المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حديث خروج أهل التوحيد من النار والشفاعة لهم - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٨

[ابن الوزير]

الفصل: ‌ حديث خروج أهل التوحيد من النار والشفاعة لهم

وذكره الهيثمي في " أخبار الأنبياء "(1)، وقال في المرفوع: رجاله رجال الصحيح.

قال ابن كثير: تفرَّد به أحمد، ثم قال: وقد رواه ابن حبان في " صحيحه "(2) من طريق معمر عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة. قال معمر: وأخبرني من سمع الحسن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.

قلت: وقول ابن كثير تفرد به أحمد يعني بذلك السند والسياق لا بجملة الحديث. و" ردُّ الله عين الملك " في " جامع الأصول "(3) منسوب إلى البخاري ومسلم، والوجه في الحديث عندي هو الأول، وإنما ذكرت هذا الوجه الثاني لمجرد الاحتمال.

الحديث السادس:‌

‌ حديثُ خروجُ أهل التوحيد من النار والشفاعة لهم

، وقد نظمه السيدُ في سلك هذه الأحاديث، وهو أهون منها حُكماً، وأسهلُ تأويلاً، وأنا أذكر ثلاث فوائد: فائدة في مُناقضته، وفائدةً في حكمه، وفائدة في تأويله.

أمَّا الفائدة الأولى: فاعلم أن السيد ذكر في تفسيره ما يدلُّ على أن هذه المسألة حسنةٌ غير قبيحةٍ، معروفةٌ غير منكرةٍ، وذلك في غير موضعٍ، منها في تفسير قوله تعالى:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 86 - 87]، فإنه فسَّر العهد بتفسيرين لم يضعِّفْ واحداً منهما: الأول (4): الإيمان والعمل الصالح، والثاني: قول لا إله إلا الله، وإنما يكون قولاً ثانياً من غير العمل الصالح، وقوى هذا التأويل بروايته لحديث العهد الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه عملٌ، ولم يتأوله، ولا

(1)" مجمع الزوائد " 8/ 205.

(2)

برقم (6223).

(3)

8/ 516، وهو عند البخاري (1339) و (3407)، ومسلم (2372).

(4)

" الأول " ساقطة من (ف).

ص: 372

ضعَّفه (1) مع قوته في سياق الآية، لأنها في المجرمين المسُوقين إلى النار، والتي قبلها في المتقين الأخيار، ولذلك ذكر في قوله {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} أنه ردٌّ لقول عُبَّاد الملائكة من المشركين الذين يزعمون أنها تشفع لهم.

وكذلك صنع في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. قال في أحد التفسيرين: التقدير: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة لأحدٍ إلَاّ لمن (2) شَهِدَ بالحق، وهو التوحيد، وهو قول لا إله إلَاّ الله. انتهى بحروفه.

وكذلك روى الخلاف بغير إنكارٍ في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِه} [فاطر: 32] الآية، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مقتَصِدُنا ناجٍ، وظالِمُنا مغفورٌ له "(3).

والعجب منه أنه حكى قول من يُجيز الشفاعة لأهل الكبائر مفسِّرَاً بذلك لكلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في هذه الآيات الثلاث، وقرَّره (4) ولم يحكِ في هذه الآية ما حكى (5) عن بعض أهل البيت عليهم السلام من أنها خاصةٌ بهم، مع إظهاره التشيُّع.

وكذلك قال بعد إجازته هذا التفسير للشيخ إسماعيل بن أحمد في نُسخته

(1) في (ف): " يضعفه ".

(2)

في (ف): " من ".

(3)

أخرجه من حديث عمر بن الخطاب العقيلي في " الضعفاء " 2/ 443، وفيه الفضيل بن عَميرة القيسي، قال فيه العقيلي: لا يتابع على حديثه، وقال الذهبي في " الميزان " 3/ 355: منكر الحديث.

وأخرجه البيهقي في " البعث والنشور "(61) من طريق ميمون بن سياه، عن عمر، ولم يسمع منه.

وانظر " الدر المنثور " 7/ 25، و" فيض القدير " 4/ 79.

(4)

" وقرره " ساقطة من (ش).

(5)

في (ف): " يحكى ".

ص: 373

ما لفظه: كتبه الفقير إلى رحمة ربه، أسيرُ ذنبه، الراجي رحمته لا حُسْنَ كسبه، وهو باق إلى الآن بخطِّ يده في نسخة الشيخ، وهو شاهدٌ بذلك.

وكذلك ختم الزمخشري " كشافه "(1) بنحو هذا الدعاء، وذلك دليلٌ على أن الرجاء هو الفطرة، إذا غَفَلُوا من العصبية، نطقوا بها.

وأما الفائدة الثانية: فاعلم أن المخالف في هذه المسألة، وإن كان مخالفاً لمذهب (2) كثيرٍ من العترة عليهم السلام، فإنه عندهم دون المخالف فيما تقدم من الأحاديث، فقد صح اختلاف الملائكة في الذي قتل مئةً، ثم تاب، فدل على نجاة الفريقين، وأن أهل الرجاء على الحق، وحكم المخالف عند الوعيدية في هذه المسألة مثل حكم المعتزلة عند الزيدية سواءٌ؛ لأنه لا يكفر بذلك، ولا يفسُق، وقد ذكرت فيما تقدم نصَّ القاضي شرف الدين على ذلك في " تذكرته "، وكذلك الشيخ مختار المعتزلي في كتابه " المجتبى ".

