوي البيدَ طي
…
منعماً عَرَّجْ على كثبان طَيْ
(2)
في (ش): " عني ".
(3)
الديوان ص 112 من تائيته الكبرى، وفيها أبيات انتقدها عليه الأئمة من أمثال الحافظ العراقي، لأنه يصرح فيها بوحدة الوجود وقد بين ذلك البقاعي في كتابه " تنبيه الغبي " فراجعه.
(4)
في " الديوان ": " لطيف ".
(5)
في (ف): " عيني ".
لما استعار لدمعه لون الدم، تناسى التَّجوُّز، فأخذ يخبرُ عن سبب تلك الحُمْرَةِ التي في دمه كأنها حمرةٌ حقيقة، ولما استعار للسُّهد اسم الضيف، ذكر ما يتعلق بالضيف من النَّحر، ولما جعل الكرى منحوراً، ذكر سيلان دمه على وجنته.
شربنا على ذكر الحبيب مُدَامَة
…
سَكِرْنا بها من قبل أن تُخلَقَ الكَرْمُ (1)
لها البدر كأسٌ، وهي شمشٌ يُدِيرُها
…
هِلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نجمُ
ولولا شذاها ما اهتدينا لحانِها
…
ولولا سَنَاهَا ما تصوَّرها الوَهْمُ
فإن ذُكِرَتْ في الحي أصبح أهلُه
…
نَشَاوَى، ولا عارٌ عليهم ولا إثمُ
ومن بين أحشاء الدِّنان تصاعَدَتْ
…
ولم يبق منها (2) -في الحقيقة- إلَاّ اسمُ
ولو (3) خطرت يوماً على خاطر امرىءٍ
…
أقامت به الأفراح، وارتحل الهمُّ
ولو نظر النُّدمان خَتْمَ إنائها
…
لأسكرهُم من دُونها ذلك الختمُ
ولو نَضَحُوا منها ثرى قبرِ مَيِّتٍ
…
لعادت إليه الرُّوح وانتعش الجسمُ
ولو طَرَحُوا في فيء حائط كرمها
…
عليلاً وقد أشفى، لفارقه السُّقمُ
ولو نال قَدْمُ القوم لَثْمَ قِدامها
…
لأكسبه معنى شمائلها اللثْمُ
هنيئاً لأهل الدير كم سكِرُوا بها
…
وما شرِبُوا منها ولكنهم هَمُّوا
ودُونكها في الحان واستَجْلِهَا بها
…
على نغم الألحان، فهي بها غُنْمُ
فما سكَنَتْ والهَمُّ يوماً بموضعٍ
…
كذلك لم يسكُنْ مع النَّغَمِ الغَمُّ
يقولون لي صِفْها، فأنت بوصفِها
…
بصيرٌ (4) أجَلْ عندي بأوصافها عِلْمُ
صفاءٌ ولا ماءٌ، ولطفٌ ولا هوى
…
ونورٌ ولا نارٌ، وروحٌ ولا جِسْمُ
فإن الشيخ ابن الفارض لما ادعى أنه تولَّه في حب الله جل جلاله، شبه الحب في تلعُّبه بالعقول بالخمر المسكر، فاستعار اسم الخمر للحب، ثم أخذ يفتَنُّ في ترشيح الاستعارة بذكر أوصافِ الخمر، وتناسي التشبيه، فذكر
(1)" ديوان ابن الفارض ": ص 179.
(2)
في (ش): " فيها ".
(3)
في (ش): " فإن ".
(4)
في " الديوان ": " خبير ".
الشُّرب، والساقي، والشذا، والحان، والنشوة، والدِّنان، وختم الإناء، والنضيج منها، والكرم الذي عنها منه (1) والحائط الذي كانت عروش العنب نيه، والسكر منها، والتهنئة لأهل الدير الذين سكِرُوا بها، وذكر مزجها، وشربها (2) صرفاً على الألحان التي تُصاحِبُها في العادة، وزوال الهم معها، ونحو ذلك.
فمن قال: هذا شعرٌ ركيك، غير بليغٍ، ولا فصيحٍ، فهو بهيمي الطبع، جامد القريحة، ومن أقر أنه عربيٌّ بليغٌ، في أعلى طبقات الصنعة البديعة عند أهل هذا الشأن، لزمه أن يقول فيما هو أقل منه ترشيحاً بدرجاتٍ كثيرةٍ من الكتاب والسنة أنه يستحيل أن يكون له تأويلٌ ووجهٌ في اللغة العربية عند جميعِ من أظلت السماء من أول الدهر إلى آخره من جميع الفُطناء والعلماء والبلغاء، وأرِنَا أيَّ تجوز في السنة بلغ إلى هذا المبلغ الذي ذكرته لك في البعد على الحقيقة، أو بلغ في الخفاء مبلغ بيت الزمخشري المقدم:
وقد خطبتُ على أعواد منبره
…
سبعاً رقاق المعاني جَزْلَةَ الكَلِمِ
ومن يفهم من هذا البيت الكناية عن التَّمتُّع بالنساء، وأين في الكتاب والسُّنَّة نظير هذا؟.
فإن قلت: إن هذه المبالغات لا تجوز إلَاّ في الأشعار، لأنها كذبٌ محضٌ، والقرآن والسنة لا يجوز فيهما الكذب.
قلت: هذا جهلٌ بالبلاغة في اللغة، بل جهلٌ بالكتاب والسنة، لو لم يرد في جواز هذا والشهادة له بالبراءة من الكذب إلَاّ قول الله تعالى:{إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً} [الإنسان: 19]، فإنا نقطع أن من رأى الوِلدان الحِسَانَ لا يحسبهم لؤلؤاً منثوراً على الحقيقة، وإنما معنى الآية الشريفة: أنهم حسانٌ لا سوى، وكذا قول الكاتب: كلام لو مُزِجَ به ماء (3) البحر لَعَذُبَ، ليس بكَذِبٍ،
(1) في (ش): " الذي منها ".
(2)
" وشربها " ساقطة من (ف).
(3)
" ماء " ساقطة من (ف).
لأن معناه إنه كلامٌ بليغٌ لا سوى، وكذا سائر ما يتجوز فيه لا يفهم السامع منه إلا المدح بالمعنى الصحيح، دون ما يبدو من ظاهر لفظه، وإنما قبح الكذبُ لما كان الكاذب يقصد ما ليس بصدقٍ ولا فهم ذلك منه السامع، فوجب أن لا يصح من المجاز شيءٌ إلَاّ ما لم يدل على التجوز منه قرينة.
وقد أكثرت من الشواهد على المبالغة في التجوز لما ادعى السيد أن حديث جرير بن عبد الله البجلي (1) وغيره مما لا يمكن تأويله إلَاّ بتعسُّفٍ، فبالله قِسْ (2) ما مرَّ من التجوزات بحديث جريرٍ عند متأوِّليه، وسيأتي بيان ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.
المرتبة الرابعة: الوجود الشبهي، وهي أن لا يكون نفس الشيء موجوداً، لا بصورته، ولا بمعناه، لا في خارج ولا في حسِّ، ولا في خيالٍ، ولا في عقل، ولكن يكون (3) الموجود شيئاً يناسبه في خاصةٍ من خواصه، وصفةٍ من صفاته.
قال الغزالي: مثاله الغضب والصبر ونحو ذلك ما ورد في حقه تعالى، فإن الغضب ألمٌ يعرِضُ في القلب، وانزعاجٌ يسكن بالتَّشفِّي، فهو عرضٌ مؤذٍ يحُلُّ بالقلب عند شعوره ببعض الأمور، وهذا لا ينفك عن نقصانٍ، فمن قام عنده البرهان من أهل الكلام على استحالة ثبوت حقيقة الغضب في حق الله تعالى ثبوتاً ذاتياً وحسياً وعقلياً وخيالياً، نزَّله منزلةً أخرى، وتأويله بثُبوت صفةٍ لله تعالى غير الغضب يصدر منها ما يصدر عند الغضب، وهي إرادة الانتقام وعدم العفو، ولا شك أن وجود إرادة الانتقام (4) لا يصدق عليها في الحقيقة أنها الغضبُ، لكن يصدق ذلك عليها مجازاً.
وهذه المرتبة الرابعة مندرجةٌ في ضمن المجاز المتقدم، ولكني أفردتها بالذكر على عُرْفِ المنطقيِّين في الفرق بين المجاز العقلي والمجاز الشبهي.
(1) هو حديث الرؤية، وقد تقدم تخريجه 5/ 343.
(2)
في (ف): " فسّر ".
(3)
" يكون " ساقطة من (ش).
(4)
في (ش): " الإرادة للانتقام ".
المرتبة الخامسة: دون هذه المراتب كلها، وهي الحكم بالوهم لدليلٍ يوجب ذلك.
والوهم أنواعٌ: فمنه الوهم في اللفظ، وهو صحيحٌ مأثورٌ، ومنه حديثُ عائشة في الصحيح في حق ابن عمر لما روى " أن الميت ليُعَذَّبُ ببكاء أهله عليه ". قالت عائشة: ما كذب، ولكنه وَهَلَ (1).
ومنه الوهم في المعنى، ومنه حديث قيام الساعة لمقدار مئة سنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال:" إنها لا تأتي مئة سنة حتى قد أتتكم ساعتكم "(2). هكذا ورد في بعض ألفاظ الصحيح، وساعتهم هي الموت، وهو معنى صحيحٌ، وقد غَلِطَ بعض الرواة في هذا الحديث، فرواه بلفظٍ يوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد القيامة، فجاء بلفظ القيامة، أو البعث أو النشور، أو نحو ذلك من الألفاظ، فمثل هذا إذا وقع فيه الخطأ، لم يوجب رد الصحاح كلها، لأن الخطأ لا يسلم منه بشر، ولهذا صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:" من كذب عليَّ مُتعمِّداً، فليتبوأ مقعده من النار "(3)، فقيَّد الوعيد بالتَّعمُّدِ.
وأجمع العلماء على أنه لا يُجرح الثقة بالخطأ في الرواية (4) إلَاّ إذا كثر ذلك منه، واختلفوا في حد الكثرة ومبلغها على ما هو مقرر في كتب الأصول، وكتب أنواع علوم الحديث، ومن ذلك حَكَمَ جماعةٌ من النحاة واللغويين بلحن الرواة
(1) أخرجه البخاري (1286 و1287 و1288)، ومسلم (927) و (928) و (929)، والنسائي 4/ 18 - 19، وابن حبان (3136). وانظر أيضاً ابن حبان (3123) و (3137).
(2)
أخرجه من حديث أبي مسعود البدري أحمد 1/ 93، وابنه عبد الله في " زوائد المسند " 1/ 140، والطبراني في " الكبير " 17/ 1693، وأبو يعلى (467) و (583).
والطحاوي في " شرح مشكل الآثار "(372). وأورده الهيثمي في " المجمع " 1/ 198، وقال: رجالة ثقات.
(3)
تقدم تخريجه 1/ 190 و428 و449 و2/ 72.
(4)
" في الرواية " ساقطة من (ش).
وتصحيفهم، وقد تكلَّف ابن مالكٍ (1) الرد عليهم وتطلب الشواذ للاحتجاج عليهم، ورد عليه أبو حيان (2).
ولا شك أن الحكم بالوهم عزيزٌ، ويحتاج إلى تثُّبتٍ كثيرٍ، والتَّكلُّفُ في تطلب (3) الشواذ بعيدٌ أيضاً، وخيرُ الأمور أوسطها.
ومن أنواع الوهم: رفع الموقوف، وفيه خللٌ كثيرٌ، فإن الصحابي من جملة البشر، ويجوز عليه الخطأ في عقيدته وسائر أحواله، وقد يحسب الذي سمع الحديث مسنداً إلى الصحابي أنه حديثٌ نبويٌّ بشُبهتين:
إحداهما: الإسناد كما تُسنَدُ الأحاديثُ.
وثانيهما: كون المحدِّث قبل ذلك وبعده إنما يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أنواع الوهم: الإدراج (3) وهو في الخلل مثل الذي قبله، ومثاله: أن يتكلَّم الصحابي بكلامٍ من نفسه بعد الفراغ من رواية الحديث، والسامع يحسب أن ذلك الكلام من جملة الحديث النبوي، وقد يكون الإدراج من كلام الصحابي والتابعي ومن دونهما.
ومن أنواعه: الوهم في الأسماء، مثل أن يسمع الحديث من ابن الزبير، فيظنه عبد الله، وليس به، وإنما هو اليمني، أو العكس.
وقد يقع بذلك خللٌ كثيرٌ، فإن الثقة وغير الثقة قد يشتركان في الاسم، وفي اسم الأب أيضاً، ويشتركان في الكُنية، فيكون الحديث مرويّاً عن الضعيف، والسامع لا يعرف ذلك الاسم إلَاّ للثقة، فيرويه عن الثقة مصرحاً من اسمه وكنيته
(1) هو جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الأندلسي المتوفى سنة 672 هـ. انظر ترجمته في " طبقات الشافعية " للسبكي 5/ 28.
(2)
هو محمد بن يوسف بن علي بن حيان الأندلسي المتوفى سنة 745 هـ. انظر ترجمته في " طبقات السبكي " 6/ 31.
(3)
انظر بحث الادراج بتوسع في " توضيح الأفكار " 2/ 50 - 67.
ونسبه بما لم يشاركه الضعيف فيه (1)، ومن ها هنا يحصل خللٌ كثير، وقد بالغ الحُفَّاظ في الاحتراز من هذا الخلل، وصنَّفوا في ذلك كتب العلل.
فهذا آخر وجوه الحامل، ومع إمكانه لا يجوز أن يحكم على الثِّقات بتعمُّدِ الكذب، وهو ممكنٌ غالباً، فإن التدليس قد اشتهر عن كثيرٍ من الثقات، كالحسن البصري، وسفيان الثوري وأمثالهما من الأعلام، فيحتملُ -إن كان لا بد من تكذيبٍ- أن يكونَ الكاذب من دلَّسُوه، وكتموا اسمه، ورَوَوْا عنه مع الجهالة بحاله، إما لأنهم يستحِلُّون الرواية عن المجهول كما هو مذهب جماعةٍ من العلماء كما تقدم بيانه، وإما لأنهم اعتقدوا أن ظاهره العدالة من غير كبير خبرةٍ وطول صُحبةٍ، ولم يكن كذلك في الباطن.
فإن قلت: فما وجه التدليس من الثقة؟
قلت: له (2) أسبابٌ كثيرةٌ.
منها: أن يكون حديثه عند المدلس صحيحاً، ويخاف إن صرَّح باسمه لا يُقبل، فيدلِّسه لئلَاّ يرد سنة صحيحة عنده.
ومنها: أن يكون في الحضرة من يكره الراوي، ويتناوله بالسب والأذى والغيبة والانتقاص من غير إستحقاقٍ لذلك، فيدلس الراوي اسمه، لئلَاّ يقع في فتنةٍ بذكره، وأمثال ذلك، والله أعلم.
المرتبة السادسة: الحكم بتكذيب الراوي، ولذلك شرطان:
أحدهما: أن يكون راوياً عن غيره (3) أمراً معلوماً أنه لا يحتمل التأويل.
وثانيهما: أن يكون معلوماً أنه لا يحتمل الخطأ والوهم، فإن لم يكن
(1)" فيه " ساقطة من (ف).
(2)
" له " ساقطة من (ش).
(3)
عبارة " راوياً عن غيره " ساقطة من (ش).
للحديث إلَاّ راوٍ واحد، حكم بتكذيبه، وإن كان راوياً عن غيره كرجال السند، فإما أن يكون السند بلفظ سمعتُ ونحوه، حكم بأن فيهم كاذباً غير معيَّنٍ، وإن كان بلفظ العنعنة ونحوها، واحتمل التدليس من بعضهم، وكان ظاهرهم العدالة حكم برد الحديث، وبعدالة الرواة، لأن الحكم بتعمد الكذب على الثقاتِ المعروفين بعيدٌ، فإن غلب على الظن أن الراوي تعمد الكذب، فإن كان ممن ظاهره العدالة والستر، لم يحل القول بأنه كذاب، وجاز التعريف بتلك القرائن الموجبة لتهمته بالكذب، وإن كان مجروحاً، وكثُرتِ القرائن الدالة على تعمده للكذب، فقد اختلفت طرائق أهل الأثر في هذا فمنه من يتجاسَرُ على وصفه بالكذب عملاً بالظن القوي المستند إلى الأمارات الصحيحة، مع القطع على أن الرجل مجروحٌ، وأهل التَّحرِّي منهم يقولون: متهمٌ بالكذب، وهذا هو الصواب إن شاء الله تعالى.
