الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص:
الكتَابُ السَّابعُ فِي الاجْتِهَادِ
الاجْتِهَاد: استفرَاغُ الفقيهِ الوُسْعَ؛ لتحصيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ.
ش: الاجْتِهَادُ لُغَةً بَذْلُ الوُسْعِ فِيمَا فِيهِ كُلْفَةً، وهو مأَخوذٌ ـ كمَا قَالَ المَاورديِّ ـ من جهَاد، النُّفْس، وكدّ، هَا فِي طَلَبِ المُرَادِ.
وفِي الاصطلَاحِ مَا ذَكَرَهُ.
فَالاستفرَاغُ، جِنْسٌ، وهو بَذْلُ تمَامِ الطَّاقةِ، بحيثُ تحسُّ النّفسُ بِالعجزِ عَنِ الزّيَادةِ.
وَخَرَجَ بـ (الفقيه) المُقَلِّدُ.
وعبر بِالظن لأَنَّهُ لَا اجتهَاد فِي القَطْعيَات.
وأَطلَق البَيْضَاوِيُّ ذَلِكَ فتنَاوَلَ تحصيلَهَا بِالظنِّ، وتحصيلَهَا بِالقطعِ، ولم يُقَيِّدِ المُصَنِّفُ الحُكْمَ بِكَوْنِه شَرْعِيًّا كَمَا فَعَلَ ابْنُ الحَاجِبِ، لإِشَارتِهِ إِلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ الفقيهِ، وإِلَاّ لَمْ يَكُنْ لَهُ معنًى.
ص: وَالمجتهدُ: الفقيهُ، وهو البَالغُ العَاقلُ؛ أَي: ذُو مَلَكَةٍ، يُدْرِكُ بِهَا العُلُومَ، وَقِيلَ: العَقْلُ نَفْسُ العِلْمِ، وَقِيلَ: +ضرورِيَّةٌ فقيهُ النفسِ وإِنْ أَنكَرَ القِيَاسَ، وثَالِثُهَا: إِلا الجَلِيُّ، العَارفُ بِالدليلِ العَقْليِّ، وَالتكليفُ بِهِ، ذُو الدَّرَجَةِ الوسطَى لُغَةً، وعربيَّةً، وأَصولاً، وبلَاغةً، ومتعلِّقُ الأَحكَامِ مِنْ كتَابِ وَسُنَّةٍ، وإِنْ لَمْ يَحْفَظِ (172/أَ/د) المُتُونِ، وقَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ: هو مِنْ هذه العلومِ مَلَكَةٌ له، وأَحَاطَ بِمُعْظَمِ قوَاعِدِ الشَّرْعِ ومَارَسَهَا، بحيثُ اكتَسَبَ قُوَّةً يَفْهَمُ بِهَا مقصودَ الشَّارعِ.
ش: ذَكَرَ المُصَنِّفُ رحمه الله أَنَّ المُجْتَهِدَ هو الفقيهُ، فهمَا لفظَانِ مترَادفَانِ.
فإِن قُلْتُ:/ (214/أَ/م) كَانَ يَنْبَغِي علَى هذَا إِذَا وقَفَ علَى حدِّ الفقهَاءِ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ المُجْتَهِدُونَ ولَا اسْتُحَضِرَ ذَلِكَ لِأَََحَدٍ مِنَ أَصحَابِنَا، بَلْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ ومَنْ تَبِعَهُ أَنَّهُ إِذَا وَقَفَ علَى الفقهَاءِ دَخَلَ فِيهِ من حَصَّلَ مِنْهُ شيئًا وإِنْ قَلَّ.
وفِي هذَا نَظَرٌ؛ لأَنَّ فقيهًا اسمُ فَاعلٍ مِنْ فَقِهَ؛ أَي: صَارَ الفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً، ولَا تحصُلُ هذه الصِّفَةُ لِمَنْ حَصَلَ مِنْهُ شيئًا قليلاً، وَالأَقربُ مَا قَالَهُ الغَزَالِيُّ فِي الإِحيَاءِ:(إِنَّهُ يدخِلُ الفَاضلُ فِي الفقهِ، ولَا يدخُلُ المبتدِي من شهرٌٍ ونحوه، وللمتوسط بَيْنَهُمَا درجَاتٌ يجتهِدُ المُفْتِي فِيهَا).
قَالَ: (وَالوَرَعُ لهذَا المتوسِّطُ تَرْكُ الأَخذِ) انْتَهَى.
وجوَابُ مَا ذكَرْنَاه أَنَّ اختصَاصَ اسمِ الفقهِ بِالمُجْتَهِدِ اصطلَاحِ خَاصٌّ، وَالمرجعُ فِي مثلِ ذَلِكَ إِلَى اللّغةِ أَو العرفِ العَامِ، وإِلَى هذَا أَشَارَ المتوليِّ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يرجِعُ فِيه إِلَى العَادةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ويعتبرُ فِيهِ أَوصَافٌ:
أَحَدُهَا: البلوغُ.
وَالثَّانِي: العَقْلُ.
وَاستطردَ المُصَنِّفُ مِنْ هذَا الذِّكْرِ الخِلَافَ فِي تعريفِ العَقْلِ فحكَى فِيهِ ثلَاثة أَقوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَلَكَةٌ أَي هيئةٍ رَاسخِةٍ يُدْرَكُ بِهَا العلوم.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ نفسُ العِلْمِ، وهو مَحْكِيٌّ عَنِ الأَشعريِّ، وَحَكَاهُ الأَستَاذُ أَبُو إِسْحَاقُ عَن أَهْلِ الحقِّ.
قَالُوا: وَاختلَافُ النَّاسِ فِي العُقُولِ لكثرةِ العلومِ وقلَّتِهَا.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ بَعْضُ العلومِ الضّروريَّةِ، وإِليه أَشَارَ بِقَوْلِهِ: ضروريَّةٌ، أَي: علومُ ضروريَّةٌ.
وهم َمِنْ تكثيرِهَا أَنَّهَا بَعْضُ العلومِ الضّروريَّةُ، وَبِهِ قَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وتَبِعَه مِنْ أَصحَابِنَا سَلِيمٌ الرَّازيُّ، وَابْنُ الصّبَّاغِ وَغَيْرُهمَا، فخَرَجَ بـ (الضروريَّةِ) النّظريةُ لصِحَّةِ الاتِّصَافِ بِالعَقْلِ مَعَ انتفَائِهَا، ولم نجعلْه جَمِيعُ العلومِ الضّروريَّةِ لِئَلَّا يلزَمُ أَنَّ مَنْ فقَدَ العِلْمَ بِمُدْرِكٍ لِعَدَمِ الإِدرَاكِ غَيْرُ عَاقلٍ.
وقَالَ القَاضِي عبدُ الوهَابِ، فقلْتُ له: أَنخصَّ هذَا النّوعُ مِنَ الضّرورةِ بوصفٍ؟
فقَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يقَالَ: مَا صَحَّ مَعَهُ الاستنبَاطُ.
ونقَلَ القُشَيْرِيُّ فِي (المرشدِ) عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا أُنْكِرُ وُرُودَ العَقْلِ فِي اللّغةِ بمعنَى العِلْمِ، ولكن غرضِي أَنْ أُبَيِّنَ العَقْلَ الذي يُرْبَطُ بِهِ التّكليفُ.
الوصفُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فقيهَ النفسِ، أَي: يَكُونُ الفقهُ لَهُ سَجِيَّةً، وَالمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةُ الفهمِ علَى التّصرُّفِ،/ (214 ب/م) قَالَهُ الأَستَاذ أَبُو إِسْحَاقَ.
قَالَ: ومَنْ كَانَ موصفًا بِالبلَادةِ وَالعجزِ عَنِ التصرُّفِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الاجتهَادِ، وعنِ الغَزَالِيِّ أَنَّهُ قَالَ:(إِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الفقيهُ فِي مسأَلةٍ لَمْ يسمعْهَا ككلَامِه فِي مسأَلةٍ سمعَهَا فَلَيْسَ بفقيهٍ).
ثم حكَى ثلَاثةَ أَقوَالٍ فِي إِنكَارِ القِيَاسِ هَلْ يَقْدَحُ فِي الاجْتِهَادِ أَمْ لَا؟
أَحَدُهَا: لَا، وهو مقتضَى كلَامِ أَصحَابِنَا، حَيْثُ ذكُروا خِلَافَ الظَّاهِريَّةِ فِي تعَاليقِهِمْ وحَاجُّوهُمْ.
ثَانِيهَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وإِمَامُ الحَرَمَيْنِ.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ إِنْ أَنكَرَ القِيَاسَ الخفِيَّ فَقَطْ، فإِنْ أَنْكَرَ الجليَّ أَيضًا قَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِه مجتهدًا، وهو/ (173/ب/د) ظَاهرُ كلَامِ ابْنِ الصّلَاحِ وَغَيْرِه، ويترتَّبُ علَى ذَلِكَ أَنَّهُ هَلْ يَقْدَحُ خِلَافَ الظَّاهِريَّةِ فِي الإِجمَاعِ أَمْ لَا؟
الوصفُ الرَّابعُ: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالدليلِ العَقْليِّ وهو البرَاءةُ الأَصْليةُ، وبأَنَّا مكلَّفُونَ بِالتمسُّكِ بِهِ مَا لَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ نَاقلٌ عَنْهُ مِنْ نصٍّ أَو إِجمَاعٍ أَو غيرِهمَا، كَذَا شَرَطَهُ الغَزَالِيُّ وَالإِمَامُ فخرُ الدِّينِ.
الخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بلغةِ العربِ وبِالعربيَّةِ، أَي: وهو النحوُ إِعرَابًا، وتصريفًا وبأَصولِ الفقهِ؛ لِيقوَى علَى معرفةِ الأَدلَّةِ، وكيفِيةُ الاستنبَاطِ، وبِالبلَاغةِ، لأَنَّ الكتَابَ وَالسُّنَّةِ فِي غَايةِ البلَاغةِ، فَلَا بدَّ مِنْ معرفتِهَا، ليتمكَّنَ مِنَ
الاستنبَاطِ.
وَاعتبرَ المُصَنِّفُ أَنْ يَكُونَ فِي معرفةِ هذه الأُمُورِ فِي درجةٍ متوسِّطَةٍ أَي لَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ الأَقلِّ، ولَا يحتَاجُ إِلَى بلوغِه الغَايةِ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ بحيثُ يميِّزُ العبَارةَ الصّحيحةَ عَنِ الفَاسدةِ وَالرَاجحةِ عَنِ المرجوحةِ.
وقَالَ الأَستَاذُ: أَمَّا الحروفُ التي تختلِفُ عَلَيْهَا المعَاني فِيجِبُ فِيهَا التبحُّرُ وَالكمَالُ، ويُكْتَفَى بِالتوسُّطِ فِيمَا عدَاهَا، ويجِبُ فِي معرفةِ اللّغةِ الزّيَادةِ علَى التّوسُّطِ حتَّى لَا يشذَّ عَنْهُ المستعمَلُ فِي الكلَامِ فِي غَالبِ اللّغةِ، وأَمَّا أَصولُ الفَقْهِ فكلَّمَا كَانَ أَكمَلُ فِي معرفتِه كَانَ أَتمَّ فِي اجتهَادِه.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ عَارفًا بِالكتَابِ وَالسُّنَّةِ، ولَا يُعْتَبَرُ العِلْمُ بجميعِهَا، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ مِنَ الكتَابِ آيَاتِ الأَحكَامِ، وهو معنَى قَوْلِ المُصَنِّفِ:(مُتَعَلِّقُ الأَحكَامِ) وهو بفتحِ اللَاّمِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنهَا مِائَةُ آيةٍ، وَقِيلَ: خمسُمِائةِ آيةٍ، وهو مُشْكِلٌ لأَنَّ تَمْيِيزَ آيَاتِ الأَحكَامِ مِنْ غيرِهَا مُتَوَقِّفٌ علَى معرفةِ الجميعِ، ولَا يُمْكِنُ المُجْتَهِدُ تقليدَ غَيْرِه فِي تَمَيُّزِهَا، وَالقرَائحُ تتفَاوتُ فِي اسْتِنْبَاطِ الأَحكَامِ.
وكذَا لَا يُشْتَرَطُ معرفةُ جَمِيعِ السُّنَّةِ بَلْ يَكْفِيه معرفةُ مَا تعلَّقَ مِنْهَا بِالأَحكَامِ.
قَالَ الغَزَالِيُّ: ويكفِيه أَنْ يَكُونَ عندَه أَصلٌّ مصحِّحٌ يجمَعُ أَحَاديثَ الأَحكَامِ/ (215/أَ/م) كسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ ومعرفةِ السُّنَنِ للبيهقِيِّ، أَو أَصلُ وقَعَتِ العنَايةُ فِيهِ بِجَمْعِ أَحَاديثِ الأَحكَامِ، ويكتفِي مِنْهُ بمعرفةِ موَاقِعَ كلِّ بَابٍ فَيُرَاجِعُه وقتَ الحَاجةِ.
قَالَ النّوويُّ: وَالتمثيلُ بأَبي دَاوُدَ لَا يصحُّ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْعِبْ الصّحيحَ مِنْ أَحَاديثِ الأَحكَامِ، ولَا معظمَه، وكم فِي صحيحِ البخَاريِّ ومسلمٍ من حديثٍ حُكْمِيٍّ لَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، انْتَهَى.
وفَهِمَ مِنَ التّعبيرِ بِالمعرفةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حفظُهمَا، وَبِهِ صرَّحَ الإِمَامُ فخرُ الدّينِ، وأَشَارَ إِلَيْهِ المُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:(وإِنْ لَمْ يَحْفَظِ المُتُونَ) لكنْ نقَلَ القَيْرَاوَنِيُّ
عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ حِفْظُ جَمِيعِ القرآنِ، ومَا نقَلَه المُصَنِّفُ عَنْ وَالدِهِ الشَّيْخِ الإِمَامِ السُّبْكِيِّ لَيْسَ مخَالفًا لمَا تقدَّمَ، ولكنَّهُ تمهيدٌ لَهُ وتقريرٌ.
