المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حكم مخالطة السلاطين - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٨

[ابن الوزير]

الفصل: ‌ حكم مخالطة السلاطين

وقال الرازي (1): المنهي عنه عند المحققين الرضا بما عليه الظلمة من الظلم، وتحسينه لهم، أو لغيرهم، فأمَّا مداخلتهم لدفع ضررٍ، أو اجتلابِ منفعةٍ عاجلةٍ، فغير داخلٍ في الركون. انتهى بحروفه.

الفائدة الأولى: في‌

‌ حكم مخالطة السلاطين

في نفسها (2).

واعلم أن مخالطتهم أقسامٌ:

القسم الأول: المخالطة لمجرد التناول مما في أيديهم من بيوت الأموال، وحقوق المسلمين، فهذا نقصٌ من مرتبة الزَّهادة، وشَيْن في أهلِ العلم والعبادة، ولكنه لا ينحَطُّ إلى مرتبة التحريم، فإن حُبَّ الدنيا، وإن كان مذموماً على الإطلاق، لكنه يختلف، فمنه حرامٌ، ومنه حلالٌ، فالحرام منه هو حب الحرام من الدنيا، والإضراب عن الدين، وأهل هذا، هُمُ الذين ذمَّهم الله تعالى قي القرآن، وحيث يَرِدُ الذم على حبِّ الدنيا مطلقاً أو عاماً، فالمراد به هذا الجنس، بدليل قوله تعالى:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200 - 202]، وقوله:{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، وقول عيسى:{أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}

إلى: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِين} [المائدة: 114]، فهذه الآيات خاصة تبين تلك (3) العمومات، وأن المذمومين في تلك العمومات هم الذين قالوا:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} .

وقد يرتقي حب الدنيا إلى مرتبة الندب والاستحباب مع حسن النية في قصد العفاف بالعفاف (4) عن الحرام، وكفاية الأهل وصلة الأرحام والإخوان، وإعانة الضعيف، وإطعام الطعام.

(1) في " التفسير الكبير " 18/ 72.

(2)

في (ف): " عينها ".

(3)

في (ش): " لك "، وفي (ف):" هذه ".

(4)

في (ش) و (د): " بالحلال ".

ص: 190

والذي يدلُّ على أن المُباح قد يصير مندوباً بالنية، وبإعانته على ترك الحرام أحاديث:" إنما الأعمال بالنية "(1)، وما (2) في معناه، وما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي ذرٍّ مرفوعاً:" وفي بُضْعِ أحدكم صدقةٌ ". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوته، ويكون له أجر؟ قال:" أرأيتم لو وضعها في حرامٍ، كان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجرٌ ". أخرجه مسلم في " الصحيح "(3)، والنواوي في " مباني الإسلام "(4).

ومما يدل على ذلك أنه قد ثبت عن سليمان عليه السلام أنه سأل الله تعالى مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده.

وثبت في " الصحيحين " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: " اللهم إني أسألك الهدى والتُّقى والعفاف والغِنَى "(5)، ولو كان الغنى نقصاً في الدِّين، وحبُّه رذيلةً لا يليقُ بالمؤمنين، لم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا امتنَّ الله عليه به في قوله:{وَوَجَدَك عائِلاً فأغنى} [الضحى: 8].

وكذا (6) ثبت في " الصحيح " عن أم أنس قالت: يا رسول الله ادع لخادمك أنس فدعا له بالغنى أو نحو ذلك (7)، ولو كان نقصاً في دينه على الإطلاق، لكان

(1) أخرجه من حديث عمر رضي الله عنه أحمد 1/ 25 و43، والبخاري (1) و (54) و (2529) و (3898) و (5070) و (6689) و (6953)، ومسلم (1907)، وأبو داود (2201)، والترمذي (1647)، وابن ماجه (2427)، والنسائي 1/ 58 - 60 و6/ 158 - 159 و7/ 13.

(2)

في (ف): " وبما ".

(3)

برقم (1006)، وأخرجه أيضاً أحمد 5/ 167 و168، وأبو داود (5243).

