المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الكتاب الثاني في السنة - الغيث الهامع شرح جمع الجوامع

[ابن العراقي]

الفصل: ‌ الكتاب الثاني في السنة

ص:‌

‌ الكتاب الثاني في السنة

وهي أقوال محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله.

ش: لم يذكر في تعريفها تقريره عليه الصلاة والسلام لأنه كف عن الفعل والكف فعل عن المختار فهو مندرج في الأفعال.

والمراد من أقواله وأفعاله ما لم يكن على وجه الإعجاز.

وقال الشارح: كان ينبغي أن يزيد (وهمه) فقد احتج الشافعي في (الجديد) على استحباب تنكيس الرداء في الاستسقاء بجعل أعلاه أسفله فإنه عليه الصلاة والسلام هم بذلك فتركه لثقل الخميصة عليه.

قلت: وكذلك همه بمعاقبة المتخلفين عن الجماعة، استدل به على وجوبها، وقد يقال الهم خفي فلا يطلع عليه إلا بقول أو فعل فيكون

ص: 384

الاستدلال بأحدهما فلا يحتاج حينئذ إلى زيادة، والله أعلم.

ص: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون لا يصدر عنهم ذنب ولو سهوا، وفاقا للأستاذ والشهرستاني/وعياض والشيخ الإمام.

ش: الاستدلال بالسنة متوقف على العصمة فلذلك بدأ بالكلام فيها، والمراد بالأستاذ هنا أبو إسحاق الإسفرايني/ (109ب/م) وهذا المذهب أنزه المذاهب، أنه لا يصدر عن الأنبياء ذنب لا كبيرة ولا صغيرة، ولا عمدا ولا سهوا بل طهر الله ذواتهم عن جميع النقائص، وقد حكى ابن برهان هذا عن اتفاق المحققين.

ص: فإذن لا يقر محمد صلى الله عليه وسلم أحدا على باطل، وسكوته ولو غير مستبشر على الفعل مطلقا، وقيل: إلا فعل من يغريه الإنكار، وقيل: إلا الكافر ولو منافقا، وقيل: إلا الكافر غير المنافق دليل الجواز للفاعل، وكذا لغيره خلافا للقاضي.

ش: يتفرع على وجوب العصمة أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يقر/ (90/أ/د) أحدا على باطل، ولا خلاف في ذلك.

قال الشارح: وإنما قال (أحدا) لئلا يتوهم أنه (لا يقر) بفتح

ص: 385

القاف فيكون خطأ.

واختلفوا فيما إذا فعل فعل بحضرته أو في عصره واطلع عليه ولم ينكره على مذاهب:

أصحها وبه قال الجمهور: أنه دليل على جواز ذلك الفعل لذلك الفاعل وهل تتعين الإباحة أو يحتمل الوجوب والندب أيضا؟ لم يستحضر فيه السبكي نقلا ومال إلى الإباحة لأنه لا يجوز الإقدام على فعل إلا بعد معرفة حكمه فلذلك دل تقريره على الإباحة، وذكر الشارح أن أبا نصر ابن القشيري ذكرها في كتابه في الأصول وحكى التوقف في ذلك عن القاضي ثم رجح حمله على الإباحة لأنها الأصل انتهى.

ولا فرق في دلالة تقريره على الإباحة بين أن يستبشر عليه الصلاة والسلام بذلك الفعل أو لا يوجد منه إلا مجرد السكوت عليه.

الثاني: أن التقرير لا يدل على الجواز إلا في حق من لا يغريه الإنكار على الفعل، فمن أغراه الإنكار على الفعل لا يجب الإنكار عليه كما قال الشاعر:

إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف

حكاه ابن السمعاني عن المعتزلة وقال: الأظهر أنه يجب إنكاره ليزول توهم الإباحة.

الثالث: أنه يستثنى من التقرير ما لو كان الفاعل كافرا أو منافقا فلا يدل تقريره على الإباحة، وبه قال إمام الحرمين.

الرابع: أنه لا يستثنى من ذلك إلا الكافر قاله المازري وكما يدل على جوازه للفاعل يدل على جوازه لغيره. قاله الجمهور، لأن الأصل استواء

ص: 386

المكلفين في الأحكام وقال القاضي أبو بكر: لا يتعداه إلى غيره فإن التقرير لا صيغة له.

أما ما فعل في عصره ولم يعلم هل اطلع عليه أم لا فقال الأستاذ/ (110/أ/م) أبو إسحاق: اختلف فيه قول الشافعي، ولهذا جرى له قولان في إجزاء الأقط في الفطرة.

ص: وفعله غير محرم للعصمة وغير مكروه للندرة.

ش: قد عرف انقسام السنة إلى قول وفعل، فمباحث القول سبقت في الكلام على الكتاب، وأما الفعل فلا يمكن أن يصدر منه عليه الصلاة والسلام فعل محرم لما تقرر من عصمته، ولا مكروه لأنه نادر من غيره فكيف منه؟ قال الشارح: وأنا أقول: لا يتصور منه وقوع مكروه فإنه إذا فعل شيئا وكان مكروها في حقنا فليس بمكروه منه، لأنه قصد به بيان الجواز.

قلت: قد يتصور فيما إذا تكرر منه، فإن البيان حصل منه بالفعل الأول، فاستفدنا من قولهم:(أنه لا يقع منه مكروه) أنه إذا فعل المكروه في حقنا لبيان الجواز لا يكره، وكذلك القول/ (91/أ/د) في خلاف الأولى عند من يفرق بينه وبين المكروه، وقد حكى النووي عن العلماء في وضوئه عليه الصلاة والسلام مرة مرة ومرتين مرتين أنه أفضل في حقه من التثليث للبيان.

ص: وما كان جبليا أو بيانا أو مخصصا به فواضح وفيما تردد بين الجبلي والشرعي كالحج راكبا تردد وما سواه إن علمت صفته فأمته مثله في الأصح.

ش: فعل النبي صلى الله عليه وسلم على أقسام:

أحدها: أن يكون جبليا كالقيام والقعود والأكل ونحوها وذكر المصنف

ص: 387

أن حكمه واضح وكأنه أراد بذلك أنه دال على الإباحة فقط لأنه القدر المحقق، والحرام والمكروه منتفيان كما تقدم، وقد قال شيخنا الإمام الإسنوي: إنه لا نزاع في ذلك.

لكن حكى القرافي في (التنقيح) قولا أنه للندب، وجزم به الشارح فقال: أما في الجبلي فالندب لاستحباب التأسي به، وحكى الأستاذ أبو إسحاق فيه وجهين:

أحدهما هذا وعزاه إلى أكثر المحدثين.

قال: والأصل فيه أنه يستدل به على إباحة ذلك.

والثاني: أنه لا يتبع فيه إلا بدلالة. انتهى.

الثاني: أن يكون بيانا لمجمل كالصلاة/المبينة لقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} والقطع من الكوع المبين لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} فهو واجب عليه صلى الله عليه وسلم لوجوب التبليغ/ (110ب/م) عليه، فإن قلت: لا يتعين التبليغ بالفعل، قلت: لا يخرجه ذلك عن كونه واجبا، فإن الواجب المخير يوصف كل من خصاله بالوجوب.

الثالث: أن يكون من خصائصه كتخيير نسائه، وغير ذلك، فلا يلحق به في ذلك أمته.

وقول الشارح: (إن حكم المخصص به الوجوب) ممنوع، فقد يكون مندوبا وقد يكون مباحا، فالخصائص تنقسم إلى هذه الأقسام، وإلى قسم رابع وهو المحرم عليه، ولكن ذلك لا يمكن صدوره منه كما تقدم والله أعلم.

الرابع: ما تردد بين الجبلي والشرعي، ولم يذكره الأصوليون ومثله المصنف بالحج راكبا، ومن أمثلته أيضا جلسة الاستراحة، فهل تحمل على

ص: 388

الجبلي لأن الأصل عدم التشريع أو الشرعي لأنه عليه الصلاة والسلام بعث لبيان الشرعيات، ينبغي أن يتخرج فيه قولان من القولين في تعارض الأصل والظاهر، ومقتضى ذلك ترجيح الأصل فيكون كالجبلي، لكن كلام أصحابنا في الحج راكبا وجلسة الاستراحة وغيرهما يدل على ترجيح التأسي فيه، وقد حكى الرافعي وجهين في ذهابه إلى العيد في طريق ورجوعه في أخرى، وقال: إن/ (91/ب/د) الأكثرين على التأسي فيه.

الخامس: أن تعلم صفة ذلك الفعل من الوجوب أو الندب أو الإباحة فالأصح أن حكم أمته فيه كحكمه، ومقابله أنهم مثله في العبادات فقط.

ص: وتعلم بنص وتسوية بمعلوم الجهة ووقوعه بيانا أو امتثالا لدال على وجوب أو ندب أو إباحة.

ش: يعلم جهة الفعل من كونه واجبا أو مندوبا أو مباحا بأمور:

أحدها: التنصيص على أحد هذه الأمور.

الثاني: تسويته بفعل قد علمت جهته وأنه من أي هذه الأقسام فيكون حكم الآخر كحكمه.

الثالث: وقوعه بيانا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل في الوجوب والندب والإباحة.

فإن قلت: قد تكرر منه ذكر ما كان بيانا لمجمل.

قلت: لا تكرار فيه فالأول أراد به حكم فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بيانا لمجمل وهو الوجوب عليه/ (111/أ/م) كما تقدم، والثاني أراد به حكمه في حقنا، وهو تابع لحكم المجمل.

الرابع: وقوعه امتثالا لنص يدل على أحد هذه الأمور فيلحق به في ذلك.

ص: 389

ص: ويخص الوجوب أماراته كالصلاة بالأذان وكونه ممنوعا لو لم يجب كالختان والحد.

ش: لما ذكر ما يعرف به جهة الفعل من الوجوب والندب والإباحة، ذكر ما يخص الوجوب وهو شيئان.

أحدهما: أن يقترن به أمارة الوجوب أي علامته كاقتران الأذان والإقامة بصلاة، فيدلان على وجوبها لأنهما شعار مختص بالفرائض.

ثانيهما: أن يكون ذلك الفعل ممنوعا منه لو لم يجب، كالختان والحد كقطع السرقة، فإن الجرح والإبانة ممنوع منهما، فجوازهما يدل على وجوبهما ومثل ذلك البيضاوي بالركوعين في صلاة الخسوف، واعترض بأن النووي ذكر في (شرح المهذب) أنه لو صلى صلاة الكسوف كسائر الصلوات صح، ومثله بعضهم بإحداد زوجة المتوفى عنها، وقد نقضت هذه القاعدة بسجود السهو والتلاوة في الصلاة، فإن الأصل المنع منهما، ومع هذا فلم يدل فعله لهما على وجوبهما وذكر البيضاوي.

ثالثا: وهو أن يوافق نذرا كأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن هزم العدو عني فلله علي صوم يوم، ثم يهزم العدو فيصوم يوما ولم يذكره المصنف لأن النذر لا يتصور منه عليه الصلاة والسلام بناء على أنه مكروه.

ص: والندب مجرد قصد القربة وهو كثير.

ش: قوله: (الندب) معطوف على الوجوب فهو منصوب، أي يخص الندب قصد القربة مجردا عن أمارة دالة على الوجوب، ولا فائدة مقصودة في

ص: 390

قول المصنف: (وهو كثير) وزاد البيضاوي/ (92/أ/د): أن يعلم كونه قضاء لفعل مندوب لأن القضاء يحكى الأداء.

ص: وإن جهلت فللوجوب وقيل للندب وقيل للإباحة وقيل بالوقف في الكل وفي الأولين مطلقا وفيهما إن ظهر قصد القربة.

ش: إذا جهلت جهة الفعل بالنسبة إليه وإلى الأمة ففيه مذاهب:

أحدها: الحمل على الوجوب، وبه قال من الشافعية ابن سريج وأبو علي بن خيران والإصطخري ومال إليه المصنف، وصححه ابن السمعاني/ (111/ب/م) وقال: إنه الأشبه بمذهب الشافعي، لكنه لم يتكلم إلا فيما ظهر فيه قصد القربة.

الثاني: الندب، وهو المحكي عن الشافعي.

الثالث: الإباحة، وهو المحكي عن مالك واختاره إمام الحرمين في (البرهان) واختار ابن الحاجب أنه إن ظهر فيه قصد القربة فالندب وإلا

ص: 391

فالإباحة.

الرابع: الوقف بين الثلاثة حتى يقوم دليل على حكمه، وصححه القاضي أبو الطيب، وحكي عن جمهور المحققين، كالصيرفي والغزالي وأتباعهما، واختاره الآمدي والبيضاوي تبعا للمحصول هنا، لكن جزم فيه في الكلام على جهة الفعل بالإباحة، واختار في (المعالم) الوجوب.

الخامس: الوقف بين الأولين فقط، وهما الوجوب والندب.

السادس: الوقف بينهما فقط، إن ظهر فيه قصد القربة، فإن لم يظهر فيه قصد القربة احتمل الإباحة أيضا وقول المصنف:(وفيهما إن لم يظهر قصد القربة) معكوس وصوابه: (إن ظهر قصد القربة كما قررته).

ص: وإذا تعارض القول والفعل ودل دليل على تكرر مقتضى القول فإن كان خاصا به فالمتأخر ناسخ، فإن جهل فثالثها الأصح الوقف، وإن كان خاصا بنا فلا معارضة فيه، وفي الأمة المتأخر ناسخ إن دل دليل على التأسي فإن جهل التاريخ فثالثها الأصح أنه يعمل بالقول وإن كان عاما لنا وله، فتقدم الفعل أو القول له وللأمة كما مر إلا أن يكون العام ظاهرا فيه فالفعل تخصيص.

ش: التعارض بين شيئين هو تقابلهما على وجه يمنع كل واحد منهما مقتضى صاحبه، فإذا تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ودل دليل على تكرر مقتضى القول فله أحوال:

الأولى: أن يكون القول خاصا به، فإن عرف المتأخر منهما فهو ناسخ للمتقدم، سواء أكان قولا أو فعلا، وإن جهل فأقوال أصحها الوقف إلى

ص: 392

قيام الدليل، لأن العمل بأحدهما ترجيح من غير مرجح.

والثاني: العمل بالقول لقوته.

والثالث: العمل بالفعل لوضوحه.

الثانية: أن يكون القول خاصا بنا فلا معارضة بينه وبين الفعل فيه-/ (92/ب/د) أي في حقه صلى الله عليه وسلم – لعدم تناوله له، وأما في حقنا فإن لم يقم دليل على التأسي به في الفعل المتقدم فلا تعارض بالنسبة إلينا، لأن حكم الفعل لم يتعلق بنا،/ (112/أ/م) وإن دل دليل على وجوب التأسي به فيه فإن عرف المتأخر منهما فهو الناسخ قولا كان أو فعلا، وإن جهل ففيه الأقوال المتقدمة، وهي الوقف، وتقديم القول وتقديم الفعل لكن الأصح هنا العمل بالقول.

قلت: وكأنه إنما رجح هنا لاحتياجنا إلى العمل بأحدهما فقدمنا القول لقوته وأما في حقه عليه الصلاة والسلام فقد انقطع العمل فكان الأحوط الوقف والله أعلم.

الثالثة: أن يكون القول عاما متناولا له صلى الله عليه وسلم وللأمة، ولا بد مع ذلك من أن يدل دليل على وجوب التأسي به في ذلك الفعل، فإن عرف المتأخر منهما فهو الناسخ قولا كان أو فعلا، وإن لم يعرف عادت الأقوال، ويكون الأصح في حقه عليه الصلاة والسلام الوقف، وفي حقنا العمل بالقول كما تقدم، وعبر المصنف رحمه الله عن هذا بقوله:(فيقدم الفعل أو القول له وللأمة كما مر) أي من التفصيل بين معرفة التاريخ أم لا، وعود الأقوال واختلاف الترجيح بالنسبة إليه وإلينا، وشرحه شارحه بقوله: يعني أن المتأخر ناسخ قولا كان أو فعلا. وفي هذا الشرح قصور لعدم تناوله لحالة جهل التاريخ ولا شك أن قرمطة عبارة المصنف هي التي أوجبت للشارح هذا التقصير.

ص: 393

ثم قيد المصنف ما دل عليه الكلام المتقدم من كون القول المتأخر ناسخا للفعل المتقدم في حقه صلى الله عليه وسلم بما إذا كان تناول القول له نصا، فإن كان بطريق الظهور كأن يقول: هذا الفعل واجب على المكلفين، ونقول: إن المخاطب يدخل في عموم خطابه فيكون الفعل السابق مخصصا لهذا العموم، لأن التخصيص عندنا لا يشترط تأخره عن العام.

قال الشارح: وهذا الاستثناء زاده المصنف على المختصرات.

تنبيه:

أما تعارض القولين فسيأتي في التعادل والتراجيح وأما الفعلان ففي المختصر والمنهاج/الجزم بأنهما لا يتعارضان ووجهه أنه يجوز أن يكون الفعل في وقت واجبا وفي غيره بخلافه، لأن الأفعال لا عموم لها.

قال الشارح: لكن حكى جماعة قولا بحصول التعارض وطلب الترجيح من خارج كما اتفق في صلاة الخوف، ولهذا رجح الشافعي منهما ما هو أقرب لهيئة الصلاة، وقدم بعضهم الأخيرة منهما إذا علم/ (112ب/م).

قلت: ليس/ (93/أ/د) الترجيح هنا بمعنى إلغاء الآخر، فإن جميع الهيئات الواردة في ذلك يجوز العمل بها، والترجيح إنما هو في الأفضلية خاصة، وليس مما نحن فيه، واستثنى ابن الحاجب وغيره من الفعلين ما إذا دل دليل من خارج على وجوب تكرير الفعل له أو لأمته فإن الفعل الثاني حينئذ ناسخ لكن العمل في الحقيقة بذلك الدليل. والله أعلم.

ص: 394

ص: الكلام في الأخبار

المركب إما مهمل وهو موجود خلافا للإمام وليس موضوعا وإما مستعمل والمختار أنه موضوع.

ش: صدر الكلام في الأخبار بمقدمة، وهي أن المركب سواء أكان مهملا أو مستعملا هل هو موضوع للعرب أم لا؟

أما المركب المهمل فقال الإمام فخر الدين: الأشبه أنه غير موجود، لأن الغرض من التركيب الإفادة وتبعه صاحبا (التحصيل) و (الحاصل) وخالفهما البيضاوي ومثل له بالهذيان فإنه لفظ مدلوله لفظ مركب مهمل، ورجحه المصنف.

وما ذكره الأولون إنما يدل على أن المهمل غير موضوع، لا على أنه لم يوضع له اسم وهذا معنى قول المصنف:(إنه ليس موضوعا) بعد قوله: (إنه موجود) فأراد بوجوده وجود اسم دال عليه، وبكونه ليس موضوعا أن نفس ذلك اللفظ المهمل لم تضعه العرب ولا يجوز نسبته إليها لا حقيقة ولا مجازا، وهذا لا خلاف فيه، وأما المركب المستعمل فرجح ابن الحاجب وابن مالك وغيرهما أنه ليس موضوعا، وإلا لتوقف استعمال الجمل على النقل عن العرب كالمفردات ورجح المصنف تبعا للقرافي وغيره أنه موضوع لأن العرب حجرت في التراكيب كما حجرت في المفردات. وقد ظهر لك بهذا التقرير أن الكلام في المهمل والمستعمل ليس على حد سواء، فالكلام في المهمل في وضع اسم دال عليه، وفي المستعمل في وضعه وهل هو وضعته العرب كما وضعت المفردات أم لا؟ وكان ينبغي ذكر الأول في تقسيم

ص: 395

الألفاظ كما فعل البيضاوي والثاني في الوضع.

ص: والكلام ما تضمن من الكلم إسنادا مفيدا مقصودا لذاته.

ش: هذا التعريف لابن مالك في (التسهيل).

فقوله: (ما) جنس بمعنى شيء.

وخرج بقوله: (تضمن من الكلم) الخط والرمز والإشارة وإطلاق الكلام عليها مجاز وخرج بـ (الكلم) الكلمة الواحدة/ (113/أ/م) وهو أحسن من قول (المفصل): (ما تركب من كلمتين) لأنه يخرج عنه ما تركب من أكثر منهما، ومن قول ابن الحاجب:(ما تضمن كلمتين) لأنه لا يتناول المركب من كلمتين لأن لفظ التضمن يقتضي أن (93/أ/د) يكون له أجزاء تزيد على الكلمتين.

والمراد بالإسناد تعليق خبر بمخبر عنه، كزيد قائم، أو طلب بمطلوب كاضرب.

وخرج بالمفيد نحو: قولهم: السماء فوقنا فإنه لا يسمى في اصطلاح النحاة كلاما وبالمقصود كلام النائم والناسي والطيور.

وخرج بقولنا: (لذاته) المقصود لغيره، كالجملة التي هي صلة الموصول، فإنه إنما قصد بها إيضاح معنى الوصول.