وَقَوْلُهُ: (مَلَكَةٌ له) أَي: هيئةٌ رَاسِخَةٌ، وهذَا قَد يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِالتوسُّطِ فِي ذَلِكَ، وإِحَاطتُه بمعظمِ قوَاعدِ الشرعِ، ومُمَارَسَتُهَا بِالحيثيَّةِ المذكورةِ نَاشئٌ عَن كَوْنِ هذه العلومِ مَلَكَةً له، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: وَيُعْتَبَرُ (/174/د) قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ: لإِيقَاعِ الاجْتِهَادِ لَا لِكَوْنِهِ صِفَةً فِيهِ ـ كَوْنُهُ خبيرًا بموَاقِعِ الإِجمَاعِ، كي لَا يُخَرِّقَهُ، وَالنَاسخِ وَالمنسوخِ، وأَسبَابِ النّزولِ، وشرطِ المتوَاترِ وَالآحَادِ، وَالصَّحِيحِ وَالضعيفِ، وحَالِ الرّوَاةِ وسِيَرِ الصّحَابةِ، ويكفِي فِي زمَانِنَا الرّجوعُ إِلَى أَئمَّةِ ذلك.
ش: هذه الأَوصَافُ المذكورةُ فِي هذه الجُمْلَةِ لَا تُعْتَبَرُ لِتَوَقُّفِ صدقِ اسمِ الاجْتِهَادِ عَلَيْهَا، وإِنَّمَا تُعْتَبرُ لإِيقَاعِ الاجْتِهَادِ كَمَا حَكَاهُ المُصَنِّفُ عَن وَالدِه رحمه الله.
قَالَ الشَّارِحُ: وفِي كلَامِ الغَزَالِيِّ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ، فإِنَّه مَيَّزَ هذه عمَا قبلَهَا، وجعَلَهَا مُتَمِّمَةً للَاجتهَادِ ولم يُدْرِجْهَا فِي شُرُوطِهِ الأَصْليَّةِ.
أَحَدُهَا: أَن يَعْرِفَ موَاقِعَ الإِجمَاعِ حتَّى لَا يَخْرِقَهُ ولَا يُفْتِي بخلَافِهِ، ولَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهَا بَلْ يَكْفِي مَعْرِفَتُهُ بأَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ لَيْسَ مُخَالِفًا للإِجمَاعِ، إِمَّا بأَنْ يُعْلَمَ مُوَافَقَتُه لعَالِمٍ، أَو يَظُنَّ أَن تِلْكَ الوَاقعةَ حَادِثَةٌ لَمْ يَسْبِقْ لأَهلِ الأَعصَارِ المتقدِّمَةِ فِيهَا كلَامٌ.
ثَانِيهَا: معرفةُ النَّاسخِ وَالمنسوخِ؛ لِئَلَّا يَعْمَلَ بِالمنسوخِ ولَا يُشْتَرَطُ حفظُ جميعِه، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْلَمَ فِي كلِّ مَا يُفْتِي بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ.
ثَالِثُهَا: معرفةُ أَسبَابِ النزولِ فِي آيَاتِ الأَحكَامِ؛ لِيَعْلَمَ البَاعثَ علَى الحُكْمِ، وَقَدْ يَقْتَضِي التّخصيصُ بِهِ أَو يَفْهَمُ بِهِ معنَاه.
رَابِعُهَا: مَعْرِفَةُ شرطِ المتوَاترِ وَالآحَادِ؛ لِيُقَدِّمَ الأَوْلَى/ (215/ب/م) عِنْدَ التّعَارُضِ.
خَامِسُهَا: أَنْ يُمَيِّزَ الأَحَاديثَ الصَّحِيحَةَ مِنَ الضّعيفةِح لِيَحْتَجَّ بِالصَّحِيحِ وَيَطْرَحَ الضَّعِيفَ.
سَادِسُهَا: معرفةُ حَالِ الرّوَاةِ فِي القُوَّةِ وَالضعفِ، لِيُمَيِّزَ المقبولَ مِنَ المردودِ، وهذَا قَدْ يُسْتَغْنَي عَنْهُ بِالذي قبلَه.
وأَشَارَ المُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (ويَكْفِي فِي زمَانِنَا الرجوعُ إِلَى أَئمَّةِ ذلك) إِلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالغَزَالِيِّ وَغَيْرِهمَا: وَيُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ علَى قَوْلِ أَئمَّةِ الحديثِ كأَحْمَدَ وَالبخَاريِّ ومسلِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وأَبي دَاوُدَ ونحوِه؛ لأَنَّهم أَهْلُ المعرفةِ بذلكِ، فجَازَ الأخذُ بِقَوْلِهِم كَمَا نأَخُذُ بقولِ المُقَوِّمِينَ فِي القِيَمِ.
سَابِعُهَا: مَعْرِفَةُ سِيَرِ الصّحَابةِ، وَلَيْسَ المُرَادُ بِذَلِكَ توَاريخُهم وتفصيلُ وقَائِعهم، وإِنَّمَا المُرَادُ أَحكَامُهم وفتَاوِيهم.
وفِي هذَا نَظَرٌ فمعرفتُه بمسَائلِ الإِجمَاعِ وَالخِلَافِ يُغْنِي عَن ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: ولَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الكلَامِ وتفَاريعُ الفِقْهِ وَالذكورةُ وَالحُرِّيَّةُ وكذَا العدَالةُ علَى الأَصحِّ.
ش: ذَكَرَ فِي هذه الجُمْلَةِ أُمُورًا لَا تُشْتَرَطُ فِي الاجتهَادِ:
أَحَدُهَا: معرفةُ عِلْمِ الكلَامِ، قَالَهُ الأُصُولِيُّونَ.
وقَالَ الرَّافعِيُّ: عدَّ الأَصحَابُ مِنْ شُرُوطِ الاجْتِهَادِ مَعْرِفَةُ أَصولِ العقَائدِ.
قَالَ الغَزَالِيُّ: وعندي أَنَّهُ يَكْفِي اعتقَادٌ جَازِمٌ، ولَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهَا علَى طريقِ المُتَكَلِّمِينَ وبأَدلَّتِهِمْ التي يُحْرِزُونَهَا.
ثَانِيهَا: مَعْرِفَةُ تفَاريعِ الفِقْهِ، فإِنَّهَا بِنَتِيجَةِ الاجتهَادِ، فلو شُرِطَتْ فِيهِ لَزِمَ الدّورُ، وصحَّحَ ابْنُ الصّلَاحِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي المُفْتَى، الذي يتأَدَى بِهِ فرضُ الكفَايةِ؛ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ إِدراكُ أَحكَامِ الوقَائعِ عَنِ القربِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ كثيرٍ+ وإِن/ (174/ب/د) لَمْ يُشْتَرَط ذَلِكَ فِي المُجْتَهِدِ المُسْتَقِلِّ، وهو معنَى قَوْلِ الغَزَالِيِّ: إِنَّمَا يحصُلُ الاجْتِهَادُ فِي زمَانِنَا بممَارسةِ الفقهِ، فهو طريقُ تحصيلِ الدُّرْبَةِ فِي هذَا الزّمَانِ ولم تكنِ الطّريقُ فِي زمنِ الصحَابةِ رضي الله عنهم ذلك.
ثَالِثُهَا: لَا تُعْتَبُر الذّكورةُ ولَا الحريَّةُ، فقد يَكُونُ المُجْتَهِدُ امرأَةً وعبدًا.
وفِي اشْتِرَاطِ العدَالةِ خِلَاَفٌ، الأَصحُّ عدمُ اشْتِرَاطِهَا، فِيأَخُذُ الفَاسِقُ بَاجتهَادِ نفسِهِ.
قَالَ الشَّارِحُ: ومقَابِلُه قَوْلُ الغَزَالِيِّ: إِنهَا شَرْطٌ لجوَازِ الاعتمَادِ علَى قَوْلِه.
قُلْتُ: فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ خلَافٌ؛ لأَنَّ الفَاسِقَ لَا يُعْتَمَدُ قَوْلُه اتفَاقًا، فَلَا يُخْتَصُّ ذَلِكَ بِالغَزَالِيِّ فقبولُ الفتوَى أَخصُّ مِنَ الاجتهَادِ، لاعتبَارِ العدَالةِ فِيهِ، وَالحُكْمُ أَخصُّ من ذَلِكَ لاعتبَارِ الذُّكُورِيَّةِ وَالحُرِّيَّةِ فِيه.
ص: وَلْيَبْحَثْ عَنِ المعَارضِ وَاللفظِ/ (216/أَ/م) هَلْ مَعَهُ قرينةٌ.
ش: من شُرُوط ِالاجْتِهَادِ البحثُ عَنِ المعَارضِ، فَيَبْحَثُ فِي العَامِّ هَلْ لَهُ مُخَصَّصٌ وفِي المُطْلَقِ هَلْ لَهُ مُقَيَّدٌ، وفِي النَّصِّ هَلْ لَهُ نَاسِخٌ، وهكذَا، وتَبِعَ فِيهِ المُصَنِّفُ (المَحْصُولَ) وَغَيْرَه.
قَالَ الشَّارِحُ: وهو لَا يُخَالِفُ مَا سَبَقَ مِنْهُم فِي بَابِ التّخصيصِ أَنَّهُ يَجُوزُ التّمسُّكُ بِالعَامِّ قَبْلَ البحثِ عَنِ المُخَصَّصِ لأَنَّ ذَلِكَ فِي جَوَازِ التّمَسُّكِ بِالظَّاهِرِ المُجَرَّدِ عَنِ القرَائنِ، وَالكلَامُ هُنَا فِي اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ المُعَارِضِ، أَي: بَعْدَ
ثُبُوتِ كَوْنِه معَارِضًا.
ومن شُرُوطِهِ أَيضًا البحثُ عن اللّفْظِ هَلْ مَعَهُ قرينةٌ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ علَى الظنِ وُجُودُهَا فيعملُ بمقتضَاهَا من صرفِ اللفْظِ عَن ظَاهرِه أَو تخصيصِه أَو غَيْرِ ذَلِكَ أَو عدمِهَا، فيعمَلُ بمَا يقتضِيه ظَاهرُ اللّفظِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: ودونُه مُجْتَهِدُ المذهبِ، وهو المُتَمَكِّنُ مِنْ تخريجِ الوجوهِ علَى نصوصِ إِمَامِه، ودُونَه مجتهِدُ الفُتْيَا، وهو المُتَبَحِّرُ المُتَمَكِّنُ من ترجيحِ قَوْلٍ علَى آخرَ.
ش: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ الأُمُورُ المتقدِّمَةُ فِي المُجْتَهِدِ المُطْلَقِ وَقَدْ فَقَدَ الآنَ، ودُونَه فِي الرُّتْبَةِ مجتهدُ المذهبِ، وهو المُقَلِّدُ لإِمَامٍ مِنَ الأَئمَّةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إِلا معرفةُ قوَاعدِ إِمَامِه، فإِذَا سُئِلَ عَن حَادثةٍ لَا يُعْرَفُ لإِمَامِهِ فِيهَا نصًّا اجتهَدَ فِيهَا علَى مذهبِه، وخَرَّجَهَا علَى أَصولِه، وَادَّعَى ابْنُ أَبِي الدَّمِّ أَنَّ هذَا النوعِ قَد انقطَعَ أَيضًا، وهو مردودٌ.
قَالَ ابْنُ الصّلَاحِ: وَالذي رأَيتُه من كلَامِ الأَئمَّةِ مُشْعِرٌ بأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الكفَايةِ بِالمُجْتَهِدِ المقيَّدِ، وَالذي يظهُر أَنَّهُ يتأَدَّى بِهِ فرضُ الكفَايةِ فِي الفتوَى، وإِنْ لَمْ يتأَدَّ بِهِ فرضُ الكفَايةِ فِي إِحيَاءِ العلومِ التي مِنْهَا الاستمدَادُ فِي الفتوَى، انْتَهَى.
ودُونَه فِي المرتبةِ مُجْتَهِدُ الفُتْيَا وهو المُتَبَحِّرُ فِي مذهبِه المُتَمَكِّنِ مِنْ ترجيحِ قَوْلٍ علَى آخَرَ، وهذَا أَدْنَى المَرَاتِبِ، ومَا بَقِيَ بعدَه إِلا العَاميُّ ومن فِي معنَاه
ص: وَالصَّحِيحُ جَوَازُ تَجَزُّئِ الاجتهَادِ.
ش:/ (175/أَ/د) أَي يحصُلُ لإِنسَانٍ رُتْبَةُ الاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ المَسَائِلِ دُونَ بعضٍ، فمَا تَمَكَّنَ فِيهِ مِنَ الاجْتِهَادِ اجتهَدَ فِيهِ، ومَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فِيهِ قلَّدَ مجتهدًا، وَقَدْ سُئِلَ الإِمَامُ مَالكٌ رحمه الله عَن أَربعينَ مسأَلةً، فقَال فِي ستٍّ وثلَاثينَ: لَا أَدري.
وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لِتَعَلُّقِ البعضِ بِالبعضِ وهو ممنوعٌ.
ص: وجوَازُ الاجتهَادِ/ (216/ب/م) للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وَوُقُوعُهُ، وثَالِثُهَا: فِي الآرَاءِ وَالحروبِ فقط، وَالصوَابُ: أَنَّ اجتهَادَهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُخْطِئُ.
ش: اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الاجْتِهَادِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لَا نصَّ فِيهِ علَى مَذَاهِبِ:
أَحدُهَا وَبِهِ قَالَ الأَكْثَرُونَ ـ: جَوَازُهُ، وحُكِيَ عَن نصِّ الشَّافِعِيِّ وأَحمدَ وَغَيْرِهمَا.
وَالثَّانِي: مَنَعَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عليٍّ الجُبَّائِيُّ وَابنُه أَبُو هَاشمٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ له فِي الآرَاءِ وَالحروبِ دُونَ غيرِهَا، حَكَاهُ فِي (المَحْصُولِ) مَعَ قَوْلٍ رَابعٍ حَكَاهُ عَنْ أَكثرِ المحقِّقِينَ، وهو التَّوَقُّفُ فِي هذه الثّلَاثةِ.
وإِذَا قلنَا بجَوَازِهُ ففِي وقوعِه مَذَاهِبُ:
أَحَدُهَا ـ وهو اختيَارُ الآمِدِيُّ وَابْنُ الحَاجِبِ ـ: نَعَمْ.
وَالثَّانِي: لَا.
وَالثَّالِثُ: الوقفُ، وذَكَرَ القِرَافِي أَنَّ مَحَلَّ الخِلَافِ فِي الفتوَى دُونَ القضَاءِ، فَيَجُوزُ فِيهِ قَطْعًا وتَبِعَهُ غَيْرُ وَاحدٍ، ويشهَدُ لَهُ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَن أَمِّ سلمةَ رضي الله عنها قَالت: أَتَى رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم رجُلَان يَخْتَصِمَانِ فِي موَاريثَ وأَشيَاءَ قَد دَرَسَتْ، فقَالَ:((إِنِّي إِنَّمَا أَقْضِِي بَيْنَكُم بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ عليَّ فِيه)) ***********ً
فإِذَا قُلْنَا بجَوَازِهِ لَهُ فهو عليه الصلاة والسلام معصومٌ مِنَ الخطأِ فِيهِ، هذَا هو المُخْتَارُ، وقَالَ الإِمَامُ وَغَيْرُه: إِنَّهُ الحقُّ.
