الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن عُبيد الله (1) بن الخيار، عن رجل من الأنصار حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس يُسَارُّهُ يستأذنه (2) في قتل رجلٍ من المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:" أوليس يشهد أن لا إله إلَاّ الله "؟ قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له، فقال:" أليس يشهد أن محمداً رسول الله "؟ فقال: بلى، ولا شهادة له، فقال:" أليس يصلي "؟ قال: بلى، ولا صلاة له، فقال:" أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ". رواه أحمد والشافعي في " مسنديهما "(3).
ولهذا شواهد في " السنة " كثيرةٌ، لا حاجة إلى التطويل ببسطها، وهو قول الإمام أحمد بن عيسى بن زيدٍ عليهما السلام، نصَّ عليه كما سيأتي بيانه، وعَضَّدَ هذا من الأثر أن خوف الخطر من العقوبة، وأن
الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة
(4)، وأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام تمكن من جماعة ممن حاربه في صِفِّين والجمل وغيرهما، فلم يَسِرْ فيهم سيرة الكفار بإجماع النقلة وإجماع العترة والأمة، فدل على أنه لم يعتقد نفاقهم، وأنه لو اعتقد ظاهر الحديث:" أنه لا يبغضه إلَاّ منافق "(5)، والنفاق الأكبر فمن حاربه أنه يبغضه. وأنه منافقٌ مُظهرٌ للنفاق الذي هو بغضه عليه السلام، ومظهر النِّفاق يجب أن يُسار فيه سيرة الكفار، لا سيرة البغاة، لقوله تعالى:{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} [التوبة: 73]، وقد علم منه المنع من السَّبي وتعظيم عائشة عند القدرة، وكذلك عمار، وكذلك عمل الحسين بن علي في صلحه (6) وحديث الثناء عليه بذلك مع صحته وشهرته، إلَاّ أن يقال: البغض لا يعلم من المحارب، وهذا مردود، فإنه أكثر من البغض، وفي الصحيح: "سباب المسلم
(1) تحرف في (ش) و (ف) إلى: " عبد الله ".
(2)
في (ف): فاستأذنه.
(3)
الشافعي 1/ 13 - 14، وأحمد 5/ 432 و433، وأخرجه مالك في " الموطأ " 1/ 171، وصححه ابن حبان (5971)، والحافظ في " الإصابة " 2/ 337.
(4)
انظر ص 20 ت (4).
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
في (ش): " مصالحة معاوية ".
فسوقٌ، وقتاله كفرٌ" (1)، والسِّباب من أمارات البغض بالاتفاق، والحرب أعظم منه.
أو يقال: إن محاربه منافقٌ مستور، لا يجب الحكم بنفاقه، فهذا -على تسليمه- يعود حجةً للخصم، ثم إن أهل البيت قبلوا رواية المتأولين ممن حاربه كالخوارج (2)، وادَّعَوُا الإجماع على ذلك، كما ذكره المنصور بالله، وقد تقدم أول الكتاب مبسوطاً، وليس هذا حكم المنافقين، فيمكن أن يكون هو في ذلك العصر، كمُبغضِ الأنصار من المنافقين، ويمكن أن يكون نفاقٌ دون نفاق، كما قد صحَّ كفرٌ دون كفر، وإيمانٌ دون إيمانٍ بالنصوص والاتفاق في بعضها مثل كفر النساء، أي: كفر العشير (3)، ويؤيده أنه قد ثبت أن من كان إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، فهو منافقٌ كامل النِّفاق (4)، ومع ذلك (5) لم يحكم له بالنِّفاق الأكبر، مع تأكيد نفاقه بالكمال، ويوضحه (6) أنه نفاقٌ يتجزّأ، والنِّفاق الأكبر لا يتجزّأ، ويوجب التأويل مع ذلك من العقل أنا نعلم من القرائن الضرورية أن الخوارج ما كانوا بأجمعهم يُضمرون تكذيبَ النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيب المعاد وصحة الشِّرك ونحو ذلك، ويقوِّيه أنه قد ثبت تأويل صدر (7) الحديث الأول، وهو أنه لا يحبه إلَاّ مؤمن، فإن الذين عبدوه وأشركوا بالله في ذلك كانوا يحبونه بالضرورة، وقد كفَّرهم وحرَّقهم بالنار، وكذلك من يحبه من الكفرة كالباطنية.
فإن قيل لعله يختم لهم بخير.
قلنا: ليس الكافر يُسمى مؤمناً إذا كان يُختَمُ له بخير، والذين قتلهم عليٌّ عليه السلام وحرَّقهم على عبادته لم يُختم لهم بخيرٍ، وليس تأويل الحديث
(1) تقدم غير مرة.
(2)
في (ش): " من الخوارج ".
(3)
انظر 2/ 162 و4/ 199.
(4)
انظر ص 111 من هذا الجزء.
(5)
في (ف): " ولذلك ".
(6)
في (ف): " ويؤيده ".
(7)
في (ش): " شطر ".
بأبعد (1) من ارتكاب القطع بأن ملاحدة الباطنية يُختم لجميعهم بالخير، أو ينكر المعلوم مِنْ تعظيمهم له وحبِّهم، والقرائن شاهدةٌ بذلك، والحكم للظاهر، فهذه أدلة أهل السنة أو بعضها من الأثر.
قالوا: وما المانع من تأويل علي ما يوافق تعظيمه عليه السلام وسائر أفعاله، وقد وجب تأويل كثيرٍ من كتاب الله وسنة رسوله فإجماع العترة والأربعة مع الإنصاف، وتعظيمه عليه السلام، وعدم الميل والجَنَفِ، ومراقبة الله في ذلك كله. وبعد ذلك من النظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة فيما حكم به على بعض من تقدم من النفاق ونحوه، وإن لم يُسند ذلك إلى الوحي، فلا شك أنه معصومٌ فيما فعله، وإن استند إلى الاجتهاد، وعند الفريق الأول أن امتناعه من إجراء أحكام المنافقين في حديث أبي سعيدٍ ونحوه إنما هو لمصالح ظاهرةٍ، كقوله في الملاعنة:" لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن "(2)، وقالوا: ليس ذلك بنافع لهم، كما أنه صلى صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلولٍ لمصلحةٍ، واستغفر له، وإن لم يكن ذلك نافعاً له (3).
ومن أحسن ما احتج به أهلُ السنة في كراهة سبِّ الفجرة، مع اعتقاد فجورهم، أحاديث النهي عن سبِّ الموتى، فإنهم قد أفضوا إلى ما عملوا (4)، لأنها خاصة، لم تُعارَضْ إلَاّ بالعمومات، ولكن معناها في أهل الفجور، وإن سلّم أنها تعمُّ أنهم قد وقعوا في اللعنة والعذاب، فلا معنى لسؤال ذلك، لأنه بمنزلة تحصيل الحاصل، فكان كقول القائل:
وهذا دعاء لو سكتُّ كُفيتُه
…
لأنِّي سألتُ الله ما هو فاعلُ
(1) في (ف): " بأعظم ".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر " البخاري "(1366) و (4671)، و" أحمد " 1/ 16، و" الترمذي "(3097)، و" النسائي " 4/ 67 - 68، و" ابن حبان "(3176).
(4)
انظر 5/ 305.
فعلى العالم بأحوالهم أن يعتقد أن سكوته عن لعنهم لهذه العلَّة، لا لأجل الحرمة، ولكن لما وقعوا في المطلوب باللعن لم نطلب الحاصل، الذي اللَّعن وسيلةٌ إليه، كما أنهم لا يقاتلون بعد موتهم، لأنَّ القتال دفعٌ لشرورهم، وقد بطلت، وبقي في اللعن لهم مفاسد في بعض الأزمان والأحوال خالية عن المصالح، وهي أذى الأحياء، كما أشارت إليه الأحاديث أو غير ذلك.
والقصد بالتطويل في هذا الإصلاح بين الفريقين: الشيعة والسنة، الذين قد اتفقوا على قبح أفعال هؤلاء الفجرة، فإنها قد تقع بينهم عصبيةٌ قبيحةٌ من غير موجبٍ أو بين بعضهم.
والمراد أن الشيعي يحمل من خالفه في الولع بالسَّبِّ الكثير لهؤلاء على ما يحمل عليه إبراهيم الخليل، حيث جادل عن قوم لوطٍ الذين لا أخبث منهم مع الكفر العظيبم، وتكذيب الرسل، فما منع ذلك الخليل من الجدال عنهم، حِلماً ورحمةً ورقةً (1) وسعة رجاءٍ في عظيم رحمة الله سبحانه وتعالى، لا محبة (2) لما هم عليه من الخبائث، ولذلك مدحه الله على ذلك بقوله:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيب} [هود: 75]، وعلى ما يحمل عليه النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على ابن أبي بن سلول واستغفاره له، ويحمل السُّنِّي الشِّيعي حين يرى ولعه بسبِّهم (3) على أنه غضب لله، وحمله على ذلك البغض في الله الذي هو من الإيمان، كما بوَّب عليه البخاري في كتاب الإيمان من " الصحيح "(4). وعلى ذلك دعا نوحٌ على قومه، فقال:{ولا تَزِدِ الظالمين إلَاّ ضَلالا} [نوح: 24]، وقال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ، إلى قوله:{وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 26 - 28]، وعلى ما حملوا عليه عمر بن الخطاب في قوله لحاطبٍ
(1) في (ش): " ورأفة ".
(2)
في (ش): " محبته ".
(3)
في (ش): " لسبهم ".
(4)
كتاب الإيمان، الباب الأول. انظر " الفتح " 1/ 45.
وأسيد بن حضير في قوله لسعد بن عبادة، والحسن البصري في قوله بنفاق صاحب الكبيرة.
ولاختلاف المسلمين والصالحين (1) في هذه الطبيعة أثرٌ عظيمٌ مرجِّحٌ لمن غلب عليه ما وافق طبع صاحبه من الأدلة وصاحبه لا يشعر بأنه المرجح لذلك، ومن هنا اختلف الحسن بن علي عليهما السلام وأصحابه أو أكثرهم في استحسان صُلْحِهِ لمعاوية، حتى دعوه -حاشاه- مسوِّدَ وجوه المسلمين، ومُذِلَّ رقاب المؤمنين، كما هو معروفٌ في كتب التاريخ، ومن هنا كره كثيرٌ من الصحابة صُلح الحديبية، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه -على جلالته-: ما شككت في الإسلام إلَاّ يومئذ (2). ثبت ذلك عنه في " الصحيح ".
فليحذر العارف مثل ذلك أعني أن يظن ما ثبث في قلبه من قوة الأمن
(1)" والصالحين " لم ترد في (ف).
(2)
هذه الجملة قطعة من حديث مطول أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "(9720) عن معمر، عن الزهري، عن عروه بن الزبير، عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم.
وأخرجه ابن حبان في " صحيحه "(4872) والبيهقي في " دلائل النبوة " 4/ 99 - 8 - 1 من طريق عبد الرزاق بهذا الإسناد.
وأخرجه البخاري (2731) و (2732)، وأحمد 328، والبيهقي في " السنن " 9/ 218 - 221 من طريق عبد الرزاق به. لكن لم ترد عندهم هذه الجملة.
قلت: قال السهيلي في " الروض الأنف " 4/ 37 تعليقاً على قول عمر هذا: وفي هذا أن المؤمن قد يَشُكُّ، ثم يُجَدِّدُ النظر في دلائل الحق، فيذهب شَكُّه، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: هو شيء لا يسلم منه أحد، ثم ذكر ابن عباس قول إبراهيم عليه السلام:{ولكن ليطمئن قلبي} والشك الذي ذكره عمر وابن عباس: ما لا يُصِرُّ عليه صاحبه، وإنما هو من باب الوسوسة التي قال عليه السلام مخبراً عن إبليس: الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة.
قلت: وفي رواية ابن إسحاق كما في " سيرة ابن هشام " 3/ 331: فكان عمر يقول: ما زلت أتصدَّق وأصوم وأصلي وأعتِقُ من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيراً.
شريعة، وإنما هو طبيعة، ومِنْ أعجبِه وأوضحِه قضيَّة موسى والخضر، ولاختلاف الناس في ذلك قال علي عليه السلام: لا تحدثوا الناس بما لا تحتمله عقولهم، أتحبُّون أن يكذب الله ورسوله؟! رواه البخاري (1).
ولا آمَنُ أن يكون في كتابي هذا شيء من هذا بالنسبة إلى بعض الناس، فالله المستعان.
وفي حديث عبد الله بن مسعود وقد حكى اختلاف الصحابة في يوم بدرٍ فيما يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لَيُلِينَ قلوب رجالٍ فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليُشَدِّدُ قلوب رجالٍ فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال:{وَمَنْ عَصَانِي فإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 26]، وكمثل عيسى قال:{وإن تغفر لهم فإنك أنت العزير الحكيم} [المائدة: 118]، وإن مَثَلَكَ يا عمر كمثل نوحٍ قال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وكمثل موسى قال:{ربنا اطمس على أموالهم واشدُدْ على قلوبهم}
…
الآية إلى: {العذاب الأليم} [يونس: 88]، وهو من حديث ولده أبي عُبيدة رواه أحمد (2)، وهو الحديث العشرون من " جامع المسانيد ".
