المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المخالطة للمصالح المتعلقة بالعامة - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٨

[ابن الوزير]

الفصل: ‌ المخالطة للمصالح المتعلقة بالعامة

القدح على من فعل ذلك اجتهاداً أو تقليداً.

وبهذا الكلام تم القسم الأول من أقسام المخالطة، وهو المخالطةُ لنيلِ شيءٍ من الدنيا على وجهٍ يحِلُّ.

القسم الثاني:‌

‌ المخالطة للمصالح المتعلِّقة بالعامة

من الشفاعة للفقراء، والتبليغ بالمظلومين (1) أو نحو ذلك، أو المصالح الخاصة بالملوك من وعظهم أو تذكيرهم وتعريفهم بما يجب للمسلمين وتعليمهم معالم الدين، وسواءٌ كان ذلك على جهة التصريح (2) أو التلويح مع حُسْنِ النية، وهذا القسم يكونُ مستحبّاً غير مكروهٍ، وسواء كان الغرض الحاصل من ذلك تركهم للباطل كله، أو تركهم لبعضه، وتخفيفَهم منه، إلَاّ أن يكون في الزمان إمامُ حقٍّ يدعو إلى حرب الظَّلَمَةِ، فإن المصير إليه هو الواجب، وإنما قلت: إن هذا يكون مستحبَّاً، لِمَا ورد في ذلك من الآثار الصحيحة، مثل قوله عليه السلام:" أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ "(3). وقوله عليه السلام في الحديث الصحيح: " الدين النصيحة ". قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ورسوله، ولعامة المسلمين وأئمتهم "(4)، فالسلاطين من جملة عامة المسلمين -أعني أهل الملة- ولأن الأنبياء عليهم السلام كانوا يخالطون الكفار لمثل ذلك، ولأن الحسن عليه السلام كان يُخالط معاوية، ويدخُلُ عليه، ويُكاتبُه لمثل ذلك.

ومن كلام الإمام الداعي يحيى بن المحسن في " الرِّسالة المخرسة لأهل المدرسة " قال عليه السلام: لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه، لأن كثيراً من أهل البيت عليهم السلام قد عُرِفَ بمتابعة الظَّلَمةِ

(1) في (ف): " للمظلومين ".

(2)

في (ف): " مع التصريح ".

(3)

تقدم تخريجه 2/ 68 و4/ 245.

(4)

حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه 1/ 214.

ص: 203

لوجهٍ يُوجبُ ذلك، فتولى الناصر الكبير عليه السلام منهم، وصلى لهم الجمعة جعفر الصادق، وصلَّى الحسن السِّبط على جنائزهم، وأقام علي بن موسى الرِّضا مع المأمون، وكثر جماعته، وتزوَّج ابنه محمد ابنة المأمون وغير ذلك.

والوجه فيه أن الفعل لا ظاهر له، فتأويله ممكنٌ إلى كلامٍ حذفناه، قال في آخره: لا تكون المتابعة فيما يمكن التأويل فيه موالاة، لأن كثيراً من العِترة عُرِفَ بمتابعة الظلمة لوجه، كما ذكرناه.

القسم الثالث: المخالطة للتقية، وهي جائزةٌ، لِنَصِّ القرآن، قال الله تعالى:{إلَاّ أن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، وسواءٌ أظهر المخالط أنه خالط لأجل التقية، أو لم يظهر ذلك، فإن الأكثرين لا يتمكنون من إظهاره، بل التقية تقتضي كتم ذلك.

القسم الرابع: المخالطة لأجل الجهاد والغزو معهم للكفار، ممن يستجيزُ ذلك. وقد فعل ذلك غير واحد من الصحابة والتابعين وغيرهم من خيار المسلمين، بل قد قام الجِلَّةُ والفضلاء مع المختار الكذاب الذي ادعى النبوة، وكَذَبَ على الله ورسوله لما قام بثأر الحسين عليه السلام، وهذا أيضاً لا يُعترض على فاعله، لأنه ظني لا قاطع على تحريمه.

القسم الخامس: المخالطة لأجل القرابة والرحامة، وهذا أيضاً جائزٌ، وقد رخَّص الله تعالى للمسلمين في صِلَةِ المشركين على العموم إذا لم يجاهروهم بالحرب والإخراج من الديار، وفي " الكشاف " (1) أن قوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الآية، نزلت في قتيلة بنتِ عبد العزى أم أسماء بنت أبي بكرٍ، قَدِمت وهي مشركةٌ إلى بنتها، فلم تقبل هداياها، فنزلت الآية، وفي " صحيح البخاري "(2) معنى هذا ولفظه.

(1) 4/ 92.

(2)

برقم (2620) و (3183)، وانظر " صحيح ابن حبان "(452) و (453).

ص: 204

وأصرح من هذا قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفاً بين أرحامه من الكفار والمسلمين.

الفائدة الثانية: في الإشارة إلى من فعل شيئاً من ذلك ومن لم يفعله، وهذه الفائدة تحتمل التوسيع الكثير، ولكن لا فائدة فيه، ولا طريق إليه، فالاستقصاء لذلك يحتاج إلى استحضار كثيرٍ من كتب التواريخ، والإشارة إلى الجُملة تكفي مع ذكر عيون ذلك إن شاء الله تعالى.

فأمَّا من لم يقع منه شيءٌ من ذلك، فهم النادر من خواصِّ أهلِ الزهادة، وأفرادهم الذين فرُّوا بأنفسهم من الفِتَنِ، وصبروا على خشونة العيش، ومفارقة الوطن، وأكثر من اشتهر ذلك عنه، وصح تنزهه من ذلك من أئمة العترة عليهم السلام الإمامان الزاهدان: القاسم والهادي وكثيرٌ من أهل البيت عليهم السلام، ولذلك سبقا كثيراً مِمَّن قبلهما، وفاتا من بعدهما، ورجحا في ميزان التفضيل على جلة الأئمة، وتميَّزا بالجلالة العظيمة عند عُلماء الأمة.

وفي الرواية المشهورة: أن المأمون بَذَلَ للقاسم عليه السلام وَقْرَ سبعة أبغُل ذهباً، ويبتديه بكتابٍ أو يجيبُه عن كتابٍ، فامتنع القاسم عليه السلام من ذلك، ولامته زوجته على ذلك، وله عليه السلام أشعارٌ في هذا المعنى، منها قوله عليه السلام:

تقول التي أنا رِدْءٌ لها

وقَاءَ الحوادث دُون الرَّدى

ألسْتَ ترى المال منهله

مخارِم أفواهها باللُّهى

فقلتُ لها وهي لوَّامَةٌ

وفي عيشها لو صَحَتْ ما كفى

كفافُ امرىء قانعٍ قوتُه

ومن يَرْضَ بالقُوتِ نَالَ الغِنَى

ومنها قوله عليه السلام:

أسَركِ أنْ أكونَ رتعـ

ـتُ حيثُ المالُ والبَهَجُ

ص: 205

ذريني خَلْفَ قاصِيَةٍ

تَضَايَقُ بي وتَنْفَرِجُ

ولا تَرْمِنَّ بي غرضاً

تطاير دونه المُهَجُ

ومن أئمة الحديث والفقه أبو حنيفة، ومالكٌ، وأحمد بن حنبل، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم.

وقد تقدم ذكر ما لأحمد بن حنبل في ذلك من المبالغة الكبيرة في ترجمته في الوهم الخامس عشر، وإنما استوفيت ذلك في حقه، لما وقع في حقه من الجهل الفاحش المزري بصاحبه. نسأل الله السلامة.