وَاختَار الآمِدِيُّ وَابْنُ الحَاجِبِ جَوَازهُ، لكنْ لَا يَقِرُّ عَلَيْهِ، ونقلَه الآمِدِيُّ عَن أَكثرِ أَصحَابِنَا وَالحنَابلةِ وأَصحَابِ الحديثِ.
ص: وأَنَّ الاجْتِهَادَ جَائزٌ فِي عصرِه صلى الله عليه وسلم، وثَالِثُهَا: بإِذنِه صريحًا، قِيلَ: أَو غَيْر صريحٍ، ورَابِعُهَا: للبعيدِ، وخَامِسُهَا للولَاةِ، وأَنَّهُ وقَعَ، وثَالِثُهَا لَمْ يقع للحَاضرِ، ورَابعُهَا الوقفُ.
ش: الاجْتِهَادُ بعدَ وفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وأَمَّا فِي عصرِه ففِيه أَقوَالٌ:
أَحَدُهَا ـ وَبِهِ قَالَ الأَكْثَرُونَ وهو الصّحيحُ ـ: الجوَازُ.
وَالثَّانِي: المنع.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ بإِذنِه، ويمتنِعُ بِغَيْرِ إِذنِه، ثُمَّ مِنْهُم مَنِ اعتبرَ الإِذنَ الصّريحَ، وَمِنْهُم مَنْ نزَّلَ السّكوتَ عَنِ المَنْعِ مِنْهُ، مَعَ العِلْمِ بوقوعِهِ منزلةَ الإِذنِ.
وَالرَابِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ للبعيدِ عَنْهُ، ولَا يَجُوزُ بحضرتِه، وَقَدْ حكَى الأَستَاذُ أَبُو منصورٍ الإِجمَاعِ فِي الغَائبِ.
وقَال فِي (المَحْصُولِ) إِنَّهُ جَائزٌ بلَا شكٍّ، وجعلَه البَيْضَاوِيُّ موضعٌ وفَاقٌ، لكنَّ المشهورَ إِجرَاءُ الخِلَافِ فِيهِ، وممَّنْ حَكَاهُ فِيهِ الآمِدِيُّ وَغَيْرُه.
ثم هَلِ المُرَادُ الغيبةُ عَن مجلِسه صلى الله عليه وسلم أَو عَنِ البلدِ التي هو فِيهَا، أَو إِلَى مسَافةٍ القصرِ/ (217/أَ/م) فمَا فوقهَا، أَو إِلَى مسَافةٍ يشقُّ معهَا الارتحَالُ للسؤَالِ عَنِ النَّصِّ عِنْدَ كلِّ نَازلةٍ؟ لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَقْلاً وهو محتمِلٌ.
وَالرَابعُ/ (175/ب/د) جَوَازُهُ للغَائبِ عَنْهُ بشرطِ كَوْنِهُ مِنَ الولَاةِ، كعليٍّ ومعَاذٍ لمَا بعثَهمَا عليه الصلاة والسلام إِلَى اليمنِ، حَكَاهُ الغَزَالِيُّ وَالآمِدِيُّ.
وإِذَا قلنَا بجَوَازِهِ
ففِي وقوعِه مَذَاهِبُ.
أَحَدُهَا: وقوعُهُ، وَاختَارَهُ الغَزَالِيُّ وَالآمِدِيُّ وَابْنُ الحَاجِبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يقَعِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يقَعْ للحَاضرِ، لكنْ وقَعَ للغَائبِ.
وَالرَابِعُ: الوقفُ، وَاختَارَهُ البيضَاويُّ، وقَالَ: لَمْ يَثْبُتْ وقوعُهُ وفِيهِ نَظَرٌ، فقد صحَّ عَنْ أَبِي بكرٍ الصّديقِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي قصَّةِ أَبِي قتَادةَ ـ لمَا قتَل رجلاً مِنَ المشركين فأَخذَ غَيْرُه سَلَبَه، وأَرَادَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِمضَاءَ ذَلِكَ له: لَا هَا اللَّه إِذًا، لَا نعمَدُ إِلَى أَسدٍ من أَسدِ اللَّهِ يقَاتِلُ عَنِ اللَّه ورسولِهِ فنعطيكَ سَلَبَهُ، فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((صَدَقَ)) فأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِنمَا قَالَ ذَلِكَ اجتهَادًا وإِلَاّ لأَسندَهُ إِلَى النصِّ؛ لأَنَّهُ أَدعَى إِلَى الانقيَادِ، وأَقرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم علَى ذَلِكَ، فإِذَا ثَبَتَ هذَا فِي الحَاضرِ فَالغَائبُ أَولَى، لكن قَالَ بعضُهُم: هذَا خبرُ آحَادٍ، وَالمَسْأَلَةُ عِلْمِيَّةُ.
وقَالَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ: هي وإِنْ كَانَتْ أَخبَارُ آحَادٍ لكن تَلَقَّتْهَا الأُمَّةُ بِالقبولِ فجَازَ أَنْ يقَالَ: إِنهَا تُفِيدُ القَطْعَ.
قَالَ الإِمَامُ: وَالخوضُ فِي هذه المَسْأَلَةِ قليلُ الفَائِدَةِ؛ لأَنَّهُ لَا ثمرةَ له فِي الفقهِ.
وَاعترضَه الشَّيْخُ صدرُ الدّينِ بنُ الوكيلِ، وقَالَ: فِي مَسَائِلِ الفقهِ مَا
يُبْنَى عَلَيْهِ كَمَا لو شَكَّ فِي نجَاسةِ أَحدِ الإِنَاءينِ ومعه مَاءٌ طَاهرٌ بيقينٍ ففِي جَوَازِ الاجْتِهَادِ وجهَانِ.
أَصحُّهُمَا: نَعَمْ، وهو قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ الاجْتِهَادَ فِي زمنِه.
وَالثَّانِي: المنعُ، وتبعَه المُصَنِّفُ فِي شرحِ (المنهَاج).
قُلْتُ: ليسَتْ هذه المَسْأَلَةُ مبنيَّةً علَى تلك، وإِنَّمَا اتَّفَقَتَا فِي المُدْرِكِ وفِي وصفٍ جَامعٍ، وهو الاجْتِهَادُ مَعَ القدرةِ علَى اليقينِ، فإِذَا وُصِفَتِ المَسْأَلَةُ هكذَا كَانَ لهَا ثمرةٌ فِي الفقهِ، وإِذَا وُصِفَتْ علَى مَا تقدَّمَ كَانَتْ كلَامًا فِي أَمرٍ انقَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: مسأَلةٌ: المُصِيبُ فِي العَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ، ونَافِي الإِسلَامَ مُخْطِئٌ آثِمٌ كَافِرٌ، وقَالَ الجَاحظُ وَالعنبريُّ، لَا يأَثَمُ المجتهِدُ، قِيلَ: مُطْلَقًا، وَقِيلَ: إِن كَانَ مُسْلِمًا، وَقِيلَ: زَادَ العنبريُّ: كلٌّ مصيبٌ، أَمَّا المَسْأَلَةُ التي لَا قَاطِعَ فِيهَا، فقَالَ الشَّيْخُ وَالقَاضِي وأَبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدُ وَابنُ/ (217/ب/م) سُرَيْجٍ: كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ، ثُمَّ قَالَ الأَوَّلَانِ: حُكْمُ اللَّهِ تَابِعٌ لظنِّ المجتهِدِ، وقَالَ الثّلَاثةُ: هنَاك مَا لو حَكَمَ لكَانَ بِهِ، ومِنْ ثَمَّ قَالُوا: أَصَابَ اجتهَادًا لَا حُكْمًا، وَابتدَاءً لَا انتهَاءَ وَالصَّحِيحُ وفَاقًا للجمهورِ: أَنَّ المصيبَ وَاحدٌ، ولِلَّهِ تعَالَى حُكْمٌ قَبْلَ الاجتهَادِ، قِيلَ: لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ أَمَارةٌ، وأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بإِصَابتِه، وأَنَّ مُخْطِئَهُ لَا يأَثَمُ بَلْ يُؤْجَرُ، أَمَّا الجزئيَّةُ التي فِيهَا قَاطِعٌ، فَالمُصِيبَ فِيهَا وَاحدٌ وِفَاقًا، وَقِيلَ علَى الخِلَافِ، ولَا يأَثَمُ المخطئُ علَى الأَصحِّ، ومتَى قَصَّرَ مُجْتَهِدٌ أَثِمَ وفَاقًا.
ش: اخْتُلِفَتِ النُّسَخُ فِي هذه المسأَلةِ، وَالذي حَكَيْتُه هو الذي استقرَّ عَلَيْهِ المُصَنِّفُ، وتقريرُه: أَنَّ الاختلَافَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي العَقْليَّاتِ أَو غيرِهَا.
القِسْمُ الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فِي العَقْليَاتِ/ (176/أَ/د) فَالمصيبُ فِيهَا وَاحدٌ، كَمَا نَقَلَ الآمِدِيُّ وَغَيْرُه الإِجمَاعَ عَلَيْهِ، فمَنْ لَمْ يصَادِفِ الحُكْمَ فهو آثِمٌ، وإِنْ بِالَغْ فِي النّظرِ، سَوَاءٌ كَانَ مدركُه عقليًّا كحدوثِ العَالِمِ وخلَقِ الأَفعَالِ، أَو شَرْعِيًّا كعذَابِ القبرِ.
أَمَا +نفاةُ الإِسلَامِ كَاليهودِ وَالنصَارَى، فَهُمْ مُخْطِئُونَ آثِمُونَ كَافرونَ، ولَا عبرةَ بمخَالفةِ عمرِو بْنِ بحرٍ الجَاحظِ، وعبيدِ اللَّهِ بْنِ الحسنِ العنبريِّ فإِنَّهُمَا قَالا: إِنَّ المُجْتَهِدَ فِي العَقْليَّاتِ لَا يأَثَمُ، فمنهم من أَطلقَ ذَلِكَ عَنْهُمَا، وَمِنْهُم مَنْ قيَّدَهُ عَنْهُمَا، فقَالَ: بشرطِ الإِسلَامِ وهو أَليقُ بهمَا.
وقَالَ القَاضِي فِي (مختصرِ التقريبِ): إِنَّهُ أَشهرُ الرّوَايتينِ عَنِ العنبريِّ.
وقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُئِلَ عَن أَهْلِ القَدَرِ وأَهلِ الإِجبَارِ فقَالَ: كلٌّ مصيبٌ فهؤلَاءِ قَوْمٌ عظَّمُوا اللَّهَ، وهؤلَاءِ قَوْمٌ نزَّهُوا اللَّهَ. وقَالَ +إِلكيَاالهرَاسيُّ: ذَهَبَ العنبريُّ إِلَى أَنَّ المصيبَ فِي العَقْليَاتِ وَاحدٌ،
ولكنَّ مَا تعلَّقَ بتصديقِ الرّسلِ وإِثبَاتِ حدوثِ العَالمِ فَالمخطئُ فِيه غَيْرُ معذورٍ، وأَمَّا مَا تعلَّقَ بِالقدرِ وَالجَبْرِ وإِثبَاتِ الجهةِ ونفِيهَا فَالمخطئُ فِيهِ معذورٌ، ولو كَانَ مبطلاً فِي اعتقَادِه بعدَ الموَافقةِ فِي تصديقِ الرّسلِ وَالتزَامِ المِلَّةِ.
القِسْمُ الثَّانِي: المَسَائِلُ غَيْرُ العَقْلِيَّةِ وهي التي ليسَتْ أَصلاً من أَصولِ الشَّرْعِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ، ولهَا حَالتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا نصٌّ قَاطعٌ وفِيهَا مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الحسنِ الأَشعريُّ وَالقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وأَبُو يُوسَفَ ومحمَّدُ بْنُ الحسنِ وَابْنُ سُرَيْجٍ: كلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ.
ثم اختلَفَ هؤلَاءِ فقَالَ الأَوَّلَانِ ـ وهمَا الشَّيْخُ وَالقَاضِي: حُكْمُ اللَّهِ تعَالَى تَابعٌ لظنِّ المُجْتَهِدِ فمَا ظنُّه فهو حُكْمُ اللَّهِ فِي حقِّهِ، وقَالَ الثّلَاثةُ البَاقونَ ـ وهم أَبُو يُوسُفَ، ومحمد، وَابْنُ سُرَيْجٍ فِي أَصحِّ الرّوَايَاتِ/ (218/أَ/م) عَنْهُ: إِن فِي كلِّ حَادثةٍ لو حَكَمَ اللَّهَ لَمْ يَحْكُمْ إِلا بِهِ، وتُسَمَّى هذه المقَالةُ الأَشبهَ.
قَال فِي (المنخولِ) وهذَا حُكْمٌ علَى الغيبِ، ومِنْ ثَمَّ؛ أَي: ولأَجلِ قَوْلِ هؤلَاءِ: إِنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي الحَادثةِ مَغِيبٌ عنَا ـ قَالُوا: فِيمنِ اجْتَهَدَ وَلَمْ يُصَادِفْ ذَلِكَ الحُكْمَ: إِنَّهُ مُصِيبٌ فِي اجتهَادِهِ مُخْطِئٌ فِي الحُكْمِ، وربَّمَا عبَّرُوا عن ذَلِكَ بِقَوْلِهِم: مصيبٌ ابتدَاءً مخطئٌ انتهَاءٌ.
المذهبُ الثَّانِي ـ وَبِهِ قَالَ الجُمْهُورُ، وهو الصّحيحُ ـ أَنَّ المُصِيبَ وَاحِدٌ، وقَالَ ابنُ السّمعَانيِّ فِي (القوَاطعِ) إِنَّهُ ظَاهرُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فمَنْ حكَى عَنْهُ غَيْرُه فقد أَخطَأَ.
