المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التأويل المتعسف مردود متى علم باليقين أنه تأويل متعسف - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٨

[ابن الوزير]

الفصل: ‌ التأويل المتعسف مردود متى علم باليقين أنه تأويل متعسف

تفسير سورة الزمر في تفسير قوله تعالى منها: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ما لفظه: وجاء في الحديث الصحيح ما يُوافق الآية، من ذلك ما خرَّجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة:

" يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "(1).

وأخرجاه من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخُذُهُنَّ بيده اليمنى "(2) وهذا مثل الآية على التمثيل والتخييل. انتهى بحروفه.

فإذا جاز عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، المبيِّن للقرآن، يأتي بمثل هذا المتشابه عند نزول المتشابه، فيزيده إشتباهاً، ويُسمعُه عامة أُمَّته، ولا يشمُّهم رائحة التأويل، فأيُّ شيءٍ أنكر روايته بعد تصحيح مثل هذا على المحدثين؟! فالله المستعان.

المقدمة الثانية: أن‌

‌ التأويل المتعسَّف مردودٌ متى عُلِمَ باليقين أنه تأويل متعسَّفٌ

، ولم يكن مما يُحتمل، وفي هذه المقدمة نكتةٌ لطيفةٌ، وذلك أنه قد يأتي بعض البُلداء، فيطلُبُ التأويل، فيقع ذهنه على تأويلٍ ضعيفٍ متعسف، فيحسب أنه لا تأويل للحديث إلَاّ ذلك، ويستدل على بطلان الحديث بأن ذلك التأويل متعسَّفٌ، وما كان تأويله متعسفاً، فهو مردودٌ، ولم يشعر المسكين أن حكمه بأن ذلك التأويل متعسَّفٌ صحيحٌ، ولكن لا يلزم منه أنه لا تأويل للحديث سواه، فإنه يمكن أن للحديث تأويلاً صحيحاً، وأنه (3) لم يعرفه، فإن منتهى الأمر أنه طلب، فلم يجد، لكن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.

وكذلك إذا وجد بعض شرَّاح الحديث من الأشاعرة وغيرهم، قد يؤوِّل

(1) تقدم تخريجه 3/ 113.

(2)

تقدم تخريجه 3/ 114.

(3)

في (ش): " وإن ".

ص: 262

الحديث بتأويلٍ فيه تعسُّفٌ، لم يقطع بردِّ الحديث لأنه يجوز أن القول بأن ذلك تأويله قولٌ باطلٌ، وأن ذلك المتأوِّلَ إنما صار إليه لقصوره في العلم، وإنما يحكم بردِّ الحديث متى علمنا أنه لا تأويل له صحيحٌ، وأنه لا يدخل في مقدور أحدٍ من الراسخين أن يهتدي (1) إلى معنى لطيف في تأويله، ولكن العلم بهذا صعب عزيز، والدليل على صعوبته أن الناظر في الحديث لا يخلو إما أن يكون من الراسخين في العلم الذين قيل (2): إنهم يعلمون التأويل أم لا. إن لم يكن منهم، فليس له أن يحكم بقصورهم وعجزهم عن تأويله، لأنه لم يرتق إلى معرفة التأويل الصحيح، ومن لم يعرف الشيء وكيف يحكم بنفيه أو ثبوته، وما أمَّنه أنه موجودٌ، لكن لعدم معرفته له جَهِلَهُ، وأما إن كان الناظر في الحديث من الراسخين، فإنه أيضاً يجوز عليه أن يجهل التأويل.

أما على قول أهل السنة -وهو الصحيح- فإن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، كما هو مقرَّرٌ في كتابي " ترجيح أساليب القرآن "(3)، فإن هذه المسألة مجوّدةٌ فيه، والحمد لله.

وأما على القول الآخر، فإنه يجوز أن الواحد منهم يجهل شيئاً ويعلمه غيره، فإن الله تعالى إنما أثبت العلم بالتأويل لجميع الرسخين، فأمَّا بعضهم، فقد يجوز ألا يعلم التأويل متى عَلِمَه غيره منهم، لأنه إذا علمه واحدٌ منهم، لم يصدق أن الراسخين لا يعلمون، فلا يجوز أنهم الجميع يجهلون التأويل، لأنه حينئذ يكون مخالفاً لما أخبر الله به من علم الراسخين على أحد القولين، فإن الآية على هذا القول تُثبت العلم بالتأويل لجميع الراسخين وجوباً، ولأحدهم جوازاً، لأن كل حكم يَثْبُتُ للجميع لا يجبُ للآحاد إلَاّ بدليلٍ، ولهذا لما أمر الله باتباع سبيل المؤمنين لم يجب اتباع سبيل المؤمن الواحد، أقصى ما فيه أنه يدلُّ على مشاركة الواحد للجميع، لكن دلالة ظنية، وهي غير نافعةٍ في هذا

(1)" أن يهتدي " ساقطة من (ش).