ص: وقالت المعتزلة: إنه حقيقة في اللساني، وقال الأشعري مرة: في النفساني، وهو المختار، ومرة: مشترك، وإنما يتكلم الأصولي في اللساني.

ش: لا شك في إطلاق الكلام على اللساني والنفساني وهو الفكر التي يدبرها الإنسان في نفسه قبل أن يعبر عنها، وفي التنزيل {ويقولون في أنفسهم} {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور} .

ص: 396

وقال الشاعر:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

واختلف في أنه حقيقة في ماذا على أقوال:

أحدها: إنه حقيقة في النفساني وحكاه المصنف عن المعتزلة، لأنه لم يصر إليه أحد من أئمتنا.

الثاني: إنه حقيقة في النفسي وهو أحد قولي الأشعري/واختاره المصنف تبعا لإمام الحرمين في باب الأوامر من (البرهان).

قال الشارح: ومرادهم في الكلام القديم لا مطلق الكلام فإنهم يوافقون على أنه في الحادث حقيقة في اللفظ، وإنما صار الأشعري في أحد قوليه إلى هذا فرارا من قول المعتزلة المؤدي لخلق القرآن، ومن قول الحشوية بالحرف والصوت المؤدي إلى أن يكون الذات المقدسة محلا للحوادث ولم يرد الأشعري أنه حقيقة لغوية.

الثالث: إنه حقيقة فيهما بالاشتراك وهو أحد قولي الأشعري، وقال إمام الحرمين: إنه الطريقة المرضية عندنا وهو معنى كلام الأشعري، وحكاه في (المحصول) عن المحققين والصفي الهندي عن الأكثرين.

ثم ذكر المصنف أن الأصوليين إنما يتكلمون في اللساني، وقال الإبياري في (شرح البرهان): أهل العربية مطبقون على إطلاق الكلام على الألفاظ.

ص: 397

ص: فإن أفاد بالوضع طلبا فطلب ذكر الماهية استفهام وتحصيلها أو تحصيل الكف عنها أمر ونهي ولو من ملتمس وسائل وإلا فما لا يحتمل الصدق والكذب تنبيه وإنشاء ومحتملهما الخبر.

ش: قسم المصنف المركب أو الكلام إلى أقسام:

أحدها: أن يفيد بالوضع طلب ذكر الماهية وهو الاستفهام.

ثانيها: أن يفيد بالوضع طلب تحصيلها وهو الأمر.

ثالثها: أن يفيد بالوضع طلب الكف عنها وهو النهي.

فقول المصنف: (وتحصيلها أو تحصيل/94/أ/د) الكف عنها أمر ونهي). من اللف والنشر المرتب.

وقوله: (ولو من ملتمس) أي ولو صدر ذلك من ملتمس وهو المساوي في الرتبة (وسائل) وهو الأسفل في الرتبة، فالقسمان داخلان في الأمر بناء على ما سبق أنه لا يشترط فيه علو ولا استعلاء.

وخرج بالوضع الطلب اللازم، كقولك: أطلب منك أن تذكر لي حقيقة الإنسان، أو أن تسقيني ماء، أو أن لا تؤذيني فلا يسمى الأول استفهاما ولا الثاني أمرا ولا الثالث نهيا.

رابعها: أن لا يكون فيه طلب أصلا، أو يكون فيه طلب بلازمه لا بذاته كما تقدم تمثيله ولا يحتمل الصدق والكذب وهو التنبيه والإنشاء فهما لفظان مترادفان فإن سمى بالأول لأنك نبهت به على مقصودك، وبالثاني لأنك ابتكرته من غير أن يكون موجودا قبل ذلك في الخارج من قوله تعالى:{إنا أنشأناهن إنشاء} ويندرج فيه التمني والترجي والنداء والقسم.

والفرق بين الترجي والتمني أن الترجي لا يستعمل إلا في الممكن بخلاف التمني فإنه يستعمل في الممكن والمستحيل تقول: ليت الشباب يعود، ولا

ص: 398

تقول: لعل الشباب يعود.

خامسها: أن لا يكون فيه طلب بذاته، ويحتمل الصدق والكذب وهو الخبر. وذكر الغزالي وغيره أن التعبير بالتصديق والتكذيب أحسن من الصدق والكذب، لأن من الخبر ما لا يحتمل الكذب، كقولنا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه ما لا يحتمل الصدق كقول القائل: مسيلمة صادق، مع أن كلا من المثالين يحتمل التصديق والتكذيب، ولذلك كذب بعض الكفار الأول، وصدق الثاني وفيه نظر فإن الخبر من حيث هو محتمل الصدق والكذب وسقوط أحد الاحتمالين في بعض الصور لعارض لا يخرجه عن احتمال ماهيته لذلك وأيضا فالتعبير بالتصديق والتكذيب قال في (المحصول) رديء/ (114/أ/م) لأن التصديق والتكذيب كون الخبر صدقا أو كذبا فتعريفه به دور، قال: والحق أن الخبر تصوره ضروري لا يحتاج إلى حد ولا رسم.

ص: وأبى قوم تعريفه كالعلم والوجود والعدم وقد يقال الإنشاء ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام والخبر خلافه أي ما له خارج صدق أو كذب.

ش: بعد أن يعرف الخبر بما تقدم حكي عن قوم منهم فخر الدين الرازي أنه لا يعرف أي لا بحد ولا برسم لأنه ضروري وقيل بعسره، ونظير ذلك العلة والوجود والعدم فإن كلا منهم قيل فيه ذلك، لأنه ضروري والصحيح فيها خلافه، ثم أشار إلى مقالة أخرى في تعريف الإنشاء والخبر وهي أن الإنشاء ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام كبعت وتزوجت/ (94/ب/د) وطلقت فإن الشرع/رتب عليها مقتضاها إما مع اللفظ أو آخر جزء منه على الخلاف المشهور في ذلك، والخبر خلافه، أي ما كان مدلوله حاصلا في الخارج قبل الكلام إما على سبيل الصدق أو الكذب، وهذا معنى قول بعضهم الإنشاء يتبعه مدلوله والخبر يتبع مدلوله.

ص: 399

وهذا التعريف للإنشاء أعم من التعريف المذكور أولا لتناوله الطلب فإنه إنما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام ولا خارج له قبل ذلك، فعلى الأول الكلام ثلاثة أقسام: الطلب والإنشاء والخبر. وعلى الثاني قسمان فقط: الإنشاء والخبر والطلب داخل في قسم الإنشاء. وتفسير الإنشاء على الأول: إيقاع لفظ لمعنى يقاربه في الوجود. وعلى الثاني ما لا نسبة له في الخارج، وقد أورد على الثاني الإخبار عن المستقبل نحو: سيقوم زيد فإنه خبر قال الله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} مع أنه عند النطق به ليس له خارج صدق ولا كذب فلا يمكن وصفه بذلك.

ص: ولا مخرج له عنهما لأنه إما مطابق للخارج أو لا وقيل بالواسطة فالجاحظ إما مطابق مع الاعتقاد ونفيه أو لا مطابق مع الاعتقاد ونفيه فالثاني فيهما واسطة وغيره: الصدق المطابقة لاعتقاد المخبر طابق الخارج أو لا/ (114ب/م) وكذبه عدمها فالساذج واسطة والراغب: الصدق في المطابقة الخارجية مع الاعتقاد فإن فقد فمنه كذب وموصوف بهما بجهتين.

ش: قد تقرر انقسام الخبر إلى صدق وكذب، ثم اختلفوا هل بينهما واسطة أم لا، فقال الجمهور: لا واسطة بينهما ولا يخرج الخبر عن كونه صدقا أو كذبا، لأنه إما أن يطابق الخارج المخبر عنه أو لا، فإن طابقه فهو صدق وإن لم يطابقه فهو كذب، ولا عبرة باعتقاد المخبر وذهب آخرون إلى أن بينهما واسطة، ثم اختلف هؤلاء على مذاهب:

أحدها: وبه قال الجاحظ: أنه يعتبر في الصدق المطابقة مع اعتقاد المخبر ذلك، وفي الكذب عدم المطابقة مع اعتقاد المخبر ذلك، فإن طابق مع

ص: 400

انتفاء اعتقاد المخبر المطابقة – إما لاعتقاده عدمها وإما لخلوه عن اعتقاد أو لم يطابق مع انتفاء اعتقاد المخبر عدم المطابقة إما لاعتقاده للمطابقة وإما لخلوه عن اعتقاد لم يكن صدقا ولا كذبا، بل هو واسطة بينهما وهي أربعة أقسام وقد تناولها قول المصنف:(والثاني فيهما واسطة) ومراده بالثاني نفي الاعتقاد وقوله: (فيهما) أي في المطابق وغير المطابق، ولا يتوقف ذلك عند/ (95أ/د) الجاحظ على الاعتقاد الجازم بل الظن في معناه، كذا حكاه عنه أبو الحسين في المعتمد، قال: وقد أفسده عبد الجبار بأن ظن المخبر واعتقاده يرجع إليه لا إلى المخبر، فلم يكن شرطا في كونه كذبا.

الثاني: أنه يعتبر في الصدق المطابقة لاعتقاد المخبر خاصة، سواء طابق الخارج أم لا، وفي الكذب عدم المطابقة لاعتقاد المخبر سواء طابق في الخارج أم لا، فيخرج عنهما ما إذا لم يكن للمخبر في ذلك اعتقاد وهو مراد المصنف بالساذج وهو بذال معجمة، قال في (المحكم): أرى أصله ساذه فعرب، فهذا واسطة بينهما لا يسمى صدقا ولا كذبا حكاه المصنف عن غير الجاحظ وذكر الخطيئي ذلك احتمالا في كلام صاحب (التلخيص) لكن صرح صاحب (الإيضاح) في علم المعاني والبيان بأن صاحب هذا القول لا يثبت واسطة بينهما، فعلى هذا يدخل في قوله:(عدمها) ما لا اعتقاد معه، وهذا القول في أصله غريب، وقيل: إنه لم يحكه إلا صاحب (الإيضاح).

الثالث: وهو قول أبي القاسم الراغب، إنه يعتبر في الصدق المطابقة في الخارج مع اعتقاد المخبر ذلك،/ (115/أ/م) كذا أطلق المصنف عنه وإنما اعتبر الراغب هذا في الصدق التام، قال: فإن كان اختل أحدهما لم يكن صدقا تاما، بل فيه تفصيل إن انتفى الاعتقاد ككلام المبرسم لم يوصف بصدق ولا كذب وإن كان مطابقا للخارج دون الاعتقاد كقول المنافقين {نشهد

ص: 401

إنك لرسول الله} فيصح وصفه بالصدق لمطابقته للخارج وبالكذب لمخالفته لاعتقادهم، ولذلك كذبهم الله تعالى.

وقد ظهر لك بهذا التقرير أن قول المصنف: (فقدا) غير مطابق لكلام الراغب فإنه إنما ذكر ذلك في فقد أحدهما، فنقل المصنف عنه محتمل من وجهين. أما إذا فقد أي المطابقة في الخارج والاعتقاد فهو عنده كذب تام.

ص: ومدلول الخبر الحكم بالنسبة لا ثبوتها وفاقا للإمام وخلافا للقرافي وإلا لم يكن شيء من الخبر كذبا.

ش: مدلول الخبر الحكم بثبوت النسبة لا نفس الثبوت، فإذا قلت: زيد قائم، فمدلوله الحكم بثبوت قيامه لا نفس ثبوت قيامه إذ لو كان الثاني لزم منه أن لا يكون شيء من الخبر كذبا، بل يكون كله صدقا، وقد ذكر الإمام هذا في (المحصول) لكنه قال في التعليل: وجب أن لا يكون الكذب خبرا فقال بعضهم: هذا معكوس لأن مقتضاه أن يكون الكذب متحققا لا بصيغة الخبرية، والواقع على هذا التقرير انتفاء الكذب فلهذا قال في (التحصيل): وإلا لم/ (95ب/د) يكن الخبر كذبا وهو تعبير فاسد لإيهامه أن كل خبر كذب، فلذلك عدل عنه المصنف إلى قوله:(شيء من الخبر) وهو تعبير حسن، لكن تعليل الإمام أيضا صحيح، وتقريره أن مدلول النسبة لو كان ثبوتيا لكان الكذب غير خبر لكن اللازم منتف ضرورة أن الكذب أحد قسمي الخبر الذي هو صدق وكذب، فالملزوم مثله وبيان الملازمة أن ثبوت النسبة وقوعها في الخارج فغير الواقع في الخارج ليس خبرا على هذا، وتعليل المصنف أوضح، ولما لم يكن نفس تعليل الإمام لم يصله به، لئلا يتوهم أنه من كلامه، وخالف القرافي في ذلك فقال: إن العرب لم تضع الخبر إلا

ص: 402

للصدق لاتفاق اللغويين والنحويين على أن معنى: (قام زيد) حصول/ (115/ب/م) القيام منه في الزمن الماضي، واحتماله للكذب ليس من الوضع بل من جهة المتكلم كذا قال وهو شاذ.

ص: ومورد الصدق والكذب النسبة التي تضمنها ليس غير كقائم في: (زيد بن عمرو قائم) لا بنوة زيد، ومن ثم قال مالك وبعض أصحابنا: الشهادة بتوكيل فلان بن فلان فلانا شهادة بالوكالة فقط، والمذهب بالنسب ضمنا والوكالة أصلا.

ش: هذه قاعدة مهمة أهملها أهل الأصول وأخذها المصنف من البيانيين كالسكاكي وغيره وتقريرها أن مورد الصدق والكذب في الخبر هو النسبة التي تضمنها الخبر لا واحد من طرفيها وهما المسند والمسند إليه فإذا قيل: (زيد بن عمرو قائم) فقيل: صدقت أو كذبت، فالصدق والكذب راجعان إلى القيام لا إلى النبوة الواقعة في المسند إليه ولهذا قال مالك وبعض الشافعية: إذا شهد شاهدان بأن فلان بن فلان وكل فلانا، فهي شهادة بالوكالة فقط ولا ينسب إليهما الشهادة بالنسب، فليس له عند التنازع في النسب أن يكون قد ثبت نسبي بتلك الشهادة لكن الصحيح عندنا أنها تتضمن الشهادة بالنسب وإن كان أصل الشهادة إنما هو بالوكالة، ذكره الهروي في (الإشراف) والماوردي والروياني، قال الشارح: وينبغي أنه يستثنى من ذلك ما لو كانت صفة المسند إليه مقصودة بالحكم بأن يكون المحكوم عليه في المعنى الهيئة الحاصلة من المسند إليه وصفته، كقوله عليه الصلاة والسلام:((الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)) فإن المراد الذي جمع كرامة نفسه وآبائه وكذلك الصفات

ص: 403

الواقعة في الحدود، نحو: الإنسان حيوان ناطق فإن المقصود الصفة/ (96أ/د) والموصوف معا، ولو قصدت الإخبار بالموصوف فقط لعسر الحد. انتهى.

واعلم أنه يرد على هذه القاعدة الحديث المرفوع في صحيح البخاري: ((يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله. فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد)) وكذلك استدل الشافعي وغيره على صحة أنكحة الكفار بقوله تعالى: {وقالت امرأت فرعون} قلت: وقد يدعى أن الآية والحديث مما استثناه الشارح من موضع الخلاف، فإن قصد عابدي/ (116/أ/م) المسيح بنسبته إلى الله إقامة حجتهم في عبادته، وأريد في الآية التعجب من صدور هذه المقالة البديعة في الحسن منها مع انتسابها إلى ذلك المتمرد العاتي، ويمكن أن الذي خص ذلك بالنسبة أراد دلالة المطابقة وهذه دلالة تضمن كما تقدم وأن من قال: لا يثبت النسب بذلك لا ينكر هذه الدلالة ولكنه لا يثبت النسب بدلالة التضمن، وإنما يثبتها بدلالة المطابقة، والله أعلم.

تنبيه:

عبر المصنف بقوله (ليس غير) لإنكار بعضهم أن يقال: لا غير، وقال: إنما يقطع (غير) عن الإضافة مع (ليس) فقط، لكن أنكر ذلك ابن بري وسوى بينهما، ويجوز فيه ضم الراء وفتحها، مع التنوين فيهما وتركه، فهذه أربعة أوجه.

ص: مسألة: الخبر إما مقطوع بكذبه كالمعلوم خلافه ضرورة أو استدلالا، وكل خبر أوهم باطلا ولم يقبل التأويل فمكذوب، أو

ص: 404

نقص منه ما يزيل الوهم، وسبب الوضع نسيان أو افتراء أو غلط أو غيرها، ومن المقطوع بكذبه على الصحيح: خبر مدعي الرسالة بلا معجزة أو تصديق الصادق، وما نقب عنه ولم يوجد عند أهله، وبعض المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي على نقله خلافا للرافضة.

ش: الخبر من حيث ذاته محتمل للصدق والكذب كما تقدم لكن قد يعرض له ما يقتضي القطع بكذبه أو صدقه، فالمقطوع بكذبه أنواع:

الأول: ما علم خلافه بالضرورة، كقول القائل: النار باردة. أو بالاستدلال كقول الفيلسوف: العالم قديم.

الثاني: أن يوهم أمراً باطلا من غير أن يقبل التأويل، لمعارضته للدليل العقلي كما اختلق بعض الزنادقة حديثا: أن الله تعالى أجرى فرسا ثم خلق نفسه من عرقها تعالى الله عن ذلك وتردد المصنف في هذا النوع بين أن يكون مكذوبا وبين أن يكون سقط منه على/ (96/ب/د) بعض روايته ما يزيل الوهم.

قال الشارح: وقد مثل له بما ذكره ابن قتيبة في (مختلف الحديث) أنه عليه الصلاة والسلام ذكر سنة مائة: ((أنه لا يبقى على ظهر الأرض يومئذ نفس منفوسة)) وهو خلاف المشاهدة وقد تبين أن لفظه ((لا يبقى على ظهر/ (116/ب/م) الأرض منكم)) فأسقط الراوي لفظة ((منكم)).

الثالث: أن يدعي شخص الرسالة عن الله تعالى بغير معجزة، وهذا ذكره إمام الحرمين، وفصل فيه بين أن يزعم أن الخلق كلفوا تصديقه فيقطع بكذبه

ص: 405

وإلا فلا، لكنه فرضه في دعوى النبوة، ولما فرضه المصنف في دعوى الرسالة لم يحتج لهذا التقييد ولا يخفى أن هذا قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم وأما بعده فيقطع بكذبه مطلقا، لقيام القاطع على أنه خاتم النبيين، وهو راجع إلى القسم الأول وهو ما علم خلافه استدلالا وضم المصنف إلى المعجزة تصديق الصادق، وهو نبي معلوم النبوة قبل ذلك، بصدق هذا المدعي للنبوة في دعواه فلا يحتاج معه إلى معجزة.

الرابع: الخبر المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد استقرار الأخبار، إذا فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب ولا صدور الرواة، ذكره الإمام فخر الدين وسبقه إليه صاحب (المعتمد) وقال القرافي: يشترط استيعاب الاستقراء بحيث لا يبقى ديوان ولا راو إلا وكشف أمره في جميع أقطار الأرض وهو عسر أو متعذر، وقد ذكر أبو حازم في مجلس هارون الرشيد حديثا وحضره الزهري فقال: لا أعرف هذا الحديث فقال: أحفظت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كله؟ فقال: لا، قال: فنصفه؟ قال: أرجو. قال: اجعل هذا في النصف الذي لم تعرفه، هذا وهو الزهري شيخ مالك فما ظنك بغيره؟ نعم إن فرض دليل عقلي أو شرعي يمنع منه، عاد إلى ما سبق.

قلت: ليس هذا مما نحن فيه، لأن الكلام بعد استقرار الأخبار كهذه الأزمنة وقبلها بمدد لما دونت الأحاديث وضبطت، وأما في الأعصار الأولى فقد كانت السنة منتشرة لانتشار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الأمصار، بحيث لا يفتش الآن على الأحاديث من صدور الرواة، وإنما يرجع إلى دواوين الإسلام الحديثية وهي معروفة محصورة، فما لم يوجد فيها لا يقبل من راويه، ومن العجب قوله في هذه الحكاية: إن الزهري وأبا/ (97أ/د) حازم اجتمعا في مجلس هارون

ص: 406

الرشيد، وقد ماتا قبل مجيء الدولة العباسية، وإنما كان اجتماعهما في مجلس سليمان بن عبد الملك.

الخامس: بعض الأحاديث المروية/ (117/أ/م) عن النبي صلى الله عليه وسلم على الإيهام مقطوع بكذبه، لأنه روي عنه أنه قال:(سيكذب علي) فإن كان هذا الخبر صحيحا فقد حصل المدعى لامتناع الخلف في خبره وإن كان كذبا – وهو الواقع، لأنه لا يعرف لهذا اللفظ إسناد – فقد كذب عليه، وضعف هذا الاستدلال لإمكان التزام صحته ولا يلزم وقوع الكذب في الماضي لجواز وقوعه في المستقبل وقد جاء في معنى هذا الحديث ما في مقدمة (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة مرفوعا:((يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم)).