وذكر الفقيه العلامة حُمَيْدُ بن أحمد المحلِّي في كتابه " عمدة المسترشدين في أصول الدين " أن القائلين بالشفاعة لأهل الكبائر والخروج من النار صنفان: عدليَّةٌ وغير عدليَّةٍ. قال: ويقال: إن أول من أحدث ذلك (3) الحسن بن محمد بن الحنفية، وذكر للعدلية القائلين بذلك مذاهب أربعة، ذكر هذا في فصلٍ عقدَهُ في ذكر المُرجئة، وذكر في كتابه " محاسن الأزهار " شيئاً من أحاديث الرجاء، ولم يتأوَّلْهُ، من ذلك ما ذكره في شرح قول المنصور بالله عليه السلام من نجلِ السبطين: بيّن لنا، وقال في آخر كلامه في " عمدة المسترشدين ": وكل الفِرَقِ أو أكثرها تميل إلى الإرجاء إلَاّ الزيدية.

قلت: سوف يأتي أيضاً أن في الزيدية من يقول بخروج أهل التوحيد من النار (4).

(1) 4/ 303 - 304.

(2)

في (ش): " لمذاهب ".

(3)

" ذلك " ساقطة من (ف).

(4)

" من النار " ساقطة من (ف).

ص: 374

أما لفظُ الإرجاء، ففي إطلاقه على أهل هذه المقالة وهمٌ فاحشٌ، وقد مرَّ تحقيقه في الوهم الثامن والعشرين.

وقال الفقيه حُميدٌ عند ذكر المعتزلة، وقد كان يذهب بعض متقدِّميهم إلى المنع من خُلُود الفُسَّاق في النار، وذكر الحاكم في " شرح العيون " مثل كلامِ حُميدٍ إلَاّ اليسير منه، ولعلَّه نقل عنه، ذكره في فصلٍ عقده في ذكر المرجئة، ونسب الإرجاء إلى جِلَّةٍ وافرةٍ من أكابر المعتزلة، ذكره في طبقاتهم عند الكلام على تراجمهم، حتى نسب إلى زيد بن علي مخالفة المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين، ذكره في ترجمةٍ لزيدٍ مختصرةٍ بعد ترجمته البسيطة، رواه عن صاحب " المصابيح "، وكذلك لم ينقِم أحدٌ من أهل السنة على زيد بن علي المخالفة في شيءٍ من الاعتقاد، ويعضُدُه ما رواه القاضي شرف الدين حسن بن محمدٍ النحوي في " تذكرته " عن زيد بن علي عليه السلام أنه يقول بالصلاة على أهلِ الكبائر من أهل الملة، وهو عنه أوثق راوٍ، وأعرف حاكٍ، بل روى الإمام (1) المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام، عن زيد بن عليٍّ عليه السلام (2) أنه يذهبُ إلى الرجاء لأهل التوحيد كقول أهل السنة. رواه لي حفيده السيد صلاح الدين عبد الله بن الهادي ابن أمير المؤمنين.

وقال الحاكم في فصلِ عقده فيما أجمع عليه أهل التوحيد والعدل: إن اسم الاعتزال صار في العرف لمن ينفي التشبيه والجَبْر، سواءٌ (3) وافق في الوعيد أو خالف، وافق في مسألة الإمامة أو خالف، وكذا في فروع الكلام (4)، ولذا تجدُ الخلاف بين الشيخين والبصرية والبغدادية تزيد على الخلاف بينهم وبين سائر المخالفين، ولذا تراهم يعدُّون من نفى الرؤية، وقال بحدوث القرآن ومسائل العدل (5) معتزلياً، وإن خالف في الوعيد، ككثيرٍ من مشايخنا، منهم

(1) في (ش): " عن الإمام ".

(2)

عبارة: " عن زيد بن علي عليه السلام " ساقطة من (ش).

(3)

" سواء " ساقطة من (ش).

(4)

" الكلام " ساقطة من (ف).

(5)

" ومسائل العدل " ساقطة من (ف).

ص: 375

الصالحي، ومنهم (1) الخالدي (2) وغيرهما.

ولذلك ترى من خالف في هذه الأصول لا يُعَدُّ منهم، وإن قال بالوعيد كالنَّجاريَّة والخوارج وغيرهم، وللقاضي العلامة عبد الله بن حسن رحمه الله كلامٌ مستوفى في هذا، قال في " تعليق الخلاصة ": الإرجاء شائعٌ في جميع فِرَقِ الإسلام، حتى قال في المرجئة: وهم صنفان: عدليةٌ، وجبريَّةٌ، فمن أهل العدل: أبو القاسم البُستي (3) وغيره من المعتزلة، منهم: محمد بن شبيب، وغيلان الدمشقي رأس المعتزلة، ومُوَيْسُ بن عمران، وأبو شمر (4)، وصالح قبَّة، والرقاشي، واسمه الفضل بن عيسى، والصالحي، واسمه صالح بن عمر، والخالدي، وغيرهم زاد الشهرستاني (5) مع هؤلاء بشر (6) بن غياث المريسي، والعتابي. انتهى.

