الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحنفية، وأسقط الزهري تدليساً، لأن الحديث لا يُعرف عن الحسن إلَاّ مِنْ طريق الزهري، بل لم يصح عن عليٍّ عليه السلام من وجهٍ من الوجوه إلَاّ وهو يدور على الزهري. ويدل على تدليس الثوري للزهري فيه أن المؤيد بالله عليه السلام رواه في " التجريد " عن أبي زُبَيْد عَبْثَرِ بن القاسم، عن الثوري، عن مالكٍ، عن محمد بن مسلم -وهو الزهري- عن الحسن بن محمد بن الحنفية، فدلَّ على أن الثوري حين احتاج إلى حديثه، رواه مرة بتدليسٍ وعُلُوٍّ، ومرةً بتصريحٍ ونزولٍ على أن إسحاق بن راشدٍ روى عن الزهري أنه لم يسمع هذا الحديث من الحسن، وأنه قال: لو سمعته من الحسن، لم أشك، وقد كان الزهري يدلس أيضاً، ولم يأت عنه التصريح هنا بسماعه إلَاّ من طرف مُعَلَّة فيُحرَّر ذلك.
وأما حديث الزهري، فهو مشهورٌ في كتب أهل البيت عليهم السلام. وفي سائر دواوين الإسلام، وفي كتب الفضائل، وكتب الحلال والحرام، وذكر الحاكم في " علوم الحديث " على تشيعه أنه ممن يجمع حديثه من ثقات أهل العلم كما يأتي قريباً.
المرتبة الرابعة: فيما يدلُّ على
علمه وتوثيقه وعدالته
من كلام من صحبه وخَبَرَهُ من علماء التابعين المُجمع على عدالتهم، وكلام من بعدهم من أهلِ المعرفة والعدالة، وذلك شيءٌ أوسع، أذكر منه على قدر معرفتي.
فمن ذلك أن عُمَرَ بن عبد العزيز كان يُثني عليه، ويأمرُ بأخذ العلم عنه،
= فقيدهما به، ثم جاء بعضهم، فاقتصر على أحد المحرمين، وهو تحريم الحمر، وقيده بالظرف، فمن ها هنا نشأ الوهم، وقصة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتعون باليهوديات، ولا استأذنوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نقله أحد قط في هذه الغزوة، ولا كان للمتعة فيها ذكر البتة، لا فعلاً ولا تحريماً بخلاف غزاة الفتح، فإنَّ قصة المتعة كانت فيها فعلاً وتحريماً مشهورة.
فروى معمرٌ التابعي الجليل عن عمر بن عبد العزيز: إيتوا ابن شهابٍ، فإنه لم يبق أعلم بسنَّةٍ ماضيةٍ منه (1).
وقال عمر بن عبد العزيز: ما أتاك به الزهري عن غيره، فشدَّ به يديك (2).
وقال أيضاً: عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تلقون أحداً أعلم بسنَّةٍ ماضيةٍ منه (3).
فهذا كلام عمر بن عبد العزيز مع أمانته وجلالته ونصيحته للمسلمين (4) مع أن الزهري كان قد صَحِبَ الملوك قبل عمر بن عبد العزيز كما ذكر ذلك الذهبي (5) ولم يمنع ذلك عمر بن عبد العزيز من الثقة به.
وكذلك مالكٌ الفقيه، فإنه قد قَبِلَهُ، واحتج بحديثه، مع تشدده في الرجال، وقد لزمه مالك وأكثر عنه، فروى عنه في " الموطأ " مئة حديثٍ وثلاثين حديثاً (6)، وكان يُثني عليه.
ومن كلام مالك فيه: بقي ابن شهاب وماله في الناس نَظِيرٌ. رواه ابن القاسم عن مالك (7).
وذكره ابن عبد البر في رواة " الموطأ "(8) فأثنى عليه، وقال: ابن شهاب إمامٌ جليل من أئمة الدين، متقدم في الحفظ والإتقان والرواية والاتساع.