وفي العلماء والصالحين عددٌ كثيرٌ قد انتهجوا منارهم، واقتفوا آثارهم.

وأما من خالط الملوك، أو كاتبهم، أو قَبِلَ عطاياهم، فهم السواد الأعظم من المتقدمين والمتأخِّرين والصحابة والتابعين.

وأنا أذكر منهم عيوناً حسب ما حضرني، وأقدِّمُ قبل ذلك مقدمتين:

إحداهما: أنِّي، وإن سردتهم في الذكر، فهم متفاوتون عندي في المراتب، حسبما أسلفت من تقسيم المخالطة إلى تلك الأقسام، فمنها المخالطة المستحبَّةُ، ومنها المباحة، ومنها المكروهة، لكن هذه الأنواع كلها تدخل تحت جنس الإباحة لما تقدم من الدليل على ذلك.

المقدمة الثانية: أن القصد بذكر أن يُعْذَرَ المفضول النازلة درجته بسبب ذكر ما فعل الأفضل، وإن كانا مختلفين، فالأفضل فعل ذلك على وجه يُستحبُّ بنيةٍ صحيحةٍ يحصل معها (1) الثواب على فعله، والمفضول يفعل (2) ذلك على وجه يُكره أو يُباح، لكن لو كان ذلك الفعل في رتبة التحريم مثل شرب الخمر، وقتل النفس لم يصدر من الفاضل البتة، ولتحاماه جميع الفضلاء كما تحاموا فعل المحرمات، وكما تحاماه القاسم عليه السلام، ولم يترخص في شيءٍ منه.

(1) في (ف): " بها ".

(2)

في (ف): " فعل ".

ص: 206

فلتكن هاتان المقدمتان على بالٍ من الناظر في ذلك كي لا يحسب أني لم أُميِّر الفاضل من المفضول، ولم أعرف ما بينهما من الفرق العظيم، وهذا حين أبتدىء في الإشارة إلى ذكرهم على طبقاتهم.

الطبقة الأولى: طبقة الأنبياء عليهم السلام، وقد أشرت إلى مخالطة يوسف عليه السلام لعزيز مصر فيما مضى، وقريبٌ منها مخالطة نوحٍ ولوط لزوجتيهما مع كفر زوجتيهما، وقول نوحٍ عليه السلام:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45] يسأل (1) الله بذلك أن يكون معه في السفينة مخالطاً له وناجياً معه، وهذا إنما يكون حجة إن لم يصح أن ابنه كان منافقاً، وقد رُوِيَ ذلك، والله أعلم بصحته.

فهذا وأمثاله وقع مِنَ الأنبياء عليهم السلام، ولم يجب أن يحملهم على كراهة المعاصي، وكراهة العُصاة على طلاق الزوجة العاصية، وعلى أن لا يرقُّوا لأحدٍ من أرحامهم العصاة (2)، ولا ذمَّهم الله تعالى بهذا لأجل هذا المعنى، بل أثنى الله تعالى على خليله إبراهيم لما جادل عن قوم لوط، فقال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]، ولم يزد في نهيه عن ذلك على أن قال:{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود: 76].

الطبقة الثانية: الأئمة والسادة من أهل البيت والصحابة رضي الله عنهم، وقد كان الحسن بن عليٍّ عليه السلام يكاتب معاوية، ويدخل عليه، ويأخذ منه العطايا، وذلك على الجملة مشهورٌ في كتب أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، ورُوِيَ أن الحسن عليه السلام وعبد الله بن جعفرٍ الطيار عليه السلام سألا معاوية في خلافة عليٍّ عليه السلام، فأعطى كل واحدٍ منهما مئة ألفٍ، فبلغ ذلك عليّاً عليه السلام، فقال: ألا يستحيان من رجلٍ نَطْعُنُ في عينه بُكرة وعشيَّاً يسألانه المال؟!

(1) في (ف): " سأل ".

(2)

" العصاة " ساقطة من (ف).

ص: 207

ورُوِيَ عن أبي هريرة أنه كان إذا أعطاه معاوية، سكت، وإن لم يعطه، تكلم (1).

وكانت أرزاق الصحابة بعد صُلح الحسن عليه السلام من معاوية، فإنه تولى ما كان يتولاه الخلفاء من قبله من بُيوت الأموال وأرزاق المسلمين، وكانوا يُخالطونه ويحضُرُون مجلسه، ولهذا نُقِلَ عنهم في الأحاديث الصِّحاح أنهم كانوا ينكرون عليه ما فعله من المنكر بحضرتهم، ولو كانوا غائبين عن حضرته، ما اتفق منهم ذلك على ذلك الوجه، وذِكْرُ ذلك على التفصيل يطول.

ومِنْ أشهرِ ما يُذكر في هذا المعنى مخالطة علي بن موسى الرضا عليه السلام للمأمون بن هارون، وسكونه في قصره، واستنكاحُه ابنته لولده، ورغبته في مُصاهرته، واستمراره على ذلك حتى مات عليه السلام.

ومن ذلك ما رُوِيَ أن الإمام محمد بن إبراهيم صِنْوَ القاسم عليهما السلام، وفَد على بعض البرامكة، فرأى من كرمه وإكرامه أمراً عظيماً، فأقسم أن لا يوفد أحداً بعده، هذا وهو الذي كان القاسم عليه السلام من عُمَّاله، وكان يقال: أعْظِم بإمامٍ القاسم بن إبراهيم عليه السلام من عماله.

ومن ذلك مصاهرة الإمام المنصور بالله عليه السلام للسلاطين بني حاتم، وفي ديوانه عليه السلام ما لا مزيد عليه من الثناء عليهم، والتأليف لهم بالتهاني والمراثي وأمثال ذلك من المُلاطفات، وذكر إقامته معهم في ذي مرمر، والشَّوق إلى عَوْدِ تلك الأيام، وذكر طيبها على عادة الشعراء في الرَّقائق الشَّوقيَّة.

(1) أخرجه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 19/ 247 من طريقين، عن الوليد بن بكر، أخبرنا علي بن أحمد، أخبرنا صالح بن أحمد، حدثني أبي أحمد، أخبرنا العلاء بن عبد الجبار، أخبرنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب

وأورده ابن كثير في " البداية والنهاية " 8/ 114 من طريق الإمام أحمد بهذا الإسناد، وقد تحرَّف فيه العلاء بن عبد الجبار إلى عبد الأعلى بن عبد الجبار.

ص: 208

ومن ذلك مخالطة السيدين الإمامين المؤيد بالله وأبي طالب للصاحب الكافي (1)، وكان مشهور الحال من جملة وُلاة الظلمة المعروفين ببني بُوَيه، ولما مات لم يستحل المؤيد بالله وقاضي القضاة الصلاة عليه، حدثني بذلك حيٌّ الفقيه علي بن عبد الله رحمه الله -أعني تحريمهم من الصلاة عليه- وأما ظلمه وحاله، فهو معلوم، لكنه كان معتزلي العقيدة، وحسن التشيع، ذا حظ وافرٍ من الأدب والتمييز، بليغ التعظيم لأهل البيت وسائر العلماء وأهل الأدب، وقد كثُرَتْ لذلك مخالطتهم (2) له واتباعهم له، حتى حكى في " الحدائق " (3) أن المؤيد بالله مدحه بقصيدة بليغة ذكرها في " الحدائق " ومنها:

وكم لك في أبناء أحمد من يدٍ

لها مَعْلَمٌ يوم القيامة ماثلُ

إليك عقيد المجدِ (4) سارَتْ رِكابُهم

وليس لها إلَاّ عُلاك وسائِلُ

فأعطيتهم حتى لقد سَئِمُوا اللُّهى (5)

وعاذَ من العُذَّال من هو سائِلُ

وأسعدتَهم والنَّحسُ لولاك ناجمٌ

وأعززتهم والذُّلُّ لولاك شاملُ

فكل زمانٍ لم تُزَيِّنْهُ عاطلٌ

وكلُّ مديحٍ غير مدحكَ باطلُ

وقد نَقَمَ على المؤيد هذا البيت مسلمٌ اللجي، وقال: هذا لا يليق إلَاّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقصيدة طويلةٌ معروفةٌ مشهورةٌ، ومن جُملتها:

(1) هو الوزير الكاتب الأديب الصاحب كافي الكفاة أبو القاسم، إسماعيل بن عباد بن عباس الطالقاني، كان وزيراً للملك مؤيد الدين بويه بن ركن الدين، له تصانيف، منها " المحيط " في اللغة، و" الإمامة "، و" الوزراء "، و" الكشف عن مساوىء المتنبي "، توفي سنة 385 هـ. انظر ترجمته في " السير " 16/ 511 - 514.

