المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٨

[ابن الوزير]

الفصل: ‌ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر

إلا أوبقتُ نفسي، فقال الزهري: وكيف ذاك (1)؟ فقال: أتاني آتٍ (2) فقال: إنه ما أصاب أحدٌ من دماء آل محمدٍ شيئاً إلَاّ أوبَقَ نفسه من رحمة الله. قال: فخرج الزهري وهو يقول: أما والله لقد أوبقت نفسك، وأنت الآن أوبقُ.

فهذا الكلام مما يدلُّ على جلالة قدر الرجل، فإنه لا يصدع بقول الحق عند هشام إلَاّ من هو من أهل الديانة والجلالة، وأين مرتبة الأجناد من هذا الكلام، ولا يعرف بقدر هذه الكلمة وأمثالها إلَاّ من يعرِفُ بخبر هشامٍ ويكبره.

ولأمرٍ ما عظَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم النُّطق بالحق عند أئمة الجَوْرِ، فقال عليه السلام: "‌

‌ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر

" (3).

قال العلماء في شرح الحديث: وإنما كانت أفضل الجهاد، لأن المجاهد يتمكن من الدفع عن نفسه، والذي عند أهل الجور لا يتمكن من ذلك.

الوجه الثاني: ما ذكره يعقوب بن شيبة (4) الثقة المشهور، قال: حدثني محمد بن إدريس الشافعي، قال: حدثنا عمي، قال: دخل سليمان بن يسارٍ على هشامٍ، فقال: من الذي تولَّى كِبْرَهُ؟ قال: عبد الله بن أُبي بن سلول.

قال: كذبت، هو علي، من هو يا ابن شهاب؟ قال: عبد الله بن أبي بن سلول، قال: كذبت هو علي، قال: أنا أكذب، لا أبالك؟! فوالله لو ناداني منادٍ من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة، وعبد الله، وعلقمة بن وقاص، عن عائشة أن الذي تولّى كِبْرَه عبد الله بن أبي بن سلول.

قال: فلم يزل القوم يُغرون به حتى قال له هشام: ارحل، فوالله ما ينبغي

(1) في (ش): " ذلك ".

(2)

قوله: " فقال: أتاني آت " ساقط من (ف).

(3)

تقدم تخريجه 2/ 68.

(4)

في الأصول: " ابن أبي شيبة "، وهو خطأ.

ص: 242

لنا أن نرحل (1) عن مثلك، قال: ولِمَ، أنا اغتصبتُك على نفسي؟ أنت اغتصبتني على نفسي، فخلِّ عني، قال: لا، ولكنك استدنت ألفي ألفٍ. قال: قد علمت وأبوك [قبلك] أني ما استدنتها عليك، ولا على أبيك. فقال هشام: لا تَهِيجُوا الشيخ. فلما خرج، أمر له هشام بألفي ألفٍ (2)، فأُخبر بذلك، فقال: الحمد لله الذي هذا من عنده.

روى ذلك إمام علم الرجال، أبو الحجاج المزي في " تهذيبه "، والذهبي في " تذهيبه " وغيره (3) وإسنادها صحيحٌ متصلٌ، وكلُّ رجال الإسناد أشهر من أن يعرف بحالهم إلَاّ عمَّ الشافعي، وهو محمد بن العباس بن شافع، وثَّقه أبو عبد الله الحاكم ابن البيع المحدث الشيعي، ذكره في " مناقب الشافعي " رحمه الله، وهي دالةٌ على ترفُّع الزهري من مراتب الأجناد إلى ربوة بعيدة، والدلالة فيها من وجوه:

أولها: ما قدمناه من الصدع بمُرِّ الحق بين يدي هشام بعد العلم بكراهته، لذلك فإن هشاماً قد كان (4) كذَّبَ سليمان بن يسارٍ، والزهري يسمع، وادَّعى أن الذي تولَّى كِبْرَهُ علي عليه السلام، ثم التفت إليه مُنتصراً به على سليمان بن يسارٍ، طالباً منه أن يساعده، على ما ذكر (5)، فصدع بالحق، ولم يُبالِ به، ولو كان ليِّن العريكة في المُداهنة شيئاً قليلاً، لكان يسَعُه أن يقول: الله أعلم، ولا يصرِّحُ بما يقتضي تجهيل هشامٍ وتكذيبه في حضرته، فأين هذا المقام من مقام الأجناد؟ هذا والله مما ينتظم في سلك مقامات الصالحين مع الملوك.

وثانيها: أن هشاماً لما كذَّب سليمان بن يسارٍ، سكت هيبةً لهشامٍ، ولم

(1) كذا الأصول، وفي " السير " وغيره:" نحمل ".

(2)

في " السير "، و" تاريخ دمشق ":" ألف ألف ".

(3)

لم أجد هذا الخبر في " تهذيب الكمال " وهو في " تاريخ دمشق " ص 162، و" السير " 5/ 339 - 340، و" تاريخ الإسلام " ص 245 - 246.

(4)

" كان " ساقطة من (ش).

(5)

في (ش): " ذكره ".

ص: 243

يَحِرْ جواباً ولا أحلى ولا أمر في الرَّدِّ على هشام مع جلالته، وفضله وعلمه. وأما الزهري، فإن هشاماً لما كذبه، لم يتبلَّد في الجواب، ولا داهن في الحق، ولا سكت عن الصواب، بل قال لهشامٍ: أنا أكذب لا أبالك، والله لو ناداني منادٍ من السماء أن الله قد أحلَّ الكذب ما كذبت، ثم سرد من حديثه بذلك من ثقات التابعين حتى أبطل دعوى هشامٍ وأسكته.

فإن قلت: لولا أن الزهري يُبْغِضُ أهل البيت لما (1) أقام مع من يبغضهم.