قَالُوا: ولِلَّه تعَالَى فِي كلِّ وَاقعةٍ حُكْمٌ سَابِقٌ علَى اجتهَادِ المُجْتَهِدِينَ، ثُمَّ اختلَفُوَا، فقَالَ بعضُهم: لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وإِنَّمَا هو كَدَفِِينٍ يصيبُه مَنْ شَاءه اللَّهُ تعَالَى، ويُخْطِئُه مَنْ شَاءه.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ أَمَارةً أَي: دَلِيلٌ ظنيٌّ، وَبِهِ قَالَ الأَئمَّةُ الأَربعةُ، وأَكثرُ الفقهَاءِ وكثيرٍ مِنَ المتكلِّمِينَ، وعلَى هذَا فقَالَ بعضُهم: لَمْ يُكَلَّفُ المُجْتَهِدُ بإِصَابتِه لخفَائِهِ وغموضِه، وَالأَصَحُّ أَنَّهُ مكلَّفٌ بإِصَابتِه، فإِنْ أَخطأَه لَمْ يأْثَمْ لعذرِهِ بَلْ يُؤْجَرُ لقولِه صلى الله عليه وسلم ((إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ فأَصَابَ فله أَجرَانِ، وإِنْ أَخطأَ فلَه أَجْرٌ)) لكن هَلْ يُؤْجَرُ المخطئُ علَى القصدِ للصوَابِ وَالاجْتِهَادِ أَو علَى القصدِ فقطْ؟ فِيهِ وجهَانِ لأَصحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ.
وَالثَّانِي مِنْهُمَا هو اختيَارُ المُزَنِيُّ، ولَا يُؤْجَرُ/ (176/ب/د) علَى نفسِ الخطأِ، وقَالَ بعضُهم: بَلْ يأَثَمُ المُخْطِئُ.
الحَالة الثَّانِيةُ: أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ الجزئيَّةِ نصٌّ قَاطعٌ فَالمصيبُ فِيهَا وَاحدٌ بِالاتِّفَاقِ، وإِن دقَّ مسلكُ ذَلِكَ القَاطعِ، وَقِيلَ: علَى الخِلَافِ فِي التي قبلَهَا وهو غريبٌ.
ثم إِذَا أَخطَأَ ذَلِكَ القَاطِعُ، فإِن لَمْ يُقَصِّرْ فِي الاجْتِهَادِ بَلْ بِذَلِكَ المجهودِ لكن لَمْ يقَعْ عَلَيْهِ ففِي إِثْمِهِ قولَان: أَصحُّهُمَا: لَا يأْثَمُ، وإِنْ قَصَّرَ فِي الاجْتِهَادِ فهو آثِمٌ بِالاتِّفَاقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْطَ تصويبِ كلِّ مُجْتَهِدٍ ـ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ عزُّ الدّينِ ـ أَنْ لَا يَكُونَ مَذْهَبُ الخَصْمِ مستندًا إِلَى دَلِيلٍ ينقضُ الحُكْمَ المستنِدَ إِليه.
ص: لَا يُنْقَضُ الحُكْمُ فِي الاجتهَاديَاتِ وفَاقًا، فإِنْ خَالَفَ نصًّا أَو ظَاهرًا جَلِيًا، ولو قِيَاسًا أَو حَكَمَ بخلَافِ اجتهَادِه، أَو بخلَافِ نصِّ إِمَامِهِ غَيْرَ مُقَلِّدٍ غيرَه/ (218/ب/م) حَيْثُ يَجُوزُ نَقْضُ، ولو تَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجتهَادُهُ فَالأَصحُّ تحريمُهَا، وكذَا المُقَلِّدُ يتغيَّرُ اجتهَادُ إِمَامِه وَمَنْ
تغيَّرَ اجتهَادُه أَعْلَمَ المُسْتَفْتِي لِيَكُفَّ ولَا يَنْقُضُ مَعْمُولَه، ولَا يَضْمَنُ المُتْلِفُ إِنْ تغيَّرَ لَا لقَاطِعٍ.
ش: المَسَائِلُ الاجتهَاديَّةُ لَا يَجُوزُ نقضُ الحُكْمِ فِيهَا، لَا مِنَ الحَاكمِ نفسِه إِذَا تغيَّرَ اجتهَادُه، ولَا من غَيْرِه بِالاتِّفَاقِ، لكنْ يُعْمَلُ بِالاجْتِهَادِ الثَّانِي فِيمَا عدَا الأَحكَامَ المَبْنِيَّةَ علَى الاجْتِهَادِ الأَوَّلَ.
نَعَمْ، إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَالَفَ فِي حكمِهِ الأَوَّلِ نصُّ كتَابٍ أَو سُنَّةٍ أَو إِجمَاعًا أَو ظَاهرًا جَلِيًا وَلو قيَاسيًّا ـ نقَضَ حُكْمَهُ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ المخَالِفُ مَوْجُودًا قَبْلَ الاجتهَادِ، فإِنْ حَدَثَ بعدَه ـ وهذَا إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي عصرِه عليه الصلاة والسلام لَمْ يَنْقَضِ مَا مضَى، صرَّحَ بِهِ المَاوردِيُّ وهو وَاضحٌ.
ثم ذكَرَ المُصَنِّفُ أَنَّهُ يَنْقُضُ الحُكْمَ فِي المَسَائِلِ الاجتهَاديَّةِ فِي صورتينِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يحكُمَ المُجْتَهِدُ علَى خِلَافِ اجتهَادِ نفسِهِ، فهو بَاطِلٌ لمخَالفتِه مَا وَجَبَ عَلَيْهِ العَمَلُ بِهِ مِنَ الظَّنِّ.
ثَانِيهُمَا: أَن يَحْكُمَ المُقَلِّدُ بخلَافِ اجتهَادِ إِمَامِهِ، اللَّهم إِلا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لتقليدِهِ غيرَه، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فإِنَّه حِينَئِذٍ لَا يَنْقُضُ، وفِي الحَقِيقَةِ صَارَ ذَلِكَ المُجْتَهِدُ الثَّانِي هو مُقَلِّدُهُ فِي تِلْكَ الوَاقعةِ.
ثم ذكَرَ المُصَنِّفُ رحمه الله فُرُوعًا مُتَرَتِّبَةً علَى ذلك.
الأَوَّلُ: إِذَا كَانَ مِنْ عقيدةِ المُجْتَهِِدِ جَوَازُ النِّكَاحِ بلَا وَلِيٍّ فتزوَّجَ كَذَلِكَ ثُمَّ تغيَّرَ اجتهَادُه وَاعْتَقَدَ بطلَانَه ـ فَالمُخْتَارُ عِنْدَ ابْنِ الحَاجِبِ تحريمُهَا عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ الرَّافعيُّ عَنِ الغَزَالِيِّ، ولم يَنْقِلْ غيرَه، ومقَابلَةُ التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَن يَتَّصِلَ بِهِ حُكْمٌ فَلَا تُحَرَّمُ وإِلَاّ حُرِّمَتْ، وهو مَا جَزَمَ بِهِ البَيْضَاوِيُّ وَالصفِيُّ الهِنْدِيُّ.
الثَّانِي: إِذَا قلَّدَ المُجْتَهِدُ المذكورُ مُقَلِّدٌ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجتهَادُه ففِيه الخِلَافُ المُتَقَدِّمُ.
الثَّالِثُ: إِذَا أَفتَى المُجْتَهِدُ بشيءٍ، ثُمَّ تغيَّرَ اجتهَادُه، لَزِمَهُ إِعلَامُ المستفتَى بِذَلِكَ؛ لِيَكُفَّ عَنِ العَمَلِ بمَا أَفتَاه بِهِ أَوَّلاً، كَذَا أَطلقَهُ المُصَنِّفُ، وَالمنقولُ فِي أَصلِ (الروضةِ) فِي القضَاءِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِعلَامُه قَبْلَ العَمَلِ وكذَا بعدَه حَيْثُ يجِبُ النَّقْضُ، وأَطلَقَ ابنُ السّمعَانيِّ فِي (القوَاطعِ) / (177/أَ/د) أَنَّهُ متَى عمَلَ بِهِ لَمْ يلزمْه إِعلَامُه.
ثم أَطلَقَ المُصَنِّفُ: أَنَّهُ لَا ينقُضُ معمولُه عِنْدَ تغيُّرِ اجتهَادِ مقلِّدِهِ، ومَحَلُّهُ إِذَا كَانَ/ (219/أَ/م) فِي مَحَلِّ الاجتهَادِ، فإِنْ كَانَ بدليلٍ قَاطِعٍ فِيجِبُ نقضُه كَمَا صرَّحَ بِهِ الصّيمريُّ وَغَيْرُه، وهو وَاضحٌ.
الثَّالِثُ: إِذَا عَمِلَ بفتوَاه فِي إِتلَافٍ ثُمَّ بَانَ خَطَؤُه فإِن لَمْ يخَالِفْ قَاطِعًا لَمْ يُضْمَنْ؛ لأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وإِنْ خَالَفَ القَاطِعُ فأَطْلَقَ المُصَنِّفُ تَضْمِينَهُ، ونقلَ النّوويُّ عَنِ الأَستَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَضْمَنُ إِذَا كَانَ أَهلاً للفتوَى وإِلَاّ فَالمُسْتَفْتِي لَهُ مُقَصِّرٌ، ولم يقيِّدْه المُصَنِّفُ؛ لأَنَّ الكلَامَ فِي المجتهدِ.
وقَالَ النّوويُّ: يَنْبَغِي أَنْ يخرُجَ علَى قولِي الغرورِ أَو يقطعَ بعدمِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِتلَافٌ ولَا إِلجَاءٌ إِلَيْهِ بإِلزَامٍ.
ص: مسأَلةٌ: يَجُوزُ أَن يقَالَ لنبيٍّ أَو مجتهِدٍ: احْكُمْ بمَا تشَاءُ فهو صوَابٌ ويكونُ مُدْرِكًا شَرْعِيًّا، ويُسَمَّى التّفويضَ، وتردَّدَ الشَّافِعِيُّ، قِيلَ: فِي الجوَازِ، وَقِيلَ: فِي الوقوعِ، وقَالَ ابنُ السّمعَانيِّ: يَجُوزُ للنبيِّ دُونَ العَالمِ ثُمَّ المُخْتَارُ: لَمْ يقَعْ، وفِي تعليقِ الأَمرِ بِاخْتِيَارِ المأُمُورِ تردُّدِ.
ش: مُسْتَنِدُ الحُكْمِ الشّرعيِّ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: التّبليغُ عَنِ اللَّهِ تعَالَى، وهذَا يختصُّ بِالرسلِ.
الثَّانِي: المستفَادُ مِنَ الاجتهَادِ، وهذَا وظيفةُ علمَاءِ الأُمَّةِ، وفِي جَوَازِه للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ
خِلَافٌ سَبَقَ.
الثَّالِثُ: المُسْتَفَادُ مِنَ التّفويضِ بأَنْ يقَالَ لنبيٍّ أَو مُجْتَهِدٍ: احْكُمْ بمَا تشَاءُ، فمَا حَكَمْتَ بِهِ فهو حُكْمُ اللَّهِ، فِيصيرُ قَوْلُه مِنْ جملةِ المدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ، فقَالَ جمهورُ المُعْتَزِلَةِ بمنعِهِ، وجوَّزَهُ البَاقونَ.
وقَالَ أَبُو عليٍّ الجبَّائِيُّ فِي أَحدِ قوليه: يَجُوزُ ذَلِكَ للنبيِّ دُونَ العَالمِ، وَاختَارَه ابنُ السّمعَانيِّ، وتردَّدَ الشَّافِعِيُّ وَاختلَفَ فِي مَحَلِّ تَرَدُّدِهِ، فقَالَ الإِمَامُ: فِي الجوَازِ: وقَالَ الجُمْهُورُ: فِي الوقوعِ مَعَ جزمِهِ بِالجوَازِ، وإِذَا قُلْنَا بِالجوَازِ فَالمُخْتَارُ عِنْدَ ابْنِ الحَاجِبِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يقَعْ، ولهذَا لَمْ يَذْكُرِ المُصَنِّفُ المَسْأَلَةَ فِي بَابِ الاستدلَالِ، وَقَدْ ذكرَهَا البَيْضَاوِيُّ فِيهِ، وجزَمَ موسَى بْنُ عمرَانَ مِنَ المُعْتَزِلَةِ بوقوعِهِ.
ثم حكَى المُصَنِّفُ خِلَافًا فِي جَوَازِ تعليقِ الأَمرِ بِاخْتِيَارِ المأُمُورِ، وجهُ المَنْعِ التّضَادُ فإِنَّ الأَمرَ يَقْتَضِي الجزمَ بِالفعلِ، وَالتخييرُ مُنَافٍ له، وَوَجْهُ الجوَازِ كمَا فِي خِصَالِ الكفَّارةِ فإِنَّ الوَاجبَ مِنْهَا وَاحدٌ، وَمَعَ ذَلِكَ يُخَيَّرُ المُكَلَّفُ بَيْنَ خصَالٍ، وهذه/ (219/ب/م) المَسْأَلَةُ مذكورةٌ هُنَا استطرَادًا للتنظيرِ، ومحلُّهَا بَابُ الأَوَامرِ.
ص: مسأَلةٌ: التّقليدُ أَخْذُ قَوْلِ الغيرِ مِنْ غَيْرِ معرفِةِ دليلِهِ، ويلزَمُ غَيْرَ المُجْتَهِدِ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ تَبَيُّنُ صِحَّةِ اجتهَادِهِ، ومَنَعَ الأَستَاذُ التّقليدَ فِي القوَاطِعِ، وَقِيلَ: لَا يُقَلَّدُ عَالِمٌ وإِنْ لَمْ يَكُنْ مجتهدًا، أَمَّا ظَانُّ الحَاكمِ بَاجتهَادِه فَيَحُرُمُ عَلَيْهِ التّقليدُ، وكذَا المُجْتَهِدُ عِنْدَ الأَكثرِ، وثَالِثُهَا: يَجُوزُ للقَاضِي، ورَابِعُهَا: يَجُوزُ تقليدُ الأَعلمِ، وخَامِسُهَا: يُقَلَّدُ عِنْدَ ضِيقِ الوقتِ، وسَادِسُهَا: فِيمَا يَخُصُّه.
ش: لمَا ذَكَرَ المُصَنِّفُ الاجْتِهَادَ ذكَرَ التّقليدَ/ (177/ب/د) وعرَّفَهُ بأَنَّهُ (أَخْذُ قَوْلِ الغَيْرِ مِنْ
غَيْرِ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ) كذَا فِي النُّسْخَةِ القديمةِ، ثُمَّ ضَرَبَ المُصَنِّفُ علَى قولِ:(الغيرِ) وجعَلَ بدلَه: (المذهبَ) ودعَاه إِلَى ذَلِكَ اعترَاضُ إِمَامِ الحَرَمَيْنِ علَى التّعبيرِ بِالقولِ فإِنَّه لَيْسَ مِنْ شرطِ المَذْهَبِ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا، وقَالَ: يَنْبَغِي الإِتيَانُ بلفظِ يَعُمُّهمَا.
