المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ العالم الثقة إذا قال: حدثني الثقة، ولم يوضح من هو، لم يحكم بصحة الحديث - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٨

[ابن الوزير]

الفصل: ‌ العالم الثقة إذا قال: حدثني الثقة، ولم يوضح من هو، لم يحكم بصحة الحديث

ذلك حديثٌ صحيح لم يحضرني لفظه (1)، وكذلك اللعن لغير المستحق، ولا يتعرض حازِمٌ لمثل هذه الأخطار.

وثانيهما (2): أن توثيقه غير واحد من غلاة الشيعة، وتوثيق النسائي له يدل على ذلك، وليس فيه دليل على أن العجلي لا يفسِّقه، فإنهم قد يوثِّقون الفاسق والكافر والرافض والجهمي (3)، وهو مثل قول محمد بن إسحاق -مع أنه معتزلي-: حدثني الثقة، قيل له: من الثقة؟ قال: يعقوب اليهودي. رواها عنه الذهبي في ترجمته من " الميزان "(4).

فقد يوثِّقون الصدوق في كلامه، وإن كان أبغض العصاة إلى الله، ولم يحتج العجلي على توثيقه إلَاّ بأن الناس رووا عنه، وهذا غير صحيحٍ، فلم يرو عنه إلَاّ الأقل، مما يدل على سوء حاله كما يأتي، ولو رووا عنه، فذلك ليس بدليل على توثيقهم له، كما ذكروه في علوم الحديث وفي الأصول.

ولهذا وأمثاله حكم علماء الحديث أن (5)

‌ العالم الثقة إذا قال: حدثني الثقة، ولم يوضح من هو، لم يحكم بصحة الحديث

، لجواز أن يخالفه في توثيقه لو بينه، إما بأن يعلم من حاله ما لا يعلم، أو بأن يختلف فيما يقتضيه حاله المعلوم للجميع.

وسر المسألة أن التوثيق ظني اجتهادي، ولا يجوز للمجتهد أن يقلِّد فيما هذا حاله مع التمكن، ومن هنا لم يصحِّحوا المرسلات (6).

(1) ولفظه: " لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلَاّ ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ". رواه أحمد 5/ 181، والبخاري في " صحيحه "(6045)، وفي " الأدب المفرد "(432)، والبيهقي في " الآداب "(158).

(2)

في (ش): وثانيها.

(3)

في (د) و (ف): " فالجهمي ".

(4)

3/ 471.

(5)

في (ف): " على أن ".

(6)

أي: جمهور أهل الحديث، وانظر في حجية المرسل واختلاف العلماء فيه فيما كتبناه في مقدمة المراسيل لأبي داود.

ص: 30

وقال عبدان في جميل بن الحسن الأهوازي: كاذبٌ فاسقٌ. قال ابن عدي (1): أما في الرواية، فإنه صالحٌ فيها (2).

وقال الذهبي في " الكاشف "(3): يعني عبدان: أنه كاذبٌ في كلامه، يعني في مذهبه (4)، لا في روايته، وهو في معنى كلام المنصور بالله في " الصفوة " وقد تقدم، وأعيد منه ها هنا ما تَمَسُّ إليه الحاجة.

قال عليه السلام بعد أن اختار قبول رواة الخوارج، وادعى إجماع الصحابة على ذلك ما لفظه: وقول من قال: إن من عُرِفَ بالكذب في المعاملات لا يقبل خبره، فكيف يقبل خبر من عرف بالكذب على أفاضل الصحابة وسادات المسلمين لا يتسق، لأن المعلوم من حالهم أنهم لا يكذبون على الصحابة في الرواية عنهم، وإنما يكذبون عليهم في الاعتقاد فيهم، وذلك خارج من باب الأخبار، وكانوا لا ينتقصون إلَاّ من يعتقدون الصواب في انتقاصه ومحاربته. انتهى.

فالخوارج قد شركوا عمر بن سعد في ذنبه (5)، وزادوا أنهم كانوا يُكَفِّرون أميرَ المؤمنين عليه السلام ومن والاه، وعمر بن سعد لم يُنقل عنه التكفير، فإذا أوجب المنصور بالله عليه السلام قبول قول (6) الخوارج، ولم يدل على بغضه علياً عليه السلام، لم يبعد أن يوثق (7) العجلي عمر بن سعد بهذا المعنى، ولا يبغض الحسين عليه السلام، وإنما هو في معنى قول الذهبي: إنه لم يكن يُتَّهم -يعني بالكذب-.

(1)" الكامل في الضعفاء " 2/ 594.

(2)

" ميزان الاعتدال " 1/ 423.

(3)

1/ 132.

(4)

قوله: " يعنى في مذهبه " لم يرد في (ش).

(5)

في (ش): دينه.

(6)

ساقطة من (د) و (ف).

(7)

في (ف): " توثيق ".

ص: 31

وكذا قال قتادة في عمران بن حطان: لم يكن يُتَّهم (1) في الحديث، وقال أبو داود: ليس (2) في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج، ذكره المزي في ترجمة عمران بن حِطان (3).

وكذلك كثيرٌ من المشركين، ولذلك، كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر مشركاً، فوثق (4) به في دلالة الطريق، وكذلك وثِقَ بعهد سراقة أنه لا يخبر به أحداً، ودعا له، وكتب له لظنه (5) أنه يصدق في عهده (6)، وذلك في معنى قول أهل البيت: إن حديث الخوارج مقبول، ودعوى المنصور بالله الإجماع عليه يستلزم روايته عن جميع أهل البيت القدماء مع تكفيرهم لعلي عليه السلام، وقد تقدم في مسألة المتأولين بيان مذاهب أهل البيت في ذلك.

وقال المنصور بالله في " المجموع المنصوري " في رسالةٍ ذكرها عقيب " تحفة الإخوان ": وقد كان دليل رسول صلى الله عليه وسلم كافراً لما غلب في ظنه أنه ينصحه. انتهى.

وقد يوثق الشيعي من يهلكه بهذا المعنى، كما نقل الذهبي عن النسائي في (7) أنه وثق نُعيم بن أبي هند، قال الذهبي في " الميزان "(8) نعيم لون غريب، كوفي ناصبي.

وكذلك السني قد يوثق الشيعي، كما قالوا في الحاكم أبي عبد الله وغير واحد.

(1) في (ش): متهم.

(2)

في (د): لم يكن، وكتب فوقها:" ليس ".

(3)

" تهذيب الكمال " 22/رقم الترجمة (4487). وانظر أيضاً " الميزان " 3/ 236.

(4)

في (ش): " يوثق "، وفي (ف):" وثق ".

(5)

ساقطة من (ش).

(6)

انظر " صحيح ابن حبان "(6280) و (6281).

(7)

" في " سقطت من (د) و (ف).

(8)

4/ 271.

ص: 32

ومما يدلُّ على ذلك أنه لم يرو عن عمر بن سعد أحد من أهل الكتب الستة المعتمدة إلَاّ النسائي، والنسائي (1) من المشاهير بالتشيع وتهليك أعداء عليٍّ عليه السلام، ولم يرو عنه إلَاّ حديث:" لا يحل دمُ امرىءٍ مسلمٍ إلَاّ بإحدى ثلاث "(2)، وهو مشهور من غير طريقه، ولا يُتَّهم في مثله، فهو حجة عليه، ولعل النسائي ما أورده من طريقه إلَاّ ليعلم أنه فاسق تصريحٍ يروي مثل هذا النص في تحريم أمرٍ، ثم يخالفه في أفضل أهل دهره.

وقد روى الذهبي عن مسلم في ترجمته في " النبلاء "(3) أنه قال في علي بن الجعد: إنه ثقة، لكنه كان جهمياً، والجهمي عندهم شرٌّ من الفاسق.

وروى في ترجمة الحاكم في " التذكرة "(4) عن أبي (5) إسماعيل الأنصاري أنه سئل عن الحاكم، فقال: ثقةٌ في الحديث، رافضي خبيث.

وفى " الميزان "(6) في ترجمة زكريا بن إسحاق المكي صاحب عمرو: أنه ثقة حجة مشهور، وقال ابن معين: قدري ثقة.

(1)(والنسائي) ساقطة من (ش).

(2)

وتمام الحديث: " إلَاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة " والحديث مخرج في " صحيح ابن حبان "(4407) و (4408). وليس هو من رواية عمر بن سعد لا عند النسائي ولا عند غيره كما توهم المصنف رحمه الله، وإنما روى النسائي له 7/ 121 حديثاً آخر هو:" قتال المسلم كفرٌ، وسبابه فسوق ". رواه من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عمر بن سعد، عن أبيه. وهو عند عبد الرزاق في " المصنف "(20224)، ومن طريقه رواه الطحاوي في " مشكل الآثار "(845) بتحقيقنا بهذا الإسناد، ورواه الطحاوي (844) وغيره من طريق محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، وله شاهد من حديث ابن مسعود مخرج في " صحيح ابن حبان "(5939)، وشرح مشكل الآثار " (846).

(3)

12/ 568.

(4)

" تذكرة الحفاظ " 3/ 1045، وذكره أيضاً في " النبلاء " 17/ 174.

(5)

تحرف في (ش) و (ف) إلى: " ابن ".

(6)

2/ 71.

ص: 33

ولهم من هذا (1) شيء كثير، وهو يدل على أنهم قد يطلقون التوثيق على من يعتقدون فيه الخبث والعصيان.

وبالجملة، فهي قبيحةٌ من العجلي، نادرةٌ مقصورةٌ عليه، وليس الاحتجاج بها على أنهم خوارج، أولى من الاحتجاج بكلام ابن معين وشعبة على أنهم شيعةٌ، بل سائر كلامهم المقدم الصريح في جميع الباب، وإن صح أن العجلي قال ذلك، وقصد به تحسين قتل الحسين عليه السلام كان ذلك جرحاً فيه وفيمن لم يجرِّحه بعد معرفة ذلك، ولا يضر الحديث وأهله العجلي، وطرح حديثه لو كان له حديثٌ، كيف وليس له رواية؟

قال الذهبي في ترجمته في كتاب " التذكرة "(2): ما علمت وقع لنا من حديثه شيء، وما أظنه روى شيئاً إلَاّ حكايات، حدث عنه ولده صالح بمصنفه في الجرح والتعديل، مات سنة إحدى وستين ومئتين بطرابلس المغرب.

وكما أنه لا يَطَّرِحُ على الزيدية والشيعة والآل قول (3) من كَفَّر الشيخين، وسبهما من الشيعة مع كثرتهم في الشيعة (4)، فلا يطرح على أهل السنة قول العجلي مع نُدُوره وشذوذه وتكليف أهل السنة أن لا يوجد فيهم مبطلٌ تكليف ما لا يطاق، وليس قصدي إلا الذب عن السنة النبوية، وأن لا يجعل المبتدع وجود مثل هذا سبباً للتنفير عنها، فكم وُجِدَ من غلاة المتكلمين من الباطل على الله وأسمائه وكتابه، فلم يجعلوا ذلك (5) مُنَفِّراً عن (6) علومهم، وأقرُّوا الخطأ على صاحبه.

وقد صرح السيد في رسالته بأنهم شيعة يزيد، وأنهم يصوبون قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، لأنهم بغاةٌ على قولهم.

(1) في (ش). " ذلك ".

(2)

2/ 560.

(3)

سقطت من (ش).

(4)

بياض في (ش).

(5)

ساقطة من (ش).

(6)

في (ش): " من ".

ص: 34

فاسمع الآن نصوص هؤلاء الذين افتريت عليهم أنهم شيعة يزيد.

قال الذهبي في " النبلاء "(1) في ترجمة يزيد بن معاوية، أو في ترجمة الحسين عليه السلام (2) كان يزيد ناصبياً، فظاً، غليظا، جِلفاً، يتناول المُسْكِرَ، ويفعل المنكر، افتتح دولته بقتل الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنه، واختتمها بوقعة الحرة، فمقته الناس، ولم يبارك في عمره، وخرج عليه غيرُ واحد بعد الحسين رضي الله عنه، كأهل المدينة [قاموا] لله.

وذكر من خرج عليه، قال (3): وروى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن مكحولٍ، عن أبي عبيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. " لا يزال أمر أمتي قائماً حتى يثلمه رجلٌ من بني أمية يقال له: يزيد " أخرجه أبو يعلى في " مسنده " (4).

قلت: ورجاله متفق على الاحتجاج بهم في الصحيحين (5).

(1) 4/ 37 - 38، وما بين حاصرتين منه.

(2)

بل في ترجمة يزيد، وشك المصنف رحمه الله يؤكد أنه لم يكن وقت تأليفه كتابه هذا ينقل من كتاب، وإنما استظهر تلك الكتب، ثم شرع في التأليف.

(3)

4/ 39.

(4)

برقم (871).

(5)

قلت: ومع كون رجاله متفقاً على الاحتجاج بهم في " الصحيحين " فهو ضعيف لا يصح، لأن الوليد بن مسلم مدلس، وقد عنعن، ومكحول لم يدرك أبا عبيدة. ففيه انقطاع أو إعضال.

ورواه أبو يعلى أيضاً (870) من طريق هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي عبيدة.

ورواه البزار (1619) من طريق سليمان بن أبي داود الحراني، عن أبيه، عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني، وهذا إسناد ضعيف أيضاً. سليمان بن أبي داود ضعيف، ومكحول لم يدرك أبا ثعلبة الخشني.

وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 5/ 241: رواه أبو يعلى والبزار، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، إلَاّ أن مكحولاً لم يدرك أبا عبيدة.

ص: 35

قال الذهبي (1): ورُويَ عن صخر بن جويرية (2)، عن نافع، قال: مشى عبد الله بن مطيع إلى ابن الحنفية في خلع يزيد. وقال ابن (3) مطيع: إنه يشرب الخمر، ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب.

وعن عمر بن عبد العزيز، قال رجلٌ في حضرته أمير المؤمنين يزيدُ، فأمر به، فضُرِبَ عشرين سوطاً. انتهى.

وقال ابن الأثير في " نهايته "(4) ما لفظه: إنه ذكر الخلفاء بعده، فقال:" أوَّه لِفِراخِ آل محمد من خليفةٍ يُسْتَخْلَفُ، عِتريفٍ مُتْرفٍ، يقتُل خَلَفي، وخَلَفَ الخَلَف "(5).

قال ابن الأثير: العتريف: الغاشم، الظالم، وقيل: الداهي الخبيث، وقيل: هو قلب العفريت، الشيطان الخبيث.

قال الخطابي: قوله: " خلفي "، يُتأوَّل على ما كان من يزيد بن معاوية إلى الحسين بن علي وأولاده الذين قتلوا معه، وخلف الخلف: ما كان منه يوم الحرة إلى أولاد المهاجرين والأنصار. انتهى بلفظه.

ولما ذكر ابن حزم (6) خُرُوم الإسلام التي لم يَجْرِ أفحش منها، عدها أربعة، وعد منها: قتل الحسين عليه السلام علانية، ولم يَعُدَّ منها قتل عمر بن الخطاب، ولا يوم الجمل، ولا أيام (7) صفين، تعظيماً لقتل الحسين عليه

(1) في " السير " 4/ 40.

(2)

في الأصول الثلاثة: " عن حوثرة " وهو خطأ، والتصويب من " السير ".

(3)

تحرف في (ش) إلى: " أبوه ".

(4)

3/ 178.

(5)

الحديث رواه الخطابي في " غريب الحديث " 1/ 250، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف.

(6)

" جوامع السيرة " ص 357.

(7)

في (ف): " يوم ".

ص: 36

السلام وأنه بلغ (1) في النكارة إلى شأوٍ جاوز الحد في ارتكاب الكبائر، هذا مع أن ابن حزمٍ موصومٌ بالتَّعصب لبني أمية، وهذا لفظ ابن حزمٍ في آخر " السيرة النبوية " التي صنَّفها، وذكر في آخرها أسماء الخلفاء، ونبذاً من أخبارهم.

فقال في يزيد بن معاوية ما لفظه: بويع يزيد بن معاوية (2) إذ مات أبوه، وامتنع من بيعته الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير بن العوام، فأمَّا الحسين رضي الله عنه، فنهض إلى الكوفة، فقُتِل قبل دخولها، وهي ثانية (3) مصائب الإسلام وخرومه، ولأن المسلمين استضيموا في قتله ظلماً علانية.

وأما عبد الله بن الزبير بن العوَّام، فاستجار بمكة، فبقي هنالك (4) إلى أن أغزى يزيد الجيوش إلى المدينة، حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى مكة حرم الله عز وجل، فقتل بقايا المهاجرين والأنصار يوم الحرة، وهي ثالثة (5) مصائب الإسلام وخرومه، لأن أفاضل الصحابة (6)، وبقية الصحابة رضي الله عنهم (7)، وخيار التابعين (8) قُتِلَوا جهراً ظلماً في الحرب وصبراً، وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراثت وبالت في الروضة بين القبر والمنبر، ولم تصل جماعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الأيام (9)، ولا كان فيه أحدٌ حاشا سعيد بن المسيب، فإنه لم يفارق المسجد، ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان،

(1) في (ش): " أبلغ ".

(2)

قوله: " ابن معاوية " سقط من (ش).

(3)

في " جوامع السيرة " وهو ثالثة مصائب الإسلام بعد أمير المؤمنين عثمان، أو رابعها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(4)

قوله: " فبقي هنالك " سقط من (ف).

(5)

عند ابن حزم: وهي أيضاً أكبر مصائب الإسلام

(6)

عند ابن حزم: المسلمين.

(7)

عبارة: " وبقية الصحابة رضي الله عنهم " سقطت من (ش).

(8)

عند ابن حزم: وخيار المسلمين من جلة التابعين.

(9)

في (ش): في " تلك الأيام "، والعبارة غير موجودة في المطبوع من " جوامع السيرة ".

ص: 37

ومروان بن الحكم له عند مسلم (1) بن عقبة بأنه مجنونٌ لقتله، وأكره الناس على أن يبايعوا يزيد بن معاوية، على أنهم عبيدٌ له، إن شاء باع، وإن شاء أعتق، وذكر له بعضهم البيعة على حكم القرآن فأمر بقتله (2) فضُرِبَتْ عنقه صبراً رحمه الله.

وهتك يزيد بن معاوية الإسلام (3) هتكاً، وأنهب المدينة ثلاثاً، واستُخِف بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومُدَّت الأيدي إليهم، وانتهبت (4) دورهم، وحُوصِرت مكة، ورُمِيَ البيت بحجارة المنجنيق (5)، وأخذ الله يزيد، فمات بعد الحرة بأقل من ثلاثة أشهر، وأزيد من شهرين، في نصف ربيع الأول سنة أربع وستين، وله نيَّفٌ وثلاثون سنةً. انتهى كلام ابن حزم.

وخرج الطبراني نحواً من هذا، رواه الهيثمي في " مجمع الزوائد "(6) في باب فيما كان من أمر ابن (7) الزبير، وفيه قصة في نبش قبر مسلم بن عقبة، وأنه وُجِدَ معه ثعبان، وأنه قد التوى على عنقه، قابضاً بأرنبة أنفه يمصها، لاوياً ذنبه برجليه (8)، رواه الهيثمي من طريق عبد الملك بن عبد الرحمن الذّماري

(1) عند ابن حزم: " مجرم بن عقبة المري "، وهو مسلم بن عقبة بن رباح بن ربيعة المري، كان أميراً ليزيد بن معاوية في وقعة الحرة، فأسرف قتلاً ونهباً، فسماه أهل الحجاز مسرفاً، وفي ذلك يقول علي بن عبد الله بن عباس:

هم منعوا ذماري يوم جاءت

كتائب مسرف وبنو اللكيعة

انظر " الكامل في التاريخ " لابن الأثير 4/ 120، و" الإصابة " 3/ 470.

(2)

في (د) و (ش): فقتله.

(3)

عند ابن حزم: فهتك مسرفٌ أو مجرم الإسلام

(4)

في الأصول الثلاثة: " وانتهب "، والمثبت من " جوامع السيرة ".

(5)

في (ش): " بالمنجنيق ".

(6)

7/ 249 - 250.

(7)

" ابن " ساقطة من (ش).

(8)

في (د) و (ش): " برجله ".

ص: 38

ومحمد بن سعيد بن رمانة، فأما [عبد الملك] بن عبد الرحمن، فوثقه ابن حبان وغيره، ومحمد بن سعيد بن رُمانة، لم يعرفه الهيثمي (1).

وذكر الطبراني بعد ذلك مكاتبةً جرت بين ابن عباسٍ ويزيد، أغلظ ابن عباسٍ فيها ليزيد، وذكر من مساوئه ما لا مزيد عليه، اختصرته لطوله ومعرفة مكانه.

وقال الهيثمي (2) بعد روايته: رواه الطبراني وفيه جماعةٌ لم أعرفهم.

وقد ذكر الذهبي في ترجمة ابن حزم في " التذكرة "(3) أنه نُقِمَ عليه التَّعصُّب لبني أمية، فإذا كان هذا كلامه، فكيف بغيره، ولكن ابن حزم كان هاجر (4) من مواضع التقية إلى باديةٍ في إشبيلة، وتكلم (5) بأخباره، ولو أمِنَ غيره كما أمن، لتكلم أعظم من كلامه، ولكنهم اكتفوا بالإشارات والتلويح، كما حكى ابن خلكان في تاريخه المسمى " وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان "(6) في المجلد الثالث في ترجمة أبي الحسن عليٍّ بن محمد بن علي الطبري (7) الملقب عماد الدين. المعروف بالكياالهراسي الفقيه الشافعي، تلميذ إمام الحرمين الجويني ما لفظه:

وسُئِلَ الكيا عن يزيد بن معاوية، فقال: إنه لم يكن من الصحابة، لأنه وُلِدَ في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأما أقوال (8) السلف، ففيه لأحمد قولان: تلويحٌ وتصريحٌ، ولمالكٍ قولان: تلويحٌ وتصريحٌ، ولأبي حنيفة قولان: تلويحٌ وتصريحٌ، ولنا قول واحد: تصريح دون تلويح، كيف لا يكون كذلك وهو

(1) قلت: ترجم له البخاري في " التاريخ الكبير " 1/ 95، وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 7/ 264، ولم يذكرا فيه جرحاً وتعديلاً، وذكره ابن حبان في " الثقات " 9/ 35.

(2)

7/ 252.

(3)

3/ 1152.

(4)

في (ش): يهاجر.

(5)

في (ش): ويتكلم.

(6)

3/ 287.

(7)

في الأصول: " الطبراني " وهو خطأ.

(8)

في " الوفيات ": " قول ".

ص: 39

اللاعِبُ بالنرد، المتصيِّد بالفُهود، ومدمن الخمر، وشعره في الخمر معلومٌ، ومنه قوله:

أقول لِصَحْبٍ ضمَّتِ الكأس شملهم

وداعي صبابات الهوى يَتَرَنَّمُ

خذوا بِنَصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ

فكل وإن طال المدى يَتَصَرَّم

وكتب فصلاً طويلاً، ثم قلب الورقة وكتب: لو مُدِدت ببياضٍ، لمددت (1) العنان في مخازي هذا الرجل، وكتب فلان بن فلانٍ.

انتهى كلام إلكيا. وفيه ما ترى من النقل الصريح عن أهل المذاهب الأربعة (2) فيه، فأما الشافعية، فقد بيَّن أن قولهم فيه واحدٌ، تصريحٌ غير تلويح.

وأما سائر أهل (3) المذاهب الأربعة (4)، فلكلٍّ منهم قولان تصريحٌ وتلويح، وإنما لوحوا بذمه وتضليله في بعض الأحوال، ولم يُصرِّحوا في جميعها تَقيَّةً من الظلمة، ولهذا صرحوا كلهم بتضليله في بعض الأحوال، وفي هذا أكبر دليلٍ على فضلهم وورعهم، لأنهم حين خافوا، لوَّحوا (5) بتضليله، ولم يترخصوا بالخوف، فيصرِّحوا بالثناء عليه تقية، ولا تجاسروا على ذلك، حتى مع الخوف المبيح لكلمة الكفر تقية.

وقد قال علي عليه السلام عند الإكراه: فأما السب، فسبوني، فإنه لكم نجاة ولي زكاة، وأما البراءة، فلا تبرؤوا مني، فإني ولدت على الفطرة.

وقد ذكر الذهبي في ترجمة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس

(1) في (ش): " لمدت ".

(2)

شطح قلم ناسخ نسخة (ش)، فكتب:" أهل البيت عليهم السلام المذاهب الأربعة ".

(3)

" أهل " ساقطة من (ش).

(4)

" الأربعة " ساقطة من (ف).

(5)

في (ف): " لمحوا ".

ص: 40

الهاشمي الأمير (1): أنه ليس بحجةٍ. قال: ولعل الحُفَّاظ إنما سكتوا عنه مداراة للدولة. انتهى.

وفيه ما يدل على أنه قد يمنعهم الخوف من التصريح ببعض الأمور حتى يخفى مذهبهم فيها، وهذا نقل شيخ الشافعية الكيا المفضل عندهم على الغزالي.

قال ابن خلكان في ترجمته (2): تفقه بالجويني مدة إلى أن بَرَعَ.

قال الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي فيه: كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين في الدروس، وكان ثاني أبي حامدٍ الغزالي، بل هو آصل وأصلح وأطيب في الصوت والنظر، وارتفع شأنه، وتولى القضاء، وكان محدِّثاً، يستعمل الأحاديث في مناظرانه ومجالسه (3)، ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهابِّ الرياح.

انتهى كلامهم في الثناء على ناقل مذاهبهم في يزيد بن معاوية، وأقلُّ من هذا يكفي المنصف، وأكثر منه لا يكفي المتعسِّف.

وقد بالغ الإمام المنصور بالله في تنزيه أئمة الفقهاء الأربعة في مُجانبة أئمة العترة، وروى عن كل واحد منهم (4) ما يشهد له بالبراءة عن ذلك ذكره في " المجموع المنصوري " في الدعوة العامة إلى جيلان وديلمان وفي غيرها (5)، فاتفق نقلهم ونقل أئمة الزيدية عنهم (6).

فليت شعري، من هؤلاء الذين أشار إليهم السيد، وأوهم أهل الحديث والسنة ورُواتها، صرح السيد بغير مراقبةٍ لله تعالى: بأنهم شيعة يزيد بن معاوية

(1) في " ميزان الاعتدال " 2/ 620.

(2)

" وفيات الأعيان " 3/ 286 - 287.

(3)

في (ش). " ومجالساته ".

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

في (ش): " وغيرها ".

(6)

في (ش): " عنهم على ذلك ".

ص: 41

والحجاج بن يوسف، وأنهم يُصَوِّبُون فعلهما في قتل الحسين بن علي عليه السلام وأهل بيته وأصحابه من خيار المسلمين، وهل هذا إلَاّ قطعٌ من غير تقدير وهجومٌ على الرجم بالذنب الكبير، لأن هذه جهالةٌ مجاوزة للحد، مع اعتقاد غاية المعرفة التامة، فنسأل الله العافية من مثل هذه البلية.

وما أحسن كلام شيخ الإسلام العلامة المحدث المتكلم أحمد بن تيمية

الحراني الحنبلي حيث قال في " فتاويه "(1): وكذلك عمر بن الخطاب لما وضع ديوان العطاء، قال للمسلمين: بمن أبدأ؟ قالوا: ابدأ بنفسك (2). قال: كلا، ولكن أبدأ بأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدَّمهم وجمعهم، بني هاشمٍ وبني المطلب، فقدم العباس، لأنه كان أقرب الخلق (3) نسباً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك استسقى به لقرابته (4)، وإن كان غيره أفضل منه، فإن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه أفضل منه، فقدمه إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن من محبة النبي صلى الله عليه وسلم محبة أهل بيته، وموالاتهم، كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إني تارك فيكم الثَّقلين. أحدهما أعظم من الآخر؛ فذكر كتاب الله -وحرَّض عليه- ثم قال: وعِترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أُذكركم الله في أهل بيتي ". فقيل لزيد بن أرقم وهو راوي الحديث من أهل بيته؟ قال: الذين حُرِمُوا الصدقة، آل علي، وآل عقيل، وآل العباس (5).

(1) 28/ 491 وما بعدها.

(2)

في (ش): " بنصيبك ".

(3)

في (ش): " الناس ".

(4)

روى البخاري (1010) و (3710)، وابن خزيمة (1421)، وابن حبان (2861)، والبغوي (1165) من حديث أنس، قال: كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، استسقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فيستسقي لهم فيسقون، فلما كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في إمارة عمر قحطوا، فخرج عمر بالعباس يستسقي به، فقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبيك صلى الله عليه وسلم واستسقينا به فسقيتنا، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبيك صلى الله عليه وسلم، فاسقنا، فسقوا. لفظ ابن حبان.

(5)

حديث صحيح، وقد تقدم 1/ 178.

ص: 42

وفي حديثٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله، ولقرابتي "(1). وكان أبو بكر يقول: ارقبوا محمداً في أهل بيته (2)، وكان السلف يقولون: حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق، وحب بني هاشم إيمان، وبغضهم نفاق، فمن نصب العداوة لآل محمدٍ أو بغضهم أو ظلمهم أو أعان من ظلمهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (3).

إلى قوله: ولكن الذي ابتدع الرفض، كان زنديقاً يهودياً أظهر الإسلام، وهو منافقٌ، فابتدع أكاذيب ألقى بها العداوة بين الأُمة حتى ظن الجُهَّال أن

(1) رواه ابن أبي شيبة 12/ 108، وأحمد 1/ 207 و207 - 208، و4/ 165، والترمذي (3758)، والحاكم 3/ 333 من طرق عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة الهاشمي. وقال الترمذي: حسن صحيح، مع أن فيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف.

ورواه أحمد 1/ 207، والحاكم 3/ 333 و4/ 75، وأحمد بن منيع في " مسنده " من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس. وهذا سند ضعيف أيضاً.

ورواه ابن ماجه (140)، والحاكم 4/ 75 من طريق محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي سبرة النخعي، عن محمد بن كعب القرظي، عن العباس وهذا سند رجاله ثقات، إلا أنه منقطع، محمد بن كعب القرظي لم يسمع من العباس كما قال الذهبي في " النبلاء " 2/ 88، والبوصيري في " زوائد ابن ماجه " 11/ 1.

(2)

رواه البخاري (3713) و (3751).

(3)

وذكره أيضاً شيخ الإسلام في " الفتاوى " 4/ 435 مختصراً، وعزاه لابن مسعود.

وأخرجه مختصراً أيضاً من حديث أنس ابن عدي في " الكامل " 3/ 943، وفيه حازم بن الحسين، وهو ضعيف.

وأخرجه الديلمي، وابن عساكر من حديث جابر بلفظ:" حب أبي بكر وعمر من الإيمان، وبغضهم كفر، ومن سب أصحابي، فعليه لعنة الله، ومن حفظني فيهم، فأنا أحفظه يوم القيامة " وضعفه السيوطي، وانظر " فضائل الصحابة " لأحمد (487).

