الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: وليس موضع الخلاف بيننا وبينهم في تقبيح هذه القبائح، وإنما موضع الخلاف في أن فاعل القبيح -الذي يسمُّونه صفة نقصٍ، كالكذب الذي ليس بضارٍّ- هل يستحق عليه العقوبة في الآخرة، والذم في الدنيا بمجرد العقل قبل ورود الشرع بذلك، أم لا؟ فهم (1) يقولون: لا نعرف استحقاق ذلك على هذا القدر قبل الشرع بمحض العقل المجرد عن النظر إلى الشرائع والعوائد، بل لا بد من تعريف الشرع بذلك، والمعتزلة تقول: بل يستقلُّ العقل بمعرفة ذلك قبل ورود الشرع به (2)، ولكن معرفة العقل لذلك عندهم معرفة (3) جملية، ولا يُهتدى إلى تفصيل (4) مقدار العقوبة إلَاّ بالشرع، وهذا عندهم هو الذي اختص الشرع ببيانه (5).
وقال الزركشي في " شرح جمع الجوامع " للسبكي:
الحُسْنُ والقبح يُطلق بثلاثة اعتبارات:
أحدها: ما يلائم الطبع وينافره، كإنقاذ الغريق، واتهام البريء.
والثاني: صفة الكمال والنقص، كقولنا: العلم حَسَنٌ، والجهل قبيحٌ، وهو بهذين الاعتبارين عقليٌّ بلا خلاف، إذ العقل يستقل بإدراك الحسن والقبح فيهما (6)، فلا حاجة في إدراكهما إلى شرعٍ.
والثالث: ما يوجب المدح والذم الشرعي عاجلاً، والثوات والعِقاب آجلاً، فهو محلُّ النِّزاع.
(1) كتب فوقها في (ش): " أي الأشعرية ".
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
قوله: " عندهم معرفة " ساقطة من (ف).
(4)
" تفصيل " ساقطة من (ف).
(5)
انظر المحصول 1/ 1/159 - 166.
(6)
في (ش): " فيها ".
إلى قوله في التنبيهات:
التنبيه الثاني: ما اقتصر عليه المصنِّف من حكاية قولين هو المشهور، وتوسَّط قومٌ، فقالوا: قبحها ثابتٌ بالعقل.
قلت: يعني والذم عليها، وإلَاّ لكان هو الأول.
قال: والعقاب متوقِّفٌ (1) على الشرع، وهو الذي ذكره سعد بن علي (2) الزنجاني من أصحابنا، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية، وحكوه عن أبي حنيفة نصّاً (3)، وهو المنصور لقوته من حيث الفطرة، وآيات القرآن المجيد وسلامته من الوهن والتناقض. انتهى (4).
وهو نقلٌ مفيدٌ، واختيارٌ سديدٌ، وهو كثير النقل في الغرائب من " المسودة "(5) لابن تيمية (6).
قوله: وآيات القرآن المجيد.
(1) في (ف): " يتوقف ".
(2)
تحرف في الأصول إلى: " أسعد " وقد تقدمت ترجمته 5/ 164.
(3)
في (ف): " أيضاً ".
(4)
تقدمت الإشارة إلى هذا البحث 5/ 164 - 165.
(5)
هو كتاب في أصول الفقه تتابع على تصنيفه ثلاثة من العلماء من آل تيمية أولهم: أبو البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن الخضر المتوفى سنة 652، وثانيهم ولده أبو المحاسن شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام المتوفى سنة 682، وثالثهم شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام المتوفى سنة 728، وقد كتب كل واحد من هؤلاء العلماء ما كتبه وتركه مُسَوَّدة، ثم جمع مُسَوَّدَاتِهم، ورتبها، وبيضها الفقيه الحنبلي أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني الحراني، المتوفى سنة 745، ووضع علامة تميز كلام كل واحدٍ منهم عن كلام الآخرين.
(6)
من قوله: " وهو نقل مفيد " إلى هنا، سقط من (ف).
يعني: الدالة على أن القبيح عقلي مثل قصة الخضر وموسى، ورجوعهما معاً إلى تأويل المستقبحات العقلية بوجوه عقليةٍ تُحَسِّنُها العقول (1)، ولو كان حسن الأشياء شرعياً محضاً (2)، لامتنع أن يكون ذلك متشابهاً محتاجاً إلى تأويلٍ عند أعرف العارفين، وكذلك قوله تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 و36]. وأمثال ذلك.
ولا شك أن هذا الموضع الذي وقع فيه الخلاف دقيقٌ لا يرتقي إلى مرتبة الضروريات الأوَّليَّات، ولا يُعلم من صاحبه تعمُّد العناد كما ادعاه الخصمُ عليهم، ومن ها هنا أجمع أهل البيت عليهم السلام: على أنهم من أهل التأويل كما تقدم ذكر نصوصهم على ذلك.
واعلم أنك قد أغفلت أو تغافلت عن أمرين مهمَّين:
الأول: أنك بالغت في ذكر مساوىء الخصوم، حتَّى قلت عنهم ما لم يكن لأجل عمومٍ وقد بيَّنوه، أو إلزامٍ لم يلتزموه، أو قول بعض شواذِّهم مما قد أنكروه وقبحوه، وتركت (3) بعض محاسنهم المعلومة بالضرورة عنهم من المحافظة على أركان الإسلام، وتعظيم شعائره، والذَّبِّ عن شرائعه، وظهور أمارات الإخلاص والإيمان من دوام العمل والخشوع والبكاء عند أسبابه، وترك المحرمات، وذكر تحريمها، والأدلة عليه في كتبهم، وذم مرتكبيها وتخويفهم (4) وتأليفهم في الترغيب والترهيب، وأمثال ذلك مما يضطر من عَلِمَه منهم بمشاهدةٍ أو تواترٍ إلى اعتقاد تأويلهم، وترجيح ذلك على اعتقاد القطع بتعمُّدهم للكفر، وعلمهم أنهم كفرةٌ فجرةٌ، ساعون بجهدهم في غضب الله، مصرُّون على ذلك في حال الصِّحة والمرض، وعند شدة الآلام، واقتراب
(1)" العقول " ساقطة من (ف).
(2)
تحرفت في (ش) إلى: " مخفياً ".
(3)
في (ش): " ونزلت ".
(4)
" تخويفهم " ساقطة من (ش).