وأحسن المحامل الوهميَّات، الحكم بالوهم في نسبة الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يحتمل أن يكون الراوي واهماً في نفس الكلام، وذلك مثل ما رُويَ أن أبا هريرة وكعب الأحبار كانا يجتمعان، فيحدِّث أبو هريرة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ويحدِّثُ كعب الأحبار عن أهل الكتاب، والناس فجتمعون، فإذا راحوا حدثوا بما سمعوا، فربما وهِمَ بعض من ليس من أهل الحفظ، لا سيما مع عدم الملاحظة والدرس والتيقظ، لما في ذلك من الخلل العظيم فيحسب أن الذي سمع عن كعبٍ، عن أهلِ الكتاب (1) مما سمعه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيرويه كذلك (2).
(1)" عن أهل الكتاب " ساقطة من (ش).
(2)
أخرجه الإمام مسلم في كتابه " التمييز " ص 128: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، حدثنا مروان الدمشقي، عن الليث بن سعد، حدثني بكير بن الأشج، قال: قال لنا بسر بن سعيد: اتقوا الله وتحفَّظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نُجَالِسُ أبا هريرة، فيحدث عن رسول الله، ويحدثنا عن كعب، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط =
ومثل هذا إذا وقع حُكِمَ على صاحبه بالوهم حيث وهم، ولم يُجرح بالمرة، ويُطرح كل ما روى، إلَاّ أن يكثر منه الوهم، ويعرف بالبلة كما تقدم، ومثل هذا إذا اتفق، لم يبطل به علم الأثر، فإنه لو بطل علم الأثر بمثل هذا، لبطل أيضاً علم النظر بمثله، فإن الخطأ قد يقع كثيراً من حُذَّاق النُّظَّار وأهلِ التحقيق في الكلام، وتجد الأقوال الركيكة صادرةً عن أئمة علم المعقول، فكما أن علم النظر لم (1) يبطل بذلك، فكذلك علم الأثر لا يبطُلُ باتفاق الخطأ النادر، ولو كان ذلك يقدح، لحَرُمَ على الإنسان الرجوع إلى نفسه في كثير من المسائل والأحوال، لأنه قد يعلم من نفسه أنه قد وهِمَ وغلِطَ، والفطين يعلم أن ذلك جائزٌ عليه، وإن لم يكن قد اتفق له، مع أنه لا يوجد من لم يتفق له الوهم والخطأ، ولأنه كان يلزم مثله في أحوال الدنيا، فلا يعمل بخبر ثقةٍ أبداً، لأنه قد ينكشف عليه الوهم في نادر الأحوال، وذلك باطلٌ بالضرورة، وخلاف إجماع العقلاء.
فإن قلت: فرقٌ بين علم النظر والأثر، فعلم النظر يجب الوصول فيه إلى العلم، وبعد ذلك يحصلُ الأمان من الخطأ.
قلت: هذا صحيح، وعلم الأثر أيضاً قد حصل لنا العلم أن التكليف فيه بالظاهر المظنون دون القطع على الصحة في الباطن، فمتى سلم لنا الظاهر، فقد حصل العلم لنا أن قَبُولَه تكليفنا، ولا يضرُّنا ما وقع من الثِّقات من الخطأ، فمتى كثر وزال معه الظَّنُّ للصواب، بطل التكليف بخبر من هذه حاله.
إذا تقرر هذا، فاعلم أنه لا يحل القطع بأن المحدثين تعمدوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكره السيد، وإن وجدنا في الحديث ما يُعلم قطعاً أنه لا (2) يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لاحتمال الوهم فيه أو التدليس عمن يقوى في الظن
= مسلم، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن عبد الرحمن، ومروان الدمشقي فمن رجال مسلم.
(1)
في (ش): " لا ".
(2)
في (ف). " لم ".
نسبة الوهم أو غيره إليه. والحكم بالوهم عليهم فيما كان كذلك أولى، لوجهين:
أحدهما: أنه (1) يحصل به الغرض من تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم مع بقاء ما أجمعت الأمة عليه من الرجوع إلى كتب السنن وأحاديث الثقات.
وثانيهما: أن الحكم بتعمد الكذب مما لا دليل عليه، فكان القطع به محرماً لقوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 39]، ونحو هذه الآية الكريمة ولسائر (2) ما قدمته من المرجِّحات للتأويل على التكذيب، فخذه من هنالك.
تنبيه: إياك أن تسمع هذا الكلام، فيصرفك عن كتب السنة، واهماً أن حديثها قد اختلط فيه الصحيح بالضعيف، والخطأ بالصواب، فإن مصنفيها أئمة علم الأثر، ونُقَّاد هذا الشأن، وإليهم المنتهى في معرفة فنِّهم. فإذا كان الخطأ في كتبهم، فما ظنك بغيرها، بل هذا يحث الإنسان على الاعتماد عليها، والرجوع إليها، ألا ترى أنك لو وجدت خطأ في " كتاب " سيبويه في العربية، لم تطرح جميع ما رواه في " كتابه " لأجل ذلك، فإنه إذا جاز أن يُخطىء -مع عنايته بالفن- فكيف بمن هو دونه في العناية بفنِّه؟ وهذه إشارةٌ قد حققتُ المقصود منها في آخر مسألة المتأولين عند ذكر الإنصاف والخصيصتين، فخذه هنالك، ولا تقنع فهذا (3) الكلام في هذا المعنى نافعٌ جداً.
وهذا القدر كافٍ في التمهيد للجواب بإيراد المقدمات.
ولنشرع الآن في الجواب ونتكلم فيه على فصلين: فصل في الجواب الجُمليِّ، وفصل في المعارضات.
فأما الجواب على جهة التفصيل والتحقيق، فهو متعذِّرٌ لوجهين:
(1) في (ش): " أن ".
(2)
في (ش): " وسائر ".
(3)
في الأصول: " بهذا ".
أحدهما: ما قدمته من قُصوري عن بلوغ مرتبة التأويل، فإن التأويل لا يصح (1) إلَاّ من الراسخين في العلم على قول الخصم، فلو ذهبتُ إلى التأويل عن أساليب العلماء، لكنت قد ناقضتُ في كلامي.
وثانيهما: أن التفصيل والتحقيق يحتاج إلى بسط ٍكثيرٍ، فلعلي لو كنت من أهل ذلك، وتعرضت له، ما فرغ الكلام على هذه الأحاديث التي أشار السيد إليها إلَاّ في مجلدات، والذي أختار لنفسي ما يليق بمقتضى حالي في قصور باعي (2) في العلم، وعدم رسوخي فيه، وهو المروي عن الأكثرين من السلف.
قال النووي في " شرح مسلم "(3): اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات قولين:
أحدهما: -وهو مذهب معظم السلف أو كلهم، وهو مذهب جماعةٍ من المتكلمين، واختاره جماعةٌ من محققيهم، وهو أسلمُ-: أنه لا يُتكلَّمُ في معناها، بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد لها معنىً يليق بجلال الله تعالى، مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيءٌ، وأنه منزَّهٌ عَنِ التجسيم إلى آخر كلامه، وهو محكي بلفظه، لكن فيه تقديم لبعض ما أخره.
قلت: وإنما ذهبوا إلى هذا واختاروه لوجهين: عقلي وسمعي.
أمَّا العقلي: فلأن المتأول إما أن يقطع أن تأويله هو مراد الله، وأنه لا تأويل سواه، فهذا خطأٌ، لأنه (4) لا دليل على أنه لا تأويل سواه يمكن أنه مراد الله، وأقصى ما في الباب أنه طلب، فلم يجد، لكن عدم وجود المطلوب لا يدل على عدم المطلوب في نفسه، وكم من عالمٍ يأتي بتأويلٍ، ثم يأتي غيره بأحسن منه، بل قد يأتي هو بأحسن منه فيما بعد، وإن لم يقطع على أن تأويله مراد الله،
(1) في (ش): " مرتبة التأويل الذي لا يصح ".
(2)
من قوله: " ما فرغ الكلام " إلى هنا سقط من (ش).
(3)
3/ 19.
(4)
في (ف): " فإنه ".
فمجرَّد الاحتمال (1) ليس بتفسيرٍ ولا معنى للظن إلَاّ في العمليات. ومن هنا تظهر لك قوة عدم علم الراسخين بتأويل المتشابه، لأن غايته أن يكون ظناً، فلا يجوز عطفه على علم الله عز وجل الذي لا يدخله (2) الظن.
فإن قيل: قد يُسمى الظن علماً.
قلنا: قد يكون كثيرٌ من التأويل لمجرد الاحتمال، ولا يُسمَّى علماً إجماعاً، وإن كان بالظنِّ، فلا يجوز هنا خاصةً تسميته علماً، لأنه مجازٌ، أو مشترك، وهو في حقِّ الله للعلم اليقين، فلو عطف عليه غيره، كنا قد استعملنا اللفظ في كلا معنييه، والصحيح أنه لا يجوز لغةً، وادعى أبو هاشم أنه محالٌ عقلاً.
وأما السمعي، فقوله تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36]، وما رُوِيَ عن ابن عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من قال في القرآن بغير علم، فليتبوَّأ مقعده من النار. وفي رواية: " من قال في القرآن برأيه فليتبوَّأ مقعده من النار ". أخرجه الترمذي، وحسنه (3).
وعن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال في كتاب الله برأيه، فأصاب، فقد أخطأ ". أخرجه أبو داود والترمذي وغرّبه (4).
وأما إجماع الصحابة على التفسير بالرأي، وقول أبي بكر في الكلالة:" أقول فيها برأيي "(5)، فإنما أرادوا بالرأي: التفسير للحادثة الخاصة بالعُموم اللغوي لكي لا يُوهموا أنهم سَمِعُوا ما حكموا به عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنصوصية. ألا ترى أن الكلالة في اللغة مطابقةٌ لتفسير أبي بكرٍ؟ فلم يكن تفسيره رأياً محضاً،
(1) في الأصول: " الإجمال "، وهو خطأ.
(2)
في (ش): " لأجله "، وهو خطأ.
(3)
حديث ضعيف، وقد تقدم تخريجه 5/ 197.
(4)
تقدم تخريجه 5/ 197.
(5)
تقدم تخريجه 3/ 352.
ولو سلم، فذلك (1) في العمليات، ولا نزاع فيها لضرورة العمل، وإمكان الوقف في غير العمليات، ولو سلم إجماع في مسألتنا، فظنِّي، ولا ينفع هنا، الحديثان المقدَّمان يعارضانه، وهذا الذي حكاه النَّووي عنهم هو اختياري لنفسي، ولمن هو لمثل صفتي، لكني اقول: إنما يجب علينا أن نؤمن بالمعلوم من ذلك، فأما المظنون، فنؤمن به على شرط أنه صدر عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال النووي (2): والقول الثاني -وهو قول معظم المتكلمين- أنها تُتَأوَّل على حسب مواقعها، وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله بأن يكون عارفاً بلسان العرب، وقواعد الأصول والفروع، ذا رياضةٍ في العلم.
قلت: وهذا الذي ذكره هو معنى الرسوخ في العلم، وأنا لا أُنكره على الراسخين في العلم إن تكلموا في ذلك بما يعلمونه، وإنما المنكر خبطُ الجُهَّال بغير علمٍ ولا هدى (3) ولا كتابٍ منير.
أمَّا الفصل الأول: فالجواب: أن السيد أيده الله ذكر أحاديث معينةً، وذكر أنه لا يصحُّ لها تأويلٌ.
فنقول له: هل مرادك لا يصحُّ لها تأويلٌ عندك؟ فمسلم، ولا يضرُّك تسليمه، أو مرادُك: لا يصحُّ لها تأويلٌ في علم الله تعالى، ولا عند أحدٍ من الراسخين، فممنوعٌ، ودليل المنع وجهان:
الوجه الأول: أن موسى عليه السلام لما تعلَّم (4) تأويل فعل الخضر عليه السلام، لم يجب ألا يعلمه (5) الخضر عليه السلام، فإذا جاز على موسى الكليم أن يجهل ما عَلِمَهُ غيره، جاز عليك أكثر من ذلك.
(1) في (ش): " قولك ".
(2)
" شرح مسلم " 3/ 19.
(3)
" ولا هدى " ساقطة من (ش).
(4)
في (ف): " لم يعلم ".
(5)
في (ف): " إلى تعلمه ".
الوجه الثاني: أن الملائكة عليهم السلام ما عرفوا حكمة الله في جعل آدمَ خليفةً في الأرض، فقالوا:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} ، فلم يجب عليه إلَاّ بالجواب الجُمليِّ، فقال الله تعالى:{إني أعلم ما لا تعلمون} [البقره: 30] فإذا كفى الملائكة العلم الجمليُّ، كفى كثيراً من المسلمين.
فإن قلت: فرقٌ بين الأفعال والأقوال، لأن الإيمان بحُسْنِ الأفعال على الجُملة تكفي، وأمَّا الأقوال، فلا بد من فهم معناها، وإلا لكان الخطاب عبثاً، والعبث لا يجوز على الله تعالى.
قلت: ما مرادك بقولك: يجب فهم معناها؟ هل تريد على جميع المسلمين أو على علماء المسلمين؟ فإن قلت: على جميع المسلمين، كنت قد جمعت بين المُناقضة والمباهتة.
أمَّا المناقضة، فحيث منعت المعرفةَ بتفسير كتاب الله في أوَّل جوابك، ثم أوجبت العلم بمعانيه في آخره.
وأما المباهتة: فلأنَّ الأمة مجمعةٌ إجماعاً ضرورياً على أن العلم بجميع معاني كلام الله تعالى جَليِّها وخفيِّها ومُحكمها ومتشابهها لا يجب على النساء والإماء والفلاحين وسائر عامَّة المسلمين.
فإن قلت: إنه لا يجب أن يكون كلام الله معلوم المعنى إلَاّ لعلماء المسلمين، فلم ننازِعْكَ في هذا، ولكنك ادعيت في كتابك أنك لست من العلماء، ولا ممن يعرف معاني كلام الله، لأنك شككت في إمكان الاجتهاد، ولا يصح هذا الشك وأنت مجتهدٌ.
وأما التفسير، فمنعت أنت معرفته بالمرة، فلا يجب إذا لم تعلم تأويل أغمضِ المتشابهات أن تقطع على عجز العُلماء الراسخين، مستدلاً على عجزهم بأنك عجَزت عَنِ المعرفة، لأنه لا مُلازمة في العقل ولا في الشَّرع بين
جهل من هو معرفٌ أنه ليس من المجتهدين وجهل الراسخين في العلم حتى يستدل بأحدِهما على الآخر (1)، ولو كان يصح الاستدلال على جهل العلماء بجهل غيرهم، لوجب أن يكون العلماء لا يعرفون إلَاّ ما يعرف، وفي هذا غاية الفساد، وهذا الموضع يحتمل التطويل بإيراد أسئلةٍ ومعارضاتٍ ومُطالباتٍ لمدعي المعرفة بتأويل القرآن أن يفسِّرَ لنا آيات من القرآن العظيم، مثل قوله:{كهيعص} [مريم: 1]، وطلب الدليل على التفسير الذي يقوله: هل هو مجرد تجويزٍ؟ فليس بتفسيرٍ، أو هو قولٌ عن دليلٍ؟ فما ذلك الدليل؟ هل هو نص نبوي، أو نص لغوي، أو برهان عقلي، ويتفرع في هذا المقام أسئلة عويصة ومباحث صعبة تركتها اختصاراً وقد أوردتها في كتاب " ترجيح أساليب القرآن "(2).