(4)

وهي " الأربعون النواوية "، وهو الحديث الخامس والعشرون منها. انظر " جامع العلوم والحكم " ص 220 - 226.

(5)

أخرجه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 411 و416 و437، ومسلم (2721)، والترمذي (3489)، وابن ماجه (3832)، وابن حبان (900).

(6)

في (ش): " وكذلك ".

(7)

أخرج أحمد 3/ 194 و248، والبخاري (6334) و (6378) - (6381)، ومسلم =

ص: 191

الدعاء عليه، لا له، وحديث أهلِ الدُّثور، وشكاية فقراء المهاجرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم من زيادتهم في الفضل، وكثرة الثواب معروفٌ في " الصحيحين " وغيرهما، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء "(1).

وفي الصحيح: " أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيعُ "(2)، وقد اشتهر في الحديث الصحيح الاستعاذة من الفقر من غير وجه.

قال الحافط ابن النحوي في كتابه " خلاصة البدر المنير " حديث إنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر. رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة كذلك، وإسناده على شرط مسلم، كما قال الحاكم (3)، ومتفق عليه أيضاً من رواية (4) عائشة، لكن لفظه:" من فتنة الفقر "(5). انتهى.

وعن علي عليه السلام أنه كان يقول في دُعائه: اللهم صُنْ وجهي باليسار، ولا تبذُل جاهي بالإقتار. رواه في " نهج البلاغة " فهذا كلام إمام الزاهدين، وقدوة العارفين.

وروى النسائي من حديث أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُبِّبَ إليَّ

= (2480) و (2481)، وابن حبان (7178) عن أنس، أن أم سليم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنس خادمك، ادع الله له. قال:" اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته ".

(1)

أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري (843) و (6329)، ومسلم (595).

(2)

أخرجه من حديث أبي هريرة أبو داود (1547)، والنسائي 8/ 263، وابن ماجه (3354)، وصححه ابن حبان (1029).

(3)

ولفظه: " اللهم إني أعوذ بك من الفقر والفاقة، وأعوذ بك من أن أَظلِمَ أو أُظلَم ".

أخرجه أبو داود (1544)، والنسائي 8/ 261، وأحمد 2/ 305 و325 و354، وصححه ابن حبان (1030)، والحاكم 1/ 541، ووافقه الذهبي.

(4)

في (ف): " حديث ".

(5)

أخرجه البخاري (3838) و (6368) و (6376)، ومسلم (589) ص 2078، وأحمد 6/ 207، والنسائي 8/ 262، وابن ماجه (3838).

ص: 192

الطيب والنساء، وجُعِلَتْ قرةُ عيني في الصلاة". رواه النسائي في أول " عِشرة النساء " بسندين جيدين عن ثابت، عن أنس، وهو من أحاديث " المجتبى من سننه " (1)، وهو صحيحها، ورواه ابن تيمية بصيغة الجزم، وقال: رواه الإمام أحمد.

وروى النسائي بعد ذلك شاهداً لمعناه من حديث سعيد عن قتادة، عن أنس: لم يكن شيءٌ أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل (2).

وذكره ابن الأثير في الطيب من الزينة في (3) حرف الزاي، وفي الباب التاسع من حرف الفاء في فضل الصلاة (4).

ومتى كان طلب المحتاج إليه من الله تعالى، كان من العبادة مثل صلاة الاستسقاء وصلاة الحاجة، ومنه قول عيسى عليه السلام:{وارزُقْنَا وأنت خيرُ الرازقين} [المائدة: 114] فيما حكى الله عنه. وفي الحديث الصحيح " أن أيوب النبي عليه السلام رأى جراداً من ذهبٍ تسقط عنده، فجعل يلتقِطُها، فقال الله تعالى: ألم أُغنك عن هذا؟! فقال: بلى ولكن لا غنى لي عن بركتك "(5).

فهذا وأمثاله كثيرٌ، فأمَّا حب المال المُلهي عن ذكر الله، الشاغل لصاحبه عن طاعة الله والتكاثر والتفاخر، وأمثال ذلك من أفعال الدُّنيويِّين ومقاصدهم، فليس بمحبوبٍ في الشرع، وفي هذا مباحث لطيفةٌ، ليس هذا موضع ذكرها.