قلت: هذا لا يلزم، فإن ابن أبي الحديد كان وزيراً لابن العلقمي الرافضي، وابن أبي الحديد معتزلي معظمٌ للشَّيخين، قائلٌ بتقديمهما في الإمامة على أمير المؤمنين، وابن العلقمي مستحل لسبِّهما، معتقد لرفضهما، ولكن حاجة الناس إلى المال والجاه وقضاء الدين وصلة الأرحام تجرُّهم إلى مثل هذا، وقد توفد عقيل بن أبي طالب على معاوية في خلافة علي عليه السلام لأجل الحاجة إلى المال، وأقام جعفرٌ الطيار بين عُبَّاد الصُّلبان من النصارى سبع سنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بين المهاجرين والأنصار في عِزٍّ ومَنَعَةٍ وعسكر (2) بغير ذمة ولا جوارٍ، والإنسان يجد من نفسه أنه لا يفعل هذا، ولكن ليس كل ما وجد الإنسان من نفسه أنه لا يفعله قَدَحَ به على الناس، وإن كان مباحاً لهم، واستدلَّ به على ما لا يدلُّ عليه من حيث تواطؤهم، فتأمل ذلك (3).

وثالثها: أن هشاماً لما عاب عليه أنه استدان ألفي ألفٍ، قال له: علمت وأبوك أني ما استدنتها عليك ولا على أبيك، وفي هذا الكلام خشونةٌ ظاهرةٌ ترفعه عن مقام الأجناد، وخَساسة الخُدَّام، فإن ذكر الآباء مُهيِّجٌ للغضب، مثيرٌ للحمية من الكِبْرِ والعُتُوِّ (4)، وإنما يذكر المخاصم أبا خصمه ليُغصِبَه بذلك، وإلا فلا ملجىء إلى ذكر الآباء، وهذا معلومٌ في العادة.

(1) في (د) و (ف): " ما ".

(2)

" وعسكر " ساقطة من (د) و (ف).

(3)

" ذلك " ساقطة من (ف).

(4)

في (ش): " والعنف ".

ص: 244

ورابعها: أن القوم لما أغرَوْا به، حتى قال له هشام: ارتحل (1) عنَّا، ألقمه الحجر في الرَّدِّ عليه، ولم يخضع له خُضوع عبيد الدينار والدرهم، بل قال له: ولم؟ أنا اغتصبتُك على نفسي، أنت اغتصبتني على نفسي، فخلِّ عني، يعني (2) أنا ما أكرهتك على صحبتي، بل أنت أكرهتني على صحبتك، فاتركني أرتحل عنك، فأنت الطالب لإقامتي، فهذا إفصاحٌ في الزهد في صحبة هشامٍ، وأنها عندهم مكروهةٌ غير جديرةٍ بأن يحرص عليها، ولا خليقة بأن يُلتفت إليها، وهذا كلام من له شهامةٌ كبيرةٌ وأَنَفَةٌ عظيمةٌ، ولأمرٍ ما لانت له عريكة هشامٍ بعد هذا الكلام، فقال هشام (3): لا تهيجوا الشيخ، أي: لا تُغْضِبُوه، فلو كان في مرتبة الأجناد، لم يتصلَّب في الحق حتى تلين شدة هشام قبل أن يلين الزهري، ولعل المعترض على الزهري بمداهنة الملوك لو قام في مقامه هذا، لارتعدت فرائصه، ورجف فؤاده، ولم يأتِ بعُشر ما أتى به الزهري من الذَّبِّ عن أمير المؤمنين عليه السلام في مقام هذا الجبَّار المتمرِّد، وما أحسن قول أبي الطيب:

وإذا ما خلا الجَبَانُ بأرضٍ

طَلَبَ الطَّعْنَ وحده والنِّزالا (4)

الوجه الثالث: من الأصل ما رواه الذهبي (5) عن الزهري، قال: قال لي هشام: اكتب لبنيَّ بعض أحاديثك، فقلت (6): لو سألتني عن حديثين ما تابعتُ بينهما، ولكن إن كنت تريد، فادع كاتباً، فإذا اجتمع الناس وسألوني، كتبت لهم.

(1) في (ش): " ارحل ".

(2)

" يعني " ساقطة من (ش).

(3)

" فقال هشام " ساقطة من (ش).

(4)

البيت من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة الحمداني، ومطلعها:

ذي المعالي فَلْيَعْلُوَنْ من تَعالَى

هكذا هكذا وإلا فلا لا

انظر " الديوان " 3/ 134 بشرح العكبري.

(5)

في " السير " 5/ 333.

(6)

في (ف): " فقال "، وهو خطأ.

ص: 245

وروى الذهبي (1) أنه خرج (2) من عند عبد الملك، فجلس، ثم قال: يا أيها الناس، إنا قد كنا منعناكم شيئاً قد بذلناه لهؤلاء، فتعالوا حتى أحدثكم.

قال الراوي: فسمعهم (3) يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الزهري: يا أهل الشام، ما لي أرى أحاديثكم ليست لها أزِمَّةٌ ولا خُطمٌ؟ قال الوليد: فتمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذٍ، قال: وكان يمنعهم أن يكتبوا عنه، فلما ألزمه هشامٌ أن يكتب لبنيه، أذِنَ للناس أن يكتُبوا معهم.

ففي هذا ما يدل على جلالته أنه امتنع أن يُملي على أولاد هشام إلَاّ بحضرة الناس، ولما ألزمه هشامٌ ذلك، كان يُملي عليهم مع الناس، وهو متضجِّرٌ من ذلك، مُظهرٌ لكراهته من غير إثمٍ فيه (4) ولا تحريمٍ، ولكن لما فيه من اختصاص أهل الدنيا والترفه (5) ببذل العلم، ألا ترى كيف خرج على الناس، فقال: يا أيها الناس، إنا كنا قد منعناكم شيئاً قد بذلناه لهؤلاء هكذا (6) بهذه العبارة المؤذنة بالتضجُّر منهم، وعدم التعظيم لهم، فإن قوله: قد بذلناه لهؤلاء، في معنى أنهم غير أحقَّاء بأن يُخَصُّوا بالعلم، ولا شك أن الملوك يأنفون من أقل من هذا الكلام، وإن نِداء الناس بهذا على أبوابهم، والإعلان به لا يَصْدُرُ ممن هو (7) في منزلة الجند في المهانة والمداهنة.

الوجه الرابع: روى في الجزء السابع من كتاب " العقد "(8) في حديثٍ فيه طول (9) إن الزهري جاء وعبد الملك في إيوانٍ وعن يمينه ويساره سِماطان من

(1)" السير " 5/ 234.

(2)

" خرج " ساقطة من (ف).

(3)

في الأصول: " فسمعتهم " والمثبت من " السير ".