ص: 43

السابقين كانوا يظلمون بني هاشم.

وقد صنف أبو الحسن الدارقطني (1) كتاباً كبيراً في ثناء الصحابة على القرابة، وثناء القرابة على الصحابة إلى آخر كلامه.

وهذه ألفاظه بحروفها، فانظر إلى لعنه لأعداء البيت، ومن أعانهم.

وكذلك عالم الأشعرية عبد الرحمن بن أبي القبائل بن منصور الهمداني قد أثنى على أهل البيت عليهم السلام في رسالته " الدامغة " و" الخارقة "، كلتيهما، وصرح في " الخارقة " بلعن من يبغضهم في غير موضعٍ، وسب من يسبهم، وذكر أبياتاً بليغة ضمنها ذلك، فقال فيها:

فضلُ الأئمة أهل البيت مُشتهرٌ

وحبهم عندنا دينٌ ومُفْتَخَرُ

وبغضهم عندنا كفرٌ وزندقةٌ

وقربهم ملجأٌ فينا ومُدَّخَرُ

إلى قوله:

وقال قومٌ هم في الفضل مثلُكُمُ

ولا أرى اليوم تحقيق الذي ذكروا

أنا وَطِينة عليين طينتكم

وطينة الناس إلَاّ أنتم العَفَرُ

تلك المكارم لا قَعْبَان من لبنٍ

وذلك الدين ليس الجبرُ والقدرُ

فانظر كيف نص في هذه الأبيات، التي قصد بتسييرها وتخليدها في رسالته على أن بغض العترة كفر وزندقة (2)، مع ما كان بينه وبين معاصره منهم من النزاع في المذاهب والعصبية المؤدية إلى العداوة.

(1) هو الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني، توفي سنة 385 هـ. وقد تقدمت ترجمته 3/ 72. وكتابه منه قطعة في دار الكتب الظاهرية (مجموع 47/ 2) تحت عنوان " فضائل الصحابة ومناقبهم " انظر " تاريخ التراث العربي " لسزكين 1/ 424، و" فهرس مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية " لصاحبنا المتقن الأستاذ ياسين السواس ص 240 - 241.

(2)

ساقطة من (ش).

ص: 44

وقال الحافظ أبو الخطاب ابن دِحْيَة الكلبي (1) في " العلم المشهور " في ذكر يوم عاشوراء ما لفظه مختصراً: وفي هذا اليوم قُتِلَ السيد الأمير، ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد شباب أهل الجنة، أبو عبد الله الحسين بن فاطمة البتول، يومَ الجمعة، وقيل: يوم السبت، سنة إحدى وستين، بالطَّفِّ بكربلاء، وهو ابن ست وخمسين سنة، ولما أحاطوا بالحسين عليه السلام، قام في أصحابه خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: قد نزل بي من الأمر ما ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها، وانشمر (2) حتى لم يبق منها إلَاّ صُبابة كصبابة الإناء، وإلا خسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله عز وجل، وإني لا أرى الموت إلَاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلَاّ ندماً. رواه الطبراني عن محمد بن الحسن (3) بن زبالة.

(1) هو الشيخ العلامة، المحدث الرحال المتفنن مجد الدين أبو الخطاب عمر بن حسن بن علي بن الجُميِّل، ينتهي نسبه إلى دحية الكلبي كما ذكر هو، قال الذهبي: كان بصيراً بالحديث، معتنياً بتقييده، مكباً على سماعه حسن الخطِّ، معروفاً بالضبط، له حظٌّ وافر من اللغة، ومشاركة في العربية وغيرها، وقال: ونسبه شيء لا حقيقة له، وما أبعده من الصِّحة والاتصال، ولابن عنين فيه:

دحية لم يُعقِبْ فلم تعتزي

إليه بالبهتان والإفكِ

ما صح عند الناس شيءٌ سوى

أنك من كلبٍ بلا شكِ

وكتابه " العلم المشهور " هو: " العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور " منه نسختان خطيتان في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء (تصوف 61 - 62) انظر فهرس المكتبة ص 375 و376، وانظر " تاريخ الإسلام " الطبعة الرابعة والستون (191)، و" سير أعلام النبلاء " 22/ 389.

(2)

في الأصول والطبراني ": " واستمرت "، والمثبت من " المجمع ".

(3)

تحرف في (ش) إلى: " محمد بن الحسين بن ريالة ". قلت وهو ضعيف جداً، بل كذَّبه غير واحد، وقالوا: كان يضع الحديث. والخبر في " معجم الطبراني الكبير "(2842)، وأورده الهيثمي في " المجمع " 9/ 193، وقال: محمد بن الحسن بن زبالة متروك، ولم يدرك القصة.

ص: 45

وكان عبيد الله بن زياد كتب إلى الحر بن زيادٍ أن جعجع بالحسينِ، أي: ضيق عليه، ثم أمده بعمر بن سعدٍ المتكفِّل المتكلِّف بقتال الحسين عليه السلام، حتَّى يُنْجِزَ له عبيد الله الدعي ما سلف من وعدٍ، وهو أن يُمَلِّكَه مدينة الري، فباع الفاسق الرشد بالغي، وهو القائل:

أأترُكُ ملكَ الريِّ والريُّ مُنْيتي

وأرجع يوماً ما بقتل حسين

فضيق عليه اللعين أشد تضييقٍ، وسد بين يديه وضح (1) الطريق، إلى أن قتله في التاريخ المقدم سنة إحدى وستين، ويُسمى عام الحزن، وقُتِلَ معه اثنان وثمانون رجلاً من أصحابه مبارزةً، وجميع ولده إلَاّ علي بن الحسين زين العابدين، وقُتِل أكثر إخوة الحسين وبني أعمامه:

لمحمدٍ سلّوا سيوفَ محمدٍ

قطعوا بها هامات آل محمَّد

وفي هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين على جده وعليه أفضل السلام، رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع دم الحسين في قارورةٍ، وإن كانت رؤيا منام، فإنها صادقة، ليست بأضغاث أحلام، أسند ذلك إمام أهل السنة الصابر على المحنة، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، قال (2): حدثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم نصف النهار أشعث أغبر، معه قارورةٌ فيها دم يلتقطه فيها، قلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال:" دم الحُسين وأصحابه، لم أزل أتتبعه منذ اليوم "، قال عمار: فحفظنا ذلك اليوم، فوجدناه قُتِلَ ذلك اليوم.

قال ابن دحية: هذا سند صحيح، عبد الرحمن: هو ابن مهدي، إمام أهل الحديث. وحماد: إمام فقيه ثقة، وعمار من ثقات التابعين، أخرج مسلمٌ

(1) في (ش): " أوضح " والوضح: الضياء والبياض.

(2)

1/ 242. ورواه أيضاً 1/ 283، والطبراني في " الكبير " (2822) و (12837)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/ 471.

ص: 46

أحاديثه في " صحيحه " ورواه الهيثمي في كتابه " مجمع الزوائد "(1) وعزاه إلى الطبراني، وأحمد بن حنبل. وقال: رجال أحمد رجال الصحيح.

وتولى حمل الرأس بشر بن مالكٍ الكندي، ودخل به على ابن زياد وهو يقول:

املأ ركابي فضةً وذهبا

أنا قتلتُ الملكَ المُحجبا

قتلت خير الناس أماً وأبا (2)

وقد صدق هذا القائل الفاسق في المديح وتقريظ هذا السيد الذبيح، ولقي الله بفعل القبيح.

وأمر عبيد الله بن زيادٍ من قوّر رأس الحسين حتى يُنْصَبَ في الرمح، فتحاماه أكثر الناس، فقام طارق بن المبارك، فأجابه إلى ذلك وفعله، ونادى في الناس، وجمعهم في المسجد الجامع، وصَعِدَ المنبر، وخطب خطبة لا يحل ذكرها، ثم دعا عبيد الله بن زياد زُحر بن قيس الجعفي، فسلم إليه رأس الحسين ورؤوس أهله وأصحابه، فحملها حتى قدموا دمشق، وخطب زُحَرُ خطبة فيها كذبٌ وزورٌ، ثم أحضر الرأس ووضعه بين يدي يزيد، فتكلم بكلامٍ قبيح وقد ذكره الحاكم والبيهقي وغير واحد من أشياخ أهل النقل بطرقٍ ضعيف وصحيح (3).

(1) 9/ 194، وكذا أورده الحافظ ابن كثير في " تاريخه " 8/ 202، وقوى إسناده.

(2)

الرجز في الطبري 5/ 454، والقرطبي في " التذكرة " ص 566، وابن عبد البر في " الاستيعاب " 1/ 378، وابن كثير في " تاريخه " 8/ 199، وتمامه عندهم

وخيرهم إذ ينسبون نسبا

وزاد القرطبي بعد:

في أرض نجد وحرا ويثربا

(3)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " منهاج السنة " 4/ 556 - 558:

والذين نقلوا مصرع الحسين زادوا أشياء من الكذب، كما زادوا في قتل عثمان، وكما =

ص: 47

وقد ذكر ذلك كله الحافظ أخطب الخطباء ضياء الدين، أبو المؤيد موفق

= زادوا فيما يُراد تعظيمه من الحوادث، وكما زادوا في المغازي والفتوحات وغير ذلك.

والمصنفون في أخبار قتل الحسين منهم من هو من أهل العلم كالبغوي وابنِ أبي الدنيا وغيرهما، ومع ذلك فيما يروونه آثارٌ منقطعة، وأمور باطلة. وأما ما يرويه المصنفون في المصرع بلا إسناد، فالكذب فيه كثير، والذي ثبت في الصحيح أن الحسين لما قُتِلَ حُمِلَ رأسه إلى قُدام عبيد الله بن زياد، وأنه نكت بالقضيب على ثناياه، وكان بالمجلس أنسُ بن مالك رضي الله عنه وأبو برزة الأسلمي.

ففي صحيح البخاري عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت، وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوباً بالوسمة.

وفيه أيضاً عن ابن أبي نُعْم، قال: سمعت ابن عمر، وسأله رجل عن المُحرم يقتل الذباب، فقال: يا أهل العراق تسألوني عن قتل الذباب، وقد قتلتم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هما ريحانتي من الدنيا ".

وقد رُوى بإسناد مجهول أن هذا كان قدام يزيد، وأن الرأس حُمِلَ إليه، وأنه هو الذي نكت على ثناياه. وهذا مع أنه لم يثبت، ففي الحديث ما يدل على أنه كذب، فإن الذين حضروا نكته بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام، وإنما كانوا بالعراق. والذي نقله غيرُ واحد أن يزيد لم يأمر بقتل الحسين، ولا كان له غرض في ذلك، بل كان يختار أن يكرمه ويعظمه، كما أمره بذلك معاوية رضي الله عنه. ولكن كان يختار أن يمتنع من الولاية والخروج عليه، فلما قدم الحسين، وعلم أن أهل العراق يخذلونه ويسلمونه، طلب أن يرجع إلى يزيد، أو يرجع إلى وطنه أو يذهب إلى الثغر، فمنعوه من ذلك حتى يستأسر، فقتلوه حتى قُتِلَ مظلوماً شهيداً رضي الله عنه، وأن خبر قتله لما بلغ يزيد وأهله ساءهم ذلك، وبكوا على قتله، وقال يزيد: لعن الله ابن مرجانة -يعني عبيد الله بن زياد-[أما] والله لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله. وقال: قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين. وأنه جهز أهله بأحسن الجهاز، وأرسلهم إلى المدينة، لكنه مع ذلك ما انتصر للحسين، ولا أمر بقتل قاتله، ولا أخذ بثأره.

ص: 48

الدين بن أحمد الخوارزمي (1) في تأليفه في مقتل الحسين عليه السلام وهو عندي في مجلدين.

وذكر شيخ السنة أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، قال: حدثنا الحافظُ أبو عبد الله محمد بن عبد الله، سمعت أبا الحسن علي بن محمد الأديب يذكرُ بإسنادٍ له، أن رأس الحسين عليه السلام لما صُلِبَ بالشام، أخفى خالد بن غفران شخصه من أصحابه، وهو من أفاضل التابعين، فطلبوه شهراً حتى وجدوه، فسألوه عن عزلته، فقال: أما ترون ما نزل بنا؟ ثم أنشأ يقول:

جاؤوا برأسك يا ابن بنتِ محمدٍ

متزمِّلاً بدمائه تزميلا

وكأنما بك يا ابن بنت محمدٍ

قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشاناً ولم يترقبوا

في قتلك التنزيلَ والتأويلا

ويُكبِّرون بأن قُتِلْتَ وإنَّما

قتلوا بك التكبير والتهليلا (2)

قال ابن دحية: واعجبوا -رحمكم الله- من الأمم الذين كانوا من قبلكم، وقد فضَّل الله أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، منهم المجوس يعظمون النار، لأنها صارت برداً وسلاماً على إبراهيم، والنصارى يعظمون الصليب، لادعائهم أنه من جنس العود الذي صُلِبَ عليه ابن مريم، وابن مرجانة (3)، وأصحابه العِدا قتلوا الحسين ابن نبيِّ الهدى، ولم يلتفتوا إلى قول أصدقِ القائلين:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].

(1) كان خطيباً شاعراً أديباً فقيهاً، أخذ العربية عن الزمخشري بخوارزم، وتولى الخطابة بجامعها، وفيها قرأ على ناصر بن عبد السيد المطرزي. له عدة مصنفات غير كتابه هذا، منها:" مناقب علي بن أبي طالب "، و" مناقب الإمام أبي حنيفة " توفي سنة 568. انظر الأعلام 7/ 333، وفهرس مخطوطات الجامع الكبير بصنعاء ص 121.

(2)

وأنشد هذه الأبيات ابن كثير في " تاريخه " 6/ 238 و8/ 200، وفي " الشمائل " ص 451.

(3)

هو عبيد الله بن زياد، ومرجانة: أمه.

ص: 49

قال: ولما قدم برأس الحسين صاحت نساء بني هاشم، فقال مروان:

عجَّتْ نساء بني زيادٍ عجةً

كعجيج نِسوتنا غداة الأرنبِ (1)

قلت: رويدك يا مروان حتَّى تعلم من يعجُّ غداً حين يشتد غضب الديان، ومن يدعو ثبوراً كثيراً في طبقات النيران.

قال ابن دحية (2): وأنا أقول قولاً هو الإيمان: هنيئاً لك (3) الشماتة برسول الله صلى الله عليه وسلم يا مروان.

وفي صحيح البخاري (3)، عن ابن عمر أنه سأله رجلٌ عن دم البعوض، فقال له: ممن أنت، قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا الذي يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هما ريحانتاي في (4) الدنيا ".

أخرجه البخاري من طريقين في كتاب المناقب، وفي كتاب الأدب، والطبراني (5) من حديث أبي أيوب من طريق الحسن بن عنبسة، والبزار (6) من

(1) البيت لعمرو بن معد يكرب، وأنشده الطبري في " تاريخه " 5/ 466، وعنده أن المتمثل به عمرو بن سعيد لا مروان. وقال الطبري: والأرنب: وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب، من رهط عبد المدان. وانظر " اللسان " 1/ 435 (رنب)، والعج: الصياح ورفع الصوت.

(2)

سقط من (ش).

(3)

(3753) و (5994)" ورواه ابن حبان "(6969).

(4)

في " البخاري ": " من ".

(5)

في " المعجم الكبير "(3990). قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 9/ 181: وفيه الحسن بن عتبة، وهو ضعيف.

(6)

رقم (2622). قال الهيثمي 9/ 181: رجاله رجال الصحيح. قلت: فيه عباد بن يعقوب شيخ البزار، أخرج له البخاري مقروناً، وهو رافضي، قال فيه ابن حبان: يستحق الترك.

ص: 50

حديث سعد بن أبي وقاص برجال الصحيح.

وقال إبراهيم النخعي الإمام، فيما حكاه أبو سعد السمان (1) الرازي بسنده إليه: لو كنت فيمن قاتل الحسين، ثم أُتِيتُ بالمغفرة من ربِّي، فأُدخِلْتُ الجنة، لاستحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أمرَّ عليه فيراني. ورواه الطبراني (2) بإسنادٍ رجاله ثقات.

قال ابن دحية: عباد الله، اعجبوا من هؤلاء الملاعين، إذ قتلوا الحسين بن فاطمة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أكبوا في شمالهم على شُرب شمولهم، تعساً لشيوخهم، وكهولهم. في صلاتهم (3) يصلون على محمدٍ وآله، ثم يمنعونه شرب نطفةٍ من الفرات وزُلاله، ويجتمعون على قتله وقتاله، ويذبحونه، ولا يستحيون من نور شيبه وجماله، أما والله إن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن يعظموا (4) تراب نعل قدمه، بل تراب نعل خادمٍ من خدمه.

فليت شعري، ما اعتذار هؤلاء الأشرار في قتل هؤلاء الأخيار عند محمدٍ المختار:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار} [غافر: 52] إلى قوله: وقد سلط الله عليهم المختار، فقتلهم حتى أوردهم النار.

(1) تحرفت في (ش) إلى: " السماء "، وهو الإمام الحافظ، العلامة البارع، المتقن، أبو سعد إسماعيل بن علي بن الحسين السمان. كان من المكثرين الجوالين، سمع من نحو أربعة آلاف شيخ، وكان معتزلي المذهب، وكان إماماً بلا مدافعة في القراءات والحديث والرجال، والفرائض والشروط، عالماً بفقه أبي حنيفة، وبالخلاف بين أبي حنيفة والشافعي وفقه الزيدية. توفي في حدود سنة خمس وأربعين وأربع مئة. انظر " سير أعلام النبلاء " 18/ 55.

(2)

في " الكبير "(2829). وانظر " مجمع الزوائد " 9/ 195.

(3)

في (د) و (ف): أفي أصلابهم.

(4)

في (ش): " يعظمون "، وهو خطأ.

ص: 51

وخرَّج الترمذي في " جامعه الكبير " ما هذا نصه: حدثنا واصلُ بنُ عبد الأعلى، حدثنا أبو معاوية [عن] الأعمش، عن عُمارة بن عميرٍ، قال: لما جيء برأس عُبيد الله بن زيادٍ وأصحابه، نُضِّدَت (1)[في] المسجد، فانتهيت إليهم وهم يقولون: قد جاءت، قد جاءت، فإذا حية قد جاءت (2) تَخَلَّل الرؤوس حتى دخلت في مِنْخَرَي عُبيد الله، فمكثت هُنيهةً، ثم خرجت، فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا: قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. هذا حديث حسن صحيح (3).

انتهى المنقول من كتاب ابن دحية، وهو أحد أئمة أهل السنة في الاعتقاد وقد أورده الإمام العلامة القرطبي صاحب " التفسير الكبير " وأحد أقطاب مذهب أهل السنة نحو هذا الكلام، بل أظنه نقله بحروفه في آخر كتابه " التذكرة في أحوال الآخرة "(4).

ونقل الحافظ الهيثمي الشافعي في كتابه " مجمع الزوائد " عن أئمة الحديثِ وثقاتهم، الكثير الطيب مما يدلُّ على حب أهل البيت، مما يرويه الشيعة في مقتل الحسين عليه السلام، من كراماته العظيمة، ومناقبه الكبيرة، وزاد على نقل الشيعة بيان من رواه من أئمة الحديث، وبيان ثقة رواته عند أهلِ العلمِ بهذا الشأن. فقال:

وخرج الطبراني في " أوسط معاجمه " من طريق علي بن سعيد بن بشيرٍ الحافظ، عن رجاء بن ربيعة (5) في مناقب الحسن بفتح الحاء، والبزار، عن

(1) تحرف في (ش) إلى: " قصدت ".

(2)

عبارة: " قد جاءت " ساقطة من (ش).

(3)

الترمذي (3780)، وما بين حاصرتين منه.

(4)

انظر ص 563 - 569.

(5)

في الأصول: " رجاء بن حيوة "، والمثبت من " المجمع "، " البزار ".

ص: 52

رجاء بن ربيعة أيضاً بإسنادٍ رجاله ثقات في مناقب الحسين بضم الحاء (1) أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال فيه: والله إنه لأحب أهل الأرض إلى أهل السماء (2).

وعن عمارة بن يحيى بن خالد بن عُرْفُطَة، قال: كنا عند خالد بن عرفطة يوم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، فقال لنا خالد: هذا ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي " رواه الطبراني والبزار، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير عمارة، وعمارة وثقه ابن حبان (3).

وعن شهر بن حوشب، قال: سمعت أم سلمة حين جاء نعي الحسين عليه السلام لعنت أهل العراق، وقالت: قتلوه قتلهم الله عز وجل، عزَّوه وذلُّوه، لعنهم الله. رواه الطبراني، ورجاله موثقون (4).

وعن أسلم المِنْقَرِيِّ (5) قال: دخلت على الحجاج، [فدخل] سنانُ بنُ أنسٍ قاتل الحسين، فأوقف بحيال الحجاج، فنظر إليه، فقال: أنت قتلت الحسين؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: دعمته بالرمح، وهَبَرْتُه

(1) كذا قال المصمف رحمه الله، وفي " المجمع " أن الأول في مناقب الحسين، والثاني في مناقب الحسن، وكذلك هو في " البزار ".

(2)

قال الهيثمي في " المجمع " 9/ 186 - 187: رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه علي بن سعيد بن بشير، وفيه لين، وهو حافظ، وبقية رجاله ثقات.

وحديث البزار في " مسنده "(2632)، قال فيه الهيثمي 9/ 177: رجاله رجال الصحيح غير هاشم بن البريد، وهو ثقة.

(3)

" المجمع " 9/ 194، وهو عند الطبراني في " الكبير "(4111)، والبزار (2645) وذكره البخاري في " التاريخ الكبير " 6/ 498.

(4)

الطبراني (2818)، وانظر " المجمع " 9/ 194. وشهر بن حوشب في حفظه شيءٌ، وبعضهم يحسن حديثه.

(5)

رواه الطبراني في " المعجم الكبير "(2828)، وما بين حاصرتين منه.

ص: 53

بالسيف هبراً، فقال الحجاج: أما إنكما لن تجتمعا في دار. رواه الطبراني، ورجاله ثقات.

وعن أنس، قال: لما أُتي برأس الحسين إلى عُبيد الله بن زياد، جعل ينكُتُ بالقضيب ثناياه، فقلت: والله لأسُوءَنَّكَ (1)، إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَلْثُمُ حيث يقع قضيبُك. قال: فانقبض. رواه البزار والطبراني بأسانيد، ورجاله وثقوا (2).

وخرَّج له الطبراني شاهداً من حديث زيد بن أرقم من طريق حرام بن عثمان (3).

وعن عمرو بن بعجة قال: أول ذلٍّ دخل على العرب: قتل الحسين، وادِّعاءُ زيادٍ. رواه الطبراني ورجاله ثقات (4).

وعن أبي رجاءٍ العُطاردي، قال: لا تسبوا علياً، ولا أحداً من أهل بيته، فإن جاراً لنا قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق قتله الله -يعني الحسين بن علي- فرماه الله بكوكبين في عينيه، فطمس الله بصره. رواه الطبراني ورجاله ثقات (5).

وعن حاجب عبيد الله بن زياد، قال: دخلتُ القصر خلف عبيد الله بن زياد حين قُتِلَ الحسين، فاضطرم القصر في وجهه ناراً، فقال هكذا بكُمِّه على

(1) في (د) و (ش): " لا أسوءنك "، وهو خطأ.

(2)

البزار (2646)، والطبراني (2878) و (2879)، وفي أحد إسنادي الطبراني علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.

(3)

" المعجم الكبير "(5107) و (5121). قال الهيثمي 9/ 195: وفيه حرام بن عثمان، وهو متروك. قلت: وقال ابن حبان: كان غالياً في التشيع.

(4)

الطبراني (2870)، و" المجمع " 9/ 196. قلت: وعمرو بن بعجة ترجمته في " التاريخ الكبير " 6/ 316، و" الجرح والتعديل " 6/ 221 لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي، وقال الذهبي في " الميزان ": لا يعرف.

(5)

الطبراني (2830)، وقال في " المجمع " 9/ 196: ورجاله رجال الصحيح.

ص: 54

وجهه. فقال: هل رأيت؟ قلتُ: نعم، وأمرني أن أكتم ذلك. رواه الطبراني ورجاله ثقاتٌ إلَاّ حاجب عبيد الله (1).

وعن الزهري، قال لي عبد الملك بن مروان: أيُّ واحدٍ أنت إن أعلمتني أي علامةٍ كانت يوم قتل الحسين؟ قلت: لم تُرفع حصاةٌ من بيت المقدس إلا وُجِدَ تحتها دم عبيط، فقال: إني وإياك في هذا الحديث لفردان (2). رواه الطبراني. ورجاله ثقات (3)

وعن الزهري، قال: ما رُفِعَ بالشام حجرٌ يوم قُتِلَ الحسين إلَاّ عن دمٍ. رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح (4).

وعن أم حكيمٍ، قالت: قتل الحسين، فمكثت السماء أياماً مثل العَلَقَةِ.

رواه الطبراني، ورجاله إلى أم حكيم، رجال الصحيح (5).

وعن أبي قبيل قال: لما قتل الحسين انكسفت الشمس كسفة حتى بدت الكواكبُ نصف النهار، حتى ظننا أنها هي. رواه الطبراني بإسناد حسن (6).

وله شواهد: عن عيسى بن الحارث الكندي. رواه الطبراني (7).

(1) الطبراني (2831)، وقال في " المجمع " 9/ 196: وحاجب عبيد لم أعرفه.

(2)

في " الطبراني " و" المجمع ": " لقرينان ".

(3)

الطبراني (2856)، والمجمع " 9/ 196. وانظر " دلائل النبوة " للبيهقي 6/ 471، والدم العبيط: هو الطري الخالص.

(4)

الطبراني (2835)، و" المجمع " 9/ 196.

(5)

هذا الأثر بتمامه سقط من (ش)، وهو عند الطبراني (2836)، ورواه أيضاً البيهقي في " دلائل النبوة " 6/ 472، و" المجمع " 9/ 196.

(6)

الطبراني (2838)، قلت: وأنَّى له الحسن وفيه عبد الله بن لهيعة وهو سيء الحفظ، وأبو قبيل -واسمه يحيى بن هانىء- ضعفه الحافظ في تعجيل المنفعة، لأنه كان يكثر النقل عن الكتب القديمة.

(7)

الطبراني (2839). قال الهيثمي في " المجمع " 9/ 197: وفيه من لم أعرفه. =

ص: 55

وعن محمد بن سيرين. رواه الطبراني، من طريق يحيى الحِمَّاني، وهو من رجال مسلم في " الصحيح "، وفي حديثه أنه لم يكن في السماء حُمْرَةٌ حتى قتل الحسين (1).

فإن قيل: كيف يمكن صحة هذا، وقد ثبت أن أول وقت العشاء زوال الشفق الأحمر عند أهل البيت، وأكثر الفقهاء؟ وذلك ثابتٌ منذ شُرِعَتِ الصلوات في وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق جمهور العلماء وأهل اللغة على أن الشفق هو الحمرة، حتى قال الزمخشري في " الكشَّاف " (2): إن أبا حنيفة رجع إلى ذلك، لأنه المخالف في ذلك.

قلت: يمكن (3) أنه كان شيئاً يسيراً، وأنه كان في وقت قتل الحُسين عليه السلام حُمرةٌ عظيمةٌ متفاحشةٌ كما تقدم ذلك عن أم حكيم من رواية الطبراني

= قلت: فيه جد ابن أبي شيبة واسمه إبراهيم بن عثمان، قال الذهبي في " الميزان ": هالك، وقال الحافظ في " التقريب ": متروك.

(1)

الطبراني (2840). قال الهيثمي: فيه يحيى الحماني، وهو ضعيف.

وقول المؤلف: " وهو من رجال مسلم في الصحيح " وَهَمٌ منه رحمه الله قاده إليه ما رآه في " التقريب " من رمز " م " في نهاية ترجمته، وهذا خطأ من الحافظ، فإن الحافظ المزي في " تهذيب الكمال " لم يرمز له بشيء، وليست له رواية في صحيح مسلم، وإنما ذكره مسلم في " صحيحه " بإثر الحديث (713) الذي رواه عن يحيى بن يحيى، عن سليمان بن بلال، عن ابن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد، عن أبي حميد أو أبي أسيد.

فقال: سمعت يحيى بن يحيى يقول: كتبت هذا الحديث من كتاب سليمان بن بلال، قال: بلغني أن يحيى الحِمَّاني يقول: كتبت هذا الحديث من كتب سليمان بن بلال، قال: بلغني أن يحيى الحِمَّاني يقول: وأبي أسيد. يعني: أن الرواية عن كليهما، لا عن أحدهما.

قال الحافظ ابن كثير في " تاريخه " 8/ 203: ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذباً فاحشاً

(2)

4/ 198.

(3)

" يمكن " ساقطة من (ف).

ص: 56

بإسنادٍ رجاله ثقاتٌ، وأنه بقي ذلك مدة كثيرة (1) إلى وقت كلام (2) محمد بن سيرين المتكلم بهذا، وهو من التابعين وعلمائهم وثقاتهم، ثم تناقص عن تلك الكثرة، كما تناقصُ الآيات المختصة بمقتله عليه السلام.

وقد اشتهرت قصة الحمرة بعد قتله عليه أفضل السلام حتَّى ذكرها المعرِّيُّ في شعره على بُعده من الأفراد المشهورات من الشرائع، فقال:

وعلى الدَّهرِ مِنْ دماء الشهيديـ

ـنِ عليٍّ ونجله شاهدانِ

فهما في أواخر الليلِ فجرانِ

وفي أُولياتهِ شَفَقَانِ (3)

فكيف وقد اعتقدت هذه الشهرةُ بإسناد على شرط مسلم من طريق المحدثين!

قال الهيثمي: وعن سفيان، قال: حدثتني جدتي أُمُّ أبي، قالت: شهدَ رجلان من الجعفيين اللذين تولّيا (4) قتل الحسين، فأما أحدهما، فطال ذكره حتى كان يلُفُّه، وأما الآخرُ، فكان يستقبل الراوية بفيه، حتى يأتي على آخرها، قال سفيان: رأيت ولد أحدهما كأن به خبلاً، أو كأنه مجنون. رواه الطبراني

(1) في (د): " كثيراً ".

(2)

" كلام " ساقطة من (ش).