وكذلك حربُ علي وصلح الحسن عليهما السلام وعلي أفضل من الحسن (3) بالإجماع، وقد صح الخبر بالثناء على فعل الحسن بالسِّيادة في فعله، وقد سُئِلْتُ عنه، فوقع لي -والله أعلم- أنه يحتمل أن فعل كل واحدٍ منهما
(1) تقدم تخريجه 3/ 350.
(2)
أحمد 1/ 383 - 384، ورواه أبو يعلى (5187)، والطبراني في " الكبير "(10258)، وصححه الحاكم 3/ 21 - 22، ووافقه الذهبي! مع أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه. وذكره الهيثمي في " المجمع " 6/ 86، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وفيه أبو عبيدة، ولم يسمع من أبيه، ولكن رجاله ثقات.
(3)
" من الحسن " ساقطة من (ش).
كان هو الأولى بالنظر إلى زمانه، ومراد الله تعالى في عقوبة من عاقبه بذلك أو رحمه، على أنها لا تخلو العقوبة من الرحمة، كالحدود، كما تقدم في الحدود عن علي عليه السلام وعن عبادة، وكذلك قد اختلف طرائق السلف ومن بعدهم، خرَّج أبو داود في ذلك حديث عمرو بن أبي قرة، قال: كان حذيفة بالمدائن، وكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق أناس ممن سمع (1) ذلك من حذيفة، فيأتون سلمان، فيذكرون له ذلك، فيقول: حذيفة أعلم بما يقول، وأتى حذيفة سلمان، فقال: ما يمنعك أن تصدقني؟ فقال سلمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب، فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى، فيقول في الرضا لناسٍ من أصحابه، ثم قال لحذيفة: أما تنتهي حتى توقع اختلافاً وفُرقةً، ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب، فقال:" أيُّما رجل من أُمتي سببته سبةً أو لعنته لعنةً في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم، أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة ". والله لتنتهينَّ أو لأكتُبَنَّ إلى عمر. رواه أبو داود وخرجه ابن الأثير في " الفتن "(2)، ورجاله ثقات، رواه في السنة (3)، عن أحمد بن يونس، عن زائدة بن قدامة الثقفي، عن عمر بن قيسٍ بن الماصر، عن عمرو بن أبي قرة، عن سلمان -واسم أبي قرة سلمة- (4).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: " أيُّما رجلٍ من أمتي سببته
…
" .. إلى آخر الحديث شواهد كثيرةٌ عن أبي هريرة وجابرٍ وأنسٍ وعائشة وقد تقدم الكلام عليها (5).
وهذا كالتفسير لما رواه ضمرة بن حبيبٍ، عن زيد بن ثابتٍ، عن رسول الله
(1) في (ش): " يسمع ".
(2)
من " جامع الأصول " 10/ 60.
(3)
تحرف في (ش) إلى: " السند ".
(4)
أبو داود (4659)، وسنده قوي، ورواه أيضاً أحمد 5/ 437، والطبراني (6156).
من طريقين عن زائدة بن قدامة بهذا الإسناد.
(5)
انظر ص 91 و92 من هذا الجزء.
- صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث طويل: " اللهم ما صليتُ من صلاة فعلى من صلَّيتُ، وما لعنت من لعنةٍ، فعلى من لعنت، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفَّني مسلماً وألحقني بالصَّالحين ". رواه أحمد والحاكم في " المستدرك "(1).
والمراد أن لا يتيع كل أحدٍ عورة أخيه ويحمله على شرِّ المحامل، فإن هذا هو الذي أفسد الدين والدنيا، فالله المستعان.
وإنما يجب منهم الجميع التأثيم لمن حسَّن ما فعله يزيد (2) وأمثاله ورضي بذلك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ومن أنكر فعله بقلبه، فقد سَلِمَ، ولكن من رضي وتابع "(3).
فأمَّا حين أجمعوا على فجور يزيد وفُسوقه وخروجه عن ولاية الله إلى عداوته، وإنما اختلف اختيارهم (4) في الاستكثار (5) من لعنه لغرضٍ صحيحٍ، فإنه صار مثل إجماعهم على أن الصلاة خير موضوعٍ وإنِ اختلفوا في الاستكثار (5) منها، فهذا شيءٌ لا يصلح أن يُفرِّق الكلمة، وقد نهى الله سبحانه عن التفرق في كتابه الكريم، فوجب بذل الجهد والتَّوسُّل إلى عدمه بكلِّ
(1) أحمد 5/ 191، والحاكم 1/ 516 - 517، والطبراني في " الكبير "(5803) و (4932). وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: أبو بكر (يعني ابن أبي مريم الغساني) ضعيف، فأين الصحة؟! وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 113، وقال: رواه أحمد والطبراني، وأحد إسنادي الطبراني رجاله وثقوا، وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف. قلت: وفي الإسناد الآخر عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف أيضاً لسوء حفظه.
(2)
في (ش): " فعل يزيد ".
(3)
رواه أحمد 6/ 295 و302 و305 و321، ومسلم (1854)، وأبو داود (2266) و (4760) من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع "، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا، ما صلُّوا ".
(4)
في (ش): اختبارهم، وهو خطأ.
(5)
تحرف في (ش) إلى: " الاستنكار ".
ممكنٍ، ولذلك صنَّف محمد بن منصورٍ الكوفي في ذلك كتاب " الجملة والأُلفة "، ونقل فيه من أقاويل أهل (1) البيت عليهم السلام ما يكفي ويشفي، كما قررته في هذا الكتاب في مسألة القرآن من الكلام على مذهب أهل السنة في الصفات وسائر الاعتقاد (2).
فتقرر بما ذكرنا عن الفريقين أن يزيد لا يُطلق عليه اسم الإيمان الشريف من غير تقييدٍ عند أحدٍ من الفريقين، ولا يدخل فيما يختصُّ به أهل الإيمان على سبيل التشريف لهم من التَّرحُّم والاستغفار الذي خُتِمَت به الصلاة، ويؤيد ذلك قولُه تعالى في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ويؤمِنُ للمؤمنين} [التوبة: 61]. أي: يُصدِّقهم، ويقبل روايتهم، وهذا يفيدُ توثيقهم وعدالتهم، ويزيد مجروح العدالة إجماعاً أما عند (3) الشيعة والمعتزلة فظاهرٌ، وأما عند أهل الحديث، فنصَّ على ذلك أئمتهم، كالشافعي ومالكٍ وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة كما قدمنا إسناد ذلك عنهم إلى العلامة الفقيه المحدِّث علي بن محمد الملقب عماد الدين كما أورده ابن خلِّكان في " تاريخه " المشهور في ترجمته، وكذلك ذكر ما يقتضي ذلك المتأخِّرون منهم، كالخطابي وأبي محمد بن حزم وابن دِحية، ونص عليه الذهبي الشافعي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " الذي هو عمدتهم اليوم في نقد الرِّجال.
ومما يدلُّ على ذلك أن من كان مؤمناً على الإطلاق، لم يَجُزْ لعنه ولا قتله ولا إهانته ولا أذاه، وأهل الفسوق والكبائر يجوز على بعضهم جميع ذلك، ويجوز على بعضهم بعض ذلك وقد تقدم دليل (4) جواز لعنهم وبقية هذه الأحكام تجوز عليهم في بعض المواضع بالإجماع، فلا حاجة إلى التطويل بذكر الحجة (5) على ذلك.
(1) في (د) و (ف): " ونقل فيه عن أهل البيت
…
".
(2)
هنا بياض في النسخ الثلاثة بمقدار أربعة أسطر.
(3)
" عند " ساقطة من (د) و (ش).
(4)
" دليل " ساقطة من (ش).
(5)
في (ش): " في الحجة ".
الوجه الثاني: إن دخول يزيد في عموم قوله تعالى: {ألا لَعْنَةُ الله على الظالمين} [هود: 18] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله من أحدث حدثاً ومن آوى محدثاً "(1). وفيما رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم: " لعن الله المتسلِّطَ بالجبروت ليُعِزَّ من أذل الله ويذلَّ من أعز الله، لعن الله المستحل ما حرَّم الله من عترتي "(2) أقرب من دخوله في قول المصلين: اللهم اغفر للمؤمنين أو مساوٍ له، فكيف يجوز القطع بخروجه عن لعن الظالمين ودخوله في الاستغفار للمؤمنين؟ فما أبعدها لمن تأمل غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من عصى الله تعالى دون معاصي يزيد مثل غضبه على من وسم وجه الحمار حتَّى لعنه، ولعن الواشِمَة والنَّامِصَةَ، ومن أمَّ قوماً وهم له كارهون، ومن آوى محدثاً ونحوهم.
الوجه الثالث: أن الدعاء المشروع في الصلوات يحتمل أنه دعاء تشريفٍ وتعظيم، وهو نظير الدُّعاء للخلفاء الراشدين على المنابر، والفاسق لا يستحق ذلك، فكما أنه لا يحسُن ذكر الجبابرة من سُفَّاك دماء المسلمين مع الخلفاء الراشدين بالترحم والاستغفار، فكذلك لا يحسُنُ ذكر الفُجَّار والفُسَّاق بذلك في الصلاة عقيب ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر آله وأزواجه وذرياته وإبراهيم خليله وآله صلوات الله عليهم أجمعين.
وقد ذكر الفقهاء هذا في كراهة الصلاة والسلام على غير الأنبياء من المؤمنين كما ذكر النووي في " الأذكار "(3). وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى وحشي قاتل عمه حمزة بعد إسلام وحشي، وقال له:" إن استطعتَ أن لا أراك "(4)، فهذا في حقِّ التائب من قتل عمِّه، كيف المصر على قتل ولده؟
فإن قلت: ويحتمل أنه دعاءُ رحمةٍ لعصاة المسلمين وشفاعةٍ وإغاثةٍ.
(1) صحيح، تقدم تخريجه ص 89 من هذا الجزء.
(2)
تقدم تخريجه 6/ 467.
(3)
ص 195.
(4)
قطعة من حديث مطول أخرجه أحمد 3/ 501، والبخاري (4072)، وابن حبان (7017)، وانظر تمام تخريجه فيه.
قلت: مع احتمال الوجهين، يمتنع القطع بتعيُّنِ أحدهما دون الآخر فيمتنع القطع بإرادة يزيد وجميع النواصب والروافض وأمثالهم وقصدهم شرع ذلك، والله أعلم، بل في " الصحيح " ما يدل على أنه دعاء تشريفٍ، وذلك ما ثبت في حديث ابن مسعودٍ المتفق على صحته، وفيه: وذكر عند قوله وعلى عباد الله الصالحين: فإنكم إذا فعلتم ذلك، فقد سلَّمتم على كل عبدٍ لله صالحٍ في السماء والأرض " (1)، فاختياره في التَّشهُّد لتعيين الصالحين بالذكر ونصه عليهم بوصفهم المميِّز لهم عمَّن هو أحوج منهم إلى ذلك من المذنبين من أهلِ الإسلام، دليلٌ إلى ذلك.
ويشبهُه قول الملائكة عليهم السلام مما (2) حكى الله عنهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} الآية [غافر: 7].
فإن قلت: الاستغفار لأهل المعاصي من المسلمين جائزٌ عند أهل السنة، فَلِمَ منعت من دخول أهل المعاصي في قول المصلي؟
قلت: لما بينته من تجويز أنه موضع تشريفٍ وتعظيمٍ للمذكور فيه مقروناً برسول الله صلى الله عليه وسلم وذريته، فلا يقطع أن يكون هذا المشرَّف المعظَّم هو المُحْدِثُ الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:" لعن الله من أحدث حدثاً " وأمثاله مما مضى ذكره، وأما الاستغفار للعُصاة على غير هذا الوجه، فيجوز عند أهل الحديث والفقهاء، ولا يجوز عند بعض الشيعة والمعتزلة.
وذكر الحجج في المسألة مما لم تَعرِض إليه حاجةٌ هنا، ويوضِّح ذلك ما رواه مسلم وأبو داود عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه في قصة رجم ماعزٍ لما أقرَّ بالزِّنى فِراراً من غضب الله، وطلباً لمرضاته ببذل الرُّوح، وفي الحديث
(1) أخرجه أحمد 1/ 431، والبخاري (831) و (835)، ومسلم (402)، وابن حبان (1948) و (1950)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
في (ف): " كما ".
مع هذه التوبة العظيمة، فما استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سبَّه. هذه رواية مسلم، وفي رواية لأبي داود: ذهبوا يسبُّونه، فنهاهم، قال: ذهبوا يستغفرون له فنهاهم، قال:" هو رجلٌ أصاب حسيبُه الله "(1).