(4)

في (ش): " منه ".

(5)

في (ف): " والسرف ".

(6)

" هكذا " ساقطة من (ش).

(7)

" هو" ساقطة من (ش).

(8)

" العقد الفريد " 5/ 126 - 127، لابن عبد ربه الأندلسي المتوفى سنة (328 هـ).

(9)

في (ش): " حديث طويل ".

ص: 246

الناس، لا يمشي أحدٌ بينهما، فقال عبد الملك للذي عن يمينه: هل بلغكم أي شيءٍ أصبح في بيت المقدس ليلة قتل الحسين؟ قال: فسأل كل إنسانٍ صاحبه، حتى بلغت المسألة الباب، فلم يرد أحدٌ فيها شيئاً. قال الزهري: قلت: عندي في هذا علمٌ، قال: فرجعت المسألة رجلاً عن رجلٍ حتى انتهت إلى عبد الملك، فدُعيت، فمشيت بين السِّماطين، فلما انتهيت إليه، سلَّمتُ عليه، فسألني من أنا، فانتسبت له، فعرفني بنسبي، وكان طلَاّبةً للحديث، فسألني، فقلت: نعم، حدثني فلان -لم يسمِّه لنا- لم يُرفَعْ تلك الليلة حجرٌ ببيت المقدس إلَاّ وُجِدَ تحت دمٌ عبيطٌ. قال: صدقت، حدثني الذي حدثك، وإنَّا وإيَّاك في هذا الحديث لقرينان.

وروى الحافظ الطبراني عن الزهري نحوه، ولفظه: قال لي عبد الملك بن مروان: أي واحدٍ أنت إن أعلمتني أي علامة كانت يوم قتل الحسين؟ قلت: لم تُرفع حصاة ببيت المقدس إلَاّ وُجِدَ تحتها دمٌ عبيط. قال: إني وأنت في هذا الحديث قرينان.

قال الهيثمي: رجاله ثقات، وخرج الطبراني عن الزهري نحوه من غير ذكر قصة عبد الملك، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (1).

قلت: ورواية " العقد " أبسط، والحديث واحدٌ، ففي هذا أنه لم يُدَاهِنْه، ويتصنَّع إليه بإنكار فضائل أهل البيت عليهم السلام، وفيه أيضاً أنه إنما وصل إليه لأجل الجهاد والمرابطة كما فعل ذلك كثيرٌ من الفضلاء مع أئمة الجور.

الوجه الخامس: أنه لم يُنقل عنه أنه أثنى عليهم، ولا تصنَّع إليهم بشيءٍ من سبِّ علي عليه السلام ولا بُغضِه، ولا سبِّ أحدٍ من أهل البيت عليهم السلام، ومن المعلوم أن خُدَّام الملوك وأجنادهم أتبع لهم من الظِّلِّ، وأطوع لهم من النَّعل، يَسُبُّون من سبُّوا، ويُبْغِضُون من أبْغَضُوا، بل نُقِلَ عنه عكس

(1) تقدم تخريجها ص 55 من هذا الجزء.

ص: 247

هذا، فإنه ذبَّ على عليٍّ عليه السلام في القصة المتقدِّمة، وقد نقل الحاكم رحمه الله أنه كان ممن خرج مع زيد بن علي عليه السلام.

الوجه السادس: أنه لم يُنقل قطُّ أن الزهري طلب الولاية ولا الإمارة، ولا شكا أحدٌ من أهل الدِّين أن الزُّهري آذاه ولا نافسه في أمرٍ، ولا نُقِلَ أنه ظلم أحداً من الرَّعيَّة، ولا أعان في مظلِمةٍ مع عِظَمِ المنزلة عند الملوك، وطول الصحبة لهم، وهذا دليلٌ على الديانة، فقلَّ من يمتنع من هذه الأمور إلَاّ للعجز وعدم التمكن، فمن تمكن، ولم يُنقل عنه شيءٌ من ذلك مع طول المدة، فهو دليل ديانته ونزاهته.

فبهذه الوجوه السِّتَّة وأمثالها يتضح ما ذكرته من ارتفاعه من مرتبة الأجناد، والله أعلم.

فإن قلت: هذه الأشياء لا تُوجِبُ العلم بنزاهته، وأنت ألزمتنا العلم (1) بأنه أعان على قتل زيد بن علي عليه السلام.

قلت: العلم بالنزاهة لا تجب إلَاّ لو ادَّعينا عصمته، ورفعناه من مرتبة العدول إلى مراتب الأنبياء، وإنما ألزمت السيد اليقين هناك حيث ادعى اليقين، فأخبرته أن الدليل على دعوى اليقين لا يكون (2) إلَاّ قاطعاً (3)، ولوِ ادَّعى الظن كما ادعيت، لم أُلزمه ذلك.

واعلم أنه (4) لا سبيل إلى زوال وساوس النُّفوس بسوء الظنون التي لا مُوجب لها إلَاّ العادة والإلف، ومن اشتهر بالثقة، وأطبق الجِلَّة من التابعين ومن بعدهم على الاحتجاج بحديثه لم يُؤخذ بروايةٍ شاذةٍ أو محتملة، ولو كان مثل هذا يؤثِّر في الثقات المشاهير، لم يكد أحدٌ منهم يسلم إلَاّ من لا يكتفي به في العدالة، فإن الحاجة إلى العدول ماسةٌ في الشهادات والحديث والفتاوى

(1)" العلم " ساقطة من (ش).

(2)

" لا يكون " ساقطة من (ف).

(3)

في (ش): " قطعاً ".

(4)

" أنه " ساقطة من (ش).

ص: 248

والقضاء والأذان والإمامة (1) الكبرى والصُّغرى وغير ذلك فمن أين كنا في كل مكانٍ وزمان من لم يُتكلَّم فيه بشيءٍ، ولو كان الرجل كالقِدْحِ المُقَوَّمِ، لقال الناس فيه لو ولولا.

هذا ابن عباس حبر الأمة، وبحر التأويل، وإمام التفسير، قد اشتهر في كتب التاريخ أنه أخذ مال البصرة من غير إذن علي عليه السلام، وهذا محرَّمٌ، لا أعلم أحداً يجيزه.