(3)

البيتان في " سقط الزند " ص 96 من قصيدة مطلعها:

علِّلاني فإنَّ بيض الأماني

فَنِيَتْ والظلام ليس بفانِ

وقد أجاب فيها الشريف أبا إبراهيم موسى بن إسحاق عن قصيدة أولها:

غير مُسْتَحْسَنٍ وِصَالُ الغواني

بعدَ ستين حِجَّة وثمان

قال البطليوسي في شرح هذين البيتين: إنما قال هذا، لأنه يمدح علوياً، وفرقة من الشيعة تزعم أن الحمرة التي ترى في الآفاق في أوَّل الليل وآخره لم تكن إلَاّ مذ قُتِلَ علي وابنه رضي الله عنهما، ومنهم من يرى أن ادعاء مثل هذا محال، لأن تلك الحمرة لم تزل موجودة قبل قتلهما.

(4)

عبارة " اللذين توليا " لم ترد عند الطبراني والهيثمي.

ص: 57

ورجاله ثقات إلى جده سفيان (1). وبسنده (2) إليها، قالت: رأيت الوَرْسَ الذي أُخِذَ من عسكر الحُسين، صار مثل الرماد.

وروى الطبراني عن حُميدٍ الطَّحَّان، كنت في خُزاعَة، فجاؤوا بشيءٍ من تركة الحسين، فقيل لهم: نَنْحَرُ أو نبيع فنقسم؟ قال: انحروا، فجلس على جفنةٍ، فلما وُضِعَتْ، فارت ناراً (3).

وعن الأعمش قال: خَرِيَ رجلٌ على قبر الحسين، فأصاب أهل ذلك البيت خَبَلٌ وجنون وجذامٌ وبرصٌ وفقرٌ. رواه الطبراني (4) ورجاله رجال الصحيح.

وعن الحسن البصري قال: قُتِلَ مع الحسين ستةَ عشر رجلاً من أهل بيته، والله ما على ظهر الأرض يومئذٍ أهل بيتٍ يشبهونهم.

قال سفيان: ومن يشُكُّ في هذا؟! أخرجه الهيثمي، وسقط ذِكْرُ مُخَرِّجِه من أهل المسانيد (5).

وروى الطبراني من حديث محمد بن الحَسَن بن زبالة المخزوميِّ أحدِ رجال أبي داود أنه لما أُدْخِلَ ثقل الحسين على يزيد لعنه الله أنشد عبد الرحمن ابن أمِّ حكيمٍ.

لَهَامٌ بجنب الطفِّ أدنى قَرَابَةً

من ابن زياد العَبْدِ ذي النسب الوَغْلِ

(1) الطبراني (2857).

(2)

أي الطبراني (2858)، ورواه البيهقي في " الدلائل " 6/ 472، والورس: نبت أصفر يزرع باليمن.

(3)

الطبراني (2863). قال الهيثمي 9/ 196: وفيه من لم أعرفه.

(4)

رقم (2860).

(5)

" مجمع الزوائد " 9/ 198، وهو عند الطبراني (2854).

ص: 58

سميَّة أمسى نَسْلُها عَدَدَ الحصى

وبِنْتُ رسولِ اللهِ ليسَ لها نسلُ (1)

وعن أبي قبيلٍ، قال: لما قُتِلَ الحسين، احتزوا رأسه، وقعدوا في أول مرحلةٍ يشربون النبيذ يتحيَّون بالرأس، فخرج إليهم قلمٌ من حديدٍ من حائط، فكتب بسطر دمٍ:

أترجو أُمةٌ قتلت حُسيناً

شفاعة جَدِّهِ يومَ الحسابِ

فهربوا وتركوا الرأس. رواه الطبراني (2).

وعن إمامٍ لبني سليم (3)، عن أشياخٍ له، قال: غزونا الروم، فنزلوا في كنيسةٍ من كنائسهم، فقرؤوا في حجرٍ مكتوب:

أترجو أمةٌ قتلتْ حسيناً

شفاعةَ جَدِّهِ يومَ الحسابِ

فسألناهم: منذ كم بُنِيَتْ هذه الكنيسة؟ قالوا: قبل أن يُبعث نبيكم بثلاث مئة سنة. رواه الطبراني (4).

وعن أم سلمة، قالت: سُمِعَتْ الجِنُّ تنوح على الحسين. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (5).

(1) الطبراني (2848)، ومحمد بن الحسن بن زبالة ضعيف جداً.

(2)

الطبراني (2873). قال الهيثمي 9/ 199: وفيه من لم أعرفه.

(3)

في الأصول و" المجمع ": " سليمان "، والمثبت من الطبراني و" مختصر تاريخ دمشق " لابن منظور 7/ 155.

(4)

الطبراني (2874)، وصدر البيت الأول عنده:

أيرجو معشرٌ قتلوا حسيناً

قال الهيثمي 9/ 199: وفيه من لم أعرفه. قلت: إمام بني سليم وأشياخه مجاهيل.

(5)

الطبراني (2862) و (2867).

ص: 59

وعن ميمونة مثله. ورواه الطبراني برجال الصحيح (1).

وعن أمِّ سلمة مثله بزيادة ذكر نَوْحِهِم، وذكر منه:

ألا يا عينُ فاحتفلي بجُهد

ومن يبكي على الشهداء بعدي

على رهطٍ تقُودُهُمُ المنايا

إلى مُتَجَبِّرٍ في مُلكِ عَبْدِ

رواه الطبراني من طريق عمرو بن ثابتٍ بن هرمز (2).

وعن أبي جناب (3) قال: حدثني الجَصَّاصُون، قالوا: كنا (4) إذا خرجنا إلى الجبال (5) بالليل عند مقتل الحسين عليه السلام؛ سمعنا الجن ينوحون عليه، ويقولون:

مَسَحَ الرسولُ جبينهُ

فَلَهُ بريقٌ في الخدودِ

أبواه من عُليا قريشٍ

وجُدودُه (6) خيرُ الجدودِ

رواه الطبراني (7).

وعن أحمد بن محمد (8) بن حُمَيدٍ الجهمي -من ولد أبي جهم بن حذيفة- أنه كان يُنْشِدُ في قتل الحسين، وقال: هذا الشعر لزينب بنت عقيل بن أبي طالب:

(1)(2868).

(2)

تحرف في الأصول إلى " هرم ". والخبر عند الطبراني (2869). قال الهيثمي 9/ 199: وعمرو بن ثابث بن هرمز ضعيف. قلت: بل متروك، ثم إنه لم يدرك أم سلمة.

(3)

تحرف في (ش) إلى: " حبان ".

(4)

لفظ " كنا " سقط من (ش).

(5)

عند الطبراني: " الجبانة ".

(6)

عند الطبراني و" المجمع " و" مختصر ابن عساكر: " جده ".

(7)

(2865) و (2866). قال الهيثمي: فيه من لم أعرفه، وأبو جناب مدلس.

(8)

" بن محمد ": سقط من (ش).

ص: 60

ماذا تقولون إن (1) قال النبي لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الأممِ

بعترتي (2) وبأنصاري وذريتي

منهم أُسارى وقتلى ضُرِّجُوا بدمِ

ما كان هذا (3) جزائي إذ نصحتُ لكم

أن تَخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمِ

قال أبو الأسود الدُّؤلي: نقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الأعراف: 23]. رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما انقطاع، وفي الآخر وهو أجود من المنقطع.

فقال أبو الأسود الدؤلي:

أقول وزادني حَنَقَاً (4) وغَيْظَاً

أزال اللهُ ملكَ بني زيادِ

وأَبْعَدَهُم كما بَعِدُوا (5) وخَانُوا

كما بَعِدَتْ ثمودُ وقومُ عادِ

ولا رجعتْ رِكابُهُم إليهم

إذا قَفَّتْ إلى يوم التَّنادِ (6)

وعن سليمان بن الهيثم، قال: كان علي بن الحسين يطوف بالبيت، فإذا أراد أن يستلم الحجر، أوسع له الناس، والفرزدق بن غالبٍ ينظرُ إليه، فقال رجل: يا أبا فراس، من هذا؟ فقال الفرزدق:

(1) في (ش): "لو"، وفي (ف):" إذا ".

(2)

في " الطبراني ": " بأهل بيتي ".

(3)

في " الطبراني ": " ذاك ".

(4)

في " الطبراني ": " جزعاً ".

(5)

في " الطبراني ": " غدروا ".

(6)

في (د): " التنادي " بإثبات الياء. والخبر عند الطبراني في " الكبير "(2853) و (2875)، وأبيات أبي الأسود في الرواية الأولى.

وانظر " تاريخ دمشق " قسم تراجم النساء ص 124.

ص: 61

هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَهُ

والبيتُ يعرفه والحِلُّ والحَرَمُ

الأبيات إلى قوله:

أيُّ العشائر (1) ليست في رقابهمُ

لأوَّلِيَّةِ هذا، أولَه نِعَمُ

رواه الطبراني (2).

انتهى ما أردت نقله من كتاب الإمام الهيثمي المحدِّث الشافعي، وهو المتكلم على الأسانيد، وكل ما لم أذكر فيه توثيقاً ولا تصحيحاً منها، فهو مما قال فيه المصنف: فيه من لم أعرفه، وذلك هو النادر، وهذا المنقول قليلٌ من كثيرٍ، لأنه اقتصر على نقل ما اتصل إسناده، وهو شرط أهل المسانيد، ولم يذكر ما لم يذكروه، وهم لا يتعرَّضون لذكر المراسيل والمقاطيع، وإنما ذكر الطبراني فيما تقدم مقطوعاً واحداً، لأن له سنداً آخر متصلاً، فهو شاهدٌ للمتصل.

وفي كتاب ابن عبد البر " الاستيعاب "(3) و" النُّبلاء "(4) للذهبي وسائر من صنف المناقب من أهل السنة من مناقب الإمام الحسين بن عليٍّ عليهما أفضلُ السلام الكثير الطيب، وانظر كتاب " ذخائر العُقبى في مناقب ذوي القُربى "(5) من تواليف أئمة الحديث من الشافعية، وللذهبي كتابٌ مفردٌ، سمَّاه " فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب ". وابن جرير من أئمة الحديث هو الذي

(1) في " ديوان الفرزدق ": " الخلائق ".

(2)

الطبراني (2800)، والخبر والأبيات في ديوان الفرزدق 2/ 179 - 181.

(3)

1/ 377 - 383.

(4)

3/ 280 - 321.

(5)

للشيخ العلامة أحمد بن عبد الله بن محمد، محب الدين الطبراني، المتوفى سنة 694 هـ. وهو مطبوع متداول.

ص: 62

صنَّف " جزءاً " في طرق حديث: " من كُنْتُ مولاه، فعليٌّ مولاه "(1)، وصنف الذهبي جزءاً في طرقه وحكم بتواتره. وقد اشتمل " مسند " الإمام أحمد بن حنبل مِن مناقب العِتْرَة على ما لا يرويه ناصبيٌّ، ونقل الأئمة والشيعة منه، واحتجوا بنقله، وهو إمام المحدثين في الاعتقاد والانتقاد.

والقصد الاستدلال على خطأ من يفتري على أهل الحديث بُغْضَ أهل البيت، وقد عُلِمَ منهم التَّبري من ذلك بالضرورة.

وقد أكثرت من النقل في ذلك (2) على جهة الاستدلال، وهو يحتاج إلى اعتذار، لأنه استدلالٌ على أمرٍ ضروري:

وليس يصح في الأذهان شيءٌ

متى احتاج النَّهارُ إلى دليل (3)

والعذر في ذلك جَحْدُ ذلك مِمَّن جَهِلَ أو تجاهل، فالله المستعان.

بل تصريح الخصم بأنهم يقولون ببغي الحسين عليه السلام وتصويب قَتَلَتِه، هكذا قال، ولم يستحي من الله، وهذه تواليفهم المعلومة تكفي في تكذيب من يقول ذلك منهم (4) كما تقدم، ومن بَقِي له أدنى تقوى وَزَعَهُ من ذلك ما جاء في الحديث المتفق على صحته من رُجُوع ما رُمِيَ به البريء على من يرميه من كُفْرٍ وغيره (5)، وإنما يُجزىءُ من يَنْسِبُ هذا إليهم بغير بصيرةٍ أنه قد

(1) حديث مشهور، قد روي عن غير واحد من الصحابة، انظر " صحيح ابن حبان "(6931).

(2)

" في ذلك " ساقطة من (ش).

(3)

البيت لأبي الطيب المتنبي من قصيدة في " ديوانه " 3/ 92 شرح العكبري، وقبله:

وهذا الدُّرُّ مأمونُ التَّشظِّي

وأنت السيفُ مأمون الفُلولِ

(4)

في (د): " عنهم ".

(5)

وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " وقد تقدم تخريجه 2/ 438 - 439.

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تلعن الريحَ، فإنها مأمورة، وليس أحدٌ يلعن شيئاً له بأهل، إلَاّ رجعت =

ص: 63

يقع خلافٌ بين بعض السنة وبعض الشيعة والمعتزلة في وجهين آخرين:

الوجه الأول: جواز الاستغفار لبعض العصاة والتَّرَحُّم والترضية، وذلك مختلفٌ فيه، والمشهور في كتب أهل السنة جوازه لمن ليس بكافرٍ ولا مُنافقٍ، ولا يدلُّ دينه على شيءٍ من ذلك، ولا يستلزمه بناء على مذهبهم في الشفاعة والرجاء عموماً، وفي الصحابة خصوصاً.

فقد روى الهيثمي في " الفتن "(1)، عن طارق بن أُشَيْمٍ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" بحسب أصحابي القتل ". رواه أحمد، والطبراني بأسانيد، والبزار (2)، ورجال أحمد رجال الصحيح (3).

وعن سعيد بن زيدٍ مرفوعاً مثله، رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها (4) ثقات، ورواه البزار كذلك (5).

وعن أُمِّ حبيبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ ما تَلْقَى أمتي بعدي، وسفك بعضها [دماء بعض](6)، وسبق ذلك من الله كما سبق في الأمم (7) قبلهم، فسألت الله

= عليه". رواه أبو داود (4908)، والترمذي (1978)، والطبراني (12757) من حديث ابن عباس، وصححه ابن حبان (5745) واللفظ له.

(1)

7/ 223 - 224.

(2)

" والبزار " ساقطة من (ش).

(3)

أحمد 3/ 472، والبزار (3263)، والطبراني (8195) و (8196) وهو حديث صحيح.

(4)

تحرفت في (ش) إلى: " أحدهما ".

(5)

رواه أحمد 1/ 189 والبزار (3261) و (3262)، والطبراني (347) و (348) و (349).

(6)

سقط من الأصلين و" المجمع "، واستدرك من " مسند أحمد ".

(7)

في (ف): " للأمم ".

ص: 64

أن يُوَلِّيِنيَ شفاعة (1) يوم القيامة فيهم، ففعل". رواه أحمد والطبراني في " الأوسط " ورجالهم رجالُ الصحيح إلَاّ أن رواية أحمد عن ابن أبي حسين أنبأ أنس، عن أم حبيبة، ورواية الطبراني عن الزهري عن أنس (2).

وعن عبد الله بن يزيد (3) الخطميِّ، قال صلى الله عليه وسلم:" عذابُ أمتي في دنياها " رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط " ورجاله ثقاتٌ (4).

قلت: وشواهد كثيرة جداً متفرقة.

ومنها في تفسير قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:

(1) في (ش): " شفاعتهم ".

(2)

رواه أحمد 6/ 427 - 428 من طريق أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي حمزة، عن ابن أبي حسين، عن أنس بن مالك، عن أم حبيبة. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: قلت لأبي: ها هنا قومٌ يحدثونه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري: قال: " ليس هذا من حديث الزهري، إنما هو حديث ابن أبي حسين. وفي هامش " مجمع الزوائد ": الصحيح رواية أحمد، وقد ذكروا أن أبا اليمان عن شعيب رواه كذلك على الصواب بعد أن كان وهم، فرواها عن الزهري.

(3)

تحرف في (ش) إلى: " زيد ".

(4)

هو عند الطبراني في " الصغير "(893) من طريق عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن زكريا عن إبراهيم بن سويد النخعي، حدثنا الحسن بن الحكم النخعي، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن عبد الله بن يزيد الخَطْمي رفعه. ورواه الحاكم 1/ 50 من طريق عثمان بن أبي شيبة به.

قلت: والحسن بن الحكم النخعي وثقه ابن معين، وأحمد، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في " المجروحين " 1/ 233، وقال: يخطىء كثيراً، ويَهِمُ شديداً لا يعجبنى الاحتجاج بخبره إذا انفرد، وروى له حديثه هذا، وحديثاً آخر، وقال: هذان الخبران بهاتين اللفظتين باطلان، وقد فصلنا القول في هذا الحديث وما ورد في معناه في الجزء السادس من هذا الكتاب.

ص: 65

123] (1). قال ابن عبد البر: رُوي عن أبي بكرٍ من وجوهٍ شتى أنه في حق المسلمين مصائب الدنيا.

ومنها في تفسير: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 8](2).

ومنها: في فضل المصائب والآلام أحاديثٌ كثيرةٌ شهيرةٌ متفقٌ على صحة كثير منها بهذا المعنى، لكنه يخرج منه (3) من أظهر الشهادتين لمصلحة دنياه (4)، وليس من الإسلام في شيء، لما ورد في الصحاح كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرقٍ صحيحة متعددة متكاثرة أو متواترة أنه يُختلجُ دونه إلى النار يوم القيامة قومٌ من أصحابه يعرفهم، ويقول: "أصحابي! فيقال له: إنك لا

(1) أخرج أحمد 1/ 11، والطبري في " جامع البيان "(10521) - (10529)، والمروزي في " مسند أبي بكر "(111) و (112)، وأبو يعلى (98) - (101)، والبيهقي 3/ 373 من طرق عن أبي بكر قال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وكل شيء عملنا جُزينا به؟ فقال: " غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ " قال: قلت: بلى، قال:" هو ما تجزون به ". وصححه ابن حبان (2910)، والحاكم 3/ 74 - 75، ووافقه الذهبي.

(2)

أخرج ابن جرير في " جامع البيان " 30/ 268، وابن أبي حاتم كما في " تفسير ابن كثير " 4/ 578، من حديث أنس، قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} فرفع أبو بكر يده من الطعام، وقال: يا رسول الله، إني أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر، فقال:" يا أبا بكر، ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر، ويدخر لك الله مثاقيل الخير حتَّى توفاه يوم القيامة ".

وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 8/ 593، وزاد نسبته لابن المنذر والطبراني في " الأوسط " والحاكم في " تاريخه " وابن مردويه والبيهقي في " شعب الإيمان " وانظر " تفسير ابن كثير " 4/ 577 - 578.

(3)

في (ش): " عنه ".

(4)

في (ش): " دنيا ".

ص: 66

تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً لمن بدل بعدي" (1) وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة شهيرة صحيحة بألفاظٍ متنوعة، وقد تقصَّاها أهل الصِّحاح، وابن عبد البر في أول " الاستيعاب " (2) وإيرادُهم لها دليل صدقهم في الحديث، وتحرِّيهم لنقل الصحيح، وهذا عارضٌ لبيان خصوص هذه البشرى بالمخلصين في الإيمان، المقرين بذنوبهم، الذين تسُرُّهُم حسناتهم، وتسوؤهم سيئاتهم، ويحبون الصالحين، وإن لم يكونوا منهم.

ولنعد إلى تمام الشواهد على ذلك مع ما تقدم.

قال الهيثمي بعد حديث عبد الله بن يزيد الخَطمي مرفوعاً: " عذاب أمتي في دنياها ": وعن أبي هريرة مرفوعاً نحو رواية الطبراني في " الأوسط " فيه سعيد بن مسلمة الأُموي (3).

(1) أخرجه البخاري (5682)، ومسلم (2304) من حديث أنس.

وأخرجه البخاري من حديث ابن مسعود: البخاري (6576)، ومسلم (2297).

وأخرجه من حديث سهل بن سعد: البخاري (6583) و (7050)، ومسلم (2290)، وأحمد 5/ 333 و339، والطبراني (5783) و (5834) و (5894) و (5996).

وأخرجه من حديث حذيفة: أحمد 5/ 388، ومسلم (2297)، وابن أبي شيبة 11/ 441.

وأخرجه من حديث أبي بكرة: أحمد 5/ 48 و50، وابن أبي شيبة 11/ 443 - 444.

ومعنى قوله: " يختلج ": يجتذب ويقتطع.

(2)

1/ 2 - 9.

(3)

" المجمع " 7/ 224. وتمامه كلامه: وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان، وقال: يخطىء، وبقية رجاله ثقات.

قلت: قال يحيى بن معين: سعيد بن مسلمة ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث، في حديثه نظر، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، ضعيف الحديث منكر الحديث، وقال النسائي: ضعيف، وذكره أبو زرعة الرازي في الضعفاء، وقال الترمذي: ليس عندهم بالقوي، وذكره العقيلي وابن الجوزي والذهبي في جملة الضعفاء.

ص: 67

وعن معقل بن يسار مرفوعاً: " عقوبة هذه الأمة بالسيف، وموعدهم الساعة، والساعة أدهى وأمر " رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن عيسى الخزّاز (1).

وعن أبي بُرْدَةَ عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عنه صلى الله عليه وسلم: " عقوبة هذه الأُمة بالسيف ". رواه الطبراني في " الكبير "، ورجاله رجال الصحيح (2).

فمن استغفر له لعاصٍ منهم، فهو محمول إن شاء الله على نحو مقصد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال:{وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وحيث استغفر لأبيه في حياته حتى تبين له أنه عدو لله، وجادل في قوم لوطٍ، ولم يكن ذلك رضا منه بكفر أبيه، ولا مُوالاة له (3) على شِركِه.

وكذلك قول عيسى عليه السلام: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [المائدة: 118].

وكذلك رد السلام على اليهودي إذا ابتدأ به، بل هذا من قبيل استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكبر أعداء الله، وأعدائه صلى الله عليه وسلم كبير المنافقين عبد الله بن أُبي بن (4) سلولٍ، وصلاته عليه ميتاً (5) قبل أن ينصَّ عليه تحريم ذلك، وليس في ذلك رضاً عنه، ولا رضاً بفعله، فمن أقر بقبح ذنب المذنب، وتبرأ من الرضا به، كان خلافه في جواز الاستغفار سهلاً، ولذلك (6) ذهب زيد بن علي عليهما السلام إلى الصلاة على الفاسق، رواه عنه القاضي شرف الدين حسن بن محمدٍ

(1) الطبراني 2/ (460) من طريق عقبة بن مكرم، عن عبد الله بن عيسى، عن يونس بن عبيد، عن الحسن عن معقل بن يسار به، وعبد الله بن عيسى الخزاز، قال فيه أبو زرعة: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن عدي: هو مضطرب الحديث، وأحاديثه أفراد كلها.

(2)

" مجمع الزوائد " 7/ 224 - 225.

(3)

في (ش): " موالاته ".

(4)

" بن " سقطت من (ش).

(5)

" عليه ميتاً " سقط من (ف).

(6)

في (ش): " وكذلك ".

ص: 68

النحوي في " تذكرته " وهذا خلاصة مذهب القوم، وهو شبيهٌ بالشفاعة في الآخرة لأهل الذنوب مع كراهتها عند وقوعها ووجوب النهي والحرب على (1) بعضها.

قال الذهبي (2): وروى الخطيب (3) عن ابن (4) المظفر الحافظ، عن محمد بن جرير، قال: سمعت عباداً يقول: من لم يبرأ في صلاته كل يوم (5) من أعداء آل محمد، حشر معهم.

قال الذهبي: فقد عادى آل علي آل العباس (6)، والطائفتان آل محمدٍ قطعاً، فممن نبرأ؟! (7) بل نستغفر للطائفتين، ونبرأ من عدوان المعتدين، كما تبرَّأ النبي صلى الله عليه وسلم مما (8) فعل خالد لما أسرع في قتل بني جُذَيْمَة (9)، ومع ذلك،

(1) في (ف): " عن ".

(2)

في " ميزان الاعتدال " 2/ 379 - 380.

(3)

هذا وهم من المصنف رحمه الله، فالذي ذكره الخطيب عن ابن المظفر حكاية أخرى نقلها عنه الذهبي في " الميزان ".

وأما هذا النص، فقد ذكره بإثر تلك الحكاية؛ فقال: محمد بن جرير، أي: روى محمد بن جرير.

(4)

تحرف في (ش) إلى: " أبي ".

(5)

" كل يوم " ساقطة من (ش).

(6)

في (ش): تعادى آل علي وآل العباس.

(7)

في " الميزان ": " نتبرأ ".

(8)

في (ش): " فيما "، وهو تحريف.

(9)

أخرج عبد الرزاق (9434)، ومن طريقه أحمد 2/ 150 - 151، والبخاري (4339) و (7189)، والنسائي 8/ 237، وابن حبان (4749)، والبيهقي 9/ 115 عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وجعلوا يقولون. صبأنا صبأنا، وجعل خالد يأخذهم أسراً وقتلاً، ودفع إلى كل رجل منهم أسيراً، حتى كان يوماً، فقال خالد: ليقتل كل رجل منكم أسيره، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له صنيع خالد، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، وقال:" اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ".

ص: 69

فقال فيه: " خالدٌ سيفٌ سلَّه الله على المشركين "(1)، فالتَّبرُّؤ من ذنبٍ سيُغفر، لا يلزم منه البراءة من الشخص. انتهى كلامه.

وإنما أوردته ليُعرف مذهبهم وإجماعهم على كراهة فعل المذنب والتَّبرُّؤ منه، وإن لم يتبرَّؤوا من فاعله، محتجِّين بقوله تعالى:{وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه} [الممتحنة: 4]، وبقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] والعدو هنا: الكفار دون عصاة المؤمنين إجماعاً، وفي البُغاة:{إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10] الآية، مع قوله:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} [محمد: 19].

ففي الآيات (2) صح الجمع بين الذنوب والإيمان والأمر بالبراءة من (3) ذنب المؤمن، وبالاستغفار له، وشواهده كثيرة، ومن أوضحها قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10].

وفي الحديث بيانٌ كثيرٌ (4) لهذا، وكفى بأحاديث الشفاعة، وهي متواترة عند أهل العلم بالآثار، والحمد لله.

ولا شك أن الرضا بفعل المذنب بمنزلة ارتكاب الذنب.

قال الإمام المهدي محمد بن المُطَهّر: الموالاة المجمع على تحريمها:

(1) أخرجه من حديث عبد الله بن أبي أوفى عبد الله بن أحمد في " فضائل الصحابة "(13)، والبزار (2592) و (2719)، والطبراني في " الكبير "(3801)، و" الصغير "(580)، وصححه ابن حبان (7091)، والحاكم 3/ 298.

(2)

" ففي الآيات ": ساقطة من (ش).

(3)

في (ش): " عن ".

(4)

في (ش): " لكثير ".

ص: 70

موالاةُ العاصي لأجل معصيته، ويكون حكم صاحب هذه الموالاة حكم من والاه في الفسق والكفر، وفي مذهب المهدوية من الزيدية وهم أكثرهم (1) تشديداً: أنه تجوز محبَّة الفاسق لخَصْلَة خيرٍ فيه، وقد يكون في أهل السنة والشيعة من يحب بعض الفسقة لخصلة خيرٍ فيه، إما صحيحة أو في ظن من أحبه.

وقال محمد بن منصورٍ الكوفي الشيعي في كتابه المعروف بكتاب أحمد -يعني أحمد بن عيسى بن زيد عليهما السلام: إن أحمد بن عيسى عليه السلام قال: فإن جَهِلَ الولاية رجلٌ، فلم يتولَّ أمير المؤمنين عليه السلام، لم تنقطع بذلك عصمته، وإن تبرَّأ وقد عَلِمَ، انقطعت منا عصمته، وكان منّا (2) في حدِّ براءة مما دان به، وأنكر من فرض الولاية، لا نراه يخرج بها من حد المناكحة والموارثة وغير ذلك مما تجري به أحكام المسلمين بينهم بعضهم في بعض على مثل من وافقنا في الولاية وإيجابها في المناكحة والموارثة، غير أن هذا الموافق، موافقٌ معتصمٌ بما قد اعتصمنا به من الولاية، ونحن من الآخر في حدِّ براءةٍ من فعله.

وقوله: على مثل هذه الجهة، لا على مثل البراءة منا من أهل الشرك (3) اليهود والنصارى والمجوس، وهذا وجه البراءة عندنا ممن خالفنا. انتهى بحروفه من آخر المجلد السادس من " الجامع الكافي على مذهب الزيدية ".

الوجه الثاني: إن أهل السنة يكرهون اللَّعن والسب على الإطلاق، ولا سيّما للموتى، لما ورد في الحديث من النهي عن سبِّهم (4).

(1) في (ش): " وهو أكبرهم ".

(2)

" منا " ساقطة من (ش).

(3)

في (د) و (ف): " الشر ".

(4)

تقدم من حديث عائشة 5/ 4، وهو حديث صحيح.

ص: 71

وفي الباب عن زيد بن أرقم، رواه أحمد والطبراني بأسانيد، رجال أحدها ثقاتٌ (1).

وعن صخرٍ مرفوعاً، وفيه عبد الله بن سعيد بن أبي مريم (2)، وهو ضعيف.

وعن عبد الله بن عمرو (3) يرفعه: " سباب الميت (4) كالمشرف على الهلكة " برجال الصحيح (5).

وقد رأيت مصنفاً مستقلاً لبعضهم في النهي عن اللعن، أورد فيه حديثاً كثيراً في هذا المعنى، ويشهد لذلك قوله تعالى:{إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين} إلى قوله: {أن تَوَلَّوْهُمْ} الآية [الممتحنة: 9]، لأنه اعتبر المفسدة في الآية (6) عند المحاربة، وقد نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن سبِّ رِعْلٍ وذكوان الذين قتلوا سبعين من خير أصحابه، وقال سبحانه:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128](7) وما أردت بذكر هذا إلَاّ وجهين:

(1) رواه أحمد 4/ 369 و371، والطبراني في " الكبير "(4973) و (4974) و (4975)، ورواه أيضاً ابن أبي شيبة 3/ 366، وصححه الحاكم 1/ 385، ووافقه الذهبي.

(2)

صخر: هو ابن وداعة الغامدي، وحديثه عند الطبراني في " الكبير "(7278)، و" الصغير "(590).

(3)

في (ش): عمر، وهو تصحيف.

(4)

في (ف): " الموتى ".

(5)

وانظر هذا الحديث والحديثين قبله في " مجمع الزوائد " 8/ 76.

(6)

في الأصول: الذلة، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.

(7)

أخرج أحمد 2/ 255، والبخاري (4560)، ومسلم (294) من حديث أبي هريرة كان يقول:" اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله " قال: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت: {ليس لك من الأمر شيء

} الآية. وانظر " صحيح ابن حبان "(1972).