قال القاضي في تعليقه: ومن الفقهاء القائلين بالعدل سعيد بن جبيرٍ التابعي، وحماد بن [أبي] سليمان، وأبو حنيفة وأصحابه، وهؤلاء مُجمِعُون على أن الفُسَّاق من أهل القِبْلَةِ لا يُقطَعُ بخلودهم في النار،، منهم من قال: آيُ الوعيد متعارضةٌ فنقف، وهذا مرويٌّ عن جماعةٍ، منهم أبو حنيفة، ومنهم من تردَّد في دُخولهم النار، وقطع على خروجهم إن دخلوا، ومنهم من قطع بدخولهم، وتردد في خروجهم، ومنهم من جوَّز الدخول وعدمه، والخروج وعدمه (7) وهذا هو مذهب أبي القاسم البستي، وكان من أصحاب المؤيد بالله عليه السلام من الزيدية. انتهى كلامه في " التعليق ".

وكان يقول: نحن في الحقيقة مرجئةٌ؛ لأنَّا نطمع أن يدخلنا الله في رحمته،

(1)" ومنهم " ساقطة من (د) و (ف).

(2)

كتب فوقها في (ش): و" الجارودي ظ ".

(3)

في (ش): " السبتي ".

(4)

في (ش): " هشيم ".

(5)

في " مقالات الإسلاميين " 1/ 142.

(6)

تحرف في (ش) إلى: " بشار ".

(7)

عبارة " والخروج وعدمه " ساقطة من (ش).

ص: 376

وكان حي السيد العلامة داود بن يحيى يميل إلى هذا القول وينصُره، ويحتج له.

وأخبرني من أثِقُ به أنه سمعه يقول: تتبعتُ آيات القرآن، أو قال: آيات الوعيد، فوجدتها محتملةٌ أو متعارضة، وذهب إلى هذا من أئمة الزيدية الدعاة يحيى بن المحسن المعروف بالإمام الداعي، ذهب إلى هذا، واعترض عليه به، ورواه عنه حي السيد صلاح الدين بن الجلال رحمه الله.

وكان حي الفقية العلامة علي بن عبد الله رحمه الله يذهبُ إلى هذا، سمعته منه، وأملى عليَّ الدليل فيه، وعلَّقتُه عنه.

وحدثني من أثق به عن الفقيه محمد بن الحسن السودي نفع الله به أنه يرى هذا، وسمعتُ بمثله عن حي الفقيه العالم يحيى التِّهامي رحمه الله.

وحدثني الفقيه علي بن عبد الله بمثل هذا عن بعض (1) علماء الزيدية الأكابر ممن كان قبله، ولكني لم أحفظِ اسمه (2)، فهو كما قال القاضي رحمه الله مذهب شائع في جميع فِرَقِ الإسلام.

وفي رجال " الصحيحين " وغيرهما جماعةٌ وافرةٌ ممن احتج بهم أهلُ الصحيح من المرجئة الخُلَّص. فأما الرجاء فلم يختلف فيه أئمة الحديث (3).

فمِمَّن نُسِبَ من أهل الحديث إليه الإرجاء من ثقاة الرواة: ذرُّ بنُ عبد الله الهَمْدَاني التابعي أبو عمر الكوفي، حديثه في كتب الجماعة كلهم. قال أحمد: هو أول من تكلم في الإرجاء.

وأيوب بن عائِذٍ الطائي، حديثه عند البخاري ومسلم والترمذي.

(1)" بعض " ساقطة من (ش).

(2)

جاء في هامش (ش) ما نصه: لعله الفقيه حاتم بن منصور، فإن ذلك عنه معروف.

(3)

في (ف): " المحدثين ".

ص: 377

وسالم بن عجلان الأفطس، في " البخاري "، و" أبي داود "، و" النسائي "، و" ابن ماجه "، وكان داعيةً إليه.

وشبابة بن سَوَّار أبو عمرو المدائني، وكان داعيةً إليه، وقيل: إنه رجع.

وعبد الحميد بن عبد الرحمن أبو يحيى الحماني الكوفي، حديثه عند البخاري ومسلم، وابن ماجه، وكان داعيةً إليه.

وعثمانُ بن غِيَاث الرَّاسبي البصري في " البخاري "، و" مسلم "، و" أبي داود "، و" النسائي ".

وعمر بن ذرٍّ الهمداني الكوفي من كبار الزُّهاد والحُفَّاظ. كان رأساً في الإرجاء حديثه في " البخاري " و" مسلم ".

وعمرو بن مرة الجُمَلِيُّ، أحد الأثبات، من صغار التابعين. حديثه عند الجماعة.

وإبراهيم بن طهمان الخراساني، أحد الأئمة، حديثه عندهم، وقيل: رجع.

ومحمد بن خازم أبو معاوية الضرير، أثبت أصحاب الأعمش، حديثه عندهم.

وورقاء بن (1) عمر الكوفي، اليشكُري (2).

وكذلك يحيى بن صالحٍ الوُحاظيُّ الحمصي.

وعبد العزيز بن أبي روّاد الحمصي استشهد به البخاري، وروى عنه الأربعة.