(2)

من قوله: " من الأدب " إلى هنا، سقط من (ش).

(3)

هو " الحدائق الوردية في سيرة الأئمة الزيدية " لحميد بن أحمد المحلي الهمداني، وقد تقدمت ترجمته 3/ 288.

(4)

عقيد المجد، أي: المجد طبع له.

(5)

اللُّهى، بضم اللام: أفضل العطايا وأجزلها، يقال: اللُّهى تفتح اللَّهى.

ص: 209

ألا أيُّهذا الصاحب الماجد الذي

أنامله العليا غُيوثٌ هواطِلُ

أنامل لو كانت تشير إلى الصفا

تَفَجَّر للعافين منها جداولُ

لأغنيتَ حتى ليس في الأرض مُعْدِمٌ

وأعطيتَ حتَّى ليس في الناس آمِلُ

ومن ذلك ما رواه السيد الإمام أبو عبد الإله محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن عبد الرحمن العلوي الحسني مصنف كتاب " الجامع الكافي " في مذهب الزيدية، فإنه قال فيه في المجلد السادس في باب محاربة أهل الحرب: قال محمد -يعني ابن منصور-: حدثني أبو الطاهر، حدثنا حسين بن زيدٍ، عن عبد الله بن حسنٍ وحسنُ بن حسنٍ، إنهما دخلا على عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عليهم السلام، وهو يتجهَّز يريد الغزو في زمن أبي جعفر، فقالا له: مع هذا وهو يفعل ويفعل؟! فقال: حدثتني أمي خديجة بنت علي بن الحسين، عن أبيها، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجهاد حلوٌ خَضِرٌ، لا يزيده عدل عادلٍ ولا ينقصه جور جائرٍ إلى آخر عصابة تقاتلُ الدجال "(1).

(1) أم عبد الله بن محمد بن عمر لم أقف لها على ترجمة، ثم هو مرسل، وأخرجه بنحوه سعيد بن منصور في " سننه "(2367)، وعنه أبو داود (2532)، أخبرنا أبو معاوية، أخبرنا جعفر بن بُرقات، عن يزيد بن أبي نشبة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من أصل الإيمان: الكفُّ عمن قال لا إله إلَاّ الله لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار ".

ويزيد بن أبي نشبة مجهول، وأورده الحافظ في " الفتح " 6/ 56، وقال: وفي إسناده ضعف.

وأخرجه أبو داود (2533)، والدارقطني 2/ 57، والبيهقي 3/ 121 عن أحمد بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي هريرة رفعه، وهذا سند رجاله ثقات إلَاّ أن مكحولاً لم يسمع من أبي هريرة.

ص: 210

ومن كثُرَت مطالعته للسير والأخبار، عرف من هذا كثيراً، ولهذا قال المنصور عليه السلام -لما كان من أعرف الناس بالسير والأخبار- روى عليه السلام أنه لم يبق طالبيٌّ إلَاّ وفد على المأمون إلَاّ القاسم عليه السلام.

وأما الطبقة الثالثة: وهي طبقة الفقهاء، فمن المشهور في مثل هذا: مخالطة الإمام الشافعي رضي الله عنه، والقاضي أبي يوسف (1)، ومحمد بن الحسن الشيباني المجمع على نقل مذاهبهم، والاعتداد بهم، فإنهم كانوا يخالطون هارون، وقد كان القاضي أبو يوسف يسافر معه، ويركب معه في المحمِلِ فيما روى أهل التاريخ، وكانت للشعبي التابعي الجليل مخالطةٌ كثيرةٌ، وله في ذلك قصةٌ غريبةٌ مذكورةٌ في ترجمته، على أنه كان من أهل التشيع لأهل البيت عليهم السلام، وقد كان قاضي القضاة وطبقة من علماء الطوائف يخالطون الصاحب الكافي، ويثنون عليه، ويحاضرونه، وكان له مجلسٌ معهم في كل يوم، فأخبارهم في ذلك مشهورة في كتب التواريخ، وقد كان العلامة ابن أبي الحديد وزيراً لابن العلقمي، ومن أجله صنف شرح " نهح البلاغة " كما ذكره في خطبته (2) وله في ابن العلقمي الثناء العظيم والمدح الكبير، مع الاختلاف في المذهب، فابن أبي الحديد معتزلي وابن العلقمي إماميٌّ.

وقد كان القاضي شرف الدين حسن بن محمد النحوي والفقيه حاتم بن منصور معاصرين للأمراء من الأشراف في صنعاء، وكانت طرائقهما مختلفة في مخالطتهم وتحسين العبارة في محاورتهم، وكان القاضي (3) شرف الدين يزورهم، ويبتدئهم بالسلام والإكرام، ويفعلون له مثل ذلك مع ورعه وعلمه، ولم يقتض ذلك قدحاً في حي القاضي شرف الدين، لكونه كان ألين عريكةً

(1) هو الإمام المجتهد المحدث قاضي القضاة يعقوب بن إبراهيم الأنصاري.

(2)

" شرح نهج البلاغة " 1/ 3 - 4.

(3)

في (ف): " الفقيه ".

ص: 211

من حي الفقيه حاتم وغيرهما. ممن (1) لم أحب ذكره لخوف التطويل.

ويلحق بهذا تنبيهٌ، وذلك إنما عَظُمَ إستقباحنا لمخالطة الظلمة، لأنا لم نحوج إلى مخالطتهم، لإقامتنا في بلاد أئمة العدل من أهل البيت عليهم السلام، واعتيادنا لرفقهم بنا، وعدم مؤاخذتهم لنا، وعفوهم إن أخطأنا، وصبرهم إن جهلنا، ومسامحتهم في حقِّهم وبذلهم لحقنا، فنحن كالمعافى الذي لا يألم قط، لا يعرف قدر العافية، ولا يدري ما مع الأليم من الضرورة، ولو أنَّا ابتلينا بالدول الجائرة المتعدية، لعرفنا أعذار من خالط أولئك الظلمة، وعرفنا ما ألجأهم إلى ذلك حق المعرفة، فنسأل الله تعالى دوام النعمة علينا، فإنا في عافية مما الناس فيه، ببركات (2) أهل البيت عليهم السلام، فنحن لعدلهم آمَنُ من الحمام في البيتِ الحرام، بل قد نسينا نعمة الأمانِ بعدلهم، واشتغلنا بطلب رِفدهم وفضلهم، فلله الحمد والمنة، وله الشكر على هذه النعمة.