السادس: الخبر المنقول بطريق الآحاد فيما لم يتوفر الدواعي على نقله، إما لغرابته كسقوط الخطيب عن المنبر يوم الجمعة أو لتعلقه بأصل من أصول الدين كالنص على الإمامة فعدم تواتره دليل على عدم صحته. وخالفت الرافضة في ذلك فادعوا أن النص دل على استحقاق علي رضي الله عنه للإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتواتر ورد عليهم بما ذكرناه.

وللوضع أسباب:

أحدها: نسيان الراوي، بأن يطول عهده بالسماع، فيزيد فيه أو يغير معناه أو يرفعه وهو موقوف.

ص: 407

الثاني: افتراء الزنادقة (تنفيرا) للغفلى عن الشريعة قال حماد بن زيد: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث.

قلت: وكم وضع بعد زمن حماد بن زيد؟

ثالثها: الغلط، بأن يريد الراوي التلفظ بشيء فيسبق لسانه إلى غيره. وقول المصنف:(أو غيرها) قال الشارح: يعني كما ذهب إليه بعض الكرامية من جواز وضع الحديث في الترغيب والترهيب وهو راجع إلى الافتراء.

قلت: بقى لذلك أسباب، منها: الارتزاق والاحتراف فقد كان جماعة يرتزقون بذلك في قصصهم كأبي سعد المدائني ومنها الاحتساب وطلب الأجر كأحاديث فضائل القرآن، ومنها الانتصار لآرائهم كما يفعل الخطابية.

واعلم أن المصنف ذكر سبب الوضع في أثناء أقسام المقطوع بكذبه، ولو أخره إلى استيفائها لكان أولى، والله أعلم.

ص: وإما بصدقه، كخبر الصادق وبعض المنسوب إلى النبي/ (97/ب/د)(117/ب/م) صلى الله عليه وسلم والمتواتر معنى أو لفظا وهو خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عن محسوس وحصول العلم آية اجتماع شرائطه ولا تكفي الأربعة وفاقا للقاضى والشافعية، وما زاد عليها صالح من غير ضبط، وتوقف القاضي في الخمسة، وقال الإصطخري: أقله عشرة. وقيل: اثنا عشر. وعشرون، وأربعون، وسبعون،

ص: 408

وثلاثمائة، وبضعة عشر. والأصح: لا يشترط فيه إسلام ولا عدم احتواء بلد، وأن العلم فيه ضروري وقال الكعبي والإمامان: نظري. وفسره إمام الحرمين بتوقفه على مقدمات حاصلة. لا الاحتياج إلى النظر عقيبه، وتوقف الآمدي، ثم إن أخبروا عن عيان فذاك وإلا فيشترط ذلك في كل الطبقات.

ش: وأما المقطوع بصدقه فهو أنواع أيضا.

الأول: خبر الصادق، وهو يتناول خبر الله تعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم وخبر كل الأمة، لأن الإجماع حجة. واعترض على هذا بأنه إن أريد أنه حجة قطعية كما صرح به الآمدي هنا فهو مخالف لقوله وقول الإمام إنه ظني، وإن أراد أنه حجة ظنية، فالظن لا يفيد القطع.

الثاني: بعض المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم على الإيهام.

الثالث: الخبر الذي بلغت رواته حد التواتر، وسواء أكان التواتر لفظيا: وهو ما اتفق رواته على نقل قضية واحدة، أو معنويا وهو ما نقل رواته قضايا بينها قدر مشترك، كأن ينقل واحد عن حاتم أعطى دنانير وآخر: أعطى دراهم، وآخر: أعطى جمال، فهذه قضايا مختلفة لكن بينها قدر مشترك وهو الإعطاء الدال على الجود.

ثم أخذ المصنف يتكلم على التواتر/اللفظي فعرفه بما حكينا فخرج بالجمع

ص: 409

خبر الواحد، وبقوله:(يمتنع تواطئهم على الكذب) جمع لا يمتنع ذلك فيهم، وزاد بعضهم (بنفسه) ليخرج ما امتنع فيهم ذلك بالقرائن أو موافقة دليل عقلي أو غير ذلك، ولا يحتاج لذلك لأن المفيد للقطع هو مع القرائن، وقوله:(عن محسوس) يدل على أمرين:

أحدهما: أن يكون عن علم لا ظن.

والثاني: أن يكون علمهم مدركا بإحدى الحواس الخمس، هكذا ذكره الإمام فخر الدين والآمدي وأتباعهما/ (118/أ/م) والذي ذهب إليه القاضي أبو بكر وغيره من المتقدمين – وتابعهم إمام الحرمين -: أن المعتبر أن يكون ذلك العلم ضروريا سواء كان عن حس أو قرينة أو خبر فلو أخبروا عن نظر لم يفد العلم، لتفاوت العقلاء في النظر، ولهذا يتصور الخلاف فيه إثباتا ونفيا.

والجمهور على أنه لا يشترط للمخبرين عدد، بل ضابط ذلك حصول العلم فمتى أفاد خبرهم العلم من غير قرينة انضمت إليه فهو متواتر وإلا فلا، ولا يكفي أن يكون عددهم أربعة لأنه لو اكتفى بذلك/ (98/أ/د) لاستغني عن تزكية شهود الزنا، وبه قال القاضي أبو بكر فقال: أقطع بأن قول الأربعة لا يفيد، وأتوقف في الخمسة، وعزى المصنف عدم الاكتفاء بأربعة للشافعية، اعتمادا على قول ابن السمعاني: ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى أنه لا يجوز التواتر بأقل من خمسة فما زاد. وحكي عن الإصطخري: أنه يشترط أن يكون عددهم عشرة والذي في (القواطع) عنه: أنه لا يجوز أن يتواتر بأقل من عشرة، وإن جاز أن يتواتر بالعشرة فما زاد، لأن ما دونها جمع الآحاد فاختص بأخبار الآحاد، والعشرة فما زاد جمع الكثرة، وقيل: اثنا عشر، عدة النقباء الذين بعثهم موسى عليه السلام ليعلموه بأحوال بني إسرائيل.

ص: 410

وقيل: عشرون، لقوله تعالى:{إن يكن منكم عشرون صابرون} وقيل: أربعون لقوله تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} وكانوا عند نزول الآية أربعين.

وقيل: سبعون، لقوله تعالى:{واختار موسى قومه سبعين} وقيل: ثلاثمائة وبضعة عشر، عدة أهل بدر لحصول العلم بخبرهم للمشركين، أو لأن الواقعة تواترت بهم. والبضع بكسر الباء: ما بين الثلاثة إلى التسعة وهذه الأقاويل ضعيفة جدا، فإنه لا تعلق لشيء من هذه الأعداد بالأخبار، وبتقدير أن يكون لها بها تعلق ليس فيها ما يدل على كون ذلك العدد شرطا لتلك الوقائع، ولا على كونه مفيدا للعلم

ثم ذكر المصنف مسائل من التواتر:

الأولى: أنه لا يشترط في رواة المتواتر الإسلام خلافا لابن عبدان من الشافعية ولا ألا يحصيهم عدد ولا يحيط بهم بلد خلافا لقوم لأن أهل الجامع لو أخبروا بسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة أفاد العلم.

الثانية: اختلفوا في أن/ (118ب/م) العلم الذي يفيده التواتر ضروري أو نظري: فقال

ص: 411

بالأول الجمهور.

أي: يلزم التصديق به عند اجتماع شرائطه بالضرورة، وقال بالثاني الكعبي وإمام الحرمين والإمام فخر الدين فأما إمام الحرمين فقد صرح بالبرهان بموافقة الكعبي لكنه فسر النظري بتوقفه على مقدمات حاصلة، وأنه ليس المراد الاحتياج إلى نظر عقبه وقال: إن هذا مراد الكعبي، وأما الإمام فخر الدين ففي (المحصول) موافقته للجمهور، وتوقف في ذلك الآمدي وقبله الشريف المرتضى.

الثالثة: إن أخبر عدد التواتر عن معاينة فأمره واضح، وإن لم يخبروا عن معاينة اشترط وجود الجمع الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات، وهو معنى قولهم: لا بد في التواتر من استواء الطرفين والواسطة. ومن هنا يعلم أن المتواتر قد ينقلب آحادا عند الاندراس.

تنبيه:

بقي من أقسام المقطوع به/ (98/ب/د) ما علم مدلوله ضرورة كقولنا: الواحد نصف الاثنين أو استدلالا كقولنا: العالم حادث. وأن يخبر جمع عظيم عن أحوال أنفسهم فنقطع بأن فيهم صادقا وإن لم يتعين. والخبر المحفوف بالقرائن عند جماعة كما سيأتي.

ص: والصحيح ثالثها أن علمه لكثرة العدد: متفق للسامعين وللقرائن قد يختلف، فيحصل لزيد دون/عمرو. وأن الإجماع على وفق خبر لا يدل على صدقه وثالثها: يدل إن تلقوه بالقبول. وكذلك بقاء خبر تتوفر الدواعي على إبطاله خلافاً للزيدية. وافتراق

ص: 412

العلماء بين مؤول ومحتج خلافا لقوم. وأن المخبر بحضرة قوم لم يكذبوه – ولا حامل على سكوتهم – صادق. وكذا المخبر بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا حامل على التقرير والكذب، خلافا للمتأخرين وقيل: يدل إن كان عن دنيوي.

ش: فيه مسائل:

الأولى – وهي من بقايا مسائل المتواتر – أنه هل يجب اطراد حصول العلم بالمتواتر لكل من بلغه أو يمكن حصول العلم لبعضهم دون بعض؟ فيه ثلاثة أقوال:

ثالثها – وهو الراجح عند المصنف تبعا للصفي الهندي: إن كان حصول العلم لمجرد كثرة العدد اطرد، وهذا معنى قول المصنف (إن علمه متفق) أي تتفق: الناس كلهم في العلم به ولا يختلفون وإن/ (119/أ/م) كان لإحفاف قرائن به اضطرب فقد يحصل لبعضهم دون بعض. وفيه نظر، فإن الخبر الذي لم يحصل العلم فيه إلا بانضمام القرينة إلى الخبر ليس من التواتر بل لا بد أن يكون حصول العلم بمجرد روايتهم.

الثانية: إذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث وانعقد الإجماع على العمل على وفقه فهل يدل ذلك على القطع بصدقه؟ فيه مذاهب:

أصحها: لا لاحتمال أن يكون للإجماع مستند آخر.

والثاني. نعم، وبه قال الكرخي.

والثالث: أن مجرد العمل لا يدل على صدقه، بل إن تلقوه بالقبول حكم بصدقه، وإلا فلا، حكاه إمام الحرمين عن ابن فورك.

قال الشارح: واعلم أنهما مسألتان:

ص: 413

إحداهما: الإجماع على وفقه من غير أن يتبين أنه مستندهم، وفيها قولان في أنه هل يدل على صدقه قطعا أم لا.

والثانية: أن يجمعوا على قبوله والعمل به، ولا خلاف أنه يدل على صدقه وإنما الخلاف في أنه هل يدل عليه قطعا أو ظنا: فالجمهور من أصحابنا على القطع، وذهب القاضي أبو بكر وإمام الحرمين إلى الظن، وجمع المصنف فيهما ثلاثة أقوال، ومقتضاه أن الصحيح أنه لا يدل على صدقه وإن تلقوه بالقبول، وهذا لا يقوله أحد. انتهى.

قلت: الحق أن الجمع بين المسألتين، تخليط فإنه ليس بينهما قدر جامع، فإن الأولى في العمل على وفقه من غير أن يستدلوا به والثاني في معرفته والعمل به وتلقيه بالقبول فكان الواجب إفراد كل منهما/ (99/أ/د) عن الأخرى.

الثالثة: قالت الزيدية: بقاء نقل خبر مع توفر الدواعي على إبطاله يقتضي القطع بصحته كقوله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم لعلي رضي الله عنه: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) وقوله: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) فقد سار نقلهما في زمن الأمويين مع توفر دواعيهم على إبطالهما، وخالفهم الجمهور، وقالوا: قد يشتهر خبر الواحد بحيث يعجز العدو عن إخفائه.

الرابعة: إذا ورد حديث فافترق العلماء فيه فمنهم من قبله واحتج به ومنهم من أوله – دل ذلك على القطع بصحته عند طائفة منهم ابن السمعاني والأكثرون على خلافه، لأن المظنون كالمقطوع في العمل به.

ص: 414

الخامسة: إذا أخبر واحد بخبر بحضرة جمع كثير بحيث لا يخفى/ (119/ب/م) على مثلهم عادة حاله، وسكتوا عن تكذيبه، ولا حامل لهم على السكوت من خوف أو رجاء – هل يدل على القطع بصحته؟

قال الجمهور: نعم. وقال آخرون: ليس بقطعي لاحتمال مانع من التكذيب واختاره الإمام فخر الدين والآمدي.

السادسة: إذا أخبر إنسان بأمر والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعه، فلم ينكر عليه، مع أنه لا حامل له على ترك الإنكار، بأن يكون قد بين الحكم قبل ذلك، والمخبر معاند، لا ينفع فيه الإنكار – ففيه مذاهب:

أحدها – وهو الذي اختاره المصنف -: إن ذلك يدل على صدقه.

والثاني: لا، وحكاه المصنف عن المتأخرين، ومنهم الآمدي وابن الحاجب.

والثالث: التفصيل، فإن كان ذلك الأمر دنيويا لم يدل ذلك على صدقه، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يبعث لبيان الدنيويات وإن كان دينيا دل على صدقه قاله في (المحصول) وما عرفت معنى ذكر المصنف هنا الكذب مع التقرير فليحرر.

ص: وأما مظنون الصدق فخبر الواحد، وهو ما لم ينته إلى التواتر ومنه المستفيض، وهو الشائع عن أصل وقد يسمى مشهورا وأقله اثنان وقيل: ثلاثة.

ش: لما ذكر المقطوع بكذبه والمقطوع بصدقه ذكر قسما ثالثا وهو مظنون

ص: 415

الصدق، وهو خبر العدل الواحد/والمراد به ما لم ينته إلى التواتر ولو زادت رواته على واحد، ومن خبر الواحد نوع يسمى المستفيض والمختار في تعريفه أنه الشائع عن أصل، فخرج الشائع لا عن أصل يرجع إليه فإنه مقطوع بكذبه، كذا قال الشارح، وقد يقال: من أين يجيء القطع؟ وجوابه أن ذلك مستفاد من عدم الإسناد، فلما لم ينقله راو دل على أن ذاكره اختلقه. ثم ذكر أن المستفيض قد يسمى مشهورا فهما لفظان مترادفان، وأقل عدد الاستفاضة اثنان وقيل: ثلاثة، وقيل: ما زاد/ (99/ب/د) على ذلك، وجزم الآمدي وابن الحاجب بالثلاثة، وحكى الرافعي في الشهادات عن الشيخ أبي حامد وأبي إسحاق المروزي وأبي حاتم القزويني أن أقل ما يثبت به الاستفاضة سماعه من اثنين، وإليه ميل إمام الحرمين.

قال: واختار ابن الصباغ وغيره سماعه من عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب، قال: وهو أشبه بكلام الشافعي. انتهى.

وقال ابن فورك: إن المستفيض يفيد القطع. فجعله من أقسام المتواتر.

ص: مسألة: خبر/ (120/أ/م) الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة وقال الأكثر: لا مطلقا وأحمد: يفيد العلم مطلقا، والأستاذ وابن فورك: يفيد المستفيض علما نظريا.

ش: اختلف في أن خبر الواحد هل يفيد العلم أم لا؟

على أقوال: أحدها: أنه يفيده إن احتفت به قرائن كإخبار ملك بموت ولده مع سماع الصياح من داره، وخروجه مع جنازته على هيئة غير معتادة،

ص: 416

وإلا فلا وهو اختيار المصنف وفاقا لإمام الحرمين والغزالي والإمام والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي.

الثاني: أنه لا يفيد العلم مطلقا، ولو احتفت به قرائن، وبه قال الأكثرون.

الثالث: أنه يفيد العلم مطلقا، وحكاه الباجي عن أحمد بن حنبل وابن خويز منداد، وقال أبو الحسين: حكي عن قوم أنه يقتضي العلم الظاهر وعنوا به الظن.

الرابع – وبه قال الأستاذ أبو إسحاق وابن فورك – أنه إن كان غير مستفيض لم يفد العلم وإن كان مستفيضا أفاد العلم النظري، بخلاف المتواتر فإنه يفيد العلم الضروري.

ص: مسألة: يجب العمل به في الفتوى والشهادة إجماعا، وكذا سائر الأمور الدينية، قيل: سمعا، وقيل: عقلا. وقالت الظاهرية: لا يجب مطلقا. والكرخي: في الحدود وفي ابتداء النصب. وقوم: فيما عمل الأكثر بخلافه، والمالكية: فيما عمل أهل المدينة. والحنفية: فيما تعم به البلوى أو خالفه راويه أو عارض القياس. وثالثها في معارض القياس إن عرفت العلة بنص راجح على الخبر ووجدت قطعا في الفرع – لم يقبل، أو ظنا فالوقف وإلا قبل: والجبائي: لا بد من اثنين أو اعتضاد وعبد الجبار: لا بد من أربعة في الزنا.

ش: يجب العمل بخبر الواحد في الفتوى والشهادة بالإجماع، والمراد في الفتوى واحد، وفي الشهادة اثنان، ويؤخذ من ذلك من طريق الأولى العمل به في الأداء والحروب وسائر الأمور الدنيوية كإخبار طبيب أو مجرب بضرر شيء أو نفعه، وتبع المصنف في تعبيره في ذلك بالوجوب/ (100/أ/د) البيضاوي وعبر في

ص: 417

(المحصول) بالجواز، واختلف في العمل به في الأمور الدينية الظنية على أقوال:

أحدها: وبه قال الجمهور – وجوبه: ثم قال أكثرهم: دل على ذلك السمع فقط، وقال أبو العباس بن سريج والقفال الشاشي – من أصحابنا – وأبو الحسين/ (120ب/م) البصري من المعتزلة -: دل عليه العقل أيضا. فكان ينبغي للمصنف أن يقول: وقيل: وعقلا.

القول الثاني: أنه لا يجب العمل به مطلقا، وعزاه المصنف للظاهرية.

قال الشارح: وإنما يعرف عن بعضهم كالقاشاني وابن داود كما نقله ابن الحاجب، بل قال ابن حزم: مذهب داود أنه يوجب العلم والعمل جميعا. والذين ذهبوا إلى عدم وجوب العمل به افترقوا فقالت فرقة: سببه عدم دليل شرعي أو عقلي على ذلك وقالت فرقة: سببه قيام دليل سمعي على عدم العمل به. وقالت فرقة: قيام الدليل العقلي على منع التعبد به.

الثالث – وبه قال الكرخي -: إنه لا يعمل به في الحدود خاصة، لأن الآحاد شبهة والحدود/تدرأ بها.

ص: 418

الرابع – وبه قال بعض الحنفية -: أنه لا يقبل في ابتداء النصب، وإن قبل في أثنائها فيقبل فيما زاد على خمسة أوسق، لأنه فرع، ولا يقبل في ابتداء نصاب الفصلان والعجاجيل، لأنه أصل.

الخامس: أنه لا يقبل فيما عمل الأكثر بخلافه، قاله بعضهم، وهو ضعيف، لأن قول البعض ليس بحجة.

السادس: أنه لا يقبل فيما عمل أهل المدينة بخلافه وبه قال المالكية ولهذا نفوا خيار المجلس.

السابع: أنه لا يقبل فيما تعم به البلوى، كنقض الوضوء بمس الذكر، أو خالفه راويه كالغسل من ولوغ الكلب سبعا، فإن راويه أبا هريرة أفتى بثلاث. أو عارض القياس كخبر المصراة، وعزاه المصنف للحنفية، لكن نقل عنهم البيضاوي أنهم اشترطوا فقه الراوي إذا خالف القياس وهو صريح في أنهم لا يردونه مطلقا، وسيأتي في كلام المصنف.

وفي خبر الواحد المخالف للقياس مذهبان آخران:

أحدهما – وهو الصحيح – تقديم الخبر مطلقا، وقال الباجي: إنه الأصح عندي من قول مالك فإنه سئل عن حديث المصراة فقال: أو لأحد في هذا الحديث رأي.

ثانيهما: وهو المختار عند الآمدي وابن الحاجب -: التفصيل في ذلك، فإن عرفت علة ذلك القياس بنص راجح على الخبر ووجدت في الفرع قطعا، لم يقبل الخبر. وإن كان وجودها فيه ظنا فالوقف وإن لم تعرف العلة بنص راجح قبل الخبر ولو عبر المصنف/ (121/أ/م) بالتقديم كان أولى من تعبيره بعدم القبول.