ص: 72

الوجه الأول: بيان التفاوت العظيم بين المخالفين، فكم بين الرَّاضي بالفعل الذي لولاه ما أحبَّ الفاعل، وبين الكاره له الذي لو لم يكن له غيره، ما أحبَّ الفاعل، كما أنه فرقٌ عظيمٌ بين الزاني والمستغفر له، أو المجوِّز للشفاعة له، أو الصَّلاة عليه من أهل العلم والدين.

الوجه الثاني: تحسين الظن بالمسلمين من الطائفتين ما استطعت، وإذا كان لأحدٍ من الطائفتين محملٌ قبيحٌ، ومحملٌ أقبح منه، حملته على أقلِّهما قبحاً، إن لم أجد محتملاً حسناً، والله عند لسان كل قائل، وقلبه ونيته. فأمَّا من علمنا منه بُغض علي عليه السلام، فإنَّا نُبْغِضُه لله، وكيف لا نبغضُه وقد صح بغير نزاعٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا يبغضك إلَاّ منافق "(1).

ولكنه ينبغي التنبيه على أمرٍ لطيفٍ وهو أن المحبة مما تزيد وتنقص، وتقِلُّ وتكثر، كالإيمان على الصحيح، فقد صح في أحاديث الشفاعة الصحاح أن يكون لمن في قلبه أدنى من مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ، وإذا كان قليل الإيمان ليس بكفرٍ، فكذلك قليل المحبة ليس ببغضٍ، ومن المعلوم أن حب فاطمة عليها السلام لعلي بن أبي طالب أكثر من حب عائشة رضي الله عنها له، وكذلك حب الحَسَنَيْنِ له عليهم السلام أكثر من حبِّ ابن عمر له، وكذلك حبُّ المؤمنين (2) لله ولرسوله في غاية التفاضل.

وصحت النصوص في فضائل الإيمان إلى أن عُدَّ فيه ما هو أدنى من مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ، ولم يُحكم للقبيل بالكفر في شيءٍ من ذلك.

ولم يعنِّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة حيث لم تُحِبَّ أمير المؤمنين كحبِّ أبيها، ولا كحب فاطمة له، ولا كَرهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك ولا طلقها، ولا يلزمُ من التفضيل عليه البغض له، فإنا نفضِّله على ولديه عليهما السلام، ولا نبغضهما،

(1) حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه 1/ 370.

(2)

في (ف): " أمير المؤمنين ".

ص: 73

وأهل الحديث يُفَضِّلون أبا بكرٍ على عُمَرَ، ولا يُبغضون عمر، وأهل الإسلام يفضلون النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وأهله، ولا يبغضونهم، بل على الأنبياء عليهم السلام.

ولكن نعرض من هذا صورة نسبة البغض، وهي شدة المراء في التفضيل والقدح في أدلة المفضلين في الجانبين، ألا ترى أن أحداً من الغلاة لو فضل علياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجادلناه، وقدحنا فيما يحتج به على ذلك، لكان يظن بنا كراهة علي، وكذا لو فضَّل أحدٌ منا الحسين (1) بن علي على أبيه، أو عمر على أبي بكر، فَرُدَّ عليه، لتوهم المردود عليه فيمن رد عليه بأنه يكره المُفَضَّل، وإنما كَرِهَ التفضيل لا المُفَضَّل، فينبغي الاحتراز في ذلك حتى لا يُنْسَبَ إلى بُغض علي من يحبه، فيكون جنايةً عليه، وظلماً له، والله يحب الإنصاف.

(1) في (ف): " الحسن ".

ص: 74

الفصل الثاني

في بيان أن من منع الخروج على الظلمة استثنى من ذلك من فَحُشَ ظُلمه، وعَظُمَتِ المفسدة بولايته، مثل يزيد بن معاوية، والحجَّاج بن يُوسُف، وأنه لم يقُل أحدٌ ممن يُعْتَدُّ به بإمامة من هذا حاله، وإن ظن ذلك من لم يبحث من ظواهر بعض إطلاقهم، فقد نصوا على بيان مُرادهم، وخصُّوا عُموم ألفاظهم، ويظهر ذلك بذكر ما أمكن من نصوصهم.

فمن ذلك ما نقله لي شيخي النَّفيس العلوي -أدام الله عُلُوَّه- عن إمام مذهب الشافعية الجويني، فإنه قال في كتابه " الغياثي "(1)، وقد ذكر أن الإمام لا ينعزل بالفسق ما لفظه: وهذا في نادر الفِسق، فأما إذا تواصل منه العِصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السَّداد، وتعطَّلت الحقوق، وارتفعت الصِّيانة، وَوضُحَتِ الخيانة، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم، فإن أمكن كفُّ يَدِهِ، وتولية غيره بالصفات المعتبرة، فالبدار البدار، وإن لم يمكن ذلك، لاستظهاره بالشوكة إلَاّ بإراقة الدماء، ومُصادَمَة الأهوال، فالوجه أن يُقاس ما الناس مندفعون إليه، مُبْتَلُون به (2) بما يعرض وقوعه، فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يُتَوَقَّع، فيجب احتمال المتوقَّع، وإلا فلا يسُوغُ التشاغل بالدفع، بل يتعين الصبر والابتهال إلى الله تعالى. انتهى بحروفه.

(1) ص 105 - 110.

(2)

" به " ساقطة من (د) و (ف).

ص: 75

ومما يدلُّ على ذلك أنه لما ادعى أبو عبد الله (1) بن مُجاهد الإجماع على تحريم الخروج على الظلمة، ردوا ذلك عليه وقبَّحوه، وكان ابن حزمٍ -على تعصُّبه لبني أُمَيَّة- ممَّن ردَّ عليه، فكيف بغيره؟ واحتج عليه ابن حزمٍ بخروج الحسين بن علي عليهما السلام على يزيد بن معاوية، وبخروج ابن (2) الأشعث ومن معه من كبار التابعين على الحجاج، ذكره في كتاب " الإجماع "(3) له، ورواه عنه الرِّيمَيُّ في آخر كتاب " الإجماع " له في الترتيب الذي ألحقه به، فقال ابن حزم ما لفظه: ورأيت لبعض من نَصَبَ (4) نفسه للإمامة والكلام في الدين، فُصولاً ذكر فيها الإجماع، فأتى فيها بكلامٍ لو سكت عنه (5)، لكان أسلم له في أُخراه (6)، بل لعل الخرس كان أسلم له، وهو ابن مجاهد البصري (7) المتكلِّم الطائي، لا المقريء، فإنه ذكر فيما ادعى فيه الإجماع: أنهم أجمعوا على أنه لا يُخْرَجُ على أئمة الجَوْرِ، فاستعظمتُ ذلك، ولعمري إنه لعظيمٌ أن يكون قد عَلِمَ أن مخالف الإجماع كافرٌ، فيُلقي هذا إلى الناس، وقد علم أن أفاضل الصحابة وبقية السلف يوم الحرة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن الزبير ومن تابعه من خيار الناس خرجوا عليه، وأن الحسين بن علي ومن تابعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضاً رضي الله عن الخارجين عليه، ولعن قتلتهم، وأن الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم. أترى هؤلاء كفروا؟ بل والله من كَفَّرهم، فهو أحق بالكفر منهم، ولعمري لو كان اختلافاً (8)

(1) في الأصول: " أبو بكر "، وهو خطأ. وابن مجاهد. هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي البصري، صاحب أبي الحسن الأشعري، صنف التصانيف ودرس علم الكلام، وكان حسن التدين، جميل الطريقة. مترجم في " السير " 16/ 305.

(2)

" ابن " ساقطة من (ش).

(3)

ص 177 - 178.

(4)

في " الإجماع ": " ينسب ".

(5)

" عنه " سقطت من (د).

(6)

تحرفت في (ش) إلى: " أجره ".

(7)

في الأصول: " المصري "، وهو تحريف.

(8)

في الأصول: " حليفاً "، وهو خطأ والمثبت من " الإجماع ".

ص: 76

-يخفى-، لعذرناه، ولكنه مشهورٌ يعرفه أكثر من في الأسواق، والمخدرات في خُدورِهِنَّ لاشتهاره، ولكن يحق على المرء أن يَخْطِمَ كلامه ويزُمَّه إلَاّ بعد تحقيق ومَيْزٍ، ويعلم أن الله تعالى بالمرصاد، وأن كلام المرء محسوبٌ مكتوبٌ مسؤولٌ عنه يوم القيامة مُقَلَّداً أجر من اتبعه عليه، أو وزره. انتهى بحروفه. وقرَّره الفقيه جمال الدين الرِّيَمي، ولم يعترضه.

فإذا كان هذا كلام من نصوا على أنه يتعصب لبني أمية في يزيد بن معاوية، والخارجين عليه، فكيف بمن لم يُوصَمْ بعصبيةٍ البتة، وليس يمكن أن يزيد الشيعي المحتدُّ على مثل هذا.

وممن أنكر على ابن مجاهدٍ دعوى الإجماع في هذه المسألة، القاضي العلامة عياض المالكي، قال: ورد عليه بعضهم هذا بقيام الحسين بن عليٍّ رضي الله عنه، وابن الزبير، وأهل المدينة على بني أمية، وقيام جماعةٍ عظيمةٍ من التابعين، والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث.

وتأول هذا القائل قوله: " ألا ننازع الأمر أهله "(1) على أئمة العدل.

قال عياضٌ: وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق، بل لما غيَّر من الشرع، وأظهر من الكفر. انتهى كلامه.

وفيه بيان اتفاقهم على تحسين ما فعله الحُسين عليه السلام وأصحابه وابن الأشعث وأصحابه، وأن الجمهور قصروا جواز الخروج على من كان على مثل تلك الصفة، وأن منهم من جوَّز الخروج على كلِّ ظالمٍ، وتأول الحديث الذي فيه:" وألا ننازع الأمر أهله " على أئمة العدل.

وفيه أنهم اتفقوا على الاحتجاج بفعل الحسين عليه السلام، ولكن منهم من احتج على جواز الخروج على الظلمة مطلقاً، ومنهم من قصره على من فَحُشَ ظلمه وغيَّر الشرع، ولم يقل مسلمٌ منهم ولا مِنْ غيرهم: إنَّ يزيد مصيبٌ،

(1) قطعة من حديث صحيح تقدم به تخريجه ص 17 من هذا الجزء.

ص: 77

والحسين باغ إلَاّ ما ألقاه الشيطان على السيد، ولا طمَّع الشيطان بمثل هذه الجهالة أحداً قبل السيد.

والعجب أن السيد ادعى على ابن بطال أنه نص على ما ادعاه، ثم أورد كلام ابن بطال وهو يشهد بتكذيب السيد، فإن ابن بطال روى عن الفقهاء أنهم اشترطوا (1) في طاعة المتغلِّب إقامة الجهاد والجُمُعات والأعياد، وإنصافَ المظلوم غالباً، ومع هذه الشروط، فما قال ابن بطال عن الفقهاء: إن طاعته واجبةٌ، ولا إن الخروج عليه حرامٌ، بل قال عنهم: إنه متى كان كذلك، فطاعته خيرٌ من الخروج عليه، لما فيها من حقنِ الدماء وتسكين الدهماء.

واعلم أني لا أعلم لأحد من المسلمين كلاماً في تحسين قتل الحسين عليه السلام، ومن ادعى ذلك على مسلمٍ، لم يُصَدَّق، ومن صح ذلك عنه، فليس من الإسلام في شيءٍ، وقد ذكر المنصور بالله نزاهة الفقهاء عن هذا في الدعوة العامة كما تقدم، ثم ذكر في بعض أجوبته على وَرْدسان، وقال فيه ما لفظه: وأما فقهاء الجُرُوبِ والمَزَاود، ولُقاطاتِ الموائد، فلا يُعتدُّ بهم، ثم روى أنه حدثه من يَثِقُ (2) به عن عبد الرحمن بن محمد الخصك الذي كان بصنعاء أنه قال بنحوٍ مما ذكره السيد، وهذا غير عبيد مما لا يُعرف بدين ولا علم، فقد كان مع يزيد جيوش كثيرة كلهم على رأيه، وكذلك جميع الشياطين على كثرتهم يُحسنون الفجور والكذب، وإنما الكلام في نسبة ذلك إلى فقهاء الإسلامِ وثقات الحُفَّاظ، ونُسِبَ إلى الغزالي كلامٌ مضمونه أنه لم يصح عن يزيد بن معاوية الرضا بقتل الحسين، وهذا يدل على استقباح قتل الحسين، بحيث لم يتجاسر الغزالي على القطع بنسبة الرضا به إلى يزيد. ذكر هذا ابن خلكان في " تاريخه "(3) في ترجمة علي بن محمد المعروف بإلكيا الهراسي، ثم ذكر عن الهراسي صاحب الترجمة ما يخالف ذلك، وأثنى عليه حتى نقل تفضيله على

(1) في (ش): " يشترطون ".

(2)

في (ش): " وثق ".

(3)

3/ 287.

ص: 78

الغزالي، كما هو معروف في التاريخ المذكور.

وقد رأيت أن أورد الكلام المنسوب إلى الغزالي، وأنقُضَه على الإنصاف وهل صح عنه أو لم يصح، على أني أنزه الغزالي عن صحة ذلك الكلام لما فيه من الشبه الركيكة، ولما يؤدي إليه من الإلزامات الشنيعة، ولما صح عنه مما يناقضه كما سيأتي، وأنا أُبين من ذلك ما يظهر مع ذلك صحة ما ذكرته.

فأقول: قال صاحب الكلام -وقد سئل عن لعن يزيد- ما لفظه: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً، فهو الملعون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" المسلم ليس بلعَّان "(1)، وكيف يجوز لعن المسلم، ولا يجوز لعن البهائم، وقد ورد النهي عن ذلك (2)، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنصِّ النبي صلى الله عليه وسلم (3)، ويزيد صح إسلامه، وما صح قتله الحسين عليه السلام، ولا أمره ولا

(1) رواه من حديث ابن مسعود بلفظ: " ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا البذيء ولا الفاحش " أحمد 1/ 416، والبخاري في " الأدب المفرد "(312)، وابن أبي شيبة 11/ 18، والترمذي (1977) وحسنه، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم 1/ 12، ووافقه الذهبي، وانظر مزيد تخريجه عند ابن حبان بتحقيقنا.

(2)

أخرج أحمد 4/ 429 و431، والدارمي 2/ 286، ومسلم (2595)، وأبو داود (2561)، وابن حبان (5740) و (5741) من حديث عمران بن حصين، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وامرأة على ناقة لها، فضجرت، فلعنتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" خذوا متاعكم وارحلوا عنها وأرسلوها، فإنها ملعونة ". قال: ففعلوا، فكأني أنظر إليها ناقة ورقاء. وله شاهد من حديث جابر مخرج عند ابن حبان (5742)، وشاهد آخر من حديث أبي برزة مخرج أيضاً عند ابن حبان (5743).

(3)

أخرج ابن ماجه (3932) من حديث ابن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول:" ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمتك ماله ودمه، وأن نظن به إلَاّ خيراً ". وقال البوصيري في " زوائد ابن ماجه " 245/ 1: هذا الإسناد فيه مقال. شيخ ابن ماجه ضعفه أبو حاتم وذكره ابن حبان في " الثقات "، وباقي رجال الإسناد ثقات. =

ص: 79

رضاه بذلك، ومهما لم يصح ذلك منه، فلا يجوز أن نظن به ذلك، فإن إساءة الظن أيضاً بالمسلم حرام (1)، وقد قال الله تعالى:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرَّم من المسلم دمه وماله وعِرْضَه، وأن يُظَنَّ به ظن السوء "(2).

ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين عليه السلام أو رضي به، فينبغي أن يعلم به غاية حمقه، فإن من قتل من الأكابر والوزراء (3) والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله أو من الذي رضي به، ومن الذي كرهه، لم يقدر على ذلك، وإن كان قد قتل في جواره وزمانه، وهو يُشاهده، فكيف لو كان في بلدٍ بعيد، وفي زمنٍ بعيد، وقد انقضى؟ فكيف يعلم ذلك فيما انقضى عليه قريبٌ من أربع مئة سنة في مكان بعيد.

وقد تطرَّق التعصب في الواقعة، فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب، فهذا أمرٌ لا تعرف حقيقته أصلاً، فإذا لم يعرف، وجب اجتناب (4) الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظنِّ به، ومع هذا، فلو ثبث على مسلم أنه قتل مسلماً، فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافرٍ، والقتل ليس بكفر، بل هو معصيةٌ، وإذا مات القاتل فربما أنه مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره، لم يجز لعنه، فكيف من تاب عن قتلٍ، ولم يُعرف أن قاتل الحسين عليه السلام مات قبل التوبة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فإذاً لا يجوز لعن أحد (5) ممن مات (6) من

= ورراه الترمذي (2032)، والبغوي (3526) من حديث ابن عمر قوله، وصححه ابن حبان (5763).

(1)

في (ش): " محرمة ".

(2)

أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " فيما قاله الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " 3/ 151 أما من حديث ابن عباس بسند ضعيف.

(3)

" والوزراء " سقطت من (ش) و (ف).

(4)

في " الوفيات ": " إحسان ".

(5)

في (د) و (ش): " أحداً "، وهو خطأ.

(6)

في (ش): " تاب ".

ص: 80

المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى، ولو جاز لعنه، فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس [طول عمره، لا يقال له يوم القيامة: لِمَ لم تلعن إبليس؟](1) ويقال للاعن: لِمَ لعنت؟ ومن أين عرفت أنه مطرود ملعون؟ والملعون: هو المبعدُ من الله عز وجل، وذلك غيبٌ لا يُعرف إلَاّ فيمن مات كافراً، فإن ذلك عُلِمَ بالشرع، وأما التَّرحم عليه، فهو جائزٌ، بل مستحبٌّ، بل هو داخل في قولنا في (2) كل صلاةٍ: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنه كان مؤمناً، والله أعلم. انتهى كلامه.

وقد يتعلق بهذا ثلاث طوائف: النواصب، والروافض، ومن يقول بتحريم لعن المعين، وإن كان كافراً محارباً مشركاً أو ذمياً يهودياً أو نصرانياً، إلَاّ من علمنا أنه مات كافراً، فليردّ على كل طائفةٍ:

أما النواصب، فربما فرحوا به، أو توهَّموا أن قائله منهم، فتكثروا بالإمام أبي حامد الغزالي، وليس في كلام الرجل شيءٌ من النصب أبداً، وقد اشتهر عنه أن الله تعالى غَضِبَ على أهل الأرض لقتل الحسين عليه السلام، رواه عنه الثقات، كابن حجر في كتابه " التلخيص " وابن النحوي في كتابه " البدر المنير " بل أودعه الغزالي كتابه الشهير بـ " كشف علوم الآخرة " وسيأتي ذكر ذلك قريباً.

على أن الغزالي قد صرح في خطبة " المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى "(3) أنه كان غير متمكن من التصريح خوفاً وتقيَّةً، ومن كلامه في ذلك في هذا الكتاب المذكور: إن الإفصاح عن كُنه الحق يكاد يُخالف ما سبق إليه الجماهير، وفِطام الخلق عن العادات ومألوفات المذاهب عسيرٌ، وجانب (4) الحق يُجَلُّ عن أن يكون مُشرَعاً لكل واردٍ، وأن يطلع (5) عليه إلَاّ واحدٌ بعد

(1) ما بين حاصرتين سقط من الأصول، واستدرك من " الوفيات ".

(2)

عبارة " قولنا في " ساقطة من (ش).

(3)

ص 23.

(4)

في " المقصد الأسنى ": " جناب ".

(5)

في " المقصد الأسنى ": " يتطلع ".

ص: 81

واحدٍ، مهما عَظُمَ المطلوب، قلّ المساعد، ومن خالط الخلق جديرٌ أن يتحامى، ولكن من أبصر الحق عسيرٌ عليه أن يتعامى. انتهى.

فلو صح عنه ذلك الكلام، لعرفنا بقرينة الحال، ووساطة هذا الكلام، أن حاله ما كان مساعداً له على الجهر بالحق، كيف وقد رجَّح ذلك تصريحه به في " كشف علوم الآخرة " وغيره، وقد قال في كتاب " إحياء علوم الدين " (1) في أوائله في أواخر العقيدة: إن ما جرى بين الصحابة محمولٌ على الاجتهاد، وكل مجتهدٍ من عليٍّ ومعاوية مصيبٌ أو مخطىءٌ، ولم يقل بأن علياً مخطىءٌ ذو تحصيلٍ. انتهى بحروفه.

وفيه إشارةٌ إلى ما صرح به غيره من إجماع الأئمة الأربعة، وسائر أهل السنة على أن معاوية باغٍ على عليٍّ عليه السلام، لتواتر الحديث في ذلك، كما قد ذكرته مبسوطاً في غير هذا الموضع، ولكنه كان منافياً ألا تراه ذكر في " الإحياء "(2) في العقيدة أن الله يكلِّف ما لا يطاق، واتفق النقلة عنه أن مذهبه إنكار ذلك، نقله السبكي في " جمع الجوامع " وابن الحاجب وشرَّاح كتابه (3) مختصر " منتهى السول " وإنما تكلم الغزالي في تحريم لعن كل فاسقٍ وكافرٍ على التعيين، إلَاّ من عُلِمَ أنه مات على الكفر، كما روى عنه (4) النووي ذلك في " الأذكار "(5)، وهذا لا يستلزم النصب.

وأما الروافض، فيقولون: هذا يدل على أن أهل الحديث والأشعرية يُصَوِّبُون يزيد بن معاوية في قتل الحسين عليه السلام، ويحكمون بصحة إمامته، وببغي الحسين وأصحابه عليه.

والجواب على هؤلاء من وجهين:

(1) 1/ 115.

(2)

1/ 112.

(3)

" كتابه " ساقطة من (ش).

(4)

في (ش): " عن "، وهو خطأ.

(5)

ص 500.

ص: 82

الوجه الأول: أن كلامه يدلُّ على نقيض هذا، فإنه صرَّح فيه بأن من ظن في يزيد أنه أمر بقتل الحُسين، أو رضي به، فقد فعل ما لا يحل من ظن السوء، ومن القطع في موضع الشك، وذكر بعد هذا أنه يجوز أن قاتل الحسين مات بعد التوبة، وكل هذا يقتضي تحريم قتل الحسين عنده، ولو كان -حاشاه- باغياً، ويزيد إماماً، لكان قتله -صانه الله- واجباً فدل هذا على أنه لا حجة في هذا الكلام لمن ينسب إلى أهل الحديث والأشعرية إمامة يزيد وتصويبه في قتل الحسين عليه السلام، فإن الرجل إنما تكلم في عدم صحة أمر يزيد ورضاه بذلك، وقد تكررت منه الترضية على الحسين عليه السلام في كلامه، ولم يترحم على يزيد مرة واحدة في جميع كلامه، وهذا يدل على تعظيم الحسين وتمييزه له من غيره.

الوجه الثاني: أنا لو قدرنا صحة شيءٍ من ذلك على الغزالي، والعياذُ بالله، لم يلزم أهل الحديث والأشعرية.

الوجه الثالث: أنه قد روي عن الغزالي مذهب الروافض، ذكر الغزالي ما يقتضي ذلك في كتابه " سر العالمين وكشف ما في الدارين "، وحكاه عنه الذهبي في ترجمته من " النبلاء " (1) قال: ذكره سبطُ ابن الجوزي، وقال: ما أدري ما عذره فيه. فكما لم يلزم صحة ذلك الكلام على الغزالي والقطع على أنه معتقده، ولم يلزم أيضاً نسبة ذلك إلى أهل الحديث والأشعرية، سواء صح أو لم يصح.

الوجه الرابع: ما ذكره الغزالي في كتاب " كشف علوم الآخرة " من أن الله تعالى غضب على أهل الأرض لقتل الحسين عليه السلام، وقد مضى قريباً صحة ذلك عنه.

وأما الطائفة الثالثة، وهم الذين يقولون بتحريم لعن (2) المعين وإن كفر، وارتكاب الكبائر، ولهم حجتان:

(1) 19/ 328.

(2)

" لعن " ساقطة من (ش).

ص: 83

الأولى: من النظر، وهي أنا إذا جوَّزنا التوبة من أحدٍ لم تحل لعنته (1)، وهذا ممنوع، بل تجوز لعنته كما تجوز عقوبته على الكفر بالقتل، وبالحد، وبالجرح في الشهادة والذم حتى تصح توبته، والتجويز لا يؤثر في منع الظواهر.

الحجة الثانية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت بلعن رعلٍ وذكوان وعُصَيَّة قَتَلَةِ القُرَّاء في بئر معونة، فنهي عن ذلك، ونزلت:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128](2).

والجواب: أن النهي (3) عن ذلك مختصٌّ بحال الصلاة، والنصوص تمنع من (4) القياس كما سيأتي بيانه.

ثم نقول: لا يخلو: إما أن يعتقدوا تحريم ذلك ظناً واجتهاداً مع تصويب من خالفهم، أو رفع الإثم عنه، فمسلم ولا يضر تسليمه، وهذا هو الذي لا يذهب المحقِّقون من أهل الحديث والأشعرية إلى غيره إن ذهب أحدٌ منهم إلى ذلك والله أعلم.

وإما أن يعتقدوا تحريم ذلك، ويفسقوا (5) من خالف فيه، فهذا قول لا ينبغي أن يذهب إليه عالمٌ، وهو الذي ذهب إليه صاحب هذا الكلام الذي أورده ابن خلكان، وسوف يظهر من ضعفه ما يقوِّي نزاهة أبي حامد الغزالي، ونزاهة ساحته منه إن شاء الله تعالى وأما قوله: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعنه فهو الملعون، فالجواب عليه من وجوه:

الوجه الأول: أن المتكلم بدأ في كلامه بلعن نفسه، ولعن خيار المسلمين.

أما لعنه لنفسه، فلأنه لعن من لعن مسلماً، وحكم بأنه ملعون، وقد قرر

(1) في (د): " يحل لعنة ".

(2)

انظر ص 72 من هذا الجزء.

(3)

عبارة " أن النهي " ساقطة من (ش).

(4)

" من " ساقطة من (ف).

(5)

في الأصول: " ويفسقون "، والجادة ما أثبت.

ص: 84

في كلامه أن قتل المسلم ليس بكفرٍ فكيف لعنه؟

فثبت بهذا أن لاعن المسلم مسلمٌ، وأن صاحب الكلام قد لعنه، وقد حكم على نفسه أن من لعن مسلماً، فهو ملعون، فثبت بحكمه هذا أنه ملعونٌ، لأنه قد لعن مسلماً، وذلك المسلم الذي لعنه هو لاعن يزيد أو غيره من الظلمة.

وأما لعنه لخيار المسلمين، فلأن خيار المسلمين هم أهل القرآن وحملة العلم، وهم يلعنون من لعنه الله في آية القتل ونحوها، ومن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كما سيأتي، والإمام أبو حامد الغزالي أجلُّ مِنْ أن يفتتح فتواه بنحو ذلك.

الوجه الثاني: أنه بنى كلامه على مسألة باطلة عند أهل السنة، وهي أن من أقر بالإسلام بلسانه، ولم يقم بفرائضه، وتجنب (1) محارمه، فهو مسلم مؤمنٌ، على الأطلاق، وهذا قول المرجئة، وأما قول (2) أهل السنة، فالإسلامُ والإيمان عندهم معرفةٌ وقولٌ وعملٌ، ويدخلهما الزيادة والنقصان، وقد اختلف الناس قديماً وحديثاً في تفسير المسلم والمؤمن، والإسلام والإيمان، والكلام في اشتقاق ذلك، وقد تكلم غير واحد من أهل السنة في ذلك، منهم القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي في كتاب " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي "، وذكر اضطراب الناس في ذلك، واختار أن المسلم من أسلم نفسه من عذاب الله، والمؤمن من أمن نفسه من ذلك، أو كما قال، وإنما اختلف العلماء في المسألة، لتعارض الآثار في ذلك، ففي بعضها اعتبار الشهادتين فقط، وفي بعضها اعتبارهما مع الصلاة والصوم والحج، وفي بعضها اعتبار ذلك مع أداءِ المقيم، وفي بعضها:" المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه "(3) وفي بعضها: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يشرب الخمر حين يشربها

(1) في (ش): " ويتجنب ".

(2)

" قول ": ساقطة من (د) و (ف).

(3)

تقدم تخريجه 2/ 439.

ص: 85

وهو مؤمن" (1)، وفي بعضها: " والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم " (2) وكلها صحيحة.

وكذلك الآيات القرآنية اختلف المفهوم منها في ذلك، ففي بعضها ما

يدل على أن المسلم مؤمنٌ، مثل قوله تعالى:{إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]، وفي بعضها ما يدل على أن المؤمن غير المسلم (3)، مثل قوله تعالى:{قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [الحجرات: 14]، ومثل ما رواه الترمذي وضعَّف سنده من قوله صلى الله عليه وسلم:" أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص "(4).

وقد جمع أهل السنة من الآيات والأحاديث بأن الإيمان والإسلام يزيدان وينقصان، وأن اختلاف الآيات ورد على حسب ذلك، فحيث قال الله تعالى:{إن الدين عند الله الإسلام} أراد الإسلام الكامل، حيث قال:{قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} أراد أقل الإسلام، وهو ما يحقن الدماء من إظهار الإسلام وإقامة أركانه التي يُقاتل على تركها، وكذلك سائر الأحاديث على ما هو مبسوطٌ في شروح الحديث. قال ابن بطال في شرح البخاري ما لفظه: وكذلك لو أقر بالله ورسوله، ولم يعمل الفرائض، لا يُسمى مؤمناً بالإطلاق،

(1) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 317 و376، والبخاري (2475) و (5578) و (6772) و (6810)، ومسلم (57)، وأبو داود (4689)، والترمذي (2625)، وابن ماجه (3936). وانظر " صحيح ابن حبان "(186).

(2)

حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه 2/ 439.

(3)

في (ف): " المسلم غير المؤمن ".

(4)

أخرجه الترمذي (3844) عن قتيبة بن سعيد، عن ابن لهيعة، عن مشرح بن عاهان، عن عقبة بن عامر، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلَاّ من حديث ابن لهيعة، عن مشرح بن عاهان، وليس إسناده بالقوي.

قلت: رواه أحمد 4/ 155 عن عبد الله بن يزيد المقرىء، عن ابن لهيعة. وهذا إسناد حسن، عبد الله بن يزيد أحد العبادلة الذين رووا عن ابن لهيعة قبل احتراق كتبه.

ص: 86

وإن كان في كلام العرب قد يجوز أن يُسمى مؤمناً بالتصديق، فغير مستحق لذلك (1) في حكم الله تعالى، لقوله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]. أخبر الله تعالى أن المؤمنين على الحقيقة من كانت هذه صفته دون من قال، ولم يعمل، وضيَّع ما أُمِرَ به وفرّط. انتهى.