وقد احتج الإمام المؤيد بالله عليه السلام بكلام الزهري في الحديث فيما يتعلق بالأحكام، وكذلك الأمير الحسين بن محمد رحمه الله. ذكره الأمير في
(1) انظر " تاريخ دمشق " ص 110 و111.
(2)
" تاريخ دمشق " ص 99، و" السير " 5/ 345.
(3)
" تاريخ دمشق " ص 110.
(4)
في (ش): " المسلمين ".
(5)
في " السير " 5/ 339.
(6)
كما في " التمهيد " 6/ 114.
(7)
" الجرح والتعديل " 8/ 72، و" تاريخ دمشق " ص 123، و" السير " 5/ 336.
(8)
" التمهيد " 6/ 101.
كتابه " شفاء الأوام " في باب القضاء، وذلك يقتضي جواز الاستناد إليه عندهما وعند غيرهما من علماء الزيدية، فلم يُعلم أن أحداً أنكر ذلك عليهما رضي الله عنهما.
وقد نقل ابن الأثير ذلك في مقدمات " جامع الأصول "(1) عن علامة الشيعة أبي عبد الله ابن البيع الشهير بالحاكم أنه قال: أصح الأسانيد فيما قيل: مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وأبو الزِّناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، والزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، والزهري، عن سالم، عن أبيه، ومحمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي عليه السلام، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. انتهى.
وفيه ما يدلُّ على أن علماء الشيعة لا ينكرون ثقة (2) الزهري في الحديث.
وفي " علوم الحديث " لابن الصلاح نحو هذا.
وقال المنكدر بن محمد: رأيتُ بين عيني الزهري أثر السجود (3).
وقيل لمكحول: من أعلم من لقيت؟ قال: ابن شهاب، قيل: ثم؟ قال: ابنُ شهاب، قيل: ثم؟ قال: ابن شهاب (4).
وقال مكحول أيضاً: ما بقي على ظهرها أعلم بسنةٍ ماضيةٍ من الزهري (5).
وقال عمرو (6) بن دينار: الدراهم عند الزهري بمنزلة البَعْرِ (7).
وقال مالك: كان الزهري من أسخى الناس، فلما أصاب تلك الأموال (8)،
(1) 1/ 154 - 155.
(2)
في (ش): " فضل ".
(3)
" السير " 5/ 341.
(4)
" السير " 5/ 336.
(5)
" تاريخ دمشق " ص 114.
(6)
في الأصول " عمر " وهو خطأ.
(7)
" تاريخ دمشق " ص 96 - 98، و" السير " 5/ 334.
(8)
في (ف): " الأمور "، وهو خطأ.
قال له مولى له: قد رأيت ما مرَّ عليك من الضيق، فأمسك مالك، قال: ويحك، إني لم أر السَّخِيَّ تنفعُه التجارب (1).
وقال إبراهيم بن سعد: قلت لأبي: بما فاتكم الزهري؟ قال: لم يكن يترك شابّاً إلَاّ ساءله، ولا كهلاً إلَاّ ساءله، وكان يأتي الدار من دُورِ الأنصار ولا يبقي فيها شابّاً ولا كهلاً ولا عجوزاً إلَاّ ساءلهم حتى حاول ربَّات الحِجال (2).
وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل هشامٌ الزهري أن يُمْلِيَ على بعض ولده، فدعا بكاتب (3) فأملى عليه أربع مئة حديث، ثم خرج، فقال: أين أنتم يا أصحاب (4) الحديث، فحدَّثهم بتلك الأربع مئة حتى لقي هشاماً بعد شهرٍ أو نحوه، فقال للزهري: إن ذلك الكتاب قد ضاع، قال: لا عليك، فدعا بكاتب (5) فأملاها عليه، ثم قابل هشام بالكتاب الأول، فما غادر حرفاً (6).
وقال معمر: ما رأيت مثل الزهري في الفن الذي هو فيه.