فانظر كيف نهى عن الاستغفار لهذا الرجل مع بذله روحه لصدق توبته، كل هذا لزجر الخلق عن المعاصي، ولذلك خرَّج مسلم في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم خطب بعد رجمه، وقال في خطبته:" أو كُلَّما انطلقنا غُزاةً في سبيل الله تخلَّف رجلٌ في عيالنا له نبيبٌ كنبيب التَّيس؟ ألا لا أُوتى برجُلٍ فعل ذلك إلا نَكَّلْتُ به " فكيف يقال بعد هذا: إنه في صلاته مشغولٌ بالاستغفار للمُصِرِّين على الفواحش؟ وهذا إغراءٌ لأهل الفواحش وتأنيسٌ لهم، وهو يناقض ما وردت به الشرائع من قطع الذرائع إلى الفساد والله أعلم.
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك الصلاة على من عليه دينٌ، ولم يترك له قضاء، وذلك (2) لما في الصلاة عليه من الاستغفار له والإيناس، هذا مع أنه أخذ مال الغير برضاه، فكيف بدماء المسلمين ونفوسهم عمداً وعبثاً وجُرأةً؟ وأحاديث الدَّيْنِ صحيحةٌ شهيرةٌ، منها: عن أبي هريرة وخرجاه والترمذي والنسائي (3).
وعن سلمة بن الأكوع عند البخاري والنسائي (4)، وعن أبي قتادة عند الترمذي والنسائي (5).
(1) انظر 1/ 260.
(2)
" وذلك " ساقطة من (ف).
(3)
البخاري (5371) و (6731)، ومسلم (1619)، والترمذي (1070)، والنسائي 4/ 66، ورواه أحمد 2/ 453، وابن حبان (3063)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(4)
البخاري (2289) و (2295)، والنسائي 4/ 65، ورواه أيضاً أحمد 4/ 47 و50، وابن حبان (3264).
(5)
الترمذي (1069)، والنسائي 4/ 65، وابن ماجه (2407)، وأحمد 5/ 297 و311، وصححه ابن حبان (3058) - (3060).
وكذلك حديث الثلاثة المخلَّفين، وهو متفق عليه (1) وهذا كلُّه لما في التخويف قبل الموت وخطوره من المصلحة، وأما ما خرَّجه البخاري من حديث أبي هريرة، والنسائي وأحمد من حديث عمران بن حذيفة عن ميمونة (2)، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن من أخذ أموال الناس يريد قضاءها، أدَّى الله عنه "(3).
وزادت ميمونة " في الدنيا والآخرة، ومات على ذلك ".
وأما ما خرج مسلم وأبو داود من حديث بريدة عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالصلاة على العامرية، وقال:" لقد تابت توبة لو تابها صاحِبُ مَكْسٍ، لغُفِرَ له "(4).
وكذلك أخرج مسلم وأبو داود حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم جلس بعد يومين أو ثلاثة، فقال:" استغفروا لماعزٍ، لقد تاب توبةً لو قسمت بين أُمتي لوسِعَتْهُم "(5).
فهذا حجة لما ذكرت (6) أنه استغفارٌ شريفٌ، لأن التائب المخلص مغفورٌ له فصحَّ أنه لا يُستحبُّ الاستغفار لأهل الإصرار المغصوب عليهم، خصوصاً ظلمة المسلمين وقاتلي الصالحين.
الوجه الرابع: أنهم لو كانوا داخلين في ذلك العموم، لَحَسُن ذكرُهم بالنَّصِّ على أسمائهم وأوصافهم، إمَّا في الصلاة، أو عقيب كل صلاةٍ، وكان يلزم أو يُستحبُّ للإنسان أن يترحَّم ويُرَضِّي في كل صلاةٍ أو عقيب كلِّ صلاة على قاتل عمر وقاتل عثمان وعلى من لعن أبا بكر وعمر من الروافض، وعلى جميع سَفَلَةِ
(1) انظر البخاري (4418)، ومسلماً (2769)، وابن حبان (3370).
(2)
في الأصول: وأما ما أخرجه البخاري من حديث عمران بن حذيفة، والنسائي وأحمد من حديث ميمونة، وهو خطأ.
(3)
أخرجه البخاري (2387)، وحديث ميمونة أخرجه أحمد 6/ 32، والنسائي 7/ 315، وكذا أخرجه ابن ماجه (2408)، وابن حبان (5041).
(4)
تقدم تخريجه 1/ 260.
(5)
تقدم تخريجه 1/ 260.
(6)
في (ش): " على ما ".
العُصاةِ من الفاعلين والمفعول بهم المتشبهين (1) بالنساء الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَقْرُنَهُمْ بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويُسميهم بأوصافهم الخبيثة، ويذكرهم في الصلوات والخطب والمجامع الشريفة، فيقول القائل في الصلاة أو خطيب (2) الجمعة: اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل محمد وعلى من قال لا إله إلَاّ الله ممن أحدث حدثاً، أو آوى محدثاً أو غيَّر منار الأرض، أو لعن والديه، أو تشبَّه بالنساء، وأُتي كما تُؤتى النِّساء، أو قتل وليّاً لك، أو انتهك محارمك، وتعدَّى حُدودَك، وضيَّع عُهودك، ويستمرُّ على ذلك وعلى التَّرحُّم على من سبَّ (3) الصديق والفاروق رضي الله عنهما، والمعلوم أن ذلك قبيحٌ، لأنهم ليسوا أهلاً لاستحقاق ذلك، ولِما يؤدِّي إليه من التُّهمة بالرفض، فكذلك الترحم على قاتلِ عليٍّ عليه السلام، وقاتل الحسين وسابِّهما قبيح لمثل ذلك.
الوجه الخامس: أنه لا يجوز أن يلعن والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كلِّ صلاةٍ، ولا كل خُطبة، ولا في بعض الأحوال، لما في ذلك من سُوء الأدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لا يجوز أن يُؤذي مؤمنٌ بمثل ذلك في والديه، وإن علم موتهما كافرين، لأن أذيَّة المؤمن حرامٌ، فكذلك لا يجوزُ أن يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ومحبُّوهم (4) من صالحي المؤمنين بالترحم على يزيد، وإن فرضنا أن الترحم على الفُسَّاق جائزٌ، ولو أن بعض الجبارين قتل ولدَ بعض المومنين عدواناً، وكان الترحم على القاتل يؤذي ذلك المؤمن لَحَرُمَ أذاه بذلك، فتأمل ذلك.
وحاصله أن المُباح قد يقبح لما يقترن به من المفاسد، ولذلك قال الله تعالى:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، ومعناهما واحد، وأمثالُ ذلك كثيرةٌ، فهذا في حقِّ من يستبيحُ ذلك، فكيف بذلك في حقِّ مَنْ لا يستبيحه؟
(1) في (ش): " من المتشبهين ".
(2)
في (ف): " أو في خطبة الجمعة ".
(3)
في (ش): " يسب ".
(4)
في (ف): " ومحبيهم "، وهو خطأ.
الوجه السادس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان حياً، لعظُم حزنُه على ولده (1) الحسين عليه السلام، كما عَظُمَ حزنه على عمه الحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فكره النظر إلى وجه قاتله بعد إسلامه من بين سائر من أسلم من الكفار، وقال:" لكنَّ الحمزة لا بَواكِيَ له "، فبكته نساء الأنصار (2)، بل الشفقة على الولد أعظم، والقلب له أرق وأرحم، والمعلوم أنه لو حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان العزاء في الحسين عليه السلام إليه، فانظر أيها المنصف: هل يحسن من المُعزِّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشتغل بالترحم والاستغفار لقاتل الحسين مواجهاً بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كان يستحسن هذا في الأدب أو الشرع أو العقل، فليس من المميزين، ومن كان يستقبح ذلك، فليتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته كما يتأدب معه في حياته، ويتصوَّر أنه في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضرة يزيد الخبيث، ورأس الحسين مقوَّرٌ مشوَّهٌ منصوبٌ على عُودٍ، ويزيد يضحك ويستبشر، فكيف يستطيع مسلم في هذه (3) الحال أن يواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالترحم والترضية على يزيد، وهي حالة غضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين:
أحدهما: لِمَا فيها من عظم عصيان الله بقتل سيد شباب أهل ولايته في جنته.
وثانيهما: لما فيها من الاستهانة برسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعدِّي على ولده وريحانته، فكيف يقول بعد هذا: إنه يُستحب أن يقرن في كلِّ صلاه بين ذكرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر ذريته الذين أوجب الله وُدَّهُم، وذكر أعدى عدو لله ورسوله، قاتل سلفه، وسلف سلفه، وثالم أمر أُمته بعد استقامته بنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)" ولده " ساقطة من (ف).
(2)
حديث حسن أخرجه أحمد 1/ 40 و84، وابن سعد 3/ 17، وابن ماجه (1591)، والحاكم 3/ 194 - 195 من طريق أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن ابن عمر، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وكذا صححه ابن كثير في " تاريخه " 4/ 49 على شرط مسلم، مع أن أسامة بن زيد روى له مسلم في الشواهد، وهو حسن الحديث.
(3)
في (ش): " هذا ".
ولقد توجَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم من يزيد قبل وجوده، وتأوَّه مِنْ قتلِه لِسلفِه كما ورد في الحديث (1).
رحم الله مسلماً غَضِبَ لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاركه في حزنه على ولده، ولَزِمَ الأدب بترك الترحم على عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الكلام انسحب على سبب ذكر مذاهب أهل الحديث في خلافة الجائر، وأنهم يقولون بجواز الخروج على مثل يزيد والحجاج، وإنما اختلفوا في الخروج على من تكون المفسدة في الخروج عليه أعظم من الفساد في ظلمه.
والكلام في يزيد في هذه المسألة لا يحتمل التطويل في أكثر الأزمان والبلدان، ولكن احتجت إليه في زماني ومكاني، ولن يخلو من فائدة إن شاء الله تعالى (2)، وبهذا تم الكلام في الفصل الثاني.
وقال الذهبي في " النبلاء "(3) في ترجمة زيد بن علي عليه السلام: خرج متأوِّلاً، وقتل شهيداً رحمه الله (4).
(1) انظر ص 35 و97 من هذا الجزء.
(2)
من قوله: " والكلام في يزيد " إلى هنا سقط من (ف).
(3)
5/ 391.
(4)
جاء في هامش الأصول الثلاثة ما نصه:
وفي " العبر "(1/ 118) للذهبي في سنة إحدى وعشرين ومئة: قتل زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهما السلام بالكوفة، وكان قد بايعه خلقٌ كثير، وحارب متولِّي العراق يوسف بن عمر، فظفر به يوسف، وبقي مصلوباً أربع سنين، ولما خرج أتاه طائفة كبيرة وقالوا: تبرّأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك. فقال: بل أتبرأ ممن تبرأ منهما، فقالوا: إذاً نرفضك.
فمن ذلك الوقت سُمُّوا الرافضة، وسميت شيعته الزيدية، روى عن أبيه وجماعة، وروى عنه شعبة.
قال الصفدي في " شرح لامية العجم " في تعداد المصلوبين: وزيد بن علي بن الحسين =
وقال في كتابه " الكاشف "(1): إن زيداً استشهد. فنص على (2) أنه شهيد، ولو كان باغياً عنده، لم يكن شهيداً، ويدلُّ على هذا أن الذهبي لم يذكره في " الميزان "، وقد شرط أن يذكر فيه كل من تكلَّم فيه ممَّن له روايةٌ بحقٍّ أو باطلٍ، لئلَاّ يُستدرك على كتابه (3).
قال (4): وما يضرُّ الثقات حكاية ما قيل فيهم، قال: وقد بني الكلام فيه على ترك المراهنة فلم يذكر فيه زيد بن علي مع أنه من رجال الترمذي وأبي داود وابن ماجه على أنه قلّ من يتكلم فيه بباطل حتى إنه ذكر أُويساً (5) القرني والثوري والصادق وأبا حنيفة (6) وابن معين وأمثالهم، وذكر ما قدح به فيهم، ولم يذكر زيداً ألبتة، وذكره بالتوثيق في كتاب " التذهيب "(7) في رجال الكتب الستة، وكذلك شيخه المزي (8) ذكر توثيقه، ولم يذكر فيه قدحاً.
= عليهما السلام، صلبه يوسف بن عمر في ولاية هشام، وبقي معلقاً أربعة أعوام، ثم أُنزل وأُحرق، لا حول ولا قوة إلَاّ بالله العلي العظيم. ويحيى بن زيد بن علي بن الحسين المذكور صلب في أيام الوليد بالجوزجان، ولم يزل مصلوباً حتى جاء أبو مسلم، فأنزله وواراه وصلى عليه، وأخذ كل من خرج إلى قتاله بعد أن تصفح الديوان، فقتل كل من كان في بعثه إلَاّ من أعجزه، وسود أهل خراسان ثيابهم إذ ذاك، فصار شعاراً لبني العباس، وأمر بإقامة المآتم عليه ببلخ، وقرؤوا سبعة أيام، وأناح عليه النساء، وكل من ولد في تلك السنة من الأولاد والأعيان سموه يحيى.
(1)
1/ 267.
(2)
" على " ساقطة من (ش).
(3)
انظر " ميزان الاعتدال " 1/ 2.