ولكنْ فِيمَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ نَظَرٌ، لأَنَّ القَوْلَ يُطْلَقُ علَى الرّأَيِ وَالاعتقَادِ إِطلَاقًا شَائِعًا، حتَّى صَارَ كأَنَّهُ حقيقةٌ عُرْفِيَّةٌ، فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَ التّعبيرينِ.
فَالأَخذُ جنسٌ، وَالمُرَادُ بِهِ تَلَقِّيهِ بِالاعتقَادِ سَوَاءٌ انضمَّ إِلَيْهِ العَمَلُ بِهِ أَمْ لَا.
وَخَرَجَ بِالمذهبِ أَقوَالٌ وأَفعَالٌ لقَائلِهَا وفَاعلِهَا ليسَتْ مَذَاهِبَ لهم صَادرةً عَن اجتهَادٍ، إِمَّا لأَنَّهَا ليسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الاجْتِهَادِ، بَلْ معلومةً مِنَ الدّينِ بِالضرورةِ، أَو ليسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الدّينِ أَو لغيرِ ذلك.
وَخَرَجَ بَانتفَاءِ معرفةِ الدَّلِيلِ مَا إِذَا عَرَفَه حقَّ المعرفةِ فإِنَّه مُجْتَهِدٌ فِيمَا عرَفَ دليلَه.
ثم أَخَذَ المُصَنِّفُ يَذْكُرُ حُكْمَهَ فقسَّمَ مَنْ يُرِيدُ التّقليدَ إِلَى مُجْتَهِدٍ وَغَيْرِه.
القِسْمُ الأَوَّلُ: غَيْر المُجْتَهِدِ وفِيه مَذَاهِبُ: أَصحُّهَا أَنَّهُ يلزمُه تقليدُ مجتهدٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الاجْتِهَادِ اشترطَ فِيهِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ اجتهَادُ مَنْ يقلِّدُه فِيمَا يُقَلِّدُه فِيهِ بدليلٍ وإِلَاّ فَلَا يلزَمُهُ.
الثَّالِثُ: وَبِهِ قَالَ الأَستَاذُ: مَنْعُ التّقليدِ فِي القوَاطعِ التي هي أَصولُ الشّريعةِ.
الرَابِعُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ للعَالِمِ التّقليدِ، وإِن لَمْ يَكُنْ مجتهدًا، بَلْ يلزمُه معرفةُ الحُكْمِ بدليلِه؛ لأَنَّ لَهُ صلَاحيَّةَ المعرفةِ، بخلَافِ العَاميِّ، ولم يَحْكِ المُصَنِّفُ قولًا يمنَعُ العَاميَّ أَيضًا مِنَ التّقليدِ، وَقَدْ قَالَ بِهِ معتزِلةُ بغدَادَ، فأَوجبُوا عَلَيْهِ الوقوفَ علَى طريقِ الحُكْمِ، وقَالُوا: إِنَّمَا يرجِعُ إِلَى العَالِم لتَنْبِيهِهِ علَى/ (220/أَ/م) أَصولِهَا.
وقَالَ الجبَّائِيُّ: يَجُوزُ لَهُ التّقليدُ فِي المَسَائِلِ الاجتهَاديَّةِ دُونَ مَا عدَاهَا،
كَالعبَادَاتِ الخمسِ، وكَادَ ابْنُ حَزْمِ يدَّعِي الإِجمَاعَ علَى النّهيِ عَنِ التّقليدِ، وحكَى ذَلِكَ عَن مَالكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهمَا.
قَالَ: ولم يَزَلْ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِ كتبِه ينهَى عَنِ تقليدِهِ وتقليدِ غيرِهِ.
وقَالَ الصّيدلَانِيُّ: إِنَّمَا نهَى الشَّافِعِيُّ عَنِ التّقليدِ لمن بَلَغَ رُتْبَةَ الاجْتِهَادِ فَمَنْ قصَّرَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُ إِلا التّقليدُ.
وقَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِي الشّريعةِ تقليدٌ، فإِنَّه قبولُ القَوْلِ من غَيْرِ حُجَّةٍ، وأَقوَالُ المُفْتِينَ وَالحُكَّامُ مقبولةٌ بِالإِجمَاعِ لقيَامِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ علَى وُجُوبِ العَمَلِ بهَا.
القِسْمُ الثَّانِي: المُجْتَهِدُ فإِنِ اجْتَهَدَ وظنَّ الحُكْمُ وجَبَ عَلَيْهِ العَمَلُ بمَا ظنُّهُ وحرَّمَ عَلَيْهِ التّقليدُ، وهذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وإِن لَمْ يَكُنْ قَدِ اجتهَدَ ففِيه مَذَاهِبُ/ (178/أَ/د).
أَحَدُهَا ـ وَبِهِ قَالَ الأَكْثَرُونَ: مَنَعَهُ مِنَ التّقليدِ أَيضًا لِقُدْرَتِهِ علَى الاجتهَادِ.
وَالثَّانِي: الجوَازُ، وهو محكيٌّ عَن سفِيَانَ الثّوريِّ وأَحمدَ وإِسحَاقَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ للقَاضِي دُونَ غيرِه.
الرَابِعُ: يَجُوزُ تقليدُه لأَعلَمَ مِنْهُ، ولَا يَجُوزُ لمسَاويه ودونه، وَبِهِ قَالَ محمَّدُ بنُ
الحسنِ.
الخَامِسُ: جَوَازُهُ عِنْدَ ضِيقِ الوقتِ بأَنْ يخشَى الفوَاتِ لو اشْتُغِلَ بِالاجْتِهَادِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ له فِي خَاصَّةٍ نفسِهِ ويمتنعِ عَلَيْهِ فِيمَا يُفْتِي بِهِ غيرَه.
ص: مسأَلة: إِذَا تكرَّرَتِ الوَاقعةُ وتجدَّدَ مَا قَدْ يَقْتَضِي الرّجوعَ ولم يَكُنْ ذَاكِرًا للدليلِ الأَوَّلِ وجَبَ تجديدُ النّظرِ قَطْعًا، وكذَا إِن لَمْ يتجدَّدْ لَا إِن كَانَ ذَاكِرًا، وكذَا العَاميُّ يستفتِي ثُمَّ تقَعُ لَهُ تِلْكَ الحَادثةُ هَلْ يعيدُ السّؤَالَ.
ش: إِذَا تكرَّرَتْ للمجتهدِ الوَاقعةِ فَهَلْ يلزمُهُ تجديدُ الاجْتِهَادِ لهَا؟
للمسأَلةِ أَحوَالٌ.
أَحَدُهَا: أَن يتجدَّدَ مَا يَقْتَضِي رجوعَه ولَا يَكُونُ ذَاكرًا للدليلِ الأَوَّلِ، فِيجِبُ هُنَا إِعَادةُ الاجْتِهَادُ قَطْعًا، وَاعتمَدَ المُصَنِّفُ فِي القَطْعِ بِذَلِكَ كلَامِ الفقهَاءِ، لكنْ حكَى فِيهِ الأُصُولِيُّونَ قولاً بعدمِ الوُجُوبِ لأَنَّ الغَالِبَ علَى الظّنِّ قُوَّةُ مَا كَانَ قَد تمسَّكَ بِهِ.
الثَانِيَة: أَن لَا يتجدَّدَ مَا يَقْتَضِي الرّجوع، ُ لكن لَا يَكُونُ ذَاكِرًا للدليلِ الأَوَّلِ، فكذلك يلزمُه/ (220/ب/م) أَن يجتهِدَ ثَانيًا ويعمَلُ بمَا أَدَاه إِلَيْهِ اجتهَادُه، سَوَاءٌ
وَافَقَ اجتهَادَه الأَوَّلَ أَمْ خَالَفَهُ.
الثَالثةُ: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا للدليلِ الأَوَّلِ، فَلَا يلزمُهُ التّجديدُ قَطْعًا، ويجرِي ذَلِكَ فِي العَاميِّ يستفتِي المجتهدُ، ثُمَّ تقَعُ لَهُ الوَاقعةُ ثَانيًا هَلْ يلزمُه إِعَادةُ السّؤَالِ ثَانيًا؟
وجهَانِ لأَصحَابِنَا أَصحُّهمَا: نَعَمْ، لاحتمَالِ تغيُّرِ الاجتهَادِ، وَمَحَلُّ الخِلَافِ إِذَا عرَفَ أَنَّ الجوَابَ عَن رأَيٍ أَو قِيَاسٍ أَو شَكٍّ، وَالمُقَلِّدُ حيٌّ، فإِنَّ عَرَفَ أَنَّ الجوَابَ عَن نصٍّ أَو إِجمَاعٍ فَلَا حَاجةَ للسؤَالِ ثَانيًا قَطْعًا كَمَا جزَمَ بِهِ الرَّافعيُّ، قَالَ: وكذَا لو كَانَ المُقَلِّدُ مَيِّتًا، وجوَّزْنَاه، أَي لَا يعيدُ السّؤَالَ قَطْعًا.
وفِي بَعْضِ النُّسخِ مِنْ هذَا الكتَابِ بعدَ قَوْلِه: (وكذَا العَامِيُّ يستفتِي)(ولو مُقَلِّدٌ مَيِّتٌ)
ومُقتضَاه جريَانُ الخِلَافِ فِي مُقَلِّدِ المَيِّتِ، وهو خِلَاف مَا اقتضَاه كلَامِ الرَّافعيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: مسأَلةٌ: يَجُوزُ تقليدُ المفضولِ، ثَالِثُهَا: المُخْتَارُ يَجُوزُ لِمُعْتَقَدِه فَاضلاً أَو مُسَاويًا، ومِنْ ثَمَّ لَمْ يَجِبِ البحثُ عَنِ الأَرجحِ؛ فَإِنِ اعتَقَدَ رُجحَانَ وَاحدٍ تَعَيَّنَ، وَالرَاجحُ عِلْمًا فَوْقَ الرَّاجحِ وَرَعًا فِي الأَصحِّ.
ش: هَلْ يَجُوزُ تقليدُ المفضولِ مِنَ المجتهدَيْنَ مَعَ التّمَكُّنِ مِنْ تَقْلِيدِ الفَاضلِ؟
فِيه مَذَاهِبُ:
أَحَدُهَا ـ وهو المشهورُ ـ: جَوَازُهُ، فَقَدْ كَانوا يَسْأَلونَ آحَادَ الصّحَابةِ مَعَ وُجُودِ أَفَاضلِهم.
وَالثَّانِي: مَنْعُهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَاختَارَه القَاضِي الحُسَيْنُ وَغَيْرُه.
وَالثَّالِثُ: وَاختَارَه المُصَنِّفُ ـ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ يَعْتَقِدُه فَاضلاً أَو مُسَاويًا لِغيرِه، فَإِنْ اعتقدَه دُونَ غَيْرِه امْتُنِعَ استفتَاؤُه.
قَالَ المُصَنِّفُ:/ (178/ب/د) ولهذَا لَا يَجِبُ البحثُ عَنِ الأَرجَحِ؛ فَإِنِ اعْتَقَدَ تَرَجُّحَ وَاحدٍ علَى غَيْرِه مِنَ المجتهدَيْنِ تَعَيَّنَ تقليدُه، ولَمْ يَجُزْ تقليدُ غيرِه، وإِنْ لَمْ يُوجِبِ البحثَ عَنِ الأَعلمِ، كَذَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الغَزَالِيِّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وهذَا وإِن كَانَ ظَاهرًا فَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا ذَكَرْنَاه مِنْ سُؤَالِ آحَادِ الصّحَابةِ مَعَ وُجُودِ أَفَاضلِهم، انْتَهَى.
فإِنْ تعَارضَ مُجتهدَانِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَرجَحُ فِي العِلْمِ وَالآخَرُ أَرجَحُ فِي الوَرَعِ فَالأَصَحُّ تقديمُ الأَعَلَمِ؛ فَإِنَّه لَا تَعَلُّقَ لِمسَائلِ/ (221/أَ/م) الاجْتِهَادِ بِالوَرَعِ، وَقِيلَ: يُقَدَّمُ الأَوْرَعُ، ويُحْتَمَلُ التّخييرُ بَيْنَهُمَا.
ص: وَيَجُوزُ تقليدُ المَيِّتِ خِلَافًا لِلإِمَامِ وثَالِثُهَا: إِنْ فُقِدَ الحَيُّ، ورَابعُهَا قَالَ الهِنْدِيُّ: إِنْ نَقَلَهُ عَنْهُ مُجْتَهِدٌ فِي مذهبِهِ.
ش: فِي جَوَازِ تقليدِ المَيِّتِ أَقوَالُ.
أَحَدُهَا ـ وَبِهِ قَالَ الجُمْهُورُ ـ: جَوَازُهُ، وعَبَّرَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: المَذَاهِبُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَربَابِهَا.
الثَّانِي: مَنْعُهُ مُطْلَقًا، وعَزَاهُ الغَزَالِيُّ فِي (الْمَنْخُولِ) لإِجمَاعِ الأُصُولِيِّينَ، وَاختَارَه الإِمَامُ فَخْرُ الدّينِ.
وقَالَ الشَّارِحُ: مَنْ تأَمَّلَ كلَامَ (المَحْصُولِ) عَلِمَ أَنَّ الإِمَامَ يَمْنَعُ التّقليدَ مُطْلَقًا، ومَنْ فَهِمَ مِنْهُ خِلَافَ ذَلِكَ وعَزَاهُ إِلَيْهِ فَقَدْ غَلِطَ، انْتَهَى.
الثَّالِثُ: يَجُوزُ مَعَ فَقْدِ مُجْتَهِدٍ حَيٍّ، ولَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِه، وقَطَعَ بِهِ
المُصَنِّفُ، وحَمَلَ إِطلَاقَ المُطْلِقِينَ علَى فَقْدِ حَيٍّ مُمَاثِلٍ لِلْمَيَّتِ أَوْ أَرجحُ،+ أَمَّا إِذَا فُقِدَ مُطْلَقًا فَكَيْفَ يَتْرِكِ النَّاسَ هَمْلاً.
الرَابِعُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ النَّاقلُ لِقَوْلِ المُجْتَهِدِ المَيِّتِ مُجْتَهِدًا فِي ذَلِكَ المذهبِ جَازَ تقليدُه وإِلَاّ فَلَا، حَكَاهُ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ، وقَالَ: إِنَّهُ أَظْهَرُ.