وروي أن علياً عليه السلام كتب إليه في ذلك كتاباً شديداً، قال فيه (2): أمَّا بعد فإني كنت أشركتك (3) في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن في أهلي أوثق منك في نفسي، لمواساتي ومؤازرتي، وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كَلِبَ (4)، والعدوِّ قد حَرِبَ، وأمانة الناس قد خزِيت (5)، وهذه الأُمة قد فُتِنَتْ (6)، قلبت لابن عمِّك ظهر المِجَنِّ، ففارقته

(1) تحرفت في (ف) إلى: " الإقامة ".

(2)

النص في " نهج البلاغة " ص 581 - 583 تحت عنوان: ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله. قال ابن أبي الحديد في شرحه 16/ 169، وقد اختلف الناس في المكتوب إليه هذا الكتاب، فقال الأكثرون: إنه عبد الله بن العباس رحمه الله، ورَوَوْا في ذلك روايات، واستدلوا عليه بألفاظ من ألفاظ الكتاب ثم أورد ألفاظاً من هذا الكتاب تؤيد مقالتهم، ثم قال: وقال آخرون وهم الأقلون: هذا لم يكن، ولا فارق عبد الله بن عباس علياً عليه السلام ولا باينه ولا خالفه، ولم يزل أميراً على البصرة إلى أن قتل عليه السلام

وهذا عندي هو الأمثل والأصوب.

(3)

في (د) و (ف): شركتك، وهو خطأ، ومعنى أشركتك في أمانتي: جعلتك شريكاً فيما قمت فيه من الأمر، وائتمنني الله عليه من سياسة الأمة.

(4)

أي: استد، وقوله: والعدو قد حَرِبَ أي: استأسد.

(5)

أي: ذلت وهانت.

(6)

في " النهج ": فَنَكَتْ وشفرت قال الشيخ محمد عبده: مِنْ فَنَكَتِ الجارية: إذا صارت ماجنة، ومجون الأمة أخذها بغير الحزم في أمرها، كأنها هازلة. قلت: وفي =

ص: 249

مع المفارقين، وخذلته مع الخاذلين، وخُنْتَه مع الخائنين، فلا ابن عمك آسَيْتَ، ولا الأمانة أديت، وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنك لم تكن على بينةٍ من ربك، وكأنك إنما كنتَ تَكِيدُ هذه الأمة عن دنياهم، وتنوي غِرَّتهم عن فيْئِهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة، أسرَعْتَ الكرَّة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قَدَرْتَ عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزَلِّ (1) دامية المِعْزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رَحْبَ الصدر بجملة، غير متأثِّمٍ من أخذه، كأنك -لا أبا لغيرك- حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك وأُمِّك، فسبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أما تخاف نقاش الحساب؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب، كيف تُسيغ طعاماً وشراباً وأنت تعلم أنك تأكل حراماً، وتشرب حراماً، وتبتاع الإماء، وتَنْكِحُ النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال، وأحرز بهم هذه البلاد.

فاتق الله واردُد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل، ثم أمكنني الله منك، لأُعْذِرَنَّ إلى الله فيك، أو لأضربنَّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار. والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادةٌ، ولا ظفِرا مني بإرادةٍ حتى آخذ الحق منهما، وأُزيح الباطل عن مظلمتهما، وأقسم بالله رب العالمين ما يسرني أن ما أخذت من أموالهم حلال لي أتركه ميراثاً لمن بعدي، فَضَحِّ رويداً (2) وكأنك قد بلغت المدى [ودُفِنت

= " القاموس ": والفنك: العجب والتعدي واللجاج والغلبة والكذب. وشفرت الأمة: خلت من الخير، والمِجَنُّ: الترس، والمعنى: كنت معه فصرت عليه، وهو مثل يضرب لمن يخالف ما عهد فيه.

(1)

هو الخفيف الوَرِكين، وذلك أشد لعدوه، وأسرع لوثبه، وإن اتفق أن تكون شاة من المِعزى كثيرة ودامية أيضاً كان الذئب على اختطافها أقدر.

(2)

كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة والأناة والسكون، وأصلها أن العرب كانوا يسيرون في =

ص: 250

تحت الثرى] وعُرِضَتْ عليك أعمالُك بالمحلِّ الذي يُنادي الظالمُ فيه (1) بالحسرة، ويتمنى المضيِّع الرَّجعة، ولات حين مناصٍ، والسلام.

فهذا الكتاب فيه من التصريح كما ترى بأن ابن عباسٍ رضي الله عنه كان يعلم أن ذلك المال الذي أخذه حرامٌ، وهذا جرحٌ محقَّقٌ لو كان كل ما رُوِيَ صُدِّقَ، وكل ما قيل قُبِلَ، ولكن الذي ظهر من أمانة ابن عباسٍ وعدالته وتقواه يقتضي أن هذا غير صحيحٍ، فالمعلوم المشهور لا يعارض بالمظنون الشاذ، كيف وليس هذا في مرتبة الظن؟ وقد أطبق الصحابة والتابعون على جلالة ابن عباسٍ وأمانته، والأخذ عنه، فلم يُلتفت إلى ما شذَّ في هذه الرواية (2).

وكذلك سائر الثقات المشاهير الذين دارت رواية العلم عليهم من أول الإسلام إلى آخره لا يُسمعُ فيهم من الأقوال الشاذة والروايات الساقطة ما لا يصح، ولا يساوي سماعه.

وإذا قد نجز الغرض من الكلام على هذه الفوائد التي جرَّ إليها الكلام في الزهري، فلنختمها بتنبيهاتٍ:

التنبيه الأول: أن حديث الزهري معروفٌ متميِّزٌ، لم يلتبس بأحاديث سائر (3) الرواة، وجملة حديثه ألفا حديثٍ ومئتا حديثٍ، وفيه بضعةٌ غير مسند لم يُجَرِّحْ أهل الصِّحاح منه شيئاً، وهذا المسند قد صنَّفوه وثبَّتُوه، وتكلموا على رُواته، وكلُّه معروفٌ من غير طريق الزهري إلَاّ النادر اليسير، وإنما روَوْهُ من طريقه لما اختصَّ به من جَوْدَة الحفظ، وقوة الإتقان، وإنما عرفوا حفظه بموافقته للثقاتِ

= ظعنهم، فإذا مروا ببقعة من الأرض فيها كلأ وعشب، قال قائلهم: ألَاّ ضحوا رويداً، أي: رفقوا بالإبل حتى تتضحى، أي: تنال من هذا المرعى.