وقال ابن أخي الزهري: جمع عمي القرآن في ثمانين ليلة (7).
وعن الليث بن سعد: ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهابٍ، يحدِّث في الترغيب، فنقول: لا يُحسن إلَاّ هذا، وإن حدَّث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلَاّ هذا، وإن حدَّث عن القرآن والسنة، قلت: لا يحسن إلَاّ هذا (8).
وقال ابن أبي الزناد عن أبيه: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهابٍ يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه، علمت أنه أعلم الناس، وبَصِرَتْ (9) عيني
(1)" السير " 5/ 238.
(2)
" تهذيب الكمال "1270.
(3)
في (ف): " بكتاب ".
(4)
في (ف): " أهل ".
(5)
في الأصول " بكتاب "، والمثبت من " تهذيب الكمال ".
(6)
" تهذيب الكمال " ص 1270.
(7)
" تاريخ دمشق " ص 50.
(8)
" تاريخ دمشق " ص 105 - 106، و" السير " 5/ 328.
(9)
في (ف): " ونظرت ".
به ومعه ألواحٌ وكتبٌ يكتب فيها العلم والحديث (1).
وقال ابن شهابٍ: ما استودعت قلبي شيئاً قط، فنسيته (2).
وقال بعضهم (3): كنا نرى أن (4) قد أكثرنا عن الزهري، فإذا (5) الدفاتر قد حُملت (6) على الدواب من خزائنه. يقول من علم الزهري.
وكان أول من دوَّن العلم وكتبه ابن شهاب (7).
وقال عمر بن عبد العزيز: ما ساق الحديث أحد مثل الزهري (8).
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً أنصَّ للحديث من الزهري (9).
وقال أحمد بن حنبل: الزهري أحسن الناس حديثاً، وأجود الناس إسناداً (10).
وقال أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس الزهري.
وقال شعيب بن أبي حمزة عن الزهري: اختلفت من الحجاز إلى الشام خمساً وأربعين سنة، فما استطرفتُ حديثاً واحداً، ولا وجدت من يُطرفني حديثاً.
وقال الزهري: إن عندي لثلاثين حديثاً ما سألتموني عن شيءٍ منها (11).
(1)" السير " 5/ 332.
(2)
" تاريخ دمشق " ص 73، و" السير " 5/ 332.
(3)
هو معمر، والخبر في " تاريخ دمشق " ص 92.
(4)
في (ف): " أنا ".
(5)
في (ف): " فإن ".
(6)
في (ش): " حمل ".
(7)
قال ذلك الدراوردي، كما في " السير " 5/ 334.
(8)
" السير " 5/ 334.
(9)
نفسه.
(10)
" السير " 5/ 335.
(11)
الأخبار الثلاثة في " السير " 5/ 335.
وقال أبو صالح (1): سمعتُ الزهري يبكي على العلم، ويقول: يذهب العلم، وكثيرٌ ممن كان يعمل به، فقلت له: لو وضعت من علمك عند من ترجو أن يكون خلفاً. قال: والله ما نشر العلم أحدٌ نشري، ولا صبر عليه صبري، ولقد كنا نجلس إلى ابن المسيِّب، فما يستطيع أحدٌ منا أن يسأله عن شيء (2) إلا أن يبتدىء الحديث أو يأتي رجلٌ يسأله عن شيءٍ قد نزل به.
وروى ابن سعد (3) عن أبيه قال: ما رؤي أحدٌ يجمع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جَمْعَ ابن شهابٍ.
وقال الليث: ما بقي عند أحدٍ من العلم ما بقي عند ابن شهاب (4).
وقال قتادة: ما بقي أعلم بسنةٍ ماضية من ابن شهاب وآخر، كأنه عنى نفسه (5).
وقال مكحولٌ: ما بقي أعلم بسنةٍ ماضيةٍ من ابن شهاب، آلوتُ ما رأيت أحداً أعلم من الزهري (6).