الثامن – وبه قال أبو علي الجبائي -: أن خبر الواحد لا يقبل إلا إن

ص: 419

رواه اثنان أو اعتضد: إما بظاهر/ (100/ب/د) أو عمل بعض الصحابة أو كونه منتشرا حكاه عنه أبو الحسين في (المعتمد) وهو أعرف بمذهبه من إمام الحرمين حيث نقل عنه في (البرهان) اعتبار العدد مطلقاً.

التاسع: أنه إن كان خبر الواحد في الزنا لم يقبل إلا برواية أربعة، حكاه المصنف عن القاضي عبد الجبار، والذي في (المعتمد) لأبي الحسين أن عبد الجبار، حكاه عن الجبائي ومقتضى كلام الغزالي في (المستصفى) في حكاية هذا القول: التعميم في كل خبر، فإنه قال:(وقال قوم: لا بد من أربعة، أخذا من شهادة الزنا) فإن صح ذلك فهو قول عاشر. والله أعلم.

ص: مسألة: المختار – وفاقا للسمعاني وخلافا للمتأخرين -: أن تكذيب الأصل الفرع لا يسقط المروي ومن ثم لو اجتمعا في شهادة لم ترد وإن شك أو ظن والفرع العدل جازم، فأولى بالقبول وعليه الأكثر.

ش: إذا كذب الأصل الفرع، وقال:(لم أحدثك بهذا) أو: (ليس هذا من حديثي) فهل يسقط ذلك المروي؟

فيه قولان:

أحدهما: نعم، وحكاه المصنف عن المتأخرين، وحكاه ابن السمعاني عن الأصحاب وذكر إمام الحرمين أن القاضي أبا بكر عزاه للشافعي وحكى الصفي الهندي الإجماع عليه.

الثاني: لا وهو الذي اختاره المصنف تبعا لابن السمعاني وجزم به الماوردي والروياني في الأقضية، وقالا: لا يقدح ذلك في صحة الحديث، إلا

ص: 420

أنه لا يجوز للفرع أن يرويه عن الأصل، ومما استدل به على عدم إسقاط المروي أن ذلك لا يقدح في الراوي ولهذا لو اجتمعا في شهادة – أي الأصل والفرع – لم ترد، ومقتضى كلام المصنف الاتفاق على هذا، لكن قال الصفي الهندي: لا يصير واحد منهما بعينه مجروحا بذلك، وإن كان لا بد من جرح أحدهما لا بعينه كالبينتين المتكاذبتين./ (121/ب/م).

قال: ويظهر فائدته في قبول رواية كل منهما وشهادته إذا انفرد، وعدم قبول روايته وشهادته مهما اجتمعا ولو كان في غير ذلك الحديث. أما إذا لم يجزم الأصل بتكذيب الفرع، بل ظن ذلك أو شك فيه، مع جزم الفرع بروايته – عنه فقال المصنف: أنه أولى بالقبول، وعليه الأكثر وفيه وجهان لأصحابنا:

أحدهما: لا تقبل كالشهادة على الشهادة، وبه قال أكثر الحنفية كما حكاه بعضهم.

وأصحهما: القبول، لجواز نسيان الأصل ويقع ذلك كثيرا، وقد صنف فيه الدارقطني والخطيب، والفرق بينه وبين الشهادة زيادة الاحتياط في الشهادة.

قال القاضي أبو بكر: وهو مذهب الدهماء من العلماء/والفقهاء من أصحاب مالك والشافعي/ (101/أ/د) وأبي حنيفة.

وخرج بقول المصنف: (والفرع جازم) ما إذا كان شاكا فلا تقبل روايته

ص: 421

قطعا، أو ظانا فقال الصفي الهندي: إن كان الأصل شاكا فالأشبه أنه من صور الخلاف، وإن كان هو أيضا ظانا عدم تحديثه له فالأشبه أنه من صور الوفاق على عدم القبول، والضابط: أنه متى تعادل قولهما فهي صورة اتفاق وإن رجح قول الفرع فهو من محل الخلاف.

ص: وزيادة العدل مقبولة إن لم يعلم اتحاد المجلس وإلا فثالثها الوقف، ورابعها: إن كان غيره لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة لم تقبل والمختار وفاقا للسمعاني: المنع، إن كان غيره لا يغفل أو كانت تتوفر الدواعي على نقلها، فإن كان الساكت عنها أضبط أو صرح بنفي الزيادة على وجه يقبل تعارضا.

ش: إذا زاد عدل في رواية حديث زيادة لم يذكرها الباقون نحو ما في (صحيح مسلم) وغيره من رواية أبي مالك الأشجعي عن ربعي، عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا)) فهذه الزيادة تفرد بها أبو مالك الأشجعي، وسائر الرواة قالوا:((جعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا)) ففيه أقوال:

أحدها: إنها مقبولة إن لم يعلم اتحاد المجلس سواء علم اختلافه أو جهل ذلك فإن علم اتحاد المجلس/ (122/أ/م) الذي سمع فيه الراويان ذلك الحديث لم

ص: 422

يقبل.

الثاني: القبول مطلقا، نص عليه الشافعي وحكاه الخطيب البغدادي عن جمهور الفقهاء والمحدثين وادعى ابن طاهر اتفاق المحدثين عليه، وهو الصحيح.

الثالث: عدم القبول مطلقا، وحكي عن الحنفية وعزاه ابن السمعاني لبعض أهل الحديث، وقال الأبهري: تحمل الزيادة على الغلط.

الرابع: الوقف للتعارض، فإن من يثبت الزيادة يعارض من ينفيها.

الخامس: إن كان غير الراوي للزيادة لا يغفل مثله عن مثلها في العادة، لم تقبل وإلا قبلت وبه قال الآمدي وابن الحاجب.

السادس: أنها غير مقبولة إن كان غير الراوي لها لا يغفل عن مثلها، أو كانت مما تتوفر الدواعي على نقله، وإلا قبلت، واختاره المصنف وعزاه لابن السمعاني.

قال الشارح: والذي رأيته في (القواطع) بعد أن صحح القبول قال: واعلم أن على موجب هذه الدلالة ينبغي أن من ترك الزيادة لو كانوا جماعة لا يجوز أن يغفل جماعتهم عن تلك الزيادة وكان المجلس واحدا ألا تقبل الزيادة. ثم قال: في الحجاج مع الخصوم: قد بينا أن الذي ترك الزيادة لو كانوا جماعة لا يجوز عليهم الغفلة ينبغي ألا تقبل رواية هذا الواحد/ (101/ب/د)

قال الشارح: وينبغي أن يقول الجماعة: إنهم لم يسمعوه، فإنهم إذا لم يقولوا ذلك يجوز أنهم رووا بعض الحديث ولم يرووا البعض لغرض لهم. انتهى.

ثم جزم المصنف بأنه متى كان الساكت عن رواية الزيادة أضبط من الراوي لها أو صرح بنفي الزيادة على وجه يقبل تعارضا ولم تقدم الزيادة.

وتبع في ذلك الإمام فخر الدين، ومقتضى كلامهما إخراج هذه الصورة عن

ص: 423

محل الخلاف لكن نقل الإبياري في شرح (البرهان) الخلاف فيها، فقال: قال قائلون: هو تعارض.

وقال آخرون: الإثبات مقدم.

قال: وهذا هو الظاهر عندنا فإنه إذا لم يكن بد من تطرق الوهم إلى أحدهما، لاستحالة حديثهما، وامتنع الحمل على تعمد/ (122/ب/م) الكذب – لم يبق إلا الذهول والنسيان، والعادة ترشد أن نسيان ما جرى أقرب من تخيل ما لم يجر، وحينئذ فالمثبت أولى. انتهى.

وقول المصنف: (على وجه يقبل) من زيادته على كلام الإمام، وكأنه أراد به ما إذا كان النفي مخصوصا فإنه لا يقبل إلا كذلك فأما النفي المطلق فغير مقبول.

تنبيه:

عبارة المصنف تقتضي أنه إذا لم يعلم اتحاد المجلس فهي مقبولة قطعا، وأن ذلك ليس من مجمل الخلاف وهو فيما إذا علم بعدده تابع للإبياري وابن الحاجب والصفي الهندي، لكن أجرى فيه ابن السمعاني التفصيل المذكور فيما إذا علم اتحاد المجلس، وفيما إذا جهل الأمر فيه بتابع للإبياري لكن قال الآمدي: حكمه حكم المتحد وأولى بالقبول ومقتضاه جريان الخلاف فيه.

ص: ولو رواها مرة وترك أخرى فكراويين، ولو غيرت إعراب الباقي تعارضا، خلافا للبصري، ولو انفرد واحد عن آخر قبل عند الأكثر، ولو أسند وأرسلوا أو وقف ورفعوا فكالزيادة.

ش: فيه مسائل تتعلق بزيادة الثقة:

الأولى: الكلام المتقدم مفروض فيما إذا كان راوي الزيادة غير راوي الناقصة فلو أنه راو واحد رواها مرة وتركها مرة، فحكمه كما لو صدر ذلك من راويين ويعود فيه ما تقدم وقال في (المحصول): إن العبرة بما وقع منه

ص: 424

أكثر فإن استوت قبلت أيضا.

الثانية: إذا غيرت الزيادة إعراب الباقي، كأن يروي أحدهما:(في أربعين شاة شاة) ويروي الآخر: (نصف شاة) فقد تغير إعراب الشاة رفعا وجرا، فقال الأكثرون كما قال الصفي الهندي -: يتعارضان فلا يقبل أحدهما إلا بمرجح.

وقال أبو عبد الله البصري: لا فرق بين تغير الإعراب وعدمه لأن الموجب/ (102/أ/د) للقبول زيادة العلم، وهو حاصل مع تغير الإعراب.

الثالثة: لو كان الراوي للزيادة واحدا، وللناقصة واحدا، فالأكثرون على أنها كحالة التعدد لقبول خبر الواحد، ومقابله قول الجبائي في اشتراط العدد ولا حاجة لذكر هذه المسألة هنا، لأن قبول/ (123/أ/م) الواحد الفرد قد عرف الخلاف فيه وهذه مرتبة على تلك.

الرابعة: لو أسند راو الحديث – أي ذكر صحابيه – وأرسل الباقون فلم يذكروا الصحابي أو وقف راوي الحديث على الصحابي ورفعه الباقون إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فهو كزيادة الثقة فيعود فيه ما سبق ويكون الراجح قبول قول المسند والرافع لما معهما من زيادة العلم ورجح آخرون الإرسال والوقف،

ص: 425

ومنهم من رجح قول الأحفظ، ومنهم من رجح قول الأكثر.

ص: وحذف بعض الخبر جائز عند الأكثر إلا أن يتعلق الحكم به.

ش: قال الأكثرون: يجوز للراوي أن يقتصر على بعض الحديث ويحذف باقيه إذا لم يكن للمحذوف تعلق بالمذكور، كأن يكون غاية له نحو:(لا تباع الثمرة حتى تزهو) أو استثناء نحو: (لا يباع البر بالبر إلا سواء بسواء).

ومقابله فيما حكاه إمام الحرمين وغيره قولان: الجواز والمنع.

والتجويز مع تعلق المحذوف بالمذكور بعيد، وقد صرح الإبياري والصفي الهندي بأنه لا خلاف في منعه، وهو الحق.

ص: وإذا حمل الصحابي – قيل: أو التابعي – مرويه على أحد محمليه المتنافيين فالظاهر حمله عليه، وتوقف أبو إسحاق الشيرازي وإن لم يتنافيا فكالمشترك في حمله على معنييه، فإن حمله على غير ظاهره فالأكثر على الظهور، وقيل: على تأويله مطلقا، وقيل: يحمل على تأويله.

إن صار إليه، لعلمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم إليه.

ش: إذا روى الصحابي حديثا فيه لفظ مشترك وحمله على أحد معنييه، فله حالتنان:

ص: 426

إحداهما: أن يكونا متنافيين، كالقرء المشترك بين الطهر والحيض، فالظاهر اتباعه فيه، وحمله على ذلك المعنى، وتوقف فيه الشيخ أبو إسحاق.

قال الشارح: كذا حكاه عنه، وعبارته في (اللمع):(وإذا احتمل اللفظ أمرين احتمالا واحدا، فصرفه إلى أحدهما، كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه حمل قوله عليه الصلاة والسلام: ((الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء)) على القبض في المجلس، فقد قيل: إنه يقبل، لأنه أعرف بمعنى الخطاب وفيه نظر عندي) انتهى.

الثانية: ألا يتنافيا فهو كسائر المشتركات/ (123ب/م) عند من يحمل المشترك على معنييه في الحمل على معنييه، ولا يختص بما حمله عليه الصحابي. فإن قلنا: لا يحمل على جميعها، ففي (البديع) أن المعروف حمله على ما عينه، لأن الظاهر أنه لم يحمله عليه إلا لقرينة، قال: ولا يبعد أن يقال/ (102/ب/د): لا يكون تأويله حجة على غيره.

قال الشارح: وينبغي تقييد كلام المصنف في الحمل على جميعها بما إذا لم يجمعوا على أن المراد أحدهما، وجوزوا كلا منهما. ثم استشهد لذلك ثم قال: والخلاف – كما قاله الهندي فيما إذا قال ذلك لا بطريق التفسير للفظه، وإلا فتفسيره، أولى بلا خلاف.

أما إذا لم يكن من مروي باب المشترك، بل كان له ظاهر، فحمله على

ص: 427

غير ظاهره ففيه مذاهب:

أصحها – وبه قال الأكثرون: حمله على ظاهره قال الآمدي: وفيه قال الشافعي: كيف أترك الخبر لأقوال أقوام لو عاصرتهم لحججهم.

الثاني: أنه يحمل على تأويله مطلقا، لأنه لا يقوله إلا بتوقيف، وحكي عن أكثر الحنفية.

والثالث – وبه قال أبو الحسين البصري: أنه يحمل على تأويله إن صار إليه، لعلمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم من مشاهدته قرائن تقتضي ذلك فإن جهل وجوز أن يكون لظهور نص أو قياس أو غيرهما، وجب النظر في الدليل فإن اقتضى ما ذهب إليه عمل به، وإلا فلا.

تنبيه:

فرض الجمهور المسألة في الصحابي، ومنهم من أجراه في التابعي أيضا، ومقتضى كلام المصنف في (التخصيص) ترجيحه، وجعله هنا مرجوحا.

قال الشارح: ولا بد من التقييد بكونه من الأئمة.

ص: مسألة: لا يقبل مجنون وكافر وكذا صبي في الأصح، فإن تحمل فبلغ فأدى قبل عند الجمهور.

ص: 428

ش: يشترط فيمن تقبل روايته شروط.

أحدها: كونه عاقلا، فلا تقبل رواية المجنون.

قال الشارح: والمراد بالجنون: المطبق، أما المنقطع فإن أثر جنونه في زمن إفاقته لم تقبل، وإلا قبل، قاله ابن السمعاني في (القواطع).

قلت: لا يحتاج لذكر ذلك، فإنه في حال الإفاقة – إذا لم يستمر به الخبل – ليس مجنونا، فإن استمر به الخبل فهو في تلك الحالة مجنون، إلا أن أحوال المجنون تختلف والله أعلم.

ثانيها: كونه مسلما، فلا تقبل رواية الكافر، سواء علم من دينه التحرز عن الكذب أم لا، هذا في المخالف في القبلة أما الموافق فيها كالمبتدع الذي يكفر ببدعته/ (124/أ/م) كالمجسمة إن كفرناهم فسيأتي الكلام فيه.

ثالثها: البلوغ، فلا تقبل رواية الصبي غير المميز بلا شك، وكذا المميز على الصحيح، وادعى القاضي أبو بكر الإجماع عليه، لكن يستثنى من ذلك الإذن في دخول الدار، وحمل الهدية، فيقبل قوله فيهما على الصحيح إن لم يجرب عليه الكذب، وكذا إخباره بطلب صاحب الوليمة لإنسان فإنه يجب به الإجابة كما صرح به الماوردي وكذا الروياني، إلا أنه اشترط أن يقع في قلب المدعو (103/أ/د) صدقه، وفي باب الأذان من شرح (المهذب) للنووي: عن الجمهور قبول روايته فيما طريقه المشاهدة دون ما طريقه الاجتهاد، وسبقه إلى ذلك المتولي ومحل الخلاف فيه أيضا أن يكون المخبر به رواية محضة، فلو أخبر برؤية الهلال وجعلناه رواية لم يقبل جزما، ولم يخرجوه على الخلاف.

فإن تحمل قبل البلوغ وأدى بعده، فقال الجمهور: إنه يقبل، للإجماع على قبول رواية أحداث الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم كابن عباس وابن الزبير وغيرهما، من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده.

قال الشارح: ولو قال المصنف: (فبلغ أو أسلم فأدى) لكان

ص: 429

أحسن ليشمل ما لو تحمل في حال كفره ثم أسلم وأدى، والحكم سواء على الصحيح.

قلت: هذه الصورة لا خلاف فيها، إنما الخلاف في التحمل صبيا والله أعلم.

ص: ويقبل مبتدع يحرم الكذب، وثالثها: قال مالك: إلا الداعية.

ش: اختلف في قبول رواية المبتدع على أقوال:

أحدها: قبول روايته، إلا أن يستحل الكذب لنصرة مذهبه أو غيره. فإن الاتفاق على أنه لا تقبل روايته.

قال الشافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقهم واختاره المصنف تبعا للإمام والبيضاوي.

والثاني: المنع من ذلك مطلقا، وهو قول القاضي أبي بكر واختاره الآمدي وعزاه للأكثر وابن الحاجب.

والثالث: التفصيل بين أن يكون داعية إلى مذهبه فترد روايته، أو غير داعية فلا، وعزاه المصنف لمالك، والخطيب لأحمد، ونقل ابن حبان من المحدثين الاتفاق عليه، وعزاه ابن الصلاح للأكثرين وقال: إنه أعدل المذاهب وأولاها.

تنبيه:

لا فرق في جريان/ (144ب/م) هذا الخلاف بين أن يكون ذلك المبتدع يكفر ببدعته كالمجسمة إن كفرناهم، أم لا، ولذلك أطلق المصنف الخلاف والترجيح.

ص: 430

ص: ومن ليس فقيها – خلافا للحنفية – فيما يخالف القياس والمتساهل في غير الحديث، وقيل: يرد مطلقا، والمكثر وإن ندرت مخالطته للمحدثين إذا أمكن تحصيل ذلك القدر في ذلك الزمان.

ش: فيه مسائل:

الأولى: لا يشترط في الراوي أن يكون فقيها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((فرب حامل فقه غير فقيه)).

وحكى المصنف عن الحنفية اشتراط فقهه فيما إذا روى ما يخالف القياس، كحديث المصراة ولم يحكه الشيخ أبو إسحاق عنهم إلا فيما خالف قياس الأصول لا مطلق القياس ولم يحكه صاحب (البديع) منهم إلا عن فخر الإسلام منهم خاصة بشرط، فحكى عنه أنه إن كان الراوي من المجتهدين، كالخلفاء الراشدين والعبادلة (103/ب/د) قدم الخبر على القياس لأنه يقيني الأصل والقياس ظنية أو من الرواة كأبي هريرة وأنس، فالأصل العمل بما لم يوجب الضرورة تركه كحديث المصراة فإنه معارض بالإجماع في ضمان العدوان بالمثل أو القيمة، وقد تكررت هذه المسألة لقول المصنف فيما تقدم قريبا:(أو عارض القياس).

الثانية: إذا كان الراوي يتساهل في أحاديث الناس مع تحرزه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فروايته مقبولة على الصحيح. وقيل: ترد رواية المتساهل مطلقا ونص عليه أحمد أما المستاهل في الحديث فلا خلاف في أنه لا يقبل، كما قاله في (المحصول) وغيره.

ص: 431

الثالثة: إذا أكثر الراوي من الروايات مع قلة مخالطته لأهل الحديث فإن أمكن تحصيل ذلك القدر في ذلك الزمان، قبلت روايته وإلا ردت كلها ذكره في (المحصول).

ص: وشرط الراوي العدالة، وهي ملكة تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة، وهوى النفس، والرذائل المباحة كالبول في الطريق.

ش: يشترط في قبول رواية الراوي كونه عدلا، والعدالة لغة: التوسط وشرعا ملكة أي هيئة راسخة في النفس تمنعها عن اقتراف الكبائر.

والصغائر الدالة على الخسة كسرقة لقمة وتطفيف/ (125/أ/م) حبة عمدا، واستثنى الحليمي من كون هذا القسم من الصغائر: ما إذا كان المسروق منه مسكينا محتاجا إلى المأخوذ منه فتكون كبيرة، ولم يحتج إلى ذكر الإصرار على الصغائر، لأن الإصرار عليها يصيرها كبيرة، وقوله:(وهوى النفس) أي تمنعه عن هوى النفس.