(4)
" الميزان " 1/ 3.
(5)
في الأصول: " أويس "، وهو خطأ.
(6)
ترجمة أبي حنيفة رحمه الله لا وجود لها في نسخ الميزان الموثوقة المتقنة التي قرئت على المؤلف أكثر من مرة، والترجمة التي في المطبوع منه مما دسَّه بعضُ الحاقدين على الإمام رحمه الله. انظر تفصيل ذلك في ما علّقه الشيخ العلامة المفضال عبد الفتاح أبو غدة على " الرفع والتكميل " ص 121 - 127، فإنه أوفى على الغاية.
(7)
254/ 1.
(8)
في " تهذيب الكمال " 10/ 95 - 96.
وقال الذهبي في " الميزان "(1) في ترجمة زياد بن أبيه قال ابن حبان في " الضعفاء "(2): ظاهر (3) أحواله المعصية، وقد أجمع أهل العلم على تركِ الاحتجاج بمن كان كذلك.
وفي " الحدائق "(4) في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن: أن قوماً جاؤوا على شُعبة، فسألوه عنه، فقال شعبة: يسألون عن إبراهيم ومن القيام معه لهو عندي بدر الصغرى، وروينا عنه رحمه الله أنه لما بلغه قتله، قال: لقد بكى أهل السماء على إبراهيم بن عبد الله عليه السلام، إن كان مِنَ الدِّين لبمكان. انتهى بحروفه.
وحُكِيَ عن أبي حنيفة أن غزوة معه بعد حجة الإسلام أفضل من خمسين حجة.
وقال الذهبي في ترجمة عبد الملك بن مروان من " الميزان "(5): أنَّى له العدالة وقد سفك الدماء، وفعل الأفاعيل.
وذكر الذهبي في " تذكرة الحفاظ "(6) في الطبقة الخامسة في مناقب ابن أبي ذئب، واسمه محمد بن عبد الرحمن أحد فقهاء المدينة، قال أحمد: هو أورعُ وأقومُ بالحق من مالك، دخل على المنصور فلم يمهله أن قال له الحق، وقال: الظلم ببابك فاشٍ، وأبو جعفر أبو جعفر!
(1) 2/ 86.
(2)
1/ 305.
(3)
ساقطة من (ف).
(4)
هو" الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية " لحميد بن أحمد بن محمد بن عبد الواحد المحلي الوادعي الهمداني المتوفى سنة 652، وانظر 3/ 288.
(5)
2/ 664.
(6)
1/ 192، وما بين حاصرتين منه.
قال أبو نعيم: حججتُ عام حج أبو جعفر ومعه ابن أبي ذئب ومالك، فدعا ابن أبي ذئبٍ، فأقعده معه على دارِ النَّدوة، فقال له: ما تقول في الحسن بن زيد -يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب- فقال: إنه ليتحرَّى العدل، فقال: ما تقول فيَّ؟ وأعاد عليه، فقال: وربِّ هذه البينة إنك لجائر. قال: فأخذ الربيع بلحيته فقال [له أبو جعفر]: يا ابن اللّخناء، كفَّ، وأمر له بثلاث مئة دينار.
ودخل المهدي مسجد المدينة وهو فيه، فلم يَقُمْ له، فقيل له، فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين. فقال المهدي: دعوه، فقد قامت كل شعرة في (1) رأسي.
وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد "(2): باب فتنة الوليد، ورُوِيَ عن عمر بن الخطاب، قال: وُلِدَ لأخي أُمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم غلامٌ، فسمَّوه الوليد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" سمَّيتُموه بأسماء فراعنتهم، لَيَكُونَنَّ في هذه الأمة رجلٌ يقال له: الوليد، لهو أشرُّ على هذه الأُمة من فرعون لقومه " رواه أحمد بن حنبل في " مسنده "، وقال الهيثمي الشافعي: رجاله ثقات (3).
(1) في (ش): " من ".
(2)
7/ 313.
(3)
حديث ضعيف، بعض الحفاظ وضعه، وقد تقدم تخريجه 3/ 216.
الفصل الثالث
إن السيد جَهِلَ موضع الخلاف بيننا وبين الفقهاء في هذه المسألة، فإن الفقهاء لم يخالفوا الزيدية في شروط الإمامة كلها إلَاّ في النسب، فمذهبهم فيه كمذهب المعتزلة، وإنما خالفوا في مسألةٍ ثانيةٍ تَعَلَّقُ بالنظر في المصالح بعد التسليم لتحريم نصب الفاسق إماماً، والقول بأنَّه إذا تغلَّب وصار إماماً بالسيف، فإنه عاصٍ لله تعالى، وغير خافٍ على من له أدنى تمييزٍ أن من أحلَّ شيئاً للضرورة، دلَّ اشتراطه الضرورة في جوازه على أنه حرامٌ عنده، ألَاّ ترى أن الجميع يُجيزون أكل الميتة عند الضرورة، بل كلمة الكفر، وليس في ذلك ما يُسَوِّغُ نسبة جواز الكفر وأكل الحرام إلى جميع أهل الإسلام، وقد قال الله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه} [الأنعام: 119]-أي: فلم يحرِّمه- فالفقهاء جَرَوْا على القياس في القول بإمامة الجائر عند الضرورة، وفي ذلك أعظم دلالة على تحريم إمامة الجائر عندهم، وأنا أذكرُ نصوصهم في شروط الإمامة، ثم أذكر محل الخلاف.
أمَّا نصوصهم على الشروط، فقال ابن عبد البر في " التمهيد " (1) ما لفظه:
وقد أجمع العلماء على أن الإمام يجب أن يكون أفضل أهلِ وقته حالاً، وأكملهم خِصالاً، إلى آخر كلامه في ذلك، ذكره في الكلام على حديث مالك عن (2) عبد ربه بن سعيد، عن عمرو بن شعيب (3)، وذكره صاحب " التَّنضيد " في باب الغلول.
(1) 20/ 39.
(2)
تحرف في (ش) إلى: " بن ".
(3)
انظر " الموطأ " 2/ 457 - 458.
وقال النواوي في " الروضة "(1) ما لفظه: شروط الإمامة أن يكون الإمامُ مكلَّفاً، مسلماً، عدلاً، حُرَّاً، ذكراً، عالماً، مجتهداً، شُجاعاً، ذا رأي وكفايةٍ، سميعاً بصيراً، ناطقاً قُرشيّاً، ومثله نصَّ عليه العمراني في " البيان "(2)، بل قال النواوي في " الروضة " (3) في كتاب الزكاة: يشترط في الساعي كونه مكلفاً، مسلماً، عدلاً، حراً، فقيهاً بأبواب الزكاة، إلى آخر كلامه في ذلك.
وقال القاضي عياض: لا تنعقِدُ الإمامة لفاسقٍ ابتداءٌ، حكاه عن القاضي عياض النفيس العلوي (4).
وهذا كما ترى في تحريم إمامة الفاسق، ولا أعلم أحداً من الفقهاء جوَّز الرضا بها، ولا رخَّص في الاختيار لها، وكل من طالع كتبهم الكبار بِحُسْنِ معرفةٍ وذكاءٍ وإنصافٍ، عرف ذلك، وقد أشار إلى ذلك الإمام المهدي لدين الله إبراهيم بن تاج الدِّين أحمد بن بدر الدِّين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي عليهم السلام (5)، في دعوته إلى الملك المظفّر، وفيها ما لفظه: هذا والجهابذة مِنْ أتباع الحبر العلاّمة محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه يقولون: إنه لا بُدَّ في الأُمَّة مِنْ قائمٍ بأمر الإسلام من حقِّه بعد المنصب أن يكون جامعاً للفضائل، منزّهاً عن الرذائل. انتهى كلامه عليه السلام، وهو أعدلُ شاهدٍ لهم، وأصدق مخبرٍ عنهم، لا سيَّما وقد صدر به إليهم، واحتجَّ به
(1) 10/ 42.
(2)
في فقه الشافعية، للإمام يحيى بن أبي الخير العمراني. انظر 2/ 127.
(3)
2/ 335.
(4)
وانظر " شرح مسلم " 12/ 229.
(5)
ترجمَهُ السيد إبراهيم بن القاسم المؤيد بالله في " طبقات علماء الزيدية " ورقة 4، فقال: دعا بعد موت عمِّه الحسن بن بدر الدين آخر سنة سبعين وست مئة
…
وبايعه علماء وقته، ولم يزل قائماً بأمر الله حتَّى أسره الملك المظفر يوم الجمعة نصف شهر جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وست مئة في أفق -بفتح الهمزة- من مغارب ذمار، ثم سجنه في تعز، ولم يزل به حتى توفي في صفر سنة ثلاث وثمانين وست مئة.
عليهم، فليس يروي عنهم مذهباً لهم، ويرسلُ به إليهم، وليس بصحيحٍ عنهم لِمَا في ذلك من التعرض (1) للتكذيب، والبغض في العاجلة والآجلة (2) وهذا واضحٌ ولله الحمدُ.
وأما بيان موضع الخلاف، فاعلم أن الفقهاء إنما تكلموا في موضعين:
الموضع الأول: قال الفقهاء (3): إذا تغلَّب الظالم، وغلب على الظن أن الإنكار يُؤدِّي إلى منكر أكبر مِنَ الذي أُنكِرَ عليه، لم يحلَّ الإنكار عليه، فلهذا منعوا من الخُروج على كثيرٍ من الظلمة لأجل ذلك، وهذا مما لا ينبغي أن يكون خلافُ إجماع العترة عليهم السلام، بل هذا هو المنصوص في كتبنا، وقد أشار المؤيد بالله في " الزيادات " إلى اختلاف أهل البيت في الخروج على الظلمة، فقال في مسائل الاجتهاد: وكذلك خروج الأئمة مثل زيد بن علي عليه السلام، كان رأيه أن الخروج أولى، وكان جعفر بن محمدٍ عليه السلام رأيه بخلاف ذلك، حتَّى كتب إليه بترك الخروج، ورأي الحسن بن علي تركه (4)، ورأي الحسين بن علي خلافه (5). انتهى بحروفه.
وهو يدلُّ على أنها اجتهاديةٌ عنده، ولذلك ذكرها في مسائل الاجتهاد، وعطفها عليها.
وفي " الجامع الكافي " في مذاهب الزيدية، قال محمد بن منصور: قلت لأحمد بن عيسى عليه السلام: إذا فعل الإمام معصيةً كبيرةً، تزول عنه إمامته؟ قال: تزول عنه إمامة الهدى، ويبقى العقد الذي ثبت (6) من أحكامه ما وافق الحق إلى وقت ما يتنحى، لو أن رجلاً لم يبايع له، ولم يعقد له، أقام الحد فمات المحدود، كان ضامناً، والجائر الذي زالت عنه إمامة الهدى، إذا فعل
(1) في (ش): " التعريض ".
(2)
" والآجلة " ساقطة من (ف).
(3)
عبارة " قال الفقهاء " ساقطة من (ف).
(4)
في (ش): " على تركه ".
(5)
في (ف): " على خلافه ".
(6)
في (ش): " يثبت ".
مثل هذه الأشياء، لم يضمن، ولم يتبع بشيء وهو في معنى كلام الفقهاء، وقد قرره محمد بن منصور، ولم يورد عن أحدٍ من أهل البيت عليهم السلام خلافه مثل عادته إذا اختلفوا، وكذا السيد الإمام الحسني المصنِّف لم يذكر خلافاً في هذا المعنى بين ذلك الصدر الأول.
أشار الأمير الحسين بن محمد في " شفاء الأوام " إلى أنه قول أحمد بن عيسى وغيره من أهلِ البيت، ذكره فيما يأخذه السُّلطان الجائر كُرهاً من الزكاة، وذكر أنه لا يجزىء عند الأكثر منهم عليهم السلام، لأن ذلك يرجِعُ إلى الولاية، ولا ولاية للجائر، قال: وذهب بعضُهم إلى أنه يُجزىء، وبه قال أحمد بن عيسى عليه السلام. رواه عنه في كتاب " العلوم ". انتهى بلفظه من كتاب " شفاء الأوام ".
وأنا أذكر ما يدلُّ على هذا من كلام الفقهاء، فمن ذلك كلام الجويني (1) المقدم، فإنه نص فيه على أنه إذا أمكن كفُّ يدِ الظالم المصرِّ المتهتِّك وتوليةُ غيره بالصِّفات المعتبرة، فالبدار البدار، وإن لم يمكن ذلك -لاستظهاره بالشوكة- إلَاّ بإراقة الدماء، ومُصادمة الأهوال، فالوجه أن يُقاس ما الناس مدفوعون إليه منقلبون بما يفرض وقوعه -إلى آخ كلامه-.
وهذا ظاهرٌ في المعنى الذي أردته، فإنه أوجب عند التمكن نصب إمامٍ على الصفات المعتبرة بهذا اللفظ، فدلَّ على معرفتهم للإمامة ولصفاتها (2) المعتبرة، وأنهم إنَّما تكلَّموا في الضروره، ودفع (3) ما يتوقع من الفتن العظام بالصبر على ما هو أهون منها.