الفصل الثاني: في المعارضات
وقبل الخوض فيها، أذكر مقدمة، وهي (3) أنه لا يلزمُني أن أقول بقوَّة الأسئلة التي أوردها، ولا أعتقدها، ولا يظن هذا إلَاّ من لا يعرف معنى المعارضة عند أهل النظر، وذلك لأنها تقتضي أن نُورد على الخصم مثل ما احتج به، وإن كان ضعيفاً عند المُورِدِ له، بل وإن كان باطلاً، وإنما يُورد لوجهين:
أحدهما: ليدفع المورد له عن نفسه ما يرِدُ عليه من ذلك القبيل، فيدفع الباطلَ بالباطلِ، ويكتفي بالشر من غير خُروجٍ من حقِّ، ولا دُخُولٍ في باطلٍ، ومثال ذلك قول أصحابنا والحنفية في الاحتجاج بالقيافة (4) على المنافقين،
(1) في (ف): " بالآخر ".
(2)
انظر ص 112 وما بعدها.
(3)
في (ف): " وهو".
(4)
القيافة: تتبع الأثر، يقال: قفوتُه أقفوه وقُفته أقوفُه وقفيتُه: إذا اتبعت أثره، والقائف يتبع الآثار، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، وحديث القيافة رواه البخاري (6770) و (6771)، ومسلم (1459) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل =
وليست حجةً صحيحةً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استبشر بها لغَلَبِ الخصم الذي يقول بصحتها، لا بها في نفسها، فهي باطلةٌ.
الوجه الثاني: تعريف الخصم بضعف قوله الذي استلزم تلك الأشياء الضعيفة، فإن القوي لا يستلزم الضعيف، قال المنطقيون في الجدل -وهي من أنواعه-: إن الغرض به: إقناع القاصر عن دَرْكِ البرهان وإلزام الخصم.
إذا تقرر هذا، فاعلم أن المعارضات نوعان:
النوع الأول: أنها قد وردت عن سلفنا (1) رحمهم الله تعالى من أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة تفاسير كثيرةٌ يستبعدها كثيرٌ من الناس، وتأويلها في البعد مثل تأويل هذه الأحاديث التي أنكر السيد تأويلها، فمن ذلك قوله تعالى:{كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 75 - 76] الآية، فإن ظاهرها يقتضي ما لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام من التشبيه، وقد تأولها الزمخشري (2) وغيره بأنه عليه السلام إنما أراد أن يحتج على غيره ويبيِّن له الدليل على حدوث الأجسام وبطلان ربوبيتها بدليل الأعراض. هذا معنى كلامهم.
فأقول: لا يخلو: إما أن يكون الاستبعاد يمنع من صحة التأويل، أو لا.
= علي مسروراً تبرق أساريرُ وجهه، فقال:" ألم تري أن مُجَزِّزاً المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض ".
قلت: كان الناس قد ارتابوا في نسب أسامة من زيد، إذ كان زيد أبيض اللون، وجاء أسامة أسود اللون، وكان المنافقون يتكلمون فيهما بما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم سماعه، فلما قال: القائف ما قال مع اختلاف اللون، سُرَّ النبي بذلك، لكونه كافَّاً لهم عن الطعن فيه لاعتقاهم ذلك. وانظر " شرح السنة " 9/ 284 - 286.
(1)
في (ش): " سلف الأمة ".
(2)
في " الكشاف " 2/ 31.
إن كان لا يمنعُ، جاز تأويل تلك (1) الأحاديث، ولم يمنع لمجرد الاستبعاد، وإن كان يمنع، فهذا التأويل المذكور في هذه الآية بعيدٌ لوجوه:
الوجه الأول: أنه لو أراد دليلَ الأعراض، لكفاه الاستدلالُ بدليلِ الأعراض على النجم، ولم يحتج إلى إعادة الدليل في حق القمر، ثم في حق الشمس، لأن دليل الأعراض دليلٌ كليٌّ، يدخل تحته، كل جسمٍ صغيرٍ أو كبيرٍ، ولو كان المستدل به كلما رأى جسماً، لم يكفه ما مضى من الاستدلال حتَّى يعيد الدليل، لم يزل مستدلاً وهذا شيء لم يقل به أحدٌ.
الوجه الثاني: لو أراد ذلك، لم يكن لتخصيصها بالاستدلال معنى، فإن الحركة والسكون، جائزان على كلِّ جسمٍ من الحجارة والشجر والتراب والحيوان والسماء والأرض، فما خصَّ النجم ثم القمر ثم الشمس؟!
الوجه الثالث: أنه لم يحصل فيها دليل الأكوان مثل غيرها، لأنه عليه السلام ما رآها إلَاّ متحركةً فقط، ولا استدل إلَاّ بالأفول الذي يستلزم الحركة، وهو غير دليل الأكوان، فإنه لا يصح إلَاّ بالنظر إلى الحركة والسُّكون معاً.
الوجه الرابع: أن إبراهيم عليه السلام قد علم أن الشمس والقمر كانا آفِلَيْن قبل شروقهما، فلو استدل على طريقة المتكلمين في الأكوان، لم يكن الأفول الثاني بأدل على حدوثها من الأفول الأول.
الوجه الخامس: أن مسير هذه الأشياء إلى وسط السماء أو أقل من ذلك مثلُ أُفولها بالنظر إلى دليل الأكوان، لأن القليل والكثير من ذلك دالٌّ على الحركة والنقلة التي تدل على الحدوث.
الوجه السادس: أنه حين قال في القمر: هذا ربي، تأخر عن الجواب إلى أن غرب القمر في آخر الليل، ثم فعل ذلك في الشمس، فتأخر عنِ الجواب من طلوعها إلى غروبها، وذلك يبعُدُ من المحتج على غيره لوجهين:
(1)" تلك " ساقطة من (ش).
أحدهما: أن الخصم لا ينتظره في المجلس الواحد يتطلب الجواب يوماً وليلةً.
وثانيهما: أن المحتج على الغير لا يجوز أن يسلِّمَ للغير ما يدعي إلَاّ ويبين للغير في تلك الحال، أن تسليمه تسليم جدلٍ، ثم تعقَّبه بإبطال كلامه من غير تراخٍ، لأنه لو جاز أن ينطِقَ بالكفر، ويسلمه للخصم يوماً كاملاً مع حضور الدليل، لجاز ذلك شهراً أو سنة والعمر كله.
الوجه السابع: أنه عليه السلام قال عقيب أُفول القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين} . وهذا لا يقوله المناظر (1) في مثل هذه الحالة المجادل فيها عن الحق المُبين للغير، وإنما يقوله الناظر المتحيِّر في الاستدلال.
الوجه الثامن: أنه قال في الشمس: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَر} . وهذا لا يشبه كلام المجادلين للغير، المحتجين بدليل الأعراض، لأن ما كثر نوره مثل ما قل نوره بالنظر إلى دليل الأعراض، بل الجسم المنير والمظلم بالنظر إلى ذلك على سواءٍ.
الوجه التاسع: أنه قال: هذا ربي، ولم يقل للخصم: هذا ربك، ولا قال: هذا ربنا، ولا قال: هذا رب، وقلَّما يتفق مثل هذا من مُخاصمٍ لغيره وإن كان ذلك جائزاً، لكنه بعيدٌ.
الوجه العاشر: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} فهذا يشعر بأن علة رؤيته للكوكب جنونُ الليل عليه، وعلة قوله: هذا ربي رؤيةُ الكوكب، كما تقول: فلما دخلتُ دار الإمارة، رأيتُ رجلاً وسيماً، قلت: هذا الأمير، ولو كان كما قالوا مخاصماً لغيره، لكان القياسُ: فلما قيل له: هذا ربُّك، قال: هذا ربي.
(1)" المناظر " ساقطة من (د) و (ف).
الوجه الحادي عشر: قوله تعالى بعد هذه الآية: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّه} [الأنعام: 80]، فعطف على هذه القصة قصةً أخرى، معناها أن إبراهيم تحاجَّ هو وقومه، فلو كانت القصة الأُولى محاجة مع قومه، لما حَسُنَ بعد الفراغ منها أن يُقال: وحاجَّه قومه كما لا يقال: اختصم زيدٌ وقومه في قِدَمِ العالم، فقال: إن ما فيه من الصنعة تدل على حدوثه، واختصم قوم زيد وزيد في حدوث العالم.
الوجه الثاني عشر: أن سياق الآية من أولها يدل على بعد التأويل، ألا ترى إلى قول الله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 75 - 76] الآية، فظاهر هذا السياق يدلُّ على أن الله تعالى أراه الملكوت ليؤمن بالله تعالى ويستدل عليه، لا ليناظر ويجادل، وفي هذا السياق ما يدل على أن إبراهيم عليه السلام ما كان قد رأى السماوات والأرض، وأنه كان محجوباً، كما قد رُوِيَ ذلك (1).
فإذا تأملت هذه الوجوه حق التأمل، وتركت العصبية، علمت أن قول الزمخشري وغيره بعيد في تأويل هذه الآية، وأين هذه الآية من دليل الأكوان الذي ينبني على أربع دعاوي، وهي أن (2) الأجسام لا تخلو من الأعراض، ولا تتقدمها، وأن الأعراض أمورٌ ثبوتيةٌ، وأن هذه الأعراض محدَثَة، وأن ما لم يخل من المحدث، ولم يتقدمه، فهو محدث مثله.
وإذا كان هذا التأويل قد صدر من علامة المعاني والبيان، وإمام البلغاء بغير منازعةٍ، وكان الجِلَّةُ من العلماء مستمرين على قراءته من غير اعتراضٍ عليه، ولا تشكيكٍ فيه، فإني سأبيِّنُ أن تأويل تلك الأحاديث التي أنكر السيد تأويلها قريبٌ من هذا على قانون أهل التأويل، وهذا على بعد الزمخشري من التأويلات البعيدة.
(1)" ذلك " ساقطة من (ش).
(2)
" أن " ساقطة من (ش).
ومن ذلك تأويل الزمخشري رحمه الله لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، فإنه أولها بما معناه (1): وإن من شيء إلَاّ يدل على أن الله يستحق التسبيح، ولكن إذا رأيتم هذه الأشياء لم تفقهوا ما فيها من الدِّلالة على استحقاقه للتسبيح، هذا معنى كلامه، وقد قدمت ما فيه من النظر، لأنه لا ملجىء إليه مع ما فيه من البعد.
فأمَّا غير الزمخشري رحمه الله من المفسرين على أساليب أهل الكلام، فلهم تأويلاتٌ بعيدةٌ، وفي " تهذيب "(2) الحاكم رحمه الله كثيرٌ من هذه الأشياء، منها في تفسير:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 27 - 28]، فإن الحاكم رحمه الله أنكر صحة عودهم إلى ما نهوا عنه بعد مشاهدة القيامة وأهوالها، وتأول الآية على أن المراد: إذا رُدُّوا إلى الدنيا كما يُرَدُّ من النوم إلى اليقظة، قال: فأما بعد المعاينة والعلم الضروري، فلا يجوز الرد إلى حال التكليف، للإلجاء الحاصل. هذا لفظه.
والعجب كيف يستغرب أن تحمل الآية على أنهم لو رُدُّوا كالرد من النوم إلى اليقظة، لعادوا لما نهوا عنه، والله قد نص على أنهم إنما تمنوا الرد لما وُقِفُوا على النار، وبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل: وكذَّبهم الله في قوله في تلك الحال: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ} ، فقال:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} ، وأكَّد ذلك بقوله:{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} .
وإذا كان هذا التأويل قريباً، فنحن لا نتأول تلك الأحاديث بأبعد من هذا، وان كان بعيداً، ولا ننكر على صاحبه فما بال تلك الأحاديث اختصت بالإنكار.
(1)" الكشاف " 2/ 451.
(2)
هو الحاكم الجشمي، وقد تقدمت ترجمته 1/ 296 و2/ 333.
وبالجملة، فهذا بابٌ واسعٌ، فقد أنكرت معتزلة بغدادٍ الظواهر المفهومة من القرآن الدالة على أن الله سميعٌ بصيرٌ، وتأولوا ذلك على معنى أنه عالمٌ فقط، وفي تأويلهم لذلك بعدٌ. وقد ذهب جماعةٌ من أهل العدل والتوحيد كالشيخ أبي الحسين وأصحابه إلى أن إرادة الله تعالى هي علمه لا سوى، وهذا أيضاً بعيدٌ، وقدِ اختاره الفقيه عبد الله بن زيدٍ، وفي السمع ما يصعب تأويله على هذا المعنى، مثل قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 85]، فإنه يبعد أن يكون معناه: يعلم الله بكم اليسر، وهذا القبيل كثيرٌ، حتى إن طائفةً من المعتزلة أنكروا وجُود الشيطان على الحقيقة، وادعوا أن جميع ما في القرآن من ذكره مجازٌ، والمراد به الشهوة أو نحو ذلك وفي السمع ما يصعب تأويله على هذا، مثل قوله تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، ومثل قصته مع آدم عليه السلام، وخطابه له، ومقاسمته، وسؤاله للإنظار من الله تعالى، ونحو ذلك.
وفي سلفنا رحمهم الله من كان يؤثر عنه تأويل العرش والكرسي بالمُلك (1)، وفي القرآن ما يصعب تأويله على هذا المعنى، مثل قوله تعالى:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، وقوله تعالى:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]، ونحو ذلك.
وقد فسر الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام آية النور في كتابه " الحكمة الدُّرِّية "(2) بتفسيرٍ بعيدٍ، فأول الزيت بالعقل، والنار
(1) جاء في نسخة (ش) بخط الإمام الشوكاني ما نصه: هو الهادي عليه السلام، وله كتاب سماه كتاب " العرش والكرسي "، وقفت عليه
…
قلت: الإمام الهادي: هو يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، وقد تقدمت ترجمته 3/ 458. وكتابه هذا توجد منه نسخة خطية في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء ضمن المجموع رقم 230. انظر فهرس المكتبة ص 810.
(2)
واسمه الكامل: " الحكمة الدرية والدلالة النبوية ". منه نسخة خطية في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء. انظر الفهرس ص 157.
بالشرع، والزجاجة والمصباح والمِشكاة والشجرة والكوكب الدُّرِّي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وهذا تأويلٌ بعيدٌ، ومع بُعده، فلا ملجىء إليه، لأن ظاهر الآية مما يجوزُ إرادته.
وللإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة أغرب من ذلك، وهي تأويل الآية الكريمة في قصة هاروت وماروت وما أُنزل عليهما، فإنه ذكر أن ذلك كله مَثَلٌ ضربه الله تعالى على سبيل التجوز، ولا حقيقة لشيء من ذلك. حكاه لي الإمام المنصور بالله علي بن محمد بن علي.
ولمجاهدٍ التابعي الجليل مثل ذلك في اليهود والمخسوف بهم قردةً، قال: هو مثلٌ ضربه الله، حكاه عنه ابن كثير في " البداية والنهاية " في المجلد الأول (1).
وللحاكم (2) رحمه الله تعالى قريبٌ من هذا في فضائل علي عليه السلام وأبي بكرٍ وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ذكره في كتابه " السفينة ".
فإذا نظر الإنسان إلى كثيرٍ من تأويلات العلماء قديماً وحديثاًً، وجد فيها البعيد والقريب، فلا ينبغي أن نُنكر على من قال بصحَّة بعضِ الأحاديث، وجواز أن لها تأويلاً عند العلماء، أو تأولها بمثل هذه التأويلات، فإنه لم يؤثر عن السلف الصالح رحمهم الله تعالى النكير على من تأول تأويلاً ضعيفاً مستبعداً متى كان صحيح العقدة، والاختلاف في أن هذا التأويل قويٌّ أو ضعيفٌ أو متعسَّفٌ، لا يحتمل الإنكار والتشنيع، فتأمل ذلك.
(1) 2/ 113، وذكره أيضاً في " التفسير " 1/ 109، وقال في " البداية والنهاية ": وهذا صحيح إليه، وغريب منه جداً، ومخالف لظاهر القرآن، ولما نص عليه غير واحد من السلف والخلف، والله أعلم.
(2)
هو أبو سعيد المُحَسِّن بن محمد بن كَرَّامة الجشمي البيهقي الحنفي ثم الزيدي، وكتابه " السفينة " يقع في أربع مجلدات ومضمونه التاريخ جمع فيه سيرة الأنبياء وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة والعِترة وهو معتمدٌ عند الزيدية يكثرون النقل عنه، والإفادة منه.