وقال سفيان: ابن عيينة: كانوا يَرَوْنَ يوم مات الزهري أنه ليس أحدٌ أعلم منه (6).
وعن الزهري قال: حدثت عليَّ بن الحسين حديثاً، فلما فرغت قال: أحسنت بارك الله فيك. هكذا حدثناه. قال الزهري: أراني حدَّثتك بحديثٍ أنت أعلم به منِّي، قال: لا تقل ذاك، فليس من العلم ما لا يُعرف، إنما العلم ما عُرِفَ، وتواطأت عليه الألسنُ (7).
(1)" السير " 5/ 335، و" تاريخ دمشق " ص 108.
(2)
" عن شيء " ساقطة من (ف).
(3)
هو إبراهيم بن سعد، انظر " السير " 5/ 235.
(4)
" السير " 5/ 336.
(5)
" السير " 5/ 336.
(6)
" السير " 5/ 336.
(7)
" السير " 5/ 344 - 345.
وقال معمر: كان الزهري إذا رأى علي بن الحسين، قال: لم أر في بيته أفضل منه (1).
وقال الحاكم في النوع التاسع والأربعين من كتابه " علوم الحديث "(2) ما لفظه، هذا النوع من هذه العلوم معرفة الأئمة الثقات (3) المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة والتَّبرُّك بهم، وبذكرهم من الشرق إلى الغرب.
فمنهم من أهل المدينة: محمد بن مسلمٍ الزهري، وساق أسماءهم من أهل كل مصرٍ من أمصار الإسلام، فبدأ بالزهري أولهم لإتقانه وكثرة حديثه.
وكذلك قدَّمه في ذكر فقهاء الأمة، فقال في النوع الموفي عشرين نوعاً من علوم الحديث ما لفظه (4): هذا النوع من هذا العلم بعد معرفة ما قدَّمنا ذكره من صحة الحديث إتقاناً ومعرفة، لا تقليداً وظناً، معرفة فقه الحديث، إذ هو ثمرة هذه العلوم، وبه قوام الشريعة.
وأما فقهاء الإسلام أصحاب القياس والرأي والجدل والنظر، فمعروفون في كل عصرٍ وفي كل بلد، ونحن ذاكرون في هذا الموضع فقة الحديث عن أهله، ليُستدلَّ بذلك على أن أهل هذه (5) الصنعة من تبحَّر فيها لا يجهل فقه (6) الحديث، إذ هو نوعٌ من أنواع هذا العلم.
فممن أشرنا إليه من أهل الحديث محمد بن مسلم الزهري، ثم ساق الثناء عليه بذلك بأسانيده عن مكحول، ثم ذكر من استنباط الزهري وكلامه في فقه الحديث شيئاً، ثم ساق بقية فقهاء (7) المحدثين بعد الزهري.
(1)" السير " 5/ 345، وفيه " إذا ذكر علي بن الحسين ".
(2)
ص 240.
(3)
" الثقات " ساقطة من (ش).
(4)
ص 63.
(5)
" هذه " ساقطة من (ف).
(6)
" فقه " ساقطة من (ف).
(7)
" فقهاء " ساقطة من (ف).
فانظر إلى إنصاف الحاكم -على تشيُّعه- في معرفة أحوال خصومه في مذهبه، وتنزيل (1) كل أحدٍ منزلته، فكذلك فليكن الإنصاف.
وقال علي بن المديني: دَارَ عِلم الثقات على ستة: الزهري، وعمرو بن دينارٍ بالحجاز، وقتادة ويحيى بن أبي كثير بالبصرة، وأبو إسحاق والأعمش بالكوفة (2).
وقال الشافعي: قال ابن عيينة: حدَّث الزهري يوماً بحديث، فقال: هاته بلا إسناد، فقال: إنه في السطح بلا سلم (3).