ولهذا قال الجويني: إن المفسدة إذا كانت أكبر بالقيام عليه، تعيَّن الصبر والابتهال إلى الله تعالى، ولو (4) كان يعتقد أنه إمام حقٍّ، لم يذكر الابتهال إلى
(1) انظر " غياث الأمم " ص 110.
(2)
في (د): " ولصفاتهم "، وفي (ف):" وبصفاتها ".
(3)
في (ش): " ووقع ".
(4)
في (ف): "فلو".
الله تعالى في كشف ما بالمسلمين من المضرة الحاصلة بولاية الجائر، وهذا هو الظاهر من فعل بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام، مثل الإمام محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، كان من دُعاتهم عليه السلام، لكنه كان في الطالَقَان، فليس له ذكر ولا لعلومه ومذاهبه وأخباره، ذكره ابن حزم في " جمهرة النسب " (1) فقال: كان فاضلاً في دينه، يميل إلى الاعتزال، قام بالطَّالَقان، فلما رأى الأمر لا يتم له إلا بسفك الدِّماء، هرب واستتر إلى أن مات. انتهى.
ولولا (2) أنه يستحلُّ ذلك لم يحل له (3) ترك الإمامة، بل قد ذكر المؤيَّدُ بالله أن هذا هو رأي الحسن بن علي بن أبي طالب كما تقدم، وقد اشتهر عنه (4) وقلت فيه:
أعاذلُ دعني أُرِي مُهْجَتِي
…
أزوفَ الرحيل ولُبْسِ الكَفَنْ
فإن كنتَ مقتدياً بالحسينِ
…
فلي قدوةٌ بأخيه الحَسَنْ
وعندي أنهما لم يختلفا عليهما السلام، بل كلٌّ منهما عمل بظنِّه فيما يؤدي إليه الاستمرار، بل قد رُوِيَ عن الحسين بن علي عليه السلام إنه عرض عليهم عند قتله الإعراض عنهم، فلم يقبلوا.
وقال النواوي (5) ما لفظه: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر (6) منها في بقائه، وقد تقدم قول القاضي عياض: إنه يجب القيام عليه، ونصب إمامٍ عادلٍ إن أمكن ذلك، وقوله: فإن تيقَّنُوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلمُ عن أرضه، ويفرَّ بدينه.
(1) ص 53 - 54.
(2)
في (ش): "ولو"، وهو خطأ.
(3)
" له " ساقطة من (ش).
(4)
قوله: " وقد اشتهر عنه " ساقط من (ف).
(5)
في " شرح مسلم " 12/ 229.
(6)
في (ف): " أكبر ".
ويدل على هذا تجويزهم للخروج على من قطع الصلاة، وأبطل أمر الجهاد، ولم يلتفت على إنصاف مظلوم البتة، كما ذكره ابن بطال والجويني لما كان الغالب أنَّ المضرَّة في القيام على من هذا حاله أقل من مضرة تركه، فهذه نصوصهم دالة على كراهتهم للجائر ولولايته، ومعرفتهم بوجوب النهي عن المنكر وغير ذلك، وأنهم إنما قصدوا حقن دماء المسلمين، وأن السيد أعظمَ الجناية عليهم حيث قال: إنهم يصوِّبُون أئمة الجور في قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، وإنما قصدوا نحواً مما قصده هارون عليه السلام حيث قال:{إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيل} [طه: 94] من رعاية الأصلح، ولأنهم ما قصدوا إلَاّ حقن دماء الذين يأمرون بالقسط من الناس، فعكس السيد نصوص مذهبهم لما لم يفهم حقيقة، مقصِدِهم، وفي المثل: أساء سمعاً فأساء إجابة.
الموضع الثاني: وهو محل الخلاف على الحقيقة، وهو في صحَّة أخذ الولاية منهم عند الضرورة إلى ذلك، وفيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنه لا يجوز مطلقاً، وهو مذهب الجمهور من أهل البيت عليهم السلام، وكثير من الفقهاء، وهو الصحيح الذي لا يتَّجه غيره، كما سيأتي الدليل عليه.
المذهب الثاني: جواز ذلك عند الضرورة مطلقاً، وهو مذهب أحمد بنِ عيسى عليه السلام وكثيرٍ من الفقهاء.
المذهب الثالث: التفصيل، وهو صحة أخذ الولاية منهم في القضاء دون غيره، وإليه ذهب المؤيد بالله في آخر قوليه، نص عليه في " الزيادات "، وطوَّل في الاحتجاج عليه، وفي هذا الفصل فوائد:
الفائدة الأولى: أن مذهب أحمد بن عيسى والفقهاء قريبٌ من مذهب المؤيد بالله عليه السلام، لأن الكل منهم قد صحَّح أخذ الولاية من الظلمة
للضرورة، ولكنه صحَّح ذلك في أمرٍ واحدٍ، وهم صحَّحوه في أكثر منه، وليس المنكر عليهم في هذه المسألة إلَاّ قولهم بصحة الولاية من الظالم، فقد شاركهم المؤيد بالله في هذا القدر، وإن كان قد خالفهم عليه السلام في سائر ما يتعلق بالإمامة من الولايات كإقامة الحقوق (1) ونحوها، وكلامهم أقيس، لأن الولاية لا تجزىء، على أنهم قد نصوا أنه لا ولاية للظلمة مطلقاً، ولكن تنفذ بهم المصالح.
قال ابن عبد السلام في " قواعده "(2) في أوائلها:
فصل في تنفيذ تصرف البغاة، وأئمة الجور لما وافق الحق للضرورة (3) العامة قد ينفذ التصرف العام من غير ولايةٍ، كما ذكرنا في تصرُّف الأئمة البغاة، فإنه ينفذ، مع القطع أنه لا ولاية لهم، وإنما نفذت (4) تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة الرعايا، وإذا نفذ ذلك مع نُدرة البغي، فأولى أن ينفذ تصرُّف الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم، وأنه لا انفكاك للناس عنهم إلى آخر ذلك.
وقال قبل هذا الفصل بأسطر يسيرة (5): وأما الولاية العظمى، ففي اشتراط العدالة فيها اختلافٌ لغلبة الفسوق على الولاة، ولو شرطناها، لتعطَّلتِ التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولُّونه من القضاة والولاة والسعاة، وأمراء الغزوات، وأخذ ما يأخذونه وقبض ما يُعطونه، وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولاياتهم، فلم يشترطوا العدالة في تصرفاتهم الموافقة للحق، لما في اشتراطها من الضرر العام، وفوات هذه (6) المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان. انتهى بحروفه.
(1) في (ف): " من إقامة الحدود ".
(2)
ص 68.
(3)
في " القواعد ": " لضرورة ".
(4)
في (ف): " تنفذ ".
(5)
" القواعد " ص 68.
(6)
" هذه " ساقطة من (ف).
فدل على أنهم اعتبروا دفع المفسدة الكبرى بالصغرى للضرورة، كما صرّح في مواضع من قواعده، وعظَّم ثمرة معرفته ذلك، ومفسدة جهله.
الفائدة الثانية: أن الفقهاء قد أطلقوا القول بانعقاد إمامة المتغلِّب للضرورة، والذي لا يتأمَّل كلامهم يُنكره لظنِّه أن مرادهم أنه إمامٌ على الحقيقة، وإنما أرادوا ما ذكرنا مِنْ جواز أخذ الولاية منهم لتنفيذ الأحكام المتعلقة بالمصالح العامة، لاضطرار المسلمين إلى ذلك، كما سنبيِّنُه. والذي يدل على هذا وجوه:
الوجه الأول: أنهم نصُّوا على اشتراط العدالة في الإمام، وهذا واضحٌ.
الثاني: أنه لو كان الجائر عندهم إماماً حقيقياً (1)، لم يحرِّموا نصبه، والرضا به، والاختيار له.
الثالث: أنه لو كان عندهم إماماً حقيقياً، لم يصوِّنُوا من خرج عليه، وينصُّوا على أنه ليس بباغٍ.
الرابع: أن النواوي لما ذكر في " الروضة "(2) عن الشافعي القول بنفي الرد، ونفي توريث ذوي الأرحام، ذكر أن ذلك على الصحيح عندهم إنما يكون على استقامة بيت المال بولاية العادل، وأنه متى ولي بيت المال جائرٌ، رُدَّ بقيَّةُ المال على الورثة، وَوُرِّثَ ذوو الأرحام، ولم يُعط الإمام الجائر. قال: وبه أفتى أكثر المتأخرين. قال: وهو الصحيح أو الأصح عند محقِّقي أصحابنا ومتقدميهم.
قال ابن سراقة (3): وهو قول عامة مشايخنا، وعليه الفتوى اليوم في
(1) في (ش): " حقيقة "
(2)
6/ 6.
(3)
هو الحافظ الفقيه الفرضي أبو الحسن محمد بن يحيى بن سراقة العامري البصري. توفي في حدود سنة 410 هـ. انظر " طبقات السبكي " 4/ 211 - 214، و" سير أعلام النبلاء " 17/ 281.
الأمصار، ونقله صاحب " الحاوي " على مذهب الشافعي. قال: وغلط الشيخ أبو حامد في مخالفته.
كل هذا لفظه في " الروضة "، وهو دال على أنهم لا يعتقدون أن الجائر مثلُ العادل. إذاً لأوجبوا تسليم بقية مال الميت إليه، لأنه ولي بيت المال كالعادل، وكذا في " الروضة "(1) عن الماوردي أنه إذا كان العامل جائراً في أخذ الصدقة، عادلاً في قسمتها جاز كتمها عنه، وجاز دفعها إليه، وإذا كان عادلاً في الأخذ، جائراً في القسمة، وجب كتمُها عنه.
قلت (2): فلو كان عندهم كالعادل، لم يجب كتمها عنه، ولحرُم ذلك إجماعاً.
الخامس: أنه لو كان عندهم إماماً، لم يقولوا: إن (3) قيامه بالأمر حرامٌ عليه، معصيةٌ منه، وقد نصَّ على ذلك النواوي في " الروضة "، فبان بهذا أنهم إنما قصدوا أخذ الولاية فيما يتعلَّق بالأئمة، مثل ما قصد المؤيَّد بالله في أخذ الولاية من الظلمة على القضاء، وإنهم سمَّوه إماماً لما كانت تنعقد به الأحكام المتعلقة بالأئمة، الموافقة للحق، ولما كان يستحق هذا الاسم في وضع اللغة، ولهذا نصوا على أنه لا تحل طاعته إلَاّ إذا وافق الشرع. نص على ذلك النواوي في " الروضة "(4)، فقال ما لفظه: تجب طاعة الإمام ما لم يُخالف حكم الشرع، سواء كان عادلاً أو جائراً.
قال النفيس العلوي: ونص على ذلك القرطبي في " تفسيره "، فقال: إن كان الوالي فاسقاً، فينفُذ من أحكامه ما كان على الحق (5)، ويُرَدُّ ما خالفه.
فإن قلت: فقد يَعِيبُون الخروج على بعض من خرج على بني أمية وبني العباس؟
(1) 2/ 336.
(2)
" قلت " ساقطة من (ف).
(3)
" إن " ساقطة من (ف).
(4)
10/ 47.
(5)
في (ف): " ما وافق الحق ".
قلت: إنما يعيبون ذلك على معنى أنه خلاف الأولى في الرأي والتدبير، كما عاب أصحاب الحسن بن علي عليهما السلام صُلح معاوية عليه، وكما فعل ابن عباس عند خروج الحسين عليهم السلام بدليل ما قدمنا من تجويزهم له في أحد أقوالهم، وكونها عندهم مسألةً ظنية، كل مجتهدٍ فيها مصيبٌ.
وقد صرح بهذا المعنى الذهبي في " النبلاء "(1)، فقال عند ذكره لزيد بن علي عليه السلام: إنه خرج متأوِّلاً، وقتل شهيداً رحمه الله، وليته لم يخرج فترحّم عليه، ونص على أنه عنده مظلومٌ شهيدٌ، وتمنى أنه لم يخرج، شفقةً عليه، وصيانةً له، وتألُّماً مما ناله، ولذلك لم يذكره في " الميزان " الذي ذكر فيه كل من فيه أدنى مقالٍ أو خلاف، ووثقه في كتاب " التذهيب "(2) الذي في الثقات والله أعلم.
الفائدة الثالثة: في بيان الضرورة التي ذكرها الفقهاء، وادعوا أنها تُبيح أخذ الولاية منهم.
وأنا أذكر ما حضرني، فأقول: لا شك أن (3) أكثر الأقطار الإسلامية قد غلب عليها أئمة الجور من بعد انقراض عصر الصحابة، فإن الشام ومصر والمغرب والهند والسند والحجاز والجزيرة والعراقين واليمن وأمثالها، ما استدامت فيها دولة حق في قرونٍ عديدةٍ، ودُهُورٍ طويلةٍ، ولا شك أن في هذه الأقاليم من عامة أهل الإسلام عوالم لا يُحصون، وخلائق لا ينحصرون، ولا شك أنهم في هذه القرون العديدة، وفي هذه الأقطار الكبيرة (4) لو تركوا هَمَلاً لا يقام فيهم حد، ولا يُقضى فيهم بحق، ولا يجاهد فيهم كافر، ولا يُؤدَّبُ فيهم عاصٍ، لفشا فيهم الفساد، وتظالم العباد، ومرج أمر المسلمين، وتعطلت أحكام رب العالمين،
(1) 5/ 391.