(1) حديث حسن، رواه النسائي في " عِشرة النساء "(1) و (2)، وفي " السنن الصغرى " 7/ 61 - 62. ورواه أيضاً أحمد 3/ 128 و199 و285، وأبو يعلى (3482) و (3530)، وصححه الحاكم 2/ 160، ووافقه الذهبي.

(2)

أخرجه النسائي في " عشرة النساء " برقم (3)، وفي " السنن الصغرى " 7/ 62.

(3)

في (ش): " من ".

(4)

" جامع الأصول " 4/ 766 و9/ 396.

(5)

أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 243 و314 و511، والبخاري (279) و (3391) و (7493)، وابن حبان (6229) و (6230).

ص: 193

وقد ذكر القرطبي في " تذكرته "(1) هذا المعنى مستوفى.

وأكثر المحبين للدنيا لا يحبُّونها على الوجه المسنون، بل إنما يحبها الأكثرون بمجرد الطبيعة البشرية وداعية الهوى، وذلك يكون في مرتبة النقص، لا في مرتبة التحريم، مهما بقي صاحبه على حد الشريعة في ترك الحرام، وأداءِ الواجب، فأما ما ورد على صورةٍ تناقض ما قدمنا من قوله عليه السلام:" اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفافَ والغِنى "(2)، فلا أعلم شيئاً من ذلك المناقض لهذا يصح.

وذلك نحو ما رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم أحْيِني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشُرني في زُمْرَةِ المساكين ". وهو حديث ضعيف عند كثير من علماء الأثر، ضعفه ابن كثير (3)، وقال ابن النحوي في " خلاصته ": رواه الترمذي (4) عن أنس، وقال: غريب، وابن ماجة عن أبي سعيد بإسناد ضعيف، والحاكم به وصحَّحه (5)، والبيهقي (6) من رواية عبادة بن الصامت، ولا أعلم له علَّةً.

وحديث: " الفقر فخري " غريب، وقال بعض الحُفَّاظ المتأخرين: كذبٌ، لا نعرفه في شيءٍ من كتب المسلمين المعروفة (7). انتهى كلام ابن النحوي.

(1) ص 471 - 472.

(2)

تقدم تخريجه ص 185 من هذا الجزء.

(3)

في " البداية والنهاية " 6/ 52.

(4)

برقم (2352)، ورواه أيضاً البيهقي 7/ 12، وابن الجوزي في " الموضوعات " 3/ 142، وهو ضعيف كما قال الترمذي.

(5)

أخرجه ابن ماجه (4126)، والحاكم 4/ 322، والبيهقي 7/ 13، والخطيب في " تاريخ بغداد " 4/ 11، وابن الجوزي في " الموضوعات " 3/ 141، وإسناده ضعيف، ومع ذلك صححه الحاكم، ووافقه الذهبي!

(6)

7/ 12، وإسناده ضعيف.

(7)

قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في " أحاديث القصاص " ص 76، وذكر الحديث السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 300، والعجلوني في " كشف الخفاء " 2/ 113، وعلي =

ص: 194

وأورد النواوي في كتاب " رياض الصالحين "(1) حديث: " اللهمَّ اجعل رزق آلِ محمَّدٍ قوتاً "، وفي رواية:" كفافاً ". ورواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة (2)، ولكنه أغرب في تفسيره، فقال: إنَّ القوتَ: سدُّ الرَّمَقِ، وليس كذلك، وإنما القوت كفاية الحاجة، كذا أو نحوه في " صحاح " الجوهري (3)، ويدلُّ عليه الرواية الأخرى:" اللهم اجعل رزق آلِ محمدٍ كفافاً "، ولا شك أن الكفاف، وكفاية الحاجة هو المقصود بالمعنى، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كره الزيادة في الغنى.