(1)

" فيه " ساقطة من (ش).

(2)

" الرواية " ساقطة من (ف).

(3)

" سائر " ساقطة من (ف).

ص: 251

من الرواة، ألا ترى كيف قال له علي بن الحسين عليه السلام: إنما العلم ما عرِفَ وتواطأت عليه (1) الألسن.

وهذا هو مذهب المحدِّثين. قال مالك: من حدَّث بالغرائب كذب، ومن أصول المحدثين الجرح بكثرة الرواية للغرائب عن الثقات المشاهير، وقد كانوا يجدون من يروون عنه حديث الزهري من أهل الزهادة، لكنهم رأوه أحفظ من أولئك الزهار وأعرف، وكم من زاهدٍ تقيٍّ وهو ضعيفٌ عند المحدثين، لا تحِلُّ الرواية عنه لما جرَّبُوا عليه من الوهم الكبير والتخليط، فمن أنِسَ بعلم الحديث، عرف أن الذي ينفرد به الزهري ويُغْرِبُه لا يكون إلَاّ قدراً يسيراً، ولعل الذي يتعلَّقُ بالتحليل والتحريم لا يكون إلَاّ دون الرُّبُع من ذلك، فلو قدَّرنا بطلان الاحتجاج ما كان ذلك (1) يضرُّ، فكم تكون أحاديثه في جنب أُلوفٍ من الحديث، فجملة ما تفرَّد قدر تسعين حرفاً بأسانيد جيدةٍ، كذا قاله مسلم بن الحجاج فيما نقله عنه ابن الصلاح، ذكره ابن العراقي في " التبصرة "(2) في الكلام على الشاذ، وهذا مقدار ثلث العشر، يزيد يسيراً، فإن ثلث عشر حديثه ثمانون حديثاً، ولا شك أن من روى ثلاثين حديثاً فواق الثقات في تسعةٍ وعشرين، وانفرد بحديثٍ واحدٍ، حافظٌ ثقةٌ، بل قال الفقهاء والأصوليون إذا كان صوابه أكثر، ولو بحديثٍ، وجب قبوله.

فهذه الأحاديث التي شذ بها الزهري لا يكون في الصحيح منها إلَاّ اليسير، ولا يكون في التحليل والتحريم من ذلك إلَاّ اليسير، مع أن كلام مسلمٍ لا يدلُّ على نفي الشواهد، وإنما يدلُّ على نفي المتابعات، وبينهما فرقٌ موضعه علوم الحديث ومع أن جماعةً من الكبار قد حكموا بالغرابة والشذوذ على بعض الأحاديث، ثم انكشف لمن أمعن الطلب وجود متابعات كثيرة لتلك الأحاديث فاعرف ذلك.

(1) ساقطة من (ش).

(2)

1/ 195، وقول الإمام مسلم هذا ذكره في " صحيحه " ص 1268.

ص: 252

وقد نص العلامة ابن حجر في " مختصره في علوم الحديث "(1) أن الغريب إن لم يأت من طريقٍ أخرى، فهو الفرد المطلق، ويعِزُّ وجوده، وإن جاء من وجهٍ آخر، فهو الفرد النسبيُّ. انتهى.

وهو نص على ما ذكرته من عزة الفرد (2) المطلق، ولا أستحضر الآن أنه ألزم الوهم من أحاديث الأحكام إلَاّ في أربعة أحاديث.

الأول: قوله: إن ذا اليدين هو ذو الشِّمالين الذي قُتِلَ ببدرٍ قبل تحريم الكلام في الصلاة، قال ابن عبد البر (3): وهم فيه الزهري، وكل أحدٍ يؤخذ من قوله ويُتْرَكُ (4).

الثاني: تاريخ النهي عن المتعة بخيبر (5)، تأوَّله سفيان بن عيينة، وعلى ذلك شواهد جمَّةٌ، ولذلك خالف فيه أبو داود ولم يخرِّجه، ويمكن أن يكون الوهم فيه من غيره، فإنه (6) عنعنه، وقد كان يدلِّس، وقد بسطت الكلام في هذا، في الكلام على أحاديث علي عليه السلام.

على أنه لو بطل حديثه كله -مع فرض كثرته- لم يكن علينا في ذلك مضرَّةٌ البتة، بل يحصل السهولة، ويسقط التكليف بالعمل بتلك الأحاديث والتكليف بالبحث عنها.

الثالث: حديث حد الأمة المحصنة (7)، فإنه تفرد به على ما ذكره ابن عبد

(1) المسمى " شرح نخبة الفكر في مصطلح الأثر "، والنص فيه في الصفحة 258 - 259.

(2)

في (د) و (ف): " التفريد ".

(3)

في " التمهيد " 1/ 366.

(4)

حديث ذي اليدين مخرج في " صحيح ابن حبان "(2250) - (2252) و (2675) و (2684) - (2688).

(5)

انظر تخريج الحديث والتعليق عليه في " صحيح ابن حبان "(4143).

(6)

في (ش): " لأنه ".

(7)

هو مخرج في " صحيح ابن حبان "(4444).

ص: 253

البرِّ في " التمهيد "(1)، وقد حمل بعضهم الوهم على مالك، فتوبع مالك (2) وتخلص من ذلك، واستقرَّ الوهم فيه على الزهري ودل على وهمه فيه اضطرابُه.

وقد تتبَّعتُ كثيراً مما تفرد به، فوجدته مما يقتضي الاحتياط في الدين، كحديث تحريم المتعة عن علي عليه السلام، وحديث حدِّ الأمة المحصنة، وتأويله حديث ذي اليدين، مما تقدم كتأويل الأصحاب، وغير ذلك مما تفرَّد به، والذي حملهم على روايته مع شذوذه فيه وإعلاله هو محبة الاحتياط.

وللزهري مذهبٌ رديءٌ في الرواية ينبغي الاحتراز منه، والتَّيقُّظ له، وهو إدراج رأيه في آخر الحديث، ذكره ابن عبد البر في موضعين من " التمهيد "، وروايته بفعل ذلك في الاحتياط والتشديد، وهو أقبح ما قُدِحَ فيه به، والله يحب الإنصاف.