الأجل، وظنهم للقاء الله عز وجل، وهذا الذي غفلت عنه هو الذي حمل علماء الإسلام من أهل البيت عليهم السلام وسائر العلماء الأعلام على إثبات حكم التأويل لهم ولأمثالهم من الفرق (1) الإسلامية، والله تعالى نصب الموازين يوم القيامة للحسنات والسيئات، مع علمه الغيب وشهادة ملائكته الكرام وشهادة الأعضاء من الأنام، وأنت تركت سنة الله، وسنة رسله الكرام، وسنة العدل المحمود بين (2) الأنام.
الأمر الثاني: أن من سلك ما سلكت من رمي أهل المذاهب بمجرد ما يُشنَّع عليهم به من غير تأمُّلٍ (3) لمقاصدهم، أمكنه نسبة إنكار الضرورة إلى كل طائفة غالباً، فقد خالف كبراء شيوخ المعتزلة في أمورٍ تظهر لمن لم يبحث عن مقاصدهم فيها، أنهم أنكروا الضرورة، مثل قول البصريين من المعتزلة، المسمين بالمخترعة: إن الماء لا يُرْوي، والنار لا تَحْرِقُ، والطعام لا يُشبعُ.
وقولهم: إن النار والماء مثلان لا ضدان ولا مختلفان، وبهم يُعرِّضُ أبو السعود من شعراء المطرِّفيَّة حيث قال في أرجوزته المشهورة:
ما نحن قلنا النار مثل الماء
…
والقارُ مثل الفِضَّة البيضاء
ومن ذلك: قول المعتزلة: إن الله ليس برحمن ولا رحيمٍ على الحقيقة، وإنهما في ظاهرهما، وحقيقتهما من أسماء الذم القبيحة، ولهذا (4) تعارضهم القرامطة في تقبيح المعتزلة عليهم قولهم: إنه تعالى ليس بعالمٍ ولا قادرٍ حقيقةً.
وكذا (5) تقول البغدادية منهم في " سميعٍ بصيرٍ "، وفي " مريد ": إنها في
(1) في (ش): الفرقة.
(2)
في (ف): " من ".
(3)
في (ف): " تأول ".
(4)
في (ش): " وهذا "، وفي (ف):" وبهذا ".
(5)
في (ف): وكذلك، وفي (ش):" وكذا قول ".
ظاهرها قبيحةٌ، وإنما تأويلها أن الله عالم غير ساهٍ ولا غافلٍ، وأمثال هذا في مذاهبهم، والقصد والإشارة (1)، فكما أمكن الخصم بجعلهم -مع ذلك- من أهل التأويل، فكذلك مثل ذلك في الأشعرية، وإلا لكان كما قيل:
وعينُ الرضا عن كل عيبٍ كليلة
…
ولكنَّ عين السُّخط تُبدي المساويا (2)
والله سبحانه أعلم.
الوهم الثالث والثلاثون:
ذكر السيد عن الفقهاء أنهم يجيزون إمامة الجائر، وحكى عن ابن بطَّالٍ أنه قال ما لفظه: الفقهاء مُجمعون أن المُتغلِّب طاعته لازمةٌ ما أقام الجُمُعات، والأعياد، والجهاد، وأنصف المظلوم غالباً، وأن طاعته خيرٌ من الخروج عليه، لما في ذلك من تسكين الدَّهماء، وحقن الدماء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أطيعوا السلطان ولو كان عبداً حَبَشِيّاً "(3) ولا يمتنع من الصلاة خلفه، وكذلك المذموم ببدعةٍ أو فِسْقٍ. انتهى.
إلى قول السيد: فإذا كان هذا مذهب القوم، عرفت أنهم كانوا مع أئمة الجور الذين قتلوا الأئمة الأطهار، وأنهم شيعة الححاج بن يوسف، بل شيعة يزيد قاتل الحسين عليه السلام، وشيعة هشامٍ قاتل زيد بن عليٍّ عليه السلام،
(1) في (ش): في الإشارة.
(2)
البيت لعبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب، وقد تقدم تخريجه 7/ 21.
(3)
لم يرد بهذا اللفظ في كتب الحديث، فقد رواه البخاري (693) و (696) و (7142)، وأحمد 3/ 114 و171، والبيهقي 3/ 88 من حديث أنس بلفظ:" اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ".
وعن أبي ذر نحوه - رواه مسلم (1837)، والبيهقي 3/ 88.
وعن أم الحصين الأحمسية، رواه أحمد 6/ 402، ومسلم (1838)، والطبراني في " الكبير " 25/ (377) - (382).
وشيعة أبي الدوانيق (1) قاتل محمد بن عبد الله (2) وأخيه إبراهيم عليهما السلام، وشيعة هارون الرشيد قاتل يحيى بن عبد الله (3)، لأنهم يعتقدون بغي من خرج على المُتَغَلِّب الظالم، كما صرح به ابن بطَّال، ويصوّبون (4) قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، لأنهم بغاةٌ على قولهم.
أقول: اشتمل كلام السيد هنا على أوهامٍ كثيرةٍ، وهي تبين بالكلام على فصولٍ:
الفصل الأول: في بيان أن الفقهاء لا يقولون بأن الخارج على إمام الجَوْرِ باغٍ، ولا آثمٌ، وهذا واضحٌ من أقوالهم، ومعلومٌ عند أهل المعرفة بمذاهبهم، ويدلُّ عليه وجوهٌ:
الوجه الأول: نصُّهُم على ذلك وهو بَيِّنٌ لا يُدفع، مكشوفٌ لا يتقنَّع، قال النووي في كتاب " الروضة " (5) ما لفظه: الباغي في اصطلاح العلماء: هو
(1) أبو الدوانيق: هو لقب الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور المتوفى سنة 158. قال الذهبي في " السير " 7/ 83: كان يلقب أبا الدوانيق، لتدنيقه ومحاسبته الصناع لما أنشأ بغداد، وقال: كان فحل بني العباس هيبةً وشجاعة ورأياً وحزماً ودهاءً وجبروتاً، وكان جمَّاعاً للمال، حريصاً، تاركاً للهو واللعب، كامل العقل، بعيد الغور، حسن المشاركة في الفقه والأدب والعلم.
(2)
هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الملقب بالنفس الزكية.
خرج هو وأخوه إبراهيم بن عبد الله على أبي جعفر المنصور. قتلا سنة (145) هـ. انظر " السير " 6/ 210 - 224.