النوع الثاني من المُعارضات: فهو أنا نُورِدُ في تأويل تلك الأحاديث نظير ما ورد في تأويل القرآن العظيم من غير أن نكون قائلين بأن ذلك التأويل هو معنى الحديث قطعاً، لأني أختار لنفسي مذهب السلف المقدم وكما سبق موضحاً في الوهم الخامس عشر، ولجواز أن يكون له معنى هو أصحُّ من ذلك، وإنا لقصورنا لم نهتد إليه، وقد بيَّنتُ قصوري عن مرتبة التأويل، وإنما مرادي أُورد مثل كلامهم على وجهٍ يعرف المنصف أن مثله مما لا طريق إلى العلم القطعي بأن أهل تلك التأويلات لو سمعوه، لأجمعوا على أنه باطل.
فأقول: قد انتخب السيد أحاديث من أدقِّ ما وجد، وأنا أتكلَّم على كلِّ حديثٍ منها مستعيناً بالله تعالى:
فالحديث الأول: فقد ثبت أن عُلماء المعاني والبيان والزمخشري ومن لا يُحصى كثرةً قالوا في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، وقوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك} [الأنعام: 158]، كل هذا قالوا فيه: إن إسناد المجيء والإتيان إلى الله تعالى مجازٌ، وهو من قبيل الإيجاز: أحد علوم المعاني والبيان، وهو حذف بعض الكلام لدلالة القرينة على حذفه، والقرينة الدالة هنا هي القرينة العقلية، وهي أقوى القرائن دلالة، وكان هذا مثل قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ} [يوسف: 82]، أي: أهل القرية، قالوا: المعنى: وجاء أمر ربك أو عذابه، أو نحو ذلك من المقدورات.
فنقول: وكذلك الحديث الذي رواه السيد، وفيه:" فيأتيهمُ اللهُ "، وفي رواية " أتاهم ربُّ العالمينَ "(1)، فيه حذفٌ وتقدير، فيقال: المرادُ أتاهم مَلَكٌ من ربِّ العالمين، أو أتاهم رسول رب العالمين. وقوله: إني ربكم: أي رسلُ
(1) قطعة من حديث أبي هريرة في الرؤية، وقد تقدم تخريجه في الجزء الخامس.
ربكم، وكذلك قولهم: أنت ربنا: أي رسول ربنا، وإذا جاز تأويل لفظٍ على معنى، جاز تأويله على ذلك المعنى، وإن تكرر منه مرة فالعمدة أن الدليل العقلي صارف عن الظاهر، وإلا فالذي في القرآن من المتشابه في هذا المعنى يوهم أنه على ظاهره لو لم يكن ثمَّ دليل عقليٌّ يوجب التأويل من غير خلافٍ في هذا، وقد ذكرنا في المقدِّمات أن الترشيح لغويٌّ صحيحٌ متى ثبت معرفة المخاطب بالتجوز، وتقدمت أمثلة ذلك، فلا ينكر ما ورد من ذلك ولو كثر وإنما تجد النكارة لعدم وضوح الدليل في نفس السامع تارة، وفي نفس الأمر أخرى إلا من سمع جناح الذل لا يجد شكاً في معرفة المعنى وأنه مجاز وإن لم يكن من العارفين بخلاف من سَمِعَ قوله تعالى في آدم عليه السلام:" خَلَقْته بيدي " وقد ذكر النووي في " شرح مسلم "(1) تأويل هذا الحديث فقال ما لفظه: وقيل: المراد يأتيهم الله، أي: يأتيهم بعض ملائكته. قال القاضي عياض: وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث. قال: ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات (2) الحديث الظاهرة على الملك والمخلوق.
قال: أو يكون معناه: يأتيهم الله في صورةٍ أي بصورةٍ ويُظهر لهم صورة ملائكته ومخلوقاته التي لا تُشبه صفات الإله ليختبرهم (3). وهذا آخر امتحان المؤمنين، فإذا قال لهم: هذا الملك، أو هذه الصورة: أنا ربكم، رأوا عليه من سمات المخلوقين ما يعلمون به أنه ليس ربهم، ويستعيذون بالله منه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (4): " فيأتيهم الله في صُورته التي يعرفون بها "، فالمراد بالصورة هنا: الصفة، ومعناه: فيتجلَّى (5) لهم على الصفة التي يعلمونها وإنما عبَّر في الصفة بالصورة، لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام، فإنه تقدم ذكر الصورة.
(1) 3/ 19 - 20.
(2)
في (ف): " صفات ".
(3)
في (ف): " ليحيرهم ".
(4)
في الأصول: وأما قولهم، والمثبت من " شرح مسلم " 3/ 20.
(5)
في (ف): " فتجلى ".
وأما قولهم (1): " نعوذ بالله منك "، فقال الخطابي: يحتمل أن تكون الاستعاذة من المنافقين خاصةً، وأنكر القاضي عياض هذا.
قال النووي: وما قاله القاضي عياض هو الصواب، والحديث مصرِّحٌ به، أو ظاهر فيه، وإنما استعاذوا منه لما قدَّمناه من كونهم رأوا سِمَات المخلوق.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " فيتبعُونه "، فمعناه: فيتبعون أمره إياهم بذهابهم إلى الجنة. انتهى.
وفيه ما يُوافق ما ذكرته ولله الحمد، إلَاّ أن قوله:" يتجلَّى على صفة " يحتاج إلى تأويلٍ كتأويل قوله تعالى: {فلما تَجَلَّى رَبُّهُ للجبل} [الأعراف: 143]، فأقول: يحتمل على أساليب المتأولين أن المراد بـ (تَجَلَّى) ما يدلُّ على عِظَم (2) قُدرته، وإحاطة علمه من عجائب أفعاله المُعجزة التي نعلم بها أنه المتكلم المخاطب.
ومن هذا القبيل -ولم يذكره السيد- حديثُ نزول الرب جل جلاله كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا (3)، أوَّلوه بنزول ملكٍ، وليس في الحديث الذي رواه السيد أكثر من هذا الذي ذكرته إلَاّ ثلاثة أشياء: أحدها: ذكر أنهم سجدوا له (4)، والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه يجوز أن يكون قَصَدُوا بالسجود: التَّعبُّدَ لله تعالى عند رؤيتهم
(1) في (ش): " قوله ".
(2)
في (ف): " عظيم ".
(3)
والحديث بتمامه: " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: " من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ ".
أخرجه من حديث أبي هريرة مالك 1/ 214، وأحمد 2/ 287 والبخاري (1145) و (6321) و (7494)، ومسلم (758)، وأبو داود (1315)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "(480)، وابن حبان (920)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(4)
" له " ساقطة من (ش).
لذلك الملك تعظيماً لله حين رأوا من مخلوقاته العظيمة ما يُوجب الزيادة في التعظيم، ولا نص في الحديث يُبطِلُ هذا.
وثانيهما: أنه يجوز السجود للملك على سبيل التعظيم والتكرمة دون العبادة، وإنما حرَّم هذا علينا بالشرع، وقد سجدت الملائكة لآدم عليه السلام، فأولى أن يسجد بنو آدم لملكٍ من الملائكة الكرام، وقد سجد ليوسف إخوته عليه السلام.
الأمر الثاني مما ورد في الحديث: ذكر الصورة، وأنه جاءهم على صورتين، فقد ذكر أن الذي جاءهم على قول كثيرٍ من أئمة التأويل مَلَكٌ من ملائكة الله تعالى، وذلك جائزٌ في حقه.
فإن قلت: لا يجوز أن يكون للملك صورتان، وإنما المعروف أن له صورة واحدة؟
أجبنا بوجهين:
أحدهما: أنه لا مانع من ذلك، فذلك في قدرة الله تعالى.
ثانيهما: أنه قد جاء حديثٌ صحيح في تفسير تينكَ (1) الصورتين، وأنه جاءهم في الليلة الأولى محتجباً عنهم، وفي المرة (2) الثانية متجلِّياً لهم. رواه الحافظ العلوي في كتاب " الأربعين "، وقد تقدم ما ذكره القاضي عياض والنووي في تأويل الصورة بالصِّفة، وفيه كفايةٌ، وقد تقدم في المرتبة الثانية ذكر حديث ابن مسعودٍ الذي خرَّجه الطبراني والحاكم في الفتن، وصححه على شرطهما في تمثل الرَّبِّ تعالى وتبارك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمَّته، ومن أحب التَّقصِّي بجميع الوجوه المُحتمِلَةِ للتأويل، وهذا الحديث بعينه، وفي أمثاله، فليطالع كتاب " الأسماء والصفات " للبيهقي رحمه الله، وقد حكى الله تعالى عن خليله عليه السلام ما حكى حين رأى النَّجم، ثم القمر، ثم الشمس. قيل: إن ذلك في
(1) في (ش): " تلك ".
(2)
" المرة " ساقطة من (ش).
أوَّلِ أحوال النظر، وربما كان في حقه عليه السلام قبل بُلوغ التكليف على ما رُوِيَ في بعض الآثار، وليس يلزم من هذه الأشياء ما توهَّمته الاتحادية من أن الرب جل جلاله، الموصوف بالأسماء الحسنى، مجرد خيالٍ كالأحلام، وأنه لا حقيقة له إلَاّ الوجود المطلق الذي لا وجود له عند سائر العقلاء من علماء الإسلام وجماهير الفلاسفة. ألا ترى أن تمثل (1) جبريل عليه السلام على صورة دِحية لم يدلُّ على أنه لا ذات له البتة إلَاّ خيالية، وقد أوضح هذا في غير هذا الموضع.
ثم ذكر السيد الحديث الثاني، وهو مثل هذا سواء، إلَاّ أنه قال فيه:" فيكشف عن ساقٍ "(2)، وهذا اللفظ معروفٌ في لغة العرب كنايةً عن شدة الأمر، وأما هنا، فلسنا محتاجين إلى الكناية، بل نرُدُّ ذلك كله إلى الملك، وقد شنَّع السيد على البخاري لقوله في روايته:" فيكشف عن ساقه "(3)، وذلك بناءً منه
(1) في (ش): " تمثيل ".
(2)
قطعة من حديث مطول تقدم تخريجه في بحث الرؤية من الجزء الخامس.
(3)
قلت: هذه الرواية بهذا اللفظ أخرجها البخاري في كتاب التفسير من " صحيحه "(4919) من طريق سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سَمِعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يَكْشِفُ ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً واحدة ".
قلت: وقد انفرد سعيد بن أبي هلال بهذا اللفظ، ورواه غير واحد بلفظ:" ويكشف عن ساق "، وسعيد بن أبي هلال نقل الساجي عن أحمد قوله: ما أدري أي شيء يخلط في الأحاديث.
وقال الإسماعيلي كما في " الفتح " 8/ 664 في قوله: " عن ساقه " نكرة، ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم بلفظ:" يُكْشَفُ عن ساق " قال الإسماعيلي هذا أصح لموافقتها لفظ القرآن، لا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين تعالى الله عن ذلك، ليس كمثله شيء.
قلت: يعني بلفظ القرآن قوله تعالى في سورة القلم: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ، قال عبد =
على رجوع الضمير إلى الله تعالى، وفي هذا الحديث الثاني ما ليس في الأول، " فيضع الرب قدمَه "، وتأويله على ما ذكرناه فيضع رسول الرب قدمه، وكذا قوله:" فيضع الجبار "، أي: رسول الجبار.
وقال العلامة ابن حجر في " مقدمته لشرح البخاري " في تأويل هذا الحديث: قدمه: الذين قدَّمهم لها من شِرَارِ خلقه. أي: للنار، فهم قدم الله للنار، وقيل في تفسيره: يأتيهما أمر الله فيكفهما عن طلب المزيد ويُسكن فورتها، كما يقال لكل أمرٍ أبْطلته: وضعتُه تحت قدمي، ومنه الحديث:" كل دمٍ ومأثَرَةٍ تحت قدمي هاتين "(1) أراد إعدامها وإبطالها وإذلال أمر الجاهلية. انتهى.
= الرزاق، عن معمر، عن قتادة: عن شدة أمر، وعند الحاكم 2/ 499 من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: هو يوم كرب وشدة، وقال الفراء في " معاني القرآن " 3/ 177. حدثني سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قرأ: (يوم تكشف عن ساق) يريد القيامة والساعة وشدتها، (قلت: وهذا سند صحيح) قال: وأنشدني بعض العرب لجد أبي طرفة:
كشفت لهم عن ساقها
…
وبدا من الشرِّ البواح
وقال ابن قتيبة في " تأويل المشكل " ص 137: فمن الاستعارة في كتاب الله قوله عز وجل: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي: عن شدة من الأمر كذلك قال قتادة، وقال إبراهيم: عن أمر عظيم، وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجد فيه، شمَّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشِّدَّة.
وقال النووي في " شرح مسلم ": فسَّر ابن عباس وجمهورُ أهل اللغة وغريب الحديث الساق هنا بالشدة، أي: يكشف عن شدة وأمر مهول.
قلت: واتفاق هؤلاء العلماء على تفسير الآية بما تقدم يقضي بأن لفظها غير مراد، وأنه ليس هناك ساق ولا كشف، وإنما هي كناية أو استعارة، ففيه ردٌّ على من ينفي وجود المجاز في القرآن الكريم.
(1)
أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو أبو داود (4548)، وابن ماجه (2627)، وأحمد 2/ 11، وصححه ابن حبان (6011)، وانظر تمام تخريجه فيه.
ويكشف ربُّنا عن ساقه، أي: رسول ربنا (1)، وهذا النوع المسمى بالإيجاز عربي فصيحٌ، ومنه قول جبريل عليه السلام:{لأهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيَّاً} [مريم: 19]، في أحد القراءتين (2)، ومنه قول عيسى عليه السلام:{وأُحيي الموتى بإذن الله} [آل عمران: 49]، أراد: ويحيي الله الموتى عنه إن أريد ذلك.
وانظر الفرق بين تأويلنا لهذا الحديث، وتأويل:{وجاء ربك} ، أو:{يأتي ربك} ، أن يأتيهم الله، فما ثمَّ فرقٌ أبداً إلَاّ أن هذه الألفاظ المؤوَّلة تكرَّرت في الحديث أكثر مما تكررت في الآيات. ومن المعلوم عند كل مُنصفٍ أن التأويل متى كان ممكناً في نفسه، حسناً بالنظر إلى اللغة، جاز تكريرُه، وحَسُنَ ترديده، لأن الشيء الحَسَنَ في نفسه لا يقبُحُ بتكريره، وإلا لزم ألا يجوز للإنسان أن يكرِّرَ تلاوة:{وجاء ربُّك} قدر مراتٍ كثيرةٍ، وما علمنا شيئاً يحسُنُ النطق به مرةً واحدةً ويقبُحُ تكريره.
وأما نسبةُ الضحك إلى الله تعالى في بعض تلك الأحاديث، فهو أسهل من هذا كله. وإن شئنا نسبناه إلى المَلَكِ الذي قدَّرنا أنه المراد، ويكون الضحك على ظاهره، والتجوز في إسناده، وإن شئنا كان الإسناد إلى الله تعالى على ظاهره، وجعلنا التجوز في الضحك لا في الإسناد، فقد صح نسبة الغضب إلى الله تعالى، وكذلك الرضا والعجب والضحك مثل هذه الأمور، وقد اشتهر الضحك المجازي في لُغة العرب، وشحن البلغاء أشعارهم بذكر ضحك البُروق
(1) قلت: هذا التأويل مبني على صحة هذه اللفظة، وقد علمت فيما مضى أنها منكرة وأن سعيد بن أبي هلال تفرد بها، على أن ابن الأثير رحمه الله قد تأول هذه اللفظة في " النهاية " فقال في حديث القيامة:" يكشف عن ساقه ": الساق في اللغة الأمر الشديد، وكشفُ الساق مثلٌ في شدة الأمر كما يقال للأقطع الشحيح: يده مغلولة ولا يد ثَمَّ ولا غل، وإنما هو مثل في شدة البخل، وكذلك هذا لا ساق هناك وكشف، وأصله أن الإنسان إذا وقع في أمرٍ شديد يقال: شمَّر عن ساعده، وكشف عن ساقه للاهتمام بذلك الأمر العظيم.