واعلم أن مقاصد العلماء تختلف في هذا الباب، فقد يستحسن العالم من ذلك (3) ما يستقبحه غيره، وذلك معلومٌ من أحوال العلماء والفضلاء، وقد كان الأمير علي بن الحسين صاحب " اللُّمع " يواصل بعض أعوان أولاد المنصور عليه السلام في زمن الداعي، فاعترضه بذلك الإمام الداعي، والأمير إنما فعل ذلك لمصلحةٍ رآها، وإن كان الداعي لا يراها، وعلَّة التحريم المودة التي نَقَمَها الله على حاطب بن أبي بلتعة، فإذا لم يكن ثمَّ مودة، فالمسألة اجتهادية، والأعمال بالنيات، والمجمع عليه من تحريم المودة أن يكون لأجل المعصية، بخلاف ما إذا كانت لخصلة خيرٍ كما سيأتي.

والفائدة الثالثة في الدليل على أن المخالطة ليست موالاةً، والدليل على ذلك أن الموالاة هي الموادة والمحبة، لا المخالطة.

(1) في (ف): " مما ".

(2)

في (ف): " ببركة ".

(3)

" من ذلك " ساقطة من (ف).

ص: 212

ثم إن الموالاة المحققة التي هي المحبة تنقسم إلى قسمين قطعي وظني:

فالقطعي: محبة العاصي لأجل معصيةٍ، وهذا القدر هو (1) المجمع على تحريمه دون غيره، ذكر ذلك الإمام المهدي محمد بن المطهر عليه السلام، وهو ينقسم أيضاً، فمنه ما يُجرَح به في الرواية في الحديث، وهو ما وقع على جهة الجرأة دون التأويل، ومنه ما لا يجرح به في الرواية، وإن كان جرحاً في الديانة، وهو ما وقع منه على سبيل التأويل كما قدمنا ذلك في مسألة المتأولين.

القسم الثاني من الموالاة، وهو الظني، وفيه فائدتان:

الفائدة الأولى: أن نصوص أهل المذهب تقتضي الترخيص الكبير في ذلك، فإنهم نصوا على جواز محبة العاصي لخصلة خير منه، ممن نص على هذا: القاضي شرف الدين رحمه الله، وهذا هو الذي جعله القاضي شرف الدين مذهب الهادي مع تشدده عليه السلام في الموالاة، وفيه ترخيصٌ كبير، لأنه قل من ليس فيه خصلة خيرٍ من أهل المعاصي والظلمة، وليس ثبوت فسق فاسق يدلُّ على أنه لم يبق فيه خصلة خير قط، ولو أنك طلبت دليلاً على أن بعض الفسقة أو الكفرة ليس فيه خصلة خير ألبتة، لتعذر ذلك عليك غالباً، بل قياس كلام أهل المذهب جواز محبة العاصي لمنفعةٍ دنيوية، وذلك لأنهم قد أجازوا نكاح الفاسقة بقطع الصلاة وسائر المعاصي، إلَاّ الفاسقة بالزنى.

على أن الفقهاء الأربعة والجمهور أجازوا نكاح الزانية مع الكراهة، لحديث الرجل الذي قال: إن امرأتي لا تَرُدُّ يد لامس، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" طلقها "، قال: إن نفسي تتبعُها، قال:" فاستمتع بها "(2).

ولهم في الآية الكريمة تفسيران (3):

أحدهما: أنها منسوخة، وهو قول سعيد بن المسيب والشافعي.

(1)"هو" ساقطة من (ش).

(2)

تقدم تخريجه 2/ 195.

(3)

انظر 2/ 195 - 196.

ص: 213

والثاني: أنها واردةٌ مورد الذم لمن لا يحب إلَاّ نكاح الزواني والمشركات بدليل أن في ظاهرها ما هو متروك وفاقاً، وهو انفساخ النكاح بزنى الرجل، وجواز نكاح المشركة للزاني، ولأن القراءة:{لا تَنْكِحُ} بالرفع على الخبر.

وكذلك أحمد بن عيسى عليه السلام، وزيد بن علي قد أجازا نكاح الكتابية من اليهود والنصارى (1)، وأجازه (2) الإمام يحيى بن حمزة وكثير من الفقهاء، وقد تقدم ذكر ذلك، ودعوى الإجماع عليه من الصحابة مع أنه لا يكون بين أحدٍ من المحبة والأُنس ما بين الزوجين، فالذي بينهما في ذلك (3) واقعٌ في أرفع مراتب المحبة، فهذا في محبة الزوجة من غير ضرورة إلى نكاح الفاسقة والكتابية، ومن غير اعتبار خصلة خير، فكيف بما وقع من ذلك مع الضرورة، أو كان لخصلة خير؟

الفائدة الثانية -وهي العمدة-: أن الجاهل قد يرى بعض العلماء يفعل فعلاً وهو يحفظ أنه حرامٌ، فيقدح عليه بذلك، ولم يدر أنه إنما يحفظ ذلك تقليداً لأهل المذهب، وليس لأحدٍ أن يعترض غيره في مسألة اجتهاديةٍ، سواء كان مقلداً أو مجتهداً إذا كان ذلك الغير مستحلاً لما فعله، وسواء كان مقلداً أو مجتهداً، ومسائل الموالاة الظنية من هذا القبيل، فلو كان عالماً خالفنا في مسألةٍ ظنية من مسائل الموالاة، فذهب إلى جوازها، وذهبنا إلى تحريمها، لم يكن لنا أن نقدح عليه بفعله لما استحله، وهذا واضحٌ.

واعلم أن أكثر المحرمات تشتمل على قطعي وظني، كالربويات، فإن الربا من الكبائر المنصوصة المجمع عليها، ولا يحل الجرح بمسائل الخلاف التي فيه، فإن المؤيد بالله عليه السلام وغيره من علماء الإسلام يجيزون منه صوراً يذهب غيرهم إلى أنها ربا، وقد قدمت جملة من ذلك.

(1)" والنصارى " ساقطة من (ف).

(2)

" أجازه " ساقطة من (ف).

(3)

" في ذلك " ساقطة من (ف).

ص: 214

ومن لطيف ما يجري في هذا المعنى القدح على كثيرٍ من العلماء الأفاضل بما يجري منهم من الغيبة، أو يجري في حضرتهم ولا ينكرونه، والذي عندي: أن الأولى للمتحرِّي أن يترك الغيبة وينكرها، ولكن لا يقدح على من يفعلها، ولا ينكرها إلَاّ بعد العلم، فإن تلك الغيبة التي صدرت منه غيبةٌ مجمعٌ على تحريمها، مقطوعٌ بقبحها، فإذا وقعت الصورة الظنية المختلف فيها ممن له بصيرةٌ، لم يؤمن أن يكون له وجه تساهله فيها أنه يستحلها، فلا يجوز عقد القلب على سوء الظن به، والقطع بأنه يُقدِمُ على ما يعلم أنه حرام، والله أعلم.

فإذا عرفت هذه الجملة، فاعلم أن الموالاة من جملة المحرمات التي يكون فيها المقطوع بتحريمه، المجمع على تأثيم فاعله، ويكون فيها الظنى الذي كل مجتهدٍ فيه مصيبٌ، فلا يجرح بهذا القدر منها.

وقد كان عمرو بن عبيد على جلالة قدره، وفخامة أمره، يواصل المنصور العباسي، لا لتقريره على ما كان فيه من الفساد في الأرض، وقتله أهل البيت عليهم السلام، ولكن ليعظه، وله معه مواقف مشهورةٌ، ومواعظ مأثورة، فلم تحرم صورة المواصلة، ولا مجرد المخالطة (1).