(3)
هو يحيى بن عبد الله بن الحسن، أخو محمد وإبراهيم ابني عبد الله السالف ذكرهما، دعا إلى نفسه بالخلافة، ومات محبوساً في خلافة هارون الرشيد سنة 180 هـ. انظر " تاريخ بغداد " 14/ 110 - 112.
(4)
في (ش): " وتصويب ".
(5)
10/ 50 واسمه الكامل " روضة الطالبين وعمدة المفتين " اختصره الإمام النووي من كتاب أبي القاسم عبد الكريم الرافعي " فتح العزيز في شرح الوجيز " اختصاراً مركزاً بحيث =
المخالف لإمام العدل، الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجبٍ عليه أو غيره، انتهى كلام النووي.
وقال الخليل بن إسحاق الجندي المالكي (1) شارح " مختصر ابن الحاجب الفرعي " المسمى بـ " التوضيح ": الباغية: فرقةٌ خالفت الإمام بمنع حقٍّ، أو لقلعه، فللعدل قتالهم وإن تأوَّلوا. ذكره في مختصر له، صنعه لبيان ما به الفتوى في مذهب مالكٍ رحمه الله تعالى.
وذكر النووي في " الروضة "(2): أن القهر أحدُ طرق الإمامة، لكنه إن كان عادلاً لم يأثم، وإن كان جائراً أثِمَ، وعصى بالتَّغَلُّب، أو كما قال، وهو نصُّ في موضع الخلاف وقد حكى هذا النووي فيما تقدم الآن عن العلماء على الإطلاق، ولم يُبين أحداً وروى عنهم الإمام المنصور بالله عليه السلام نفيض ما ذكره السيد من متابعة أهل البيت عليهم السلام، وبالغ في براءتهم من ذلك، وتجهيل (3) من نسب إليهم ما ذكره السيد، ذكره في الدعوة العامة إلى جيلان وديلمان من المجموع المنصوري، وكذلك في جوابه على وَرْدسان، وكذلك نقل عنهم التصريح بنقيض كلام السيد الإمام العلامة أبو الحسن (4) علي بن
= استوعب جميع فقه الكتاب حتى الوجوه الغريبة إلَاّ أنه رحمه الله جَرَّدَهُ من معظم الأدلة التي وردت فيه، واستدرك عليه في مواطن غير قليلة وزاد عليه كثيراً من الفروع التي جمعها من أمهات المصادر في الفقه الشافعي، وقد طبع في اثني عشر مجلداً في دمشق وكان لي شرفُ تحقيقه على ثلاثة أصول خطية مع زميلي الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، حفظه الله ورعاه.
(1)
هو الخليل بن إسحاق بن موسى المالكي الجندي، سُمِّي بذلك. لأنه كان يلبس زي الجند، ولم يُغيره، وكتابه هذا يقع في ست مجلدات ولم يطبع بعد. توفي سنة 776 هـ، وقيل: غير ذلك.
وابن الحاجب تقدمت ترجمته 1/ 436 و2/ 15.
(2)
10/ 46.
(3)
في (ش) و (ف): " ويجهل ".
(4)
تحرف في (ش) إلى: " الحسين ".
محمد بن عليٍّ الطبري، الملقب عماد الدين، المعروف بالكيا الهَرَّاسي تلميذُ الجويني، ذكره ابن خَلِّكان في ترجمته من تاريخه المشهور (1)، وسيأتي لفظه في ذلك (2).
فتطابق نقلهم عن أئمتهم ونقل أئمتنا عن أئمتهم على تكذيب هذه الدعوى عليهم، مع أنها دعوى مجرَّدةٌ عن البيِّنة، مصادمة لنصوصهم البينة، فكانت من قبيل الافتراء، ولَحِقَتْ بالفحش المذموم في هجو الشعراء، وخرجت من أساليب الحكماء وشهدت على أن راويها ليس من العلماء.
الوجه الثاني: أن الكلام في الخروج على أئمة الجور عندهم من المسائل الظنية، فالذي يخرج على الجائر -مستحلاً لذلك- غير آثمٍ، لأنه عَمِلَ باجتهاده في مسألة ظنيةٍ فروعيَّةٍ، فلم يستحقُّ التأثيم، ولا يُوصف فعله ممن استحله بالتحريم.
ذكر ما يقتضي ذلك غير واحدٍ منهم، ممن ذكر ما يقتضي ذلك الرازي في كتابه " الأربعين في أصول الدين "، وشيخي النفيس العلوي (3)، بل ذكر الإمام
(1)" وفيات الأعيان " 3/ 288. وقال عنه: كان من أهل طبرستان، وخرج إلى نيسابور، وتفقه على إمام الحرمين الجويني، وكان حسن الوجه جهوري الصوت، فصيح العبارة، حلو الكلام، ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح. وقال الذهبي: كان أحد الفصحاء ومن ذوى الثروة والحشمة، واتهم بأنه باطني، يرى رأي الإسماعيلية، فنمت له فتنة، وهو بريء من ذلك. و" الكيا " في اللغة العجمية: الكبير القدر، المقدم بين الناس. انظر:" السير " 19/ 350 - 352.
(2)
ص 30.
(3)
هو سليمان بن إبراهيم بن عمر بن علي بن عمر نفيس الدين أبو الربيع ابن البرهان العلوي، نسبة لعلي بن راشد بن بولان، برع في الحديث، وصار شيخ المحدثين ببلاد اليمن وحافظهم، له كتاب " الأربعين " في الحديث، و" إرشاد السالكين " في التصوف توفي سنة 825 هـ. انظر ترجمته في " إنباء الغمر " 7/ 474، و" الضوء اللامع " 3/ 259 - 260، و" شذرات الذهب " 7/ 170، و" فهرس الفهارس " 2/ 980.
المقلد بالله ما يقتضي ذلك عند أهل البيت عليهم السلام، فإنه ذكر في آخر الزيادات في " مسائل الاجتهاد " اختلافهم في ذلك، كما يأتي بيانه في الفصل الثالث في الموضع الأول منه في (1) هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
وذكر صاحب " الكافي "(2) نحو ذلك عن أحمد بن حنبل في القسم الثالث من أقسام البغاة مع تجويز تسميته باغياً، وفيه شذوذٌ، وفي صحته نظر، والله أعلم. وذكر أنه (3) من لم يكن له تأويلٌ منهم، فحكمه حكم قُطَّاع الطريق.
قلت: وهذا مثل يزيد وأمثاله كما سيأتي نصُّهم على ذلك.