(1) تحرف في (ش) إلى: " أبو".

(2)

في (ش): " السكري "، وهو تحريف.

ص: 378

فهؤلاء ثلاثة عشر من رجال البخاري، ذكرهم ابنُ حجر في " مقدمة شرح البخاري "، والذهبي في " الميزان "، فكيف إذا تتبعَ سائر الرواة من الكتب الستة وغيرهم، فلقد ذكر الذهبي في ترجمة هشام بن حسان من " الميزان " (1) عن هُدبةَ بن خالدٍ أحد رجال البخاري ومسلمٍ أنه يقول عن شعبة الإمام: إنه يرى الإرجاء، بل (2) ذكر في ترجمة الفضل بن دُكين (3) عن ابن معين أن الفضل إذا قال في رجلٍ: كان مرجئاً، فاعلم أنه صاحب سُنَّةٍ لا بأس به، وإذا (4) أثنى على رجلٍ أنه جيد (5) فهو شيعيُّ. قال الذهبي: هذا القول من يحيى يدل على أنه كان مائلاً إلى الإرجاء، وهو خيرٌ من القدر بكثيرٍ.

قلت: ويحتمل أن يحيى يعني أن الفضل يُسمي الرجاء إرجاءاً، تحامُلاً على أهل السنة، أو اعتقاداً منه، وعدم معرفة للفرق بينهما، بل هذا الاحتمال أقوى، وإلا لَزِمَ أن يكون ابن معين يعتقد أن الإرجاء مذهب أهل السنة كلهم، وهذا باطل.

وأما أول من تكلم في الإرجاء، فقيل: ذرُّ بن عبد الله كما تقدم عن أحمد، وقيل: الحسن بن محمد بن الحنفية كما في " الملل والنِّحل "(6)، و" تهذيب " المِزِّيِّ (7)، وغيرهما.

وفي " البخاري "، و" مسلم "، عن ابنِ مسعودٍ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمةً، وقلتُ كلمةً، أو: وقلتُ الثانية. قال: " من مات يُشرِكُ بالله، دخل النار "، وقلت: من مات لا يشرك بالله دخل الجنة (8). وهو الحديث السابع عشر بعد المثة من مسنده من " جامع المسانيد " لابن الجوزي، وهذا يقتضي بظاهره مذهب المرجئة، لأنه قَطَعَ به، ولم يقفه على المشيئة، والله أعلم.

(1) 4/ 296.

(2)

" بل " ساقطة من (ف).

(3)

في " الميزان " 3/ 350 - 351.

(4)

في (ف): " فإذا ".

(5)

" أنه جيد " ساقطة من (ف).

(6)

1/ 144.

(7)

6/ 318.

(8)

تقدم تخريجه 5/ 473.

ص: 379

وفي " الملل والنحل "(1) للشهرستاني في ذكر تسمية المرجئة على ما نقل. الحسنُ بنُ محمد بن عليٍّ بن أبي طالبٍ، وسعيدُ بن جُبير، وطَلْقُ بن حبيبٍ، وعمرو (2) بن مرة، ومُحاربُ بن دِثَارٍ، ومُقَاتلُ بنُ سليمان، وذرٌّ، وعمر بن ذر، وحمادُ بنُ [أبي] سليمان، وأبو حنيفة، وأبو يُوسف، ومحمدُ بنُ الحسن، وقديد بن جعفر.

وأصحاب مذاهب (3) فِرَق المرجئة يونس النميري، وعُبيد المكتب، وغسَّان الكوفي، وأبو أيوب، وأبو معاذ التُّومَني، وصالح بن عُمر (4) الصالحي، يُنسب إليهم فرقُ المرجئة اليونُسيَّة والعُبيدية، والغسانية، والثوبانية، والثُّومنية والصالحية.

وفي " الجامع الكافي في مذهب الزيدية " عن محمد بن منصور في القول (5) من مات على كبيرةٍ أنه قال: والمؤمن المُذنب لله سبحانه فيه المشيئة: إن غفر له فبِفَضْلِ، وإن عَذَّب فبِعَدْلٍ.

قلت: وهذا يمنعُ في تفسير المؤمن بمن لا يستحق العقوبة.

وقال في مسألةٍ بعد هذا في خُروج أهل التوحيد من النار، وقد سُئِلَ في ذلك: هذا مما تنازع العلماء فيه، وفي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مما يسعنا أن نردَّ علمَه إلى الله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].

وحكى عن الحسن بن يحيى عليه السلام قريباً من هذا، وهذا منهما توقُّفٌ يستلزم التجويز.

(1) 1/ 146.

(2)

تحرف في (ف) إلى: " حرب ".

(3)

في (ف): " مذهب ".

(4)

تحرف في (د) و (ف) إلى: " عمرو".

(5)

" في القول " ساقطة من (ف).

ص: 380

وفي كتاب " علوم آل محمد "، ويعرف أيضاً " بأمالي أحمد بن عيسى " تأليف محمد بن منصور من حديث عليِّ بن أبي طالب عليه السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من قرأ في دُبُرِ كل صلاةٍ مكتوبة مئة مرةٍ قل هو الله أحد، جاز على الصِّراط يوم القيامة وهو مُطَّلِعٌ في النار، من رأى فيها، دخلها بذنبٍ غير شِرْكٍ، أخرجه فأدخله الجنَّة " رواه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جَدِّه، عن عُمر بن علي عليه السلام، عن علي به (1) رواه في باب ما يُقال بعد الصلاة (2).