وقد اشتملت هذه الفائدة على جواب ما ذكره السيد من القدح على الزهري بموالاة الظلمة، وتبين بهذا أن ذلك لا يتم للسيد إلَاّ بعد أمورٍ أربعة (2):

أحدها: أن يدل بدليلٍ قاطعٍ على أن المخالطة لأهل المعاصي محرمةٌ بمجردها، وإن لم يفعل المخالط لهم شيئاً من معاصيهم، ولا يستدل في ذلك بعمومٍ ولا خبرٍ آحادي، فإنهما ظنِّيَّان، ولا بما يجوز (3) أنه معارض أو منسوخٌ أو نحو ذلك.

وثانيها: أن يدل بدليلٍ قاطعٍ على أنها تستلزم الموالاة المُجمع عليها،

(1) من قوله " وقد كان عمرو بن عبيد " إلى هنا، لم يرد في (ف)، ورمج عليه في (د).

(2)

" أربعة " ساقطة من (ف).

(3)

في (ش): " لا يجوز "، وهو خطأ.

ص: 215

التي هي المحبة والموادة التي محلها القلبُ، وأنه يستحيل من المُخالط أن يُضْمِرَ الكراهة لِمَنْ خالطه استحالةً علميةً قطعيةً، وإن لم يكن كذلك، لم يعلم أن المخالط موالي موالاة مجمع على تحريمها.

وثالثها: أن يدل بدليل صحيح قطعي أو ظني على (1) أن الزهري ما أحبهم لأمرٍ من الأمور، إلَاّ لكونهم ظلمةً عُصاة منتهكين لحُرَمِ الإسلام، لا لعَرَضٍ دنيوي يناله منهم، مثلما تجد الأشعريَّة يُحِبُّون الشيخ أبا الحسن الأشعري لكونه إمام مذاهبهم، والمعتزلة يحبُّون الجُبَّائيَّ لمثل ذلك، فهذه ونحوها (2) موالاةٌ قطعاً، وإنما لم تشرط أن يكون الدليل هنا قطعياً، لأنه لا سبيل إلى ذلك، ولأن الظنَّ يكفي في ثُبوت الجرح عن صاحبه، ولكن لا بُدَّ أن يكون ذلك الأمرُ المجروح به قبيحاً في نفسه قطعاً، هذا إن أراد السيد أن يستدل بذلك لنفسه، وإن أراد أن يُلزِمَ غيره جرح الزهري، ويحرم على غيره المخالفة لزم (3) أن يكون دليله على ذلك قطعياً.

ورابعها: أن يستدل السيد بدليلٍ صحيحٍ على أن الزهري في ارتكاب تلك المعصية مجترىءٌ على الله، عالمٌ بما فعل، كشربه الخمور، غير متأوِّلٍ في فعله، كالبُغاة والخوارج، ويكفيه في هذا أن يكون دليله ظنياً إن أراد الاستدلال لنفسه، وإن أراد الإلزام لغيره، وتحريم المنازعة له، لزمه أن يكون دليله قطعياً، فإذا استدلَّ السيد على هذه الأُمور الأربعة على الصِّفة المذكورة، حَسُنَ منه أن يجول في ميدان علماء الجرح والتعديل، وإلا فالصَّمت له أسلم، والله سبحانه أعلم.

الفائدة الرابعة: في الإعانة على المعاصي، وإعانة الظلمة، وهي أيضاً قسمان: قطعي وظني:

(1)" على " ساقطة من (ف).

(2)

" ونحوها " ساقطة من (ف).

(3)

في (د) و (ش): " لزمه ".

ص: 216

فالقطعي منها: هو أن يُعين الظالم بالمال أو نحوه، قاصداً بذلك أن يتمكَّن الظالم بسبب إعانته له من الظلم وفعل الحرام، أو يكون مباشراً للمعصية بنفسه، كمن يقاتل معهم المسلمين، ويقبضُ لهم الأموال، من المعاقبين، أو يأمر بذلك. فأما من لم يفعل المعصية بنفسه، ولا أمر بها، ولا قصدَ الإعانةَ عليها، فإنه لا يُسَمَّى مُعيناً لهم، فإن قوي لبعض العلماء أنه معينٌ لهم، كان ذلك على سبيل الظن والاجتهاد الذي لا يُقْدَحُ به على مخالفه، ولهذا اختلف العلماء في مسائل الاجتهاد (1) مما يتعلق بهذا الباب، منها بيع السلاح والخيل من المحاربين للإمام والمفسدين في الأرض، والخلاف في ذلك معروفٌ. وممن أجاز ذلك: الأمير الحسين بن محمد صاحب " شفاء الأوام ".

وقد أجمع العلماء على جواز صُوَرٍ من هذا القبيل، مثل: صلة الوالدين العاصيين، فقد أمر الله بمصاحبتهما في الدنيا معروفاً، وإن كانا مشركين، فلا خلاف أنه يجوز للولد أن يطعِمَهما ويكسوهما، وإن كان يظن أنه إذا تركهما، قتلهما بالجوع والبرد، وإن طعمه لهما في بقائهما الذي هو سببٌ في معاصيهما، وكذلك يجوز للإنسان أن يبيع طعامه من العاصي، وإن كان يعرف أن العاصي إذا أكل ذلك الطعام يقوى بأكله على فعل كثيرٍ من المعاصي.

ومن ها هنا لم يكن الله تعالى مُعيناً على المعاصي لما كان غير مريدٍ للإعانة عليها، وإن كان قد خلق ما هو عونٌ عليها من الأرزاق الواسعة التي يسوقها إلى العُصاة، وقوة الأبدان وصحتها، وقد تختلف الظنون فيما ليس بقطعيٍّ من الإعانة، ويقع الاختلاف في صُورتين:

إحداهما: في أن الشيء محرَّمٌ أم لا، مثاله: بيع السلاح من البغاة فقد يظن المجتهد أنه لا يحرُم من غير قصدٍ لإعانتهم، فيخالف في جواز ذلك، وإن ظن أن السلاح يعينهم.

(1)" الاجتهاد " ساقطة من (د) و (ف).

ص: 217

وثانيهما: دون هذه المرتبة، وهو أن يُسلِّمَ أن ذلك حرامٌ إذا كان يعينهم، ولكن يغلب على ظنه أنه لا يزيدهم، ولا يظهر له أثرٌ في إعانتهم، وأن البيع منهم والامتناع على سواءٍ، ومثل من يبيع العنب ممن لا يظن أنه لا يتَّخذه خمراً، مع اعتقاده أن بيعه ممن يتخذه خمراً حرامٌ، فإذا اختلفت الظنون في مثل هذه الأمور، كان كلٌّ مكلَّفاً بظنِّه.

ثم الإعانة القطعية المجمع على تحريمها تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون جرحاً في الرواية، وهو ما صدر من فاعله مع اعتقاده لتحريمه، ومنها ما يكون جرحاً في الديانة دون الرواية، وهو ما فعله صاحبه مع اعتقاده لجوازه.

وأما القسم الظني، فلا يجرح من استحله، لا في الديانة ولا في الرواية.

وقد تختلف فيه الظنون، فقد يغلِبُ ظنُّ العالم أو غيره أنه لا يعين الظالم بمخالطته، بل قد يظن أن في مخالطته مصلحةً دينيةً، وإن كان غيره يظن أنه يعين الظالم، وأن في مخالطته مفسدة، فليس يجب عليه ترك ظنه والرجوع إلى ظنِّ غيره بالإجماع.