(2)
هي قراءة عامة القراء غير أبي عمرو وورش والحلواني عن نافع، فإنهم قرؤوا:" ليهبَ لك " بالياء. أنظر " حجة القراءات " ص 440.
والأزهار والأنوار، وقد فسَّروا ضحك الرب برضاه، وقد ذكر ابن متوية ضحك الأرض في المجاز، وأنشد في ذلك:
تضحك الأرضُ من بكاء السماء.
وقد أذكرني في (1) هذا بليلةٍ عجيبةٍ كانت اتَّفقت لي، فقلت فيها:
وليلةٍ ضَحِكَتْ أنوارُها طَرَباً
…
بروقُها وزهور الرَّوض والقمرُ
فَكِدْتُ أضحكُ لولا حَنَّ رَاعِدُها
…
حنينَ شاكٍ ولولا أن بكى المطرُ
فذكَّرَ الرَّعدُ قلبي في تَحَنُّنه
…
حنين خِلِّيَ لما أن دنا السفرُ
فنُحتُ حتى تباكَتْ كلُّ ضاحكةٍ
…
من الثلاث وحتى رقَّ لي الشجرُ
وهذا المعنى مطروقٌ مشهورٌ في أشعار المتقدمين والمتأخرين، وقد اتسعُوا في ذلك، حتَّى نسبوا الضحك إلى القبور، دع عنك نسبته إلى الأنوار والزهور.
قال شيخ المعرة (2):
رُبَّ قبرٍ قد صار قبراً مراراً
…
ضاحكٍ (3) من تزاحم الأضدادِ
فإذا عرفت هذا، فاعلم: أن السيد قد انتقى هذين الحديثين من أدق ما وجد في كتب الحديث، مما توهم أنه لا يحتمل التأويل البتة، فقد رأيت من هو غير معدودٍ في العلماء، لا عند الناس ولا عند نفسه كيف تبين أن تأويل ذلك مثل تأويل آيات القرآن الكريم سواء، فكيف لو تعرَّض للفحص عن وجوه (4) في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام، وحبر الأمة ابن عباس المفقَّه (5) في الدين،
(1)" في " ساقطة من (ش).
(2)
في ديوانه: " سقط الزند " 3/ 971 من قصيدة مطلعها:
غيرُ مجدٍ في ملَّتي واعتقادي
…
نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنُّمُ شادِ
(3)
في الأصول: " ضاحكاً " وهو خطأ.
(4)
" في ذلك " ساقطة من (ش).
(5)
في (ش): " المتفقه ".
المعلم التأويل وأمثالهما من العترة الطاهرة، وتفجرت عليك بحار علومهم، وتموَّرت أمواج معارفهم، وافتنُّوا في مغاصات التأويل العميقة، وخاضوا في غَمَرَات المجاز والحقيقة، إذاًَ لعرفت حينئذ من الرجال حق الرجال، واستيقنت أنا وأنت أمثال ربَّات الحِجال، ولقُلت لمن تعرض منا للدقائق، وادعى معرفة الحقائق، ورسوخ القدم في تلك المضايق:
أطرِقْ كَرا أطرق كَرا
…
إن النَّعام بالقرى (1)
فإن قلت: إن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأحاديث توهم الناس التشبيه، وذلك لا يجوز.
قلت: الجواب من وجهين:
(1) قال البغدادي في " خزانة الأدب " 2/ 374 - 375: البيت من الرجز أورده كذلك ابن الأنباري وابن ولَاّد، وأبو علي القالي والجوهري في " الصحاح " والصاغاني في " العباب ".
وأورده المبرد في " الكامل " والزمخشري في " مستقصى الأمثال " ص 221 هكذا: " أطرق كرا إن النعام في القرى " بناء على أنه نثر لا نظم، وصوابه: أطرق كرا مرتين كما نبه عليه البطليوسي فيما كتبه على " الكامل ". ومعنى البيت، قال ابن الأنباري والقالي: أغْضِ، فإن الأعزاء في القرى، والكرا: هو الكروان وهو طائر ذليل يقول: ما دام عزيز موجوداً، فإياك أيها الدليل أن تنطق ضربه مثلاً.
وقال ابن الحاجب في " الإيضاح ": " وأطْرِقْ كرا ": مَثَلٌ لمن يتكلم وبحضرته أولى منه بذلك، كأن أصله خطابٌ للكروان بالإطراق لوجود النعام، ويقال: إن الكروان يخاف من النعام.
وفي " العباب " للصاغاني: وأطرق: أرخى عينه ينظر إلى الأرض، وفي المثل:
أطرق كرا أطرق كرا
…
إن النَّعام في القرى
يضرب للمعجب بنفسه، وللذي ليس عنده غناء ويتكلم، فيقال: اسكت وتوق انتشار ما تلفظ به كراهية ما يتعقبه.
وقولهم: إن النعام في القرى، أي: تأتيك فتدوسُك بمناسمها.
أحدهما: على أصول السلف وأهل السنة، كما مرَّ في الوهم الخامس عشر في القاعدة الثالثة من كلام ابن تيمية.
وثانيهما: على أُصول المتكلمين، فهو أن الناس على ضربين: منهم من يعرف العقيدة الصحيحة بالأدلة القاطعة، ومنهم من لا يعرف ذلك، فأمَّا الذي لا يعرفُ العقيدة الصحيحة، فإن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية توهمه ذلك كلها، ولا فرق في الإيهام، وأما من يعرف العقيدة الصحيحة، فإنه لا يتوهم من ذلك شيئاً، ولهذا فإن علماء العدل والتوحيد ما زالوا يقرؤون كتب الحديث، ولا يتوهمون التشبيه، ولا يعبِّرون بالظواهر، ولكن السامع لهذه الأحاديث يجد فرقاً بين سماع الحديث والآيات، وذلك الفرق ليس هو لأمرٍ يرجع إلى إمكان التأويل وتعذره، وإنما هو لوجهين:
أحدهما: أنه قد تمرَّن على سماع الآيات وتلاوتها وإلفها واعتيادها (1)، وللإلف والعادة تأثيرٌ في عدم الاستنكار، ألا ترى أن الإنسان يستنكر من الخطيب في بلاد المعتزلة لو سمعه يخطب بخطبة النبي صلى الله عليه وسلم التي أولها:" من يهده الله، فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ، فلا هادى له "(2). ولو أنه تلا آية من كتاب الله في هذا المعنى، لم يكن في الاستنكار بمنزلة الحديث، بل لو يسمع
(1) في (ف): " وألفها واعتادها ".
(2)
قطعة من حديث صحيح أخرجه أحمد 1/ 392 و393 و432، والدارمي 2/ 142، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي 3/ 105، وابن ماجه (1892) عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: " إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا. من يهد الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَاّ الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].
المسلم رجلاً يقول: لا إله إلَاّ الله، موسى رسول الله؛ لاستنكر ذلك لعدم العادة، وإن كان حقاً، وإن كان السامع من غير أهل العلم، ربما حكم على المسموع أنه يهودي، ولم يدر أن اليهودي لم يكن يهودياً بقوله: موسى رسول الله، وإنما كان يهودياً بجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: وهو يختص من يعرف التأويل ويُصِحُّه، وهو أن الواحد منا قد سمع تأويل الآيات، ورسخ في ذهنه، فحين يسمعها (1) يتبادر تأويلها الذي يعرفه إلى الذهن، فلا تقع النكارة والحديث الذي لم يألف سماعه، ولم يعرف تأويله حين يطرق الأسماع غير معروف اللفظ، ولا محفوظ التأويل، بل يقشعر منه القلب، وينبو منه السمع، وليس ذلك لأمر يرجع إلى تعذُّر تأويله، لما ذكرته لك من عدم الاعتياد لسماعه، وعدم المعرفة لتأويله، ولو أن الإنسان لم يكن يعرف القرآن، ولا قد سمِعَه، وكان يعرف إعتقادات المتكلمين ويأْلَفُها، ثم سمع المتشابه من القرآن عندهم، وهو لا يدري أنه كلام الله تعالى، لوجد النكارة لِمَا سمعه، والوحشة مما تدل تلك الآيات عليه، والله سبحانه أعلم.
وبعد، فقد روى البخاري ومسلم في " صحيحيهما ": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل إذا تقرَّب عبدي مني شبراً، تقربت منه ذراعاً، فإذا تقرب مني ذراعاً، تقربت منه باعاً، فإذا أتاني يمشي، أتيته هرولَةً "، وفي رواية:" وإذا أقبل إليَّ يمشي، أقبلت إليه أُهَرْوِلُ "(2).
وروى مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضتُ فلم تَعُدْنِي، قال: يا رب، كيف أعودُك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مَرِضَ، فلم تعده؟ لو أنك عدته،
(1) في (ش): " سمعها ".
(2)
أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري (7405)، ومسلم (376) و (2672)، وأحمد 2/ 509، وأبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، وابن حبان (328) و (376) و (811) و (812)، وانظر تمام تخريجه فيه.
لوجدتني عنده". إلى آخر الحديث، وما ورد فيه من ذكر الاستطعام (1). فهذا وأمثاله مما كان يعرف السامعون من المجازات النبوية.
فإن قلت: كيف وردت السنة في ذلك بأكثر مما ورد به القرآن؟
قلت: مثل هذا السؤال لا يصدر عن عارفٍ، فإن القرآن مبنيٌّ على الإيجاز العظيم، وكل ما ورد فيه من الشرائع وغيرها، فهو في السنة أبسطُ غالباً، مثل الصلاة، وتفصيل شرائطها، ومفسداتها، وعدد ركعاتها، ومثل الزكاة وأنصبتها، وما يُعفى عنه فيها، وكذلك الصوم ولوازمه، والحج ومناسكه، وعذاب القبر، وأحوال البعث، وصفة الحساب، والصراط، والجنة، والنار، وغير ذلك. وهذا واضحٌ.
ثم إن السيد أيده الله تعالى نظم حديث جريرٍ بن عبد الله البجلي، وهو الحديث الثالث في هذا النمط، ما كأن السيد قد قرأ كتاباً في علم المعاني والبيان، وقوله عليه السلام في حديث جرير:" سَتَرَوْنَ ربكم "(2) متواترٌ عند أهل الحديث، رَوَوْا فيه قدر ثمانين حديثاًً عن نيِّفٍ وثلاثين صحابياً. ممن ذكر ذلك النفيس العلوي في كتابه في الرؤية، وذكر أكثره ابن تيمية وابن قيم الجوزية في " حادي الأرواح "(3). ومعناه عند المعتزلة صحيحٌ من غير تأويلٍ ولا تجوزٍ، فقد ذكر كثيرٌ من أئمة الاعتزال والشيعة ما يدلُّ على أنه محمولٌ على الحقيقة اللغوية، لم يخرج قط إلى المجازات المعنوية، وذلك لقولهم فيه: إن الرؤية بمعنى العلم، وذلك حقيقةٌ لغويةٌ فصيحةٌ قرآنيةٌ، قال الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل: 1]، {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 30] في آيات كثيرة وهذا ما لا نزاع فيه، وذكر ذلك صاحب " ضياء الحلوم "(4)، وذكرهُ النُّحاة
(1) تقدم تخريجه 4/ 175.
(2)
تقدم تخريجه في الجزء الخامس.
(3)
ص 205 - 231، وقد تقدم تخريجها في الجزء الخامس.
(4)
انظر " شمس العلوم " 2/ 299.
في أفعال القلوب المتعدية إلى مفعولين، وذكر ذلك (1) صاحب " الضياء "، وذكر الحديث وتفسيره وإنما يدخل التجوز (2) في تشبيه (3) العلم برؤية القمر، وذلك أجلى ما يكون من التجوز لإثبات حرف التشبيه، وهو مثل قولنا: زيدٌ شجاع كالأسد، وكرمه معروفٌ كالنهار، وأهل الحديث لا يجهلون هذا، ولا يخالفون في أن الرؤية لفظةٌ مشتركةٌ، وإنما احتجوا به على جواز الرؤية بالأبصار، لأن سِيَاق الحديث في السؤال عن رؤية الأبصار عندهم، والجواب لا يصح أن يكون أجنبياً عما وقع عنه السؤال، وهم يدعون الضرورة في هذا الموضع من جهة التواتر في النقل، ومن جهة القرائن في المعنى، والمعتزلة ينازعونهم في الموضعين معاً، فذلك محلُّ النزاع، لا صحة التأويل وإمكانه على ما مضى تقريره في الوهم السادس عشر.
وأما لو تجردت ألفاظ الحديث عن تلك القرائن التي احتفت به، لم يمنع مميزٌ من إمكان تأويل الرؤية بالعلم في الوضع اللغوي، فاعرف (4) ذلك، فهو مثل كلام الشيعة في لفظة المولى في غدِيرِ خُمّ سواء.
وأما توهم السيد أنه دالٌّ على التشبيه، ومانعٌ عن التأويل لما في من صفة القمر بالتمام والصَّحو مِنَ الغيم، فذلك جائز على القمر، وإنما الإشكال لورود ذلك في وصف الله تعالى، مثل أن يقول: سَتَرَوْنَ ربكم يوم القيامة متجلِّياًَ من غير حجابٍ، فلو ورد هكذا لأمكن أهل التأويل تأويله، مثل ما أمكنهم تأويل القرآن، حيث قال الله تعالى:{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكّاً} [الأعراف: 43]، وحيث قال:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51].
(1)" ذلك " ساقطة من (ش).
(2)
في (ف): " التجويز ".
(3)
في (ش): " مشتبه "، وهو خطأ.
(4)
في (ف): " فافهم ".
فإن قلت: إن تشبيه رؤية الله برؤية القمر يقتضي تشبيه الله تعالى بالقمر قطعاً.
قلت: هذا ما لم يَقُلْ به مُوحِّدٌ ولا مشبِّهٌ ولا ظاهري ومُؤوِّلٌ، فإنه لو شبه الله تعالى بالقمر ما اقتضى ذلك، ولم يشبِّهه تعالى بالقمر البتة وإنَّما شبه رؤيته، التي هي العلم الضروري عند المعتزلة، برؤية القمر، وقد أجمع العقلاء -دع عنك العلماء- على أن الإنسان لو قال: كرم حاتمٍ معروفٌ كالنهار إذا تجلى، وعلم علي كالقمر إذا بدا، أنه لا يجب المماثلة المحققة (1) في جميع الصفاتِ بين كرم حاتم والنهار، وبين علم علي والقمر.
يوضح ما ذكرته: أنه يجوز عند أهل العلم بلغة العرب أن يقول القائل: سترون كرم ربِّكم يوم القيامة كالقمر في الليلة الصحو، ليس دونه سحابٌ، وإن هذا الكلام لا يقتضي أن يكون كرم الله جسماً منيراً مستديراً على صورة القمر (2) كما فهم السيد من حديث جريرٍ أنه يقتضي ذلك في حق الله تعالى.
والوجه فيما ذكرته أن المشهور عند علماء المعاني، وأهل اللغة أن تشبيه الشيء بغيره لا يجب أن يكون مثله في كل وصفٍ من صفاتها، وإنما يكون في بعضها، فقد يكون تشبيهاً بذلك الغير في إمكانه، مثل قوله:
فإن تفُقِ الأنام وأنت منهم
…
فإن المِسْكَ بعضُ دمِ الغزالِ (3)
وقد يكون للاستطراف، كتشبيه فحمٍ فيه جمرٌ يتوقَّدُ ببحرٍ من المسك موجه الذهب. ومنه:
ولا زَوَرْدِيَّةٍ تزهو بِزُرْقَتِها
…
فوقَ الرِّياض على حُمْرِ اليَواقيت
(1) في (ش): " للحقيقة ".
(2)
في (ف): " كالقمر ".
(3)
البيت من قصيدة للمتنبي يرثي فيها أم سيف الدولة، مطلعها:
نُعِدُّ المشرفِيَّة والعَوَالي
…
وتَقْتُلُنا المنونُ بلا قتالِ
انظر الديوان 3/ 8 - 20 بشرح العكبري.
كأنها فوقَ قاماتٍ ضَعُفْنَ بها
…
أوائل النار في أطراف كبريتِ (1)
وقالوا: فلان كالأسد، وفلانٌ أسدٌ، لم يُريدوا في بشاعة وجهه، وكريه صورته، وفلانٌ كالبحر، لم يُريدوا في مُلوحَةِ مائِهِ، وكراهية رائحته.