فهذا كتاب الزيدية المعتَمَد قديماً وحديثاًً، وتقريرهم هذه الرواية، عن عليٍّ عليه السلام وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنافي ما عليه جماعة المتكلمين من تنزيه أهل البيت عليهم السلام عن هذا على سبيل القطع، وتضليلِ من قال به، أو رواه عن أحدٍ منهم، لا سيَّما وسندُه عن أهل البيت عن آبائهم ما فيه (3) إلا محمد بن منصور، ومحمد بن راشد من ثقاتِ الشيعة كلاهما.

ومما يُوضِّحُ مخالفة أهل البيت للمعتزلة في مسألة الوعيد أن النَّقَلَةَ لمذهبهم في الفروع اتفقوا على أن الإسلام عند أهل البيت وكثيرٍ منهم شرط في وجوب الواجبات الشرعية، كالصلاة والزكاة والحج والصوم، ونقلوا عنهم صحة الصلاة من الفاسق صاحب الكبيرة إذا كان من أهل الشهادتين المصدقين بالله ورسُله، وهذا يستلزم الحكم بأنه مسلمٌ، والمعتزلة تمنع من إطلاق اسم المؤمن (4) على صاحب الكبيرة. يُوَضِّحُ ذلك أنهم عليهم السلام لم يوجبوا على من فعل كبيرةً إعادة الحجِّ، وأوجبوا إعادته على من ارتدَّ من الإسلام، والحجة

(1) قوله: " عن علي به " ساقط من (ش).

(2)

وهو حديث ضعيف جداً. عيسى بن عبد الله بن محمد، قال عنه الدارقطني: متروك الحديث، وقال ابن حبان: يروي عن آبائه أشياء موضوعة. انظر " الميزان " 3/ 315.

(3)

في (ف): " فيهم ".

(4)

في (د) و (ف): " إطلاق المسلم والمؤمن ".

ص: 381

على وُجوب الإعادة على المرتدِّ القطع بأنه قد حَبِطَ عمله، إذ لا نصٌّ شرعي فيه، فتأمَّل ذلك.

فإن قلت: أليس من خالف إجماع العترة فَسَقَ؟

قلت: ليس لك في هذا حجةٌ لوجوه:

الأول: عدم تسليم الإجماع ومستند المنع ما ذكره المنصور بالله من امتناع الحُكم بذلك، ويُوضِّحُه ما ذكره ابن حزم في " جمهرة النسب " من ذكر عُلمائهم وأئمتهم الذين (1) لم يسمع بهم قط، وما ذكره أهل التواريخ والطبقات من ذلك، وما تقدم من نقل الخلاف عن مشاهير أئمتهم وكتبهم.

الوجه الثاني: أن الإجماع الذي يحتج به هنا لا يكون إلَاّ القطعي دون الظني، ولم يحصُل الظني، كيف القطعي؟ ولكن أين من يعرف شروط القطعِ ويعتبرها بإنصاف؟

الثالث: أن الخصوم من المتكلمين (2) من الزيدية لا يلتزمون هذا قطعاً، فقد أجمع أهل البيت عليهم السلام أو أهل عصر منهم (3) على أن المعتزلة غيرُ فُسَّاقٍ، مع أنهم قد خالفوا إجماع أهل البيت عليهم السلام في بعض مسائلِ الإمامة، وفي التقديم (4)، وفي جواز الخلافة في قُريش، وفي أن من سبق بالعقد من سائر بطون قريشٍ انعقدت إمامته، فلو دعا بعده (5) أحدٌ من أهل البيت، وحاربه، كان القائم عندهم باغياً فاسقاً، يجب (6) حربُه، ويجوز قتله، وإن كان أكبر أئمة الزيدية. هذا مذهبُ المعتزلة بغير شكٍّ، فمع هذا لم يفسِّقْهُم أهلُ البيت عليهم السلام، وقد ذكر غير واحدٍ منهم (7) من عُلماء الزيدية في الفروق

(1) في (ش): " الذي ".

(2)

" من المتكلمين " ساقطة من (ف).

(3)

في (ش): " وأهل عصرهم ".

(4)

في (ش): " التقدم ".

(5)

في (ش): " دعاه ".

(6)

في (ش): " يجوز ".

(7)

" منهم " ساقطة من (د) و (ف).

ص: 382

بين إجماع الأمَّة وإجماع (1) العترة أن مُخالِفَ إجماع الأمة يُفَسَّقٌ، ومخالف إجماع العترة لا يفسق، والوجه في ذلك أنه لم يَرِدْ في مخالفة العترة وعيدٌ في القرآن كما ورد ذلك في حق الأمة.

وأما الوعيد الوارد في الأحاديث، فأُحاديُّ، لا يجب التفسيق به، مع (2) أن التفسيق بمجرد (3) الوعيد مختَلَفٌ فيه، وقد توعّد الله على كل صغيرٍ وكبيرٍ (4) في قوله تعالى:{ومن يعمل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهْ} [الزلزلة: 8].