الوجه الثالث: أن ذلك جائزٌ في مذهبهم وعند كثيرٍ من علمائهم، فإن للشافعية في ذلك وجهين معروفين، ذكرهما في " الروضة " النووي وغيرها من كتبهم، وقد اختلفوا في الأصح منهما (4)، فمنهم من صحح منهما (4) لمذهبهم انعزال الإمام بالفسق.
قال الإمام العلامة صلاح الدين العلائيُّ (5) في " المجموع المُذْهَب في قواعد المذهب " ما لفظه: الإمام الأعظم إذا طرأ فسقُه، فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه ينعزل، وصححه في " البيان ".
(1) سقطت من (د).
(2)
4/ 147.
(3)
" أنه " ساقطة من (ش).
(4)
في (ش): " منها ".
(5)
هو خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي الدمشقي، كان إماماً حافظاً محدثاً ثبتاً ثقة، عارفاً بمذهبه، وبأسماء الرجال والعلل والمتون، فقيهاً أصولياً متكلماً أديباً شاعراً
…
وله مصنفات كثيرة تزيد على الخمسين، وهي سائرة مشهورة نافعة متقنة محررة، وكتابه " المجموع المذهب "، يقع في مجلدين في 325 صفحة، توجد منه نسخة في مكتبة الأزهر، ونسخة ثانية في مكتبة محمود الأول باستنبول، وثالثة بالمكتبة السليمانية في استنبول. توفي العلائي سنة 761. وانظر ترجمته في " الدرر الكامنة " 2/ 90 - 92.
الثاني: أنه لا ينعزل، وصححه كثيرون، لما في إبطال ولايته من اضطراب الأحوال.
قلت: وسيأتي في الموضع الأول من الفصل الثالث من هذه المسألة أنه قول أحمد بن عيسى بن زيد بن علي عليهم السلام المعروف بأنه فقيه آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
قال العلائي: الثالث: إن أمكن استتابته أو تقويم أَوَدِهِ، لم يُخلع، وإن لم يمكن (1) ذلك، خُلِعَ.
وقال القاضي عياض: لو طرأ عليه كفر، أو تغييرٌ للشرع، أو بدعةٌ، خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه، ونصب إمامٍ عادلٍ إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلَاّ لطائفةٍ، وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب على المبتدع القيام إلَاّ إذا ظنُّوا القدرة عليه، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها، ويفر بدينه.
قال: وقال بعضهم: يجب خلعه إلَاّ أن يترتب عليه فتنةٌ وحربٌ. انتهى. نقل ذلك عنهما النفيس العلويُّ.
ولما ذكر ذلك القرطبي في " تفسيره "(2) الجليل في قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]، وقال: في ذلك سبع مسائل. إلى قوله: الثالثة: قال ابن العربي المالكي: فيه أنه لا تجوز إمامة الفاسق، ويصلح أن تُعاد الصلاة خلفه نقله العلوي أيضاً، وكذلك كلام ابن بطال الذي نقله السيد أيضاً، فإنه يدلُّ بمفهومه على جواز الخروج وعدمه، لأنه
(1) في (ش): " يكن ".
(2)
16/ 311.
قال: إن طاعة المتغلِّب (1) خيرٌ من الخروج عليه، لما في ذلك من تسكين الدهماء، وحقن الدماء، ولو كان الخروج حراماً قطعاً، والطاعة واجبةً قطعاً، لم يقل: إن الطاعة خيرٌ من الخروج، كما لا يقال: إن صوم رمضان خيرٌ من فِطْرِهِ، لأنهما لم يشتركا في الخير حتى يُفاضَلَ بينهما فيه، وإنما يقال ذلك مجازاً، والظاهر في الكلام عدم التجوز (2)، ولذلك لم يقل أحدٌ (3) ببقاء الحكم على مفهوم قوله تعالى:{وأن تصوموا خيرٌ لكم} [البقرة: 184]، بل قيل:
منسوخٌ، وقيل: لأهل الأعذار، فالسيد ظن أن كلام ابن بطَّالٍ حجَّةٌ له، وهو حجةٌ عليه، فأُتِيَ مما هو مستند إليه.
ومثل كلامه (4) هذا كلام أبي عمر بن عبد البر في " الاستيعاب "، فإنه قال (5) في الكلام على حديث مالكٍ، عن يحيى بن (6) سعيدٍ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدِّه، قال:" بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليُسر والمَنْشطِ والمكره، وأن لا نُنازِع الأمر أهله "(7).
قال ابن عبد البر: واختلف الناس في معنى قوله: " وأن لا ننارع الأمر أهله " فقال قومٌ: هم أهل العدل والفضل والدين، وهؤلاء لا ينازَعُون، لأنهم أهل الأمر على الحقيقة.
وقال أهل الفقه: إنما يكون الاختيار في بدء الأمر، ولكن الجائر من الأئمة إذا أقام الجهاد والجُمُعة والأعياد، سكنت له الدَّهماء، وأنصف بعضها من
(1) في (ش): المتغلب طاعته.
(2)
في (ش): التجويز.
(3)
ساقطة من (د) و (ف).
(4)
كتب فوقها في (ش): " أى: كلام ابن بطال ".
(5)
في (د) و (ف): " قال فإنه ".
(6)
تحرف في (ش) إلى: " أبي ".
(7)
الحديث في " الموطأ " 2/ 445 - 446. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (4547).
بعضٍ في تظالمها، لم تجب منازعته، ولا الخروج عليه، لأن في الخروج عليه استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء، وشنِّ الغارات، والفساد في الأرض، وهذا أعظم من الصبر على جَوْرِه وفسقه، والنظر يشهد أن أعظم المكروهين أولاهما بالتَّرك، وأجمع العلماء على أن من أمر بمنكرٍ، فلا يُطاع. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا طاعةَ إلَاّ في المعروف "(1)، قال الله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. انتهى.
وقال شيخُ الإسلام عموماً، وشيخ الشافعية خصوصاً تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي في كتابه في " رفع اليدين في الصلاة ": قال الذهبي في " الميزان "(2) في ترجمة عبد الرحمن بن أبي الموال: إنه ثقةٌ مشهورٌ، خرج مع محمد بن عبد الله، من رجال البخاري في " الصحيح "، وحكى عن أحمد بن حنبل أنه لا بأس به، وعن (3) ابن عدي: أن حديثه مستقيمٌ.