قال الشارح: وهذا من تفقه والده فإنه قال: لا بد عندي في العدالة من وصف لم يتعرضوا له، وهو الاعتدال عند انبعاث الأغراض حتى يملك نفسه عن اتباع هواه، فإن المتقي للكبائر والصغائر الملازم للطاعة والمروءة قد يستمر على ذلك ما دام سالما من الهوى فإذا غلبه هواه خرج عن الاعتدال وانحل عصام التقوى وانتفاء هذا الوصف هو المقصود من العدول، قال تعالى:{وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} انتهى.

قلت: إن أراد المصنف أن تلك الملكة تمنع وجود هوى النفس – وهو ظاهر كلامه وكلام الشارح – فهذا مردود فليس يعتبر في العدل، ألا يهوى خلاف الحق، وإنما المعتبر فيه ألا يوقعه الهوى في الباطل، فمن خالف هواه

ص: 432

فهذا من أكمل العدول، ولا تظهر ثمرة التقوى إلا إذا هوي الإنسان غير الحق، فأما إذا كان هوى الإنسان تابعا للحق واجتمعا في جانب واحد، فلا تظهر ثمرة التقوى وإن أراد المصنف أن تلك الملكة تمنعه عن اقتراف الكبائر والصغائر الخسة ولو هويتها النفس، فهذا داخل في كلامهم، ومتى لم تمنعه من ذلك فليست ملكة، فمن لم يمتنع من الكبائر إلا إذا لم يهواها ليس عدلا ولا فيه تلك الملكة (104/أ/د) ولا يحتاج إلى هذا لدخوله في إطلاقهم، وقوله:(والرذائل المباحة كالبول في الطريق) أي: وما في معناه من الأكل في الطريق وعشرة من لا يليق به عشرته، فإنه دال على عدم/ (125/ب/م) اكتراثه باستهزاء الناس، وهذا هو المراد بالمحافظة على المروءة بأن يسير سيرة أمثاله زمانا ومكانا.

قال الغزالي: إلا أن يكون ممن يقصد كسر النفس، وإلزامها التواضع كما يفعله كثير من العباد.

فإن قلت: التعبير بالكبائر والرذائل يخرج اقتراف كبيرة واحدة أو رذيلة واحدة مع أنه مخل بالعدالة.

قلت: المراد الجنس فيصدق بالواحد، وبتقدير إرادة الجمع فإذا قويت تلك الملكة على دفع الجمع فهي على دفع الواحد أقوى.

فإن قلت: اجتناب الرذائل المباحة ليس جزءا من حقيقة العدالة وإن اشترط في قبول الشهادة فإن اسم العدالة صادق بدونه.

قلت: قسم الماوردي المروءة المشترطة في قبول الشهادة ثلاثة أقسام، وجعل منها قسما شرطا في العدالة، وهو مجانبة ما يستحق من الكلام المؤدي إلى الضحك وترك ما قبح من الفعل.

قال: فمجانبة ذلك من المروءة المشترطة في العدالة، وارتكابها مفسق انتهى.

ص: 433

ص: فلا يقبل المجهول باطنا، وهو المستور، خلافا لأبي حنيفة وابن فورك وسليم، وقال إمام الحرمين: يوقف، ويجب الانكفاف إذا روى التحريم إلى الظهور، وأما المجهول ظاهرا وباطنا فمردود إجماعا وكذا مجهول العين، فإن وصفه نحو الشافعي بالثقة فالوجه قبوله وعليه إمام الحرمين خلافا للصيرفي والخطيب، وإن قال: لا أتهمه فكذلك، وقال الذهبي: ليس توثيقا.

ش: إذا تقرر اشتراط العدالة ترتب على ذلك رد رواية المجهول، فإن الشرط لا بد من تحققه وهو أقسام:

أحدها: من جهلت حاله باطنا لا ظاهرا وهو المستور، والمشهور رد روايته، وقبله أبو حنيفة ومن أصحابنا ابن فورك وسليم الرازي.

وقال ابن الصلاح: يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم وتعذرت الخبرة الباطنة بهم. انتهى.

وذكر صاحب (البديع) أن أبا حنيفة إنما قبل ذلك في صدر الإسلام حيث كان الغالب على الناس العدالة فأما اليوم فلا بد من التزكية لغلبة الفسق.

وقال إمام الحرمين: يتوقف إلى أن يتبين حاله، فلو روى لنا مستور ما يقتضي تحريم شيء تقرر عندنا حله، وجب الانكفاف عنه إلى الظهور.

قال الشارح: وهذا إذا أمكن البحث عنه فلو فرض/ (126/أ/م) اليأس من ذلك فهذه مسألة اجتهادية، فالظاهر أنه لا يجب الانكفاف وانقلبت الإباحة

ص: 434

كراهة.

القسم الثاني: مجهول الحال باطنا وظاهرا، وهو مردود الرواية بالإجماع كذا حكاه المصنف، وفيه نظر فقد (104/ب/د) نقل ابن الصلاح الخلاف في ذلك.

القسم الثالث: مجهول العين، وهو من لم يرو عنه إلا واحد، وقيل: من لم يرو عنه إلا اثنان، حكاه ابن عبد البر، ومقتضى كلام المصنف الإجماع على رد روايته وهو مصرح به في بعض نسخه فقال: أما المجهول باطنا وظاهرا ومجهول العين فمردودان إجماعا لكن الخلاف في ذلك موجود ثم محل رد روايته: إذا لم ينضم إلى ذلك توثيق إمام له، فإن وثق مع رواية واحد عنه اكتفي بذلك، ذكره أبو الحسين بن القطان وهو واضح، لأن من وثقه لم يوثقه إلا بعد معرفة عينه، وما زلت أعجب من رد المحدثين رواية مجهول العين، وكيف لا تثبت العين برواية ثقة عنه، وأي معنى لتوقف ثبوت عينه على رواية اثنين عنه مع الاكتفاء في معرفة حاله بتوثيق واحد؟

وقوله: (فإن وصفه) قال الشارح: الضمير فيه عائد إلى أقرب مذكور وهو مجهول العين، لا مطلق المجهول، ومراده به نحو: حدثني رجل أو امرأة أو إنسان ووصفه الراوي عنه بالثقة أو قال: أخبرني الثقة كما يقع للشافعي كثيرا.

قلت: هذا تخليط من المصنف والشارح، فليس المراد بمجهول العين من لا يسمى، وإنما المراد به من يسمى، لكن لم يرو عنه إلا واحد كما تقدم وأما هذه فمسألة أخرى وهي التوثيق على الإبهام من غير تسمية المروي عنه، فذهب أبو بكر الصيرفي والخطيب إلى عدم الاكتفاء بذلك، لأنه لو سماه فقد يعرف غيره من جرحه ما لا يعرفه هو.

واختار المصنف أن من كان إماما عارفا بأسباب الجرح والتعديل واختلاف العلماء في ذلك قبل منه، وإلا فلا، وحكاه عن إمام الحرمين ثم ذكر أنه لو

ص: 435

قال: (حدثني من لا أتهم) كان في معنى قوله: (حدثني الثقة) أي: في قبوله من مثل الشافعي دون غيره، وليس المراد أنه مثله في المرتبة ولكنه مثله في مطلق القبول ثم حكى عن شيخه الحافظ أبي عبد الله الذهبي أن ذلك ليس توثيقا بل نفي للتهمة، ولم يتعرض لإتقانه ولا لأنه حجة.

قال المصنف: وهو صحيح غير أن هذا إذا وقع من الشافعي محتجا به على مسألة في دين الله فهي والتوثيق سواء في أصل الحجة، وإن كان مدلول اللفظ لا يزيد على ما ذكره الذهبي فمن ثم خالفناه في مثل الشافعي أما من ليس مثله فالأمر على ما وصفه شيخنا رحمه الله.

قال الشارح: والعجب اقتصاره على نقله عن الذهبي مع أن ذلك قاله طوائف من فحول أصحابنا ثم حكاه عن أبي بكر الصيرفي والماوردي والروياني/ (105/أ/د).

قلت: هؤلاء منعوا القبول في قوله: (حدثني الثقة) أيضا، فسووا بين اللفظين والمحكي عن الذهبي انحطاط قوله:(من لا أتهم) عن قوله (الثقة) وأنه لا يلزم من كونه لا يتهمه أن يكون ثقة، والله أعلم.

ص: ويقبل من أقدم جاهلا على مفسق مظنون أو مقطوع في الأصح.

ش: يقبل رواية من أقدم على فعل أمر يقتضي الفسق لشبهة اقتضت عنده جواز الإقدام عليه، سواء أكان دليلنا على فسقه ظنيا أو قطعيا فالأول كقول الشافعي في الحنفي الشارب للنبيذ من غير سكر:(أحده وأقبل شهادته).

والثاني: كقوله: (أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، لأنهم يشهدون بالزور لموافقيهم).

ص: 436

وهنا تنبيهات:

أحدها: يحتمل أن يكون قول المصنف: (في الأصح) راجعا إلى المقطوع، ويكون قبوله رواية مظنون الفسق متفقا عليه، فيوافق كلام (المحصول) ويحتمل أن يعود إليهما فيوافق قول الصفي الهندي: الأظهر ثبوت الخلاف فيه أيضا.

ثانيها: كان ينبغي أن يستثني من قول المقطوع بفسقه المتدين بالكذب، وقد استثناه الشافعي بقوله:(إلا الخطابية).

ثالثها: في التعبير عن ذلك بالجهل نظر، وكان ينبغي التعبير عنه بالإقدام عليه بتأويل كما مثلناه، أما الإقدام عليه للجهل بكونه فسقا فلم يتعرض له في الأصول، وذكره الماوردي فقال في المختلف فيه كشرب النبيذ والنكاح بلا ولي، إن فعله معتقدا تحريمه فكبيرة، وإن لم يعتقد/ (127/أ/م) تحريمه ولا إباحته مع علمه بالخلاف فيه فوجهان قال البصريون بفسقه لتركه الاسترشاد في الشبهات تهاونا بالدين، وقال البغداديون: لا يفسق، لأن اعتقاد الإباحة أغلظ من التعاطي، ولا يفسق معتقد الإباحة.

رابعها: قد عرفت صورة المسألة، فلا يخفى عليك أنه لو قامت عليه بينة بارتكاب مفسق، مجمع عليه أنه غير مقبول، وإن كانت البينة المذكورة إنما أفادت الظن لا القطع، والله أعلم.

ص: وقد اضطرب في الكبيرة فقيل: ما توعد عليه بخصوصه وقيل: ما فيه حد. والأستاذ والشيخ الإمام: كل ذنب، ونفيا الصغائر والمختار وفاقا لإمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة.

ش: في حد الكبيرة أوجه:

ص: 437

أحدها: أنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة هذه عبارة أصل (الروضة) ولم يقيد المصنف الوعيد بكونه شديدا، فيحتمل أن ذلك لأن كل وعيد من الله تعالى فهو شديد، ويكون ذلك من الوصف اللازم، وقوله:(بخصوصه) أي: لم يندرج ذلك تحت عموم وعليه يدل قوله: (بنص) ولا يحتاج إلى التصريح/ (105/ب/د) بأن ذلك الوعيد في الكتاب والسنة لأن الوعيد لا يكون إلا فيهما.

الثاني: إنها المعصية الموجبة لحد، قال الرافعي: وهم إلى ترجيح هذا أميل.

والأول أكثر ما يوجد لهم وهو أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر أي لأن الربا وأكل مال اليتيم وقطع الرحم والعقوق ونحوها من الكبائر مع أنه لا حد فيها، واعتمد صاحب (الحاوي الصغير).

الثاني: لقول الرافعي: إنهم إلى ترجيحه أميل.

الثالث: أنها ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد، حكاه الرافعي عن أبي سعد، الهروي بزيادة لم يذكرها المصنف، وهي ترك فريضة تجب على الفور والكذب في الشهادة والرواية واليمين، ولم يذكر الشارح هذا القول.

الرابع: أنها كل ذنب ولا صغيرة في الذنوب، وهذا/ (127/ب/م) قول الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني وبه قال القاضي أبو بكر والإمام وابن القشيري، وحكاه ابن فورك عن الأشاعرة وحكاه المصنف عن والده، وما كان ينبغي حكاية هذا القول في ضبط الكبيرة لأمرين:

أحدهما: أن القائل به ينكر الصغيرة فلا تحتاج الكبيرة عنده إلى ضبط بل سائر المعاصي كبائر.

الثاني: أن الخلاف بينه وبين الجمهور لفظي، فإنه لا يقول بسقوط العدالة بكل ذنب، قال القرافي: كأنهم كرهوا تسمية معصية الله صغيرة إجلالاً له عز وجل، مع أنهم وافقوا في الجرح أنه لا يكون بمطلق المعصية، وأن من

ص: 438

الذنوب ما يكون قادحا في العدالة، وما لا يقدح هذا مجمع عليه وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق والصحيح التغاير لقوله تعالى:{وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} فجعلها رتبا وسمى بعض المعاصي فسقا دون بعض.

وفي الصحيح: (الكبائر سبع) فخص الكبائر ببعض الذنوب ولأن ما عظمت مفسدته أحق باسم الكبيرة.

قلت: وقوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} صريح في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر فلذلك قال الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بينهما وقد عرفا من مدارك الشرع، والله أعلم.

الخامس: قاله إمام الحرمين في (الإرشاد) وغيره، واختاره المصنف: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، ورقة الديانة.

قال الإمام: وكل جريمة لا تؤذن بذلك بل تنفي حسن الظن بصاحبها لا تحبط العدالة.

قال: وهذا أحسن ما يميز أحد الضدين عن الآخر.

وقال الواحدي: الصحيح أنه ليس لها حد تعرفه العباد بل أخفاها الله تعالى عنهم ليجتهدوا في اجتناب المناهي خشية الوقوع فيها، كإخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر.

ص: 439

ص: كالقتل والزنا، واللواط، وشرب الخمر، ومطلق المسكر، والسرقة، والغصب، والقذف، والنميمة، وشهادة الزور،/ (106أ/د) واليمين الفاجرة وقطيعة الرحم، والعقوق/ (128/أ/م) والفرار، ومال اليتيم وضرب المسلم وسب الصحابة وكتمان الشهادة، والرشوة، والدياثة، والقيادة، والسعاية، ومنع الزكاة، ويأس الرحمة، وأمن المكر، والظهار، ولحم الخنزير، والميتة، وفطر رمضان، والغلول، والمحاربة، والسحر، والربا، وإدمان الصغيرة.

ش: لما ذكر الخلاف في ضابط الكبائر شرع في تفصيلها.

فإن قيل: كان ينبغي أن يبدأها بالكفر فإنه أكبر الكبائر كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل: أي الذنب أعظم؟: ((أن تجعل لله ندا وهو خلقك)).

قلت: كلامه في قادح العدالة بعد ثبوت وصف الإسلام.

الأولى: القتل والمراد به العمد وشبه العمد، إذا كان على وجه التعدي دون الخطأ، قاله شريح الروياني، وقال الحليمي: إن قتل أبا أو ذا رحم في الجملة أو أجنبيا محرما بالحرم أو في شهر حرام فهو فاحشة فوق الكبيرة.

الثانية: الزنا ففي الصحيح عده الكبيرة.

ص: 440

الثالثة: اللواط، فهو في معنى الزنا بل أفحش وقد أهلك الله به قوم لوط عليه السلام، ويلحق به وطء الزوجة أو الأمة في الموضع المكروه.

الرابعة: شرب الخمر بل مطلق المسكر وإن لم يكن خمرا فإنها تختص بعصير العنب، ولا فرق بين أن يكون ذلك القدر يسكر أم لا ويلحق به كل مزيل للعقل بلا ضرورة.

وقال شريح الروياني: إذا شرب المعتقد لمذهب الشافعي نبيذا هل تكون كبيرة؟ وجهان.

وقال الحليمي: من مزج خمرا بمثلها من الماء فذهبت شدتها فشربها صغيرة، واستغربه المصنف في (الطبقات).

قال الشارح: وليس بغريب بل هو جار على المذهب لأن المنع حينئذ للنجاسة لا للإسكار.

الخامسة: السرقة، وتعليل ذلك بوجوب الحد فيها، ويقتضي أن المراد سرقة نصاب من حرز مثله بلا شبهة.

السادسة: الغصب، للوعيد عليه بقوله عليه الصلاة والسلام:((من ظلم قيد شبر من الأرض/ (128/ب/م) طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)) ولعنة فاعله بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله من غير منار الأرض أو سرق منار الأرض)) رواه مسلم، وقيده العبادي وشريح الروياني وغيرهما بغصب ما قيمته ربع دينار وقال الحليمي: سرقة التافه صغيرة إلا إذا كان المسروق منه مسكينا، لا غنى به عن المسروق منه، فيكون كبيرة.

ص: 441

قال الشارح: لا من جهة السرقة بل من جهة الأذى، ويأتي مثله في الغصب.

السابعة: القذف أي بالزنا أو اللواط، للوعيد عليه في القرآن، وفي الصحيح عده من السبع الموبقات، ومحله في غير عائشة رضي الله عنها، فقذفها كفر لتضمنه تكذيب القرآن، وقال/ (106/ب/د) ابن عبد السلام: الظاهر أن من قذف محصنا في خلوة بحيث لا يسمعه إلا الله والحفظه أن ذلك ليس بكبيرة موجبة للحد، لانتفاء المفسدة.

قال الشارح: وإنما يظهر ذلك في الصادق دون الكاذب لجرأته على الله تعالى ويستثنى من تحريم القذف ما إذا علم الزوج زنا زوجته، فيباح له ذلك، بل يجب إن كان ثمة ولد علم أنه ليس منه، وكذا يباح القذف في جرح الراوي والشاهد.

الثامنة: النميمة وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم قال تعالى: {مشاء بنميم} وفي الصحيحين: ((لا يدخل الجنة نمام)).

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ((وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة)) فعنه أجوبة.

ص: 442

أحدها: أن المراد في كبير تركه والاحتراز عنه.

والثاني: أن المراد ليس كبيرا في اعتقادكم كما قال تعالى: {وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم}

والثالث: أن المراد أنه ليس أكبر الكبائر، ويدل لكونه كبيرة قوله في بقية الحديث عقب ما حكيناه (بلى إنه لكبير) وهو في صحيح البخاري.

وتباح النميمة إذا كان فيها دفع مفسدة كإخبار من عزم على قتله بغير حق بذلك، وقد يفهم من سكوت المصنف عن الغيبة أنها صغيرة وهو ما حكاه الرافعي عن صاحب (العدة) وفيه نظر لورود الوعيد عليها في الكتاب والسنة وذلك ضابط الكبيرة كما تقدم عن الرافعي أنه أكثر ما يوجد/ (129/أ/م) لهم، وقد نقل القرطبي في تفسيره الإجماع على أنها كبيرة.

قال الشارح: وظفرت بنص الشافعي في ذلك.

التاسعة: شهادة الزور وقد تقرر في الأدلة السمعية الو عيد عليها، وفي الصحيحين أنها من أكبر الكبائر، قال القرافي: ومقتضى العادة أنها ليست كبيرة إلا إذا عظمت مفسدتها، لكن الشرع جعلها فسوقا مطلقا وإن لم يثبت بها على المشهور عليه غير فلس.

العاشرة: اليمين الفاجرة ففي الصحيح: ((من اقتطع حق مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار)) قيل: يا رسول الله ولو كان شيئا يسيرا؟ فقال: ((ولو كان قضيبا من أراك)).

الحادية عشر: قطيعة الرحم، وهي فعيلة من القطع، وهو ضد الوصل،

ص: 443

والرحم القريب من جهة الأب أو الأم، وفي التنزيل:{وتقطعوا أرحاكم} وفي الصحيح: ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) كذا نقل الرافعي عن صحاب (العدة) أنها كبيرة ثم قال: إن للتوقف فيه مجالا.

قلت: وهل تختص القطيعة بالإساءة أم تتعدى إلى ترك الإحسان؟ فيه نظر والأول أقرب، والله أعلم.

الثانية عشر: العقوق ففي الصحيحين أنه من أكبر الكبائر والمشهور اختصاصه بالوالدين.

وقال الشارح: لم يقيده بذلك لما في الحديث: (الخالة بمنزلة الأم) صححه الترمذي وعلى قياسه العم أب، وفي الصحيح:((عم الرجل صنو أبيه)) قلت: لا يمكن أن يتخيل/ (107/أ/د) في الخالة والعم أن مخالفتهما في الإثم كمخالفة الوالدين، وإنما هما من جملة الأقارب فقطيعتهما قطيعة رحم، وليس في الحديثين المذكورين عموم، فلا يلزم من كونها بمنزلتها وكونه صنوه أن يكون ذلك في جميع الأمور، والله أعلم.

الثالثة عشر: الفرار من الزحف، وهو من السبع الموبقات، وفي التنزيل

ص: 444

{ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} .