وكذلك الإقامة في مدائنهم: قد يصح فيها قريبٌ مما يصح في المخالطة من أنها إعانةٌ لهم، وأن الناس لو تركوا بلادهم، فلم يجدوا فيها من يُصلِّي بالجماعة، ولا من يفتي العامة، ولا من يفصل بين الخصوم ويقضي بينهم، لكان ذلك مُوحشاً لهم، منفِّراً لكثير من الإقامة في أوطانهم، وفي ذلك تقليل عددهم، وإظهار فسقهم، بل لو هاجر الجميع من المكلَّفين من بلادهم، ما استقروا فيها، ولتعطَّلت مصالحهم من الخراج والجبايات، ففي إقامة المسلمين في بلادهم إعانةٌ وإيناسٌ، ولهذا أوجب الهادي والقاسم عليهما السلام المهاجرة من دار الفسق، لكن هذا لا يجب على القطع، ولهذا خالف المؤيد بالله وغيره من أهل البيت عليهم السلام وسائر الفقهاء، وقالوا: إن ذلك لا يجب، ولم يجرح أحدٌ ممن لم يهاجر من بلادهم، لا في دينه ولا في روايته، فإن الجِلَّة من الصحابة والتابعين ما هاجروا من بلاد الفسقة، كالحسنين عليهما

ص: 218

السلام وجميع الصحابة، فإنهم أقاموا في المدينة، والحكم فيها لمعاوية، وهذا حجةٌ على قول الشيعة والمعتزلة، وفي مذهب أهل الحديث فيه ما تقدم من نقل القرطبي، وكذلك علي بن الحسين وولده الباقر وزيد بن عليٍّ وحفيده جعفر الصادق وأمثالهم من الأعلام، وهذا حجة على قول الجميع، ولم يكن عذرهم في ذلك ما يتوهمه بعض الناس من العجز عن الهجرة، وعدم وجدان مهاجر، فهذا لا يكون أصلاً، وقد أخبر الله تعالى إن من يُهاجر يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسَعَةً، وردَّ الله على من اعتذر بهذا، حيث قال:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] وفي الأرض من شواهق الجبال وبُطون الأودية ما لا تصله الظلمة، والسكون فيها ممكن مقدورٌ، بل هو الذي عليه أهل الوَبَر، وفي الحديث الصحيح:" يُوشك أن يكون خير مال الرجل المسلم غنمٌ يتبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر، يفرُّ بدينه من الفتن "(1)، ولهذا، فإن القاسم ويحيى عليهما السلام لما اعتقدا وجوب ذلك أمكنهما.

ونص في " الأحكام " على وجوب الهجرة إلى مناكب الأرض وحيث لا يرى ظالماً، وأنه إذا كان له أولادٌ، ولم يقدر على المهاجرة بهم، تكسَّب لهم ما يكفيهم مدة معلومةً شهراً أو نحوه، ثم يخرج بنفسه ويهاجر حتى يعرف أن قُوتَهم قد فرغ، ثم يعود، فيتكسَّب لهم، هكذا نص عليه في " الأحكام " أو كما قال عليه السلام.

فلو ذهبنا نجرح من خالف المذهب، أو خالف الجمهور، لم يسلم من النفاق إلَاّ النادر، وذلك النادر أيضاً لا يروي عن من هو مثله، ألا ترى الهادي عليه السلام لا يمكنه أن لا يروي الحديث إلَاّ عن من هاجر من ديار الفاسقين، ولا يمكننا أن يكون بيننا وبينه عليه السلام مثله في الفضل والورع.

فثبت أن الإعانة للظلمة إذا وقعت ممن يستحلُّها، لم يجرح بها، سواءٌ

(1) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري مالك 2/ 970، والبخاري (19) و (3300) و (3600) و (6495) و (7088)، وأبو داود (4267)، والنسائي 8/ 123 - 124.

ص: 219

كانت بإقامةٍ في بلادهم، أو مخالطةٍ لهم، أو بيع السلاح منهم، أو نحو ذلك.

فقد اشتمل الكلام في هذه الفائدة على جواب قول السيد (1) ما لفظه: وتيقنت حينئذ أن الزهري كان معيناً على قتل زيد بن علي عليه السلام، وتبيَّن أن السيد يحتاج في تصحيح هذا اليقين إلى أمور:

أولها (2) دليلٌ قاطعٌ على أن الحاكم أبا سعيد -رحمه الله تعالى- كاذبٌ في أن الزهري خرج مع زيد بن علي عليه السلام.

وثانيها: دليلٌ قاطعٌ على أن في إقامة الزهري مع هشام لتعليم أولاده، والحج معهم زيادةً في ملك هشام، يحصل بها إعانةٌ على المظالم.

وثالثها: أنها حصلت من تلك الإعانة العامة على المظالم إعانةٌ خاصةٌ على قتل زيد بن علي عليه السلام، بدليل قاطع غير محتمل.

ورابعها: أن الزهري كان يعرف تلك الإعانة الحاصلة بوقوفه العام منها، والخاص بزيدٍ عليه السلام.

وخامسها: أنه ما وقف معهم لغرضٍ دنيوي، ولا أخروي، عاجل ولا آجل، إلا ليعينهم على المظالم على العموم، وعلى قتل زيد عليه السلام على الخصوص.

فمتى حصلت له أدلةٌ قاطعةٌ علميةٌ على كل واحد من هذه الأمور الخمسة، حصل اليقين الذي ذكر، ومتى تطرق الشك والاحتمال إلى واحدٍ منها، لم يحصل اليقين بأن الزهري أعان على قتل زيد بن علي عليه السلام، ولكن يحصل اليقين بأن السيد تكلم بما لا يعلم ونسي قول الله تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

(1) في (ش): " قوله ".

(2)

في (ش): " أقلها " وهو خطأ.

ص: 220

الفائدة الخامسة: أن أهل الزهد والدرجة العالية من الفُضَلاء يَعِظُون من كان دونهم في مرتبة الفضل والصلاح، ومن فعل ما لا يليق به من المباحات والمكروهات، ويوردون في وعظه من قوارع البلاغة ومجاز الكلام ما لو خرج مخرج الحقيقة، لدلَّ على إثم الموعوظ ومعصيته، مع (1) أنه لا يُستدلُّ بذلك على تأثيم الموعوظ لما خرج مخرج التذكير والإيقاظ والتقريع والتأنيب.

وقد قدَّمت من هذا إشارةً يسيرةً في خطبة هذا الكتاب (2)، مثل قوله عليه السلام لأبي ذر:" إنك امرؤٌ فيك جاهلية "(3).

وأنا أذكر ها هنا ما لم أذكره من هذا، فمن ذلك: قوله تعالى في خطاب أفضل البشر وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 - 10]. ومنه قوله تعالى: في حقه عليه السلام: {وَتَخْشَى الناسَ والله أحقُّ أن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]، ومن ذلك قوله تعالى في جماعة من ثقات (4) الصحابة المجمع على فضلهم:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، ومنه قوله تعالى في جِلَّة المهاجرين والأنصار:{َوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [الأنفال: 68].

ومنه قول علي عليه السلام لأصحابه: أُفٍّ لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً

إلى آخره. وقوله عليه السلام لهم: بُليت بمن لا يطيع إذا أمرتُ، ولا يجيبُ إذا دعوتُ، لا أبا لكم، ما تنتظرون بنصركم ربكم؟! أما دينٌ يجمعكم؟! أقوم فيكم مستصرخاً أناديكم متغوثاً، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً!. ومنه قوله عليه السلام في كلام له: وددتُ أني صارختُ معاوية صَرْفَ الدينار بالدرهم، أو كما قال عليه السلام،

(1) في (ف): " على ".