الرابع: قوله بعد روايته لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة- صدقة الإبل والغنم والوَرِقِ ما لفظه: وليس في الذهب صدقةٌ حتى يبلغ صرفها مئتي درهم، ففيها خمسة دراهم، ثم في كل شيءٍ يبلغ صرفه أربعين درهماً درهمٌ حتى يبلغ أربعين ديناراً، ففيها دينارٌ، إلى آخر كلامه في السواني من الإبل والبقر.

قال ابن عبد البر: ليس ذلك في شيءٍ من الأحاديث المرفوعة إلَاّ في حديثه هذا، وهو من رأيه أدرجه في آخر الحديث، وكثيراً ما كان يفعل ذلك.

التنبيه الثاني: أنه ليس بيني وبين هذا الرجل قرابةٌ ولا صحابةٌ، ولا له علي إحسانٌ، ولا أنا أدعي صحة جميع ما في كتب الحديث، فبطلت أسباب العصبية، وأعوذ بالله من العصبية، وإن وُجِدَتْ أسبابها، كيف ولم توجد؟ وإنما أردت بكلامي في هذا الموضع والتطويل بل فيه بيان عُذري في قبول الزهري، وأنه (3) غلب على ظني صدقه وعدالته في بعض الرواية، وذلك حيث يصرِّحُ

(1) 9/ 95.

(2)

قوله: " فتوبع مالك "، ساقط من (ش).

(3)

في (ش): " وإن ".

ص: 254

بالسماع، ولا تحتمل روايته التدليس، ولا الإدراج، ولا تَعَلُّ، ولا يعارضها أرجح منها، فلو لم أعمل بحديثه، لارتكبت ما يغلب على (1) ظني تحريمه، وهذا خلاف الاحتياط في الدِّين، وخلاف العمل بالعقل الرَّصين، وفي العمل بما يظنُّ تحريمه مضرَّةٌ مظنونة، ودفع المضرة المظنونة عن النفس واجبٌ.

التنبيه الثالث: أني لا أريد بكلامي إلزام غيري أن يقبل الزُّهري، بل يثبت مذهبي وحُجتي، ولا لوم على من لا يقبله، والسِّر في هذا التنبيه أن الاختلاف في جرح بعض الرواة وتعديلهم من جملة الاختلاف في المسائل الظنية التي لا يأثَمُ فيها أحدٌ من المخالفين، وقد اختلف المتأخِّرون من أهل البيت عليهم السلام في رواية كافر التأويل وفاسقه، واختلفوا في تكفير الجبرية في أمثال ذلك، ولم يقطع ذلك الولاية، ولا يقدح في العدالة، وقد قال السيد أبو طالب: إنه لا يُعَوَّل على تخاريج ابن بلالٍ وخالفه في ذلك غير واحدٍ من الأصحاب، والأمر في هذه الأمور قريبٌ، ومبناها الظنِّ والتحري.

التنبيه الرابع: إن كان السيد يعتقد أن ذم الزهري وتحريم العمل بحديثه من جملة عقائد أهل البيت عليهم السلام التي أجمعوا (2) عليها، ولم يُرَخِّصُوا فيها، فأين نصوصهم في ذلك؟ وما باله اختصَّ بمعرفة إجماعهم على ذلك؟ وإن لم يكن كذلك فما باله يدخل هذا في ضمن (3) الذبِّ عن مذاهبهم لزعمه لذلك؟ فليبيِّنِ السيد لنا من سبقه من أهل البيت إلى القطع بأن الزهري أعان على قتل زيد بن علي عليه السلام يقيناً، لا شك فيه.

التنبيه الخامس: أن كلام السيد يُوهمُ أن أهل البيت لا يحتجُّون بحديث الزهري، وليس كذلك، ومن شك في الصادق منَّا فليطالع " علوم آل محمد " تأليف محمد بن منصور، وهو المعروف بأمالي أحمد بن عيسى بن زيد، فإنه

(1) في (ف): " في ".

(2)

في (ش): " اجتمعوا ".

(3)

" ضمن " ساقطة من (ف).

ص: 255

فيه أكثر من الاحتجاج بحديث الزهري في أحاديث الأحكام، وكذلك السيد أبو طالب في أماليه مع نسبتهم للتشدد في ذلك إليه، فإنه روى عنه غير حديثٍ، ولم يرو عنه إلَاّ حديث علي عليه السلام في تحريم المتعة في يوم خيبر، فإنه رواه من طريقه كسائر الحُفَّاظ، وهو أصح حديثٍ في هذا الباب، إلَاّ عند أبي داود لما لا (1) يتسع له هذا الموضع.

الوهم الخامس والثلاثون: وهِمَ السيد أيده الله تعالى أن قصة يحيى بن عبد الله عليه السلام مع أبي البختري وشهادة الجمِّ الغفير عليه بالزور يقتضي القدح في الصحابة، وهذا غلوٌّ وإسرافٌ في التهويل والإرجاف، فإنه لا ملازمة بين رواة الحديث وبين جماعة شهدوا (2) زوراً في واقعةٍ معينةٍ، وهذا لا يستحق الجواب، ولكن ننتقل بذكر وجهين:

الأول: أنه يجب على السيد أن يبيِّنَ من حضر تلك الشهادة الباطلة من رُواة الصِّحاح، ونطق بشهادة الزور برواية عدولٍ معدلين وإسنادٍ صحيح كما ألزمنا، ولعلَّ هذا لا يتيسرُ للسيد من رواية كذابين، كيف إلَاّ من رواية عدولٍ.

الوجه الثاني: أن المنصور بالله عليه السلام قد روى عن المطرَّفيَّة أنهم يستحلُّون الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لنصرة مذهبهم وما يعتقدونه حقاً، وحكى عليه السلام أنهم صرَّحوا له بذلك في المناظرة، وكذلك قد ثبت بالتواتر أن الحسينية كانت تشهد أن الحسين بن القاسم أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مع كونه زُوراً، فإنه كفرٌ، وهاتان فرقتان من فرق الزيدية أقاموا دهراً طويلاً يُصنِّفُون ويدرُسُون، فكما لم يلزم الزيدية مذهبهم، لمجاورة البلاد، والاشتراك في اسم الزيدية، فكذلك لا يلزم الثِّقات المحدثين استحلال شهادة الزور (3)، لأن ألفاً وثلاث مئةٍ من الفُسَّاق المصرِّحين استحلُّوا ذلك، ولو أن عدلاً واحداً كان في مصرٍ عظيمٍ يشتمل على مئة ألفٍ من الفُسَّاق ما سرى الفسوق منهم إليه، ولا

(1) في (ف): " لم ".