وفيه دلالة على ما ذكرته من أن أهل الكبائر لا يُسَمَّوْنَ عند أهل السنة مسلمين ومؤمنين علي الإطلاق، وإنما يقال: إنهم مسلمون أقل الإسلام، ومسلمون عصاةٌ فساقٌ ظلمةٌ، بل قد أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم على كثيرٍ منهم الكفر والمروق من الإسلام، كما جاء في حديث:" لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض "(2) وحديث: " سِبابُ المسلم فُسوقٌ، وقتاله كفرٌ "(3) وأحاديث مروق الخوارج من الإسلام، وكلها في الصحيح (4)، وهذه ألفاظٌ قد (5) أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن نطلقها كما أطلقها، ونريد ما أراد على الإجمال من كفرٍ مخصوصٍ، أو مطلقٍ أو مجازٍ أو حقيقةٍ شرعيةٍ أو لغويةٍ، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما قصد بإطلاقها زجر أهل هذه المعاصي بإطلاق أقبح الصفات المذمومة عليهم، والحكمة في ذلك باقيةٌ، فكيف نخالف الحكمة (6) النبوية في زجر الناس عن المعاصي بإطلاق الأسماء المذمومة عليهم، ونصف أفجرهم -وهو يزيد الذي تأوَّه منه رسول الله

(1) في (د) و (ف): " ذلك ".

(2)

أخرجه من حديث ابن عمر أحمد 2/ 85 و87 و104، والبخاري (4403)، و (6166) و (6785) و (6868) و (7077)، ومسلم (66)، وأبو داود (4686)، والنسائي 7/ 126، وابن ماجه (3943). وانظر ابن حبان (187).

(3)

تقدم مراراً.

(4)

انظر 1/ 232 ت (2).

(5)

" قد " ساقطة من (ش).

(6)

في (ش): " تخالف النصوص ".

ص: 87

- صلى الله عليه وسلم وسمَّاه عِتْرِيفاً (1) مُتْرَفَاً، وأخبر أنه يَثْلُمُ أمر الأمة- بأحسن الأوصاف ونُسمِّيه بأكرم الأسماء، وهو الإسلام والإيمان، ويترك ذمه بجميع ما يستحقه أو بعضه مِنَ الوصف بالعصيان والفسوق والكفران والمروق كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك من فعل بعض ما فعل من الخوارج، مع اختصاصهم دون يزيد بالعبادة والتلاوة والتأويل والصيانة؟! وهل هذا إلَاّ خلاف الحكمة النبوية، وخلاف الأدب مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ وإن كان الصحيح أن " الإيمان سريرةٌ، والإسلام علانيةٌ " كما رواه أحمد (2) مرفوعاً بهذا اللفظ ودل عليه كثيرٌ من الآيات والأخبار، كما ذكر في هذا الكتاب مبسوطاً في موضعه.

الوجه الثالث: أنه قد ورد السمع قرآناً وسنةً بلعن مرتكبي معاصٍ كثيرةٍ لا يكفر مرتكبها (3)، مثل قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] وفي الآية أحكامٌ كثيرةٌ، مثل تحريم قتل المؤمن، واستحقاق فاعل ذلك للعقاب والغضب واللعنة، واستحقاق الخلود، ولم يتأول أهل الحديث (4) شيئاً منها إلا الخلود لموجبات (5) ذلك، وقيل: منسوخ، وقيل: مخصوصٌ بالقاتل الكافر.

ومن ذلك ما ورد في جميع دواوين الإسلام من لعن أهل المعاصي، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من آوى محدثاً، ومن غير منار الأرض، ومن

(1) العتريف: الغاشم الظالم.

(2)

3/ 134 - 135. ورواه أيضاً أبو عبيد في " الإيمان " ص 5، والبزار (201)، وأبو يعلى (2923)، وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1/ 52، وقال: رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين، وضعفه آخرون.

(3)

في (ش): " مرتكبوها ".

(4)

عبارة " أهل الحديث " لم ترد في (د) و (ش).

(5)

في (ش): " الموجبات ".

ص: 88

لعن والديه، ومن ذبح لغير الله (1)، ومن أمَّ قوماً وهم له كارهون (2)، ولعن آكل الربا وموكله (3)، ولعن الواشمة والموشومة، والنامصة والمتنمصة (4)، وغير ذلك، وهذه أحاديث صحيحة، وأهل هذه المعاصي لا يكفرون إجماعاًً.

الوجه الرابع: أن هذه الفتوى بأن لاعن الفاسق ملعون مخالفة لفتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا لعن العبد شيئاً، صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، فتأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعِنَ، فإن كان كذلك، وإلا رجعت إلى قائلها " رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء من رواية رباح بن الوليد على الصحيح، وكذلك رواه الطبراني، وقيل: الوليد بن رباح عن عمه عمران بن عتبة عن أم الدرداء، عنه صلى الله عليه وسلم (5)

(1) أخرجه من حديث علي بن أبي طالب أحمد 118 و152، وابنه عبد الله في زوائد " المسند " 1/ 108، والبخاري في " الأدب المفرد "(17)، ومسلم (1978)، والنسائي 7/ 232، وأبو يعلى (602)، والبيهقي 6/ 99، والبغوي (2788). وانظر ابن حبان (5896).

(2)

رواه الترمذي (358) من حديث أنس، وفي سنده محمد بن القاسم الأسدي، والأكثر على تضعيفه.

(3)

أخرجه من حديث ابن مسعود الطيالسي (343)، وأحمد 1/ 393 و394، و448 و462، والدارمي 2/ 246، ومسلم (1597)، وأبو داود (3333)، والترمذي (1206)، وابن ماجه (2277)، والبيهقي 5/ 275. وانظر ابن حبان (5025).

(4)

أخرجه من حديث ابن مسعود أيضاً الحميدي (97)، وأحمد 1/ 433 - 434 و448 و454 و462، والبخاري (4886) و (4887) و (5931) و (5939) و (5943) و (5948)، ومسلم (2125)، وأبو داود (4169)، والنسائي 8/ 146 و149، وابن ماجه (1989). وانظر ابن حبان (5504) و (5505).

(5)

أبو داود (4905)، وجود إسناده الحافظ في " الفتح " 10/ 467. وانظر " تحفة الأشراف " 8/ 245.

وفي الباب عن ابن مسعود عند أحمد 1/ 408، وحسَّن إسناده الحافظ في الفتح =

ص: 89

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بأنها لا ترجِعُ إلى قائلها حتى يكون الملعون بها غير أهلٍ لها (1)، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لعن الواشمة والنامصة، ومن أمَّ قوماً وهم له كارهون، ونحوهم من هذه المعاصي المستصغرة بالنظر إلى ما قدمنا ذكر طرق منه من أفعال يزيد، فكيف يقطع أنه (2) لا يستحق اللعنة؟

فإن قيل: إنما أراد صاحب الكلام أنه لا يجوز لعن أحدٍ بعينه من العصاة، وإن جاز لعنه على الإطلاق من غير تعيين.

قلت: هذا لا يصح لوجوهٍ:

الوجه الأول: إن المسألة ظنية خلافية، لا يستحق المخالف فيها (3) التأثيم ولا الإنكار، فضلاً عن التفسيق واللعن، وقد ذكر الإمام النووي في " الأذكار "(4) أن الظاهر جواز ذلك، وقد صدر ذلك عن غير واحدٍ من السلف الصالح، ولو لم يصح فيه إلَاّ ما خرجه البخاري ومسلم (5) عن ابن عمر أنه مرَّ بفتيان مِنْ قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، فقال: لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً، فهذا الصاحب الجليل لعن جماعةًَ معيَّنين من فتيان قريشٍ، أيكون عبد الله بن عمر ملعوناً؟! حاشاه رضي الله عنه من ذلك.

ومن ذلك ما رواه البيهقي في " سننه الكبرى " في جماع أبواب الكلام في الصلاة في أول بابٍ منه، من حديث عبد الرحمن بن معقل أنه قال:

= 10/ 467.

وعن ابن عباس عند أبي داود (4908)، والترمذي (1978)، والطبراني في " الكبير "(12757)، وصححه ابن حبان (5745).

(1)

" لها " ساقطة من (ش).

(2)

في (د): بأنه.

(3)

" فيها " ساقطة من (ش).

(4)

ص 500.

(5)

البخاري (5515)، ومسلم (1958). وأخرجه أيضاً أحمد 1/ 338 و2/ 43، والنسائي 7/ 238، والحاكم 4/ 234.

ص: 90

شهدت علياً يقنتُ بعد الركوع، ويدعو في قنوته على خمسةٍ، وسمَّاهم، ولم يسمهم البيهقي.

وروى محمد بن جرير الطبري مثل ذلك في " تاريخه " وزاد تسميتهم (1)، ومن ذلك ما روى شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة حين جاء نعي الحسين لعَنَتْ أهل العراق، وقالت: قتلوه قتلهم الله عز وجل، عزُّوه وذلُّوه لعنهم الله.

رواه الطبراني والهيثمي في " مجمع الزوائد " وقال: رجاله موثوقون (2).

الوجة الثاني: ما اتفق البخاري ومسلمٌ على إخراجه من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" اللهم إني بشرٌ آسف كما يأسف البشر، فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته فاجعلها له (3) صلاة "(4) وهذا لا يصح أن يكون إلا على جهة التعيين، لأن سياق الحديث يقتضي ذلك، ولأن الجلد مذكور في الحديث، وتعليق الجلد بغير معين محالٌ.

فإن قيل: إنما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعلم به الله أنه يموت كافراً (5). كما قال الغزالي.

قلت: هذا لا يصح، لأنه لو كان كذلك، لما دعا لمن لعنه أن يجعل الله اللعنة له صلاةً وزكاةً وطهوراً، ومن علم أنه يموت كافراً، لا معنى للدعاء له بذلك، وأيضاً فذلك الذي قاله خلاف الظاهر، وتأويلٌ بغير دليلٍ، ولو جاز مثل ذلك، جاز تأويل كل ظاهرٍ، وتخصيص كل عامٍّ، وأدى ذلك إلى التَّلعُّب بالشريعة المطهرة، فالواجب (6) على العالم ترك مذهبه ليوافق الحديث، لا

(1) انظر " سنن البيهقي " 2/ 245.

(2)

تقدم ص 53 من هذا الجزء.

(3)

" له " ساقطة من (ش).

(4)

البخاري (6361)، ومسلم (2601). وأخرجه أيضاً ابن حبان (6516)، وانظر تمام تخريجه فيه.

(5)

في (ش): " أنه كافر ".

(6)

في (ش): " والواجب ".

ص: 91

تأويل الحديث ليوافق مذهبه، وإنما يجوز التأويل عند الضرورة على ما هو مفصَّلٌ في مواضعه.

فأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: " فأيُّما أحدٍ دعوتُ عليه من أمتي بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ (1)، فليس ذلك يدلُّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم يلعن من ليس لذلك بأهلٍ، لأن ظاهر أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الإباحة، وحديث عائشة هذا ليس فيه ذكر اللعن، وإنما ورد على سببٍ مخصُوصٍ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ليتيمة أُم سلمة: " لا كبِرَتْ سِنُّك " (2) وظاهر هذا الدعاء الإباحة وإن لم تكن اليتيمة أهلاً له، فليس ذلك دالاًّ على تحريمه، وليس يجوز القول بأن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم محرَّمٌ إلَاّ بدليلٍ واضحٍ (3)، و (4) على أن الصحيح أيضاً عند كثيرٍ من العلماء أنه لا يجوز تعمُّد الصغائر على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثالث: ما روى مسلمٌ في " صحيحه "(5) عن جابرٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى حماراً قد وُسِمَ في وجهه، فقال:" لعن الله الذي وسمه " وهذا نص في موضع النزاع وفيه ما يرُدُّ على قول الغزالي المقدم في الوجه قبله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علق اللعن بوسم الوجه، فدل على أنه العلة في جواز اللعن، كما إذا قال: من أحدث فليتوضأ، فإنه يعلم أن الحدث هو علَّةُ الوضوء، وذلك معروفٌ في فن (6) الأصول.

(1) حديث عائشة أخرجه مسلم (2600)، وليس فيه قوله صلى الله عليه وسلم:" ليس لها باهل ". إنما هو في حديث أنس الذي أخرجه مسلم برقم (2603). وانظر ابن حبان (6514)، والتعليق الآتي.

(2)

انظر التعليق السابق، وحديث عائشة كما رواه مسلم، قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو، فأغضباه، فلعنهما وسبهما

(3)

عبارة " محرم إلَاّ بدليل واضح " ساقطة من (د).

(4)

الواو ساقطة من (ف).

(5)

برقم (2217). وأخرجه أيضاً ابن حبان (5628)، والبيهقي 7/ 35.

(6)

" فن " ساقطة من (ف).

ص: 92

الوجه الرابع: أن اللِّعان بين الزوجين المسلمين جائزٌ بنص القرآن، وإجماع المسلمين، وهو معلومٌ من الدين ضرورة، بحيث يكفر جاحده، وهو مشتمل على لعن كل واحد منهما لنفسه إن كان من الكاذبين، فلو كان لعنُ المسلم الفاسق حراماً، لم يحل للمسلم الفاسق أن يلعن نفسه، لأن حق نفسه أعظم من حق أخيه المسلم عليه أو مثله (1).

الوجه الخامس: حديث: " شر أئمتكم الذين يلعنونكم وتلعنونهم " خرجه مسلمٌ عن أبي هريرة (2) والترمذي عن عمر (3)، فأخبرهم أنهم يلعنون أئمتهم، فساقها لهم بذلك ولم يبيِّن تحريمه، فدلَّ على الجواز، بخلاف خبره صلى الله عليه وسلم في نحو قطع يد السارق في بيضةٍ، فإنه خبرٌ على القطع وهو غائب، فلا يدلُّ على الجواز.

الوجه السادس: حديث عائشة الصحيح (4)، وفيه أنها قالت لليهود: عليكم السام واللعنة، وإنما نهاها عن الفحش لما بدأتهم بالمشافهة بذلك من غير إظهارهم لذلك دليله ما في الصحيح عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال في رجل:" بئس أخو العشيرة "، فلما دخل عليه ألان له القول، فقالت له عائشة في ذلك، فقال:" إن شر الناس من أكرمه (5) الناس اتِّقاء فُحْشِهِ "(6). فسمى المواجهة بذلك فحشاً.

(1) في (د): " ومثله ".

(2)

كذا في الأصول: " عن أبي هريرة "، وهو خطأ، إنما هو من حديث عوف بن مالك الأشجعي، وهو عند مسلم (1855). وأخرجه أيضاً أحمد 6/ 24 و28، والدارمي 2/ 324، وابن حبان (4589).

(3)

برقم (2264)، وفيه محمد بن أبي حميد، وهو ضعيف. قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلَاّ من حديث محمد بن أبي حميد، ومحمد يضعف من قبل حفظه.

(4)

حديث صحيح وقد تقدم تخريجه 1/ 261.

(5)

في (د) و (ف): " كرهه "، وهو خطأ.

(6)

أخرجه أحمد 6/ 38 و158 - 159، والبخاري (6032) و (6054) و (6131)، ومسلم (2591)، وأبو داود (4791)، والترمذي (1996)، وابن حبان (4538) و (5696).

ص: 93

الوجه السابع: آية المباهلة، وقوله فيها:{فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] نص في أهل المباهلة وإن كان لفظه عاماً كما ذكره الأصوليون.

الوجه الثامن: حديث واطىء المسبية الحبلى وفيه: " هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره "(1).

الوجه التاسع: حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: " إذا باتت المرأة هاجرةً فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح ". رواه مسلمٌ (2) وهو لعنُ المعين.

العاشر: حديث: " لعن الله الراكب والقائد والسائق ". رواه الهيثمي (3) مرفوعاً من حديث [سفينة]، وقال: رجاله ثقاتٌ، وهو لعنٌ لمعينٍ أيضاً.

الحادي عشر: أن الأدلة العامة من الإيمان والأحاديث التي قدمناها وردت معلَّلَةً بتلك المعاصي المذكوره، والتعليل يقتضي جواز اللعنة حيث وجدت المعصية. مثاله قوله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] معلل بالظلم وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله من لعن والديه "(4) معلل بلعن الوالدين، وكذا سائر ما ورد تعليق اللعن به من الأوصاف المذمومة.

واللفظ، وإن كان عاماً، فهو يتناول الآحاد ظاهراً ولو لم يتناول شيئاً منها، لم يكن له معنى (5) وتعيين بعضها من غير دليلٍ تحكُّم، فثبت بمجموع هذه

(1) أخرجه من حديث أبي الدرداء أحمد 5/ 195 و6/ 446، والدارمي 2/ 227، ومسلم (1441)، وأبو داود (2156).

(2)

برقم (1436)، ورواه أيضاً أحمد 2/ 439 و480، والبخاري (3237) و (5193)، وأبو داود (2141)، وابن حبان (4171) و (4172).

(3)

" مجمع الزوائد " 1/ 113، وما بين حاصرتين منه. والحديث أخرجه البزار (90).

(4)

تقدم تخريجه ص 89.

(5)

في (ف): " معين ".

ص: 94

الأدلة أن لعن أهل الكبائر جائزٌ، بل قد وقع من أرحم الخلق وأشفقهم، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق وسيد ولد آدم، وذلك لِمَا فيه من زجر الناس أن يرتكبوا ما ارتكب أولئك الذين استحقوا اللعنة، فكيف يقال: إنَّ من لعن مسلماً على الإطلاق، وإن كان فاسقاً، فهو الملعون.

أفلا يخاف صاحب هذا الكلام أن يكون تناول (1) باللعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار الصحابة وخيار المؤمنين.

فحاشا مقام الإمام الغزالي من مثل هذه الجهالة الشنيعة، والبدعة البديعة.

وأما احتجاج صاحب تلك الفتوى على ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن ليس باللعان "(2)، فالجواب من وجهين:

الوجه الأول: أنه لا يدل على تحريم لعن أحدٍ بعينه، بل هو مطلقٌ، وقد فسَّره صاحب الشريعة، فأجاز لعن الظالمين والكافرين ونحوهم، فدلَّ على أن التحريم منصرفٌ إلى المؤمنين القائمين بفرائض الإيمان، الحافظين لأنفسهم (3) عن انتهاك محارمه، وتعدِّي حدوده.

الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أن يكون المؤمن لعَّاناً، وليس اللعان من لعن بعض العُصاة غضباً لله تعالى، وزجراً لأهل المعاصي في بعض الأحوال، كما فعل ذلك (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير واحد من فضلاء الصحابة (5)، وإنما

(1) في (ش): " يتناول ".

(2)

أخرجه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 404 و405 و416، وابن أبي شيبة 11/ 18، والبخاري في " الأدب المفرد "(312) و (332)، والترمذي (1977)، والطبراني في " الكبير "(10483)، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم 1/ 12، ووافقه الذهبي.

(3)

في (ش): " أنفسهم ".

(4)

" ذلك " ساقطة من (ش).

(5)

في (د): " أصحابه ".

ص: 95

اللعان: كثير اللعن عند كل غضب، في صغير الأمور وكبيرها، وكذلك السباب (1)، وقد صح عن أبي بكرٍ الصديق أنه غَضِبَ على ولده عبد الرحمن، فجدَّع وسبَّ (2)، فهذا صَدَرَ من الصِّدِّيق رضي الله عنه على سبب (3) يسير، كما ذلك معروفٌ في كتب الحديث، وليس يستحق الصِّدِّيق أن يُسمى بذلك سبّاباً، وكذلك قول الصِّدِّيق يوم الحديبية لسهيل بن عمرو: امصُص بظر اللَاّت (4)، ولم يكن بذلك الصِّدِّيق فاحشاً، وإن كانت كلمة فُحشٍ لما قالها غضباً لله تعالى.

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -أحلم الخلق وأشفقهم- غَضِبَ على من وسم حماراً في وجهه، فلعن من وَسَمَهُ، فكيف لا يغضب المسلم على من قتل الحسين الشهيد ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرة عينه، أما يكون العصيان بقتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح من العصيان بوسم الحمار الذي غضب له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون قطع رأسه الكريم وتقويره وحمله على عودٍ أوجع للقلب وأقوى في إثارة الغضب والكرب من وسم وجه ذلك الحمار، على أن الذي وسم وجه الحمار لم يفعل ذلك عداوةً للحمار، ولا استهانةً به، وإنما فعله لمنفعةٍ ظنها في ذلك.

فاعجب كيف غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لوسم وجه ذلك الحمار، واعجب من قومٍ يدعون الإسلام الكامل، ولا يغضبون لولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذبح

(1)" السباب " ساقطة من (ف).

(2)

أخرجه أحمد 1/ 197 و198، والبخاري (602) و (3581) و (6140) و (6141)، ومسلم (2057)، وأبو داود (3270) و (3271)، وابن حبان (4350).

(3)

في (ش) و (ف): " سب " وهو خطأ.

(4)

قطعة من حديث مطول أخرجه عبد الرزاق (9720)، من طريقه أحمد 4/ 328 - 331، والبخاري (2731 و2732)، وابن حبان (4872)، وانظر تمام تخريجه فيه.

ص: 96

عطشاناً (1) مظلوماً، ومُثِّلَ به، وحُمِلَ رأسه الكريم على رأس عودٍ مغيّراً مشوَّهاً، ولو فعل ذلك بعض أئمة العدل ببعض أولاد هؤلاء لذنبٍ اقتضى ذلك، لسبَّه ولعنه غالباً، وأقل الأحوال أن يقف الغضب العظيم على كون ولده مظلوماً، وكون الفاعل من أهل الجور، فالحسين رضي الله عنه من أعظم المظلومين ومحاربوه أعظم الظالمين، ويزيد أعظمهم أجمعين، وهو، وإن لم يباشر القتل، فهو أعظم إثماً من المباشر (2)، لأن القاتل إنما قتل برضاه وشوكته وقوته.

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن على القاتل جزءاً من العقاب، وعلى الآمر تسعةٌ وستين (3) جزءاً ". رواه ابن كثير في " الإرشاد "، وقال: رواه أحمد بن حنبل (4)، فإذا كان الإنسان يغضب لولده لو فعل معه دون ما فعل مع الحسين عليه السلام، وإن كان ولده في فضله دون الحسين عليه السلام، وظالم ولده في جرأته دون يزيد، فكيف لا يكون غضبه لله ورسوله أعظم؟ وفي " الصحيحين " من حديث أنسٍ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين "(5). وفي "صحيح

(1) كذا الأصول بالتنوين، والجادة " عطشان " بلا تنوين، وما هنا يخرج على لغة بني أسد فإن تأنيث " فعلان " بالتاء لغة بني أسد، وقياس هذه اللغة صرفها في النكرة.

(2)

في (ف): " المباشرة ".

(3)

في الأصول: " وسبعين "، وكتب تحتها في (ف):" وستين ".

(4)

هو في " مسنده " 5/ 362 من حديث مرثد بن عبد الله، عن رجل من الصحابة، وأورده الهيثمي في " المجمع " 7/ 299، وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن إسحاق، وهو ثقة، لكنه مدلس.

قلت: وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، رواه الطبراني في " الصغير "(526).

قال الهيثمي: فيه الحسين بن الحسن بن عطية، وهو ضعيف. قلت: وفيه أيضاً عطية العوفي، وهو ضعيف كذلك.

(5)

البخاري (15)، ومسلم (44). وأخرجه أيضاً أحمد 3/ 177 و275، والدارمي 2/ 307، والنسائي 8/ 115، وابن ماجه (67)، وانظر ابن حبان (179).

ص: 97

البخاري" (1) مثل ذلك من حديث أبي هريرة.

فمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، فليكن ولدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولد صلبه، وجميع أهله، بل في " الصحيحين " (2) من حديث أنسٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه "، وفي رواية:" لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".

فليتصوَّرِ المسلم أنه مكان الحسين رضي الله عنه، وأنه فعل به ما فُعِل بالحسين عليه السلام، وليتصور كيف يكون غضبه على من فعل به ذلك، بل يجب أن يكون أعظم من ذلك، فإنَّ المسلم يُستحبُّ له أن لا يغضب لنفسه، ويجب عليه أن يغضب لمعصية الله، ويُستحب له أن لا ينتصر (3) لنفسه، ويجب عليه أن يَنْصُرَ أخاه المسلم المظلوم. فإذا عرفت هذا، فاحذر أيها السني أن يخدعك الشيطان بتحسين الكلام في يزيد والمجادلة.

فأمَّا لعنُ من لعنه، وتفسيق من سبه، فتهوُّرٌ في مهاوي الجهل والفسوق إلى مرمى سحيقٍ، ونزوع (4) عن الإيمان والإسلام، لا عن التدقيق والتحقيق.

وأما تعلُّقه بأن المسلم أفضل من البهيمة، وحُرمتُه أعظم من حرمة الكعبة، فذلك المسلم الكامل الإسلام بالإجماع، فإن مرتكب الكبائر يجب حدُّه وإهانته، ويستحق الغضب من الله تعالى والعذاب، ولا يجوزُ شيء من ذلك في حق البهائم والكعبة المعظَّمة.

(1) رقم (14). ورواه أيضاً النسائي 8/ 115، وابن منده في " الإيمان "(287).

(2)

البخاري (13)، ومسلم (45)، وأخرجه أيضاً أحمد 3/ 176 و272، والدارمي 2/ 307، والترمذي (2515)، والنسائي 8/ 125، وابن ماجه (66)، وابن حبان (234)، وانظر تمام تخريجه فيه.

(3)

في الأصول: " ينصر ".

(4)

في (ف): " ونزوح ".

ص: 98

وأما قوله: إنه صح إسلام يزيد، ولم يصح قتله الحسين، ولا أمره بذلك، ولا رضاه به، وقوله: إن من زعم أنه يعلم ذلك، فينبغي أن نعلم به (1) غاية حمقه إلى آخر ما ذكره في هذا المعنى.

فالجواب عليه من وجوه:

الوجه الأول: أنه أما أن يزيد أنا لم نطلع على ما في قلبه من ذلك، فصحيح، لأن أمر السرائر إلى الله تعالى، ولكن إذا كان المرجعُ إلى السرائر، فلم يصح إسلام يزيد أيضاً، لأنا لم نطلع على ما في قلبه من ذلك، فما بالُ إسلامه صح، وإن لم نطلع على ما في قلبه، ورضاه بقتل الحسين لم يصح لسبب هذه العلة، وإن أراد أنه لم يظهر من يزيد الرضا بقتل الحسين عليه السلام في ظاهر أحواله، فذلك عنادٌ واضح أو جهلٌ فاضح، فيزيد ناصبيٌّ عدوٌّ لعلي وأولاده عليهم السلام، مُظهرٌ لعداوتهم، مظهر لسبِّهم (2) ولعنهم من على رؤوس المنابر، ناصبٌ للحرب بينه وبين من عاصره منهم، ومن جَهِلَ هذا، فهو معدودٌ من جملة العامة الذين لم يعرفوا أخبار الناس، ولا طالعوا تواريخ الإسلام، وما أحسن البيت:

والشمس إن خَفِيتْ على ذي مُقْلَةٍ

نصفَ النهار فذاك محصولُ العمى

فكيف يقال: إنه لم يظهر منه الرضا بذلك، وقد جاؤوا إلى حضرته برأسِ الحسين عليه السلام على عودٍ مغبّراً مُشَوَّهاً مُقَوَّراً متقربين إليه بذلك، مظهرين للمَسرَّة به، فتكلم بأقبح الكلام في حق الحسين عليه السلام، كما نقل ذلك أشياخ أهل النقل كأبي عبد الله الحاكم والبيهقي وموفق الدين ابن أحمد الخوارزمي وغيرهم، كما تقدمت إليه الإشارة (3)، وكيف لا نعلم رضاه بذلك، وإن سكت، أتحسب أن قاتليه قد اختلَّت عقولهم حتَّى يفعلوا ذلك من غير أمره

(1)" به " ساقطة من (ش).

(2)

في (ف): " معلن لسبهم "، وفي (ش):" مظهر معين لسبهم ".

(3)

انظر ص 47.

ص: 99

ولا رضاه، ثمَّ يأتوا به مظهرين للمسرَّةِ، طالبين منه لعظيم (1) المَثُوبة على أمرٍ لم يتقدَّم منه إليهم فيه شيءٌ، ولا عَرَفُوا فيه رضاه (2)، فكيف لا يُقال: بأنَّ الظَّاهر منه الرِّضا بذلك، ولم يخرج على أحدٍ منهم في ذلك، ولا أظهر البراءة من ذلك، ولا أمر بقبرِ رأسِ الحُسين عليه السلام، ولا نهى عن إظهارِ المسرَّةِ بقتلِ الحسين رضي الله عنه، فإنَّهم أظهروا المسرَّةَ بذلك في مملكته.

والنُّكتةُ في هذا الوجه الأول من الجواب: أنَّ رضا يزيد بذلك (3) ظاهر بالضرورة (4) لا يمكن إنكاره، ولا يمكن (5) أبداً المستند (6) فيه مثل ما نعلم كراهة أهل الحسين رضي الله عنه لذلك في الظاهر، وهذا علمٌ ضروريٌّ متعلِّقُه ظواهرُ الأحوال لا سرائر (7) القلوب، ومن لم يحصل له هذا العلمُ لقلَّةِ معرفته بالتَّاريخ وأخبارِ النَّاس، فهو معذورٌ بجهله إذا لزم تكليفُ الجُهَّال، وهو عدم الاعتراضِ على أهل العلم، والله أعلم.

الوجه الثاني: أن يقال لهذا الشأن في رضا يزيد بقتل الحُسين عليه السلام: إمَّا أن يقول: إنَّ جميع ما صدر من أُمراء المُلوك من الحروب والقُتول والغزوات وعظائم الأمور غير منسوبٍ إلى أمرِ المُلوك، ورضاهم، أو لا.

إن قال: لا ينسب إلى الملوك شيء من ذلك في الظَّاهر، ولا في الباطن، وإن لم يظهروا البراءة منه ولا الشِّدَّة على مَن فعله، فهذا خروجٌ من (8) زُمرة العقلاء، لأنَّه يلزم منه أن الحجَّاج بن يوسُف ما صدر عنه إلَاّ مثل (9) ما صدر عن عُمرَ بن عبد العزيز من الأمر بالعدل والرِّفق، ولكنَّ أُمراءَه

(1) في (ش): " عظيم ".

(2)

في (ش): " رضا ".

(3)

"بذلك" ساقطة من (ش).

(4)

في (ش): بالسرور.

(5)

عبارة "ولا يمكن" ساقطة من (ش).

(6)

في (ش): "والمستند".

(7)

في (د) و (ف): "سائر"، وهو تحريف.

(8)

في (ف): " عن ".

(9)

"مثل" ساقطة من (ش).

ص: 100

وجُنده فعلوا ما لم يرضَهُ، وسكت، وما نُقِلَ أنه باشره من ذلك، وأمر به لم يبلغ مبلغ التَّواتُر.