(2)

في (ف): " يقولون ".

(3)

انظر ص 121 وما بعدها.

ص: 263

المقام، لأنا في الكلام على ما يُفيد القطع والثبات بتكذيب الراوي.

وأما الراسخون، فمتى ثبت عندهم أن أحداً منهم ما اهتدى إلى التأويل، لأنه لو كان ثم تأويلٌ، لم يجُزْ على جميعهم جهله، وإن لم يثبت أنهم جهلوا تأويله، وإنما جهله بعضهم. لم يُردَّ الحديث لجواز أن يكون فيهم من يعلم تأويله وفوق كل ذي علم عليم.

فإن قلت: وبأي شيءٍ يعلم أنهم جهلوا تأويله كلهم (1) ولم يبق منهم أحدٌ؟

قلت: بأسهل مما يُعلَمُ به إجماع الأمة والعترة على بعض الأقوال، وأنه ما بقي منهم أحدٌ، لأن الراسخين في العلم أقل من العلماء، فإذا جاز أن يُعلَّقَ (2) الحكم العملي المحتاج إلى تنجيزه بمعرفة ما قال جميع العلماء مع كثرتهم، جاز أن يُعلّقَ الحكم الاعتقادي التفصيلي بمعرفة قول أهل الرسوخ في العلم منهم مع قلتهم، ومع الاستغناء بالاعتقاد الجملي.

مثال العلم بإجماع الراسخين في التأويل: أنهم أجمعوا على بطلان تأويلاتهم الباطنية للجنة والنار والحساب والبعث، وشاع ذلك في كل عصرٍ، وعُلِمَ منهم إنكاره بالضرورة، فهذا وأمثاله مذاهب الخوارج وسائر طوائف الضلال الذين لا يُعتَدُّ بهم في الإجماع.

قد علمنا إجماع الراسخين فيه على بطلان تأويلاتهم للحجح الحق، فيستدل به على بُطلان كثيرٍ من التأويلات، وإن كنا قاصرين عن مثل معرفة الراسخين بوجه بطلان بعض التأويلات على سبيل القطع، وكذلك كل حديثٍ ظهر من الأئمة عليهم السلام النص على أنه لا تأويل له البتة، وشاع ذلك بين الأئمة وذاع، ولم يُنكر، وتكرر حتى علمنا إجماعهم على بُطلان تأويله، فإنه يجب ردُّه.

فإن قلت: ومن الراسخون في العلم؟

(1)" كلهم " ساقطه من (ف).

(2)

في (ش): " تعلق ".

ص: 264

قلت: هذا بحثٌ ظاهرٌ لغوي، والراسخ في العلم: الثابت فيه، الماهر في معانيه، العارف للأدلة القطعية على ما يعتقد، فهو أرسخ قدماً من شوامخ الجبال، ولهذا ورد في صفة العالم: أنها تزول الرواسي ولا يزول، وليس كل مجتهدٍ، فهو غوَّاص الفِطْنَةِ، سيَّال الذِّهن، وقاد القريحة، لمَّاحاً لخفيَّات المعاني، درّاكاً لمغاصات الدقائق.

وفي كلام العلامة رحمه الله: ليس العارف كالبارع في المعرفة، ولا ليلة المزدلفة كيوم عرفة. انتهى.

ألا ترى أن أبا بكر وعمر وعثمان وكثيراً من الصحابة كانوا مجتهدين، ولما يكونوا في الرسوخ في العلم كأمير المؤمنين، وقد قدمت في أول هذا الكتاب نكتةً حسنةً في تفاضل الناس إلى غير حدٍّ، فخذه من هنالك.

ويحتمل أن كل مجتهدٍ راسخٌ إذا كان ثابت العقائد والقواعد، لا شك فيما قطع به، وقدر احتمال نقيضه، لأن الراسخ: الثابت في اللغة.