(2)

في (ش): " شهود ".

(3)

عبارة " استحلال شهادة الزور " ساقطة من (ش).

ص: 256

علِقَتِ العدالة بهم منه، ولولا معرفة المحدثين بكثرة الخَبَثِ، ما اشتغلوا بتمييز الخبيث من الطَّيِّب، ولا اقتصر البخاري على قدر أربعة آلاف حديثٍ من ستَ مئة ألف حديث، كما ثبت ذلك عنه، وقد روي:" الناس كإبل مئة - لا تجد فيها راحلةً "(1).

وعلمت النصوص في ذم الكثرة ومدح القلة، فلم يلزم من فساد الأكثرين فساد الأقلِّين من الصِّالحين، والمعترض ظن أنه اقتدى بالإمام المنصور في إيراد هذه الحكاية، وليس كذلك، فإنه قد صرَّح بصحة كتب الحديث المشهورة (2)، وصرَّح بقبول المتأولين من الصدر الأول من الصحابة ومن بعدهم، فنقل وعقلٌ، أمَّا النقل، فعن جماعةٍ مجهولين أنهم شهدوا زوراً في واقعةٍ معينةٍ، وأما العقل، فلم يُسَوِّ بسبب ذلك بين الخالص والزَّيف، ويخلط الخبيث بالطيب.

الوجه الثالث: أن المعترض (3) إما أن يشترط في عدالة رواة الحديث أن لا يكون في أهل مذهبهم وسكان بلادهم (4) من يشهد الزور أو لا. إن اشترط ذلك خالف ضرورة العقل وضروري الإجماع من النقل، وإن لم يشترطه (5)، فما هذا الترجيف بذكر شهود الزور إيهاماً أنهم رواة الحديث المأثور.

ولو أن المعترض أورد قصة القاضي أبي يوسف أو محمد بن الحسن حين أراد منه (6) هارون الرشيد أن يُفتيه بانتقاضِ أمان يحيى بن عبد الله عليه السلام فامتنع، وقال: هذا أمانٌ مؤكَّدٌ، فشجَّه هارون بالدواة، وقيل: إنه مات مِنْ تلك الشَّجَّة، لكان هذا ألْيَقَ بمقتضى الحال، لأن القاضي أبا يوسف ومحمد بن الحسن أحد أئمة الحديث ورجال القوم، لكن هذا مما يدلُّ على أمانة علماء

(1) حديث صحيح، قد تقدم تخريجه 1/ 245.

(2)

في (د) و (ف): " هذه المشهورة ".

(3)

" أن المعترض " ساقطة من (ف).

(4)

" وسكان بلادهم " ساقطة من (ف).

(5)

في (ف): " يشترط ".

(6)

" منه " ساقطة من (ش).

ص: 257

الحديث، فتركه وعَدَلَ إلى حكايةٍ عن (1) شهود زورٍ مجهولين للقدح بها (2) في ثقات المسلمين المعروفين فالله المستعان.

على أن في القصة ما يقتضي أن أولئك الذين شهدوا هذه الشهادة الزور الباطلة كانوا مكرهين على ذلك، خائفين على أوراحهم وأموالهم إن لم يفعلوا.

وفي بعض الروايات أن يحيى بن عبد الله عليه السلام ذكر ذلك في عرض الاحتجاج على أنه لا يجوز العمل بهذه الشهادة، كما ذلك مبسوطٌ في مواضعه من كتب الأخبار، وكثرتهم تقوي هذا، لأن العادات (3) تُحيل اجتماع الخلق الكثير، والجمِّ الغفير (4) على الباطل المعلوم، مع بقاء الاختيار، ولولا ذلك، بطل حصول العلم بالتواتر، ومن هنا لم تشترط العدالة في المخبرين بالمتواترات (5)، لأن سبب العلم بخبرهم استحالة تواطئهم، لكثرتهم لا عدالتهم، فاعرف ذلك، والله سبحانه أعلم.

الوهم السادس والثلاثون: وهم أن أبا البختري وهب بن وهب الكذاب من ثقاة رُواة الحديث، وليس كذلك، فإنه عند القوم مفترٍ كذَّابٌ، مِمَّن نصَّ على ذلك الحافظ ابن كثيرٍ البصروي في " إرشاد الفقيه إلى أدلة التنبيه "، وقال الذهبي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " (6) ما لفظه (7): وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي، القاضي أبو البختري القرشي المدني. روى عن هشام بن عروة، وجعفرٍ الصادق، وعنه: المسيِّب بن واضحٍ، والربيع بن ثعلبٍ، وجماعة.

سكن بغداد، وولي قضاء العسكر للمهدي، ثم قضاء المدينة، وكان متَّهماً في الحديث.

(1)" عن " ساقطة من (ف).

(2)

في (ش): " به ".

(3)

في (ش): " العادة ".

(4)

" الغفير " ساقطة من (ف).

(5)

في (ف): " بالتواتر ".

(6)

4/ 353.

(7)

" ما لفظه " ساقطة من (ش).

ص: 258

قال ابن معين: كان يكذب عدو الله.

وقال عثمان بن أبي شيبة: إنه يُبعث يوم القيامة دجَّالاً.

وقال أحمد بن حنبل: كان يضع الحديث فيما نرى.

وقال البخاري: سكتوا عنه. وهي عبارةٌ للبخاري في الجرح.

توفي سنة مئتين.

فأما أبو البختري الذي روى عنه الجماعة، فذلك يخالف هذا الكذَّاب نسباً واسماً ووصفاً وزماناً، وهو سعيد بن فيروز الطَّائي مولاهم (1).

روى عن علي بن أبي طالبٍ عليه السلام، وعبد الله بن مسعود مرسلاً، وعن أبي برزة، وعَبيدَة.

روى عنه عمرو بن مرَّة، ومسلمٌ البَطين.