وقد أوضحتُ في كتاب " إيثار الحق على الخلق "(5) فائدتين لم أذكرهما هنا.

إحداهما: بيان أنه لا يمكن أن يكون مذهب (6) الوعيدية هنا أحوط، لأن محل الاحتياط العمل (7).

وأما الاعتقاد، فلا يمكن إلَاّ اعتقاد الحق في القطعيات، وترجيح الراجح في المظنونات (8) إلى سائر ما ذكرت في ذلك من الوجوه المفيدة العديدة.

وثانيتهما: أن المختلفين في هذه المسألة على خيرٍ إن شاء الله تعالى ولا كُفِّرَ في أحد القولين إلَاّ من رد ما تواتر من الرجاء والشفاعة بعد تواتره على جهة العِنَادِ، أو جوَّزَ الخُلْفَ على الله تعالى به (9) في الوعد بالخير، أو بلغ حد القنوط المحرم بالإجماع، أو دخل في قوله تعالى:" أنا حيث ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء "(10). وبهذا يُجاب (11) على من تمثَّل بقول القائل من الوعيد:

(1)" وإجماع " ساقطة من (ش).

(2)

في (ف): " على ".

(3)

في (ش): " لمجرد ".

(4)

في (ف): " على كل صغيرة ".

(5)

ص 382.

(6)

" مذهب " ساقطة من (ف).

(7)

" العمل " ساقطة من (ش).

(8)

في (د) و (ف): " الظنون ".

(9)

" به " ساقطة من (ش).

(10)

تقدم تخريجه 5/ 507.

(11)

في (ف): " يخاف ".

ص: 383

إن صحَّ قولُكما، فليس بضائِري

أو صحَّ قولي، فالوَبَالُ عَلَيكُما (1)

والله سبحانه وتعالى أعلم وفي المسألة مباحث كثيرة تركتها اختصاراً.

وأما الفائدة الثالثة: وهي أن الخبر ليس بما يستحيلُ تأويلُه، فالأمر في إمكان التأويل واضحٌ، ولله الحمد.

والعجبُ من السيد كيف ألحق هذه الأحاديث بذلك الفنِّ الأول، فليس بينهما مقارنةٌ. وبيان ذلك أن تلك الأحاديث المتقدِّمة تعلق بالكلام في ذاتِ الله تعالى وصفاته التي لا يجوز فيها التَّغيُّر والنسخ، وهذه الأحاديث تعلق بأفعاله، والتغيُّر والنسخ جائزٌ فيها.

وقد ادعى السيد أن هذه الأحاديث تُناقِضُ قوله تعالى: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [الانفطار: 16] فلنتكلم في فصلين:

أحدهما: في بيان أنها لا تناقض ذلك ولا غيره من عمومات القرآن.

وثانيهما في ذكر وجهٍ من وجوهِ التأويل التي يمكن حملها عليه.

أما الفصل الأول: فاعلم أن قول السيد إنها تناقض قوله تعالى: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} غير صحيح، ولعله -أيده الله تعالى- لا يخفى عليه أن العموم والخصوص لا يتناقضان على القطع في نفس الأمر، بحيث يُقطع بكذبِ أحدهما، وأما الظاهر منهما، فإن وردا فيما لا يصحُّ فيه النسخ، لم يتعارضا، وبنى العموم على الخصوص باطناً وظاهراً، وإن وردا فيما يصح النسخ فيه، لم يتعارضا باطناً، وأما ظاهراً، فإن عَلِمَ المتأخِّر، فلا معارضة بينهما في الباطن ولا في الظاهر، وإن لم يعلم التاريخ، فلا معارضة في الباطن قطعاً، بل يعلم أن

(1) البيت للمعري من قصيدة مطلعها:

قال المنجِّمُ والطبيب كلاهما:

لا تُحشَرُ الأجساد، قلت: إليكما

انظر " اللزوميات " 2/ 433.

ص: 384

أحدهما إما خاص، وإما ناسخ، ولا سبيل إلى تكذيب الراوي، ولا وجهَ لتعذُّر التأويل، وإنما اختلف العلماء في الظاهر من أجل العمل فقط، لا من أجل تعذُّرِ التأويل ولا التناقض في نفس الأمر، فقال الجمهور: إن الظاهر أيضاً لا يتعارض بل يبني العام على الخاص.

قال الشيخ أبو الحسين: وهو الذي عليه علماء الأمصار، ولهذا عملوا بذلك في قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} [الطلاق: 4]، مع قوله تعالى في المطلقات على العموم: إن عدَّتَهُنَّ ثلاثة قُرُوء، وأمثالُ ذلك كثير، فأين التناقض من هذا المُوجب للقطع بتكذيب الراوي وجرحه؟ هذا لم يقل به أحدٌ من الأولين ولا من الآخرين، وما كان السيد يعرف القرآن العظيم.

أين هو من قوله تعالى في {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، مع قوله تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، مع أنه قد كان نفى الخُلَّةَ في يوم القيامة، فكان يلزم السيد أن هذا متناقضٌ متكاذب، وكذلك قد كان نفى الشفاعة في تلك الآية، ثم أثبتها في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن، مثل قوله تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، أي: الشفاعة له كما يأتي بيانه، وذلك مثل قوله تعالى:{إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقوله في المجرمين المَسُوقين إلى النار:{إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87].