فقد اشتمل هذا الكلام على الشهادة له بالثقة والعدالة والحفظ والإتقان، أمَّا الحفظ والإتقان، فهي كلمة إجماعٍ، وأما الثقة والعدالة، فعن عُمرَ بن عبد العزيز، ومالكٍ، وأحمدَ بن حنبل، وأبي حاتم، ولا خلاف بين جمهور (4) أهل (5) علم الأثر ورجال الحديث أنه ثقةٌ مأمونٌ إذا صرَّح بالسماع، ولم يقع في
(1) في (ش): " وتنزيله ".
(2)
" السير " 5/ 345، بهذا اللفظ، ونص كلامه في " العلل " ص 36 - 37: نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة:
فلأهل المدينة ابن شهاب وهو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب ويكنى أبا بكر، مات سنة أربع وعشرين ومئة.
ولأهل مكة عمرو بن دينار مولى جمح، ويكنى أبا محمد، مات سنة ست وعشرين ومئة.
ولأهل البصرة قتادة بن دعامة السدوسي، وكنيته أبو الخطاب، مات سنة سبع عشرة ومئة.
ويحيى بن أبي كثير، ويكنى أبا نصر، مات سنة اثنتين وثلاثين ومئة باليمامة.
ولأهل الكوفة أبو إسحاق، واسمه عمرو بن عبد الله بن عبيد، مات سنة تسع وعشرين ومئة.
وسليمان بن مهران مولى بني كاهل من بني أسد، ويكنى أبا محمد، مات سنة ثمان وأربعين ومئة.
(3)
" السير " 5/ 347.
(4)
" جمهور " ساقطة من (ف).
(5)
" أهل " ساقطة من (ش).
حديثه إعلالٌ ولا إدراجٌ ولا إرسالٌ كما يأتي بيانه، فما تكلَّم فيه أحد منهم على كثرتهم وكثرة تعرُّضهم للكلام على كلِّ من فيه مطعَنٌ، سواءٌ كان منهم أو منَّا، وسواءٌ كان صغيراً أو كبيراً، فقد تكلموا في حفظ الإمام أبي حنيفة على جلالته، وعلى أن كثيراً من الملوك حنفيَّةٌ، وتكلَّموا في كثيرٍ من رجال الصحيحين، فما بالُهم لم يختلفوا في صحة حديث الزهري، مع إجماعهم على الجرح بتعمُّد المعاصي وإجماعهم على أنه لا يُقبل المجهول، وقد تواترت عدالتهم إلَاّ في ذنوب التأويل.
وقد بيَّنَّا كلام الأئمة في وجوب العمل بأخبار المتأولين، ومن جملة ذلك أخبارهم بالجرح والتعديل.
ولا بدَّ من ذكر ما يدلُّ على أنه لم يكن مداهناً للملوك في مخالطته، فنقول:
فإن (1) قيل: هذا ما يدلُّ على عدالته، فأورِدُوا ما قدح به (2) عليه.
قلنا: هذا لازمٌ من بيان ذلك، ولا بُدَّ من بيان ذلك، والجواب عليه فنقول:
جملة ما قُدِحَ على الزهري به أمورٌ أربعة:
أولها: المخالطة للسلاطين، وقد تقدم الجواب عنها، وهي المشهورة عنه، وهي جُلُّ ما يقدح به فيه.
وثانيها: التدليس، قال الذهبي في " ميزان الاعتدال في نقد الرجال "(3) كان الزهري يُدَلِّس في النادر.
وقال صلاحُ الدين العلائي، وأحمد بن زين الدين العراقي في كتابيهما في المدلسين: إنه مشهور بالتدليس (4).
(1) في (ف): " إن ".
(2)
" به " ساقطة من (ش).
(3)
4/ 40.
(4)
نص العلائي في " جامع التحصيل " ص 125: محمد بن شهاب الزهري الإمام =
وقال أحمد بن زين الدين العراقي: إن الطبري ذكر في كتاب " تهذيب الآثار " عن قوم: أن الزهري مِنَ المدلسين، قال: وكلامه يقتضي خلافاً في ذلك.