وقال فيه حبيب بن أبي ثابتٍ: كان أعلمنا، وأفقهنا.

وهو تابعيٌّ قديمٌ، بينه وبين ذلك الكذاب مئة سنةٍ وسبع وعشرون سنة، فإنه توفي سنة ثلاث وسبعين.

وكذلك البَختري بن أبي البَختري، عن أبي بردة، وجماعة. وعنه: شعبة، ووكيع. صدوق، حديثه في " صحيح مسلم " و" سنن النسائي ".

وقد نص المعترض على أن حديث وهب بن وهبٍ في " الترمذي "، وليس كذلك، فليس له في شيءٍ من كتب الحديث هذه السِّتَّة رواية البتة، فليعلم ذلك ويترك ما لا يعرفه، فإن لكل علم رجالاً، ولكل مقامٍ مقالاً، ومن نام عن علمٍ ثم تعرض لما لا يدري به من الاعتراض على أهله، كان كالأعمى يعترِضُ على ذوي الأبصار، وهو لا يعرف الظلمات من النُّور، ولا الليل من النهار.

(1) انظر ترجمته في " تهذيب الكمال " 11/ 32 - 35.

ص: 259

وابن اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ

لَمْ يَسْتَطِعْ صولَةَ البُزلِ القناعيسِ (1)

الوهم السابع والثلاثون: استدل المعترض على بُطلان حديث المجبِّرة والمُرجئة بالقياس على الخَطابية، وجعل العلة الجامعة بينهم في ذلك هو الكذب، فتوهم أن العلماء إنما قدحوا في الخطابية لمجرد الكذب، وهذه غفلة عظيمة، فإن العلماء إنما اتفقوا على القدح فيهم مع اختلافهم في غيرهم بعلة استحلالهم لتعمُّدِ الكذب، بل اعتقادهم لوجُوبه حيث يكون نُصرة لما يظنُّونه حقاً، فكيف يُقاس من يعتقد تحريم الكذب الذي (2) اعتقدوا حُسْنَه ووجوبه، ويغلب على الظن أنه يفعله.

ولو كان مجرد الكذب مع التأويل يستلزمُ مساواة الخطابية، لزم المعترض أن يكون المعتزلة عنده بمنزلة الخطابية، لأنهم عنده كذلك في باب الإمامة، لمقالتهم بخلافة الصحابة، وهم عنده في ذلك من الكاذبين الآثمين، وليسوا بتأويلهم فيه مِنَ المعذورين.

ثمَّ إنه (3) شفع ذلك بما لا يغني شيئاً في هذا المقام من ذكره أحاديثَ ساقطةٍ لا أصل لها في لعن المُرجئةِ والقدرية، ولو صحت الرواية عنهم، فإنه إذا لم يقدحِ الفسق في ذلك أو الكفر الثابت بالأدلة القاطعة، فكيف ما هو فرعٌ من جواز السَّبِّ لهم، ووردت الأحاديث بذمِّهم، فقد وردت الأحاديث الصِّحاح، وتواترت بذمِّ الخوارج الذين كفّروا علي بن أبي طالبٍ عليه السلام، ومع ذلك قالت أئمة الزيدية بقبولهم في الحديث، ممن نصَّ على ذلك: الإمام المنصور في كتابه " صفوة الاختيار " والمؤيد بالله، والإمام يحيى بن حمزة، وصاحب

(1) البيت لجرير من قصيدة يهجو بها عدي بن الرقاع. انظر ديوانه ص 323، والأغاني 6/ 307 - 309، و" شرح شواهد المغني " 1/ 316 - 317.

(2)

في (ش): " على الذي ".

(3)

" إنه " ساقطة من (ف).

ص: 260

" شفاء الأوام "، والقاضي زيدٌ، وعبد الله بن زيد. ورووا (1) إجماع الأُمَّة والعترة على ذلك من عشر طرقٍ وغيرهم، وقد تقدم ذكر طرق ذلك مستوفاةً في مسألة المتأولين.

قال الوجه الرابع: مما يدلُّ على أن في أخبار كتبهم التي يسمونها الصحاح ما هو مردودٌ أن في أخبار هذه الكتب مما يثبت التَّجسيم والجبر والإرجاء ونسبة ما لا يجوز إلى الأنبياء، ومثل ذلك يضرب به وجه راويه (2)، وأقل أحواله أن يكذب فيه إلى آخر كلامه في هذ الوجه.

أقول: هذا مقامٌ وَعِرٌ قد تعرَّض السيد له، وأبدى صفحته، وأراد أن يكذب الرواة في كل ما لم يفهم تأويله، وهذا بحرٌ عميقٌ، لا يصلُحُ ركوبه إلَاّ في سفين البراهين القاطعة، وليلٌ بهيمٌ لا يَحْسُنُ مسراه إلَاّ بعد طلوع أهلة الأدلة الساطعة، وسوف أُجيب عليه في ما ذكره، وأذكر من حُججه ما سطَّره، وقبل الخوض في هذه الغَمْرة أُقدِّمُ مقدِّماتٍ:

المقدمة الأولى: الاعتراف بأن كل ما خالف الأدلة القاطعة المعلومة من العقل أو السمع، وكان من أحاديث الآحاد المظنونة (3)، فإنه غير معمولٍ به.

فإن ثبت (4) دليلٌ على أنه لا يمكن تأويله، وجب ردُّه على راويه، على ما يأتي بيانه في مراتب الرَّدِّ، وإن لم يقم دليلٌ على امتناع ناويله، ترك غير معمولٍ به ولا مقطوعٍ بكذبه.

وإنما ذكرتُ هذه المقدِّمة، وصدَّرتُها قبل الكلام على هذه الجملة، لئلَاّ يتوهم أحدٌ أنِّي أقول بغيرها، فقد كثُر الغلط عليَّ في مواضع، ثم إن السيد أيده الله قد روى في " تفسيره " الأوسط بعض هذه الأحاديث التي أنكرها، ونص على صحتها، وعلى تأويلها، وهي من أشدِّ ما ورد في المتشابه، وذلك أنه قال في

(1) في (ف): " وروى ".

(2)

في (ف): " رواته ".

(3)

في (ش): " من الأحاديث المظنونة ".

(4)

في (ش): " دل ".

ص: 261