المقدمة الثالثة: إذا اختلف رجلان من أهل العدل والتوحيد في حديثٍ يُخالف عقيدتهما، فقال أحدهما: تأويله مما لا دليل على عجز الراسخين في العلم عن تأويله، ولا دليل في العقل، ولا في السمع على أن علياً عليه السلام وسائر الأئمة، والفطناء، وأهل الدِّريَة بالغَوْصِ على الدقائق لو اجتمعوا واجتهدوا في البحث عن وجوه التأويل، لعَجَزُوا عن تأويله، ولم تهتد إليه فكرهم الغَوَّاصة على الدقائق، الماحية لخفيات المدارك البتة، بل يعلم أنه لا يستحيل تأويله في علم الله على الصحيح.

وقال الآخر: أنا أعتقد أنهم لو اجتمعوا كلهم أولهم وآخرهم، ما قدَرُوا على تأويله البتة.

فإنه لا يستحق أحدٌ منهما تكفيراً ولا تفسيقاً ولا تأثيماً، لأن عقيدتهما واحدةٌ، وإنما اختلفا في بعض ما خالف عقيدتهما: هل يمكن أحدٌ من

ص: 265

الراسخين تأويله أم لا؟ مع اتفاقهما على أن ظاهرهما متروكٌ، وعلى أنه إذا لم يكن عند أحدٍ من الراسخين له تأويلٌ، فإنه مردودٌ.

وهذه الصورة هي صورة ما بيني وبين السيد من الخلاف في بعض الأحاديث، فينبغي منه ومن غيره التنبيه على أنه ليس بيننا وبينه من الخلاف ما يَجِلُّ خطرُه، ويعظم أثره، إذا وافق على هذا الحد، فإن كثيراً من البُلداء إذا سمع بالمراسلات والمنازعات توهَّم أن ذلك لا يمكن إلَاّ مع تفسيقٍ أو تكفيرٍ، وذلك غير صحيح، ولو شاء أهل العلم وسَّعُوا القول في أدنى المسالك، وقد صنَّف كثيرٌ من العلماء مصنَّفاتٍ كباراً في مسائل فروعيةٍ ولطائف أدبيةٍ.

المقدمة الرابعة: أن السيد أيده الله تعالى جنى عليَّ جنايةً عظيمةً، فنسبني إلى القول بنفي التأويل، وأنا ما قلتُ بذلك في الكتاب الذي اعترضه السيد، والذي قلت به فيه: إن التأويل لا يحِلُّ لي، لأنِّي من الجاهلين به، ولست من الراسخين فيه، مع الإقرار فيه بالتأويل للراسخين، فإن كان السيد يوجب العلم بالتأويل على جميع المكلَّفين من الإماء والنِّساء والحرَّاثين، وأهل الحِرَفِ من الصُّنَّاع، وسائر طبقات المسلمين، فهذا مذهبٌ له وحده لم (1) أعلم أحداً يُوافِقُهُ عليه، ولا يلزمني أن أوافقه فيه.

وما زالت العلماء من المسلمين يجهلون التأويلات الدقيقة، ولا يدرُون بشيءٍ من تلك المغاصات العميقة، ولم ينكر ذلك عليهم أحدٌ من الأئمة عليهم السلام ولا أئمة الإسلام، وإيجاب ذلك عليهم يقتضي إيجاب المعرفة التامة بعلوم الأدب على كل مكلَّفٍ، وهذا خلاف الإجماع، وقد ذكر الزمخشري: أن التفسير يحتاج إلى التبريز في علمي المعاني والبيان (2)، ولا شك أن ذلك غير واجبٍ على العامة، بل كثيرٌ من أهل الإسلام عجمٌ، لا يجب عليهم تعلُّم الجليِّ من كلام العرب.

(1) في (ف): " لا ".

(2)

انظر " الكشاف " 1/ 20.

ص: 266

وإن كان السيد يعرف أن العلم بالتأويل من خصائص الراسخين في العلم، كما قال الله على أحد القولين، فأنا ما أنكرتُ هذا في ذلك، فكيف ينسِبُني السيد إلى نفي التأويل على الإطلاق، ولم يزل سامحه الله يبني الردود في رسالته على مجرَّد التَّوهمات الواهية، ولولا محبة الرِّفق، لتكلَّمت في هذا الموضع بما يليق بمقتض الحال، فقد قال الله تعالى:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم} [النساء: 148]، ولكني أرجو أن آخذ نصيباً من العمل بقوله:{وأن تَعفُوا أقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237].