الرابعة عشر: أخذ مال اليتيم بغير حق، وعبر بالآية بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع، وفي الصحيح عده من السبع الموبقات.

وقال الشيخ عز الدين في (القواعد) / (129/ب/م): نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فإن وقعا في مال خطير فظاهر وإن وقعا في حقير كزبيبة أو تمرة فهو مشكل، يجوز أن يجعل كبيرة قمعا عن المفسدة كشرب قطرة خمر، ويجوز ضبطه بنصاب السرقة.

الخامسة عشر: الخيانة في الكيل أو الوزن، وفي معناهما الزرع قال تعالى:{ويل للمطففين} .

قال الشارح: ومطلق الخيانة أيضاً من الكبائر، قال الله تعالى:{إن الله لا يحب الخائنين}

السادسة عشر: تقديم الصلاة على وقتها وتأخيرها عنه من غير عذر يبيح ذلك كالسفر وغيره، وعليه حمل الحديث الذي رواه الترمذي:((من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر)) وفهم من

ص: 445

ذلك تركها بالكلية.

وقال ابن حزم: لا ذنب بعد الشرك أعظم من ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وقتل مؤمن بغير حق.

السابعة عشر: الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) ولا يخفى تقييد إطلاق المصنف بالتعمد فإنه يصدق مع الخطأ على المشهور.

وقال الشيخ أبو محمد الجويني: إن الكذب عليه كفر.

قال الشارح: ولا شك أن تعمد الكذب عليه في تحليل حرام أو تحريم حلال كفر محض، وإنما الخلاف في تعمده فيما سوى ذلك، قال: وتقييد المصنف يوهم أن الكذب على غيره ليس بكبيرة وليس على إطلاقه ومنه الكذاب في غالب أقواله.

قلت: إنما صار فعل ذلك كبيرة بالإصرار والله أعلم.

الثامنة عشر: ضرب المسلم أي بغير حق، كذا حكاه الرافعي عن صاحب (العدة) وفيه نظر وطرده في كل مسلم وفي كل ضرب بعيد.

قال الشارح: وخص المصنف المسلم لأنه أفحش أنواعه، وإلا فالذمي

ص: 446

بغير حق كذلك.

قلت: إن أراد في التحريم فمسلم، وإن أراد في كونه كبيرة فممنوع والله أعلم.

التاسعة عشر: سب الصحابة، ففي الصحيحين النهي عنه وفي صحيح البخاري:((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)).

قلت: ولو عبر بسب/ (107/ب/د) صحابي لكان أحسن، ويستثنى من ذلك سب الصديق/ (130/أ/م) رضي الله عنه بنفي الصحبة فهو كفر لتكذيب القرآن والله أعلم.

العشرون: كتمان الشهادة قال الله تعالى: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} وذكر في التفسير أنه مسخ القلب، قال ابن القشيري: من كتمان الشهادة الامتناع من أدائها بعد تحملها، ومنه أن لا يكون عند صاحب الحق علم بأن له شهادة وخانه صاحبه.

الحادية والعشرون: الرشوة وهي مثلثة الراء: بذل مال لتحقيق باطل أو إبطال حق.

قلت: كذا أطلقه الشارح، وهذا بالنسبة للباذل، فلو بذل ليصل إلى حقه لم يحرم، كفك الأسير أما من جهة الآخذ فهي حرام في الأحوال الثلاثة.

والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله الراشي والمرتشي)) وحكي عن العبادي وغيره أنه لو بذل مالا لمن يتكلم في أمره مع

ص: 447

السلطان فهو جعالة.

وقال الغزالي: إن بذل المال للتقرب إلى شخص ليتوسل بجاهه إلى أغراضه هدية إن كان جاهه بالعلم أو النسب، ورشوة إن كان بالقضاء والعمل.

الثانية والعشرون: الدياثة وهي استحسان الرجل على أهله والقيادة وهي استحسانه على أجنبية، كذا قال الشارح: لكن في أصل (الروضة) في الطلاق عن (التتمة) أن القواد من يحمل الرجال إلى أهله ويخلي بينهم وبين الأهل، ثم قال: ويشبه أن لا يختص بالأهل بل هو الذي يجمع بين الرجال والنساء بالحرام، ثم حكي عن (التتمة) أيضا أن الديوث من لا يمنع الناس الدخول على زوجته، وعن (الرقم) للعبادي أنه الذي يشتري جارية تغني للناس. انتهى.

وهذا يقتضي أن يفرق ما بينهما فرق ما بين العام والخاص، والله أعلم.

قال الله تعالى: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} وفي الحديث: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة)) فذكر منهم الديوث.

قال الذهبي: إسناده صالح.

الثالثة والعشرون: السعاية، أي عند السلطان بما يضر المسلم وإن كان/ (130/ب/م) صدقا.

ص: 448

الرابعة والعشرون: منع الزكاة أي من غير جحود، فإن جحودها كفر وقد قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة وإن لم يجحدوا وجوبها وأجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم ويدخل في ذلك المنع المطلق والمنع وقت الوجوب بلا عذر أما لو جحد وجوب الزكاة مخصوصة كزكاة مال الصبي فإنه لا يكفر للخلاف فيه.

الخامسة والعشرون: اليأس من رحمة الله قال الله تعالى: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} والآيس مكذب لقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} وفي معناه القنوط، والظاهر أنه أبلغ منه للترقي إليه في قوله تعالى:{وإن/ (108/أ/د) مسه الشر فيؤوس قنوط}

السادس والعشرون: الأمن من مكر الله بالاسترسال في المعاصي والاتكال على الرحمة، قال الله تعالى:{وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} وقال تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} .

السابعة والعشرون: الظهار، وهو قول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي، قال تعالى:{وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا}

الثامنة والعشرون: أكل لحم الخنزير أو الميتة من غير اضطرار قال تعالى: {إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} وفي هذه الآية عطف الخاص على العام، وفي كلام المصنف عطف العام

ص: 449

على الخاص.

التاسعة والعشرون: فطر رمضان لأن صومه من أركان الإسلام وفي الحديث: ((من أفطر يوما من رمضان من غير عذر ولا رخصة لم يقضه صيام الدهر)).

الثلاثون: الغلول، وهو الخيانة من الغنيمة أو بيت المال أو الزكاة، قاله الأزهري وغيره، وقال أبو عبيد: من المغنم خاصة.

وقال الإمام أحمد: ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على أحد إلا على الغال. وقاتل نفسه.

الحادية والثلاثون: المحاربة، لقوله تعالى:{إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله} الآية.

قلت: ولم يعدها في (الروضة) من الكبائر ولا شك فيه، إذا حصل فيها قتل أو أخذ مال/ (131/أ/م) وهي حينئذ مندرجة فيما سبق فإن لم يوجد إلا إخافة السبيل من غير انضمام أحدهما فقد يتوقف في عدها من الكبائر والله أعلم.

الثانية والثلاثون: السحر، ففي الصحيح عده من السبع الموبقات قلت: ونقل ابن عطية في تفسيره/عن مالك والشافعي: أنه كفر، والله أعلم.

ص: 450

الثالثة والثلاثون: الربا وهو معروف، ففي الصحيح عده من السبع الموبقات، وفي التنزيل:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وجوز الشارح في كلام المصنف أن يكون بالياء المثناة من تحت، فإنه من الكبائر أيضا.

وفي صحيح مسلم في حديث الشهيد والعالم والمنفق في سبيل الخير رياء إنه يقال لكل منهم: إنما فعلت ليقال ثم يؤمر به فيسحب إلى النار، وأنهم أول ثلاثة تسعر بهم النار.

وصحح الحاكم مرفوعا: ((اليسير من الرياء شرك)).

الرابعة والثلاثون: إدمان الصغيرة أي: الإصرار عليها إما فعلا أو عزما وهل المراد المداومة على نوع من الصغائر أم الإكثار من الصغائر؟ سواء أكانت من نوع أو أنواع؟ فيه وجهان.

قال الرافعي والنووي: موافق.

الثاني – قول الجمهور: من غلبت طاعته معاصيه/ (109/ب/د) كان عدلا وعكسه فاسق.

ولفظ الشافعي في المختصر يوافقه فعلى هذا لا تضر المداومة على نوع من الصغائر إذا غلبت الطاعات. وعلى الأول: تضر.

واعترض عليه ابن الرفعة في (المطلب) بأن مقتضاه أن مداومة النوع

ص: 451

الواحد مضر على الوجهين، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأنه في ضمن حكايته قال: إن الإكثار من نوع واحد كالإكثار من أنواع.

نعم يظهر أثرهما فيما لو أتى بأنواع من الصغائر، فإن قلنا بالأول لم يضر لمشقة كف النفس عنه، وهو ما حكاه في (الإبانة) وإن قلنا بالثاني ضر.

وكان شيخنا الإمام البلقيني يقول: الإكثار من النوع غير المداومة عليه ويحمل الإكثار على الأكثرية التي يغلب بها معاصيه على طاعته وهذا غير المداومة/ (131/ب/م) فالمؤثر إنما هو الغلبة لا المداومة.

ص: مسألة: الإخبار عن عام لا ترافع فيه الرواية وخلافه الشهادة.

ش: مما يحتاج إليه الفرق بين الرواية والشهادة واختلافهما في بعض الأحكام، كاشتراط العدد والحرية والذكورة في الشهادة دون الرواية، لا يدل على اختلاف حقيقتيهما.

وقال القرافي: أقمت مدة أطلب الفرق بينهما حتى ظفرت به في كلام الماوردي، وهو أن المخبر عنه إن كان عاما لا يختص بمعين ولا ترافع فيه إلى الحكام، فهو الرواية.

وإن اختص بمعين والترافع فيه ممكن فهو الشهادة، ولذلك استظهر في الشهادة باشتراط العدد فيها لما فيها من التهمة لتعلقها بمعين، ويعارضه أن الرواية شرع عام لجميع المكلفين، فهي أجدر بالاحتياط من إثبات على معين لكن فرق الشيخ عز الدين بوجوه:

أحدها: هيبة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره.

ثانيها: أنه لو لم يقبل رواية واحد لفات على أهل الإسلام تلك المصلحة

ص: 452

العامة، بخلاف فوات حق واحد.

ثالثها: كثرة العداوة بين الناس، وهي حاملة لهم على شهادة الزور، بخلاف الأحاديث النبوية.

قلت: وكون الرواية لا تختص بمعين هو الغالب، فإن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره كإجزاء العناق عن أبي بردة بن نيار في الأضحية مختصة بمعين.

ص: وأشهد إنشاء تضمن الإخبار لا محض إخبار أو إنشاء على المختار.

ش: في قول الشاهد: أشهد بكذا – ثلاثة مذاهب:

أحدها: أنه إخبار محض وهو ظاهر كلام أهل اللغة، قال ابن فارس في (المجمل): الشهادة خبر عن علم، وقال الإمام فخر الدين: قوله: أشهد، إخبار عن الشهادة وهي الحكم الذهني المسمى كلام/ (109/أ/د) النفس.

الثاني: أنه إنشاء، وإليه مال القرافي لأنه لا يدخله تكذيب شرعا وأما قوله تعالى:{والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} راجع إلى تسميتهم ذلك شهادة، لأنها ما واطأ فيه القلب اللسان.

الثالث – وهو المختار -: أنها إنشاء تضمن الخبر عما في النفس.

قال الشارح: واعلم/ (132/أ/م) أن نقل المذاهب في هذه المسألة هكذا لا يوجد مجموعا، وإنما هو مفرق في كلام الأئمة بالتلويح.

ص: وصيغ العقود كبعت إنشاء خلافا لأبي حنيفة.

ص: 453

ش: صيغ العقود كـ (بعت واشتريت) وكذا الفسوخ نحو: (فسخت وطلقت وأعتقت) اختلفوا في أنها في الشرع باقية على مدلولها اللغوي، وهو الإخبار، أو نقلت عنه إلى الإنشاء؟

فذهب أصحابنا إلى الثاني، وفي (المحصول) أنه الأقرب، وعزاه الصفي الهندي والأصفهاني للأكثرين، وحكي الأول عن الحنفية وفي حكاية المصنف ذلك عن أبي حنيفة نظر، فإنه لا يعلم له فيه نص.

وقد أنكره القاضي شمس الدين السروجي وقال: لا أعرفه لأصحابنا والمعروف عندهم أنه إنشاء.

ص: فقال القاضي: يثبت الجرح والتعديل بواحد وقيل: في الرواية فقط وقيل: لا فيهما.

ش: اختلف في اشتراط العدد في الجرح والتعديل على مذاهب:

أحدها: أنه يكتفى فيهما بواحد سواء أكان في الرواية أو الشهادة، وهو اختيار القاضي أبي بكر، قال: هذا القول قريب لا شيء عندنا يفسده وإن كان الأحوط أنه لا يقبل في تزكية الشاهد خاصة أقل من اثنين.

الثاني: أنه لا يقبل فيهما إلا اثنان، حكاه القاضي أبو بكر عن أكثر

ص: 454

الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم.

الثالث: الفرق بينهما فيكفي في الرواية واحد ويشترط في الشهادة اثنان، حكاه الآمدي وابن الحاجب عن الأكثرين ورجحه الإمام والآمدي وأتباعهما.

ص: وقال القاضي: يكفي الإطلاق فيهما، وقيل: يذكر سببهما وقيل: سبب التعديل فقط، وعكس الشافعي وهو المختار في الشهادة وأما الرواية: فالمختار: يكفي الإطلاق إذا عرف مذهب الجارح، وقول الإمامين: يكفي إطلاقهما للعالم بسببهما هو رأي القاضي إذ لا تعديل وجرح إلا من العالم.

ش: اختلف في اشتراط بيان السبب في الجرح والتعديل على مذاهب:

أحدها: أنه لا يشترط ذلك بل يكتفى بالإطلاق.

الثاني: لا بد من بيان سببهما.

الثالث: أنه يشترط ذكر سبب التعديل دون الجرح لكثرة التصنع في أسباب العدالة.

الرابع: عكسه أنه يشترط بيان سبب الجرح دون التعديل لاحتياجه في ذكر سبب التعديل إلى تفصيل/ (109/ب/د) جميع الأوامر والنواهي بخلاف الجرح فإنه يحصل بخصلة واحدة، وهو قول الشافعي رحمه الله.

وتبع المصنف في نقله القول الأول عن القاضي أبي بكر – الإمام فخر الدين والآمدي، ونقل عنه إمام الحرمين والغزالي في (المنخول) القول الثالث:

ص: 455

وهو بيان سبب التعديل دون الجرح، والموجود في (مختصر التقريب) له القول الرابع وهو ذكر سبب الجرح دون التعديل.

ورواه الخطيب البغدادي في (الكفاية) بسنده إليه، ونقله على الصواب الغزالي في (المستصفى) واختار المصنف في ذلك التفصيل وهو الاحتياج إلى ذكر سبب الجرح دون التعديل في الشهادة، والاكتفاء بالإطلاق في الرواية، إذا علم أن مذهب الجارح أنه لا يجرح إلا بقادح

ثم نبه المصنف على أن قول الإمامين – إمام الحرمين والإمام فخر الدين الرازي، أنه يكفي إطلاقهما أي الجرح والتعديل من العالم بأسبابهما دون غيره، ليس مذهبا خارجا عما سبق، بل هو رأي القاضي أبي بكر الذي بدأنا بذكره، لأن الجرح والتعديل إنما يعتبران من العالم بأسبابهما، فالجاهل بذلك لا يعتد بقوله والله أعلم.

تنبيه:

قال الشارح: ينبغي أن يكون الواو في قوله: (وقال القاضي) بمعنى (ثم) لأنه دخول منه في مسألة أخرى.

قلت: وليس كما قال، بل الواو على بابها، ولو كان دخولا في مسألة أخرى، وإنما يحسن الإتيان بـ (ثم) لو تفرعت هذه المسألة على التي قبلها، وليس كذلك بل هما مسألتان مستقلتان ليست إحداهما مفرعة على الأخرى، والله أعلم.

ص: والجرح مقدم إن كان عدد الجارح أكثر من المعدل إجماعا وكذا إن تساويا أو كان الجارح أقل، وقال ابن شعبان:

ص: 456

يطلب الترجيح.

ش: إذا تعارض الجرح والتعديل فإما أن يكون عدد الجارح أقل من المعدل/ (133أ/م) أو أكثر أو يتساويا فإن كان الجارح أكثر قدم بالإجماع كما حكاه غير واحد وإن تساويا فكذلك، وحكى القاضي في (مختصر التقريب) الإجماع عليه أيضا، لكن حكى ابن الحاجب قولا: إنهما يتعارضان ولا يرجح أحدهما إلا بمرجح.

وإن كان الجارح أقل فكذلك أيضا عند الجمهور، وقيل: يقدم التعديل لزيادة عدده، وقال ابن شعبان من المالكية: يطلب الترجيح بينهما وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: إنما يقوى تقديم الجرح بشرطين:

أحدهما: مع التفريع على أن الجرح لا يقبل إلا مفسرا.

ثانيهما: أن يبنى على أمر مجزوم به، لا بطريق اجتهادي، كما اصطلح أهل الحديث في الاعتماد في الجرح على اعتبار حديث الراوي بحديث غيره والنظر إلى كثرة الموافقة والمخالفة.

قلت: لم يعتمد أهل الحديث على ذلك في معرفة العدالة والجرح، وإنما اعتمدوا عليه في معرفة الضبط والتغفل (110/أ/د) والله أعلم.

ويستثنى من ذلك صورتان:

إحداهما: إذا عين الجارح سببا فنفاه المعدل بطريق معتبر بأن قال: (قتل فلانا ظلما يوم كذا) فقال المعدل: (رأيته حيا بعد ذلك) أو: (كان القاتل في ذلك الوقت عندي) فإنهما يتعارضان.

ص: 457

الثانية: إذا عين الجارح سببا فقال المعدل: تاب عنه، وحسنت توبته، فيقدم التعديل، لأن معه هنا زيادة علم، كما حكاه الرافعي عن جماعة منهم ابن الصباغ، وجزم به الرافعي في (المحرر) والنووي في (المنهاج).

ص: ومن التعديل حكم مشترط العدالة بالشهادة، وكذا عمل العالم في الأصح، ورواية من لا يروي إلا للعدل.

ش: قد يكون التعديل بالتصريح بعدالته وقد يكون بالتضمن، وذلك في صور.

الأولى – وهي أعلاها -: أن يحكم بشهادته من يشترط العدالة في قبول الشهادة: وتقييد الحاكم بكونه يشترط العدالة في قبول الشهادة ذكره الآمدي وغيره ولا بد منه، وهذه من خواص الشهادة ولكن إذا قبلت شهادته قبلت روايته.

الثانية: أن يعمل عالم بروايته إذا لم يعلم منه أنه إنما عمل بها احتياطا ونقل الآمدي فيه الاتفاق/ (133ب/م) لكن الخلاف فيها محكي في (البرهان) و (المنخول) وغيرهما، ولذلك عبر فيه المصنف بالأصح.

الثالثة: أن يروي عنه من عرف منه أنه لا يروي إلا عن عدل، إما بتصريحه بذلك، وإما بالاستقراء من حاله كشعبة ومالك ويحيى القطان وقيل الرواية عنه تعديل له مطلقا، وقيل: لا، مطلقا.

ص: 458

وعبر المصنف باللام في قوله: (للعدل) دون (عن) للإعلام بأنه لا ينحصر ذلك في الرواية عنه، بل روايته له في كتاب التزم فيه أن لا يروي فيه إلا للعدل – تعديل له، وذلك كصحيحي (البخاري) و (مسلم) ويلتحق بهما المستخرجات عليهما وصحيح (ابن خزيمة) و (ابن حبان) وكذلك (مستدرك) الحاكم، لولا ما شانه به من التساهل في تمشية حال الرواة والله أعلم.

ص: وليس من الجرح ترك العمل بمرويه والحكم بمشهوده، ولا الحد في شهادة الزنا، ونحو النبيذ ولا التدليس بتسمية غير مشهورة، قال ابن السمعاني: إلا أن يكون بحيث لو سئل لم يبينه ولا بإعطاء شخص اسم آخر تشبيها كقولنا: أبو عبد الله الحافظ يعني الذهبي، تشبيها بالبيهقي يعني الحاكم، ولا بإيهام اللقي والرحلة، أما مدلس المتون فمجروح.

ش: ثم ذكر أمورا قد يتوهم أنها تقتضي جرح الراوي وليس كذلك.

أحدها: ترك العمل بحديث قد رواه، أو ترك الحكم بشهادة قد أداها، فإنه لم يتعين أن يكون ذلك يجرحه، فقد يكون ذلك (110/ب/د) لمعارض وقال القاضي أبو بكر: إن تحقق تركه له مع ارتفاع الموانع كان جرحا، وإن لم يثبت قصده إلى مخالفته لم يكن جرحا.