وقد أجمعت الأمة والعترة على ثبوت الشفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن اختلفوا لمن هي، فلم يكن ذلك متناقضاً مُتكاذِباً. والقرآن مشحونٌ من العموم والخصوص، حتى قال بعض العلماء: جميع ما في القرآن من العموم مخصوصٌ إلَاّ قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، فلو كان التخصيص تكذيباً للعموم ونقضاً له، لكان القرآن أو أكثرُه منقُوضاً مُتكاذِباً، تعالى الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً.

وإذ قد بلغ السيدُ إلى هذه الغاية في إنكار الجليَّات، فلنذكرِ الدَّليل على

ص: 385

أن ذلك ليس يتناقض، وإلا فقد كنتُ أتوهم أن أحداً من المميِّزين لا يحوج إلى ذكر ذلك.

فأقول: الدليلُ على أن الخصوص لا يُناقِضُ العموم وجهان:

أحدهما: معارضة وهي (1) أن وجود العُموم والخصوص في كتاب الله تعالي معلومٌ بالإجماع، بل بالضرورة، وهو مصُونٌ عن التناقض، والخصم معارضٌ بعمومات الوعد بالمغفرة على بعض الأعمال كما سيأتي.

وجوابنا في الوعيد مثل جوابه في الوعد سواءٌ (2) ألا ترى إلى قوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ} [النساء: 124]، و [طه: 112]، [والأنبياء: 94]، في ثلاث آيات والقول في الصدقة وحدها:{إن تُقْرِضُوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم} [التغابن: 17]، وبقوله:{ومن يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]، و [التغابن: 16]، وأمثال ذلك كثيرٌ كما سيأتي.

وثانيهما: على طريق التحقيق، وذلك أن العموم في اللغة العربية قد يطلق ويُرادُ به بعض ما يتناوله، وقد كثُرَ في لغة العريب كثرة عظيمة، حتَّى قال بعض العلماء: إن العموم مشترك، وإنه يُطْلَقُ على البعض حقيقةً من غير تجوُّزٍ، وإلى ذلك ذهب السيد المرتضى وغيره.

وقد خرَّج أهلُ الصحيح حديث هلال بن أمية الذي قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البينة أو حدٌّ في ظهرك " غير مرةٍ، وهو يقول: والذي بعثك بالحق نبياً، إني لصادقٌ، وليُنْزِلَنَّ الله في أمري ما يُبَرِّىءُ ظهري، فنزلت آيةُ اللِّعان. رواه البخاري والترمذي من حديث ابن عباس (3)، ورواه

(1) في (ش): "معارض وهو".

(2)

" سواء " ساقطة من (ش).

(3)

تقدم تخريجه 3/ 256.

ص: 386

النسائي (1) من حديث أنس، وفيه أنَّ هلالاً قطع بتخصيصِ العموم لمجرَّد حُسْنِ الظن بالله، ولم ينُكِر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر الأحاديث في سبب نزول آية الِّلعان أنهم جَوَّزُوا تخصيص عُموم الحدِّ، وسألوا عن التخصيص قبل نزوله كما في حديث ابن مسعودٍ عند مسلمٍ، وأبي داود (2) وحديث لابن عباس آخر عند البخاري ومسلم والنسائي (3)، وهم أهل اللغة، ما أنكر ذلك منكرٌ، وأقرَّهم عليه صلى الله عليه وسلم، فكيف ينكر التخصيص بعد وقوعه من الله ورسوله، وقد منع بعضهم ذلك في الأخبار دُون الأمر والنهي، ويأتي الجواب عليه قريباً.

ونزيد هنا بيان وقوع ما منعه في القرآن العزيز، ولا شك أن الوقوع فرعُ الصحة، ومثال ذلك في القرآن قوله تعالى في الريح التي أصابت قوم عادٍ في " الذاريات ":{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيم} [الذاريات: 41 - 42]، وقال في " الحاقة ":{فهل ترى لهم من باقيةٍ} [الحاقة: 8]، بل قال في " الأحقاف ":{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]، وكلُّهنَّ مَكِّيَّاتٌ، مع أنها ما دمَّرت إلَاّ قوم عادٍ، ولم تدمِّر السماوات والأرضين والجنة والنار والعرش والكرسي والملائكة والجن والإنس والطير والبحَارَ، وما فيها (4) من المخلوقات وما لا نعلمه من خلق الله تعالى، بل قد دلَّ كتاب الله على أنها ما دمَّرت مساكن قوم عادٍ، لقوله في " الأحقاف ":{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 25]، وهي من أحسن الأدلة على جواز تخصيص العموم، حتى الأدلة المنفصلة عنه، لأنها منفصلة عن العُموم الذي في ذلك في سورة الذاريات، كما تقدم.

(1) 6/ 171 - 173، وأخرجه أيضاً مسلم (1496).

(2)

" مسلم "(1495)، و" أبو داود "(2253).

(3)

البخاري (5310) و (5316) و (6855) و (5856) و (7238)، ومسلم (1497)، والنسائي 6/ 174.