(2)
5/ 391، وقد تحرف في الأصول إلى:" التهذيب "، وقول المصنف " الذي في الثقات " فيه نظر، فإن كتاب " التذهيب " يترجم رجال الكتب الستة، وفيهم الثقة والضعيف، والمتروك.
(3)
" أن " ساقطة من (ش).
(4)
في (ف): " الكثيرة ".
وقد علمنا على الجملة أن الله تعالى ما قصد بإقامة الحُدود وشرعها إلَاّ زجر أهل المعاصي، ولا قصد بالجهاد إلَاّ حفظ الحَوْزَةِ، وإرغام العدوِّ، فمتى توقفت على شرط، وتعذر تحصيله، لم يعتبر ذلك الشرط.
وقد ذكر العلماء لهذا نظائر، فمنها نكاح المرأة بغير إذن الوليِّ متى غاب وليُّها وبَعُدَ مكانه، أو جُهِلت حياته، فقد ترك كثير من العلماء شرط العقد المشروع، وهو رضا الولي لأجل مصلحة امرأةٍ واحدةٍ، وخوف مضرة امرأة المفقود، فكيف بمصلحة عوالم من المسلمين وخوف مضرتهم.
ومنها الانتفاع باللُّقَطَة بعد تعريف سنةٍ، لأن المال مخلوقٌ للمنفعة، فلما تعذر انتفاع صاحبه به (1) انتفع به غيره، لئلَاّ يبقى هملاً لا نفع فيه، ولهذا قال عليه السلام في ضالة الغنم:" إنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب "(2) فزال شرط حِلِّ المال، وهو رضا المالك لما تعذر، فهذه شخصية غير ضرورية، فكيف بالكلية الضرورية؟
ومنها ما ذكره المنصور بالله عليه السلام، فإنه ذكر في " المهذب ": أن العدالة في الشهادة إنما شُرِعَتْ لحفظ أموال الناس، فإذا خلت بعض البلاد من العدول، وجب ألا تعتبر العدالة، وقبلنا شهادة قُطَّاع الصلاة والطريق متى كانوا من أهل الصدق، لأنا لو اعتبرنا العدالة، لأضعنا أموال الناس التي لم تُشرع العدالة إلَاّ لحفظها، واحتج عليه السلام بأن الله تعالى قد أجاز قبول (3) شهادة الكفار من اليهود والنصارى في السفر، لأن المسافر من المسلمين إلى أرض الكفار يحتاج إلى شهادتهم، وعنى بذلك قوله تعالى: {أو آخرانِ من
(1)" به " ساقطة من (ش).
(2)
أخرجه من حديث زيد بن خالد الجهني مالك 2/ 757، ومن طريقه الشافعي 2/ 137، والبخاري (2372) و (2429)، ومسلم (1722)، وأبو داود (1705)، وابن حبان (4889).
(3)
في (ف): " قد قبل ".
غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} الآية [المائدة: 106]، وقد تقدم ذكرها.
قلت: ولذلك قَبِلَ بعض العلماء شهادة الصبيان فيما بينهم قبل التَّفرُّق، لأنه لا يمكن حضور العدول معهم في ملاعبهم، وسائر أحوالهم، والعادة جرت بانفرادهم، ولهذا قُبِلَتْ شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لو بقي عامة المسلمين في قدر ستمئة سنة في أقطار الإسلام وأمصاره لا يُنَصَّبُ فيهم قاضٍ، ولا يُحكم بين المتنازعين منهم، ولا يُقام فيهم حدٌّ، ولا يجاهد فيهم عدوٌّ، لَعَظُمَتْ بهم المضرة بغير شك، وقد علمنا أن هذه الأشياء ما شُرِعَت إلَاّ لمصالحهم، فوجب الحكم بتنفيذها عند عدم شرطها " (1) لأجل الضرورة لما تقدم نظائر ذلك، ومن لم يفرق بين حالي الاختيار والاضطرار، فقد جهل المعقول والمنقول.
أمَّا المعقول، فلإجماع العُقلاء على دفع أعظم المفسدتين بأهونهما، ومن ثم قالوا:
حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهون من بعض (2).
(1) في (ف): " شروطها ".
(2)
عجز بيت لطرفة بن العبد وصدره:
أبا منذرٍ أفنيتَ فاستبقِ بعضنا
وهو في ديوانه: 48، و" الكتاب " 1/ 348، و" الكامل " ص 732، و" المقتضب " 3/ 224، وابن يعيش 1/ 118، و" مجمع الأمثال " ص 94، " اللسان ":" حنن "، و" الهمع " 1/ 190.
وأبو منذر: كنية عمرو بن هند يخاطبه حين أمر بقتله، وذكر قتله لمن قتل من قومه تحريضاً لهم على المطالبة بثأره.
وقوله: " حنانيك " مثنى حنان، والحنان: الرحمة، نصب على المصدر النائب عن الفعل، وقد ثني لإرادة التكثير، أراد حناناً بعد حنان، أي: كلما كنت في رحمة منك، فلتكن موصولة بأخرى، وهذا المثنى لا يجيىء إلَاّ مصدراً منصوباً، ولا يكون مثنى إلَاّ في حال =
ومن أمثالهم: إن للشر خياراً (1).
وأما المنقول، فمعلومٌ بالضرورة من الدين في مواضع، أعظمُها قوله تعالى في جواز النطق بكلمة الكفر:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وأعمُّها قوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].
وروى الأمير الحسين في " الشفاء " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عند الضرورات تباح المحظورات "(2). وفي حد الضرورة اختلافٌ بين العلماء، وهو ظني معروفٌ، وقد جعلها المؤيد بالله ما خرج عن حدِّ الاختيار في كثير من المواضع، وقد رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في لباس الحرير المحرم لأجل الحِكة، متفق على صحته (3).
= الإضافة كما لم يكن " سبحان الله " و" معاذ الله " إلَاّ مضافين.
وقوله " بعض الشر أهون من بعض " قال الميداني: يضرب عند ظهور الشرين بينهما تفاوت وهذا كقولهم: إن من الشر خياراً.
(1)
في " فصل المقال " ص 244: قال أبو عبيد: قال الأصمعي في نحوٍ منه: " إن في الشر خياراً "، قال: ومعناه: إن بعض الشر أهون من بعض.
قال البكري: قال أبو خراش فنظمه:
حَمِدْتُ إلاهي بَعْدَ عُروَةَ إذ نجا
…
خِراش وبَعْضُ الشر أهْوَنُ من بعضِ
بلى إنها تعفو الكُلومُ وإنما
…
نوكَّلُ بالأدنى وإن جلَّ ما يَمْضِي
تعفو الكلوم: تبرأ الجروح، نوكل بالأدنى: نحزن على الأقرب فالأقرب، وما مضى ننساه وإن كان الرزء به جليلاً على الخِيار والأخيار، وكذلك الشر يجمع على الشرار والأشرار، أي إن في الشر أشياء خياراً، ومنه المثل كما قيل:" بعض الشر أهون من بعض " ويجوز أن يكون " الخيار " الاسم من الاختيار، أي: في الشر ما يختار على غيره.
(2)
ذكره السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 269، وعلي القاري في " المصنوع في معرفة الحديث الموضوع " ص 121، وقالا: ليس بحديث، وقال السخاوي: ومعناه صحيح، وقد اعتمده الفقهاء في إساغة اللقمة لمن خشي التلف بجرعة من خمر من غير أن يزيد على الحاجة.
(3)
أخرج أحمد 3/ 180 و255 و272، والبخاري (2921) و (2922) و (5819)، =
فمن جوَّز أمراً للضرورة، ونسب إليه جوازه مطلقاً، كان الناسب إليه من الكاذبين، بل كالنَّاسب (1) إلى كتاب الله تعالى جواز الكفر والمحرمات مطلقاً.
وقد ورد القرآن الكريم بقتل النفس لمصلحةٍ غير كلية في قصة يونس عليه، وأنه لما عرف أن أهل السفينة يغرقون جميعاً إن لم يُلْقِ أحدهم بنفسه إلى التهلكة ويرم بها في البحر، رأى أن رمي أحدهم بنفسه وحده (2) أهون من موتهم الجميع، فرمى صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة، حين وقع السهم عليه، قال الله تعالى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141 (3)].
ولا شك أن قتل النفس في أصل الأمر حرامٌ، لكن جاز للضرورة، وهذا في فعل المحرم في الشرع لمصلحة، فأولى وأحرى أن يجوز ما ورد الشرع به من إقامة الحدود ونحوها للمصلحة، لأنه في نفسه مصلحة، لكن فقدَ بعضَ شُروطه، وعمل المصلحة المشروعة عند فقد بعضِ شُرُوطها للضرورة أولى من عمل المفسدة للضرورة مثاله: الصلاة بغير طهور ولا تيمُّم للضرورة (4)، أهونُ من أكل الميتة للضرورة، ولم يزل العقلاء يدفعون المضرة العظمى بما دونها، ويستحسنون قطع العضو خوفاً من السراية.
وقد ذكر علماء الأصول الكلام في المصالح، وطوَّلوا القول فيه، ومما ذكروه: أن الكفار إذا تترَّسوا بمسلم، ولم يمكنا قتالهم حتى نقتله، وخِفنا إن لم نقتله (5) أن يقتلونا ويقتلوه معنا، أنه يجوز لنا قتله، وشرط الغزالي أن تكون
= ومسلم (2076)، والنسائي 8/ 202، وابن ماجه (3592)، وابن حبان (5430) و (5431) عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في لبس الحرير من حِكَّةٍ كانت بهما.
(1)
في (ش): " كان الناس " وهو خطأ.
(2)
" وحده " ساقطة من (ش).
(3)
انظر " تفسير الطبري " 23/ 98 - 99، و" ابن كثير " 3/ 201 و4/ 23 - 24، و" الدر المنثور " 7/ 121 - 129.
(4)
" للضرورة " ساقطة من (ف).
(5)
عبارة " إن لم نقتله " ساقطة من (ش).
المصلحة كليةً قطعيةً (1)، وعنى بالقطعية أن يعلم أن هذا هو المخوف علماً قطعياً، وبالكلية أنا نعلم أنَّا إن لم نقتله قتل، وقتل جميع المسلمين.
ورد عليه بعضُ المالكية، وأبطل اشتراطه للكلية بقصة يونس عليه السلام، وأبطل اشتراطه للقطعية بأنه لا سبيل إلى القطع البتة، وما لا سبيل إليه، لا معنى لاشتراطه.
فإن قيل: إن قصة يونس عليه السلام مِنْ شرعِ من قبلنا.
قلنا: هو حجة إذا ذكر في كتابنا، كما ذكره المنصور بالله وغيره، وقد تقدم الدليل على ذلك في مسألة قبول المتأولين.
ومن هذا القبيل الذي ذكره في المصالح، كلام الصحابة في حدِّ الخمر، فعن أنس بن مالكٍ، قال: جلد رسول الله في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما ولي عمر دعا الناس، فقال لهم: إن الناس قد دنوا من الريف، فما تَرَوْنَ في حدِّ الخمر؟ فقال عبد الرحمن: نرى أن نجعله كأخفِّ الحدود، فجلد فيه ثمانين. رواه مسلم وأبو داود، وروى البخاري وابن ماجه بعضه (2).
وعن حضين بن المنذر قال: شهدتُ عثمان، وأُتي بالوليد، فشهد عليه حُمران ورجلٌ آخر، فشهِدَ أحدهما أنه رآه يشربها (3) - يعني -الخمر- وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها. فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتَّى شربها، فقال لعلي عليه السلام: أقم عليه الحد، فقال علي للحسن: أقم عليه الحد، فقال: ولِّ حارَّها من تولَّى قارَّها، فقال علي عليه السلام لعبد الله بن جعفر: أقم عليه الحد،
(1)" المستصفى " 1/ 301.
(2)
انظر المسند 3/ 115 و180، والبخاري (6773) و (6776)، ومسلماً (1706)، وأبا داود (4479)، وابن ماجه (2570)، وابن حبان (4448 - 4450).
(3)
في (ش): " شربها ".
فأخذ السوط وجلده وعليٌّ يعُدُّ، فلما بلغ أربعين، قال: حسبُك، جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين. وأحسبه قال: وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سُنَّةٌ، وهذا أحبُّ إليَّ. رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه (1).
فجلد الثمانين في الخمر قد شاع في الصحابة، واستمر عليه (2) عمل الأمة إلى هذا العصر، مع أنه غير منصوصٍ في الكتاب، ولا في السنة المتفق على صحتها، وإنما عمل به للمصلحة (3)، فدل على إجماع الصحابة على العمل بالمصالح.