(2)

انظر 1/ 229 - 233.

(3)

تقدم تخريجه 1/ 229 - 330.

(4)

" ثقات " ساقطة من (ف).

ص: 221

وفي كلاماته عليه السلام لأصحابه من هذا شيءٌ كثير.

ومنه (1) قول الخطيب: نسينا كل واعظةٍ، وأمِنَّا كُلَّ جائحة، فهذا لو كان (2) على حقيقته، كان كذباً ينقُض الوضوء على المذهب.

وقول الخطيب أيضاً: كأن الحق فيها على غيرنا وجب، ولو كان على حقيقته، كان جرحاً، لأن هذا الكلام لا يصدُق إلَاّ على من يضيع الواجب، ومن كان محافظاً عليه، لا يقال: إنه كمن لم يجب عليه واجب، وإنما ذكرت هذه الجملة، لأن السيد احتج على جرح الزهري بأشياء من جملتها موعظةٌ كتبها إليه بعضُ إخوانه في الله، وقد غفل السيد في الاحتجاج هذا على الجرح لوجوهٍ:

أولها: أن ذلك لا يدل على الجرح حتَّى يظهر من الواعظ اعتقاد فسق الموعوظ أو تأثيمه، لكنا قد بيَّنا ما يقتضي خلافه، فإن الوُعَّاظ، وإن لم يعتقدوا قُبح (3) الشيء ولا إثم فاعله، فإنهم يُوردون من قوارع الوعظ وزواجر التذكير ما يُريك وقوع المكروهات من أهل العقول الراجحة في أرفع مراتب القبح تنفيراً عن سَفْسَاف الأمور وترغيباً في معاليها.

وثانيها: إنا وإن سلمنا دلالة الموعظة على استقباح الواعظ للفعل (4) على الحقيقة، لكن لا نسلِّم أنه استقباحٌ قطعيٌّ، فقد يعتقد الواعظ تحريم الشيء، لأن عنده أنه حرامٌ بالنظر إلى اجتهاده، وهو لا يدري ما مذهبُ صاحبه فيه، فيزجره عنه زجر معتقدٍ للتحريم، ولو سُئِلَ عن تأثيم الموعوط، لتوقَّف فيه حتَّى يدري بعذره، فإذا أخبره (5) أنه يستحلُّه، وبين له الوجه، عَذَرَهُ.

وثالثها: أنا وإن سلمنا اعتقاد الواعظ لقبح الشيء على سبيل القطع، لم يكن لنا أن نقلِّده في استقباحه، وإنما نقبله في أن ذلك القبيح وقع من

(1)" ومنه " ساقطة من (ف).

(2)

في (ش): " ولو كان ".

(3)

في (ش): " قبيح ".

(4)

تحرفت في (ف) إلى: " للعقل ".

(5)

في (ف): " أخبرته ".

ص: 222

الموعوظ، لا في أن ذلك الفعل نفسه قبيحٌ.

ورابعها: أنا وإن علمنا إن ذلك الفعل قبيحٌ، فإنه لا يجب الجرح حتى يكون الذي فعله غير متأوِّلٍ في فعله على القوي المختار، كما تقدم بيانه.

وخامسها: أنا وإن علمنا قبح الفعل وصدوره من (1) فاعله عمداً من غير تأويلٍ، فإنه لا يدل على الجرح مطلقاً، بل القوي المختار ما تقدم من أن الجرح لا يكون إلَاّ بكبيرة أو بغَلَبَةِ المساوىء، أو ما يدلُّ على (2) الخِسَّةِ، فأمَّا الجرح بكل ذنبٍ، فلا يوجد معه عدلٌ غالباً، أقصى ما فيه أن يخالف السيد في هذا، لكن هذه مسألةٌ ظنيةٌ خلافيةٌ، ليس له أن ينكر فيها على أحدٍ، وقد تقدم ذكرُ الدليل فيها وذِكْرُ من قال بذلك، فخُذْه من أول الكتاب.

فإذا عرفت هذا، تبين لك أن شرط الجرح عزيزٌ، ولهذا لم يقبل المحققون الجرح المطلق، ولا قبِلُوا الجرح من ذي الإحنة، ولا جرحوا بما يجري بين الأقران عند الغضب والسِّباب ونحو ذلك.

وبعد الفراغ من هذه الفائدة، أتكلم على ترجمة الزهري (3) بما علمت من كتب أصحابنا وكتب المحدثين، وأجعل الكلام مرتَّباً مراتب (4):

المرتبة الأولى: في اسمه وبعض نسبه:

والذي حملني على ذكره أن بعض أهل المعرفة من الأصحاب نازعني في ابن شهابٍ لما رأيناه في كتاب " أصول الأحكام " مروياً عنه، وهو كتاب الإمام أحمد بن سليمان، فقلت له: هو الزهري، فقال: ليس هو الزهري، منزِّهاً

(1) ساقطة من (ف).

(2)

" على " ساقطة من (ف).

(3)

في (ف): " في مذهب الزهري ".

(4)

انظر ترجمة الزهري في " تاريخ دمشق " لابن عساكر، و" تهذيب الكمال " 1268، و" سير أعلام النبلاء " 5/ 326.

ص: 223

للإمام أحمد بن سليمان عن الرواية عن الزهري، وأصر على ذلك، فالله المستعان.

فأقول: الزهري: هو أبو بكر محمد بن مسلم [بن عبيد الله] بن عبد الله بن شهاب [بن عبد الله] بن الحارث بن زهرة القرشي الزهري المدني، يقال له: ابن شهابٍ، نسبةً إلى جدِّ أبيه شهاب بن الحارث، والزهري نسبة (1) إلى جده زهرة.

ولا أتحقَّقُ في اسمه اختلافاً، إلَاّ أنه وقع في نسخة من كتاب " الشجرة في الفقه " للشيخ أحمد بن محمد الرصاص: محمد بن سلمة بن شهاب الزهري، فالظاهر أنه غَلَطٌ من الكاتب، وكذا وقع في نُسخةٍ من " شرح العيون " للحاكم رحمه الله: محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري بالتقديم والتأخير في أبيه وجده، وهذا قريبٌ، فقد وقع للبخاري وغيره مثل هذا كما ذكره ابن الصلاح في كتابه " علوم الحديث "، وقد يحتمل الاختلاف، فقد اختلفوا في أسماء عدةٍ من الرواة والله أعلم.

المرتبة الثانية: في عقيدته ومذهبه، أمَّا عقيدته، فذكر الحاكم رحمه الله في " شرح العيون " أنه كان من أهل العدل والتوحيد، قال الحاكم رحمه الله: وكان ممن خرج مع زيد بن عليٍّ عليه السلام، هكذا بصيغة الجزم، ولم يقل: ورُوي بصيغة التمريض، ذكره الحاكم في فصلٍ أفرده لذكر من ذهب من المحدثين إلى مذهب أهل العدل والتوحيد، فذكره فيمن ذهب إلى ذلك من علماء المدينة، وقول الحاكم: إنه ممن خرج مع زيد بن علي غريبٌ، لم يذكره الذهبي، والزيادة من الثقة مقبولةٌ في التحريم والتحليل المنقول عن صاحب الشريعة، كيف إلَاّ فيما يتعلق بالزهري.

وقال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في ترجمة علي عليه السلام من

(1)" نسبة " ساقطة من (ش).