وأمَّا إن أقرَّ إنَّ ظاهر أحوال الأمراء أنهم لا يفعلون (1) في المُهمَّاتِ إلَاّ ما أمرهم به الملوك، فقتلُ أمراءِ يزيد للحسين عليه السلام من ذلك، فإنَّ الطاهر من أمراء يزيد وغير يزيد أنَّهم لا يقدمُون على الأمور العظيمة إلا من (2) جهة الطَّاعة لمن فوقهم، والتَّقرُّب إليه، ولم يكن بين جندِ يزيد وبين الحُسين عداوةٌ تُوجب السَّب، كيف (3) القتل؟ وإنَّما قتلوه طاعةً ليزيد وتقرُّباً إليه.

ولهذا روى أبو عبد الله الذهبي في كتاب " الميزان "(4) عن أبي إسحاق أنه قال: كان شمرٌ يصلِّي معنا ويستغفر، فقلت له: كيف يغفرُ الله لك وقد أعنت على قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: ويحكَ، كيف نصنع؟! إنَّ أمراءَنا أمرونا، ولو خالفناهم كنَّا شرّاً من الحمير السُّقاة.

قال الذهبي: إنَّ هذا العذر قبيحٌ، فإنما الطَّاعة في المعروف.

قلت: وإنَّما قال أبو إسحاق لشمرٍ: كيف يغفرُ الله لك، لأنَّه فهم من حاله أنَّه لم يتب من قتل الحسين، ويفعل ما يجب من تسليم نفسه قَوداً إلى أولياء الحسين عليه السلام، وإنما قال ذلك على عادةِ المستغفرين مِنَ المصرِّين، مع تهاوُنه بعظيم ذنبه.

وجه آخر: وهو قول الله تعالى لمن عاصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 91 - 92] فنسب (5) فعل

(1) في الأصول: " يفعلوا "، والصحيح ما أثبت.

(2)

في (د): " على ".

(3)

في (ش): " فكيف ".

(4)

2/ 280، وقد تقدم ص 17.

(5)

في (د) و (ش): "ونسب".

ص: 101

البعض إلى الجميع على سبيلِ الذَّم لرضا الجميع به أو تواليهم، ورضا الجميع معلومٌ لغير الله تعالى بالقرائن، ولذلك حسُنت مناظرتُهم به، وما كان من أمور السَّرائر الَّتي لا يعلمها إلَاّ الله، لما تقع المناظرةُ في دار التَّكليف عليها إلَاّ على طريق التَّنكيت دون الحُجَّةِ، ولذلك لم يكن للمشركين حجَّةٌ في القدر.

الوجه الثالث: إما أن يشكَّ (1) هذا المتكلِّمُ في جميع ما نقله المؤرَّخُون من ثقاتِ المحدِّثين وأهل معرفة الرِّجال، لزمه ألَاّ ينسُب الرَّفض إلى الرَّافضة، والنَّصب إلى النَّواصب، والبدع إلى أحدٍ من أهل المذاهب، ولا يجرح أحداً (2) من الرُّواة، ولا يميز العدل من سواه وإن أقرَّ بقبول أقوالِ الثِّقات من أهل التاريخ والكلام على الرجال، لزمه قبولُهم في يزيد.

الوجه الرابع: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمر أمَّته لا يزال مستقيماً حتَّى يثلمهُ يزيد، وتأوَّه من قتله لسلفِه من الصَّحابة رضي الله عنهم وسلفِ سلفهم من التابعين (3) رحمهم الله تعالى، كما قدمنا ذكر ذلك، ورواية ثقاتِ أئمة الحديث له (4)، ومن أخبر عنه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي أن يُحسن به الظَّنُّ، بل الواجبُ تحسين الظَّنِّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل اعتقاد القطع بوقوع ما أخبر به.

الوجه الخامس: إمَّا أن نقول: تواترُ الأخبارِ وكثرةُ القرائنِ يدلُّ على ما ذكرناه أولاً.

إن قلنا بذلك، لزم صحَّةُ ما ذكرناه، وإن لم نقل بذلك، لزم ألاّ يُنسبَ إلى أحدٍ من الملوك عداوةُ عدُوٍّ ولا رضا بحربه حتى يُحضِرَ الشُّهود العدولَ، ويكتب على نفسه سِجلاًّ بأنَّه يُبغض عدوَّه، ويحب قتله ويرضى به.

(1) في (د) و (ف): " يسلك "، وهو خطأ.

(2)

في (ش): " أحد "، وهو خطأ.

(3)

" من التابعين " ساقطة من (ش).

(4)

ص 35.

ص: 102

ومن المعلوم لكلِّ عاقلٍ أنه قد ثبت العلمُ بأعداءِ الملوك ومحبَّة الملوكِ لقتل أعدائهم من غير إقرارٍ صحيح بذلك وكتابة (1) شهادات العدول في السِّجلَاّت بذلك، ولا شكَّ أنَّ عداوة يزيد للحسين من أشهر العداوات، وأنَّ رضاه بقتله من أوضحِ الأمور الظَّاهرات، والله أعلم.

الوجه السادس: أنَّه ثبت في الصَّحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقلَ ملك الرُّوم أنَّ عليه إثم الأَريسيِّين (2)، وهم أهلُ الجهل والخطأ (3) والجفاء مِن أهل دينه مثل الحراثين، ومِنَ المعلوم أنَّه لو لم يأمرهم ويرضى بدينهم ما كان عليه مِن إثمهم شيءٌ، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّما قال له بذلك لأن (4)، ظاهر حاله أنه راضٍ بذلك، لقدرته على التغيير، ولو كان كارهاً لغيَّر، فكذلك سائر الملوك الجبابرة الظاهر منهم الرضا بكلِّ قبيح ظهر في ممالكهم ولم ينكروه، وكذلك يزيد، فإن قتلة الحسين عليه السلام جاؤوا برأسه الكريم مبشرين له، وطالبين للثواب منه، ومظهرين له أنهم قد فعلوا له أحب الأمور إليه، فأقرهم على ذلك، ورضي عنهم، وقد يُحكم بالرضا بأقل من هذا، فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم برضا البكر بالتزويج لسكوتها (5)، وليس القصد القياس، وإنما القصد التنبيه على أن الرضا قد يُعرف بغير نُطقٍ وإلا لزم فيمن تزوجت برجلٍ وهي بكرٌ بالغةٌ وأقامت معه، حتى وُلِدَ له منها أولادٌ (6)

(1) في (ش): " وكتابات ".

(2)

انظر 1/ 207 و2/ 45، وانظر أيضاً " مصنف عبد الرزاق (9724)، و" صحيح البخاري " (4553)، و" صحيح مسلم " (1773)، و" مسند أحمد " 1/ 263، و" صحيح ابن حبان " (6555).

(3)

" والخطأ " ساقطة من (د) و (ف).

(4)

في (ش): " أن ".

(5)

أخرج أحمد 6/ 165، والبخاري (5137) و (6946)، ومسلم (1420)، والنسائي 6/ 85 - 86، وابن حبان (4080) و (4081) و (4082) من حديث عائشة مرفوعاً:" استأمروا النساء في أبضاعهن ". قيل: إن البكر تستحيى. قال: " سكوتها إقرارها ".

(6)

في " ف ": حتى ولدت له أولاداً.

ص: 103

أن يقبل منها إذا أنكرت الرضا بعد ذلك، وأمثال ذلك، بل أوضح من هذا صحة عقُود الأخرس بالإشارة والعلم بكثير فما يرضى به ويحبه.

الوجه السابع: أن صاحب هذه الشبهة علق الحكم بالعلم بما في باطن يزيد، وليس الحكم يتعلق بذلك شرعاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر عمه العباس يوم بدرٍ، ولما ادعى العباس ذلك اليوم أنه كان مكرهاً، فقال له صلى الله عليه وسلم:" أمَّا ظاهرك، فكان علينا ". وأخذ منه الفداء (1).

وروى البخاري في " الصحيح " في كتاب الشهادات (2) عن عمر بن الخطاب أنه قال: إن أناساً كانوا يُؤخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، فمن أظهر لنا خيراً أمِنَّاه وقرَّبناه، وليس لنا من سريرته شيءٌ، ومن أظهر لنا سوءاً، لم نأمنهُ ولم نقرِّبه (3)، ولم نصدقه، وإن قال: سريرتُه حسنةٌ. انتهى كلامه رضي الله عنه.

والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول. أن الحجة في هذا من السمع والأثر والحجة في الأول من (4) النظر والجدل.

الوجه الثامن: أنا لو قدرنا ما لم يكن من عدم رضا يزيد بقتل الحسين عليه السلام، فإنه فاسقٌ متواتر الفسق والظلم، شرِّيب الخمر، كما قال أبو عبد الله الذهبي في حقه (5): كان ناصبياً جِلفاً فظّاً غليظاً، يتناول المسكر، ويفعل المنكر، وهذا يبيح سبَّه ويُغضِبُ ربه، ولو لم يكن له إلَاّ بغضُ أمير المؤمنين

(1) انظر " طبقات ابن سعد " 4/ 14، و" تاريخ الطبري " 2/ 465 - 466، و" سير أعلام النبلاء " 2/ 81 - 82، وقد تقدم 2/ 292.

(2)

برقم (2641)، وقد تقدم 2/ 291.

(3)

في (د) و (ف): " نعرفه "، وهذه اللفظة لم ترد عند البخاري.

(4)

" من " ساقطة من (ش).

(5)

في " النبلاء " 4/ 37 - 38، وقد تقدم ص 26.

ص: 104

علي بن أبي طالب عليه السلام، لكفاه فسوقاً ومقتاً عند الله وعند الصالحين من عباده.

ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه لا يبغض علياً إلَاّ منافق "(1) وأما قوله: إن إساءة الظن بالمسلم حرامٌ، فإنما ذلك في المسلم الكامل الإسلام الذي لم تظهر عليه قرائن الرِّيبة، ودليل الجواز في غير ذلك قول الله تعالى حاكياً عن نبيه يعقوب عليه السلام:{بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ} [يوسف: 18]، وفي الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الملاعنة:" لعلها أن تجيء به أسود جعداً "(2)، وقال:" إن جاءت به أسود أعين ذا أليتين فلا أراه إلَاّ قد صدق عليها ".

وأما قوله في الاستدلال على حماقة من زعم أن يزيد رضي بذلك.

إن من قتل من الأكابر في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله ورضي به، لم يقدرعلى ذلك، وإن كان قد قُتِلَ في جواره وزمانه وهو يشاهده، فإن أراد لم يقدر على معرفة الرضا، فكذلك لو أقرَّ بالرضا، لم يعلم أنه صادقٌ في إقراره، وإن أراد لم يقدر على معرفة الأمر أيضاً، كما هو ظاهر كلامه، فهذا قلة عقلٍ من قائله، لا قلة علم، فإن من المعلوم أنها لو قامت الشهادة بذلك إلى الإمام أو نحوه، لقُبِلت ووجب في ذلك من العقوبة ما يراه الإمام، ولو كان كما قال، لم تُقْبَلِ الشهادة بذلك (3) بل لوجب جرح الشهود، لأنهم شهدوا بما لا طريق إلى معرفته، وهذا خلاف العقل والشرع، وأيُّ مانعٍ يمنع من الشهادة على من (4) أمر بقتل رجل. هذا ما لا يقوى في عقل مميز أن الغزالي يتكلم به.

(1) أخرجه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 421 - 422، ومسلم (1495)، وأبو داود (2253)، وابن ماجه (2068)، وابن حبان (4281).

(2)

أخرجه من حديث سهل بن سعد الدارمي 2/ 150، والبخاري (4745)، والبيهقي 7/ 400، وابن حبان (4285)، وانظر تمام تخريجه فيه.

(3)

" بذلك " ساقطة من (د) و (ف).

(4)

" من " ساقطة من (ش).

ص: 105

وأما قوله: إن التعصب قد تطرَّق في الواقعة، وكثرت فيها الأحاديث.

فالجواب من وجوه:

الوجه الأول: أن هذا إشارةٌ إلى خلافٍ وقع، ولم يقع خلافٌ، بل نقل الموافق والمخالف أن يزيد كان بغيضاً ناصبياً شِرِّيباً فاسقاً.

الثاني: أن المختلفين في الواقعة طائفتان، طائفةٌ أثنوا على يزيد، وهم النواصب، وطائفة دمُّوهم، وهم سائر المسلمين. والتعصب لا يكون مع جميعِ الطائفتين، فوجب أن يكون مع من أثنى عليه، لأن الطائفة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالحسين وبعض أصحابه، فإنهم صحابةٌ إجماعاً، ولا يجوز نسبة التعصب إليهم، وكذلك من قدمنا ذكره فيمن تكلم على يزيد من أئمة الحديث كالخطابي وابن حزم والذهبي وغيرهم.

الثالث: ليس كل قصةٍ (1) وقع فيها تعصُّبٌ، فقد جهلت، وعمي أمرها، فقد وقع التعصب في العقائد وكثير من الوقائع، بل يؤخذ بما تواتر وبما صح عن الثقات ويُترك كلام المتعصبين.

وأما قوله: إن القاتل ربما مات على التوبة، فصحيحٌ، ولكن أين التوبة وشرائطها الصحيحة؟

وأما قوله: فإذاً لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى، فقد تقدم الجواب عليه، وما فيه من الخطر العظيم، وأن ذلك خلاف كلام العلماء، وقد قيَّد النووي ما أطلقه هذا، فقال في " رياض الصالحين " (2): باب تحريم سب الأموات بغير حقٍّ ومصلحةٍ شرعيةٍ وهي التحذير من الاقتداء به في بدعته وفسقه ونحو ذلك. انتهى.

وقد تقدم أن الله تعالى لعن الظالمين، وذلك يعمُّ الأحياء منهم والميِّتين،

(1) في (ف): " قضية ".

(2)

ص 593 بتحقيقنا.

ص: 106

فما ينفعهم ترك هذا المسكين للعنهم، والله يلعنهم في كتابه وجميع حملة القرآن عند قراءته.

وأما قوله: لو (1) جاز لعنه، فسكت، لم يكن عاصياً بالإجماع، فليس له أن يحتج بهذا على تحريم لعنه، لأن جواز الترك لا يستلزم تحريم الفعل، ولو كان ذلك كذلك، لم يوجد مباحٌ أبداً، ولو كان ذلك كذلك، لَحَرُمَ عليه التَّرحُّمُ والاستغفار والترضية على أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم ممن كفَّرته النواصب والروافض احتياطاً، لأن الترضية عليهم (2) لا تجب، ومن تركها، لم يكن عاصياً بالإجماع، ومن العجائب أنه قال: إن الترحم عليه مستحبٌّ عقيب هذا.

إن كان ما ذكرت (3) حجة، فهلَاّ دلَّ على تحريم الترحم عليه، فإن في جواز الترحم عليه خلافاً، ولو جاز وتركت، لم تأثم بالإجماع، فما بال هذه العلة العليلة (4) مقصورةٌ على ما وافق هواك، غير متعدية إلى من عداك؟!

وأما قوله: إن الترحم عليه مستحبٌّ، داخلٌ في قولنا في كل صلاة: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولأن يزيد كان مؤمناً، فذلك غير صحيحٍ لوجوه:

الوجه الأول: أن قوله إنه مؤمنٌ على الإطلاق مع ما ارتكب من العظائم واستهان به من المحارم، وأصرَّ عليه من فواحش (5) المآثم، خلاف كلامِ الفريقين من جماهير أهل السنة والشيعة والمعتزلة.

أما أهل السنة، فقد تقدم كلامهم، وقد نقله شارح البخاري العلامة الشهير بابن بطَّالٍ في شرح كتاب الإيمان من البخاري، متابعاً في ذلك لما قرره البخاري من ذلك، وبوَّب عليه واحتجَّ له، فإنه أكثر من الاحتجاج لذلك بالآيات

(1) في (ف): " فلو".

(2)

" عليهم " ساقطة من (ف).

(3)

في (ف): " ذكرته ".

(4)

في (ش): " القليلة " وهو خطأ.

(5)

في (ش): " الفواحش ".

ص: 107

والأخبار في تراجم الأبواب ومتون الأحاديث المسندة المتفق على صحتها، مثل قول البخاري في أول كتاب الإيمان (1): قول النبي صلى الله عليه وسلم: " بُنِي الإسلام على خمس "، وهو قولٌ وفعلٌ ويزيد وينقص، قال الله عز وجل:{ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} [الفتح: 4]، {وزدناهم هدى} [الكهف: 13]، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم} [محمد: 17]، {ويزداد الذين آمنوا إيماناً} [المدثر: 31]، وقوله:{فاخشوهم فزادهم إيماناً} [آل عمران: 173]، وقوله:{ما زادهم إلَاّ إيماناً وتسليماً} [الأحزاب: 22]، والحب في اللهِ والبغض الله من الإيمان (2)، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن عديٍّ: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً (3)

إلى قوله: باب (4) دعاؤكم إيمانكم، أظنه أشار إلى قوله تعالى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] وأورد فيه حديث ابن عمر: " بُني الإسلام على خمس "(5) ثم قال (6): باب أمور الإيمان وذكر قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] الآيات، وأورد فيه حديث أبي هريرة:" الإيمان بِضْعٌ وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان "(7) أورده من حديث عبد الله بن دينار عن أبي صالحٍ عن أبي

(1) باب رقم (1). انظر " الفتح " 1/ 45 - 46.

(2)

أخرج أحمد 3/ 438 و440، وأبو داود (4681) من حديث أبي أمامة مرفوعاً:" من أحب الله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان "، وفيه ضعف، وله شاهد من حديث معاذ بن أنس عند الترمذي (2523)، وعمرو بن الجموح عند أحمد 3/ 430، والبراء بن عازب عند أحمد 4/ 286، فالحديث حسن بطرقه وشواهده.

(3)

وصله ابن أبي شيبة في كتاب " الإيمان "(135)، وإسناده حسن.

(4)

لفظ " باب " سقط من (ش)، وانظر لزاماً " الفتح " 1/ 49.

(5)

رقم (8)، وانظر " ابن حبان "(158) و (1446).

(6)

1/ 50 باب رقم (3).

(7)

البخاري (9). وأخرجه أيضاً مسلم (35)، والنسائي 8/ 110، والترمذي (2614)، وابن ماجه (57)، وابن حبان (167) و (190) و (191).

ص: 108

هريرة، ورواه معه (1) الجماعة (2)، وفي رواية:" ستون "، وقال بعده: باب المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، وذكر بعده باب إطعام الطعام من الإيمان (3)، وبعده: باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وذكر فيه حديث أنسٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "(4)، ثم ذكر باب: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، ثم باب حلاوة (5) الإيمان (6)، وكذلك سائر أئمة الحديث في كتبهم يوردون مثل ذلك قاصدين بذلك الرد على المرجئة.

وقد جوَّد ابن بطال القول في ذلك في " شرح البخاري "، وطوَّل في نقل كلام أئمة أهل السنة في ذلك، وبيان أدلتهم فيه، وتقدم قول ابن بطَّال أن تسمية صاحب الكبائر مؤمناً وإن جاز لغةً، فهو ممنوع شرعاً (7)، واحتجاجه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم

إلى قوله أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، وقول القاضي أبي بكر بن العربي في كتابه " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي ": إن المؤمن من أمَّن نفسه من عذاب الله، والمسلم من أسلم نفسه، ويزيد أخاف نفسه، وما أمنها، وأوبقها وما أسلمها.

وقد تقدم بقية كلام أهل السنة، وهو موجودٌ في مواضعه، لا حاجة إلى التطويل بنقله، ولكن أُشير إلى مواضعه وهي دواوين الإسلام السنة وما في

(1) في (ش): " مع ".

(2)

غير أبي داود، فإنه لم يروه.

(3)

في " البخاري ": من الإسلام، وهي رواية الأصيلي.

(4)

تقدم تخريجه ص 97 من هذا الجزء.

(5)

تحرف في الأصول إلى: " علامة "، والمثبت من " البخاري ".

(6)

انظر " الفتح " 1/ 53 - 60.

(7)

" شرعاً " ساقطة من (ش).

ص: 109

معناها وشروحها، فقد أورد كل حافظٍ منهم ما في ذلك، وزاده بياناً كلُّ شارحٍ ولله الحمد.

وقد يوجد ما يخالف هذا في كلام علماء الكلام من الأشعرية في معارضة المعتزلة في إيجاب الخلود على سبيل القطع لكل مرتكب كبيرةٍ لم يَتُبْ منها، وإن ندرت وإن عظُمَت معها حسناته، وطالت في مكاسب الخيرات حياته، وتقع بينهم اللجاجات (1)، حتى يتوهم (2) بعض متكلمي الأشعرية أنها تستلزم أن يُسمّى الفاجر مؤمناً على الإطلاق، وليس ذلك بصحيحٍ على مقتضى الجمع بين الأحاديث وعدم الطرح لشيءٍ منها، وإنما يُسمى إذا لم يدلَّ دليلٌ سمعي (3) على بقائه مؤمناً أقل الإيمان، فهذان قيدان يقيِّدان إطلاق إيمانه على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

وأما الفريق الثاني -وهم الشيعة والمعتزلة وكثيرٌ من السلف-، فقد يَرَوْنَ أن السمع ورد بأن في الذنوب ما يدلُّ على النفاق، وسوء الاعتقاد، أو على خُلوِّ القلب من اعتقاد الإسلام والكفر وغلبة الغفلة عليه كما هي غالبةٌ على البهائم لامتلائه باشتغالٍ بالفسوق والشهوات العادية (4)، فقد تدل بعض الظواهر على بعض البواطن دلالة الدخان على النار، واللازم على الملزوم، ولهم على ذلك دلائل كثيرةٌ نذكر ما حضر منها:

الأول: قوله تعالى: {ولتعرفَنَّهُم في لحن القول} [محمد: 30] فهذه طريقٌ إلى معرفة المنافقين غير الوحي بما يجري على ألسنتهم مما ليس في مرتبة التصريح، لأن لحن القول في اللغة هو (5) مفهومه ومعناه كما ذكره أهلُ

(1) في (د) و (ش)" الواجبات "، وكتب فوق " الواجبات " في (ش) " اللجاجات " وفي (ف):" إلزامات ".

(2)

في (د) و (ف) يتوهم والمثبت من (ش).

(3)

في (ف): " شرعي ".

(4)

في (ش): " المعادية ".

(5)

"هو" ساقطة من (ش).

ص: 110

اللغة والتفسير، ويُقوِّيه من كتاب الله تعالى ما حكاه الله عنهم (1) في قصة يوسف عليه السلام، وقرَّرها في قوله. {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 27 - 28]، فدل على حسن الحكم بالقرينة الصحيحة الظاهرة على الأمور الباطنة الخفية.

الثاني: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم من أئمة الإسلام عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربعٌ من كُنَّ فيه، كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خَصْلَةٌ منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِنَ خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر " وفي رواية: " وإذا وَعَدَ أخلف " عِوض: " ائتمن خان "(2).

وروى البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آية المنافق ثلاثٌ " زاد مسلم: " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلمٌ "، ثم اتفقوا:" إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر " وفي رواية لهم الجميع مثله لكن الثالثة: " إذا ائتمن خان "(3)، وروى النسائي (4) من حديث ابن مسعودٍ (5) مثل الرواية الأولى.

(1)" عنهم " ساقطة من (د).

(2)

البخاري (34) و (2459) و (3178)، ومسلم (58)، وأبو داود (4688)، والترمذي (2632).

ورواه أيضاً أحمد 2/ 189 و198، والنسائي 8/ 116، وابن حبان (254) و (255)، وانظر تمام تخريجه فيه.

(3)

البخاري (33) و (2749) و (2682)، ومسلم (59)، والترمذي (2631)، والنسائي 8/ 117.

ورواه أيضاً أحمد 2/ 357 و397 و536، وابن حبان (257).

(4)

8/ 117، وإسناده صحيح.

(5)

في (ش): " عن ابن مسعود ".

ص: 111

وقال أحمد بن حنبل في " مسنده "(1): حدثنا يزيد -يعني ابن هارون- أخبرنا عبد الملك بن قدامة الجُمحي، عن إسحاق (2) بن أبي الفرات، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. " إن للمنافقين علاماتٍ يُعرفون بها: تحيتهم لعنةٌ، وطعامهم نُهبة (3)، وغنيمتهم (4) غلولٌ، ولا يقربون المساجد إلَاّ هجراً، ولا يأتون الصلاة إلَاّ دبراً مستكبرين، ولا يألفون ولا يؤلفون، خُشُبٌ بالليل صُخُبٌ بالنهار ".

ومن ذلك الحديث الوارد في صفة صلاة المنافق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تلك صلاة المنافقين يجلس [أحدهم] يرقب الشمس، حتَّى إذا كانت بين قرني الشيطان (5) قام، فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلَاّ قليلاً " رواه مسلم (6) من حديث أنس، ففي هذا مع قوله:" من أدرك ركعةً من العصر، فقد أدرك العصر " متفق عليه (7)، دلالة على أن المداومة على بعض الأفعال ونحو ذلك من الأمور

(1) 2/ 293، ورواه أيضاً البزار (85)، وإسناده ضعيف لضعف عبد الملك بن قدامة الجمحي، وجهالة إسحاق بن أبي الفرات. قال البزار: لا نعلمه يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلَاّ بهذا الإسناد، وإسحاق بن بكر لا نعلم حدث عنه إلَاّ عبد الملك. وقال الهيثمي في " المجمع " 1/ 102: رواه أحمد والبزار، وفيه عبد الملك بن قدامة الجمحي، وثقه يحيى بن معين وغيره، وضعفه الدارقطني وغيره.

(2)

في (ش): " ابن إسحاق "، وهو خطأ.

(3)

تحرفت في الأصول إلى " نهمة ".

(4)

في (ش) و (ف): " وغنمتهم "، وهو تحريف.

(5)

في (د) و (ف): " الشمس "، وهو خطأ.

(6)

رقم (622)، ورواه أحمد 3/ 149 و185، ومالك 1/ 221، وأبو داود (413)، والترمذي (160)، والنسائي 1/ 254، وانظر ابن حبان (259) - (263).

(7)

أخرجه من حديث أبي هريرة مالك 1/ 6، والشافعي 1/ 50، وأحمد 2/ 462، والبخاري (579)، ومسلم (608)، والترمذي (186)، والنسائي 1/ 257، وابن حبان (1484) و (1582) و (1585) و (1557).

ص: 112

الظاهرة قد يدلُّ على الأمور الباطنة، ولهذا قطع جماعةٌ من العلماء على تأثيمِ من داوم على ترك السُّنن الخفيفة السهلة.

الثالث: ما صح وثبت عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، فإنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي (1) الأُمِّيِّ أنه لا يُحِبّني إلَاّ مؤمن، ولا يبغضني إلَاّ منافق. رواه مسلم في " الصحيح "(2) في كتاب الإيمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، وأبي معاوية، وعن يحيى بن يحيى عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زِرٍّ بن (3) حُبيش عن علي عليه السلام.

ورواه الترمذي في المناقب من كتابه " الجامع "(4) عن عيسى بن عثمان ابن أخي يحيى بن عيسى الرملي، عن يحيى بن عيسى الرملي (5)، عن الأعمش نحوه: عهد إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحبك إلَاّ مؤمنٌ ولا يُبغضك إلَاّ منافق " وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ورواه النسائي في " المناقب "(6) عن أبي كريب، عن أبي معاوية بالسند المتقدم، وفي كتاب الإيمان عن واصل بن عبد الأعلى، عن وكيع به، وعن يوسف بن عيسى بن الفضل بن موسى عن الأعمش به. ورواه ابن ماجه (7) في السنة عن علي بن محمد، عن وكيع وأبي معاوية وعبد الله بن نمير عن الأعمش به (8).

ورواه إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل في " مسنده "(9) عن عبد

(1) في (د): " إلى النبي ".

(2)

برقم (78).

(3)

تحرف في (ش) إلى: " رزبن ".

(4)

برقم (3737).

(5)

قوله: " عن يحيى بن عيسى الرملي " سقط من (ف).

(6)

" فضائل الصحابة "(50).

(7)

" السنن " 8/ 117.

(8)

برقم (114).

(9)

من قوله: " رواه مسلم " إلى هنا نقله من " تحفة الأشراف " 7/ 372 - 373.

ص: 113

الله بن نمير ثلاثتهم عن الأعمش، به (1)، وهو الحديثُ السادسُ والستون من مسند علي عليه السلام من " جامع " المسانيد لابن الجوزي، وهذا إسنادٌ صحيح على شرط أئمة الحديث وأئمة الإسلام كلهم خرَّجوا حديث رواته لو لم يرد (2) سواه، كيف وله شواهد، فقد روى الترمذي (3) وغيره عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا يحب علياً منافقٌ ولا يبغضه مؤمنٌ ". رواه جماعة من حُفَّاظ الحديث، وأئمة السنة منهم الزبيري (4) في " المناقب " عن واصل بن عبد الأعلى، ومنهم عبدُ الله بن أحمد بن حنبل في " زوائد المسند "(5)، ومنهم البغوي (6) في " كتابه "، ومنهم ابن عدي في كتاب " الكامل "(7)، ومنهم الذهبي في كتاب " الميزان "(8) ثلاثتهم عن أحمد بن عمران عن البغوي وابن عدي والذهبي ثلاثتهم عن محمد بن فُضيل -أعني أحمد بن عمران-، وعثمان بن أبي شيبة، وواصل بن عبد الأعلى، ورواه محمد بن فضيل، عن أبي نصر عبد الله بن عبد الرحمن بن نصر الأنصاري، عن مُساورٍ الحميري، عن أمه، عن أم سلمة رضي الله عنها.

وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه.

قلت: ورواته ثقات لم يذكر في كتب الجرح أحد منهم إلَاّ ابن فضيل وشيخه بما لا يقدح، أما ابن فضيل، فذكر فيه التشيع لا سوى، وقال الذهبي (9): هو صدوق صاحب حديث ومعرفة.

(1) هو في " المسند " 1/ 84، وقد تقدم تخريجه 1/ 370.

(2)

في (ف): " يكن ".

(3)

برقم (3717)، وانظر التعليق رقم (6).

(4)

تحرف في الأصول إلى: " الزبيدي ".

(5)

6/ 292، وهو من رواية الإمام أحمد نفسه، لا من زيادات ابنه عبد الله.

(6)

هو أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، تقدمت ترجمته 1/ 356.

(7)

4/ 1541.

(8)

2/ 453 - 454.

(9)

في " الميزان " 4/ 9.

ص: 114

قلت: وهو من شيوخ أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثالهما، وهما شيخا أهل السنة.