وبالجملة، فما لم يعارض الأخبار المتَّفق على صحتها، فلا إشكال فيه، وما عارضها لم يَحِلَّ ترجيحُه عليها، وهي أقوى منه إجماعاً، فأما ما ورد في فضلِ الفقراء، فصحيحٌ، ولكن لا يُناقضُ هذا، فإنه من قبيل الأعواض على البلاوي، وليس يلزم المكلف البلوى ويسألها، لما فيها من العوض (4)، ولهذا لم يَرِدْ في الحديث سؤالُ المرض والجُذام والعمى ونحو ذلك، بل جاء في الحديث:" سؤال العافية في الدنيا والآخرة "(5) وإن كانتِ البلوى في الآخرة أكثر

= القاري في " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " ص 254، ونقلوا عن الحافظ ابن حجر قوله: هو باطل موضوع.

(1)

ص 254.

(2)

أخرجه أحمد 2/ 446 و481، والبخاري (6460)، ومسلم (1055)، والترمذي (2361)، وابن ماجه (4139)، وابن حبان (6343) و (6344).

(3)

1/ 261.

(4)

في (ف): " الأعراض ".

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 240، وأحمد 2/ 25، والبخاري في " الأدب المفرد "(1200)، وأبو داود (5074)، وابن ماجه (3871) عن عبد الله بن عمر، قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: " اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي " وصححه ابن حبان (961)، والحاكم 1/ 517 - 518، ووافقه الذهبي.

ص: 195

أجراً من العافية، فالسنة: الرغبة إلى الله تعالى في العافية، فالبَشَرُ ضعيفٌ، والصبر قليلٌ، وقد حكى الله تعالى عن أيوب عليه السلام أنه شكا إلى الله تعالى ما نزل به من الضُّرِّ، وقال:{أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]، فهذا أيوب الذي قال الله تعالى فيه:{إنَّا وَجَدْنَاهُ صابراً نِعْمَ العبد إنه أوَّابٌ} [ص: 44] فكيف بغيره؟

فإن قلت: عادة أهلِ العلم التزهيد في الدنيا، وهذا الكلام كالمناقض (1) لذلك؟

قلت: ليس كذلك، فإن لكلِّ مقامٍ مقالاً، فالعلماءُ زهَّدوا في الدنيا خوفاً من معصيةِ الله تعالى في الوقوع في الحرام، وخوفاً من الاشتغال عن طاعةِ الله تعالى بمباحها.

وأنا بيَّنْتُ المباح من الحرام خوفاً من معصية الله تعالى في تأثيم من تناول المباح، ورد حديثه والقدح في عِرضه، فالكل قاصدٌ لنصيحة المسلمين، وتحذيرهم من الوقوع في معصية ربِّ العالمين، وقد ذكر بعض العلماء وجوب كسب الحلال، وقال: إنما (2) تركنا حثَّ الناس عليه لأن في طبع البشر ما يكفي، وما زال أهل الزهد والرقائق يُقَبِّحُون حب الدنيا حتى غَلِطَ في ذلك من لا فقه له، وظن أن من تناول شيئاً من الدنيا من أهل العلم، فقد حل عرضه، وبطلت عدالته.

وقد ذكر الغزالي في كتاب " الإحياء "(3) مفاسد المخالطة ومصالحها، فذكر ما يليق بحال كتابه في التَّرفُّق والوعظ.

وأنا ذكرت هنا ما يليق بمقتضى الحال من تعريف محضِ الشَّرع، وصريح الحق، وذلك لا يتناقض عند أهل البصر والمعرفة، وقد ذكر ابنُ بطَّال

(1) في (ف): " مناقض ".

(2)

في (ف): " قال: وإنما ".

(3)

2/ 221 - 244.

ص: 196

في شرحه للبخاري عن العلامة ابن جرير الطبري، والعلامة ابن المنذر جوازَ الأخذ مما في أيدي الظلمة وغيرهم، إلَاّ ما تعيَّن أنه مظلِمَة بعينه لرجلٍ معروفٍ، وحكاه ابن جرير عن الأئمة من الصحابة والتابعين بهذا اللفظ، وحكاه عن جماعة كثيرةٍ، وعيَّن أسماءهم، منهم (1) تسعةٌ صحابة، وعشرةٌ تابعون أو أكثر.