الثاني: أن يقام عليه حد القذف لشهادته على شخص بالزنا إذا لم يكمل النصاب، لأن الحد لنقص العدد لا لمعني في الشاهد وهذا مبني على

ص: 459

الأظهر في إقامة الحد على شهود الزنا إذا لم يكمل النصاب، وألحق به الرافعي الجارح للراوي بذكر الزنا إذا لم يكمل النصاب حتى يكون قاذفا على الأصح، وقال النووي: المختار أو الصواب أنه لا يجعل قاذفا لأنه معذور في شهادته بالجرح، فإنه مسؤول عنها وهي في حقه فرض الكفاية، أو متعينة بخلاف شهود الزنا فإنهم مندوبون إلى الستر فهم مقصرون.

الثالث: ارتكاب مختلف فيه كشرب قدر من النبيذ لا يسكر، ولهذا قال الشافعي:(أحده وأقبل شهادته)، وقد تقدم هذا في قول المصنف:(ويقبل من أقدم على مفسق مظنون).

وقال مالك في/ (134أ/م) المستحل لنكاح المتعة: أحده للمعصية وأرد شهادته لفسقه.

الرابع: أن يستعمل الإنسان تدليس الشيوخ بأن يسمي الراوي بتسمية غير مشهورة لأنه صادق في نفس الأمر، وقد فعله غير واحد من الأئمة، واستثنى منه ابن السمعاني ما إذا كان لو سئل عنه لم يفصح عنه ولم يسمه باسمه المشهور، لأنه تزوير وإيهام لما لا حقيقة له، وذلك يؤثر في صدقه، وفصل الآمدي بين أن يكون سبب تدليسه ضعفه فهو جرح، وإن كان لصغر سنه أو للاختلاف في قبول روايته كالمبتدع، وهو يرى قبولها فليس جرحا.

قلت: ويلتحق بالقسم الثاني ما إذا فعل ذلك إيهاما لكثرة الشيوخ كما حكي عن الخطيب البغدادي.

ثم نبه المصنف أيضا على أن مما لا يقدح وصف الإنسان بصفة اشتهر بها غيره للتشبيه به، إذا لم يحصل بذلك التباس كما كان المصنف رحمه الله يقول في بعض مصنفاته: أنا أبو عبد الله الحافظ، يريد به الذهبي ومما حكي عن الشارح أنه قال في بعض تصانيفه: أنا أبو عبد الله الحافظ يريد به مغلطاي تشبيها بقول البيهقي فيما يرويه عن شيخه الحاكم: حدثنا أبو عبد الله الحافظ.

وكذلك مما لا يقدح استعمال الراوي لفظا يوهم الرحلة ولقي المشايخ الذين

ص: 460

تباعدت أقطارهم كقوله: حدثنا فلان بما وراء النهر، موهما نهر جيحون وإنما أراد نهر عيسى ببغداد، أو الجيزة بمصر، ومن ذلك قول القائل: حدثنا فلان بحلب، يوهم إرادة البلدة المعروفة وإنما يريد محلة بظاهر (111/أ/د) القاهرة.

أما تدليس المتون فهو جرح، قال الأستاذ أبو منصور: وهو الذي يسميه المحدثون بالمدرج، أي أنه أدرج كلامه مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يميز بينهما فظن أن جميعه كلام النبي صلى الله عليه وسلم

تنبيه:

سكت المصنف عن تدليس الإسناد، والمراد به أن يسقط الراوي اسم شيخه ويرتقي إلى شيخ شيخه بلفظ محتمل للاتصال كـ (عن) ونحوها مع إيهام أنه سمعه منه لكونه عاصره أما لو أتى بصيغة صريحة في الاتصال كسمعت، فهذا كذب وإن لم يدرك/ (134/ب/م) شيخ شيخه فليس بتدليس وإنما هو إرسال، والحكم في هذا النوع من التدليس قبول رواية فاعله إذا صرح بالسماع كحدثنا وأخبرنا، فإن عنعن فروايته مردودة، فليس حينئذ جرحا.

وقالت طائفة: بل هو جرح ترد به رواية فاعله مطلقا، والله أعلم.

ص: مسألة: الصحابي من اجتمع مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يرو ولم يطل بخلاف التابعي مع الصحابي وقيل: يشترطان وقيل: أحدهما، وقيل: الغزو أو سنة.

ش: عدل عن تعبير ابن الحاجب وغيره بـ (الرؤية) إلى (الاجتماع) لتناول من اجتمع به من العميان كابن أم مكتوم.

ص: 461

وقيد الاجتماع بحالة الإيمان ليخرج من اجتمع به في حالة الكفر، فإنه ليس صحابيا.

ولا يشترط في ذلك أن يروي عنه حديثا، ولا أن تطول صحبته له هذا هو الصحيح المشهور.

قوله: (وقيل: يشترطان) أي: الرواية عنه، وطول الصحبة له فلا يسمى صحابيا إلا باجتماعهما.

وقوله: (وقيل: أحدهما) مقتضاه أنه يكتفى على هذا القول بالرواية أو طول الصحبة.

وقال الشارح: مراد المصنف بقوله: (وقيل أحدهما) أنه يشترط الصحبة الطويلة، ولا تشترط الرواية لأنه لم يذهب أحد إلى اشترط الرواية دون المجالسة كما يوهمه ظاهر هذه العبارة.

وقيل: يشترط أحد أمرين، إما الغزو معه أو صحبته سنة، وهو المحكي عن سعيد بن المسيب وهو ضعيف لإخراجه مثل جرير البجلي ووائل بن حجر، وغيرهما ممن لم يشهد معه غزوة، ولا أقام معه سنة مع أن

ص: 462

الإجماع على عدهم من الصحابة، وهذا بخلاف التابعي فإنه لا يثبت له هذا الاسم بمجرد رؤية الصحابي بل لا بد من صحبته له، هكذا ذهب إليه جماعة منهم الخطيب البغدادي.

والفرق: شرف رؤية النبي صلى الله عليه وسلم فمن اجتمع به ولو مرة انطبع قلبه على الاستقامة بخلاف رؤية الصحابي، وذهب آخرون إلى الاكتفاء فيه بمطلق الاجتماع كالصحابي بل هو أولى بذلك منه من حيث الاشتياق لتأكد الأمر في الصحبة بخلاف التبعية، والله أعلم.

ص: ولو ادعى المعاصر العدل الصحبة قبل وفاقا للقاضي.

ش:/ (135/أ/م) إنما حكاه المصنف عن القاضي لأن كلام ابن الحاجب يقتضي أن المسألة غير منقولة وتوقف فيها من جهة أنه يدعي لنفسه (رتبة) فيتهم في ذلك كما لو/ (111/ب/د) قال: أنا عدل.

قلت: وفي النفس من عمل المحدثين في ذلك شيء، وهم أنهم يثبتون الصحبة لكن من ادعاها في العصر الذي كان الصحابة فيه موجودين ثم يستدلون على عدالته بصحبته لا يطلبون على ذلك مزيدا وذلك يقتضي اكتفاءهم في معرفة العدالة بمجرد دعوى الصحبة، ولعلهم اكتفوا في ثبوت عدالته برواية من روى عنه ادعاءه للصحبة، فإنه لولا معرفته بعدالته لما روى عنه وتلقى دعواه بالقبول والله أعلم.

ص: والأكثر على عدالة الصحابة وقيل: كغيرهم وقيل: إلى قتل عثمان وقيل: إلا من قاتل عليا.

ص: 463

ش: جمهور العلماء من السلف والخلف على أن الصحابة كلهم عدول لا يحتاج إلى البحث عن عدالتهم من لابس منهم الفتنة وغيرهم لأن الله تعالى عدلهم في آيات منها قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال إمام الحرمين: ولعل السبب في أنهم حملة الشرع، فلو ثبت توقف في رواياتهم لانحصرت الشريعة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولما استرسلت على سائر الأعصار.

ووراء ذلك مذاهب شاذة:

أحدها: أن حكمهم في ذلك كغيرهم فيجب في كل منهم البحث عن عدالتهم.

الثاني: أنهم على عدالتهم إلى قتل عثمان رضي الله عنه لظهور الفتن فيحتاج بعده للبحث عن العدالة.

الثالث: أن من قاتل عليا رضي الله عنه فهو فاسق لخروجه عن الإمام الحق.

ص: مسألة: المرسل قول غير الصحابي قال صلى الله عليه وسلم.

ش: هذا تعريف الأصوليين وغير الصحابي يتناول التابعي وتابع التابعي ومن بعدهما، وخصه المحدثون بالتابعي وقيده بعضهم بالكبير منهم وهو من أكثر رواياته عن الصحابة فإن كان الساقط واحدا قبل التابعي كرواية الشافعي/ (135/ب/م) عن نافع سمي منقطعا، وإن كان أكثر من واحد كرواية أحمد بن حنبل عن نافع سمي معضلا.

ص: 464

ولو عبر المصنف برواية غير الصحابي لكان أحسن ليتناول ما إذا كانت صيغة روايته غير قال من صيغ الرواية.

وفهم منه أن رواية الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم لا توصف بالإرسال وإن لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذلك من حيث الحكم كما سيأتي وأما الصورة فإذا روى قصة لم يدركها فهي مرسلة.

ص: واحتج به أبو حنيفة ومالك والآمدي مطلقا، وقوم: إن كان المرسل من أئمة النقل، ثم هو أضعف من المسند، خلافا لقوم والصحيح: رده، وعليه الأكثر منهم الشافعي والقاضي أبو بكر الباقلاني قال مسلم: وأهل العلم بالأخبار.

ش: لما ذكر صورة المرسل أخذ يذكر حكمه، وفيه مذاهب:

أحدها: أنه حجة مطلقا وبه قال أبو حنيفة ومالك: (112/أ/د) وأحمد في أشهر الروايتين عنه، واختاره الآمدي.

الثاني: التفصيل بين أن يكون المرسل – بكسر السين – من أئمة النقل فهو حجة، أو غيرهم فلا، وبه قال عيسى بن أبان، واختاره ابن الحاجب وصاحب (البديع) ثم ذكر المصنف تفريعا على القول بأنه حجة أنه أضعف من المسند بحيث لو تعارضا قدم المسند عليه خلافا لقوم من الحنفية قالوا: إنه أقوى من المسند.

الثالث: رده، وأنه ليس بحجة وبه قال الشافعي واختاره القاضي

ص: 465

أبو بكر، وعزاه المصنف للأكثر اعتمادا على قول مسلم في مقدمة صحيحة:(والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة).

وقد اعترض على نقل ذلك عن مسلم بأنه لم يقله من عند نفسه وإنما حكاه عن خصمه.

وجوابه أنه لما حكاه عن خصمه ولم يرده عليه وإنما رد من كلامه غير هذا، كان موافقا له عليه وفي هذا الكلام رد على من زعم أن الشافعي أول من رد المرسل، ولا يقال كونه قول الأكثر لا ينافي أن يكون أولهم الشافعي لأنه جعله/ (136/أ/م) أصل قول أهل العلم بالأخبار مطلقا، فكيف يكون هذا من أصولهم المقررة عندهم، وهو قول اخترعه الشافعي بعد دهور متطاولة.

قال الشارح: وفي تسوية المصنف بين الشافعي والقاضي في الإنكار مطلقا نظر، فإن الشافعي قبله في بعض المواضع.

قال القاضي: ونحن لا نقبل المراسيل مطلقا، ولا في الأماكن التي قبلها فيه الشافعي حسما للباب، بل وزاد القاضي وأنكر حجية مرسل الصحابي إذا احتمل سماعه من تابعي، نص عليه في (التقريب) انتهى.

ص: فإن كان لا يروي إلا عن عدل كابن المسيب قبل وهو مسند.

ش: هذا استثناء من رد المرسل فيحتج به فيما إذا كان المرسل – بكسر السين – لا، يروي أي المرسلات إلا عن عدل، أي أنه استقرئ أمره فكان إذا أرسل لا يرسل إلا عن ثقة.

وقول المصنف: (وهو مسند) أي له حكم المسند في الاحتجاج به ولم يرد أنه مسند حقيقة وهذا معنى قول الشافعي رحمه الله: (أقبل مراسيل ابن المسيب لأني اعتبرتها فوجدتها لا ترسل إلا عمن يقبل خبره، ومن هذا حاله

ص: 466

أحببت مراسيله) وأشار إمام الحرمين إلى أن هذا مذهب الشافعي، ومنه يعلم أنه لا يخص القبول بمراسيل سعيد بن المسيب بل يطرده في كل من هذه صفته.

وقال النووي في (الإرشاد) اشتهر عند أصحابنا أن مرسل سعيد حجة عند الشافعي وليس كذلك، وإنما قال الشافعي في (مختصر المزني):(إرسال ابن المسيب عندنا حسن) فذكر صاحب (التهذيب) وغيره من أصحابنا في أصول الفقه في (112/ب/د) معنى كلامه وجهين:

أحدهما: أن مراسيله حجة، لأنها فتشت فوجدت مسانيد.

والثاني: ليس بحجة، بل هي كغيرها، وإنما رجح الشافعي به والترجيح بالمرسل صحيح، وحكاه الخطيب ثم قال: والصحيح عندنا الثاني، لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندا بحال من وجه يصح، وذكر البيهقي نحوه، وأن الشافعي لم يقبل مراسيل ابن المسيب حيث لم يجد/ (136/ب/م) لها ما يؤكدها، وإنما يزيد ابن المسيب على غيره أنه أصح الناس إرسالا فيما زعم الحفاظ.

قال النووي: فهذا كلام الخطيب والبيهقي وهما ما هما في معرفة نصوص الشافعي وطريقته، وأما قول القفال في شرح (التلخيص) قال الشافعي في الرهن الصغير:(مرسل ابن المسيب عندنا حجة) فهو محمول على ما قاله الخطيب والبيهقي.

ص: وإن عضد مرسل كبار التابعين ضعيف يرجح كقول الصحابي أو فعله أو الأكثر أو إسناد أو إرسال أو قياس، أو انتشار أو عمل العصر كان المجموع حجة، وفاقا للشافعي لا مجرد المرسل ولا المنضم فإن تجرد ولا دليل سواه فالأظهر الانكفاف لأجله.

ش: يستثنى من رد المرسل مطلقا ما إذا كان المرسل – بكسر السين –

ص: 467

من كبار التابعين، وهو من أكثر رواياته عن الصحابة، واعتضد بأمر ضعيف أي لا يصلح، للاحتجاج به على انفراده ولكنه ترجح بصلاحيته للاحتجاج به عند انضمام غيره إليه، فإن بعض الضعف ينجبر وبعضه لا ينجبر كما قرره المحدثون في الكلام على ألفاظ التجريح وذلك يتناول صورا:

أحدها: أن يعتضد بقول صحابي أو فعله فإن الظن يقوى عنده.

قلت: وكان فتوى الصحابي على وفقه تدل على أن له أصلا في الشريعة، وقد احتج بعضهم بالمرسل وبعضهم بقول الصحابي، فإذا اجتمع تأكد أحدهما بالآخر.

ثانيها: أن يوافق قول أكثر أهل العلم.

قال الشارح: وظن القاضي أن الشافعي يريد الإجماع أو قول العوام، فردد عليه الكلام، وإنما أراد أكثر أهل العلم.

ثالثها: أن يروى مثله مسندا من جهة أخرى، قال في (المحصول) وهذا في مسند لم تقم الحجة بإسناده وهو مقتضى إدراج المصنف له في صور الضعيف، وقال غيره: بل هو في مسند صحيح، وهذا مقتضى إطلاق المصنف الإسناد.

فعلى الأول يحصل لهما قوة بالاجتماع، ويتقوى كل منهما بالآخر.

وعلى الثاني يتبين بمجيء المسند صحة المرسل ويصيران دليلين يرجحان إذا عارضهما دليل آخر.

رابعها: أن يروى مثله مرسلا من راو آخر أخذ العلم عن غير شيوخ الأول واحترز بذلك عن مثل مرسل أبي العالية في انتقاض الوضوء بالقهقهة

ص: 468

في الصلاة، فإنه روى (113/أ/د) من مرسلات غيره أيضا لكن تتبعت فوجدت كلها ترجع لمرسل أبي العالية.

خامسها: أن يوافق قياسا.

سادسها: أن ينتشر من غير نكير.

سابعها: أن ينضم إليه عمل أهل العصر به.

قال الشارح: وأشار المصنف بقوله: (كان المجموع حجة) إلى الجواب عما اعترض به القاضي وغيره على الشافعي من أن ضم الضعيف إلى الضعيف لا يوجب القبول.

وأجاب عنه المحققون بأن صورة الاجتماع تثير ظنا غالبا، وهذا شأن كل ضعيفين اجتمعا لأن الظن يتقوى فلا يلزم، من عدم الاحتجاج بالأضعف عدم الاحتجاج بالأقوى، ونظير ذلك الخبر المحتف بالقرائن يفيد القطع عند قوم، مع أنه لا يفيد ذلك بمجرده ولا القرائن بمجردها انتهى.

أما إذا تجرد المرسل ولم ينضم إليه شيء مما تقدم ففيه أقوال:

أحدها: أنه لا يحتج به حكاه البيهقي عن الشافعي.

الثاني: أنه يحتج به إذا لم يكن في الباب سواه، حكاه الماوردي عن الشافعي أيضا.

الثالث – وهو الذي قال المصنف: إنه الأظهر -: الانكفاف لأجله.

قال الشارح: وهو توسط بين القولين.

ص: 469

قلت: الذي فهمته من هذه العبارة: أن المجتهد ينكف عن العمل في تلك المسألة بما يقتضيه المرسل لأنه غير حجة وبما يخالفه لاحتمال كونه حجة، وهذا معنى قوله:(لأجله).

وحاصله: أنه يحدث شبهة توجب التوقف في تلك المسألة، والله أعلم.

تنبيه:

قال الشارح: من تأمل نصوص الشافعي في (الرسالة) وجدها مصرحة بأنه لم يطلق أن المرسل حينئذ حجة، بل يسوغ الاحتجاج به ولهذا قال الشافعي بعد ذلك: ولا أستطيع أن أقول: الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل.

قال الشارح: فائدة ذلك أنه إذا عارضه متصل كان المتصل مقدما عليه، ولو كان حجة مطلقا لتعارض.

وقد قال القاضي: في (التقريب): قال الشافعي في هذه المواضع: أستحب قبوله ولا أستطيع أن أقول الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل.

قال: فقد نص على أن القبول القول عند هذه الأمور مستحب لا واجب، لكن قال البيهقي: مراده بقوله أحببنا: اخترنا، انتهى.

قلت: لا فرق بين كونه حجة وبين كونه يسوغ الاحتجاج به، فإنه لا يسوغ الاحتجاج إلا بما هو حجة، وقول الشافعي: لا أستطيع أن أقول: إن الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل) لا يدل على أنه ليس حجة، بل هو حجة لكن غيره أقوى منه فلو عارضه متصل أقوى منه قدم عليه.

وقول الشارح: لو كان حجة مطلقا لتعارضا 0 مردود فإن الذي هو حجة مطلقا يقدم عليه معارضه إذا كان أقوى منه، والله أعلم.

ص: 470

ص: مسألة: الأكثر على جواز نقل الحديث بالمعنى للعارف، وقال الماوردي: إن نسي (113/ب/د) اللفظ، وقيل: إن كان موجبه علما وقيل: بلفظ مرادف، وعليه الخطيب ومنعه ابن سيرين وثعلب والرازي وروي عن ابن عمر.

ش: في جواز رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى مذاهب:

الأول: وبه قال الأئمة الأربعة والجمهور – الجواز لكن بشرط أن يكون فاعل ذلك عارفا بمدلولات الألفاظ، فإنه يشترط أن يكون اللفظ المأتي به مساويا للفظ الرسول صلى الله عليه وسلم في المعنى بلا زيادة ولا نقص ومساويا له في الجلاء والخفاء إذ لو أبدل جليا بخفي أو العكس لترتب على ذلك تقديم ما يجب تأخيره أو العكس لوجوب تقديم أجلى الخبرين المتعارضين على مخالفه.

وروى ابن منده في معرفة الصحابة من حديث عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي قال: قلت: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث ولا أستطيع أن أؤديه كما سمعته منك، يزيد حرفا أو ينقص حرفا، فقال:((إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس)) فذكر ذلك للحسن فقال: لولا هذا ما حدثنا.

الثاني: أنه يجوز مع نسيان اللفظ، ولا يجوز مع تذكره، لأنه قد تحمل اللفظ والمعنى، وعجز عن أحدهما، فيلزمه أداء الآخر وبه قال الماوردي وجعل محل الخلاف في الصحابي وقطع في غيره بالمنع.

الثالث: التفصيل فإن كان مقتضاه علما جاز وإن اقتضى عملا/ (138/أ/م) فمنه ما لا يجوز الإخلال بلفظه، كقوله:(تحريمها التكبير وتحليلها التسليم).

ص: 471

و (خمس يقتلن في الحل والحرم) حكاه ابن السمعاني وجها لبعض أصحابنا.