وقال ابن حجر في مقدمته في " شرح البخاري "(4) وثقه ابن معين، والنسائي وأبو زُرعة.
إلى هنا انتهت الزيادة، وليست مناسبةً لما نحن فيه.
وقال الذهبي في " الميزان "(5): عبد الملك بن مروان بن الحكم: أنَّى له العدالةُ، وقد سفكَ الدِّماءَ، وفعل الأفاعيل؟!
فإذا عرفت هذا، تبين لك أنهم لا يعيبون على من خرج على الظلمة، لأن جوازه منصوصٌ عليه في كتب فقههم، ولو كان ذلك محرَّماً عندهم (6) قطعاً، لم
(1) رواه ابن حبان (4567) من حديث علي رضي الله عنه بلفظ: " إنما الطاعة في المعروف ". وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
2/ 592 - 593.
(3)
في (ش): " وعنده ". وهو خطأ.
(4)
ص 419.
(5)
2/ 664.
(6)
في (ش): عليهم.
يختلفوا فيه (1) ويجعلوه أحد الوجوه في مذهبهم الذي يحِلُّ للمفتي أن يُفتيَ به، وللمستفتي أن يعمل به، كما أنه ليس لهم (2) وجهٌ في جواز شيءٍ من الكبائر، ولا شك أن كل مسألةٍ لهم فيها قولان أو وجهان أنهم لا يُحَرِّمُون فعل أحدهما، ولا يجرحون من فعله (3) مستحلاً له، ولا يُفسِّقونه (4) بذلك، وهذا يعرفه المبتدىء في العلم، كيف المنتهي؟!
فبان بذلك بطلان قول السيد؛ إنهم يقولون الخارج على أئمة الجَوْرِ باغٍ بذلك.
الوجه الرابع: ما يوجد في كلام علمائهم الكبار في مواضع متفرِّقةٍ، لا يجمعها معنى، مما يدلُّ على ما ذكرته من تصويبهم لأهل البيت عليهم السلام وغيرهم في الخروج على الظَّلمة، بل تحريمهم لخروج الظلمة على أهل البيت أئمة العدل، وهي عكس ما ذكره السيد، وزيادةٌ على ما يجب من الرد عليه.
ومن أحسن من ذكر ذلك، وجوّده الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن خرجٍ الأنصاري الخزرجي الأندلسي المالكي القرطبي في كتابه " التذكرة بأحوال الآخرة " في مواضع متفرِّقة من كتاب الفتن والملاحم وأشراط الساعة، وقد ذكر فيها مقتل الحسين بن علي عليه السلام بأبلغ كلامٍ (5)، وذكر حديث عمَّار:" تقتلك الفئة الباغية "(6)، وقول ابن عبد البر (7) إنه من أصح الأحاديث. قلت: بل هو متواترٌ، كما قال الذهبي في ترجمة عمار من " النبلاء " (8) إلى قول القرطبي (9):
(1) سقطت من (ش).
(2)
في (ش): له.
(3)
في (ف): " جعله " وهو خطأ.
(4)
في (ش): ويفسقونه.
(5)
ص 563 - 572.
(6)
ص 546، وتقدم تخريجه 2/ 170.
(7)
" الاستيعاب " 2/ 474.
(8)
1/ 421.
(9)
ص 546.
وقال فقهاء الإسلام فيه ما حكاه الإمام عبد القاهر في كتاب " الإمامة " تأليفه:
وأجمع فقهاء الحجاز (1) والعراقي من فريقي الحديث والرأي، منهم: مالكٌ والشافعي والأوزاعي، والجمهور الأعظم من المتكلمين: أن علياً مصيبٌ في قتاله لأهل صِفِّين، كما قالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل، وقالوا أيضاً بأن الذين قاتلوه بُغَاةٌ ظالمون له، ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم.
قال الإمام أبو منصور التميمي البغدادي في كتاب " الفرق "(2) تأليفه في بيان عقيدة أهل السنة: وأجمعوا أن علياً كان مصيباً في قتال أهل الجمل وصِفّين، وذكر قبل ذلك عن أبي الخطاب دعوى الإجماع على ذلك.
ثم قال: وقال الإمام أبو المعالي في كتاب " الإرشاد "(3) في فضل علي رضي الله عنه: كان إماماً حقّاً، ومُقاتلوه بغاةٌ إلى آخر ما ذكره، وهو آخر فصل ختم به كتابه.
ثم تكلم القرطبي في الحجة على ذلك، وأجاد رحمه الله.
ومن ذلك ما ذكره الحاكم أبو عبد الله في كتابه " علوم الحديث "(4) في النوع
(1) في (د): أهل الحجاز.
(2)
350 و351، ولفظه: وقالوا بإمامة علي في وقته، وقالوا بتصويب علي في حروبه بالبصرة وبصفين وبنهروان
…
وقالوا في صفين: إن الصواب كان مع علي رضي الله عنه، وإن معاوية وأصحاب بغوا عليه بتأويلٍ أخطأوا فيه، ولم يكفروا بخطئهم.
(3)
ص 433.
(4)
ص 84، وهذا النوع خصه بمعرفة فقه الحديث، إذ هو ثمرة هذه العلوم، وبه قِوامُ الشريعة، وقد أدرج في هذا النوع فقه الحديث عن أهله ليُستدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة من تبحر فيها لا يجهل فقه الحديث إذ هو نوع من أنواع هذا العلم.
وروى فيه حديث " تقتل عماراً الفئة الباغية " عن الحسين بن محمد الدارمي، عن أبي =
العشرين في آخر هذا النوع، في ذكر إمام الأئمة ابن خزيمة ومناقبه، وقد ذكر حديث أمِّ سلمة من طريقه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:" تقتلك يا عمار الفئة الباغية ". قال ابن خزيمة بعد روايته: فنشهد أن كلَّ من نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في خلافته فهو باغٍ، على هذا عهدت مشايخنا، وبه قال ابن إدريس رضي الله عنه، انتهى بحروفه.
وهو يعني الإمام الشافعي، وهذا (1) نقل إمام الشافعية بلا مدافعةٍ، وقد جود (2) الحاكم الثناء عليه، ووصفه بالتَّبَحُّر في العلوم.