وقد يكون التشبيه للهيئة (2) مثل قوله:
كأن مُثارَ النقع فوق رُؤوسنا
…
وأسيافُنا ليلٌ تهاوى كواكبهْ (3)
ومما يجري مجرى النصِّ في هذا الموضع بيت علماء المعاني المشهور (4):
(1) البيتان لابن الرومي يَصِفُ البنفسج وقبلهما:
بنفسج جُمِعَتْ أوراقُه فحكى
…
كُحلاً تشرَّب دمعاً يوم تشتيتِ
انظر " معاهد التنصيص " 2/ 56.
(2)
ويقال للتشبيه الذي من هذا النوع التشبيه التمثيلي وهو الذي يكون وجه الشبه فيه صوراً من أمورٍ متعددة، ووجه الشبه في بيت بشار هذا هو الهيئة الحاصلة من هوي أجرام مشرقة مستطيلة، متناسبة المقدار متفرقة في جوانب شيء مظلم، وذلك متحقق في المشبه والمشبه به، إذ أن المشبه هو النقع المثار الذي تتحرك فيه السيوف، والمشبه به هو الليل تتساقط كواكبه، وكلاهما أمرٌ حِسّي.
(3)
البيت لبشار بن برد من قصيدة يمدح بها مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، مطلعها:
جفا ودُّه فازَوَّر، أو مَلَّ صاحِبُه
…
وأزرى به أن لا يزال يُعَاتِبُه
ومنها الأبيات السائرة:
إذا كنت في كُلِّ الأمور معاتباً
…
صديقك لم تَلْقَ الذي لا تُعاتِبُه
فَعِشْ واحداً أو صِلْ أخاك فإنه
…
مُقارِفُ ذنبٍ مرَّةً ومجانبُه
إذا أنت لم تشرب مِراراً على القذى
…
ظمئتَ وأيُّ الناس تصفو مشاربُه
انظر " ديوان بشار " 1/ 325 - 430 بتحقيق الطاهر بن عاشور
(4)
هو للقاضي علي بن محمد بن داود التنوخي من أبيات أولها: =
وكأنَّ النُّجوم بَيْنَ دُجاها
…
سُننٌ لاح بينهن ابتداعُ
فإنه شبَّه فيه السنن بالنُّجوم مع أن السنن ليست بأجسامٍ، والنجوم أجسامٌ، فدل على أن تشبيه ما ليس بجسمٍ بما (1) هو جسم حسنٌ في اللغة، فصيح في البلاغة. فلو أن الحديث ورد بتشبيه الله -تعالى عن الشبه- بالقمر على سبيل المجاز (2) عند أهل التأويل مما لا يتعذَّر تأويله، ثم لو نزل عن هذه المرتبة، فهو رد بتشبيه العلم بالله تعالى بالقمر، لكان عربياً فصيحاً، فكيف وقد نزل إلى مرتبة ثالثة، فورد عند الخصوم بتشبيه العلم بالله تعالى برؤية القمر، لا بالقمر، فهذا شيءٌ لا يستنكره عاقلٌ، فضلاً عن عالمٍ.
وقد شاع التشبيه للاشتراك في بعض الأوصاف، ومِنْ طريفٍ ما رُوِيَ في هذا قولُ بعضهم، وقد وفد على رجُلٍ يُقال له قرواش، فاتهمه بأنه مُنتحلٌ لشعره، نقال: إن صدقت في أنك صاحب هذا الشعر، وناسجُ بُردَتِه، فامدحني واهجُ أصحابي هؤلاء، وكان له مغن يُقال له: البرقعيدي، ووزيرٌ يقال له: سُليمان بن فهدٍ، وحاجبٌ يقال له: أبو (3) جابر، فقال (4):
= رُبَّ ليلٍ قطعته بصُدود
…
أو فراقٍ ما كان فيه وداعُ
موحشٍ كالثقيل تقذى به الـ
…
ـعينُ وتأبى حديثه الأسماعُ
وكأن النجوم بين دُجاها
…
سُننٌ لاح بينهن ابتداعُ
مشرقاتٌ كأنهنَّ حِجاجٌ
…
تقطع الخصم والظلامُ انقطاعُ
وكأن السماء خيمةُ وشيٍ
…
وكأن الجوزاء فيها شِرَاعُ
انظر " معاهد التنصيص " 2/ 10، و" يتيمة الدهر " 2/ 394 - 395.
(1)
في (ف): " ما ".
(2)
في (ش) و (ف): " أهل المجاز ".
(3)
" أبو" ساقطة من (ف).
(4)
هو الطاهر الجزري كما في " دمية القصر " ص 50، والأبيات في " وفيات الأعيان " 5/ 265، و" فوات الوفيات " 3/ 199، و" معجم البلدان " 1/ 388 وقرواش: هو ابن المقلد بن المسيب العقيلي معتمد الدولة صاحب المَوْصِل والكوفة والمدائن وسقي الفرات =
وليلٍ كَوَجْهِ البرقعيدي مظلمٌ
…
وبرد أغانيه وطول قرونِهِ
سريتُ ونَومي فيه نوم مُشَرَّدٍ
…
كعقلِ سُليمان بن فهدٍ ودينِهِ
على أوْلَقٍ فيه اختباطٌ كأنه
…
أبو جابرٍ في خَبْطِه وجُنُونِه
إلى أن بدا ضوءُ (1) الصباح كأنه
…
سنا وجهِ قرواشٍ وضوء جبينه
= المتوفى سنة 444 هـ، مترجم في " السير " 17/ 633 - 634. وهذا الأسلوب يقال له في علم البديع الاستطراد، ومنه قول البحتري من قصيدة في وصف فرسه ديوانه ص 1740:
وأغر في الزمن البهيم مُحَجلٍ
…
قد رُحْتُ منه على أغر مُحَجَّل
كالهيكل المبني إلَاّ أنه
…
في الحسن جاء كصورةٍ في هيكلِ
مَلَكَ العيون فإن بدا أعْطَيتُه
…
نظر المحبِّ إلى الحبيب المقبلِ
ما إن يَعَافُ قذى ولو أوردته
…
يوماً خلائق حمدويه الأحول
وقد احتذى البحتريُّ في شعره هذا أبا تمام في هجو عثمان بن إدريس السامي:
حلفتُ إن لم تثبت أن حافره
…
من صخر تدمر أو من وجه عثمان
ومنه قول ابن عُنين ديوانه ص 205 في اثنين كانا يتناظران وقد لقب أحدهما بالبغل والثاني بالجاموس:
البغلُ والجاموس في جدليهما
…
قد أصبحا عِظَة لكل مناظرِ
برزا عشية ليلةٍ فتباحثا
…
هذا بِقَرْنَيْهِ وذا بالحافرِ
ما أتقنا غير الصياح كأنما
…
لقنا جدال المرتضى بن عساكر
لفظٌ طويلٌ تحت معنى قاصر
…
كالعقل في عبد اللطيف الناظر
اثنان مالهما وحقِّك ثالثٌ
…
إلَاّ رقاعةُ مدلويه الشَّاعرِ
ومدلويه: لقب الشاعر عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن النابلسي وكان مقيماً في دمشق ولابن عنين فيه عدة مقاطع هجو.
(1)
في (ف): " وجه ".
ومن هذا القبيل بيتُ " المقامات "(1):
تفترُّ عن لؤلؤٍ رطب وعن بَرَدٍ
…
وَعَنْ أقاحٍ وعَنْ طلعٍ وعن حَبَبِ
ومنه بيتُ الوأواء الدِّمشقي (2) الذي رواه الحريري (3)، وهو قوله:
فأمطرت لُؤلؤاً من نرجسٍ فسقت
…
وَرْداً وعَضَّت على العُنَّاب بالبَرَدِ
ودع عنك الأشعار (4)، فقد ورد هذا في القرآن العظيم وروداً كثيراً، فمن
(1) ص 25 في المقامة الحلوانية، وقبله:
نفسي الفداء لثغرِ راق مَبْسِمُه
…
وزانه شَنَبٌ ناهيك عن شَنَبِ
الثغر: الأسنان، والمبسم: الفم، والشنب: الماء القليل الجاري على الأسنان، وناهيك: كافيك، يقال: ناهيك بفلان، أي: قد انتهى الأمر فيه إلى الغاية.
ويفتر: يكشف ويبسم، ورطب: طري كما أخرج من أصدافه، وفي اللؤلؤ إذ ذاك رطوبة وسطوع بياض، والطلع: أول حمل النخلة وهو القرح فإذا انشق فهو المضحك، وبه تشبه الأسنان في بياضه، والحَبَب: تنضد الأسنان. انظر الشريشي 1/ 51.
(2)
ص 26، وهو من قصيدة مطلعها:
لما وضعت على صدر المحبِّ يدي
…
وصحتُ في الليلة الظلماء واكبدي
وقبل البيت المستشهد به:
آنسة لو بَدَتْ للشمس ما طَلَعَتْ
…
للناظرين ولم تَغْرُبْ على أحد
قالت وقد فَتَكَتْ فينا لواحِظُها
…
ما إن أرى لقتيل الحبِّ مِن قَوَدِ
فأمطرت لؤلؤاً من نرجِسٍ وسقت
…
ورداً وعضَّت على العُناب بالبرد
ثم استمرت وقالت وهي ضاحكة
…
قوموا انظروا كيف فعلُ الظبي بالأسد
(3)
في المقامة الحلوانية وهي الثانية، وهي تتضمن محاسن من التشبيهات والاعتراضات، والنرجس: نوار أصفر في نَوْرِه انكسار وفتور لا يكاد يرى له ورقة قائمة، تُشبه به العينان إذا كان في نظرهما فتور.
(4)
عبارة: " ودع عنك الأشعار " ساقطة من (ش).
ذلك قوله تعالى: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَاتٌ (1) صُفْرٌ} [المرسلات: 32 - 33]، فإنه لحم، يشبه الشرار بالجمالات في كِبَر أجسامها؛ لأنه قد شبَّهها بالقصر، وهو أكبر منها، وليس (2) يحسُن التشبيه بالشيء، ثم بما هو دونه عند علماء هذا الشأن، وإنما أراد أنها كالقصر في كِبَرٍ، وكالجمالات في التقاطر والتتابع في الرمي شررةً بعد شررةٍ من غير تخلُّلٍ بينهما، نعوذ بالله من عذابه.
ومن أحسن ما اتفق لي في هذا المعنى أنه سألني بعض الإخوان عن قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاح
…
} [النور: 35].
قال: كيف شبَّه الله نوره العظيم بنور المصباح مع قلته، ولم يُشبه بما هو أعظمُ منه من نور الشمس ونحوها مع أن نور الله أعظم من نور الشمس؟؛ لأن نور الشمس (3) لا ينتفع به إلَاّ أهل الأبصار، ونور الله الذي هو الهدى ينتفع به (4) أهل البصائر من أهل الأبصار وغيرهم؟
فطلبتُ وجه ذلك في " الكشاف "، فلم أجده، ولعله تركه لجلائه، فنظرتُ فيه فوقع لي -والله أعلم- أنه لم يرد التشبيه بنور المصباح في كثرته، إنما أراد التشبيه بذلك المصباح المختص بتلك الصفات في كثرة مواد إنارته، وترادُفِ مُوجباتِ إضاءته، فإنه بنفسه منيرٌ، ومكانه -وهو المشكاة- مما يقوِّي النور؛ لأن المشكاة تجمع النور في مكانٍ ضيِّقٍ فيكثُرُ، والزجاجة البيضاء النَّيِّرة كذلك، والزيت المخصوص الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نارٌ، كل هذه مُقوِّيَّاتٌ
(1) بألف وكسر الجيم: جمع الجمع، تقول: جمل وجمال وجمالات، كما تقول: رجل ورجال ورجالات، وبيت وبيوت وبيوتات، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي عمرو وعاصم وابن كثير، وقرأ حمزة والكسائي وحفص (جمالة) على التوحيد، جمع جمل، تقول: جمل وجمال وجمالة، ودخلت الهاء توكيداً لتأنيث الجمع، كما تقول:(عمومة)، ونظيرُه: حجر وحجار وحجر وحجارة. " حجة القراءات " ص 744.
(2)
في (ف): " ولم ".
(3)
في (ش): " لأنه نور ".
(4)
" به " ساقطة من (ش).
لذلك النور، فكذلك نور الهُدى والعلم مستمد من موادٍ كثيرةٍ لكثرة أدلَّة الحق وتعاضُدها، وترادفها كترادُفِ موادِّ (1) الإنارة في ذلك المصباح، وقد نبَّه الله تعالى على هذا المعنى بقوله:{نُورٌ عَلَى نُورٍ} .
ثم وقفتُ بعد ذلك على تفسير ابن عباس للآية بأن المراد بها: مثل نور من آمن بالله، رواه الحاكم (2)، وقال صحيح الإسناد، فازداد الأمر وضوحاً، ولله الحمد، وهو تفسيرٌ صحيحٌ.
وتلخيصه: أن الله شبَّه القدر الموهوب من هدايته للفرد من المؤمنين، ونور الهداية يُنْسَبُ إلى الله، لأنه واهبُه وخالقه، وإلى العبد، لأنه محلُّه والمنتفع به.
ويوضِّحه أنه لا بُد من محذوف مُضْمَرٍ، لأن النور لا يُشَبه بالمشكاة، وأما (3) أن يكون محل النور وهو قلب المؤمن، وهو أولى بالنظر قبل الأثر، كيف بعد ما عضَّدَهُ الأثر؟ لأنه هو التشبيه -حقيقةً- بالمشكاة، ويُرادف مواد إنارتها، وقد يشبه الشيء بما هو دونه في أكثر الصفات، مثل تشبيه الوجه الحسن بالقمر، وكم بينهما في الحسن من درجاتٍ، ولو يكون الوجه الجميل مثلَ القمر في تدويره وطمس تصويره، ما كان له من الحسن نصيبٌ.
(1) في (ف): " موارد ".
(2)
في " المستدرك " 2/ 397، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 6/ 196، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
قلت: ذكر ابن كثير في تفسيره 6/ 61 أن في ضمير قوله تعالى: {مثل نوره} قولين أحدهما: أنه عائد إلى الله عز وجل، أي: مثل هداه في قلب المؤمن. قاله ابن عباس.
والثاني: أن الضمير عائد إلى المؤمن الذى دلَّ عليه سياق الكلام، تقديره: مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة، فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه، كما قال تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} .
(3)
في (ف): " فإما ".
وقد أصاب مِحَزَّ الإصابة في هذا المعنى أبو تمام، فإنه لمَّا مدح الواثق بقصيدته المعروفة التي قال فيها (1):
في جُودِ حاتم في شجاعة عنترٍ
…
في حِلْمِ أحنف في ذكاء إياسِ
اعترضه بعض جُلساء الواثق، وقال: شبَّهت أمير المؤمنين بأجلاف العرب، فقال على البديهة:
لا تُنْكِرُوا ضربي لَهُ من دونه
…
مثلاً شروداً في الندى والباس (2)
فالله قد ضرب الأقلَّ لنُوره
…
مثلاً من المِشكاة والمِقباس
ومن أحسن ما يذكر في هذا النوع: تشبيه القمر عند تناهي نُقصانه بالعُرجون في قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، وكم بينهما في الفروق (3)، وأين (4) جوهر القمر العُلويِّ من عُود سَعَفٍ من (5) النَّخل مطروحٍ قد انحنى ويبَس واسودَّ من تقادُم الزمان، فحَسُنَ التشبيه به لما اشتركا في هيئة الانحناء والتَّقوُّس لا سوى.
وقد يتوسَّعُ أهل الصَّنعة البديعة في هذا، ويُجاوزون هذا الحد إلى أمدٍ بعيدٍ.
(1)" الديوان " ص 163، والرواية فيه:
إقدام عمروٍ في سماحة حاتمٍ ............
(2)
رواية البيت في الأصل:
لا تنكروا لي أن ضربت بدونه
…
مثلاً غريباً في الندى والباس
والمثبث من الديوان.
(3)
في (ش): " الفرق ".
(4)
في (ف): " فأين ".