قَالَ المُصَنِّفُ: وهو فِي غَيْرِ مَحَلِّ النّزَاعِ؛ لأَنَّ الكلَامَ فِيمَا إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَذْهَبُ المَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ النَّاقلُ بِحيثُ لَا يُوثَقُ بِنَقْلِهِ فَهُمَا، وإِنْ وُثِقَ نِقْلاً تَطَرَّقَ عَدَمُ الوُثُوقِ بِفَهْمِهِ إِلَى عَدَمِ الوُثُوقِ بِنَقْلِهِ، وصَارَ عَدَمُ قبولِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ المذهبِ عَنِ المنقولِ إِلَيْهِ لَا لأَنَّ المَيِّتَ لَا يُقَلَّدُ.
ص: وَيَجُوزُ استفتَاءُ مَنْ عُرِفَ بِالأَهْلِيَّةِ أَو ظُنَّ بَاشتهَارِه بِالعِلْمِ وَالعدَالةِ وَانتصَابِهِ وَالنَاسُ مُسْتَفْتُونَ ولو قَاضِيًا، وَقِيلَ: لَا يُفْتِي قَاضٍ فِي المُعَاملَاتِ لاالمجهول+؛فَالأَصَحُّ وُجُوبُ البحثِ عَنْ عِلْمِهِ وَالاكتفَاءُ بِظَاهرِ العدَالةِ وبِخَبَرِ الوَاحِدِ.
ش: إِذَا فَرَّعْنَا علَى جَوَازِ التّقليدِ جَازَ استفتَاءُ مَنْ عُرِفَ بِأَهْلِيَّةِ الإِفتَاءِ، وهي العِلْمُ وَالعدَالةُ، وكذَا لو ظَنَّ ذَلِكَ بِأَحدِ طريقَيْنِ.
أَحَدِهِمَا: الاشتهَارُ بِذلكَ.
وَالثَّانِي: الانتصَابُ لِلإِفتَاءِ مَعَ استفتَاءِ النَّاسِ لَهُ وتعظيمِهم إِيَّاهُ بِالعِلْمِ، ولَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا أَو لَا، وَقِيلَ: إِنَّمَا يُفْتِي القَاضِي فِي العبَادَاتِ دُونَ المعَاملَاتِ.
وقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: تُكْرَهُ فَتوَاه فِي الأَحكَامِ دُونَ غيرِهَا، فَإِنْ جُهِلَ أَمرُه
أَمَّا بِالنسبةِ/ (221/ب/م) لِلعدَالةِ وَالفِسْقِ لَمْ يَجُزْ استفتَاؤُه علَى الصّحيحِ.
قَالَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ: وَالخِلَافُ فِيه فِي غَايةِ البُعْدِ؛ لأَنَّ العُلَمَاءَ وإِنْ اخْتَلَفُوا فِي قبولِ المجهولِ حَالُه فِي الرّوَايةِ وَالشّهَادةِ فَلِوجودِ مَا يَقْتَضِي المَنْعَ مِنَ الفِسْقِ ظَاهرًا وهو الإِسلَامُ، وَلَيْسَ فِي/ (179/أَ/د) مجهولِ الحَالِ مَا يَقْتَضِي حُصُولُ العِلْمِ ظَاهرًا، لَا سيمَا العِلْمُ الذي يَحْصُلُ بِهِ رُتْبَةُ الإِفتَاءِ كَيْفَ وَاحتمَالُ العَامِيَّةِ رَاجِحٌ علَى احتمَالِ العَالمِيَّةِ؛ لِكونِ العَامِيَّةِ أَصْلاً، وهي أَغلبُ أَيضًا، بِخلَافِ العَالمِيَّةِ؛ فإِنَّهَا علَى خِلَافِ الأَصْلِ وهي قليلةٌ، وعِنْدَ هذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لو تَرَدَّدَ فِي عدَالتِه دُونَ عِلْمِهِ فَرُبَّمَا يَتَّجِهُ الخِلَافُ فِي جَوَازِ الاستفتَاءِ مِنْهُ، وأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِيَاسُ عِلْمِهِ علَى المجهولِ عدَالتُه لِظهورِ الفَارقِ).
ثُمَّ صَحَّحَ المُصَنِّفُ أَنَّهُ إِنْ جُهِلَ عِلْمُهُ وَجَبَ البحثُ عَنْهُ بِسؤَالِ النَّاسِ، لَكِنَّ المَحْكِيَّ فِي (الرَّوْضَةِ) عَنِ الأَصحَابِ ـ ورَجَّحَهُ ـ أَنَّهُ يَكْفِي الاستفَاضةُ بَيْنَ النَّاسِ بِوَصْفِهِ بِذَلِكَ، وإِنْ جُهِلَ عدَالتُه اكتفَى فِي ذَلِكَ بِظهورِ العدَالةِ.
وذَكَرَ الرَّافِعِيُّ أَنَّ الغَزَالِيَّ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ احتمَالَيْنِ هذَا أَشْبَهَهُمَا؛ لأَنَّ الغَالبَ مِنْ حَالِ العُلَمَاءِ العدَالةُ، وَلَيْسَ الغَالبُ مِنَ النَّاس العلمَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وهذَانِ الاحتمَالانِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا غيرُه، وهُمَا فِي المستورِ، وهو الذي ظَاهرُه العدَالةُ ولَمْ يُخْتَبَرْ بَاطنُه، وإِذَا وَجَبَ البحثُ فَذَكَرَ الغَزَالِيُّ أَيضًا احتمَالَيْنِ فِي أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدِ التّوَاترِ أَمْ يَكْفِي إِخبَارُ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالمنقولُ خِلَافُهمَا؛ فَالذي قَالَهُ الأَصحَابُ: أَنَّهُ يَجُوزُ استفتَاءُ مَنْ استفَاضَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَقِيلَ: لَا تَكْفِي الاستفَاضةُ ولَا التّوَاتْرُ؛ لأَنَّ
الاستفَاضةَ مِنَ العوَامِ لَا وُثُوقَ بِهَا؛ فَقَدْ تكونُ عَنْ تَلْبِيسٍ، وَالتوَاترُ لَا يُفِيدُ العِلْمَ إِلَاّ إِذَا اسْتَنَدَ إِلَى مَحْسُوسٍ.
وقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: يُقْبَلُ فِي أَهْلِيَّتِهِ خَبَرُ عَدْلٍ وَاحِدٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وهو محمولٌ علَى مَنْ عِنْدَه معرفةٌ يُمَيِّزُ بِهَا الأَهُلَ مِنْ غَيْرِه، ولَا يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ خَبَرُ آحَادِ العَامَّةِ؛ لِكثرةِ مَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ مِنَ التّلْبِيسِ فِي ذلكَ.
ص: وللعَامِيِّ سُؤَالُهُ عَنْ مَأَخذِهِ استرشَادًا/ (222/أَ/م) ثُمَّ عَلَيْهِ بيَانُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ خَفِيًّا.
ش: عبَارةُ ابْنِ السّمعَانِيِّ: (ويَلْزَمُ العَالِمُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ الدَّلِيلَ إِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ ولَا يَلْزَمُه إِنْ لَمْ يَكُنْ مقطوعًا بِهِ، لافْتِقَارِهِ إِلَى اجتهَادٍ يَقْصُرُ عَنْهُ فَهْمُ العَامِيِّ) فَعَبَّرَ عَنْهُ المُصَنِّفُ بِالظُهُورِ وَالخَفَاءِ.
ص: مسأَلةٌ: يَجُوزُ لِلقَادرِ علَى التّفريعِ وَالترجيحِ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجتهدًا الإِفتَاءُ بِمذهبِ مُجْتَهِدٍ اطَّلَعَ علَى مأَخذِه وَاعْتَقَدَهُ، وثَالِثُهَا عِنْدَ المُجْتَهِدِ، ورَابعُهَا وإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادرًا؛ لأَنَّهُ نَاقلٌ.
ش: هَلْ يَجُوزُ الإِفتَاءُ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الاجْتِهَادِ المُطْلَقِ؟
يُنْظَرُ؛ إِنْ وَصَلَ إِلَى رُتْبَةِ الاجْتِهَادِ الْمُقَيَّدِ فَاسْتَقَلَّ بِتقريرِ مَذْهَبِ إِمَامٍ مُعَيَّنٍ كَمَا هي صِفَةُ أَصحَابِ الوُجُوهِ جَازَ له ذَلِكَ قَطْعًا، وإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى هذه المرتبةِ ففِيه مَذَاهِبُ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ له ذَلِكَ إِذَا كَانَ فَقِيهُ النّفْسِ حَافظًا لِمذهبِه قَادرًا علَى التّفريعِ وَالترجيحِ مُطْلَقًا علَى مَا أَخَذَ إِمَامُه، وهو الذي اختَارَه الآمِدِيُّ وَابْنُ الحَاجِبِ وحُكِيَ عَنِ الأَكْثَرِينَ.
وَالثَّانِي: المَنْعُ ولو كَانَ بهذه الصّفةِ.
وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ المُجْتَهِدِ لَا مَعَ وُجُودِه.
وَالرَابِعُ: الجوَازُ مُطْلَقًا، وإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادرًا علَى التّفريعِ وَالترجيحِ؛ لأَنَّهُ نَاقلٌ.
أَمَا العَامِيُّ إِذَا عَرَفَ حُكْمَ حَادِثةِ دليلٍ فَلَيْسَ لَهُ الفُتْيَا بِهَا.
وَقِيلَ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: إِن كَانَ نَقْلِيًّا جَازَ، وإِلَاّ فلَا/ (179/ب/د) وَقِيلَ: إِنْ كَانَ دَلِيلاً مِنَ الكتَابِ أَو السُّنَّةِ جَازَ، وإِلَاّ فَلَا.
ص: وَيَجُوزُ خُلُوُّ الزّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ خِلَافًا للحنَابلةِ مُطْلَقًا ولَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ مَا لَمْ يَتَدَاعَ الزّمَانُ بِتَزَلْزُلِ القوَاعدِ، وَالمُخْتَارُ لَمْ يَثْبُتْ وقوعُه.
ش: ذَهَبَ الأَكثرون إِلَى جَوَازِ خُلُوِّ الزّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ مُطلقٍ ومُقَيَّدٍ، وهو المُجْتَهِدُ فِي مَذْهَبِ المجتهدِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ-صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العلمَاءِ، حتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَقْتَوا+بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وأَضَلُّوَا)) ومَنَعَ مِنْهُ الحنَابلةُ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهرِينَ علَى الحقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حتَّى يَأَتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ)) (222/ب/م) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدّينِ فِي (شَرْحِ العُنْوَانِ): وهو المُخْتَارُ عنِدنَا، لَكِنْ إِلَى الحَدِّ الذي يُنْتَقَضُ بِهِ القوَاعدُ بِسببِ زَوَالِ الدّنيَا فِي آخِرِ الزّمَانِ) ويُوَافِقُهُ قَوْلُهُ فِي خُطْبَةِ شَرْحِ الإِلمَامِ: وَالأَرْضُ لَا تَخْلُو مِنْ قَائمٍ لِلَّهِ بِالحُجَّةِ، وَالأُمَّةُ الشّريفةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ سَالكٍ إِلَى الحَقِّ علَى وَاضحِ المَحَجَّةِ إِلَى أَن يأَتِيَ أَمرُ اللَّهِ فِي أَشرَاطِ السَّاعةِ
الكُبْرَى، ويَتَتَابَعُ بَعْدَه مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ إِلَاّ قُدُومُ الأُخْرَى.
وقَالَ وَالدُه الشَّيْخُ مَجْدُ الدّينِ فِي كتَابِهِ (تَنْقِيحُ الأَفهَامِ) عَنِ المُجْتَهِد فِي هذه الأَعصَارِ: وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ حُصُولِ آلةِ الاجتهَادِ، بَلْ لإِعرَاضِ النَّاسِ فِي اشتغَالِهم عَنِ الطّريقِ المُفْضِيةِ إِلَى ذلكَ).
وَاختَارَ المُصَنِّفُ جَوَازَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ.
وقُلْتُ مَرَّةً لِشَيْخِنَا الإِمَامُ البَلْقِينِيُّ- رَحِمُهُ اللَّهُ تعَالَى-: مَا يَقْصُرُ بِالشَّيْخِ تَقِيِّ الدّينِ السُّبْكِيِّ عَنِ الاجْتِهَاد وَقَدْ اسْتَكْمَلَ آلَاتِهِ؟ وكَيْفَ يُقَلِّدُ؟ ولَمْ أَذْكُرَهُ هو استحيَاءً مِنْهُ لِمَا أُرِيدُ أَنْ أُرَتِّبَ علَى ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنْهُ.
فَقُلْتُ: مَا عندي أَنَّ الامتنَاعَ مِنْ ذَلِكَ إِلَاّ لِلوظَائفِ التي قَرَّرَتْ لِلفقهَاءِ علَى المَذَاهِبِ الأَربعةِ، وأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ وَاجْتَهَدَ لَمْ يَنَلْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وحُرِمَ وِلَايةُ القضَاءِ، وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ استفتَائِه ونُسِبَ لِلبِدْعَةِ.
فَتَبَسَّمَ ووَافَقَنِي علَى ذلكَ.
ص: وإِذَا عَمِلَ العَامِيُّ بِقولِ مُجْتَهِدٍ فَلَيْسَ لَهُ الرّجوعُ عَنْهُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ العَمَلُ بِمُجَرَّدِ الإِفتَاءِ، وَقِيلَ: بِالشّروعُ فِي العملِ، وَقِيلَ: إِنِ الْتَزَمَهُ وقَالَ السّمْعَانِيُّ: إِنْ وَقَعَ فِي نفسِه صِحَّتَه، وقَالَ ابْنُ الصّلَاحِ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ مُفْتٍ آخَرَ فَإِنْ وُجِدَ تَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا، وَالأَصَحُّ جَوَازُهُ فِي حُكْمٍ آخَرَ، وأَنَّهُ يَجِبُ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ يَعْتَقِدُهُ أَرْجَحَ أَوْ مُسَاوِيًا، ثُمَّ يَنْبَغِي السّعْيُ فِي اعتقَادِه أَرْجَحُ، ثُمَّ فِي خروجِه عَنْهُ: ثَالِثُهَا لَا يَجُوز فِي بَعْضِ المَسَائِلِ وَالأَصَحُّ أَنَّهُ يُمْتَنَعُ تَتَبُّعُ الرّخَصِ وخَالَفَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ.