ص: 224

كتاب " الاستيعاب "(1) روي عن سلمان وأبي ذرٍّ والمقداد وخبَّابٍ وجابرٍ وأبي سعيدٍ وزيد بن أرقم: أن علي بن أبي طالبٍ أول من أسلم، وفضَّله هؤلاء على غيره، قال: وهو قول ابن شهابٍ الزهري. انتهى.

وفي هذا نسبته إلى التشيع، فإن تفضيله عليه السلام هو الخصيصة التي امتاز (2) بها الشِّيعة، على ما ذكره العلامة عبد الحميد بن أبي الحديد، والذهبي ليس له ولوعٌ بذكر ما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام، إما عصبية، وإما تقية!.

وأما مذهب الزهري، فكان مجتهداً مفتياً لا مستفتياً، ذكره بذلك غير واحدٍ، منهم الشيخ أحمد بن محمد الرصاص في كتاب " الشجرة "، فإنه عدَّ فيه أهل الاجتهاد من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وممن نُقِلَتْ عنه الفتيا، فذكره فيهم، وكذلك ابن حزم ذكره في أهل الاجتهاد من علماء هذه الأمة، وكذلك علي بن المديني العلامة المعتزلي (3) المحدث، فإنه قال: أفتى أربعة: الحكم وحماد وقتادة والزهري، والزهري عندي أفقههم (4).

المرتبة الثالثة: في ذكر بعض شيوخه، وبعض من أخذ العلم عنه، وأين رُوِيَ حديثه.

(1) 3/ 27.

(2)

في (ف): " امتازت ".

(3)

وصفه بذلك، فيه نظر، فكونه أجاب إلى القول بخلق القرآن في المحنة لا يعني أنه قد انتحل مذهب الاعتزال، فإنه رحمه الله إنما أجاب خوفاً من العذاب الذي لم يكن يُطيقه، ولم يكن في قلبه شيء مما أجاب إليه، ومع ذلك، فقد اعتذر عن ذلك وتاب وأناب وكفَّرَ من يقول بخلق القرآن كفراً عملياً.

قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت علي بن المديني على المنبر يقول: من زعم أن القرآن مخلوق، فهو كافر، ومن زعم أن الله لا يرى، فهو كافر، ومن زعم أن الله لم يكلِّم موسى على الحقيقة، فهو كافر.

وقال عثمان الدارمي: سمعت ابن المديني يقول: هو كافر -يعني من قال: القرآن مخلوق-. انظر " تهذيب التهذيب " 7/ 349 - 357، و" طبقات الشافعية " 2/ 145 - 150.

(4)

أورده ابن عساكر في " تاريخ دمشق "(128) و (204).

ص: 225

أما شيوخه، فمنهم: زين العابدين علي بن الحسين، وولده سيد المجاهدين زيد بن علي عليهم السلام، وسيد التابعين سعيد بن المسيب، لازمه ثماني سنين، وقال مالك: عشر سنين وتفقَّه به، وأكثر عنه، ومنهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن ثعلبة، ومحمود بن الربيع، وسنين أبو جميلة، وأبو الطفيل عامر، وعبد الرحمن بن أزهر، وربيعة بن عبَّادٍ الدِّيلي، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، ومالك بن أوس بن الحدثان، وعلقمة بن وقاص، وكثير بن العباس، وأبو أُمامة بن سهلٍ، وعروة بن الزبير، وأبو إدريس الخَولاني، وقبيصة بن ذُؤيبٍ، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن جبير بن مطعمٍ، ومحمد بن النعمان بن بشيرٍ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، وعثمان بن إسحاق العامري، وأبو الأحوص مولى بني ثابتٍ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعامر بن سعد، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبد الله بن كعب بن مالك، وأبان بن عثمان، وعبادة بن الصامت. فهؤلاء من شيوخه.

وممن روى عنه: الإمام جعفر بن محمد الصادق، وسادات أهل البيت عليهم السلام. ذكره المزي في ترجمة الصادق من كتابه " التهذيب "(1)، وعمرو (2) بن دينارٍ، ومنصور بن المعتمر الصالحان المشهوران، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة وعطاء المفسران (3) التابعيان المشهوران في كتب الفقه والتفسير والحديث، وزيد بن أسلم، وأيوب السختياني، ويحيى بن سعيدٍ الأنصاري، وأبو الزِّناد، وصالح بن كَيْسَان، وعُقيل بن خالدٍ، ومحمد بن الوليد الزُّبيدي، ومحمد بن أبي حفصة، وبكر بن وائلٍ، وعمرو بن الحارث، وابن جريج، وجعفر بن بَرقان، وزياد بن سعدٍ، وعبد العزيز الماجشون، وأبو أويس، ومعمر بن راشدٍ، والأوزاعي، وشعيب (4) بن أبي حمزة، ومالكٌ الفقيه، والليثُ

(1)" تهذيب الكمال " 5/ 75.

(2)

تحرف في الأصول إلى: " عمر ".

(3)

" المفسران " ساقطة من (ش).

(4)

تحرف في الأصول إلى: " سعيد ".

ص: 226

صاحب الخلاف في الفقه، وإبراهيم بن سعدٍ، وسعيد بن عبد العزيز، وفُليح بن سليمان، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق، وسفيان بن حسين، وصالح بن أبي الأخضر، وسليمان بن كثيرٍ، وهشام بن سعدٍ، وهُشيم بن بشيرٍ، وسفيان بن عيينة، وأمم سواهم.

وأما سفيان الثوري، فرحل إليه ليأخذ عنه، فتثاقل عليه، ثم أخرج إليه كتاباً، فقال له: أروِ هذا عنّي، فكره الثوري ذلك منه، وترك الرواية عنه لذلك فقط. ذكره المزي في " التهذيب " في ترجمة الزهري والثوري (1).

وروى الحازمي في " الناسخ والمنسوخ "(2) حديث علي عليه السلام في النهي عن المتعة في خيبر (3) عن الثوري عن شيخ الزهري الحسني بن محمد بن

(1)" تهذيب الكمال " ص 1270 في ترجمة الزهري، ولم يذكره المزي في ترجمة الثوري، كما ذكر المصنف، وانظر النص أيضاً عند ابن عساكر ص 152، والذهبي في " السير " 5/ 338.

(2)

ص 177.

(3)

أخرجه مالك: في " الموطأ " 2/ 542 عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية، ومن طريق مالك أخرجه البخاري (4216)، ومسلم (1407)، والترمذي (1794)، والنسائي 6/ 126، وابن ماجه (1961)، وابن حبان (4143)، وانظر تمام تخريجه فيه.

ويرى ابن القيم رحمه الله كما في " زاد المعاد " 3/ 344 - 345 بتحقيقي مع صاحبي الشيخ عبد القادر الأرنؤوط أن المتعة لم تحرم إلَاّ عام الفتح، وقبل ذلك كانت مباحة، وإنما جمع علي بن أبي طالب بين الإخبار بتحريمها وتحريم الخمر الأهلية، لأن ابن عباس كان يبيحها، فروى له علي تحريمها عن النبي صلى الله عليه وسلم ردّاً عليه وكان تحريم الحُمر يوم خيبر بلا شك، وقد ذكر يوم خيبر ظرفاً لتحريم الحمر، وأطلق تحريم المتعة ولم يقيده بزمن كما جاء ذلك في " مسند الإمام أحمد " بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" حرَّم لحوم الحُمر الأهلية يوم خيبر، وحرم متعة النساء " وفي لفظ 1/ 79: " حرم متعة النساء، وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ". هكذا رواه سفيان بن عيينة مفصلاً مميزاً فظن بعض الرواة أن يوم خيبر زمن للتحريم، =

ص: 227