وقد روى الحافظ ابن كثير وغيره عن علي عليه السلام أنه ضمن الصُنَّاع، وقال: لا يُصلِحُ الناس إلَاّ ذلك.
والكلام في هذا المعنى يحتمل البسط الكثير (4)، وقد تكلم الرازي في " المحصول "(5) بكلامٍ حسنٍ في المصالح. وتكلم شارح " البرهان " فيها، ومن أحب الاستقصاء في المصالح، وما يتعلق بها، فليُطالع كتاب " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " للإمام الكبير عز الدين بن عبد السلام، الذي قال النواوي في " شرح المهذب ": إنهم اتفقوا على براعته في العلوم كلها، وعلى أمانته وديانته، أو كما قال، فإن كتابه هذا من أنفس الكُتُبِ في هذا الشأن. والله سبحانه أعلم.
الفائدة الثالثة: في بيان المختار.
واعلم أن كلام أحمد بن عيسى عليه السلام والفقهاء في أخذ الولاية على الإطلاق، وكلام المؤيد بالله في أخذ الولاية على القضاء يشتمل على أمرين:
(1) مسلم (1707)، وأبو داود (4480) و (4481)، وابن ماجه (2571).
(2)
" عليه " ساقطة من (ش).
(3)
في (د): " في المصلحة "، وفي (ش):" لمصلحة ".
(4)
" الكثير " ساقطة من (ف).
(5)
6/ 218 - 225.
أحدهما: جواز القضاء، وإقامة الحدود ونحو ذلك في غير وقت الإمام، نظراً إلى ما يلحق المسلمين من المضرة بترك ذلك، وهذا قوي إن لم يصادم النصَّ الشرعي، وهو إجماع العترة في غير القضاء، وأما القضاء، فقد خالف فيه الإمام المؤيد بالله، والمختار جوازه. وأمَّا سائر الأمور، فإن لم يصح إجماع العترة على تحريمه، فلا معدِلَ عنه، وإن صح إجماعهم، أجبنا عن الفقهاء بما يوافقون عليه، وهو أن شرط المصالح ألا يصادم النصوص والإجماع من النصوص بلا خلاف، فنقول: الإجماع صادم النظر المصلحي، فوجب طرحه.
الأمر الثاني الذي خالفوا فيه: أخذ الولاية من الظلمة لما ورد في الآثار من الأمر بتسليم الزكاة إليهم (1) والطاعة في المعروف لهم، فأما الأمر بطاعتهم في غير معصية الله، فهو شهير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه تصريح بولايتهم في نفس الأمر، وإن كان الاستنباط من ذلك محل نظر.
وأما الأمر بدفع الزكاة إليهم، فرُوِيَ عن سعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأبي سعيدٍ الخدري، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبي بكرٍ، وعائشة موقوفة وأسانيدها، أو أكثرها صالحةٌ (2)، ولكن لا حجة متفق عليها في الموقوف، خصوصاً إذا عُورِض بقول صحابيٍّ آخر. وأما حديثٌ مرفوعٌ، فلا أعرف إلَاّ ما رواه الطبراني في " الأوسط " من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ادفُعوا إليهم ما صَلَّوُا الخمس ". رواه عن الطبراني ابن حجر في " تلخيصه "(3)، ولم يذكره بصحةٍ ولا ضعفٍ، والغالب على "معجم الطبراني
(1)" إليهم " ساقطة من (ف).
(2)
انظر " مصنف ابن أبي شيبة " 3/ 156 - 158، و" سنن البيهقي " 4/ 115، و" تلخيص الحبير " 2/ 164.
(3)
تلخيص الحبير " 2/ 164، والحديث عند الطبراني في " الأوسط " (345) وقال: لا يروى هذا الحديث عن سعد مرفوعاً إلَاّ بهذا الإسناد، تفرد به هانىء بن المتوكل. وذكره الهيثمي في " المجمع " 3/ 80، وقال: رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه هانىء بن المتوكل، وهو ضعيف.
الأوسط" الغرائب والشواذ.
وفي " سنن البيهقي الكبرى "(1) شيء من هذا لم يحضرني.
وروى ابن أبي شيبة (2) عن ابن عمر موقوفاً نحو ذلك، وفي إسناده جابر الجعفي وعضده الفقهاء بظاهر الأمر بطاعة ذوي الأمر في القرآن، ولحديث البخاري ومسلمٍ والنسائي:" إنما الإمام جُنَّةٌ يُتَّقى به، فإن عدل، فإن له بذلك أجراً، وإن جار، فإن عليه بذلك وِزرَاً (3) "، وأمثاله كثيرة صحيحة (4).
وأقول: إن الأصل براءة الذمة من وجوب أخذ الولاية عنهم حتى يقوم على ذلك دليلٌ مرضيٌّ.
فهذا ما عرفت الآن من الحجة على أخذ الولاية من أئمة الجور للمؤمن وأحمد بن عيسى والفقهاء (5).
فأما إن أرادوا أخذها منهم على جهة التقية منهم، وخوف الفتنة في الاستقلال بالولاية، فهذا مُسَلَّمٌ. وقال يوسف عليه السلام:{اجعلني على خزائن الأرض} [يوسف: 55].
وأما إن أرادوا أن لهم ولايةً شرعيةً في نفس الأمر، فلا وجه لذلك متفق عليه، لأنه يمكن إقامة المصالح من غير أخذ ولاية، وذلك (6) لأن الغرض أن
(1) 4/ 115 في الزكاة: باب الاختيار في دفعها إلى الوالي، وقد أدرج تحته عدة أحاديث انظرها فيه.
(2)
في " المصنف " 3/ 158.
(3)
أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري (2957)، ومسلم (1835)، والنسائي 7/ 155 - 156.
(4)
عبارة " وأمثاله كثيرة صحيحة " ساقطة من (ف).
(5)
من قوله: " وأقول: إن الأصل
…
" إلى هنا سقط من (ش).
(6)
" وذلك " ساقطة من (ف).
الشرع ورد (1) بأن الولاية للإمام العادل، فحين تعذَّر الشرط المشروع، لم يجب علينا أن نفعل ما يشبهه في الصورة، كما أنا إذا لم نجد وليَّ المرأة المشروط إذنه في نكاحها، لم يجب علينا أن نستأذن رجلاً أجنبياً لم يرد الشرع بولايته.
وإنما اعتبرنا الرجوع إلى الإمام لما ورد الشرع بذلك (2)، فلهذا لو لم يوجدِ الولي ولا الإمام، لم يعتبر إذن رجلٍ غير معيَّنٍ، ويمكن الفرق بين أن يرضى به المسلمون أول الأمر، ويتابعون وهو صالحٌ قبل الأمر بالاعتزال في آخر الزمان، فيكون كما قال أحمد بن عيسى عليه السلام: تزول عنه إمامة الهدى، وتبقى له (3) الولاية بالاستصحاب، لعدم الدليل على انعزاله من النص والإجماع.
وأما المتغلِّب من الابتداء، فيحتاج من يقول بولايته إلى دليلٍ على ذلك، ويعتضد هذا الأصل بحديث البخاري عن أنسٍ، عنه صلى الله عليه وسلم:" اسمعوا وأطيعوا وإن استُعْمِلَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأنَّ رأسه زبيبةٌ، ما أقام فيكم كتاب الله "(4).
وفي " مسلم " عن أمِّ الحُصين نحوه، ورواه الترمذي والنسائي (5).
وللفقهاء أن يُجيبوا عن هذا بوجهين:
أحدهما: الجمع بالتأويل، فظاهر حديث أنسٍ وأمِّ الحصين في العامل، لا في الإمام الأعظم، لحديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمير الذي أمر أصحابه
(1) في (ش): وارد.
(2)
في (ف): " وإنما اعتبرنا الشرع لما ورد الأمر بذلك ".
(3)
" له " ساقطة من (ش).
(4)
تقدم تخريجه ص 11 من هذا الجزء.
(5)
أخرجه مسلم (1298) و (1838)، والترمذي (1706)، والنسائي 7/ 154، وأخرجه أيضاً أحمد 6/ 402 و403، وابن ماجه (1861)، وابن حبان (6564)، وانظر تمام تخريجه فيه.
أن يَحرِقوا (1) أنفسهم. وهو في الصحيح (2).
وحديث عقبة بن مالك لو رأيتَ ما لامَنَا رسول الله، قال:" أعَجَزْتُم إذا بعثتُ رجلاً منكم فلم يَمْضِ لأمري أن تجعلوا مكانه من يَمْضي لأمري "؟ رواه أحمد، وسنده قوي وأبو داود (3).
وروى أحمد من حديث معاذٍ، عنه صلى الله عليه وسلم في " الأمراء ":" أنه لا طاعة لمن لم يُطِعِ الله " وظاهر سنده الصحة، فيه يحيى بن أبي كثير مدلس، لكنه صرح فيه أن أنس بن مالك حدثه بذلك عن معاذ، والراوي عن يحيى حرب بن شداد، وفيه خلاف يسير والله أعلم (4).
وثانيهما: بالترجيح من طريق الاحتياط، ومن طريق قوة (5) الأسانيد، ففي " الصحيحين " من حديث عبد الله، عنه صلى الله عليه وسلم:" إنها ستكونُ أَثَرَةٌ وأمورٌ تنكرونها "، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمرُ من أدرك ذلك منا؟ قال:" تُؤَدُّون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم ". رواه الترمذي، وقال: حسنٌ صحيح (6).
(1) تحرفت في الأصول إلى: " يخرجوا ".
(2)
تقدم تخريجه ص 18 من هذا الجزء.
(3)
حديث حسن، أخرجه أحمد 4/ 110، وأبو داود (2627)، وصححه ابن حبان (4720)، والحاكم 2/ 114 - 115.
(4)
أخرجه أحمد 3/ 213، وأبو يعلى في " مسنده " كما في " تعجيل المنفعة " ص 310 من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حرب بن شداد، حدثنا يحيى بن أبي كثير، قال عمرو بن زنيب العنبري إن أنس بن مالك حدثه، أن معاذاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك
…
الحديث.
قلت: يحيى بن أبي كثير لم يصرح بسماعه من عمرو العنبري وعمرو لم يرِو عنه غير يحيى ولم يوثقه غير ابن حبان. والحديث ذكره الهيثمي في " المجمع " 5/ 225، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه عمرو بن زنيب، ولم أعرفه!
(5)
" قوة " ساقطة من (ش).
(6)
أخرجه البخاري (3603) و (7052)، ومسلم (1843)، والترمذي (2190)، =
وعن وائل بن حجر نحوه، ولفظه: بعد أن سأله مراراً، وهو يعرض عنه، قال:" اسمعُوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُمِّلوا (1) وعليكم ما حُمِّلتُم ". رواه مسلم والترمذي، وقال حسن صحيح (2).
وعن ابن عمر، عنه صلى الله عليه وآله وسلم:" على المرء المُسْلِمِ السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره، إلَاّ أن يُؤمَرَ بمعصيةٍ، فلا سمع ولا طاعة " رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي (3). قال ابن الأثير (4): رواه الجماعة إلا مالكاً.
وعن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وآله وسلم:" عَلَيْكَ السمع والطاعة في عُسرك ويُسرك ومَنْشَطِكَ ومَكْرَهِكَ وأَثَرَةٍ عليك " رواه مسلم والنسائي (5).
وعن عوف بن مالك (6) أيضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " خِيارُ أئمتكم الذين تُحبُّونهم ويُحبُّونكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم "، قلنا: أفلا ننابذهم، قال:" لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من وَلِيَ عليه والٍ، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزِعَنَّ يداً من طاعة " رواه مسلم.
وعن ابن عبَّاس، عنه صلى الله عليه وسلم:" من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً، مات ميتةً جاهليةً ". وفي رواية: "فإنه من فارق الجماعة
= وأحمد 1/ 384 و428، وابن حبان (4857).
(1)
في (ش): " عليه ما حُمِّل ".
(2)
مسلم (1846)، والترمذي (2200).
(3)
أخرجه البخاري (2955) و (7144)، ومسلم (1839)، وأبو داود (2626)، والترمذي (1707)، والنسائي 7/ 160، وابن ماجه (2864).
(4)
في " جامع الأصول " 4/ 66.
(5)
مسلم (1836)، والنسائي 7/ 140.
(6)
في الأصول، عن أبي هريرة، وهو خطأ، وقد تقدم تخريجه ص 93 من هذا الجزء.
شبراً". رواه البخاري ومسلم (1).
ويعضد هذه الأحاديث ظاهر القرآن في طاعة أُولي الأمر، لأن الجائر منهم لغة، والقرآن نزل عليها، ومن فسَّر بخلافها، فعليه الدليلُ.
ويمكن التَّوسُّطُ، فنقول: لا شك في طاعة أولي (2) الأمر الذين اجتمعت عليهم جماعة المسلمين، وعملوا بكتاب الله، وفي نحو هذا نزلت الآية، ولسبب النزول أثرٌ في التفسير كما بين في موضعه، ويقاتلهم الذين يجوز قتالهم بلا شك، وهم الذين تركوا الصلاة، وأظهروا كفراً بواحاً، كما ورد في الأحاديث، وما بينهما محل نظر، وكل مجتهدٍ في ذلك مصيبٌ إن شاء الله.