ش: فِيهِ مسَائلُ:
الأَولَى: إِذَا وَقَعَتْ لِعَامِيٍّ حَادِثةٌ فَاستفتَى فِيهَا مجتهدًا فله أَحوَالٌ:
الأَولَى: أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِفتوَى ذَلِكَ المُجْتَهِدِ فَلَيْسَ لَهُ الرّجوعُ عَنْهُ إِلَى فتوَى
غَيْرِه فِي تِلْكَ الحَادثةِ بِعَيْنِهَا بِالإِجمَاعِ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الحَاجِبِ وَغَيْرِهِ.
الثَانِيَةُ:/ (223/أَ/م) أَنْ يَكُونَ قَبْلَ العَمَلِ، وفِيه مَذَاهِبُ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُه العَمَلُ بفتوَاه بِمُجَرَّدِ الإِفتَاءِ؛ لأَنَّهُ فِي حَقِّه كَالدليلِ فِي حَقِّ المُجْتَهِدِ.
وَالثَّانِي: إِنَّمَا يَلْزَمُهُ العَمَلُ بِهَا إِذَا شَرَعَ فِيهِ، وهو احتمَالٌ لابْنِ السّمعَانِيِّ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يلزمُه العَمَلُ بهَا/ (180/أَ/د) إِلا بِالْتزَامِه.
وَالرَابِعُ: يَلْزَمُه إِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِه صِحَّةُ ذَلِكَ وحَقِّيَّتُه، حَكَاهُ ابنُ السّمعَانِيِّ، وقَالَ: إِنَّهُ أَقوَى الأَوْجُهِ.
الخَامِسُ: قَالَ ابْنُ الصّلَاحِ: الذي تقتضِيه القوَاعدُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَجِدْ سِوَاه تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الأَخْذُ بِفتوَاه، وإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْه ولَا سَكَنَتْ نَفْسُه إِلَى حَقِيَّتِهِ، وإِنْ وَجَدَ سِوَاه، فَإِنْ كَانَ الذي أَفتَاه هو الأَعْلَمُ الأَوْثَقُ لَزِمَهُ بِنَاءً علَى تَقْلِيدِ الأَفضلِ، وإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَمْ يَلْزَمْهُ.
وكذَا قَالَ النّوَوِيُّ: المُخْتَارُ مَا نَقَلَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُفْتٍ آخَرَ لَزِمَهُ بِمُجَرَّدِ فَتْوَاه، وإِنْ لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ، وإِنْ كَانَ هنَاك آخَرُ لَمْ يَلْزَمُهُ بِمُجَرَّدِ إِفتَائِه؛ إِذْ لَهُ أَنْ يَسأَلَ غيرَه، وحينئذٍ فَقَدْ يُخَالِفُه فَيَجِيءُ فِيهِ الخِلَافُ فِي اخْتِلَافِ المُفْتِينَ.
الثَالثةُ: أَنْ يَقَعَ لَهُ حَادثةٌ غَيْرُ تلكَ؛ فَالأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِي فِيهَا غَيْرَ الذي استفتَاه فِي الحَادثةِ السَّابقةِ، وهو الذي اختَارَه ابْنُ الحَاجِبِ.
وَالثَّانِي: لَا، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ استفتَاؤُه.
وَالثَّالِثُ: جَوَازُهُ فِي عَصْرِ الصّحَابةِ وَالتَابِعِينَ، ومَنَعَهُ فِي الأَعصَارِ التي اسْتَقَرَّتْ فِيهَا المَذَاهِبِ، وإِليه مَيْلُ إِمَامِ الحَرَمَيْنِ.
المَسْأَلَةُ الثَّانِيةُ: هَلْ يَجِبُ علَى العَامِيِّ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا أَمْ لَا؟
فِيه مَذْهَبَانِ.
أَحَدُهُمَا ـ وَبِهِ قَطَعَ إِلْكِيَاالْهَرَّاسِيُّ، وَاختَارَه المُصَنِّفُ ـ أَنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ، ولَا يَفْعَلُهُ بِمُجَرَّدِ التّشَهْيِ، بَلْ يَخْتَارُ مَذْهَبًا يُقَلِّدُه فِي كُلِّ شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ أَرْجَحَ أَوْ مُسَاوِيًا لِغيرِه لَا مرجوحًا.
وَالثَّانِي: لَا، فعلَى هذَا هَلْ لَهُ تقليدُ مَنْ شَاءَ؟ أَو يَبْحَثُ عَنْ أَشَدِّ المَذَاهِبِ؟
فِيه وجهَانِ: قَالَ النّوَوِيُّ: هذَا كلَامُ الأَصحَابِ، وَالذي يَقْتَضِِيه الدَّلِيلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التّمَذْهُبُ بِمذهبٍ بَلْ يَسْتَفْتِي مَنْ شَاءَ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَلَقُّطٍ لِلرُّخَصِ، ولَعَلَّ مَنْ مَنَعَهُ لَمْ يَثِقْ بِعَدَمِ تَلَقُّطِهِ، ويَرُدُّ علَى المُصَنِّفِ فِي تَصْحِيحِه فِيمَا/ (223/ب/م) قَبْلَهُ جَوَازُ تقليدِ غَيْرِه فِي حُكْمٍ آخَرَ بَعْدَ استفتَائِه فِي حُكْمٍ قبلَه، مَعَ إِيجَابِه التّزَامَ مَذْهَبٍ مَعَيَّنٍ ابتدَاءً.
وَقَدْ قَالَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ: إِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ هنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى، وإِنْ أَوْجَبْنَا هنَاك فَهُنَا وجهَانِ.
وَقَوْلُهُ: (ثم يَنْبَغِي السّعْيُ فِي اعتقَادَاتِه؛ أَيْ: مُقَلِّدُهُ أَرْجَحُ أَيْ: فِي الجُمْلَةِ.
قَالَ الشَّارِحُ: وهذَا لَا يُخَالفُ قَوْلَه فِيمَا سَبَقَ، ومِنْ ثَمَّ لَمْ يَجِبِ البحثُ عَنِ الأَرْجَحِ؛ لأَنَّ الانبغَاءَ لَيْسَ علَى سبيلِ الوُجُوبِ، انْتَهَى.
وإِذَا الْتَزَمَ مذهبًا مُعَيَّنًا فَهَلْ يَجُوزُ الخروجُ عَنْهُ؟
فِيه مَذَاهِبُ.
الأَصَحُّ ـ فِي الرَّافِعِيِّ ـ جَوَازُهُ.
وَالثَّانِي: مَنْعُهُ.
وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ فِي بَعْضِ المَسَائِلِ دُونَ بعضٍ، وَيَجُوزُ فِي جميعِهَا.
وعَبَّرَ
الشَّارِحُ عَنْ هذَا الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ: (ومِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هو كَالعَامِيِّ الذي لَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا؛ فَكُلُّ مسأَلةٍ عَمِلَ فِيهَا بِقولِ إِمَامٍ لَيْسَ لَهُ تقليدُ غيرِه، وكُلُّ مسأَلةٍ لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا بِقَوْلِهِ فَلَا مَانع فِيهَا مِنْ تقليدِ غيرِه) انْتَهَى.
وهذَا لَا يطَابقُ عبَارةَ المُصَنِّفِ، إِلَاّ أَنْ يَكُونَ معنَى كلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي بَعْضِ المَسَائِلِ وهو مَا اتَّصَلَ بِالتقليدِ فِيهِ العَمَلُ بِهِ، وَيَجُوزُ/ (180/ب/د) فِي بعضِهَا، وهو مَا إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ.
ثُمَّ فَرَّعَ المُصَنِّفُ علَى تجويزِ الخروجِ عَنِ المَذْهَبِ الذي انْتَحَلَهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَتَبَّعَ الرّخَصَ بِأَنْ يَخْتَارَ مِنْ كُلِّ مذهبٍ مَا هو أَهْوَنْ عَلَيْهِ، وفِيمَا نَقَلَهُ المُصَنِّفُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مِنْ جَوَازِ تَتَبُّعِ الرّخَصِ نَظَرٌ؛ فَفِي الرَّافِعِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ يُفَسَّقُ بِتَتَبُّعِ الرُّخَصِ، وعَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يُفَسَّقُ، وكذَا حَكَاهُ عَنْهُمَا الحِنَاطِيُّ فِي فَتَاوِيهِ، فَكَأَنَّهُ انْعَكَسَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ علَى المُصَنِّفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: مسأَلةٌ: اخْتُلِفَ فِي التّقليدِ فِي أَصولِ الدّينِ، وَقِيلَ: النّظرُ فِيهِ حرَامٌ وعن الأَشعريِّ: لَا يصِحُّ إِيمَانُ المُقَلِّدُ، وقَالَ القُشَيِّريُّ: مكذوبٌ عَلَيْهِ، وَالتحقيقُ: إِنْ كَانَ آخِذًا بقولِ الغيرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَعَ احتمَالِ شَكٍّ أَو وَهْمٍ فَلَا يَكْفِي وإِنْ كَانَ جَزْمًا فَيَكْفِي خِلَافًا لأَبي هَاشِمٍ.
ش: لمَا فَرَغَ مِنْ مبَاحِثِ أَصولِ الفقهِ ومَا يتعلَّقُ بِهِ شَرَعَ فِي مبَاحثِ العقَائدِ، وهي أَصولُ الدّينِ، وهو عِلْمٌ يَبْحَثُ بِهِ عَن ذَاتِ اللَّهِ تعَالَى ومَا يجِبُ
لَهُ ويَمْتَنِعُ مِنَ الصّفَاتِ، وأَحوَالِ الممكنَاتِ، وَالمبدأِ وَالمعَادِ، علَى قَانونِ/ (224/أَ/م) الإِسلَامِ.
وسُمِّيَ عِلْمُ الكلَامِ؛ لأَنَّ أَوَّلَ مسأَلةٍ وقَعَتْ فِيهِ مسأَلةُ الكلَامِ.
وقسَّمَ المُصَنِّفُ مبَاحِثَه إِلَى مَا هو عِلْمِيٌّ وعَمَلِيٌّ وهو مَا يجِبُ اعتقَادُه، وإِلَى مَا هو عِلْمِيٌّ لَا عَمَلِيٌّ، أَي: لَا يَجِبُ مَعْرِفَتُه فِي العقَائدِ، وإِنَّمَا هُو مِنْ ريَاضَاتِ العِلْمِ.
وأَحسنُ فِي التّمييزِ بَيْنَهُمَا، وذكَرَ فِي الثَّانِي جملةً مِنْ عمَلِ الحِكْمَةِ وَالطبيعيِّ، وقدَّمَ قَبْلَ الخوضِ فِي ذَلِكَ الخِلَافَ فِي جَوَازِ التّقليدِ فِي أَصولِ الدّينِ، وفِيه أَقوَالٌ.
أَحَدُهَا ـ وَبِهِ قَالَ الجُمْهُورُ ـ: المَنْعُ، وفِي التّنزيلِ ذَمَّهُ فِي الأُصُولِ بِقَوْلِهِ حكَايةً عَنِ الكفَايةِ:{إِنَّا وَجَدْنَا أَبَاءَنَا علَى أُمَّةٍ وإِنَّا علَى آثَارِهُمْ مُقْتَدُونَ} وَالحثُّ عَلَيْهِ فِي الفروعِ بِقَوْلِهِ: {فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
وَالثَّانِي: الجوَازُ، وَحُكِيَ عَنِ العنبريِّ وَغَيْرِهِ، لإِجمَاعِ السَّلَفِ علَى قبولِ كَلِمَتَيِ الشّهَادةِ مِنَ النَّاطقِ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَالَ له: هَلْ نَظَرْتَ أَو تَبَصَّرْتَ بدليلٍ.
الثَّالِثُ: وُجُوبُ التّقليدِ وتحريمُ النّظرِ وَالبحثُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جعَلَ سَبَبَهُ أَنَّ النّظرَ فِيه لَا يُفْضِي إِلَى العِلْمِ الذي هو المَطْلُوبُ، وَمِنْهُم مَنْ قَالَ: يُفْضِِي إِلَيْهِ وَلَكِنْ ربَّمَا أَوْقَعَ النَّاظرَ فِي شُبْهَةٍ فَيَكُونُ سَبَبَ ضلَالِه.
وظَاهرُ كلَامِ الشَّافِعِيِّ يوَافِقُ هذَا المذهبَ، حَيْثُ قَالَ: (رَأْيِي فِي أَصحَابِ
الكلَامِ أَنَّ يُضْرَبُوا بِالجريدِ، وينَادَى عَلَيْهِم فِي العشَائرِ: هذَا جزَاءُ مَنْ تَرَكَ الكتَابَ وَالسُّنَّةِ، وَاشْتَغَلَ بِعْلِمِ الأَوَائلِ) لكنْ هذه العبَارةُ تدلُّ علَى أَنَّهُ إِنَّمَا ذمَّ النَّاظرَ فِيهِ من غَيْرِ كلَامِ اللَّهِ ورسولِه بَلْ بِالنظرِ فِي عِلْمِ الأَوَائلِ الذي هو جَهْلٌ وضلَالٌ، وكيفَ يريدُ الإِنسَانُ الاهتدَاءَ بكلَامِ مَنْ لَمْ يَدُلَّهُ عقلُه علَى معرفةِ اللَّهِ تعَالَى فوَافَى علَى الكُفْرِ بِهِ، وإِذَا غَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النّظرِ فِي التّورَاةِ التي هي/ (181/أَ/د) هدىً ونورٌ، إِلا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، كَيْفَ لَا يغضَبُ ممَّنْ يَرُومُ معرفةَ ربِّه بكلَامِ أَعدَائِهِ.
وقَالَ البييهقيُّ: إِنُّ نَهْيَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِه عَنْهُ إِنَّمَا هو لإِشفَاقِهم علَى الضَّعَفَةِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مَا يريدونَ مِنْهُ فَيَضِلُّوَا، وَقَدْ زَلَّتْ بسببِهِ أَقدَامُ جمَاعةٍ.
وقَالَ الشَّافِعِيُّ: (مَا ارتدَى أَحدٌ بِالكلَامِ فَأَفْلَحَ) مَعَ أَن أَصحَابنَا عدوه من فروض الكفَايَات فهو علم شريف، إِلا أَنَّهُ خطر، هذَا إِن نظر فِيهِ بِالشّرعيَات، فإِن نظر فِيهِ علَى طريقة الأَوَائل فهو مذموم مُطْلَقًا) / (224/ب/م).