أما الصحابة: فعلي بن أبي طالب عليه السلام، وابنه الحسن عليه السلام، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعائشة، وابن عباسٍ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعثمان.

وأما التابعون، فأبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام، وسعيد بن جبيرٍ، وعلقمة، والأسود، والنخعي، والشعبي، والحسن البصري، ومكحول، وعكرمة، والزُّهري، وابن أبي ذئب.

واحتج ابن المنذر على ذلك باستقراض النبي صلى الله عليه وسلم من طعام اليهودي ورهنه درعه، وذلك في آخر أيامه (2)، وقد وصفهم الله تعالى بأكلهم (3) السُّحت (4).

واحتج ابن جرير بأمرين:

(1)" منهم " ساقطة من (ش).

(2)

أخرج أحمد 6/ 42 و160 و230، والبخاري (2068) و (2096) و (2200)، ومسلم (1603)، والنسائي 7/ 288 و303، وابن حبان (5936) و (5938) عن عائشة، قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير.

وأخرجه بنحوه من حديث أنس أحمد 3/ 102 و133 و208 و238، والبخاري (2069) و (2508)، والترمذي (1215)، والنسائي 7/ 288، وابن ماجه (2437)، وابن حبان (5937).

(3)

في (ف) و (د)" بأكل ".

(4)

ونقل قوله الحافظ في " الفتح " 3/ 338.

ص: 197

أحدهما: وجوب الحكم للفُجَّار بما في أيديهم، كوجوبه للأخيار على سواءٍ في حكم الشريعة.

وثانيهما: إباحة أخذِ الجزية من أهل الكتاب وإحلالها للمسلمين، مع علمِ الله أن أكثر أموالهم أثمان الخمور والخنازير، وأنهم يتعاملون بالربا. ذكره ابن بطال في كتاب الزكاة، في باب: من أعطاه الله شيئاً من غير مسألة ولا إشراف نفسٍ في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: " إذا جاءَك مِنْ هذا المال شيءٌ وأنت غير سائلٍ ولا مُشرفٍ فخُذْهُ "(1).

وذكر أن عموم هذا القول حجةٌ على قبول عطايا الأمراء والظلمة، وفسَّر إشراف النفس بالتعرض، والشَّره، والطمع، مأخوذٌ من: أشرف (2) الرجل، إذا تطاول ومد بصره، ومنه الموضع المشرف: المرتفع.

وحكى كراهة أموال الأمراء وقبول صلاتهم عن الثوري، ومحمد بن واسعٍ، وأحمد بن حنبل، ومسروق، وعبد الله بن المبارك، وابن سيرين، وأكثرهم للاحتياط لا للتحريم، ومنهم من حرمها.

وحجة من حرمها حديث الشبهات (3)، وقد اختار الخطابي في شرحه الحديث في " معالم السنن "(4) الجواز، وكذلك ابن عبد البر، وحكى النواوي (5) في الشبهات ثلاثة أقوال: الحِلُّ، والتحريم، والكراهة، وهو المختار، لأنه ظاهر الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحلال بيناً والحرام كذلك، وجعلها قسماً ثالثاً، وشبَّهها بما حول الحمى لا بالحمى، وجعل العِلَّة في تحريمها خوف

(1) أخرجه أحمد 1/ 52، والبخاري (1473)، ومسلم (1045)، وابن حبان (3403).

(2)

في (ش): " إشراف ".

(3)

هو حديث النعمان بن بشير: " إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات

"، وقد تقدم تخريجه 2/ 335 - 336.

(4)

3/ 56.

(5)

في " شرح مسلم " 11/ 27.

ص: 198

الوقوع في الحمى، ولأنه نهى (1) عن أجرة الحجام مرتين، وقال في الثالثة:" اعلفه ناضِحَك وأطعمه رقيقك "(2) فدلَّ على الكراهة، ولما ورد من النواهي الصحيحة عن السؤال عن المسكوت عنه، والأمر باستحلاله حتى ينهاهم (3) عنه، وبذلك احتج من أحلَّها، منهم ابن عبد البر، قال: هي عندنا من الحلال الطيب، ولي فيها تفصيل جيِّدٌ ذكرته في " قبول البشرى ".