ومما يخصُّ عمومات القرآن وأحاديث الفقهاء حديث أم سلمة: " إنه يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتُنكرون، فمن كَرِهَ، فقد برىء، ومن أنكر، فقد سَلِمَ، ولكن من رضي وتابع "، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا ما صلُّوا "(3). أي: من كره بقلبه، وأنكر بقلبه (4) كذا عند مسلم، فلم يوجب في هذا طاعتهم (5)، بل حرم قتالهم (6) فقط، وحكم بالنجاة لمن كره وأنكر.
وروى مسلم وغيره من ستِّ طرقٍ عن عرفجة الأشجعي أنه سمعه صلى الله عليه وسلم يقول: " من أتاكم وأمركم جميعٌ يريد أن يَشُقَّ عصاكم، ويفرِّق جماعتكم، فاقتلوه "(7).
(1) أخرجه البخاري (7053) و (7054) و (7143)، ومسلم (1849)، وأحمد 1/ 275.
(2)
" أولي " ساقطة من (ف).
(3)
أخرجه مسلم (1854)، وأبو داود (4760)، والترمذي (2266)، وأحمد 6/ 295 و302.
(4)
قوله: أي: من كره بقلبه
…
هو قول ابن الأثير كما في " جامع الأصول " 4/ 69.
(5)
في (ف): " قتالهم ".
(6)
في (ف): " طاعتهم ".
(7)
أخرجه أحمد 4/ 261 و5/ 23 - 24، ومسلم (1852)، وأبو داود (4762)، =
فقوله: " وأمركم جميعٌ " يدل على أن المراد في الأحاديث التي ذُكر فيها السلطان، وأولوا الأمر معناها: السلطان العرفي والشرعي، وهو المجمع عليه، لا اللغوي، وهذا قوي، لأنه أخص وأبينُ، والله أعلم.
ويحتمل الجمع بأن الصبر أفضل، والخروج جائزٌ حيث لا جماعة، ويتقوى بفعلِ الحسن عليه السلام.
ويلحق بهذا فوائد ذكرها الفقهاء تدل على تمييزهم ومعرفتهم بالشريعة، وفرقهم بين أئمة الجور وأمراء العدل.
الفائدة الأولى: قال النواوي في " الأذكار "(1): فإن اضطر إلى السلام على الظلمة، بأن دخل عليهم، وخاف ترتُّب مفسدةٍ في دينه أو دُنياه أو غيرهما إن لم يسلِّم سلَّم عليهم.
قال القاضي أبو بكر ابن العربي: قال العلماء: يسلِّم وينوي: " السلام " اسم من أسماء الله تعالى، المعنى: الله عليكم رقيبٌ.
الفائدة الثانية: فرق بين المداهنة والمداراة (2)، فيما يجوز من المخالطة عندهم وما لا يجوز.
قال في " شرح مسلم " ما معناه: إن المداهنة لا تجوز، والمداراة تجوز، قال: والفرق بينهما أن ما كان من أمر الدين، مثل أن يفتي بغير الحق، أو يكذب، أو يفعلَ شيئاً من المحرمات، أو يترك شيئاً من الواجبات، فهذه مداهَنَةٌ محرَّمَةٌ، والمداراة بأمور الدنيا (3)، مثل أن تعطيه مالك، أو تُحْسِنَ إليه، فهذه
= والنسائي 7/ 92، وابن حبان (4406)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(1)
ص 372، وما بين حاصرتين منه.
(2)
قوله: " فرق بين المداهنة والمداراة " ساقط من (د) و (ف).
(3)
في (ش): " الدين "، وهو خطأ.
مداراةٌ لا بأس بها. وسيأتي مزيد بيان لهذه الفائدة، إنما أحببتُ ذكر ما ذكروه ليُعرف تمييزُهم لهذا.
الفائدة الثالثة: قال ابن العربي في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي ": إنه يعرف العلماء ببيت المقدس في يوم الجمعة يستمعون الخطبة، حتى يبلغ الخطيب إلى ذكر أئمة الجور والثناء عليهم، فإذا بلغ ذلك، تركوا الاستماع، وقاموا يتنفلون، واشتغلوا (1) بالصلاة عن استماع مدح الظلمة.
الفائدة الرابعة: قال الشيخ أبو بكر بن فورك (2) في كتابه " النِّظامي " في الإمام الجائر: إنه يجب وعظه وتخويفه وإرشاده وتنبيهه.
وعلى هذا المعنى نص القاضي عياض أيضاً، وكذلك النواوي، فإنه قال في أئمة الجور: فإذا رأيتم ذلك، فأنكروا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم. انتهى كلام النواوي.
وروى المحدثون (3) في كتبهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطانٍ جائرٍ "(4).
وبتمام الكلام في هذه الفوائد، تم ما أردت ذكره من التعريف بمذهب الفقهاء، وقصدهم في إمامة الجائر. والله سبحانه أعلم.
الوهم الرابع والثلاثون:
(1) في (ش): " ويشتغلون ".
(2)
هو الإمام العلامة، شيخ المتكلمين، الأصولي، الأديب النحوي أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني، كان أشعري المذهب، جرت له مناظرات مع الكرامية، وكان شديد الرد عليهم، مات مسموماً سنة 406. وكتابه " النظامي " في أصول الفقه، ألفه للوزير نظام الملك. انظر ترجمته في " سير أعلام النبلاء " 17/ 214 - 216.
(3)
في (ش): " الذي روى عن المحدثين ".
(4)
تقدم تخريجه 2/ 68 و4/ 245.
أن السيد أيده الله ذكر الزهري قادحاً بروايته على أهل الحديث، وأطال الكلام في ذلك، وعوَّل في جرحِ الزهري على مُخالطته للسلاطين، وموالاته لهم، وإعانتِه لهم، وعلى كتابٍ كتبه إليه بعض إخوانه، فبعض ذلك كان من الزهري، ولا يدلُّ على الجرح في الرواية، وبعض ذلك دعوى على الزهري، لم يكن منه.
والذي كان مِنَ الزهري هو مخالطة السلاطين، وذلك إن لم نحمله على السلامة، نقص في الدرجة (1)، لا جرحٌ في الرواية، والفرق بينهما واضحٌ، فقد تقدم كلام المنصور بالله عليه السلام في الرواية وأن مبناها على ظن الصدق، وتقدم كلام الأئمة في قبول الخوارج الذين يُكَفِّرُون أمير المؤمنين عليه السلام، وقول المنصور بالله عليه السلام: إنهم أولى بالقبول من أهل العقيدة الصحيحة، لتشدُّدهم في الكذب، واعتقادهم أنه كفرٌ.
وقد أخلَّ السيد بقاعدةٍ كبيرةٍ هي أساس الكلام في الجرح والتعديل، وهي ذكر المحاسن والمساوىء، ليقع النظر في الترجيح بينهما، وقد ترك السيد هذا الأمر، فذكر مساوىء الزُّهري مجرَّدةً عن محاسنه التي أوجبت قَبُولَ بعضِ حديثه عند أئمة الحديث، وهو الصحيح المسند السالم من الإعلال والتدليس والإدراج ونحو ذلك، فإن كان هذا لما يعتقده السيد من سقوط مرتبة الزهري، وأنه ليس بأهلٍ لأن يُذكَرَ بخيرٍ، فالله تعالى -مع أنه العدل الذي لا يُتَّهَمُ- قد شرع الإنصاف لكل أحدٍ، ونصب الموازين ليوم القيامة، وأظهر كل ما لأعدائه من الحسنات، ولم يتركها لعداوتهم، ولا اكتفى بعلمه الحق فيهم، ولم يذم أحدٌ قط بالعدل على من يكره، بل هي سنة أهل العدل، وسجيَّة ذوي الفضل.
والأمر في الزهري قريب، والإشكال فيه سهلٌ، لكن هذا القدح الذي قدح به السيد على الزهري يقتضي القدح في كثير من العلماء والفضلاء، ممن خالط الملوك، فإن التاركين لذلك من العلماء هم الأقلُّون عدداً، وإذا طالعت كتب
(1) عبارة " في الدرجة " ساقطة من (ف).
التواريخ، لم تكد تجد أحداً من العلماء إلَاّ وله علقةٌ بالسلاطين، أو مخالطةٌ لهم، أو وِفادة عليهم، أو قبول لعطاياهم، فمنهم المقل، ومنهم (1) المكثر، ولو كانت المخالطة في مرتبة التحريم الذي يأثم فاعله ويُجرَحُ، لم يكن بين الإقلال منها (2) والإكثار فرقٌ واضحٌ، ولا كان بين الزهري وغيره من الذين خالطوا مخالطة (3) يسيرة فرقٌ واضح أيضاً، فإن من فعل المحرَّم ولو مرةً واحدة، فقد توجه عليه الجرح والقدح، وشُرْبُ جرعةٍ مِنَ الخمر في الجرح، كالإدمان على شربها، وإن كانت عقوبة المدمن لشُربها أكثر.
فإذا عرفت هذا، فلا بد من الكلام على فوائد قصدت بها وجه الله تعالى في أمرين:
أحدهما: في الذب عن جماعة من العلماء والفُضلاء قد خالطوا المُلوك، إما لغرضٍ دينيٍّ، أو لحاجةٍ دنيويةٍ، أو لتقيةٍ، أو لمصلحةٍ عامةٍ أو خاصةٍ، أو لمجموع هذه الأمور أو مجموع أمرين منها أو أكثر، ولم يرتكبوا في مخالطتهم محرَّماً، ولا كان منهم إلَاّ مجرد المخالطة، فيتوهَّم من لم يعرفِ الشريعة أنهم بمنزلة أهل المعاصي الصريحة، ويتساهل في استحلال غيبتهم وهتكِ حُرْمَتِهم.
وثانيهما: الذب عن العلوم المأخوذة عن هؤلاء، فإن كثيراً من علوم الشريعة -على تباين طبقاتها- (4) مستندةٌ إلى من لم يسلم من شيءٍ من هذا القبيل.
على أن السيد أيَّده الله ذكر في تفسيره " تجريد الكشاف المزيد فيه النُّكت اللِّطاف " ما يدلُّ على أنه رَخوُ الاعتقاد، سلسُ القياد في هذه المسألة، مع ما يدل على ذلك، مِنْ أحواله وأفعاله وأقواله، وذلك أنه ذكر اختلاف المفسرين
(1)" منهم " ساقطة من (د) و (ش).
(2)
" منها " ساقطة من (ف).
(3)
في (ش): " في مدة يسيرة ".
(4)
في (ش): " صفاتها ".
في قوله تعالى: {ولا تَرْكَنُوا إلى الذين ظلموا} [هود: 113]، ولم ينكر شيئاً منها، ولا رد على أحدٍ منهم، بل حكى تصحيح الرخصة في ذلك، وختم به، وهو أجلُّ من أن يشُوبَ القرآن بإدخال البواطل في تفسيره، فقد ورد أن حاكي الكذب أحد الكاذبين، وقد يحكي في تفسير الآية الكريمة عن قتادة، أن المراد: ولا تلحقوا بالمشركين (1)، وقتادة من أكابر علماء المعتزلة القدماء. وعن أبي العالية: لا تَرْضَوْا بأعمالهم (2). وقيل لا تُداهنوا عن السدي (3).
وقيل: الركون المنهي عنه: الدخول معهم في ظلمهم أو إعانتهم، أو الرِّضا بفعلهم، أو موالاتهم، أما إذا دخل عليهم أو خالطهم لدفع شرِّهم، أو أحسن معاشرتهم، ورفَق بهم في القول، ليقبلُوا منه ما يأمرهم به من طاعة الله، فذلك غير منهيٍّ عنه. عن القاضي (4)، قال الحاكم: وهو الصحيح، لقوله تعالى:{فَقُولا له قولاً لَيِّناً} [طه: 44].
قال الواحدي (5): هو السكون إلى الشيء، والميل إليه بالمحبة.
قال ابن عباس (6): لا تميلوا، يريد في المحبة ولين الكلام.
وقال عكرمة (7): هو أن يضيِّفهم أو يودَّهم.
وقال أبو العالية: لا ترضَوْا بأعمالهم.
(1) انظر " تفسير الطبري "(18607).
(2)
" الطبري "(18603) - (18605).
(3)
ذكره البغوي في " تفسيره " 2/ 404.
(4)
هو العلامة المتكلم شيخ المعتزلة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المتوفى سنة (415) هـ. والحاكم: هو المحسِّن بن محمد بن كرامة الجشمي المتوفى سنة 494 هـ.
(5)
ونقله عنه الرازي في " التفسير الكبير " 18/ 71.
(6)
انظر " تفسير الطبري "(18606)، و" تفسير البغوي " 2/ 404، و" الدر المنثور " 4/ 480.
(7)
في (ف): " قتادة "، وهو خطأ، وقول عكرمة هذا ذكره البغوي 2/ 404، وعنده: لا تطيعوهم، وعند السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 410: تطيعوهم أو تودوهم أو تصطنعوهم.