ولو لم أنصَّ على خلاف ما حكى عني في كتابي الأول الذي رسالته جوابٌ له، لعذرته بعض المعذرة، ولكني صرَّحتُ في كتابي الأول بخلاف ما رماني به تصريحاً لا يخفى مثله، ولا يمكن تأويله، وأقل أحوال المجيب أن يدري (1) بما في المبتدأ (2) ولا يتسرَّع إلى القول بما لا يعلم.

وأنا أُوردُ كلامي في المبتدأ بلفظه حتَّى يعرف السيد أنه قد أكثر من الجنايات علي في جوابه بمجرد تخيُّلاته وأوهامه.

قلت: في كلامي المبتدأ ما هذا لفظه: وإن كانوا أنكروا القراءة في كتب الحديث، لِمَا فيها من المتشابه، فالقرآن مشحونٌ بالمتشابه، فهلَاّ نَهَوْا عن محبة قراءة القرآن، وزجروا المتقدمين في حفظ الفُرقان، وإن كانت نفرتهم منه لعدم تمكنهم من معرفة معانيه، وقلة معرفتهم لشرائطه ومبانيه، وتعثُّرهم في ميادين تأويله، وتحيُّرِهم في مسالك تعليله، فلا ذنب للحديث ولا لحَمَلَته في غباوتهم، ولا عَيْبَ عليه ولا على طلبته في بلادتهم (3)، وتأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى في أحد القولين، والراسخون في العلم على القول الآخر، فمن لم يكن من الراسخين في العلم، لم يتضجَّر من عدم معرفته للدقائق، ويقيِّد

(1) في (ف): " يعلم ".

(2)

عبارة " بما في المبتدأ " ساقطة من (ف).

(3)

في (ف): " بلادهم "، وهو خطأ.

ص: 267

فهمه عن السَّير في المزالق.

وابن اللَّبُون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ

لم يستطع صولَةَ البُزْلِ القناعيس

ومن ها هنا نسبني كثيرٌ من الجهلة إلى القول بالظاهر، لأني لما استصغرت قدري وأمسكت عن الكلام حيث لا أدري، علماً منِّي أني لستُ من الراسخين، وأني بعد لم أرتفع عن مرتبة المتعلِّمين، مع اعتقادي أن الظاهر الذي يخالف مذهب العترة عليهم السلام غير مرادٍ ولا مقصودٍ، ولكني أقف على تأويله، وأكيع (1) عن تعليله، اللَّهُمَّ إلَاّ أن يصح إجماع العترة عليهم السلام على تأويلٍ معينٍ في ذلك، فلا أشك حينئذٍ في التَّمسُّك بإجماع العترة الهُداة، والرجوع إلى سُفُنِ النجاة، وإن لم يصح عنهم في ذلك إجماعٌ، لم يكن إلَاّ الوقوف في التأويل والإقرار بالتنزيل، لأن التَّقليد إنما شُرِعَ لنا في المسائل العملية الفروعية، لا في المسائل العلمية.

انتهى كلامي في المبتدأ، فكيف ينسُب السيد إلى القول بنفي التأويل، ويحتجُّ علي: بأن الله تعالى لا يخاطِبُ بما لا يعلمون؟ فإذا تقرِّر هذا، فاعلم -أيدك الله- أنك الذي أنكرت وجود العلماء المجتهدين، فضلاً عن وجود الراسخين!

وقلت: إنه (2) لا طريق إلى معرفة تفسير القرآن، هكذا على الإطلاق، فنفيتَ الطريق إلى معرفة تفسير المحكم والمتشابه، وقلت: لا طريق إلى معرفة اللغة العربية عن رواتها، وعلى طريق صحتها، فقبولها منهم تقليدٌ لهم، والتفسير بالتقليد لا يجوز، وقد تقدم كلامك بلفظه، وتقدم الجواب عليه، فبالله أيها الناظر: مَنِ الذي سدَّ على الناس معرفة كلام الله، وصنف في قطع التفسير

(1) في " القاموس ": كِعْتُ عنه، أكيع وأكاع كيعاً وكيعوعة: إذا هبته وجبنت عنه، فهو كائعٌ، وهم كاعة.

(2)

" إنه " ساقطة من (ف).

ص: 268