ومن ذلك أن البيهقي ذكر في " السنن الكبير " في باب ما جاء في القصاص في القتل (3): إذا كان الورثة صغاراً ما معناه: أن من جوز ذلك، احتج بقتل الحسن بن عليٍّ لابن ملجم، ولعلي عليه السلام أولادٌ صغارٌ، ثم قال: وقد أجاب عن ذلك بعض أصحابنا بأنه قتله حداً على كفره، لا قصاصاً انتهى.
فظهر من هذا أن فعل الحسن عليه السلام حجَّةٌ عندهم، ولما كان ذلك من حُجَجِ الحنفية، لم تدفعه الشافعية بأن فعل (4) الحسن ليس بحجةٍ، بل أجابوا بما يقتضي: أن المُكَفِّر لأمير المؤمنين علي عليه السلام كافرٌ عندهم.
وفي صحيح البخاري في كتاب التفسير منه تفسير سورة براءة، في باب قوله:{ثَانِيَ اثنينِ إذ هما في الغار} [براءة: 40] من حديث يحيى بن معين، حدثنا حجاج، حدثنا ابن جريجٍ قال لي ابن أبي (5) مُليكة: قلت لابن عباس:
= بكر بن خزيمة، حدثنا أبو موسى، حدثنا عبد الصمد، حدثنا شعبة، عن خالد، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة رفعته.
(1)
في (ف): " وهكذا ".
(2)
تحرف في (د) إلى: " جوز ".
(3)
8/ 58. وانظر ردّ ابن التركماني عليه.
(4)
" فعل ": سقطت من (د) و (ف).
(5)
لفظ " أبي " سقط من الأصول الثلاثة ".
أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتُحل حرم الله (1)، فقال (2): معاذ الله، إن الله كتب ابن الزبير وبني أمية مُحِلِّين، وإني والله لا أُحله أبداً (3).
فصرح البخاري بتصحيح ذم بني أمية، وأدخله في كتابه " الصحيح " الذي اختاره للمسلمين، وخلفه يعمل به من بعده، إلى يوم الدين، ولم يتأول ذلك ولا يضعفه، ولا عاب ذلك عليه أحدٌ من أهل السنة، ولا تركوا ذلك تقيَّةً من أعداء أهل البيت مع قوتهم وكثرتهم.
وذكر الحافظ شمس الدين عليُّ بن أبي بكر الهيثمي الشافعي في تفسير قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} [المائدة: 27] من كتاب التفسير من " مجمع الزوائد "(4) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: " أشقى الناس ثلاثة: عاقر ناقة ثمود، وابن آدم الذي قتل أخاه " قال الهيثمي: وسقط من الأصل الثالث، والظاهر أنه قاتل علي رضي الله عنه، وفي إسناده محمد بن إسحاق صاحب " السيرة النبوية ".
(1) في " البخاري ": ما حرم الله.
(2)
في (د): " فقلت "، وهو تحريف.
(3)
" البخاري "(4665) وقوله: " إن الله كتب " أي: قدر، وقوله " محلين " أي: أنهم كانوا يبيحون القتال في الحرم، وإنما نسب ابن الزبير إلى ذلك وإن كان بنو أمية هم الذين ابتدؤوه بالقتال وحصروه، وإنما بدأ منه أولاً رفعهم عن نفسه، لأنه بعد أن ردهم الله عنه، حصر بني هاشم ليبايعوه، فشرع فيما يؤذن إباحته القتال في الحرم، وكان بعض الناس يسمي ابن الزبير: المحل. وقوله: " لا أحله أبداً " أي: لا أبيح القتال فيه، وهذا مذهب ابن عباس أنه لا يقاتل في الحرم ولو قوتل فيه.
(4)
7/ 14، ولم ترد في المطبوع نسبته إلى مخرجه، وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 61 - 62، وعزاه للطبراني، ولم يذكر الثالث. ومن رواية الطبراني أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 4/ 307 - 308، وقال: غريب من حديث سعيد، لم نكتبه إلَاّ من حديث سلمة، قلت: فيه بالإضافة إلى تدليس ابن إسحاق حكيم بن جبير، وهو ضعيف، وقال الهيثمي: متروك.
وذكر الترمذي في " جامعه " حديثاً فحسنه عن سفينة الصحابي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه لما روى الحديث:" الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملكٌ بعد ذلك " قال له سعيد بن جمهان: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم، قال: كذبوا بنو (1) الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
هذه رواية الترمذي، وفي رواية أبي داود: قال سعيد: قلت لسفينة إن هؤلاء يزعمون أن علياً لم يكن بخليفةٍ، فقال: كذبت (2) أستاه بني الزرقاء، يعني بني مروان (3).
وروى الترمذي عن الحسن بن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِي بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر} يملكها بعدك بنو أمية يا محمد (4).
(1) في الأصول " بني " وهو خطأ.
(2)
في (ش): " كذب ".
(3)
" الترمذي "(2226)، وأبو داود (4646)، وهو حديث حسن. وصححه ابن حبان (6657) و (6943). وانظر تمام تخريجه فيه.
(4)
رواه الترمذي (3350) من طريق أبي داود الطيالسي، حدثنا القاسم بن الفضل الحدّاني، عن يوسف بن سعد، قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية، فقال: سوَّدت وجوه المؤمنين، أو يا مسوِّد وجوه المؤمنين، فقال: لا تؤنِّبني رحمك الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أُري بني أُمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} يا محمد، يعني نهراً في الجنة، ونزلت:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر} . يملكها بعد بنو أمية يا محمد، قال القاسم، فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد ولا تنقص.
ورواه من طريق الطيالسي الطبراني في " الكبير "(2754)، والحاكم 3/ 170 - 171، والبيهقي في " الدلائل " 6/ 509 - 510 كلهم من حديث القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد، ويقال: يوسف بن مازن الراسبي.
وصححه الحاكم في الرواية الأولى، وقال الذهبي: والقاسم وثقوه، رواه عنه أبو داود =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والتبوذكي، وما أدري آفته من أين.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلَاّ من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل، وهو ثقة، وثقه يحيى القطان وابن مهدي، قال: وشيخه يوسف بن سعد، ويقال: يوسف بن مازن رجل مجهول، ولا نعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلَاّ من هذا الوجه.
وتعقبه الحافظ ابن كثير في تفسيره 8/ 462 - 463، فقال: وقول الترمذي: إن يوسف هذا مجهول فيه نظر، فإنه قد روى عنه جماعة، منهم حماد بن سلمة، وخالد الحذاء، ويونس بن عبيد، وقال فيه يحيى بن معين: هو مشهور، وفي روايته عن ابن معين: هو ثقة، ورواه ابن جرير 30/ 260 من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن كذا قال، وهذا يقتضي اضطراباً في هذا الحديث والله أعلم.
ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جداً، قال شيخنا الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي: هو حديث منكر.
قلت: وقول القاسم بن الفضل الحداني: إنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص، ليس بصحيح؛ فإن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه استقل بالملك حين سلَّم إليه الحسن بن علي الإمرة سنة أربعين، واجتمعت البيعة لمعاوية، وسمي ذلك العام عام الجماعة، ثم استمروا فيها متتابعين بالشام وغيرها، لم تخرج عنهم إلَاّ مدة دولة عبد الله بن الزبير في الحرمين والأهواز وبعض البلاد قريباً من تسع سنين، لكن لم تَزُل يدُهُم عن الإمرة بالكلية، بل عن بعض البلاد إلى أن استلبهم بنو العباس الخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فيكون مجموع مدتهم اثنتين وتسعين سنة، وذلك أزيد من ألف شهر، فإن الألف شهر عبارة عن ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، وكأن القاسم بن الفضل أسقط من مدتهم أيام ابن الزبير، وعلى هذا فتقارب ما قاله للصحة في الحساب، والله أعلم.
ومما يدل على ضعف هذا الحديث أنه سيق لذم بني أمية، ولو أريد ذلك لم يكن بهذا السياق، فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم لا يدل على ذم زمانهم، فإن ليلة القدر شريفة جداً، والسورة الكريمة إنما جاءت لمدح ليلة القدر، فكيف تمدح بتفضيلها على أيام بني أمية التي هي مذمومة، بمقتضى هذا الحديث، وهل هذا إلَاّ كما قال القائل:
ألم تَرَ أن السيف ينقُصُ قدره
…
إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا
وقال آخر:
إذا أنت فضَّلتَ أمرأً ذا بَرَاعةٍ
…
على ناقص، كان المديحُ من النقص =
قال القاسم بن الفضل: فعددناها، فإذا هي ألف شهرٍ، لا تزيد يوماً، ولا تنقص.
قال الذهبي في " الميزان "(1) في ترجمة عبد الرحمن بن مُلجمٍ المرادي: ذاك المعَثَّر الخارجي، ليس بأهلٍ أن يروى عنه، وكان عابدا قانتاً، لكنه خُتِمَ له بِشَرٍّ، فقتل أمير المؤمنين.
وقال فيه (2) في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي: مقدوحٌ في عدالته، ليس بأهلٍ أن يُروى عنه، وقال أحمد بن حنبل: لا ينبغي أن يروى عنه.
وقال فيه (3) في ترجمة شِمُرِ بن ذي الجوشن: ليس بأهلٍ للرواية، فإنه أحد قتلة الحسين رضي الله عنه.
وحكى عن أبي إسحاق، قال: كان شِمْرٌ يصلي معنا، ويستغفر، قلت: كيف يغفِرُ الله لك، وقد أعنت على قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: ويحك إن أمراءنا أمرونا، ولو خالفناهم كنا شراً (4) من الحُمر السُّقاة.
قال الذهبي: إن هذا العذر قبيحٌ، وإنما الطاعة في المعروف.
وقال فيه (5) في ترجمة عمر بن سعد بن أبي وقاص: هو في نفسه غيرُ
= ثم الذي يفهم من ولاية الألف الشهر المذكورة في الآية هي أيام بني أمية، والسورة مكية، فكيف يحال على ألف شهر هي دولة بني أمية، ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها؟! والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة، فهذا كله مما يدل على ضعف هذا الحديث ونكارته، والله أعلم.
(1)
2/ 592.
(2)
أي في " ميزان إلاعتدال " 4/ 440.
(3)
2/ 280.
(4)
تحرفت في الأصول " سواء "، والمثبت من " الميزان ".
(5)
3/ 198 - 199.
متهمٍ، لكنه باشر قتال الحسين، وفعل الأفاعيل، وروى شعبة عن أبي إسحاق، عن العَيزار بن حُريثٍ (1)، عن عمر بن سعد، فقام إليه -يعني إلى العيزار- رجل، فقال: أما تخاف الله، تروي عن عمر بن سعدٍ؟! فبكى -يعني العيزار- وقال: لا أعود.
وقال أحمد بن زهير: سألت ابن معينٍ: أعمر بن سعدٍ ثقةٌ؟ فقال: كيف يكون من قتل الحسين ثقةً؟!
ثم ذكر توثيق العجلي له (2)، وهذا شيءٌ تفرَّد به العجلي، وليس فيه دليلٌ على أن العجلي لا يُفَسَّقُه، لأن العجلي كان يرى توثيق الفاسق الصدوق في لهجته، ولذلك وثق جماعةً من صحَّ عنه سبُّ أبي بكر وعمر، ومن سبهما، فهو عنده فاسقٌ، بل صح عنه توثيق من يرى كفرهما من غلاة الروافض الصادقين في الرواية، فساوى بين أهل الصدق في الحديث من الروافض والنواصب، ولذلك حكى الحاكم عن النسائي أنه قال: العجلي ثقة، مع أن الحاكم والنسائي من أئمة الشيعة، وأهل المعرفة التامة بالرجال.
وذكر المزي (3) كلام العجلي، ثم عقبه بكلام ابن معين، كالرد عليه، ثم ذكر من أخباره وبُغْضِ أبيه له، ثم قال: وروي عن محمد بن سيرين، عن بعض أصحابه، قال: قال علي لعمر بن سعدٍ: كيف أنت إذا قمت مقاماً تُخَير فيه بين الجنة والنار، فتختار النار؟
وممن وثقه العجلي: أبو معاوية الضرير، محمد بن خازم (4)، وقد قال الحاكم: احتج به الشيخان وهو ممن اشتهر عنه الغلو. قال الذهبي (5): أي الغلو
(1) تحرفت في (ش) إلى: " حرب ".
(2)
" ثقات العجلي " ص 357.
(3)
" تهذيب الكمال " 21/الترجمة رقم (4240).
(4)
" الثقاث " ص 403.
(5)
في " الميزان " 1/ 575.
في التشيع، وقد قال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب من " الميزان " (1): إن الغلو في التشيع عبارة عن تكفير الشيخين: أبي بكر وعمر وسبهما.