وقد تكلم الذهبي في قبول الشيعة في ترجمة أبان بن تغلب في أوائل " الميزان " بما لا مزيد عليه، وحسبك أن حديث ثقاتهم في " الصحيحين " المجمع عليهما عند أهل السنة، وحسبك أن يحيى بن معينٍ وأبا عبيد رويا التشيع عن الإمام الشافعي، ذكره الذهبي في ترجمة الشافعي من " النبلاء "(1).

وقال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب في " الميزان "(2) ما لفظه: فلقائلٍ أن يقول: كيف ساغ [توثيق] مبتدعٍ وحدُّ الثقة العدالة والإتقان؟

وجوابه: أن البدعة على ضربين (3) فبدعةٌ صغرى كغلوِّ التشيع، أو كالتشيع بلا غلوٍّ ولا تحرُّفٍ (4)، فهذا كثير في (5) التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق فلو ذهب (6) حديث هؤلاء، لذهب جملةٌ من الآثار النبوية، وهذه مفسدةٌ بيِّنةٌ.

ثم ذكر الغلاة وتفسيرهم (7). فهذا الكلام انسحب علي من الكلام على

(1) 10/ 58 وفيه: قيل لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، كان يحيى وأبو عبيد لا يرضيانه -يشير إلى التشيع-، وأنهما نسباه إلى ذلك، فقال أحمد بن حنبل: ما ندري ما يقولان، والله ما رأينا إلَاّ خيراً، وزاد البيهقي في " مناقب الشافعي " 2/ 259: ثم قال أحمد لمن حوله: اعلموا رحمكم الله تعالى أن الرجل من أهل العلم، إذا منحه الله شيئاً من العلم، وحُرِمَه قرناؤه وأشكاله، حسدوه، فَرَمَوْهُ بما ليس فيه وبئست الخصلة في أهل العلم.

وقال الذهبي بعد إيراده الخبر: من زعم أن الشافعي يتشيع، فهو مفترٍ، لا يدري ما يقول.

(2)

1/ 5.

(3)

في (ش): " صورتين ".

(4)

في (ش): " يعرف "، وهو تحريف.

(5)

في (ش): " من ".

(6)

في " الميزان ": " فلو رُدَّ ".

(7)

ونصه: ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر =

ص: 115

توثيق محمد بن فُضيلٍ وأما شيخه، فغلط عليه ابن عديٍّ، فقال (1): إنه سمع أنساً، وقال البخاري (2): فيه نظر، وقال الذهبي (3): بل الذي سمع أنساً هو آخر، تقدم (4)، وهذا وثقه أحمد، وقال: أبو حاتم (5) صالح، فصح هذا الحديث.

ولهما شاهدٌ ثالث رواه الحاكم في " المستدرك "(6) في مناقب علي عليه السلام، فقال: حدثنا أبو جعفر بن عبيد (7) الحافظ بهمذان، حدثنا الحسن بن علي الفسوي، حدثنا إسحاق بن بشرٍ الكاهلي، حدثنا شريكٌ، عن قيس بنِ مسلمٍ، عن أبي عبد الله الجدلي، عن أبي ذر، قال: ما كان يُعرف المنافقون إلا بتكذيبهم الله ورسوله، والتخلُّف عن الصلاة، والبُغض لعلي بن أبي طالبٍ عليه السلام. وهذا حديث صحيح على شرط مسلم.

= رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج لهم ولا كرامة.

وأيضاً فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله حاشا وكلا.

فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم: هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه، وتعرض لِسَبِّهم.

والغالي في زماننا وعُرْفِنَا: هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضال معثر، ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلاً، بل قد يعتقد علياً أفضل منهما.

(1)

" الكامل " 4/ 1541، وهذه العبارة من قول البخاري.

(2)

" التاريخ الكبير " 5/ 137.

(3)

في " الميزان " 2/ 453.

(4)

وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أسيد الأزدي. انظر " الميزان " 2/ 452. أما عبد الله بن عبد الرحمن أبو نصر الأنصاري، فقد ترجمه البخاري 5/ 135 - 136، ولم يحك فيه شيئاً.

(5)

في " الجرح والتعديل " 5/ 96، وانظر " تهذيب الكمال " 15/ 231.

(6)

3/ 129، وصححه على شرط مسلم، فتعقبه الذهبي بقوله: بل إسحاق متهم بالكذب.

(7)

تحرف في (ش) إلى: " عبد الحق ".

ص: 116

وله شاهدٌ رابعٌ رواه الترمذي (1) في " المناقب "، عن قتيبة بن سعيد، عن جعفر (2) بن سليمان، عن عمارة بن جُويز، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: إن كنا معاشر الأنصار لنعرف المنافقين ببغضهم علي بن أبي طالب (3) عليه السلام، وقال الترمذي: غريب.

ومن الدليل على صدق المحدثين وإنصافهم وتحريهم للصواب أنهم كذَّّبُوا من روى هذه الفضيلة لأبي بكرٍ وعمر، كما أوضحه الذهبي في " الميزان " في ترجمة معلى بن هلال (4) وترجمة عبد الرحمن بن مالك بن مغول (5). وأجمعتِ الأمة المعصومة على تلقِّي هذه الأحاديث بالقبول، وبها يخطب خطباء أهلِ السنة في الحرمين الشريفين، وعلى رؤوس المنابر في الجُمَعِ والأعياد والمشاهد عند ذكر (6) مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من غير مناكرة، ولا يوجد في تقريرات أهل الإسلام في إجماعاتهم أوضح من هذا، وبذلك دانت العترة الطاهرة.

وليس في عدم تخريج البخاري له شبهةٌ في صحته، لأنه قد روى عن جميع رُواته، ولكنه قد يلتزم ما لا يلزم من الشروط العزيزة، فلا يتم له في بعض الأحاديث الشهيرة فيتركها، ولذلك لم يخرِّج حديثاً في كيفية الأذان أصلاً، ولا في كيفية صلاة العيد، فيقال: إنه شك في الأذان، أو في صلاة العيد، على أنها قد عرفت علته في هذا الحديث، وذلك أن عدي بن ثابتٍ شيخ الأعمش

(1) برقم (3717)، ورواه أيضاً ابن عدي في " الكامل " 5/ 1734، وإسناده ضعيف جداً. أبو هارون العبدي متروك الحديث متهم بالكذب، قال ابن حبان في " المجروحين " 2/ 177: كان رافضياً، يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه، لا يحل كتابة حديثه إلَاّ على جهة التعجب.

(2)

في (ف): " وجعفر "، وهو خطأ.

(3)

في (ش): " لعلي ".

(4)

4/ 152 - 153.

(5)

2/ 584.

(6)

" ذكر " ساقطة من (ش).

ص: 117

فيه من (1) مشاهير رجال الشيعة، مع الاتفاق على ثقته وأمانته عند أئمة أهلِ السنة، دع عنك غيرهم، والفضل ما شهدت به الأعداء. قال الحافظ ابن حجرٍ في مقدمة " شرح البخاري " (2): وثقه أحمد بن حنبل والعجلي والدارقطني والنسائي، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن حجر في " شرح نخبة الفكر " في علوم الحديث: قال الذهبي -وهو من أهل التَّتبُّع التَّام-: ما اتفق حافظان من أئمة هذا الشأن على توثيق أو تجريح إلَاّ كان كذلك أو كما قال، ثم قال ابن حجر في " مقدمة الشرح " المذكور: احتج به الجماعة، وما أخرج له البخاريُّ في " الصحيح " شيئاً مما يقوي مذهبه أو نحو هذا.

قلت: قد خرَّج البخاري حديث جماعةٍ من كبار الشيعة في الأصول من غير متابعة.

منهم مالك بن إسماعيل: أبو غسان النهدي، قال ابن حجر (3): كان من كبار شيوخ البخاري، مجمعٌ على ثقته، ذكره ابن عدي في " الكامل " من أجل قول (4) الجوزجاني: إنه كان حسنِيّاً، يعني شيعياً، وقد احتج به الأئمة. انتهى بحروفه.

ومنهم: إسماعيلُ بن أبان الورَّاق الكوفي، من شيوخ البخاري (5)، وثَّقوه إلَاّ الجوزجاني، فقد كان مائلاً عن الحق، قال ابن عدي: يعني ما عليه الكوفيون من التشيع.

قال ابن حجر: الجوزجاني كان ناصبياً منحرفاً عن علي، فهو ضد الشيعي

(1)" من " ساقطة من (ش).

(2)

ص 424.

(3)

في " مقدمة الفتح " ص 442.

(4)

تحرفت في الأصول إلى: " من أحد قولي ".

(5)

انظر " مقدمة الفتح " ص 390.

ص: 118

المنحرف عن عثمان، والصواب موالاتهما جميعاًً، وينبغي أن لا يسمع قول (1) مبتدعٍ في مبتدع، وأما كلام الدارقطني، فقد اختلف، ولعلَّه اشتبه عليه بشيخ لهم متروكٍ يُسَمَّى إسماعيل بن أبان الغنوي.

وأسيد بن زيدٍ شديد التشيع، ضعيف، وقال النسائي: متروك، ولم يوثق قط، وهو من شيوخه لكن في حديثٍ واحدٍ متابعة، ذكره ابن حجر (2).

وبهز بن أسد في رواية الذهبي (3)، وجرير بن عبد الحميد ابن قرط الضَّبِّي الرازي (4)، أجمعوا على ثقته، وخرَّج عنه الجماعة، ونسبه قتيبة (5) إلى شيءٍ من التَّشيُّع المفرط.

قال ابن حجر (6): وخالد بن مخلد القَطَواني من كبار شيوخ البخاري، وثَّقوه وكان متشيعاً مفرطاً. قاله (7) ابن حجر، وقال: إذا كان الراوي ثبت الأخذ والأداء، لا يضرُّهُ التَّشيُّعُ.

وسعيد بن عمرو (8) بن أشوع الكوفي، وسعيد بن فيروز أبو (9) البختري

(1) في (ف): " كلام ".

(2)

في " مقدمة الفتح " ص 391.

(3)

قال الحافظ في " مقدمة الفتح " ص 393 بعد أن نقل توثيق الأئمة له: وشذ الأزدي، فذكره في " الضعفاء "، وقال إنه كان يتحامل على عثمان (في مقدمة الفتح: على علي). قلت (القائل ابن حجر): اعتمده الأئمة، ولا يعتمد على الأزدي. وقال الذهبي في " الميزان " 1/ 353 بعد أن نقل قول الأزدي: كذا قال، والعهدة عليه، فما علمت في بهز مغمزاً.

(4)

انظر " مقدمة الفتح " ص 395.

(5)

في (ش): " ابن قتيبة "، وهو خطأ.

(6)

المصدر السابق ص 400.

(7)

في (د) و (ش): " قال "، وهو قول ابن سعد نقله عنه ابن حجر.

(8)

تحرف في الأصول إلى: " عمر ".

(9)

في الأصول: "وأبو"، وهو خطأ.

ص: 119

الطائي، وأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي المكي شيعي (1) مختلفٌ في صُحبته، وعبَّاد بن العوَّام الواسطي، وعباد بن يعقوب الرَّواجنيُّ رافضي داعية، كان يشتمُ عثمان، روى عنه البخاري حديثاً مع جماعةٍ تابعوه، وعبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الأنصاري، وعبد الرحمن بن أبي الموالي المدني، ولم يذكره ابن حجر بتشيعٍ، وهو مشهورٌ، ذكره الذهبي في " الميزان "(2).

وخرج البخاري حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي (3)، شيعي قدري، وكذلك سائر الجماعة.

وخرج البخاري من حديثه ما يدلُّ على مذهبه مما تفرد به، وزاده على جرير بن حازم عن شيخهما، وهو ذكر أولاد المشركين بالنصوصية في حديث سمرة في الرؤيا النبوية (4) فإنهما روياه عن أبي رجاء العُطاردي، عن سَمُرَةَ.

وكذلك أخرج عنه حديث الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً (5)، وهي زيادة على جرير في هذا الحديث، فبان بهذا (6) أن البخاري إنما توهَّم أن مدلول الحديث مما يختصُّ مذاهب (7) الشيعة دون أهل السنة، فتركه لذلك، وليس كما توهم، والدليل على أنه ليس كذلك أن البخاري قد خرَّج مثل هذه الفضيلة للأنصار من حديث البراء بن عازب الأنصاري، ومن حديث أنس بن مالكٍ الأنصاري (8) ولا شك في تفضيل علي بن أبي طالب عليه السلام عند أهل

(1)" شيعي " ساقطة من (ف).

(2)

2/ 592 - 594.

(3)

تحرف في الأصول إلى. " الأغر ".

(4)

رقم (7047)، وانظر (845) و (143) و (1386) و (2085) و (2791) و (3236) و (3354) و (4674) و (6096).

(5)

انظر التعليق السابق.

(6)

في (ش): " هذا ".

(7)

في (ف): " بمذهب ".

(8)

سيأتي تخريجهما 123.

ص: 120

السنة على جميع الأنصار، بل وعلى قريشٍ في أيام خلافته، وإنما وقع النزاع من البعض في إطلاق تفضيله على الجميع قبل (1) أيام خلافته من أجلِ تفضيل الإمام على المأموم على ما يعتقدونه في ذلك، ولا شكَّ في الإجماع على تفضيله على جميع قريش والأنصار كما ذكره الذهبي في ترجمة عبد الرزاق بن همام من " الميزان "(2)، فإذا صحت هذه الفضيلة للأنصار -وهم في الفضل دونه بالاتفاق- كان بها أولى، ولو اعتبرنا في الرواية ما يعتبر في دعاوي الأحوال الدنيوية من عدم قبول الثِّقات ولم ننقل المناقب عن الفريقين، لبطلت عامة المناقب.

فليحرِص (3) على حفظ المناقب أهلها وأهل المحبة الكبيرة لأهلها، ولذلك لم يرو البخاري هذه المنقبة للأنصار إلَاّ من طريق البراء وأنس، وهما أنصاريان، وقد خرَّج البخاري (4) في مناقب أبي بكر عن أحمد بن أبي الطيب، عن إسماعيل بن مُجالدٍ، وفيهما ضعفٌ، وعن سلمة بن رجاءٍ في مناقب حُذيفة (5).

وتعمُّدُ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفحش الكبائر. وإذا كان الكذب في الحديث مطلقاً مِنْ علامات النِّفاق، فكيف الكذب فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وتهمة الفريقين (6) المشهورين بالثِّقة والورع عند الجميع مما لا يُلتفتُ إليه، كما

(1) في (ف): " في ".

(2)

2/ 612.

(3)

في (ف): " فإنما يحرص ".

(4)

رقم (3660)، وهو من حديث عمار، وفيه: قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وأمرأتان وأبو بكر.

ورواه البخاري (3857) من طريق يحيى بن معين عن إسماعيل بن مجالد.

قال الحافظ في " مقدمة الفتح " ص 386 في ترجمة أحمد بن أبي الطيب: روى له البخاري في فضل أبي بكر عنه عن إسماعيل بن مجالد حديث عمار، وقد أخرجه في موضع آخر من رواية يحيى بن معين، عن إسماعيل، فتبين أنه عند البخاري غير محتج به.

(5)

برقم (3724).

(6)

في (ف): " أئمة الفريقين ".

ص: 121

ذكره الذهبي وابن حجر في ترجمة زيد بن وهبٍ التابعي الجليل (1)، ولا مرتبة في العدالة أعظم ولا أرفع أن يكون الموثِّقون للرجل أئمة خصومه.

على أن المعنى العقلي والتجارب المستمرة قاضيةٌ بصحة هذه الأحاديث، وذلك أن من آمن بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وباشر الإيمان قلبه، أحبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الطبيعة والشريعة.

أما الطبيعة، فلما جُبلت عليه القلوب من حبِّ من أحسن إليها، ولا إحسان من المخلوقين أعظم من إحسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لعظم نفعه (2) وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإنقاذهم من الكفر ومن النار، وإكمال شفقته عليهم حتى صحَّ أنها وُهِبَتْ له دعوة مستجابة كما وهبت لكل نبي، فاختبأ دعوته لهم، وآثرهم على نفسه النفيسة ولو نتعرَّض لاستيفاء ما ورد في هذا، لخرجنا عن المقصود.

وأما الشريعة، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام:" أنه لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه ومن الناس أجمعين "(3). فإذا ثبت أن الإيمان يستلزم غاية (4) الحب للرسول قطعاً، عقلاً، وشرعاً، فكذلك حُبُّه يستلزم حُبَّ من يحبُّه الرسول وحبَّ ناصريه الذين عُلِمَ بالضرورة حبهم له وحبُّه لهم، وبذلهم أرواحهم على الدوام في مرضاته ووقايته، فكما أن الضرورة تقتضي أن الرسول يحبهم لذلك، وكذلك الضرورة تقتضي أن من يُحِبُّ الرسول يحبُّهم لذلك بقوَّة الداعية الطبيعية البشرية والدينية البشرية الفطرية، ولذلك قيل: أصدقاؤك ثلاثةٌ: صديقك، وصديق صديقك، وعدوُّ عدوِّك. وأعداؤك ثلاثة: عدوُّك، وعدوُّ صديقك وصديق عدوِّك، وأنشدوا في هذا المعنى:

(1) انظر " الميزان " 2/ 107، و" التهذيب " 3/ 426 - 427، و" الإصابة " 1/ 567.

(2)

في (ف): " نفعه لهم ".

(3)

تقدم تخريجه ص 97 من هذا الجزء.

(4)

" غاية " ساقطة من (ف).

ص: 122

لعينٍ تُفَدَّى ألفُ عينٍ وتُتَّقى

وتُكْرَمُ ألفٌ للحبيب المكرَّمِ

ومن أحسن ما رُوي في هذا المعنى (1) بعضهم:

رأى المجنون كلباً ذات يومٍ

فمدَّ له من الإحسانِ ذيْلا

فلامُوه عليه وعنَّفوهُ

وقالوا: لِمْ أنلت الكلبَ نيلا

فقال لهم: دعُوني إنَّ عيني

رأتْهُ مرةً في باب ليلى

{والذين آمنوا أشد حُبَّاً لله} [البقرة: 165] ولذلك شاركته الأنصار عليه السلام في هذه الفضيلة لما شاركته في علتها، وهو الدليلُ الرابع، وذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب وأنس:" أنه لا يحب الأنصار إلا مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلَاّ منافقٌ "(2) وفي حديث أنس أن: " آية الإيمان حبُّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار "(3). وروى الترمذي من حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم: " لا يُبغض الأنصار أحد يؤمن بالله واليوم الآخر "(4) وروي مثله من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً (5).

ومن الدلائل على صحة هذه الفضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام، وللأنصار رضي الله عنهم أن من أبغضه أبغضهم، ومن أبغضهم أبغضه، لأنهم كانوا من أنصاره عليه السلام في أيام خلافته وأعوانه.

(1)" المعنى " ساقطة من (د) و (ف).

(2)

أخرجه أحمد في " المسند " 4/ 283 و292، وفي " فضائل الصحابة "(1455)، والبخاري (3783)، ومسلم (75)، والترمذي (3896)، وابن ماجه (163)، وابن منده في " الإيمان "(534) و (535).

(3)

رواه الترمذي (3906)، وقال: حسن صحيح.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 163 - 164، والطيالسي (2182)، وأحمد 3/ 34 و45 و72 و93، ومسلم (77)، وأبو يعلى (1007)، وابن حبان (72741).

(5)

رواه مسلم (76)، وابن منده في " الإيمان "(538) و (539).

ص: 123

الخامس: أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس صلاة أثقل (1) على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما، لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممتُ أن آمر المؤذن يقيم، ثم آمر رجلاً يُؤمُّ الناس، ثم آخذ شُعلاً من نار فأحرِّق على من لا يخرج إلى الصلاة " رواه البخاري (2) في فضل صلاة العشاء في الجماعة من حديث عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة انفرد به البخاري من هذه الطريق، وقد رواه الجماعة من غير هذه الطريق كلهم (3). ذكره ابن الأثير في " جامع الأصول "(4) وجعل مالكاً عوض ابن ماجه، ورواه البخاري في وجوب الجماعة وفي الأحكام، والنسائي في الصلاة من ثلاث طرق عن مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة وليس في أوله ذكر أثقل الصلاة على المنافقين (5).

ووجه الحجة فيه أن ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم عزم على تنجيز العقوبة بما ظهر له من قرينة استمرارهم على ما هو أمارة النِّفاق، ولم يظهر أنه استند في ذلك إلى وحيٍ خاص، لأنه رتَّب العقوبة على ذلك، وهذا أقوى أدلة هذه الطائفة لما فيها من الهمِّ بإيقاع العقوبة على ذلك وتنفيذ الحكم.

السادس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالملاعنة (6) بالكذب لقرينة، فقال: "إن جاءت به أسود أعين ذا أليتين، فما أراه إلَاّ صدق عليها، وإن جاءت به أحمرَ

(1) في (ف): " أبغض ".

(2)

برقم (657).

(3)

رواه البخاري (2420)، ومسلم (651)، وأبو داود (549)، والترمذي (217)، والنسائي 2/ 107، وأحمد 2/ 244 و314 و319 و367، وابن حبان (2097) و (2098)، وانظر تمام تخريجه فيه.

(4)

5/ 566.

(5)

البخاري (644) و (7224)، والنسائي 2/ 107، وهو في " الموطأ " 1/ 129، وانظر " ابن حبان "(2096).

(6)

في (ف): " على الملاعنة ".

ص: 124

قصيراً كأنه وَحَرَةٌ، فما أراها إلَاّ صدقت" فجاءت به على المكروه من ذلك. رواه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعدٍ الساعدي الأنصاري (1)، فقال صلى الله عليه وسلم: " لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن " (2) واحتج من العلماء من قال: إن الحاكم يحكم بعلمه، وعلمه هنا بالأمر الباطن لم يستند هنا إلَاّ بالقرائن (3).

السابع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى مثل ذلك عمن تقدم من الأنبياء عليهم السلام، مثل ما ورد من حديث المرأتين المتنازعتين في الصبي:" وإن داود عليه السلام قضى به (4) للكبرى، فتخاصمتا إلى النبي سليمان، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أقسِمُه بينهما نصفين، فرضيت الكبرى بذلك، فقالت الصغرى: لا تفعل رحمك الله، هو لها "، فحكم به للصغرى لما ظهر من شفقتها عليه. رواه

(5).

الثامن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم على رجل من الأنصار أنه مُضَارٌّ في قصة عِذْقِ النخلة الذي امتنع من بيعه من جاره بما يزيدُ عليه في المنفعة، ولا يرغبُ

(1) أخرجه البخاري (4745) من حديث مطول، وأخرجه مسلم (1493)، وليس فيه هذه القطعة، وانظر ابن حبان (4284) و (4285).

والوحرة: دويية شبه الوزغة تلزق بالأرض، جمعها: وحر، ومنه وحر الصدر، وهو الحقد والغيظ، سمي به لتشبثه بالقلب، ويقال: فلان وحر الصدر: إذا دبت العداوة في قلبه كدبيب الوَحَرِ.

(2)

أخرجه من حديث ابن عباس البخاري (4747)، والترمذي (3179)، وأبو داود (2254) و (2256). وأخرجه من حديث أنس النسائي 6/ 171.

(3)

في (ف): " إلى القرائن ".

(4)

" به " ساقطة من (ش).

(5)

بياض في (د) و (ف)، وفي (ش):" رواه الحاكم "، وهو خطأ، إنما رواه أحمد 2/ 322 و340، والبخاري (3427) و (6769)، ومسلم (1720)، والنسائي 8/ 234 - 235 و236، وابن حبان (5066) من حديث أبي هريرة.

ص: 125

في مثله في العادة. رواه أبو داود (1) من حديث سمُرة.

وحكم عمر بن الخطاب بنحو ذلك على محمد بن مسلمة مع صلاحه.

رواه مالك في " الموطأ "(2) وللحكام (3) أمثالُ ذلك.

التاسع: أن بعض الصحابة قد كان يحكم ويجزم بالقرينة الصحيحة الظاهرة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان جابر بن عبد الله يحلف على ابن صيادٍ أنه الدَّجَّال (4)، بل قال أُسيد بن حُضير، لسعد بن عبادة: إنك منافقٌ تُجادل عن المنافقين. رواه البخاري ومسلم في حديث الإفك (5).

وقال عمر لحاطبٍ مثل ذلك، ورد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونه من أهل بدرٍ (6).

وحكم الشيعي المحترق غضباً لله ورسوله حكم هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إن صح أنه أخطأ.

وقد تركتُ ما يختص الشيعة بروايته مما لم أعرف له إسناداً، مثل ما يروى عن يزيد من قوله:

ليت أشياخي ببدرٍ شَهِدُوا

جزعَ الخزرجِ مِنْ وقع الأسل (7)

(1) برقم (3636)، ورواه البيهقي 6/ 157، وإسناده منقطع، فإن أبا جعفر محمد بن علي الباقر لم يسمع من سمرة.

(2)

2/ 746، ومن طريقه رواه الشافعي 2/ 134 - 135، والبيهقي 6/ 157، وقال: مرسل.

(3)

في (ف): " للحاكم " وهو خطأ.

(4)

أخرجه البخاري (7355)، ومسلم (2929)، وأبو داود (4331).

(5)

البخاري (4750)، ومسلم (2770)، وانظر ابن حبان (4212).

(6)

أخرجه أحمد 1/ 105، والبخاري (3081) و (3983) و (6259) و (6939)، ومسلم (2494)، وابن حبان (6499) و (7119).

(7)

البيت لعبد الله بن الزبعرى قاله يوم أحد من قصيدة مطلعها: =

ص: 126

العاشر: ما رواه البخاري: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها، فما بقي أحدٌ من القوم (1) إلَاّ سجد، فأخذ رجل من القوم كفاً من حصىً أو تراب، فرفعه إلى وجهه، وقال: يكفيني، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد (2) قتل كافراً (3).

وقد روى البخاري (4) رحمه الله عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر: إن السجود غير واجب، وأقرته الصحابة، وإلى ذلك ذهب الجمهور، فدل ذلك على أن المكروهات والذنوب قد تقع على وجهٍ ينتهي إلى كفر، نعوذ بالله من ذلك.

الحادي عشر: النظرُ العقليُّ، وذلك أن أهل المعقولات أجمعوا على (5) أن القرائن الضرورية قد يحصل بسببها (6) علمٌ ضروريٌّ لا يندفع عن النفس بالشك، ولعلَّ العمل به يتوقف على السمع، وقد يمنع السمع من العمل ببعض العلوم، كما يقول من قال: إن الحاكم لا يحكم بعلمه، وذلك مثل ما يعلم صدق من يشكو بعض الآلام بما يظهر عليه من لوازم ذلك، بل قد يعلم صدق الجائع في شكوى الجوع بذلك. وكذلك يعلم صدق الصغير في كثير مما

= يا غراب البين أسمعتَ فَقُلْ

إنما تَنْطِقُ شيئاً قد فُعِلْ

وأجابه حسان بن ثابت بقصيدة مطلعها:

ذَهَبَتْ بابنِ الزِّبعرى وقعةٌ

كان منا الفَضْلُ فيها لو عَدَلْ

انظر " سيرة ابن هشام " 3/ 143 - 145، و" العقد الفريد " 5/ 131، و" شرح شواهد المغني " 4/ 254، و" الكامل " 3/ 1372، و" ديوان حسان " ص 358.

(1)

" من القوم " ساقطة من (ف).

(2)

" بعد " ساقطة من (ش).

(3)

البخاري (1070)، ورواه أيضاً (1067) و (3853) و (3972) و (4863)، ومسلم (576)، وأحمد 1/ 401 و437 و462، وأبو داود (1406)، وابن حبان (2764)، وانظر تمام تخريجه فيه.

(4)

برقم (1077).

(5)

" على " ساقطة من (ش).

(6)

" يحصل بسببها " بياض في (ش).

ص: 127

يشكوه من الأمور (1) الباطنة، كما يعلم من البهائم والعجم الباطن في بعض الأحوال من غير شكوى.

وعندي: أنَّا نعلم بهذه الطريقة صحة إيمان كثير من الصحابة والتابعين والصالحين، فإنا على يقين من نفي النفاق عنهم علماً ضرورياً، غير قبولِ الظَّاهر، والحمل على السَّلامة المصحوب بالشك عند التشكيك والإصغاء إليه، فإنا نجد قلوبنا جازمة بنفي النفاق عنهم من الإصغاء إلى جانب الشك غاية الإصغاء، وهذا هو الميزان الذي تعرف به العلوم اليقينية من الظنون الغالبة.

قالت هذه الطائفة: فكذلك يعلم النِّفاق بالقرائن الضرورية، وذلك مقتضى مذهب المالكية من أهل السنة، فإنهم يستحلون القتل على ما يدلُّ على الاستهانة بالإسلام، ولو كانت دلالةً بعيدةً، كقتل من سبَّ (2) صحابياً، أو أحداً من أئمة الإسلام، أو أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال القاضي عياض في آخر كتابه " الشِّفا "(3) ما يقتضي ذلك، وحكى أن مشهور مذهب مالكٍ في ذلك الاجتهاد والأدب المُوجِعُ.

قال مالك رحمه الله (4): من شتم النبي صلى الله عليه وسلم، قُتِلَ، ومن شتم أصحابه أُدِّبَ، وقال أيضاً: من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قال: كانوا على ضلالٍ وكفرٍ، قُتِلََ، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس، نُكِّل نكالاً شديداً.

ونقل صاحب " العقائد " اختلاف السلف في كُفر الحجاج بن يوسف الثقفي لمثل ذلك، ولكن لم يحضرني.

(1) في (ش): " وكذلك صدق من يشكو الأمور ".

(2)

في (ف): " كمن سبَّ ".

(3)

2/ 214 وما بعدها.

(4)

انظر " الشفا " 2/ 223.

ص: 128

وفي " الترمذي "(1) عن هشام بن حسان أنه أُحصِيَ من قُتِلَ صبراً، فوجدوه مئة ألفٍ وعشرين (2) ألفاً، فمن تهاون بشعائر الإسلام، وحُرُماتِه الكبار، وأصرَّ على ذلك من غير ضرورةٍ دلَّ على ذلك، كما فعل يزيد في الاستهانة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أدخله الدواب، وبالت فيه وراثت في روضته الشريفة، وانقطعت فيه الصلاة أياماً، كما رواه العلامة أبو محمد بن حزم الموصوم بالعصبية لبني أمية، وطلب البيعة على أنهم عبيدٌ له مماليكُ أرقَّاء، وذكر رجلٌ البيعة على كتاب الله، فأمر بضرب رقبته، فضربت رقبته بأمره، وأمر بقتل من لا ضروره إلى قتله ولا حاجة له فيه من بقية الصحابة من المهاجرين والأنصار في يوم الحرَّة، حتى ما سلم منهم إلَاّ سعيد بن المسيب، وجدوه في المسجد لم يخرج منه، فَشَهِدَ له مروان وغيره أنه مجنونٌ، فَسَلِمَ بسبب شهادتهما، ذكر ذلك كله ابن حزم.