قلت: وإن اقتضى ذلك، فالمثبت أولى من النافي، والحق أحق أن يُتبع.
والجواب عن هذا واضح، فإن مذهب أهل البيت عليهم السلام: أن التدليس جائزٌ وأنه لا يُجرح الراوي به، وكذلك جماهير علماء المعتزلة ممن يقبل المرسل، وكذلك مذهب جمهور أهل الحديث: أن المدلِّس لا يجرح كالمرسل، فقد دلَّس كثيرٌ مِنْ كبار الثِّقاتِ، وصحَّ عنهم ذلك مع الإجماع على عدالتهم، مثل الحسن البصري، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وخلق كثير، وإنما الذي يمنع منه المحدثون قبول ما احتمل التدليس من رواياتهم دون
= العلم مشهور به (أي: بالتدليس) وقد قبل الأئمة قوله " عن ".
وأحمد بن الحسين العراقي: هو الحافظ أبو زرعة المتوفى سنة (826) ابن الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة (806) هـ، وكتابه المنقول عنه هذا النص يغلب على الظن أنه " تحفة التحصيل في ذكر ذوات المراسيل " ذكره في " كشف الظنون " 1/ 364.
قلت: وقد ذكر الحافظ ابن حجر الأمام الزُّهري في المرتبة الثالثة من " طبقاته " ص 109، وقال: وصفه الشافعي والدارقطني وغير واحد بالتدليس، وقد وصف الحافظ أصحاب هذه المرتبة فقال: من أكثر من التدليس، فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلَاّ بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم من ردَّ حديثهم مطلقاً، ومنهم من قبله كأبي الزبير المكي.
قلت: وإدراج الحافظ هذا الإمام الجليل في هذه المرتبة وهمٌ مُبين منه رحمه الله، فإن الزهري إمامٌ حافظ حجة متفق على جلالته وإتقانه، وحديثه في الصحيحين والسنن والمسانيد جدُّ كثير، ولم يقع منه التدليس إلَاّ نادراً، كما وصفه الإمام الذهبي، وهو أعرف من الحافظ بالرجال وأبصر، على أن الحافظ في " الفتح " 10/ 427 وصفه بقلة التدليس، ولذا أرى أن الصواب أن يُدْرَج في المرتبة الثانية، مرتبة من احتمل الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في الصحيح لإمامته، وقلة تدليسه في جنب ما روى.
ما صرَّحوا فيه بالسماع، أو ظهرت لهم قرينةٌ تدل عليه، كطول المخالطة ونحو ذلك، ولكنَّ اسم (1) التدليس منكرٌ عند من لا يعرف اصطلاح علماء الأصول والحديث.
والتدليس في عرفهم: أن يروي المحدِّث الحديث عن رجلٍ ولم يسمعه منه، وإنما سمعه عن رجل عنه، موهماً أنه سمعه منه من غير أن يكذب، فيقول: حدثني فلان، وذلك شائعٌ في الثقات، وقل من يسلمُ منه (2).
وقد رُوِيَ أن ابن عباس ما سَمِعَ من النبي صلى الله عليه وسلم إلَاّ أحاديث يسيرة. قال بعضهم: أربعة أحاديث، وبقية روايته عن الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يكاد يذكر من بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، حتى يتوهَّم السامع أنه سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا شبيه (3) بالتدليس، لكنه لم يتحقق قصد الصحابي لذلك، وكذلك لم يوصف أحدٌ منهم بالتدليس، وهذا مما احتج به أصحابنا على قبول المرسل.
وقد يجرح أهل الحديث بالتدليس إذا صدر ممن ليس له بصرٌ بالإسناد وعلم الرجال، وكان يُدلس أحاديث الضعفاء ويخلِطُ الغَثَّ بالسمين، وأما أهل البصر بهذا الشأن، المجرَّبُ صدقهم وتحرِّيهم، فالكلام فيهم كما قدمته.