فتوثيق العجلي لبعض غلاة الشيعة يدل على أنه يوثق الصدوق، وإن كان عنده صاحب بدعةٍ ومعصيةٍ، وقد مرَّ لي ذلك (2) في مواضع.
منها في ترجمة مندل بن علي العنبري الكوفي (3)، ضعَّفه أحمد بن حنبل، وقال العجلي (4): جائز الحديث يتشيع.
ومنها ترجمة تليد بن سليمان في " التهذيب "(5): قال العجلي (6) وأحمد: لا بأس به، وقد صح عنه شتم أبي بكر وعمرو عثمان، والرفض، وضعَّفه الشيعة (7)، قال ابن معين: غير ثقةٍ، وقال: ليس بشيءٍ، وقال النسائي -على تشيعه-: ليس بالقوي. وقال العجلي فيه (8): تابعي ثقة.
وهو دليل أن العجلي يعني بالثقة: الصدوق في روايته، لا الصالح في دينه عنده، فإن الغلاة في عرفهم من يكفر الخلفاء (9) الثلاثة، أو يسبهم أدنى الأحوال، وليس فيمن يفعل ذلك عند العجلي خيرٌ قطعاً، فلو دل توثيقه عمر بن سعدٍ على بُغض علي عليه السلام وأهله، لدل توثيقه حَبَّة العُرني (10) على
(1) 1/ 6.
(2)
في (ش): " في ذلك ".
(3)
" الميزان " 4/ 180، و" التهذيب " 10/ 265.
(4)
" الثقات " ص 439.
(5)
" تهذيب الكمال " 4/ 321 - 322، و" تهذيب التهذيب " 1/ 447.
(6)
ص 88.
(7)
" تهذيب الكمال " 5/ 351 - 354.
(8)
" الثقات " ص 105.
(9)
سقطت من (ش).
(10)
تصحفت في (ش) إلى: " القرني ".
بغض سائر الخلفاء وأتباعهم، ولزم اجتماع النصب والرفض فيه، وذلك غيرُ واقعٍ مع أهل القبلة مع أنه يمكن أنه غَلِطَ أو غُلِطَ عليه، وأنه عنى بذلك التوثيق غيره، ففي الرواة جماعةٌ مشتركون في هذا الاسم، منهم عمر بن سعدٍ الخَفَري، أبو داود الرجل الصالح (1)، ومنهم عمر بن سعدٍ القُرَظ، ومنهم عمر بن سعدٍ الخولاني.
فالحمل على السلامة يوجب ذلك، وحاله يحتمل الحمل على السلامة لوجهين:
أحدهما: أنه لم يذكر بتحاملٍ على علي عليه السلام قط، والرمي ببغض علي عليه السلام شديدٌ، فلا تحل نسبته إلى من ظاهره الإسلام إلَاّ بعد صحةٍ لا تحتمل التأويل كالتكفير والتفسيق، ولذلك كان القول بجميع ذلك لا يجوز إلا بدليل قاطع. وقد كان ابن أبي داود (2) يقول: كل أحدٍ في حلٍّ إلَاّ من نسب إليَّ بُغضَ عليٍّ عليه السلام.
وحقوق المخلوقين ومطالبهم خطرة، وفي الحديث الصحيح:" إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث "(3)، والخطأ في العفو خيرٌ من الخطأ في
(1) من قوله: " عمر بن سعد الحفري " إلى هنا سقط من (ف).
(2)
هو عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، كان فقيهاً عالماً حافظاً، وكان يُحدث من حفظه، رحل به أبوه من سجستان فطوف به شرقاً وغرباً، توفي سنة 316، وصلى عليه نحو ثلاث مئة ألف إنسان.
وقوله هذا ذكر الخطيب في " تاريخه " 9/ 468، والذهبي في " تذكرة الحفاظ " 2/ 771.
مترجم في " سير أعلام النبلاء " 13/ 221 - 237.
(3)
حديث صحيح. رواه من حديث أبي هريرة مالك 2/ 907 - 908، ومن طريقه رواه أحمد 2/ 465 - 517، والبخاري (6066)، ومسلم (2563)(28)، وأبو داود (4917)، والبيهقي 6/ 85 و8/ 333 و10/ 231، والبغوي (3533)، وصححه ابن حبان (5687).
العقوبة (1)، وقد ثبت:" إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "(2) كيف بالقطع في موضع الاحتمال، ومن أشد ما يخاف المخطىء في ذلك أن يكون عليه إثم الباغض لعليٍّ عليه السلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما "(3)، وكذلك غير لفظ الكافر ترجع على قائلها، وفي
(1) روى الترمذي (1424)، والدارقطني 3/ 84، والحاكم 4/ 384، والبيهقي 8/ 238 من طريق يزيد بن زياد الشامي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مرفوعاً:" ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج، فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يُخْطِىءَ في العفو، خيرٌ من أن يُخطىء في العقوبة ".
ورواه ابن أبي شيبة 9/ 569 - 570، والترمذي، والبيهقي 8/ 238 من طريق وكيع، عن يزيد بن زياد به موقوفاً على عائشة.
وقال الترمذي: يزيد بن زياد ضعيف، ورواية وكيع (الموقوفة) أصح وبنحوه قال البيهقي.
وصحح الحاكم الرواية المرفوعة، فتعقبه الذهبي بقوله: يزيد بن زياد شامي متروك.
(2)
حديث صحيح بشواهده، رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976)، وابن حبان (229)، والبغوي (4132)، والقضاعي في " مسند الشهاب "(192)، والخطيب في " تاريخه " 4/ 309 و5/ 172 و12/ 64 من حديث أبي هريرة.
ورواه القضاعي (191)، والطبراني في " الصغير "(884) من حديث زيد بن ثابت، قال الهيثمي في " المجمع " 8/ 18: فيه محمد بن كثير بن مروان، وهو ضعيف.
ورواه أحمد 1/ 201، والطبراني في " الكبير (2886)، و" الصغير " (1080)، و" الأوسط "، والقضاعي (194) من حديث الحسين بن علي. قال الهيثمى 8/ 18: ورجال أحمد و" الكبير " ثقات.
ورواه مالك 2/ 903، ومن طريقه الترمذي (2318)، والبغوي (4133) من حديث علي بن الحسين مرسلاً. وقال أحمد وابن معين والبخاري والدارقطني: لا يصح إلَاّ عن علي بن الحسين مرسلاً.
(3)
حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه 2/ 439.