(4)

في (ش): " فيهما ".

ص: 387

واذا نظرتَ، لم نَجِدْ لقوم عادٍ حكماً يستحقُّ (1) الذكر إلى ما ذكرته لولا التَّوسُّع العظيم في المجاز، وإطلاق أهل اللسان العموم العظيم على أقلِّ أجزائه، فإن لفظ الشيء أعمُّ ما يكون، حتى إنه يدخل فيه المعدوم عند البهاشمة من المعتزلة، وقد أطلَقهُ على قوم عادٍ، وأدخل عليه لفظ " كل " المؤكِّد للعموم والشُّمول والاستغراق، وهو حجةٌ وتخصيص العموم المؤكد، كقوله تعالى:{إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِين} [الحجر: 59 - 60]، وهو في سورة القمر غير مخصوص قال فيها:{إلَاّ آل لوطٍ نجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34]، ولم يخص امرأته في هذه الآية، ولا في هذه السورة، وهي مكيةٌ، واستثنى في " الحجر "، و" النحل "، وهما مكيتان أيضاً، ولما تقدم الآن في قَسَمِ هلال بن أمية: ليُنزلن الله ما يبرِّىءُ ظهري (2) من الحد مع تأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعموم إيجاب الحدِّ عليه، وقوله له (3) غير مرَّة:" البينة أو حدٌّ في ظهرك "، فما منع ذلك التخصيص ولا تجويزه ولا ظنه قبل وقوعه (4).

وقد نزل قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس} [آل عمران: 173] في نُعيم بن مسعودٍ الأشجعي، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج بعد أُحدٍ إلى حمراء الأسد، فقال: إن الناس قد جَمَعُوا لكم. أراد أبا سفيان وأصحابه (5). فأطلق الله الناس على العموم، والمراد به واحدٌ.

وكذا قوله تعالى: {وأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شيءٍ} [النمل: 23]، فإذا نظرت في جميع ما ذكرتُه آنفاً مما يدخل تحت كل شيءٍ، ونظرت كم أُوتيت بِلقيس من ذلك لم تُجد له بالنسبة بالنظر إلى ما لم يؤت منه سائر السماوات والملائكة والجنة، وما لا يُحصى كثرةً، وهذا المعنى باقٍ في اللُّغة إلى يومنا هذا بقولِ

(1) في (ش): " حتى يستحق ".

(2)

في (ف): " ظهره ".

(3)

" له " ساقطة من (ف) و (د).

(4)

في (ف): " قوله ".

(5)

انظر " زاد المسير " 1/ 504 - 505.

ص: 388

القائل: أحسنَ الأميرُ إلى الناس، وعدل الخليفة في الخلق، وأمَّنَ الإمامُ السُّبُلَ، وكل ذلك للعُموم، ولا يُطْلَقُ على الثلاثة مع التعريف بالألف واللَاّم إلَاّ مجازاً.

وقال الشيخ أحمد بن محمدٍ الرصاص في كتابه " الجوهرة " التي هي مِدْرَسُ الزيدية في الموضع الثاني من الفصل الثالث في أقسام الخصوص ما لفظه: وقد منع بعضهم من جواز تخصيص الأخبار، وهذا لا وجه له، لأن الحكيمَ سبحانه قادرٌ على الخِطَاب الذي يقيِّد بظاهره العموم، ولا يريد به العموم، والحكمةُ واللغةُ لا تمنع من ذلك مع القرينة فجاز كالأمر والنهي، وقد قال الله تعالى:{وأُوتِيَتْ من كُلِّ شَيْءٍ} ، وهو عمومٌ مخصوصٌ، وقال:{ومن يعص الله ورسوله} [النساء: 14]، وقد خصَّ من عمومه التائب وصاحب الصغيرة. انتهى بحروفه.

وأما قوله في الموضع الرابع في وقت بيان الخطاب من الفصل الثاني في الكلام من المجمل والمُبَيَّنَ أن ذلك يُؤدِّي إلى الإغراء بالقبيح، ويدفعُ المكلَّفَ إلى الجهل، وقدِ اعترض عليه بأن الجزمَ في موضع الظنِّ خطأٌ وقع من المكلَّف باختياره القبيح، ولا ملجىء له إليه، فإنه يكفيه اعتقادات ظاهر ذلك (1) العموم حقيقة، لا مجازاً، ما لم يرد مخصِّصٌ مع اعتقاده أيضاً، لاحتمالِ التخصيص كما هو مقتضى اللغة التي نزل عليها القرآن، ذكر معنى ذلك القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدواري في تعليقه على " الجوهرة "، وليس هذا لفظه.

وقولهم: لا يجوز التعبد بالظن في الاعتقاد مجرَّد دعوى وسيأتي بطلانها ومضى قريباً شيء (2) منه، وأطراف العُموم تعرِّفُ العُموم (3) والخصوص، وأنهما غير متناقضين، فلو قال الإمام لبعض جُنده: خذِ العُشْرَ من الرعية، وأمره أن

(1)" ذلك " ساقطة من (ف).

(2)

" شيء " ساقطة من (ف).

(3)

في (ش): " بالعموم ".

ص: 389