والقدح على الزهري بالتدليس غريبٌ جداً، فلم يذكر هذا أحدٌ، لولا أن الذهبي شرط في كتاب " الميزان " أن لا يترك شيئاً قدح به من حقٍّ أو باطلٍ.
وثالثها: أن الزهري كان يلبس زى الأجناد.
قال الذهبي (4): كان الزهري بزيِّ الأجناد، وكان في رتبة أميرٍ.
والجواب عن هذا ظاهر، فإن زي الأجناد غير محرَّم، لا في الكتاب، ولا
(1)" اسم " ساقطة من (ف).
(2)
" منه " ساقطة من (ف).
(3)
في (ف): " اشتبه ".
(4)
في " السير " 5/ 341.
في السُّنة، وقد فسَّر الذهبي هذا الزي الذي كان يلبسه، فقال: كان له قُبَّةٌ معصفرة، وملحفة معصفرة (1).
فهذا هو الذي كان عليه، ولباس الثوب المعصفر مختلفٌ فيه بين أهل العلم، ومذهب الشافعي المنصوص أنه مباحٌ، وليس فيه تحريم على مذهبنا أيضاً، وقد كان هذا مستنكراً في ذلك العصر، لما كان عليه أهل العلم من الخشونة في ملابسهم والاقتداء بالسلف في كثير من أحوالهم، وقد لبس العلماء في الأعصار الأخيرة لباس المترفين، ولا قدح في ذلك، بل الأفضل تركه، وفعله جائزٌ.
والزهري لما خالط الأجناد، وكثُرَت ملازمته لهم، تزيَّا بزيِّهم، ولا جرح في هذا، ولكن نقص في المرتبة، فقد كان الأولى له لزوم المساجد والبعد عن مخالطة أهل الدنيا، ولكن من الذي ما فعل إلَاّ ما هو الأولى والأفضل؟ ولكنَّ الطبيعة البشرية تقتضي من الإنسان أن يرى القذى في عين أخيه، ولا يرى الجِذْعَ في عينه، فالزهري وإن فعل ذلك فهو ثقةٌ مأمون، ولو أنه يغير في دينه، لرَفَضَه علماء التابعين، وجرَّحوه، وحذَّروا طلبة العلم من ملازمته والاعتماد على روايته.
ورابعها: قول محمد بن إشكاب: كان الزهري جندياً، وهذه عبارةٌ بَشِعَةٌ جافيةٌ، لا يليق طرحها على الزهري، لما أُبَيِّن من ترفُّعه عن هذا المحل.
والجواب عن هذا من وجوهٍ:
الوجه الأول: أن محمد بن إشكاب غير معروف، سألت عنه النفيس العلويَّ أدام الله علوَّه، فقال: هو مجهولٌ (2)، وأما أحمد بن إشكاب، فثقةٌ من
(1) لم يفسره الذهبي، وإنما رواه عن الليث بن سعد، ثم إنه ليس فيه ما يدل على أن ذلك هو زي الأجناد.
(2)
هذا خطأ بين من المصنف رحمه الله تابع فيه شيخه النفيس العلوي، فالرجل ليس =
رجال الصحيح، وغير خافٍ على أهل التمييز أنه لا بد من معرفة الجارح بالعدالة.
الوجه الثاني: أن محمد بن إشكاب لم يدرك الزهري، فبين وفاته ووفاة الزهري مئة سنة واثنتان وأربعون سنة (1)، ذكره في " درة التاريخ "، وقد ذكرنا ما يدل على عدالة الزهري من كلام أئمة التابعين المشاهير الذين صحِبُوه وخَبَرُوه، وهذا رجل لم يدركه، ولم يعرفه رمى بكلمةٍ لا ندري عمن تلقَّفَها وهل تجوَّز فيها.