(5)
" من " ساقطة من (ف).
ومن كلام العلامة رحمه الله تعالى: واستحي من الله وقلبُك قلبُه، ولبُّك لبُّه، وكلُّك، فهو فاطره وربه أن تشتغل بمقة من شغل بمقته قلبه قلبك، وأن تعكف على مُوادَّةِ من عَكَفَ على محادثة لُبِّه لبّك.
ونحو كلام الزمخشري هذا حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري وغيره: " من عادى لي وليّاً فقد آذنته بحرب، وما تقرَّب إلي عبدي بأحبَّ ممَّا افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إلي بالنوافل حتَّى أُحبَّه، فإذا أحببتُه، كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصرُ به، ويده التي يبطِشُ بها " الحديث (1) وهو أساس علم الصوفية.
ومن ذلك قوله تعالى: {فأرسلنا إليها رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ} [مريم: 17]. قال الزمخشري (2): هو مثل قولك لحبيبك: يا روحى أو كما قال.
وقد شبه البلغاءُ بما يتخيل مما لا وجود له البتة، قيل: ومن ذلك قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]، وقد تقدم.
ومن مُستطرفِ هذا النَّوع قوله:
وكأنَّ مُحْمَر الشَّقيـ
…
ـقِ إذا تُصَوَّبَ أو تَصَعَّدْ
أعلام ياقوتٍ نُشْرْ
…
نَ على رِمَاحٍ من زَبَرْجَدْ (3)
فإن أعلام الياقوت ورماح الزبرجد غير موجودةٍ، فإذا حَسُنَ تشبيه الموجود بما لا وجود له البتة، فكيف يلزم من التشبيه الاستواء بين المشبه والمشبه به؟
ومن مُستملحِ هذا النوع قول أبي نواس:
(1) تقدم تخريجه ص 135 من هذا الجزء.
(2)
في " الكشاف " 2/ 505.
(3)
البيتان غير منسوبين في " معاهد التنصيص " 2/ 4.
كأن صُغرى وكُبرى من فَواقِعها
…
حصباء دُرٍّ على أرضٍ من الذهبِ (1)
ومن لطائف هذا النوع: قول أبي نواس أيضاً في وصف هرٍّ أبيض في أطرافه حُمرةٌ:
عيونٌ من لُجَيْنٍ شاخصاتٍ (2)
…
على أطرافها الذهبُ السبيكُ
على قُضْبِ الزبرجد شاهِداتٍ
…
بأن الله ليس له شريكُ
وقد أذكر في الخوض في هذا قصةً طريفةً ذكرها ابن خلكان في " تاريخه "(3)، وذلك أن بعض الطلبة قرأ على أبي البقاء ابن يعيش (4):
أيا ظبية الوَعْسَاءِ بين جُلاجلٍ
…
وبين النَّقا آأنتِ أمْ أمُّ سالمِ (5)
فقال الطالب: وكيف اشتبه ذلك عليه، والظبية لا تُشْبِهُ المرأة، فبيّن له أبو البقاء أن المراد: التشبيه في العُنُقِ والعينين، فلم يفهم، وأعاد السؤال عن وجه المشابهة بين المرأة والظبية، وقال: ما الذي المرأة فيه مثل الظبية، فقال أبو البقاء: في (6) قرونها وأظلافها.
(1)" ديوانه " ص 243، وهو من أبيات مطلعها:
ساعٍ بكأسٍ إلى ناسٍ على طربٍ
…
كلاهما عجبٌ في منظرٍ عَجبِ
(2)
في (ف) و (د): " ناظرات ".
(3)
" وفيات الأعيان " 7/ 48 - 49.
(4)
هو العلامة موفق الدين أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا الأسدي، المتوفى سنة 643 هـ. انظر ترجمته في " السير " 23/ 144.
(5)
هو البيت الرابع والأربعون من قصيدة لذي الرُّمّة يمدح بها الملازم بن حريث الحنفي، مطلعها:
خليلي عُوجا الناعجات فسلما
…
على طَلَلٍ بين النقا والأخارمِ
والوعثاء: رابية من الرمل من التيه تنبت أحرار البقول وجلاجل: موضع.
انظر " الديوان " 2/ 745 - 775.
(6)
" في " ساقطة من (ش).
فانظر هذه الأشياء متأمّلاً لها بتدبُّرٍ وإنصافٍ، وضُمَّ (1) ذلك إلى النظر في ترشيح الاستعارة الذي قدمته، وما ورد فيه من المبالغة العظيمة، ثم اعرِضْ نفسك قول السيد أن تأويل حديث جريرٍ يقتضي التشبيه الصريح القبيح هو ومن تابعه على لفظه ومعناه، وهم نيِّفٌ وثلاثون صحابياً، ذكرهمُ النفيس العلوي في كتابه في " الرؤية "، وذكر أكثرهم ابن قيم الجوزية في أواخر كتابه " حادي الأرواح "(2)، ذكر منهم ستة وعشرين والرواة (3) عن كل واحدٍ منهم متفاوتون في الكثرة، وإنما بلغ المعتزلة حديث جرير مع إضرابهم عن علم الحديث؛ لأن رُواته كثروا أخيراً (4) حتَّى بلغوا سبع مئة نفسٍ، فظن كثيرٌ منهم أنه شذَّ بذلك من دون الصحابة، فاعجب مِن قوله: إن تأويل حديث جريرٍ متعذِّرٌ متعسف، وتصريحه بأن رواية المحدثين له (5) واحتجاجهم به يدل على ذهابهم إلى التشبيه، لما في الحديث من ذكر القمر وتدويره، أو كما قال السيد وإذا تقرر أن التشبيه لا يلزم أن يكون إلَاّ في بعض الوجوه؛ نظرنا في تشبيه العلم، أو الرؤية بالله تعالى برؤية القمر التام المتجلي: هل هو في الذات، أو في غيرها، فوجدنا العلم ذاتاً حقيقة، والرؤية ليست بذاتٍ على القول المنصور في علم الكلام، فلم يكن بينهما شَبَهٌ ذاتي البتة، فكذلك على القول بأن الإدراك معنى ثبوتي، لا يكون بينه وبين العلم مماثلةٌ أيضاً؛ لأن المعاني مختلفة في ذواتها، فكما أن العلم لا يُشبه السواد، ولا الحركة شبهاً ذاتياً يقتضي المماثلة، فكذلك لا يشبه الإدراك بالحواس الخمس شبهاً ذاتياً، وإذا سلمنا أنهما يشتبهان، فأين جلال الله تقدس وتعالى عن هذا؟ فإنما ورد الحديث بتشبيه علمنا به تعالى أو رؤيتنا برؤية القمر، فأين لزوم الشبيه والتجسيم للرؤيتين بعضها ببعض؟ لا يستلزم التشبيه للمرئيين قطعاً.
(1)" وضم " ساقطة من (ش).
(2)
ص 205 - 231، وقد تقدم تخريجها في الجزء الخامس.
(3)
في الأصول: " والرواية "، والجادة ما أثبت.
(4)
" أخيراً " ساقطة من (ش).
(5)
" له " ساقطة من (ش).
الحديثُ الرابع: حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام (1). وقد ذكره السيد فيما يدلُّ على الجبر مما في الصحاح، وليس فيه من الجبر شيءٌ، كما سوف أُنبِّه عليه إن شاء الله، ولا ورد في " الصحاح " شيءٌ مما يقتضي الجبر وخَلْقَ أفعال العباد البتة، لا مما يمكن تأويله، ولا مما لا يمكن، فاعرف هذه الفائدة، وإنما ورد في " الصحاح " ذكر القَدَر والإيمان به لا سوى، وليس في ذلك شيءٌ من الجبر ولا من خلق الأفعال، لا على مذهب العدلية، ولا على من يُعتدُّ به من أهل الحديث وسائر الفرق.
والجواب ما ذكره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحنبلي في كتاب " الفرق بين الأحوال الربانية والأحوال الشيطانية "(2)، فإنه لما ذكر هذا الحديث، قال: وهذا الحديث ضلَّت فيه طائفتان: طائفة كذَّبت به لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذَّمِّ والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر.
وطائفة شرٌّ من هؤلاء، جعلوه حُجَّةً، وقد يقولون: القدَرُ حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلاً، ومن الناس من قال: إنما حجَّهُ لأنه أبوه، أو لأنه قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعةٍ، واللوم في شريعةٍ أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الآخرة.
وكل هذا باطلٌ، ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام، لم يلُم أباهُ إلا لأجل المُصيبة التي لَحِقَتْ أولاد آدم من أجل أكلِه الشجرة، فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فلم يلُمْه لمجرد كونه أذنب ذنباً وتاب منه، فإن موسى عليه السلام يعلم أن التائب من الذنب لا يُلام، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القَدَر، لم يقل:{ربَّنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23].
والمؤمن مأمورٌ بالصبر عند المصائب، والاستغفار من المعايب، قال اللهُ تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55].
(1) تقدم تخريجه 1/ 218.
(2)
ص 106 - 108.
فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبةٌ مثل المرض والفقر والذُّلِّ، صبروا لحُكْمِ الله، وإن كان ذلك ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي، فافتقر أولاده لذلك، فعليهم أن يصبِرُوا، وإذا لاموا الأب لحُظوظهم (1)، ذكر لهم القدر.
والصبر واجبٌ (2) باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله تعالى، وأعلى من ذلك أن يشكُرَ على المصيبة لِمَا يرى من إنعام الله عليه، حيث جعلها سبباً لتكفير خطاياه، ورفع درجاته، وإنابته إلى الله، وتضرُّعِه إليه، وإخلاصه في التوكل عليه، ورجاءه دون المخلوقين.
وأما أهلُ البغي والضلال، فتجدهم يحتجُّون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويُضِيفُون الحسنات إلى أنفسهم، كما قال بعضهم: أنت عند الطاعة قدريٌّ، وعند المعصية جبريٌّ، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنةً، شهدوا إنعام الله عليهم، وأنه هو الذي جعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة، وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قُوَّة إلَاّ به، فزال عنهم شهود القدر بالعُجْبِ والمَنِّ (3)، وإذا فعلوا سيئةً، استغفروا الله، وتابوا إليه منها.
ففي " صحيح البخاري " عن شداد بن أوسٍ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: سيِّد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلَاّ أنت " الحديث (4).
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذرٍّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربِّه:" يا عبادي، إني حرَّمْتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرماً " الحديث بطوله (5).
(1) في (د) و (ف): " بحظوظهم ".
(2)
" واجب " ساقطة من (ف).
(3)
من قوله: " وأهل الهدى " إلى هنا ساقط من (ش).
(4)
تقدم تخريجه 7/ 768.
(5)
تقدم تخريجه 7/ 560.
وذكر العلامة الحافظ الكبير إسماعيل بن كثيرٍ الشافعي في كتابه " البداية والنهاية "(1) في الجزء الأول في ذكر آدم هذا الحديث، وأنه متواتر عن أبي هريرة، ورواه عن عمر من طريقين (2)، وعن أبي سعيد (3)، وعن جُندب بن عبد الله البجليِّ رواه أحمد (4)، وحديث عمر خرّجه أبو داود.
وذكر في تأويله وجوهاً كثيرة، ثم قال (5): والتحقيق أن هذا الحديث رُوِيَ بألفاظٍ كثيرةٍ، بعضها مروي بالمعنى، وفيه نظرٌ، ومدارُ معظمها في " الصحيحين " وغيرهما. على أنه لامَهُ على إخراجه نفسه وذرِّيته من الجنة، لا على المعصية نفسها، فقال آدم: أنا لم أُخرجكم، وإنما أخرجكُمُ الذي رتَّب الإخراج على أكلي من الشجرة (6)، والذي رتَّب ذلك وقدَّره وكتبه قبل أن أُخلقَ هو الله عز وجل، فأنت تلومني على ذلك، وليس من فعلي، وأنا لم أخرجكم من الجنة ولا نفسي، وإنما كان هذا من قدرة الله تعالى وصنعته، وله الحكمة في ذلك (7)، فلهذا حج آدم موسى.
(1) 1/ 75 - 77.
(2)
حديث عمر أخرجه أبو داود (4702)، والبزار (2146)، وأبو يعلى (243)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 143 - 144، والآجري في " الشريعة " ص 180، وابن أبي عاصم في " السنة "(137)، وإسناده قوي.
(3)
أخرجه البزار (2147)، وأبو يعلى (1204)، وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 191:
رواه أبو يعلى والبزار مرفوعاً، ورجالهما رجال الصحيح. قلت: رواية أبي يعلى موقوفة.
(4)
2/ 464، أخرجه الطبراني (1663)، وأبو يعلى، وابن أبي عاصم (143). قال الهيثمي في " المجمع " 7/ 191: رواه أحمد وأبو يعلى (1521)، والبزار، ورجالهم رجال الصحيح.
(5)
1/ 78 - 79.
(6)
في (ف): " الشجر ".
(7)
من قوله: " فأنت تلومني " إلى هنا ساقط من (ف).
ثم تمسُّك الجبرية بالحديث، فأجاب (1) عليهم بوجوهٍ ثلاثةٍ، قال في آخر الوجه الثالث: ولو كان القدر حجة، لاحتج به كل أحدٍ على الأمر الذي ارتكبه في الأمور الكبار والصغار، وهذا يُفضي إلى لوازم قطعية، فلهذا قال من قال من العلماء: بأن جواب آدم إنما كان احتجاجاً بالقدر على المصيبة، لا على المعصية، والله أعلم. انتهى.
وفيه بيان ردهم على الجبرية وبراءتهم من ذلك.
فإن قلت: هذا مسلَّمٌ في حق من تصِح بينهم المنازعة، وأن يلوم (2) بعضهم بعضاً، لكن من أين (3) أن ذلك يجوز على الأنبياء عليهم السلام؟.
قلت: الجواب عن (4) هذا واضحٌ، فقد ورد القرآن بذلك، بل بأكثر منه، فقد أخبر الله تعالى عن موسى أنه أخذ برأس أخيه يجرُّه إليه، وذلك قبل أن يعلم بصدور ذنبٍ من أخيه عليه السلام، وقد حكى الله تعالى عن موسى والخَضِر عليهما السلام ما يرفع الإشكال، وكذلك حكى الله عن داود وسليمان عليهما السلام الاختلاف، حيث قال:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، بل حكى الله تعالى عن الملائكة الخصومة، وهي احتلافٌ وزيادةٌ، فقال:{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (5)[ص: 69]، وجاء ذكر خصومتهم في الذي قتل مئة نفسٍ، ثم تاب، وهاجر من أرضٍ إلى أرضٍ، فأدركته الوفاة في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، حتَّى أرسل الله ملَكاً يحكم بينهم متفقٌ على صحته (6)، وكذلك حديث اختصامهم في الكفارات والدرجات. رواه الترمذي من حديث ابن عباسٍ (7).
(1) في (ف): " وأجاب ".
(2)
في (ش): " يلزم ".
(3)
" أين " ساقطة من (ف).
(4)
" عن " ساقطة من (ش).
(5)
انظر 1/ 218.
(6)
تقدم تخريجه 1/ 219.
(7)
أخرجه الترمذي (3232)، وأحمد 1/ 368، وانظر 1/ 218 - 219.
وهذا لا يحتاج إليه مع نصِّ كتاب الله تعالى، بل قال الله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فأوجب الاختلاف لو قدر حالاً يصح من تعدُّد الآلهة كما دلَّت عليه الآيات الواردة في ذلك، فدل على لزوم الاختلاف في بعض الأمور لجميع المتعدِّدين بالأشخاص، فكيف يقطع بكذِب هذا الحديث مع ذلك كله؟
ويلحق بهذا تنبيهات:
التنبيه الأول: أنه لم يقع من آدم وموسى عليه السلام ما ظاهره قبيحٌ على المذهب، فيجب تأويله، والذي ذكرته من الجواب بيانٌ لا تأويل (1) والفرقُ بينهما ظاهرٌ، وقد ورد في القرآن ما هو أعظم من هذا مما لا بد من تأويله، وذلك قوله تعالى في مُحَاجَّة نوحٍ وقومه، قال الله تعالى:{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 32 - 34].