على أن الزَّهادة غيرُ الفقر، وكم من فقيرٍ مشغول القلب بالدنيا، وغني مشغول القلب بالآخرة، ومحلها القلب إجماعاً.

وقد روى الترمذي (4) من حديث أبي ذرٍّ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك (5)، وأن تكون في ثواب المصيبة أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك ". ورواه رزين، وزاد فيه: " لأن الله تعالى يقول: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم} [الحديد: 23].

وهذا الكلام انسحب من الكلام في مُخالطة الملوك لمحبة تناول شيءٍ مما يحِلُّ تناوله بما في أيديهم.

والقصد ما ذكرته من الزَّجر عن الغيبة، واعتقاد جرح من فعله من أهل الديانة والعلم، فقد ذكر العلماء من أنواع الغيبة قول القائل: فلان مبتلى بمخالطة السلاطين، فالله يُسامِحُهُ، ونحو ذلك من غيبة القُرَّاء.

(1)" نهى " ساقطة من (ف).

(2)

أخرجه من حديث ابن محيصة عن أبيه الشافعي 2/ 166، وأحمد 5/ 435، وأبو داود (3422)، وصححه الترمذي (1277)، وابن حبان (5154).

(3)

في (ف): " نهاهم ".

(4)

برقم (2340)، وأخرجه أيضاً ابن ماجه (4100)، وإسناده ضعيف، فيه عمرو بن واقد النكري، قال الترمذي: منكر الحديث.

(5)

في (ش): " يدك ".

ص: 199

فإن قلت: هذا مجرد دعوى لإباحة المخالطة إذا لم يكن فيها معصيةٌ، فما الدليل على ذلك؟ قلت: الدليل عليه وجوهٌ:

الوجه الأول: الحديث الصحيح، والنص الصريحُ، وذلك أنه ثبت عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أئمة الجور ومن في معناهم، ثم قال:" فمن غَشِيَ أبوابهم، فصدقهم في كَذِبِهِم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بواردٍِ عليَّ الحوض يوم القيامة، ومن غشيها أو لم يغشها فلم يصدقهم في كذبهم، ولم يُعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض يوم القيامة ". رواه الترمذي في موضعين من " جامعه "(1) بإسنادين مختلفين، أحدهما: صحيح، وعليه الاعتماد، والثاني: معلول، وهو شاهد للصحيح غير قادح فيه ورواه أبو طالب في " الأمالي "، فقال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني، حدثنا أحمد بن سعيد بن عثمان الثقفي، أخبرنا محمد بن يحيى الذُّهلي، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خُثيم، عن عبد الرحمن بن سابَط، عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: الحديث ولفظه: " فمن صدَّقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولستُ منهم، ومن لم يُصدقهم في كذبهم، ولم يُعِنْهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم، سيردون على حوضي "(2).

ومن ذلك ما رواه أبو داود في " سننه "(3) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المسألة، إلَاّ أن يسأل الرجل ذا سلطانٍ، فهذا عامٌّ في سلاطينِ العدلِ

(1) الترمذي (614) و (2259)، وأخرجه أيضاً النسائي 7/ 160، وصححه ابن حبان (279) و (282) - (285)، والحاكم 1/ 79، ووافقه الذهبي.

(2)

هو في " مصنف عبد الرزاق "(20719)، وأخرجه أحمد 3/ 321 و399، والبزار (1609)، وصححه الحاكم 3/ 479 و4/ 422، وابن حبان (1723)، وانظر تمام تخريجه فيه.

(3)

برقم (1639) من حديث سمرة، وأخرجه أحمد 5/ 19 و22، والترمذي (681)، والنسائي 5/ 100، وصححه ابن حبان (3389) و (3397).

ص: 200

والجَوْرِ، وليس يمكنه السؤال إلَاّ بضربٍ من المخالطة.

الوجه الثاني: العموم القرآني، وهو قول الله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [الممتحنة: 8 - 9]. فهذه الآية الكريمة تُخَصِّصُ العمومات (1) الواردة في هذا الباب، وتبيِّنُها.