قال ابن حزم (3): واستُخِفَّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُدَّت إليهم الأيدي -يعني قبل (4) ذلك-.

وفي " صحيح البخاري "(5) عن سعيد بن المسيِّب، قال: وقعت الفتنة الأولى -يعني مقتل عثمان- فلم يبق من أصحاب بدرٍ أحدٌ، ثم وقعت الفتنة الثانية -يعني الحرَّة- فلم يبق من أصحاب الحديبية أحدٌ.

وفيها أستؤصل بقية المهاجرين والأنصار الذين لا يحبُّهم إلَاّ مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلَاّ منافق، وهذا هو الذي افتتح به دولته، ثم اختتمها بقتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين بن علي عليه السلام وجميع أهله وأصحابه كما مضى

(1) رقم (2220)، ورجاله ثقات.

(2)

في (ف): " وعشرون "، وهو خطأ.

(3)

في " جوامع السيرة " ص 357، وقد تقدم في الصفحة 38 من هذا الجزء.

(4)

كتب فوقها في (ش): " بعد ".

(5)

في المغازي: باب شهود الملائكة بدراً، تعليقاً عقب الحديث رقم (4024)، ووصله أبو نعيم في " المستخرج " كما في " الفتح " 7/ 325، و" تغليق التعليق " 4/ 105.

ص: 129

ذكره، وما سَلِمَ منهم إلَاّ علي بن الحسين لِصِغَرِهِ ومرضه، بل لمَّا قدره الله مِنْ أجله وخُروج الذرية الطاهرة من نسله، وكان قبل ذلك وفي خلاله مدمن خمرٍ متهتكاً (1) مجاهراً بذلك، وبذلك أوصى أصحابه، حيث قال في شعره المشهور:

أقول لصحبٍ ضمَّتِ الكأس شملهم

وداعي صبابات الهوى يترنَّمُ

خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ

فكلٌّ وإن طال المدى يتصرَّمُ

وقد كان مجاهراً بذلك متمتعاً به، وفي " صحيح البخاري ":" كلُّ أمتي معافى إلَاّ المجاهرين "(2). وروى أحمد بن حنبل في " مسنده "(3) من حديث ابن عباس: " مدمن الخمر إن مات، لقي الله كعابد وثنٍ ". ورواه العلامة ابن تيمية في " المنتقى "، لكن رواه ابن حبان (4) بزيادة، فقال: عن ابن عباسٍ مرفوعاً: " من لقي الله مدمن خمرٍ مستحلاًّ لشربه لقيه كعابد وثن ". فهذه الزيادة تدلُّ على تأويله إن صحت وسلمت من الإعلال، فينظر من زادها وعلى من زيدت ذكرها صاحب " أحكام أحاديث الإلمام " في كتاب الأشربة.

وروى النسائي (5) عن عثمان بن عفان أنه قال: والله لا يجتمع الإيمان

(1) في (ش): " منهمكاً ".

(2)

البخاري (6069)، ورواه أيضاً مسلم (2990) من حديث أبي هريرة.

(3)

1/ 272 من رواية الأسود بن عامر، عن الحسن بن صالح، عن محمد بن المنكدر، قال: حُدِّثتُ عن ابن عباس

فذكره. وهذا إسناد رجاله ثقات غير راويه عن ابن عباس، فإنه مجهول.

(4)

" ابن حبان "(5347)، وهو حديث ضعيف، وانظر تمام تخريجه فيه. وقول المصنف " بزيادة " وَهَمٌ منه، فإن هذه الزيادة ليست من الحديث، إنما هي من كلام ابن حبان، بَيَّنَ فيه المراد من الحديث، فقد قال بإثر روايته: يُشبه أن يكون معنى هذا الخبر: من لقي الله مدمن خمرٍ مستحلاً لشربه، لقيه كعابد وَثَنٍ، لاستوائهما في حالة الكفر.

(5)

8/ 315 - 316، ورواه أيضاً عبد الرزاق (17060)، والبيهقي 8/ 287 - 288.

ورواه ابن حبان (5348) مرفوعاً بإسناد ضعيف، والصواب وقفه كما قال الحافظان الدارقطني =

ص: 130

وإدمان الخمر إلَاّ ليوشك أن يُخرِجَ أحدهما صاحبه.

وروى النسائي عن مسروق: من شربها، فقد كفر، وكفره أن ليس له صلاة. ذكر النسائي في تفسير حديث عبد الله بن عمرو عنه، عنه صلى الله عليه وسلم:" إن من شربها لم تقبل له صلاة أربعين يوماً "(1)، وفي حديث:" لم تُقبل له توبةٌ أربعين يوماً ". (2)

وقد صح أن ترك الصلاة كفرٌ، رواه مسلمٌ من طريقين من حديث جابرٍ، وأهل السنن كلهم إلَاّ النسائي (3). وعن بُريدة نحوه رواه الأربعة كلهم (4).

وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب: وإن مات شارب الخمر في الأربعين، مات كافراً. رواه النسائي (5).

وروى النسائي (6) إنه "لا تُقبل له توبة أربعين يوماً، فإن تاب، تاب الله عليه

= وابن كثير.

(1)

النسائي 8/ 314 - 315، وإسناده حسن. وحديث عبد الله بن عمرو عند النسائي 8/ 514 وأخرجه أيضاً أحمد 2/ 176 و197 و189، والدارمي 2/ 111، وابن ماجه (3377)، والبزار (2936)، وصححه ابن حبان (5357)، والحاكم 4/ 146، ووافقه الذهبي.

(2)

النسائي 8/ 317.

(3)

مسلم (82)، وأبو داود (4678)، والترمذي (2618) و (2620)، وابن ماجه (1078)، وأخرجه النسائي 1/ 232 كما في إحدى نسخ السنن في " الصلاة "، وأخرجه أيضاً أحمد 3/ 370 و389، وابن أبي شيبة 11/ 33 و34، والدارمي 1/ 280، والبيهقي 3/ 366، وابن حبان (1453).

(4)

رواه الترمذي (2621)، والنسائي 1/ 231، وابن ماجه (1079)، وليس هو عند أبي داود، رواه أيضاً ابن أبي شيبة 11/ 34، وأحمد 5/ 346 و355، وصححه ابن حبان (1554)، والحاكم 1/ 6 و7، ووافقه الذهبي.

(5)

8/ 316، وإسناده صحيح.

(6)

5/ 317، وانظر " ابن حبان "(5357).

ص: 131

حتى يشربها الرابعة، فإن شَرِبَها بعد الرابعة، كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال "، ولم يقل بعدها: فإن تاب تاب الله عليه.

ومفهوم الحديث أنه إن تاب في الثلاث المرار الأولة بعد الأربعين، تاب الله عليه، وإن شربها الرابعة، لم يوفق لتوبةٍ، ولذلك (1) ورد الأمر بقتله في الرابعة، ذكره غير واحدٍ من الصحابة، ذكر ابن كثيرٍ الشافعي منهم في " إرشاده " سبعة صحابة، وهم: ابن عمر، وابن عمرو، وجابر، وقبيصة بن ذؤيب، ومعاوية، وشرحبيل بن أوس، وعمرو بن الشريد، وكلها عند أحمد إلَاّ حديث قبيصة وجابر، وخرَّج ذلك أحمد وأهل السنن إلَاّ النسائي (2).

وإنما قيل: إنه نسخ، ومن حقق النظر لم يجد النسخ صحيحاً إلَاّ في وجوب قتلهم، لا في جوازه، لأنهم قالوا في الناسخ: إن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بشاربٍ بعد ذلك قد شَرِبَ في الرابعة، فخلَّى سبيله، رواه أحمد (3)، عن الزهري مرسلاً (4)، ومرسلات الزهري ضعيفةٌ، لكن رواه أبو داود من حديث الزهري عن قبيصة بن ذويب، وقال: فجلدوه ورفع القتل، وكانت رخصة. رواه أبو داود، وذكره الترمذي بمعناه (5)، وقوله: وكانت رخصة: صريح فيما أوردته (6)، والحمد لله.

ولا شك أن الإدمان ليس بكفر في ظاهر الشرع، ولكن قد يقع مع المدمن

(1) في (ف): " وكذلك ".

(2)

تقدم تخريج هذه الأحاديث 3/ 168 - 169.

(3)

2/ 291، وانظر " صحيح ابن حبان "(4447).

(4)

" مرسلاً " ساقطة من (ف).

(5)

أبو داود (4885)، والترمذي بإثر الحديث (1444)، وهو مرسل، فإن قبيصة بن ذؤيب وإن وُلِدَ على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، إلَاّ أنه لم يسمع منه.

(6)

في (ف): " أردته ".

ص: 132

استهانة وعدم نكارة تسلب الإيمان لعدم تمكن الاستقباح (1) في القلب كما أشار إليه عثمان، وقد ثبت في حديث أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث النهي عن المنكر:" فمن رأى منكم مُنكراً، فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (2)، ورواه مسلمٌ (3) من حديث ابن مسعودٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، ولفظه:" ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمنٌ ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردلٍ ". وخرج الحاكم في " المستدرك "(4) على شرط البخاري ومسلمٍ عن أبي موسى مرفوعاً: " من عمل سيئةً فكرِهَها حين يعمل بها، فهو مؤمنٌ " وخرَّج أيضاً عن أبي أُمامة نحوه (5). وخرج البخاري ومسلم (6) عن عمر في خطبته في الجابية: " من سرَّته حسنَتُه وساءته سيئته، فهو مؤمن ".

ولذلك فرَّقت السنة في الوعيد بين شارب الخمر ومُدمنها، وكذلك حبرُ الأمة ابن عباس، فإنه فسَّر اللَّمم بما يُنافي الإصرار، كما ذلك معروف عنه، وأين

(1) تحرفت في (ف) إلى: " الاستفتاح ".

(2)

مسلم (49)، وأبو داود (1140) و (4340)، والترمذي (1172)، والنسائي 8/ 11، وابن ماجه (1275)، وأحمد 3/ 10 و20 و49 و52، وابن حبان (306) و (307).

(3)

برقم (50)، ورواه أحمد 1/ 458، وابن حبان (6193).

(4)

1/ 54، ورواه أحمد 1/ 14، والبزار (79)، وفيه المطلب بن عبد الله، لم يسمع من أبي موسى، لكنه يتقوى بحديثي أبي أمامة وعمر الآتيبن.

(5)

" المستدرك " 1/ 14، ورواه أيضاً أحمد 5/ 251 و252 و256، وعبد الرزاق (20104)، والطبراني في " الكبير "(7539) و (7540)، والقضاعي في " مسند الشهاب "(400) و (401) و (402)، وصححه ابن حبان (176).

(6)

هذا وهم من المصنف رحمه الله، فالحديث لم يروه الشيخان ولا أحدهما، إنما رواه البخاري في " التاريخ الكبير " 1/ 102 تعليقاً، وأخرجه أحمد 1/ 18، والترمذي (2165)، والقضاعي (403)، وابن ماجه (2363)، وصححه ابن حبان (4576)، (5586) و (6728)، والحاكم 1/ 114، ووافقه الذهبي.

ص: 133

ذنوب يزيد إذا نظرت في مجموعها من ذنوب المؤمنين المقرونة بالخوف والرجاء المحفوفة بالاعتراف والكراهة والاستغفار، البريئة من ذلك العلوِّ والتَّكبُّر والجهار، ثم ضُمَّ إلى ذلك أمرين أوضح منه وأقبح، وهما استحلال تلك الدماء المصونة المحرَّمة بالضرورة عن الدين يوم الطَّفِّ ويوم الحرَّة، وما أدراك ما يوم الطَّفِّ ويوم الحرَّة، ثم ما أدراك ما هما، وأين من يعرف حقيقة ما وقع فيهما، وقد جاء في التَّغليظ في القتل ما لا يخفى، وحسبُك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى سباب المسلم فسوقاً، وقتاله كفراً. متفق على صحته (1). فهذا قتاله، فكيف قتله، ولو لم يرِد في ذلك إلَاّ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أعان على قتل مسلمٍ بشطر كلمةٍ، جاء يوم القيامة مكتوبٌ بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله ". رواه ابن ماجه من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم (2).

وروى الترمذي من حديث أبي هريرة [وأبي سعيد الخدري]، عنه صلى الله عليه وسلم:" لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دمٍ، لأكبَّهم الله في النار "(3).

وروى النسائي والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو، عنه صلى الله عليه وسلم: "لزوال

(1) البخاري (48)، ومسلم (64). وقد تقدم تخريجه ص 33.

(2)

ابن ماجه (2620)، ورواه أيضاً ابن عدي في " الكامل " 7/ 2715، والبيهقي في " السنن " 8/ 22، وابن الجوزي في " الموضوعات " 3/ 104، وقال البيهقي: يزيد بن زياد، وقيل: ابن أبي زياد منكر الحديث، وقال ابن عدي: كل رواياته مما لا يتابع عليه في مقدار ما يرويه، وضعفه الحافظ في " تلخيص الحبير " 4/ 14، ونقل هو والذهبي في " الميزان " 00/ 425 عن أبي حاتم قوله: هذا حديث باطل موضوع، وقال ابن الجوزي: قال أحمد بن حنبل: ليس هذا الحديث بصحيح، وقال البوصيري في " الزوائد ": في إسناده يزيد بن أبي زياد، بالغوا في تضعيفه، حتى قيل: كأن حديثه موضوع. قلت: قال ذلك أبو حاتم كما في " الجرح والتعديل " 9/ 163.

(3)

الترمذي (1398)، وقال: هذا حديث غريب.

أي: ضعيف، لأن في سنده يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف.

ص: 134

الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلمٍ" (1).

وعن المقداد، قلت: يا رسول الله، لو أن رجلاً من الكُفَّار ضربني، ثم قال: أسلمت لله، أقْتُلُهُ؟ قال:" إن قتلته، فإنك بمنزلته قبل أن يقولها ". رواه البخاري ومسلمٌ (2).

وثانيهما: المجاهرة بما علم أنه من لوازم النِّفاق من بغض أمير المؤمنين علي عليه السلام، ومن كان معه من خِيرَةِ الأصحاب من المهاجرين والأنصار وبُغض ذُرِّيَّته وأهل بيته الذين هم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أهل الأرض إليه، وشَجَنَهُ في الدنيا، وعلاقة همِّه، وريحانة نفسه، وخُلاصة من بعده، فكيف إذا وقع ذلك القتل المعظَّم قليله في عامة المسلمين وقوعاً فاحشاً على أقبح الوجوه في هؤلاء الذين هم أحب الخلق إلى الله، فظهرت به المسرة والاغتباط، ووقع الإصرار على ذلك وعدم الندم والاستغفار؟! وقد صح من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من عادى لي وليّاً فقد آذنته بحربٍ " رواه البخاري (3).

فهذا في مجردِ بُغض وليٍّ منهم واحدٍ، كيف (4) ببغض طائفتين عظيمتين من خيار الأولياء، وإخافتهم في حَرَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصيب الحرب لهم، وسفك دمائهم، والمسرَّة بذلك، والغبطة به، والإصرار عليه؟ وقد ملك كثيرٌ من الظَّلمة أكثر مما ملك (5) يزيد، وطالت لهم المدة، ومالوا إلى الدنيا، واستغرقتهم

(1) الترمذي (1395)، والنسائي 7/ 82 - 83، وقال الترمذي: روي موقوفاً، وهو أصح.

(2)

البخاري (4019) و (6865)، ومسلم (95)، ورواه أيضاً أبو داود (2644)، وأحمد 6/ 3 و4 و5 و6، وابن حبان (4750)، وانظر تمام تخريجه فيه.

(3)

أخرجه البخاري (6502)، وأبو نعيم 1/ 4، والبيهقي في " الزهد الكبير "(690)، والبغوي (1248).

(4)

في (ف): " فكيف ".

(5)

في (ف): " أكثر مما لك ".

ص: 135

الشهوات، فلم يحتاجوا إلى انتهاك محارم الإسلام، واصطلاح أهل الفضل والعلم، واستئصال شأفتهم، والتَّشفِّي بقتلهم وإهانتهم، بل عادة فجرة أهل الإسلام تعظيم أهل العلم والصلاح، وحبُّهم لله، ورجاء بركتهم، وطلب الدعاء منهم، والتَّقرُّب إلى الله بتعظيمهم، كما أن عادتهم تعظيم المساجد وسائر الشعائر، ولا سيما الحرمين الشريفين ومن سكنهما أو عاذ بهما (1)، ومن ثَمَّ فرَّق علماء السنة بين الظلمة، فأجمعوا بعد ظهور فواحش يزيد والحجاج وأمثالهما على الخروج إن أمكن عليهما وعلى أمثالهما ممن لم يبق فيه خيرٌ، ولا يمكن أن تزيد المضرة في الخروج عليه على المضرة في بقائه كما قدمنا نقل ذلك عنهم، واختلف رأيهم فيمن سوى ذلك من غير تأثيمٍ للخارج عليهم، وما روي عن ابن عمر من الإقرار بالسمع والطاعة ليزيد فلا (2) سبيل إلى أنه قاله بعد إحداث يزيد مختاراً غير متَّقٍ، وكيف لا يتَّقي وقد طلب يزيدُ الناس البيعة على أنهم عبيدٌ، وأمر بضرب رقبة من ذكر البيعة على كتاب الله، ولذلك تكلم ابن عمر في ذلك بعدما زالت التَّقيَّةُ، فروى عنه البخاري أن رجلاً سأله عن دم البَعُوض، فسأله: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق، فقال ابن عمر: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" هما ريحانتاي في الدنيا " وفي رواية: " ريحانتي ".

قال ابن دحية: تفرَّد بإخراجه البخاري من طريقين في كتابين: في كتاب المناقب وفي كتاب الأدب (3).

وفي هذا (4) أعظمُ دلالة لابن عمر أنه معتقدٌ لاعتقاد كل مسلمٍ في تقبيح ما جرى إلى الحسين عليه السلام وأصحابه، وإن اتَّقى في بعض الأحوال كما اتَّقى عمارُ بن ياسر من (5) المشركين، فقال بكلمة الكفر وقلبه مطمئنٌّ

(1) في (ش): " أعاذ ".

(2)

في (ش): " ولا ".

(3)

تقدم تخريجه ص 50 من هذا الجزء.

(4)

في (ش): " ذلك ".

(5)

في (ف): " عن ".

ص: 136

بالإيمان (1)، بل لقد خرَّج البخاري عن ابن عمر أنه ترك الصدع بالحق تقيَّةً في أيام معاوية، دع عنك أيام يزيد، فروى البخاري (2) عنه أنه قال: دخلت على حفصة ونوساتها (3) تنطف قلت: كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل (4)[لي] من الأمر شيءٌ، فقالت: الحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقةٌ، فلم تدعهُ حتى ذهب، فلما تفرَّق الناسُ، خطب معاوية، وقال: من كان (5) يريد أن يتكلم في هذا الأمر، فليُطْلِعْ لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلاّ أجبته؟ فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول بكلمة تفرق بين الجميع، وتسفك الدم، فذكرت ما أعد الله في الجنان. رواه ابن الأثير في " الجامع "(6) في الفتن في حرف الفاء في أمر الحكمين، وخرج عنه ابن الأثير في " جامع الأصول "(7) من طريق سالمٍ أن رجلاً من أهل العراق سأله عن قتلِ محرمٍ بعوضاً، فقال: يا أهل العراق، ما أسألكم عن صغيرةٍ، وأجرأكم على كبيرةٍ، يقتل أحدكم من الناس ما لو كان كعددهم (8) سُبُحاتٍ،

(1) انظر " طبقات ابن سعد " 3/ 249، و" أسباب النزول " للواحدي ص 109، و" مستدرك " الحاكم 2/ 357، و" تفسير " الطبري 14/ 181، و" تفسير " ابن كثير 2/ 609، و" الدر المنثور " 5/ 170.

(2)

رقم (4108).

(3)

النوسات: الذوات، وتنطف: أي: تقطر. قال الحافظ في " الفتح " 7/ 403: والمراد أن ذوائبها كانت تنوس، أي تتحرك، وكل شيء تحرك، فقد ناس، والنوس: الاضطراب.

(4)

في (ش): " يخطر ".

(5)

" كان " ساقطة من (ش).

(6)

10/ 93 - 94.

(7)

10/ 71، وانظر ص 40 و126 من هذا الجزء وأخرج الشطر الأخير من الحديث أحمد 5/ 362، وأبو داود (25004)، والقضاعي (878) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فذكر مثل حديث سالم عن أبيه.

(8)

في " جامع الأصول ": " لي عددهم ".

ص: 137

لرأيت أنه إسرافٌ، وإنا كنا نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلنا منزلاً، فنام رجلٌ من القوم ففزَّعه رجلٌ، فسمع [ذلك] رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:" لا يحلُّ لمسلمٍ تفزيعُ مسلمٍ ".

ولعل البخاري ما خرَّج هذا (1) المعنى عن ابن عمر في مواضع في " صحيحه " إلَاّ لينفي التُّهمة عن ابن عمر بذلك، ومن كان يقدر على الكلام بذلك في ذلك العصر؟

وأحسن من هذا كله في الشهادة لابن عمر بالبراءة من موالاة أعداء أهل البيت عليهم السلام ما رواه إمام التشيع أبو عبد الله الحاكم في كتاب الفتن من " المستدرك " عن مالك بن مِغْوَلٍ، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال لرجل يسأله عن القتال مع الحجاج أو مع ابن الزبير؟ فقال له ابن عمر: مع أي الفريقين قاتلت، فقُتِلْتَ، ففي لظى. قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه (2).

قلت: فانظر إلى أئمة الحديث من الفريقين، ما أوسع معرفتهم وأكثر إنصافهم! كما أوضحت ذلك في أول هذا الكتاب عند ذكر حديث المتأولين، وظهور قرائن صدقهم، وهذا كله نقيض ما ذكره المشنِّع (3) على أهل السنة، من قوله: إنهم يصوِّبون يزيد في قتل الحسين عليه السلام، فالله المستعان.

وكذلك فرَّقت الأحاديث بين الظلمة، كما فرَّق بينهم أهل السنة، ففي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم لما وصف لهم أئمة الجور، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ". رواه مسلم والترمذي وأبو داود من حديث [أم

(1)" هذا " ساقطة من (ف).

(2)

" المستدرك " 4/ 471، ووافقه الذهبي على تصحيحه.

(3)

في (ش): " المتشيع " وهو خطأ.

ص: 138

سلمة] (1)، وفي حديث:" ما لم تَرَوْا كُفراً بَوَاحاً " رواه

(2).

ولكن القوم كانوا فريقين: أحدهما قَبِلُوا صدقة الله تعالى عليهم في جواز التقية، والأُخر كرهوا الحياة وجِوار الفجرة فتعرَّضوا للشهادة، وإن لم يرجوا غيرها من زوال أولئك الظلمة.

وفي " نهاية " ابن الأثير (3): أنه عُرِضَ على الحجاج رجلٌ من بني تميمٍ ليقتله، فقال الحجاج: أرى رجلاً لا يُقرُّ اليوم بالكفر، فقال: عن دمي تخدعُني، إني أكفر من حمار -وحمارٌ رجل كان في الزمان الأول، كفر بعد الإيمان، وانتقل إلى عبادة الأوثان فصار مثلاً- فهذا مع أن الحجاج قال لقاتل الحسين: والله لا تجتمع أنت والحسين في دار. كما تقدم، فكيف يقال في أئمة أهل السنة وأهل العلم والعبادة: إنهم يُصوِّبُون من قتل الحسين عليه السلام ويعدُّونه باغياً؟ وهذا عارضٌ، والمقصود أن قتل الحسين وأصحابه وأهل الحرة واستحلال ذلك مما احتج به من كفَّر يزيد، لأن حُرمة هؤلاء في الإسلام كحرمة الزنى، وسائر الفواحش، بل أعظم، فكما أن (4) من أظهر استحلال تلك الفواحش يكفُر بلا خلافٍ، فكذلك هذا، وفي هذا أحاديث كثيرة شهيرةٌ منها: ما روى البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سبابُ المسلم فسوقٌ، وقتاله كفرٌ "(5).

وروى النسائي (6) عن سعد بن أبي وقاصٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه.

(1) مسلم (1854)، والترمذي (2266)، وأبو داود (4760)، وأحمد 6/ 295 و302.

(2)

بياض في الأصول الثلاثة، وهو من حديث عبادة بن الصامت، وقد تقدم تخريجه ص 17.

(3)

4/ 188.

(4)

" أن " ساقطة من (ش).

(5)

تقدم تخريجه ص 33 من هذا الجزء.

(6)

7/ 121.

ص: 139

وروى البخاري ومسلم والنسائي من حديث جرير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا ترجِعُوا بعدي كفَّاراً يضرِبُ بعضكم رقاب بعضٍ " قال في حجة الوداع. كذا في " الصحيحين " وغيرهما (1).

وفي " جامع الأصول "(2) في الباب الثاني في أحكام الإيمان والإسلام من أول الكتاب مثل ذلك من حديث ابن عمر في حجة الوداع، رواه البخاري ومسلم (3)، وكذلك عن أبي بكرة خرّجاه أيضاً (4)، وكذلك عن ابن عباسٍ، خرجه البخاري (5)، كلُّهم بهذا اللفظ، وفي هذا التاريخ، وكرَّر عليهم في ذلك قوله:" ألا هل بلَّغت، ألا هل بلَّغت، ألا هل بلَّغت؟ " وأمر الشاهد منهم أن يبلِّغ الغائب، فقال ابن عباس في رواية البخاري فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أُمته.

وروى الترمذي (6) عن ابن عباسٍ مرفوعاً نحو المسند من غير تاريخ أيضاً، ورواه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب أيضاً (7)، ورواه النسائي (8) من حديث ابن مسعود كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي " النهاية "(9) أن الأوس والخزرج ذكروا ما كان منهم في الجاهلية، فثاب

(1) البخاري (121) و (4405) و (6844) و (7080)، ومسلم (65)، وأخرجه أيضاً أحمد 4/ 358 و363 و366، والنسائي 7/ 127 - 128، وابن ماجه (1942)، وابن حبان (5940).

(2)

1/ 261 - 265.

(3)

البخاري (4403)، ومسلم (66)، وانظر ابن حبان (187).

(4)

البخاري (4406) و (7078)، ومسلم (1679)، وانظر ابن حبان (3848).

(5)

(1739).

(6)

رقم (2193)، وقال: حسن صحيح.

(7)

أبو داود (4686)، والنسائي 7/ 126، وانظر ابن حبان (187).

(8)

7/ 127.

(9)

4/ 186 وقال ابن الأثير: ولم يكن ذلك على الكفر بالله، ولكن على تغطيتهم ما =

ص: 140

بعضهم إلى بعضٍ بالسيوف، فأنزل الله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُه} [آل عمران: 101].

وفيها (1) عن ابن مسعودٍ: إذا قال الرجل للرجل: أنت لي عدوٌّ (2)، فقد كفر أحدُهما بالإسلام (3). وهذا شبيه بما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما "(4).

وخرج الحاكم في " المستدرك " عن ابن مسعود، عنه صلى الله عليه وسلم:" لو أن رجلين دخلا في الإسلام، فاهتجرا، كان أحدهما خارجاً عن الإسلام حتى يرجع الظالم " وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود (5). وهذه أشياء كثيرةٌ قد احتجَّت الظاهرية من أهل السنة بأمثالها مما له تأويلٌ عند غيرهم مع (6) اعتقادها بقوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه} [الروم: 10] على أحد الاحتمالين وهو (7) أشد وعيدٍ على التَّجرِّي على الله، وهو الذي نخافه على المرجئة، فنسأل الله العافية.

= كانوا عليه من الأُلفة والمودَّة. وانظر " تفسير الطبري "(7535)، و" أسباب النزول " للواحدي ص 77 - 78، و" الدر المنثور " 2/ 278 - 280.

(1)

نفس المصدر السابق.

(2)

في (ف): " أنت عدوي ".

(3)

لم أجد هذا القول لابن مسعود في شيء من الكتب التي بين يدي، لكن أخرجه الخرائطي في " مساوىء الأخلاق " (20) عن ابن عمر بلفظ:" إذا قال الرجل لأخيه: أنت لي عدوٌّ، فقد باء أحدهما بإثمه إن كان كذلك، وإلا رجعت على الأول ". وانظر " كنز العمال " 3/ (8386).

(4)

تقدم تخريجه 2/ 439.

(5)

" المستدرك " 1/ 22، ورواه أيضاً البزار (2050)، وأورده الهيثمي في " المجمع " 8/ 66، وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح.

(6)

في (ش): " من " وهو خطأ.

(7)

في (ش): " وهذا ".

ص: 141

فمن عَمِلَ بهذه الظواهر، وإن كان عند أهل السنة أو بعضهم مخطئاً، فلا يصلح منهم (1) التحامل عليه، لأنه قد وقع في مثل ذلك كثيرٌ من الصحابة والتابعين، كما قدمنا في قول عمر لحاطبٍ، وأسيد بن حضير لعبادة بن الصامت (2)، ونقل ابن دقيق العيد في " شرح العمدة " (3) أن من العلماء من كفَّر من قال لأخيه: كافرٌ.

ونُقِل عن الحسن البصري أنه قال: صاحب الكبيرة منافق، وإنه طرد ذلك استعظاماً منه أن يُصرَّ على كبيرةٍ، وظنّاً أن التصديق بالجزاء يمنع عن ذلك (4) كما يجد في نفسه رضي الله عنه.

وإنما منع أهل السنة من القول بذلك أمورٌ كثيرةٌ منها مرجحات ترك التكفير عند احتماله واحتمال سواه، وقد استُوفيت في " إيثار الحق على الخلق "(5)، فليطالع فيه، ففيها فوائد مهمة، ولكنها لا تصلح إلَاّ عند الاحتمال، وهو موضع النزاع هنا.

ومنها أحاديث النهي عن العُدول عن الظواهر إلى البواطن، كحديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بعث عليٌّ وهو باليمن بذُهَيْبَةٍ إلى رسول الله، فقسمها بين أربعة، فقال رجل: يا رسول الله، اتق الله، فقال:" ويلك، أولستُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله "؟ ثم ولّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضربُ عنقه؟ فقال:" لا، لعله أن يكون يصلي " فقال خالد: وكم مِنْ مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني لم أُومر أن أُنقِّبَ على قلوب الناس، ولا أشُقَّ بطونهم " رواه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل (6).

(1)" منهم " ساقطة من (ش).

(2)

انظر ص 126.

(3)

4/ 77.

(4)

" عن ذلك " ساقطة من (ف)، وفي (د):" من ذلك ".

(5)

انظر ص 425 وما بعدها.

(6)

تقدم تخريجه 1/ 232.

ص: 142