وفي هذه الآية الكريمة أعظم مما في محاجة آدم وموسى التي في كتب الحديث، وذلك من وجوهٍ:
أحدها: أن تلك المحاجة لم تكن في دار التَّكليف.
وثانيها: أنه ليس فيها تصريحٌ بما يجب تأويله، وأما هذه، ففيها ما يجبُ تأويله، وذلك في موضعين:
أحدهما في قوله: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَح} إلى آخره، فإن هذا يصلح حجة للكفار على الأنبياء عليهم السلام، لأن فيه تسليةً لهم بأنه لا يكون إلا ما شاء الله.
(1) في (ش): " بيان تأويله ".
وقد احتجوا بهذا في غير موضعٍ من القرآن، حيث قالوا: لو شاء اللهُ ما أشركنا، وقد رد الله تعالى هذه الشُّبهة عليهم بما لا مزيد عليه، فكيف احتج بها نوحٌ عليه السلام؟، وهي شبهتهم التي يعتمدون؟
الموضع الثاني: قوله عليه السلام في الآية: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} فجوَّز ذلك على الله تعالى.
وثالثها: أن كلام آدم عليه السلام مع من هو مثله ممن يعرف تأويل ما ظاهره لا يصح، وليس هو موضع تعليمٍ له، ونوحٌ عليه السلام في موضع التعليم لهم، وكلامه مع جَهَلَةِ (1) الكَفَرَةِ الذين ربما اعتقدوا ظاهر ما يقول.
فإذا عرفت هذا، فاعرِضه على تعصُّبِ السيد على الحديث، حيثُ زعم أن قصة آدم عليه السلام وموسى مما تدل على الجبر، ومما لا يمكن تأويله، وزعم أنه ليس من القرآن ما يُقارب ما في الصحاح ولا ما يُدانيه، وأنه ليس في القرآن إلَاّ ما تأويله قريبٌ على مذهب المعتزلة.
وبعد أن ذكرت (2) ما يقتضي خلاف كلام السيد، فلا يحسُنُ أن أورد الشبهة وأتركها بغير جوابٍ، فأقول: أما على مذهب (3) المعتزلة، فقال الزمخشري رحمه الله في تفسير الآية (4).
فإن قلت: ما معنى: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ؟
قلت: إذا عرف الله من الكافر الإصرار؛ فخلَاّه وشأنه، ولم يُلْجِئْهُ سُمي ذلك إغواء وإضلالاً، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوي؛ فلطف به، سُمي إرشاداً وهدايةً، وقيل: أن يُغْوِيَكُمْ: [أن يهلككم]، من غَوِيَ الفصيل غَوَى: إذا
(1) في (د) و (ف): " جهل ".
(2)
في (ف): " أذكر ".
(3)
في (د) و (ف): " قول ".
(4)
" الكشاف " 2/ 267، وما بين حاصرتين منه.
بشم، فهلك، ومعناه: أنكم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا ينفعكم نصح الله ومواعظه، وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي؟ انتهى كلامه رحمه الله.
وقوله فيه: ولم يُلجئْهُ. إشارةٌ إلى مذهبه في أنه ليس في معلوم الله تعالى ولا في مقدوره لطفٌ لهم، وقد مرَّ بيان الصواب في ذلك، ومنه يعرفُ الجوابُ على مذهب أهل السنة في ذلك، ولله الحمد والمنة، وكلُّ أحدٍ يؤخذ من كلامه ويُتركُ إلَاّ أهل العصمة. نسأل الله التوفيق.
ولكن ينبغي التنبيه على لطيفةٍ، وهي أن للداعي للهدى حالين:
حال (1) تلطُّفٍ ودعاءٍ، فلا يحسُن فيها مثلُ هذا الكلام، وحال (1) غضبٍ وتهديدٍ ووعيدٍ، وفيها يحسُن هذا وأمثاله، وهذا مما كنتُ قدمت من اعتبار الجهتين، ألا تراهم حين استعجلوا (2) العذاب وطالبوه معجزين له، مظهرين أنه لو كان صادقاً، لأتى به، كيف يرتكِزُ في الذهن أن يتطلب من الكلام ما يُلقِمُهمُ الحجر، ويؤلم قلوبهم من الوعيد والتهديد، وهذا مثل قوله تعالى:{وما تُغني الآيات والنُّذُرُ عن قومٍ لا يؤمنون} [يونس: 101]، وقوله تعالى:{إنما تنذر من اتبع الذكر وخَشِيَ الرحمن بالغيب} [يس: 11]، وباعتبار الجهتين. قال الله تعالى:{فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات} [فاطر: 8]، ودعا عليه السلام على قريش بسنين كسِنيِّ يوسف (3)، ولو كانت الحال في الغض عليهم واحدة، ما خُوطِب بهذا الخطاب، والله سبحانه أعلم.
التنبيه الثاني: أن حديث محاجة آدم وموسى مما تأوله أهل الحديث والأشعرية، ولم يقولوا بظاهره، فالأمة مجمعةٌ على إنه لا يحِلُّ للعاصي أن يحتج بالقدر، ومُجمعةٌ أيضاً على أن الحجة لله تعالى على عباده، والسيد لم يفهم
(1) في (ف): " حالة ".
(2)
في (ف): " استعجلوه ".
(3)
صحيح وقد تقدم تخريجه في هذا الجزء.
هذا، بل أورد الحديث في معرض التُّهمة لهم أنهم كذَّبوه لموافقة مذهبهم، وليس كذلك، فليطالع تأويلهم في شروح الحديث، وفي كلام إمام أهل السنة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحنبلي ما لفظه: ومن ظن أن القدر حجة لأهل الذنوب، فهو من جنس المشركين الذين قال الله عنهم:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 118]، قال الله عنهم (1):{كذلك كَذَّبَ الذين من قبلهم} ، إلى قوله:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} [الأنعام: 149] ولو كان القدر حجةً، لم يُعذِّب الله المكذبين للرسل. إلى آخر كلامه.
ذكره في كتاب " الفرق بين الأحوال "(2).
التنبيه الثالث: ذكر السيد في الحديث رواية منكرة، وهي قوله: وخلقه في قبل أن يخلُقَنى بألفي عامٍ، والصحاح بريئة (3) من هذه الرواية، وليس في الصحاح حديث في خلق الأفعال البتة.
وقد أوهم السيد أنها في الصحاح، فليرجِعْ عن ذلك، ولعلَّه -أيده الله تعالي- التقطها من بعض الكتب المشتملة على الغثِّ والسمين، والصِّحاحُ مصُونةٌ عن مثل هذه الرواية.
فإن كان السيدُ ما فرَّق بين هذه الرواية وبين ألفاظ الصحاح، ونَظَمَها في سِلْكٍ واحد، فهذا عجيبٌ من مثله، وكم بين الألفاظ من التفاوت، وهل مثلُ هذا - يخفى على من له أدنى تمييزٍ؟ وكيف يتصوَّرُ في عقل عاقلٍ أن الله خلق المعصية في آدم قبل أن يخلقه بألفي عام، وكيف تُوجَدُ المعصية فيه (4) وهو في العدم؟، وأين هذا من رواية أهل الصحاح التي قدمت الكلام فيها، فبين الروايتين بونٌ، ومثل هذه الرواية الأخيرة مما يُقطع على أن الرسول عليه السلام
(1) في (الفرقان): " رداً عليهم ".
(2)
ص 104 - 105.
(3)
في (ف): " نزيهة ".
(4)
" فيه " ساقطة من (ش).
ما قالها، لأنها صريح المُحال المعلوم إحالته بضرورة العقل، بحيثُ لا يجوزُ أن يذهب إلى ذلك أحدٌ من غُلاة الجبرية، والذي كذبها إما قليل العقل، وإما قليل الحياء، فليتيقَّن السيد الفرق بينها وبين دواوين الإسلام.
نعم، في " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص:" أن الله قدَّر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة "(1). هذا لفظ الحديث، وليس فيه أن الله خلق المعاصي في العُصاة قبل أن يخلق العصاة، ومن لم يميِّزْ بين العبارتين؛ فليس من العقلاء البتة.
الحديث الخامس: حديثُ موسى عليه السلام مع مَلَكِ الموت عليه السلام (2) وقد جعله السيدُ من الأحاديث التي لا يمكن تأويلها، لِمَا ورد فيه من لطمِ موسى لملك الموت عليهما السلام حين جاء يقبض روحه الشريفة.
وعن هذا الحديث جوابان: معارَضَةٌ، وتحقيقٌ.
أما المعارضة: فإنه قد ورد في القرآن العظيم أن موسى أخذ برأسِ أخيه يجرُّه إليه، وذلك من غير ذنبٍ عَلِمَهُ من أخيه عليه السلام، ولا دفع مضرَّةٍ خافها على نفسه، وأخوه هارون نبي كريم بنصِّ القرآن وإجماع أهل (3) الإسلام، ولا شك أن حرمة الأنبياء مثل حرمة الملائكة، لأن من استخفَّ بنبيٍّ كفر.
وقد بطش موسى عليه السلام بأخيه بطشاً شديداً، ولهذا قال هارونُ عليه السلام يتلطَّف لموسى ويستعطفه: ابن أُمِّ لا تأخُذْ بلحيتي، ولا برأسي، ولا تُشْمِتْ بيَ الأعداء.
فإن قلت: إنما فعل ذلك، لأنه ظن أنه هارون رضيَ بما فعل قومه من عبادة العجل.
(1) تقدم تخريجه 6/ 403.
(2)
انظر ص 298 من هذا الجزء.
(3)
" أهل " ساقطة من (ش).
قلت: هذا العذر أقبح من المعتذر عنه، فالجرُّ برأسه عليه السلام أهون من الظن فيه أنه رضي بالعجل شريكاً في الرُّبوبية لرب العز: جل جلاله.
الجواب الثاني: وهو التحقيق، وهو يشتمل على وجهين أيضاً:
الوجه الأول -وهو المعتمد-: أنه يجوز أن يكون الملك أتاه في صورة رجل من البشر، ولم يعرف أنه مَلَكٌ، مثل ما أتى جبريل عليه السلام إلى مريم، فتمثَّلَ لها بشراً سوياً، ولهذا قالت:{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]، ولو علِمَتْ أنه جبريل عليه السلام، لما استعاذت بالله منه، وقد صحَّ تصور الملائكة على صُورة (1) البشر، وتواتر ذلك في الكتاب والسنة، فلما أتى ملَكُ الموت إلى موسى على هذه الصفة، وأراد أن يقتله، دفع موسى عن نفسه، وهذا الجوابُ وقع في خاطري، ثم وقفت عليه في الأول من " البداية والنهاية "(2) لابن كثير منسوباً إلى الحافظ ابن حبَّان، وذكر أنه ورد عليه كما جاء جبريل عليه السلام في صورة الأعرابي، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط ولم يعرِفُاهم، قال: وكونه فقأ عينه موافقٌ لشريعتنا في جواز فَقْء عينِ مَنْ نظر إليك في دارك بغير إذنٍ، ثم قال ابن كثيرٍ: إنه لم يتحقق أنه مَلَكٌ؛ لأنه كان يرجو أموراً كثيرةً كان يحبُّ وقوعها في حياته من خروجهم من التِّيه، ودخولهم الأرض المقدسة.
وقال في ذكر نبوَّة يُوشع (3): وقد ذكروا في السفر الثالث من التوراة أن الله تعالى أمر موسى وهارون أن يعدَّا بني إسرائيل على أسباطهم، وأن يجعلا على كل سبطٍ أميراً، ليتأهَّبُوا للقتال، قتال الجبارين عند الخروج من التِّيه، وكان هذا عدَ اقتراب انقضاء أربعين سنة، ولهذا قال بعضهم: إنما فقأ موسى عين الملك، لأنه لم يعرِفْهُ، ولأنه قد كان أُمرَ بأمرٍ كان يُرجى وقوعه في زمانه.
(1) في (ف): " صور ".
(2)
1/ 296، وانظر " صحيح ابن حبان "(6223).
(3)
1/ 298.
قلت: وذكر خلافاً في موته عليه السلام في التِّيه أو بعده، وصحح أنه كان في التِّيه، وعزاه إلى (1) جمهور المسلمين وإلى أهل الكتاب.
فإن قلت: أليس في الحديث أن ملك الموت لما رجع إلى الله، قال: يا رب أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، وهذا يدل على أنه قد أخبره أنه ملكُ الموت، وأنه قد جاء لقبضه، وأن موسى عليه السلام قد عرفه.
والجواب: أن هذا لا يدل على معرفة موسى لملك الموت، ويدل على ذلك أنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى " لا يقبض نبياً حتَّى يخيره "، وفي حديث:" حتى يريه مقعده من الجنة ويخيره "(2)، فلما جاء ملك الموت لقبض روحه عليه السلام من غير تخييرٍ، وعنده لا يُقبض حتى يُخَيَّرَ، لم يعلم أنه ملك الموت، وشك في ذلك، وظن أن هذا رجلٌ يدعي عليه أنه ملك الموت بغير دليلٍ، فقد ذكر العلماء: أن الأنبياء لا يجوز لهم تصديق الملك في دعواه أنه مَلَكٌ إلَاّ بدليل من مُعجزٍ يظهره، أو علمٍ ضروري يضطره إلى ذلك.
والذي يدلُّ على هذا أنه جاء في الحديث بعينه أنه ملك الموت لما رجع إليه عليه السلام، وخيَّره بين الحياة والموت، اختار الموت واستسلم، وهذا وجهٌ حَسَنٌ في الجواب لا سبيل إلى القطع ببطلانه. ومع احتماله يرتفع الإشكال في القطع بتكذيب الرواة والمجازفة بجرح الثقات.
الوجة الثاني: أن نقول: سلَّمنا أنه جاءه على صفةٍ يعرف معها أنه ملكُ الموت، ولكن المانع أن يكون موسى فعل ذلك وقد تغيَّر عقله، فإن تلك الحال مَظِنَّةٌ لتغيُّر العقول، فقد خرَّ موسى صعقاً من اندكاك الطور، فكيف بهولِ
(1)" إلى " ساقطة من (ش).
(2)
أخرجه من حديث عائشة أحمد 6/ 89، والبخاري (4435) و (4437) و (4463) و (4586) و (6348)، ومسلم (2444)، والترمذي (3490)، ومالك 1/ 238 - 239.
المطلع؟ فإنه عند العلماء بجلال الله أعظم من اندكاك جبلٍ، وهذا الاحتمال أيضاً يمكن فيه حالان:
أحدهما: أن يكون الملك أتاه وقد تغير عقله من غمرات الألم، وسكرات النزاع (1).
وثانيهما: أن يكون إنما تغيَّر عقله حين فاجأه على غفلةٍ وصرَّح له بالنُّقلة من دار العمل والخروج إلى دار الجزاء.
وأما ما ورد من أنه فقأ عين الملك عليه السلام، فقال ابن قتيبة (2): أذهب موسى العين التي هي تخييلٌ وتمثيلٌ، وليست على حقيقة خِلْقَتِه، وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان (3) لم يُنقص (4) منه شيء.
وذكر ابن كثير في الأول من " البداية والنهاية "(5) في ذكر وفاة موسى عن أحمد بن حنبل أنه قال (6): [حدثنا الحسن]، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس يعني سليم بن جُبير، عن أبي هريرة. قال أحمد: لم يرفعه، وساق الحديث أن الله ردَّ عين المَلَكِ ثم رواه أحمد من طريق أخرى، فقال (7): حدثنا يونس، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا رفعه يونس بنحو ذلك، ورواه مع يونس أمية بن خالدٍ، فلم يرفعه، ولا (8) ذكر أن الله رد عينه، وإسنادهما إلى أبي هريرة واحدٌ.
قال أحمد: رواه عنهما معاً عن حماد بالسند، وقد وافق يونس على رفعه أبو كريب، عن مصعب بن المقدام. رواه ابن جرير (9).
(1) في (ش): " النزاع ".
(2)
في " تأويل مختلف الحديث " ص 276 - 277.
(3)
" كان " ساقطة من (ف).
(4)
في (ف): " ينتقص ".
(5)
1/ 295 و297.
(6)
في " المسند " 2/ 351.
(7)
2/ 533.
(8)
" لا " ساقطة من (ف).
(9)
في " تاريخ الأمم والملوك " 1/ 434.