وقد ذكر الزمخشري في " الكشاف "(2) أن المعنى: لا ينهاكم عن مبرَّة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولِّي هؤلاء. قال في " الكشاف ": وهذا رحمةٌ لهم لتشدُّدهم وحدهم في العداوة، حيث رخَّص لهم في صلة من لم يجاهر منهم (3) بقتال المؤمنين، وإخراجهم من ديارهم. انتهى.

فإذا كان هذا في صلة الكفار والبِرِّ بهم، فكيف في الوفادة عليهم، وأخذ أموالهم (4)؟ فإنه ليس في ذلك شيءٌ من البر والإعانة لهم، بل هو في الحقيقة أذيَّة لهم، وتقليلٌ من أموالهم التي ينفقونها في السرف والمعاصي، فكيف في الوِفادة على ملوك المسلمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، مع الإجماع على جواز محبة العاصي لخَصْلَةِ خيرٍ فيه، ولا أعظم في خصال الخير مِنْ قول: لا إله إلَاّ الله محمد رسول الله، كما ثبت في الحديثِ الصحيح (5).

الحجة الثالثة: فعل يوسف عليه السلام مع عزيز مصر، وليس فيها إلَاّ أنه

(1) في (ش): " العموميات ".

(2)

4/ 91.

(3)

" منهم " ساقطة من (ف).

(4)

من قوله: " وإخراجهم من ديارهم " إلى هنا، سقط من (ش).

(5)

انظر 5/ 306 ت (2).

ص: 201

من شرع من قبلنا، وقد تقدم أن المنصور بالله وغيره من العلماء قالوا: إنه حجة إذا ذُكِرَ في كتابنا، وقد ثبت الدليل على صحة ذلك فيما تقدم، وليس ينبغي أن نعترض هذه الحجة بأن يوسف عليه السلام نبيٌّ، فإنه لو لم يكن نبياً، لم يحتج بذلك، فتأمَّل ذلك.

الحجة الرابعة: أن الأصل الإباحة، ولا دليل صحيح ينقُلنا عنه، ولنقتصر على هذا القدر في الاحتجاج على إباحة هذا الأمر، لا على استحبابه، فتركُه أفضلُ بلا ريب.

الحجة الخامسة: ما حكاه السيد عن القاضي والحاكم -وهما شيخا الاعتزال- من الاحتجاج على جواز ذلك بقوله تعالى: {فقولا له قولاً ليِّناً لعله يَتَذَكَّرُ أو يخشى} [طه: 44]، وقولهما: إن الظالم أولى بذلك من الكافر، وقد تقدم ذلك مستوفى في مسألة المتأولين، وتقدم بعضه قريباً في أوَّل هذه المسألة.

ويلحق بهذه الجملة تنبيهٌ عظيم النفع، وهو يشتمل على أمرين:

أحدهما: أن الحاجة إلى معرفة هذه المسألة عامة، فالكل مُبتلى بها، إلا النادر، فالأئمة مُبْتَلَوْن بها لمخالطتهم للفَسقة من الجُند والأعوان، ومن ليس من أهل الأمر، ومن لا يخالطهم، فهو مبتلى بمخالطة قُطَّاع الصلاة من العامة، ولكثيرٍ من أهل المعاصي، أما الكبائر أو الملتبسة كالغيبة ونحوها، ولا يكاد الإنسان يسلم من مخالطة من هذه صفته من جيرانه وأهله وأعوانه على الدنيا، بل قد تكون الزوجة والولد كذلك، وأمثال هذا كثير.

الأمر الثاني: أن مُنتهى ما في الباب أن يقوم عند بعض أهل المعرفة دليلٌ على تحريم المخالطة للملوك من غير فعل حرام، لكن هذا لا يقتضي جرح من فعل ذلك. لأن هذه مسألة ظنية، والدليل فيها من كلا الجانبين غير قاطعٍ، فالمعتقد لتحريم ذلك يلزمه (1) المخالطة للملوك من غير اجتنابه، ولا يحل له

(1) من قوله: " فعل حرام " إلى هنا، ساقط من (ش).

ص: 202