الرابع: أنه يجوز إبدال اللفظ بما يرادفه دون غيره، وبه قال الخطيب: البغدادي.

الخامس: المنع مطلقا وبه قال محمد بن سيرين، واختاره ثعلب وأبو بكر الرازي من الحنفية، ورواه ابن السمعاني عن ابن عمر.

تنبيه: يسأل عن الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة جواز إقامة أحد المترادفين مقام الآخر، وجوابه: أن تلك في بحث اللغوي فالمجيز فيها والمانع كلاهما مستند إلى نقل اللغة، وهي عامة في سائر الكلام، وهذه في أمر شرعي فالمستند فيها الدليل السمعي، وهي خاصة بنقل حديثه عليه الصلاة والسلام.

ص: مسألة: الصحيح يحتج بقول الصحابي: قال – صلى الله عليه وسلم وكذا عن، على الأصح، وكذا سمعته أمر ونهى، أو أمرنا أو حرم، وكذا رخص في الأظهر والأكثر يحتج بقوله من السنة فكنا معاشر الناس أو كان الناس يفعلون في عهده صلى الله عليه وسلم فكنا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم فكان الناس يفعلون (114/أ/د) فكانوا لا يقطعون في الشيء التافه.

ش: ذكر في هذه المسألة الصيغ التي يعبر بها الصحابي فيما ينقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلاها: أن يأتي بلفظ صريح في الاتصال، كحدثني وأخبرني،

ص: 472

وسمعته يقول: ونحوها، ولم يذكر المصنف هذه لوضوحها وعدم الخلاف فيها.

الثانية: قال صلى الله عليه وسلم فالصحيح الاحتجاج بذلك حملا على سماعه منه، لأن الظاهر أنه لا يجزم بذلك إلا وقد سمعه منه، ومقابل الصحيح في كلام المصنف ما حكاه الآمدي وابن الحاجب عن القاضي: أنه متردد بين سماعه منه ومن غيره عنه، فإن قلنا بعدالة جميع الصحابة قبل، وإلا فكالمرسل لكن المصنف في شرح المختصر قال: إنهما وهما في ذلك على القاضي وأنه لا خلاف في/ (138/أ/م) القبول، ويوافقه قول الصفي الهندي: لا يتجه فيه خلاف لظهوره في الرواية عنه صلى الله عليه وسلم وبتقدير روايته عن الصحابي فغير قادح لثبوت عدالتهم وأما احتمال روايته عن تابعي فنادر.

قال الشارح: لكن القاضي في (التقريب) لما اختار رد المرسل قال: وكذلك مرسل الصحابي إذا احتمل سماعه من تابعي وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق وأغرب ابن برهان في (الأوسط) فقال: إنه الأصح.

ويتحصل من كلامهم خلاف في سبب المنع وإن كان الكل عدولا هل هو احتمال روايته عن تابعي أو عن صحابي قام به مانع كسارق رداء صفوان ونحوه. انتهى.

قلت: هذا متناقض كيف يجتمع عدالة كلهم مع اتصاف سارق الرداء بغير ذلك، وهو منهم؟ فالحق عدالة جميعهم للنص عليها ولا يفسق أحد منهم بارتكاب ما يفسق غيرهم بارتكابه والله أعلم.

الثالثة: أن يأتي بصيغة (عن) كذا صححه ابن الصلاح والبيضاوي،

ص: 473

والصفي الهندي وفي (المحصول): في كونه حجة مذهبان من غير ترجيح، ومقتضى كلامه أن مقابل الأصح هنا التوقف لا الجزم بالمنع.

ثم رتب المصنف أن على وكذا عن ومقتضاه تصحيح القبول فيها أيضا إلا أن الخلاف فيها مرتب على الخلاف في عن، وهذا مفهوم من عطف المصنف لها بالفاء، وقد ذكر الخلاف فيها الصفي الهندي، فقال: منهم من ذهب إلى أنه ظاهر في أنه أخبره به إنسان آخر عنه عليه الصلاة والسلام وهو ساقط لما سبق في المرسل. انتهى.

والخلاف في ذلك مشهور عند المحدثين في غير الصحابي أكثرهم على القبول وقال أبو بكر البرديجي بأنها محمولة على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى، وحكاه ابن الصلاح عن (114/ب/د) يعقوب بن شيبة وأحمد بن حنبل، ورد عليه والدي رحمه الله في نقله ذلك عنهما.

الرابعة: أن يقول: سمعته عليه الصلاة والسلام أمر أو نهى، فالجمهور فيها على القبول وحكى القاضي أبو بكر عن بعض أهل العلم أنه ليس بحجة، لاحتمال أن يعتقد ما ليس بأمر أمرا، وفهم الخلاف/ (139/أ/م) في هذه من قول المصنف: وكذا، فلو لم يقل: سمعته بل اقتصر على أنه عليه الصلاة والسلام أمر أو نهى فهذه أحط مرتبة من تلك، لاحتمال الواسطة وإن كان الجمهور على القبول فيها أيضا.

وتوقف الإمام فخر الدين في ذلك، وضعف صاحب (الحاصل) كونها

ص: 474

حجة، فلو قال: أمرنا بكذا، أو نهانا عن كذا، على البناء للمفعول قبل أيضا على الصحيح، لانصرافه إلى من له الأمر والنهي وهو النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن الكرخي والصيرفي: أنه متردد بين أمره وهو خاصة، وأمر كل الأمة وأمر بعض الولاة.

الخامسة: أن يقول: حرم أو رخص على البناء للمفعول فيهما والأظهر الاحتجاج به واحتمال إسناده إلى استنباط أو قياس بعيد.

قال الشارح: وفي حكاية المصنف الخلاف نظر، فقد قال الشيخ أبو إسحاق في (التبصرة): إذا قال صحابي: أرخص لنا بكذا، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف.

قلت: الظاهر أنه أراد نفي الخلاف تفريعا على الصحيح في المسألة قبلها، فإنه متى جرى الخلاف في تلك جرى في هذه بلا شك والله أعلم.

السادسة: أن يقول من السنة كذا، فالأكثرون على الاحتجاج به حملا له على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه المتبادر عند الإطلاق وبه قال الإمام والآمدي وأتباعهما ويوافقه قول الشافعي رحمه الله في (الأم) في باب عدد الكفن:(وابن عباس والضحاك بن قيس صحابيان لا يقولان: السنة، إلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالف فيه الصيرفي والكرخي، وحكاه الإمام في (البرهان) عن المحققين، ويوافقه قول الصيدلاني في أسنان إبل الخطأ: إن الشافعي في القديم كان يرى أن ذلك مرفوع، إذا صدر من الصحابي أو التابعي، ثم رجع عنه، لأنهم قد يطلقونه ويريدون سنة البلد.

السابعة: أن يقول: كنا معاشر الناس، أو: كان الناس يفعلون في عهده صلى الله عليه وسلم لأن الظاهر أن قصده بذلك تعليم الشرع، حكاه الصفي الهندي

ص: 475

عن الأكثرين.

وقال المصنف: لا يتجه فيه خلاف لتصريحه بنقل الإجماع المعتضد بمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت:/ (139/ب/م) وهذا ينافي عطف المصنف هذه على قوله (115/أ/د): من السنة بالفاء المقتضية لتأخرها في المرتبة عنها مع حكايته الخلاف في تلك.

الثامنة: أن يقول: كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم، فيقبل ذلك وهي أحط من التي قبلها؛ لأن الضمير في (كنا) يحتمل طائفة مخصوصة.

وحكى ابن الصلاح عن أبي بكر الإسماعيلي إنكار كونه مرفوعاً، قال: والاعتماد على الأول.

قال الشارح: أما إذا قال: كنا نفعل، ولم يضفه إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فموقوف بلا خلاف.

قلت: مقتضى كلام الإمام فخر الدين والآمدي – الرفع في هذه أيضاً، فإنهما لم يقيدا ذلك بعصره عليه الصلاة والسلام، وبه صرح أبو عبد الله الحاكم من المحدثين، وحكاه النووي في (شرح المهذب) عن كثير من الفقهاء، وقال: إنه أقوى من حيث المعنى، ويوافقه قول المصنف بالرفع في الصورتين الأخيرتين، فإنه ليس فيهما إضافة ذلك إلى عهده صلى الله عليه وسلم.

التاسعة: أن يقول: كان الناس يفعلون، من غير تصريح بكون ذلك على عهده صلى الله عليه وسلم وهي دون التي قبلها لعدم التصريح بزمنه عليه الصلاة والسلام.

قال الشارح: لكنها فوقها من جهة تصريحه بجميع الناس، فيحتمل تساويهما، والأظهر رجحان تلك لأن التقييد بالعهد ظاهر في التقرير وهو تشريع.

العاشرة: نحو قول عائشة رضي الله عنها: (كانوا لا يقطعون في الشيء التافه)، وهذه دون الكل لعدم التصريح بكونه في زمنه عليه الصلاة والسلام

ص: 476

وبما يعود عليه الضمير في قوله: (كانوا).

وفهم ترتيب هذه الصورة الأخيرة من عطف المصنف بعضها على بعض بالفاء والله أعلم.

ص: خاتمة: مستند غير الصحابي قراءة الشيخ إملاء وتحديثا، فقراءته عليه فسماعه، فالمناولة مع الإجازة، فالإجازة لخاص في خاص، فخاص في عام، فعام في خاص فعام في عام فلفلان ومن يوجد من نسله، فالمناولة فالإعلام، فالوصية فالوجادة، ومنع الحربي وأبو الشيخ والقاضي الحسين والماوردي الإجازة، وقوم العامة/ (140/أ/م) منها والقاضي أبو الطيب من يوجد من نسل زيد وهو الصحيح والإجماع على منع من يوجد مطلقا.

ش: مستند غير الصحابي في تحمل الحديث عن شيخه تنقسم إلى أقسام:

ص: 477

أولها السماع من لفظ الشيخ، وهو مراد المصنف بقراءة الشيخ سواء أكان ذلك إملاء، أي يملي الشيخ ما يقوله والسامع يكتبه حالة الإملاء، أو تحديثا مجردا عن الإملاء وسواء أكان ذلك من حفظ الشيخ أو كتابه.

ثانيها: قراءته على الشيخ وهو ساكت يسمع، فيقول: نعم أو يشير بها أو يقر على ذلك ولا ينكره.

وقد عرض ضمام بن ثعلبة على النبي صلى الله عليه وسلم شعائر الإسلام التي سمعها من (115/ب/د)

ص: 478

رسوله، وهو يصدقه على ذلك وكان الناس يذكرون للصحابة رضي الله عنهم الأحكام فيقرون الحق وينكرون الباطل.

وشرط إمام الحرمين في صحة التحمل بها أن يكون بحيث لو فرض من القارئ لحن أو تصحف لرده الشيخ ويسمى هذا عرضا، لأن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه.

وتقديم المصنف السماع من لفظ الشيخ على القراءة عليه هو الصحيح، وحكاه ابن الصلاح عن جمهور أهل المشرق وأصله الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقرأ على الناس القرآن، ويعلمهم السنن، وقيل: إن القراءة عليه أعلى وبه قال أبو حنيفة وابن أبي ذئب، وحكاه ابن فارس والخطيب عن مالك، وحكي أيضا عن ابن جريج وشعبة والليث بن سعد وغيرهم.

وقيل: إنهما سواء، وهو المشهور عن مالك وأصحابه، وإليه ذهب معظم علماء الحجاز والكوفة والبخاري، وحكاه الصيرفي في كتاب (الدلائل) عن الشافعي.

ثالثها: سماعه بقراءة غيره، وجعل المصنف هذا قسما غير الذي قبله فيه نظر، فالحق أنه قسم منه.

رابعها: المناولة المقرونة بالإجازة بأن يدفع الشيخ للطالب أصل سماعه أو فرعا مقابلا به فيقول: هذا سماعي أو روايتي عن فلان، فاروه عني أو أجزت لك روايته عني، وهذا مجمع على صحة الرواية به.

قال القاضي عياض: وهو قول كافة أهل النقل والأداء والتحقيق/ (140/ب/م) من أهل النظر.

وقال قبل ذلك: إنها صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين، بل ذهب بعضهم إلى أنها في رتبة السماع، حكاه أبو عبد الله الحاكم عن ابن شهاب وربيعة الرأي ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك في آخرين، وقال والدي

ص: 479

رحمه الله: إنه خلط غرض المناولة بغرض السماع.

وحكاه الخطيب عن ابن خزيمة، لكن الصحيح انحطاط المناولة عن السماع، وحكاه الحاكم عن الشافعي وصاحبيه البويطي والمزني وأبي حنيفة وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق والأوزاعي وآخرين.

رابعها: الإجازة المجردة عن المناولة وهي أقسام:

أعلاها أن يجيز لخاص في خاص، أي يكون المجاز له معينا، والمجاز به معينا، كأجزت لك أو لفلان – ويرفع في نسبه بما يميزه عن غيره – أن يروي الكتاب الفلاني.

ويليه أن يجيز لخاص في عام كأجزت لك أن تروي عني جميع مسموعاتي.

ويليه: الإجازة لعام في خاص كأجزت لجميع المسلمين رواية صحيح البخاري عني.

ويليه الإجازة لعام في عام، كأجزت لجميع المسلمين أن يرووا عني جميع مسموعاتي

ويليه: الإجازة للمعدوم تبعا للموجود، كأجزت لفلان ومن يوجد بعد ذلك من نسله، وقد فعل ذلك أبو بكر بن أبي داود فقال: أجزت لك ولوالدك ولحبل الحبلة، يعني الذين لم يولدوا بعد.

أما الإجازة للمعدوم ابتداء كقوله: أجزت لمن يتجدد لفلان من الأولاد فالصحيح منعها، وسيأتي لذلك مزيد بيان، فهذه ستة أقسام (116/أ/د) للإجازة، ووراء ذلك أقسام أخر، مذكورة في كتب علم الحديث.

خامسها: المناولة المجردة عن الإجازة، وكلام المصنف يقتضي أنها من طرق التحمل، وليس كذلك، بل إن اقتصر على مجرد المناولة لم يجز له روايته

ص: 480

عنه بالاتفاق كما نقله الصفي الهندي وهو واضح، وإن قال له مع ذلك: هذا من سماعي فقال ابن الصلاح: هي مناولة مختلة لا تجوز الرواية بها عند الجمهور، وحكى الخطيب عن قوم جوازها.

قلت: وإنما أراد المصنف هذا التقسيم الثاني. وقد قال ابن الصلاح: إن الرواية به تترجح على الرواية بمجرد إعلام الشيخ لما فيه من المناولة فإنها لا تخلو من إشعار بالإذن في الراوية/ (141/أ/م).

سادسها: الإعلام الخالي عن المناولة والإجازة، بأن يخبره أن الكتاب سماعه من فلان.

وقد حكى القاضي عياض صحة الرواية به عن الأكثرين، وبه قال ابن جريج، وعبيد الله بن عمر، وجماعة من أهل الفقه والحديث وأهل الظاهر، وابن الصباغ – من أصحابنا – ومنع الغزالي روايته عنه، وقال ابن الصلاح: إنه المختار.

وهذا على تقدير جوازه منحط عن الذي قبله كما قدمته.

وزاد بعض من صحح هذا القسم فقال: إنه لو منعه من روايته عنه مع إعلامه بأن سماعه لم يضره ذلك وله روايته عنه قاله أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي.

قال القاضي عياض: ولا يقتضي النظر سواه.

ورده ابن الصلاح تشبيها باسترعاء الشهادة، هذا في الرواية به، أما العمل به فإنه واجب كما جزم به ابن الصلاح، وحكاه القاضي عن محققي أصحاب الأصول.

سابعها: الوصية بالكتب، فإذا أوصى بشيء من روايته عند موته أو سفره لشخص فجوز بعض السلف روايته عنه بذلك.

وقال شخص لمحمد بن سيرين: إن فلانا أوصى لي بكتبه أفأحدث بها

ص: 481

عنه؟ فقال: نعم.

ثم قال بعد ذلك: لا آمرك ولا أنهاك.

قال ابن الصلاح: وهذا بعيد جدا، وهو إما زلة عالم أو متأول، على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة.

وأنكر ذلك عليه ابن أبي الدم، وقال: الوصية أرفع رتبة من الوجادة بلا خلاف، وهي معمول بها عند الشافعي وغيره – كما سيأتي – فهذه أولى.

ثامنها: الوجادة وهي مصدر مولد لم تنطق به العرب، فرعه المولدون لما وجدوا العرب فرقوا بين مصادر (وجد) لاختلاف معانيها، وهي أن تجد حديثا بخط رجل سواء عاصرته أم لا، لم يحدثك به، ولم يجزه لك، فتقول: وجدت بخط فلان كذا وكذا، وليس لك روايته عنه بصيغة حدثنا أو أخبرنا أو غيرهما من الصيغ، لكن يجوز العمل بما تضمنه ذلك الحديث، كما قال الشافعي ونظار (116/ب/د) أصحابه، خلافا لمعظم المحدثين والفقهاء من المالكية وغيرهم، كما قاله القاضي عياض.

قال ابن الصلاح: وقطع بعض المحققين من أصحاب الشافعي بوجوب العمل به عند حصول الثقة به، وقال: لو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين/ (141/ب/م) لأبوه.

قال ابن الصلاح: وما قطع به هو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة.

وقال النووي: إنه الصحيح، ثم حكى المصنف الخلاف في الإجازة والجمهور على جواز الرواية بها والعمل بمقتضاها ومنعها آخرون منهم

ص: 482

إبراهيم بن إسحاق الحربي، وأبو الشيخ بن حيان الأصبهاني والقاضي الحسين والماوردي وقالا: لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة، وهذا محكي عن شعبة أيضا، وهو قول عن الشافعي رواه عنه الربيع.

ونقله القاضي عبد الوهاب عن مالك، وحكي عن أبي حنيفة أيضا.

وقال أبو طاهر الزيادي: من قال لغيره: أجزت لك أن تروي عني – فكأنه يقول: أجزت لك أن تكذب علي، إذ الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع.

وقال ابن حزم: إنها بدعة غير جائزة، ومنع قوم الإجازة العامة كأجزت لجميع المسلمين.

ونقلها الخطيب وابن منده وحكاها الخطيب عن القاضي أبي الطيب، ونقلها الحازمي عمن أدركه من الحفاظ، ورجح جوازها ابن الحاجب والنووي.

وأما الإجازة للمعدوم فتقدم عن أبي بكر بن أبي داود أنه أجازها تبعا للموجود، وتكلم المصنف آخرا على فعلها للمعدوم ابتداء، وقال: إن كان له نوع تعيين كتقييده بكونه من ذرية زيد مثلا، فالصحيح المنع منها وبه قال القاضي أبو الطيب، وأجازها الخطيب وحكاه عن أبي يعلى بن الفراء وأبي الفضل بن عمروس.

وحكاه القاضي عياض عن معظم الشيوخ المتأخرين، وإن لم يكن له نوع تعيين كأجزت لمن يوجد مطلقا فالإجماع على المنع منها.

تنبيه:

أهمل المصنف من طرق التحمل المكاتبة، وهي: أن يكتب الشيخ شيئا

ص: 483

من حديثه أو يأمر غيره بكتابته عنه إما لحاضر عنده أو غائب عنه، فإن اقترنت بها إجازة فهي كالمناولة المقرونة بالإجازة في الصحة والقوة، وإن تجردت عن ذلك فالصحيح المشهور عند المحدثين صحتها، وبه قال أيوب السجستاني ومنصور، والليث بن سعد، وغير واحد من الشافعية منهم أبو المظفر السمعاني وجعلها أقوى من الإجازة، وبه جزم في (المحصول) وفي صحيح (البخاري) في (كتاب الأيمان والنذور):/ (142/أ/م) كتب إلي محمد بن بشار، وفي (صحيح مسلم) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص: كتب إلي جابر بن سمرة.

ومنع منها طائفة منهم الماوردي وقال الآمدي: لا يرويه إلا بتسليط من الشيخ، كقوله: فاروه عني أو: أجزت لك روايته، ومن العجب (117/أ/د) كون الشارح مع متابعته للمصنف في إهمال المكاتبة ذكر طرق التحمل عشرة وما هي في الحقيقة بعد إسقاط الكتابة إلا سبعة، لأنه أفرد السماع على الشيخ عن القراءة عليه، وعد المناولة قسمين باعتبار اقترانها بالإجازة وتجردها عنها، وأفرد الإجازة للمعدوم عن بقية أنواع الإجازة وجعلها مرتبة مستقلة، ولو سلك الطريقة المعروفة عند المحدثين وغيرهم لعدها ثمانية، منها: المكاتبة، والله أعلم.

ص: وألفاظ الرواية من صناعة المحدثين.

ش: أي الألفاظ التي يستعملها الراوي عند الأداء إذا تحمل بطريق من

ص: 484