وفي كتاب " الميزان "(2) للذهبي نحو هذا في ترجمة خارجة بن مصعب من طريق أحمد بن عبدويه المروزي، عن خارجة بن مصعب، ثم ذكر الذهبي عن كثيرٍ من الأئمة تضعيف خارجة، بل قال البخاري: تركه ابن المبارك ووكيعٌ (3)، والترك في عبارتهم بمعنى التُّهمة بتعمُّد الكذب، ووكيعٌ شيعي لا يتهمه الشيعة، وعن ابن معين أنه كذاب وهذا أشد الجرح، مع أن في الرواية هذه بعينها عن خارجة أنه ترك الزهري لما رآه صاحب شرط بني أمية في يده حربةٌ. قال: ثم ندم، فقدم على يونس صاحب الزهري، فسمع منه عن الزهري.
وهذا يدل على صدق المحدِّثين في عدم الثقة بخارجة إن صحَّت الرواية،
ولم يُوثِّقهُ أحدٌ، وإنما قال ابن عدي: لا بأس به (4)، وهي عبارة تليين، والجرح
= بمجهول، بل هو حافظ إمام ثقة من رجال البخاري وأبي داود والنسائي، وإشكاب لقب أبيه، فهو أبو جعفر محمد بن الحسين بن إبراهيم بن الحر بن زعلان البغدادي المتوفى سنة (261 هـ) مترجم في " التهذيب " و" السير " 12/ 352 - 353.
(1)
قلت: توفي الزهري سنة (124 هـ)، ومحمد بن إشكاب سنة (261 هـ) فيكون بين وفاتيهما (137) سنة.
(2)
1/ 625.
(3)
" ووكيع " ساقطة من (ف).
(4)
بل قال ابن عدي: " وهو ممن يكتب حديثه " انظر " الكامل " 3/ 927، و" الميزان ".
الصريح مقدمٌ على مثل هذا وفاقاً. فبطل هذا الإسناد، وإنما استند محمد بن إشكاب إلى مثل هذا.
الوجه الثالث: إن هذا القدر لا يجرح به في الرواية، لأن المحققين لا يقبلون الجرح المطلق غير المفسر، فكيف بما لم يثبت أنه جرحٌ، وذلك لأن خِدْمَةَ الملوك نوعان: محرّمٌ قطعاً، وهو خدمتهم في الحرام، ومباحٌ، وهو خدمتهم فيما ليس بحرامٍ، فإن ذهب عالم إلى تحريم ذلك، فبدليلٍ ظني لا يمنع الخلاف كما قدمنا في المعاونة سواء، ولكن هذه مرتبة نقص شرف تَبَيَّن أن الزهري كان أرفع منها، وإنما ذكرتها للتنقل في مراتب الجواب من الرتبة الدنيا إلى ما يليها.
الوجه الرابع: سلمنا أنه محرَّمٌ قطعاً، لكن لا يجرح به عندنا إلَاّ إذا وقع من غير تأويل، ولم يذكر في " الميزان " أنه قُدِحَ فيه بشيءٍ من هذه الأشياء إلا التدليس، وذلك لما ذكرته من هذه الأشياء مسائل ظنية لا يقدح بها، ولكن بعض أهل العلم قد يتجنب من خالط الملوك نُفرةً من الدنيا ومن قاربها، لا جرحاً محققاً.
وإنما ذكرت هذه الوجوه لما كثر التَّعنُّت، ولما تعرض السيد لذكرها في جوابه.
الوجه الخامس: أنَّا نبيِّنُ ما يدل على أن الزهري، وإن خالط الملوك، فما كان في هذه المنزلة، بل كان عالماً، موحِّداً، عدلياً، ثبتاً، قوَّالاً بالحق، غير مداهنٍ للملوك في أمر الدين، والذي يدل على ذلك وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره السيد الإمام الناطق بالحق (1) أبو طالب عليه السلام فإنه ذكر في كتابه " الأمالي " في ترجمة زيد بن علي عليه السلام أن الزُّهريَّ دخل على هشامٍ، بعد قتل زيد بن عليٍّ عليه السلام، فقال له هشام: إني ما أُراني
(1)" بالحق " ساقطة من (ف).