وعلَى الأَوَّلِّ وهو المَنْعُ مِنَ التّقليدِ فِيهِ فحُكِيَ عَنِ الأَشعريِّ زيَادةٌ فِي ذَلِكَ، أَنَّ إِيمَانَ المُقَلِّدِ لَا يصِحُّ، وأَنَّهُ يقولُ بتكفِيرِ العوَامِّ، وأَنكرَه الأَستَاذُ أَبُو القَاسمِ القُشَيْرِيُّ، وقَالَ: هذَا كَذَبٌ وزُورٌ مِنْ تلبيسِ الكرَّامِيَّةِ علَى العوَامِّ، فإِنَّهُم يقولونَ: الإِيمَانُ: الإِقرَارُالمُجَرَّدُ، وعندَ الأَشعرِيِّ: الإِيمَانُ هو التّصديقُ، وَالظنُّ بجميعِ عوَامِ المسلمينَ أَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ اللَّهَ تعَالَى فِي أَخبَارِهِ، فأَمَّا مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ العقَائدُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. انْتَهَى.
وحمَلَ بَعْضُهُمْ كلَامَ الأَشعريِّ ـ بتقديرِ صحَّتِهِ عَنْهُ ـ علَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ مَنْ اخْتَلَجَ فِي قلبِه شَيْءٌ مِنَ السّمعيَّاتِ القَطْعيَّةِ مِنْ حَدَثِ العَالَمِ أَو الحشرِ أَو النبوَّةِ وَجَبَ أَنْ يجتهِدَ فِي إِزَالتِه بِالدليلِ العَقْليِّ، فإِنِ استمَرَّ علَى ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُه.
وقَالَ الأَستَاذُ أَبُو منصورٍ: أَجمَعَ أَصحَابُنَا علَى أَنَّ العوَامَّ مؤمنونَ عَارفونَ بَاللَّهِ تعَالَى، وأَنهم حشوُ الجنَّةِ للأَخبَارِ وَالإِجمَاعِ فِيهِ، لكن مِنْهُم مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ نَظَرٍ عَقْلِيٍّ فِي العقَائدِ، وَقَدْ حصَلَ لهم مِنْهُ القدرُ الكَافِي، فإِنَّ فِطْرَتَهُمْ جُبِلَتْ علَى توحيدِ الصَّانعِ وقِدَمِهِ وحدوثِ الموجودَاتِ، وإِن عَجَزُوا عَنِ التعبيرِ عَنْهُ علَى اصطلَاحِ المتكلِّمينَ، وَالعِلْمُ بِالعبَارةِ عِلْمٌ زَائدٌ لَا يلزمُهم انْتَهَى.
وأَحسنَ المُصَنِّفُ فِي تنقيحِ منَاطِ الخِلَافِ المتقدِّمِ بأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالتقليدِ الأَخْذُ بقولِ الغيرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَعَ احتمَالِ شَكٍّ أَو وَهْمٍ، كمَا فِي تقليدِ إِمَامٍ فِي الفروعِ، مَعَ تجويزِ أَنْ يَكُونَ الحقُّ فِيهِ خلَافَه ـ فهذَا لَا يَكْفِي فِي الإِيمَانِ عِنْدَ أَحدٍ لَا الأَشعريِّ ولَا غيرِه، وإِنْ أُرِيدَ بِهِ الاعتقَادُ الجَازمُ لَا لموجبٍ فهذَا كَافٍ فِي الإِيمَانِ، ولم يخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلا أَبُو هَاشمٍ مِنَ المُعْتَزِلَة، كَذَا حَكَاهُ المُصَنِّف عَنْ وَالدِهِ، وسَبَقَهُ إِلَيْهِ الآمِدِيُّ فقَالَ فِي (الأَبكَارِ): صَار أَبُو هَاشمٍ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ بِالدليلِ فهو كَافرٌ، لأَنَّ ضدَّ المعرفةِ النّكرةُ، وَالنكرةُ كُفْرٌ، وأَصحَابُنَا مُجْمِعُونَ علَى خلَافِهِ، وإِنَّمَا اختلفُوا فِي معتقدِ الحقِّ
بِغَيْرِ دليلٍ، فمِنْهُم من قَالَ: هو عَاصٍ، وَمِنْهُم مَنْ قَالَ: لَيْسَ بعَاصٍ، وهذَا معنَى كلَامِه، وهو اللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: فليُجْزِمْ عقدَه بأَنَّ العَالِمَ مَحْدَثٌ وَلَهُ صَانعٌ وهو اللَّهُ الوَاحِدُ، وَالوَاحِدُ الشّيءُ الذي لَا ينقسِمُ/ (181 ب/د) ولَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ.
ش: اخْتُلِفَ فِي أَنَّ العَالَمَ ـ بفتحِ اللَاّمِ ـ مشتقٌ مِنَ العِلْمِ أَو العلَامةِ/ (225/أَ/م) لأَنَّهُ علَامةٌ علَى وُجُودِ صَانعِه؟ ويَنْبَنِي علَى هذَا الخِلَافِ أَنَّ العَالَمَ هَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ الممكنَاتِ أَو يختصُّ بذوي العِلْمِ؟ وَالأَصَحَّ عمومُه، وهو عِنْدَ المتكلِّمِينَ: كلُّ مَوْجُودٍ سوَى اللَّهِ تعَالَى، وَمِنْهُم مَنْ قَالَ: سوَى اللَّهِ وصفَاتِه، ولَا يُحْتَاجُ إِلَى هذه الزِّيَادةِ فإِنَّ إِطلَاقَ اسمِ اللَّهِ تعَالَى اسمٌ لَهُ بجميعِ صفَاتِه، فإِنَّ الصّفَاتِ ليسَتْ غَيْرَ اللَّهِ كَمَا تقرَّرَ عِنْدَ الأَشعريِّ.
وَالعَالَمُ مُحْدَثٌ بإِجمَاعِ أَهْلِ المِلَلِ ولم يخَالِفْ فِيهِ إِلا الفلَاسفةُ، وَمِنْهُم
الفَارَابي وَابْنُ سينَا قَالُوا: إِنَّهُ قديمٌ بمَادَّتِهِ وصورتِه، وَقِيلَ: قديمُ المَادَّةِ مُحْدَثُ الصّورةِ، وَضَلَّلَهم المسلمونَ فِي ذَلِكَ وَكَفُروهم.
وقَالُوا: مَنْ زَعَمْ أَنَّهُ قديمٌ فقد أَخرجَه عَن كَوْنه مخلوقًا لِلَّه تعَالَى، وَقَدْ بَرْهَنُوا علَى حُدُوثِهِ البرَاهينَ القَاطعةَ، مِنْهَا تغيَّرُ صفَاتِهِ وَانتقَالِه من حَالِ إِلَى حَالِ، وهي طريقةُ الخليلِ عليه الصلاة والسلام فِي استدلَالِهِ علَى حدوثِ الكوَاكبِ بتغيُّرِ حَالِهَا وأَفولِهَا وإِشرَاقِهَا وَقَدْ سمَّاهَا اللَّهُ تعَالَى حُجَّةً، وأَثنَى عَلَيْهَا فقَالَ:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبرَاهيمَ علَى قَوْمِهِ} وطَرَدْنَا ذَلِكَ فِي جَمِيعِ العَالَمِ لتسَاويهَا فِي عِلَّةِ الحدوثِ وهي الجُسْمَانِيَّةٌ.
وفِي صحيحِ البخَاريِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: جَاءَ نَفَرٌ مِنَ اليمنِ، فقَالُوا: يَا رسولَ اللَّهِ جِئْنَاكَ نَتَفَقَّهُ فِي الدّينِ، وَنَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هذَا الأَمرِ؟ فقَالَ:((كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وكَانَ عَرْشُهُ علَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وخَلَقَ اللَّهُ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) وفِي لفظِ: ((ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)) فإِذَا تقرَّرَ حدوثُ العَالَمِ فَلَا بدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ؛ لأَنَّ الحَادِثَ جَائزُ الوُجُودِ وَالمعدومَ لَا يختصُّ بِالوُجُودِ دُونَ العَدَمِ إِلا بِمُخَصَّصٍ وهو الفَاعلُ له، وهو اللَّهُ الوَاحِدُ كَمَا جَاءَ بِهِ السَّمَعُ، ودلَّ عَلَيْهِ العَقْلُ، فإِنَّ أَحدَنَا لَيْسَ بقَادرٍ علَى خَلْقِ جَارحةٍ لنفسِه أَو ردِّ سَمْعٍ أَو بَصَرٍ فِي كمَالِ ُقدرتِهِ وتمَامِ عقلِه، فلأَنْ يَكُونَ فِي حَالِ كَوْنِهِ نُطْفَةً أَو عَدَمًا أَولَى، فَوَجَبَ أَنَّ الخَالِقَ هو اللَّهُ تعَالَى.
ودلَّ علَى انفرَادِهِ بِذَلِكَ دلَالةُ التّمَانُعِ المشَارِ إِليهَا فِي قَوْلِهِ تعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} لأَنَّهُ لو كَانَ للعَالَمِ صَانعَانِ فإِمَّا أَنْ تَنْفَذَ إِرَادتُهمَا فتتنَاقضُ/ (225/ب/م) لاستحَالةِ تَجَزُّؤِ الفعلِ إِنْ فُرِضَ الاتِّفَاقُ، وَاجتمَاعِ الضدِّينِ إِن فُرِضَ الاختلَافُ، وإِمَا أَن لَا تَنْفَذُ إِرَادتُهمَا فَيؤدِّي ذَلِكَ إِلَى عجزِهمَا أَو لَا تَنْفَذُ إِرَادةُ أَحَدِهمَا فتؤدِّي إِلَى عجزِه، وَالإِلهُ لَا يَكُونُ عَاجزًا، وتسميةُ اللَّهِ بِالصَانعِ اشْتُهِرَ علَى أَلسنةِ المُتَكَلِّمِينَ ولم يَرِدْ فِي الأَسمَاءِ.
قَالَ السُّبْكِيُّ: ولكنَّهُ قُرِئَ شَاذًّا: (صَنْعَةَ اللَّهِ) فمن اكتفَى فِي الإِطلَاقِ بِوُرُودِ/ (181/أَ/د) الفِعْلِ اكْتَفَى بذلك.
قُلْتُ: ولو اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ: {صُنْعَ اللَّهِ} لكَانَ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم عرَّفَ المُصَنِّفُ الوَاحِدَ بأَنَّهُ الشّيءُ الذي لَا ينقسِمُ، ولَا يُشْبِهُ بوجهٍ، وَقَدْ نقَلَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ هذَا عَن اصطلَاحِ الأُصُولِيِّينَ فهو تعَالَى أُحَدِيُّ الذَّاتِ؛ لأَنَّهُ لو قَبَلَ الانقسَامَ لقَبَلَ الزّيَادةَ وَالنقصَ وهو مُنَزَّهٍ عَن ذلك.
وَقولنَا: لَا ينقسم، أَي لَا بأَجزَاء المقدَار، ولَا بأَجزَاء الحد، ولَا بأَجزَاء الإِضَافة، وهو أَنْ يَكُونَ وُجُودُه مضَافًا إِلَى ذَاتِهِ، وَالمضَافُ وَالمضَافُ إِلَيْهِ شَيْئَانِ.
وقولُنَا: لَا يُشْبِهُ بِوَجْهٍ، أَُي: لَا يُشْبِهُ شيئًا ولَا يُشْبِهُهُ شيءٌ، فِي كلِّ شَيْءٍ، حتَّى فِي الوُجُودِ، لأَنَّ مَا بِالذَّاتِ غَيْرُ مَا بِالعَرَضِ فَاعْلَمْ أَنَّ الوحدةَ تُطْلَقُ فِي حقِّ البَارِي تعَالَى من ثلَاثةِ أَوجهٍ:
أَحَدُهَا: بمعنَى نَفْيِ الكثرةِ.
الثَّانِي: بمعنَى نَفْيِ النَّظِيرِ عَنْهُ فِي ذَاتِهِ وصفَاتِه.
الثَّالِثُ: بمعنَى أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالخلقِ وَالإِيجَادِ وَالتدبيرِ.
ومنهم مَنْ زَادَ معنَى رَابعِهَا وهو: أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهُ شيءٌ، وَالحقُّ دخولُهُ فِي
الثَّانِي.
ص: وَاللَّهُ تعَالَى قديمٌ، لَا ابتدَاءَ لوُجُودِهِ وحقيقتُهُ مخَالفةٌ لسَائرِ الحقَائقِ، قَالَ المُحَقِّقُونَ: ليسَتْ معلومةً الآنَ، وَاختلفُوا هَلْ يُمْكِنُ عِلْمُهَا فِي الآخرِ.
ش: فَسَّرَ المُصَنِّفُ القديمَ بأَنَّهُ الذي لَا ابتدَاءَ لوُجُودِه، وبذلك فسَّرَهُ +الحَلِيمِيُّ، وإِنَّمَا فسَّرَهُ بِذَلِكَ لأَنَّهُ قَد يُرَادُ بِهِ طولُ مُدَّةِ الوُجُودِ وإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِالقِدَمِ، كمَا فِي قَوْلِهِ:{إِنَّكَ لفِي ضلَالِكَ القديمِ} وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي إِطلَاقِ القديمِ علَى اللَّهِ لِعَدَمِ وُرُودِهِ لكنَ عدَّهُ الحُلَيْمِيُّ فِي الأَسمَاءِ، وقَالَ: لَمْ يَرِدْ فِي الكتَابِ نصًّا ولكنَّه ورد فِي السُّنَّةِ.
قُلْتُ: وأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا روَاه ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حديثِ أَبِي هريرةَ، وفِيه عَدَّ القديمَ فِي الأَسمَاءِ التسعةِ وَالتسعينَ.
ثم بَيَّنَ أَنَّ حقيقتَه تعَالَى مخَالِفَةٌ لسَائرِ الحقَائقِ أَي مخَالفةً مُطْلَقَةً لَا يُشََارِكُهَا شَيْءٌ فِي الذَّاتِ ولَا فِي الصّفَاتِ ولَا فِي الأَفعَال، ِ وفِي التّنزيلِ حكَاية عَنِ الكفََّارِ، وهُمْ فِي النَّارِ {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي/ (226/أَ/م) ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ} .
وفِي كلَامِ المُصَنِّفِ استعمَالُ الحَقِيقَةِ فِي اللَّهِ تعَالَى، وَقَدْ مَنَعَ مِنْهُ بعضُهم، وذَكَرَ أَبُو عليٍّ التّميميُّ تلميذَ الغَزَالِيِّ فِي (التَّذْكِرَةِ) خِلَافًا فِي استعمَالِ المَاهيَّةِ فِي
الرَّبِّ سبحانه وتعالى، قَالَ: ونَعْنِي بِالمَاهيَّةِ مَا يُسْأََلُ عَنْهَا بـ (مَا) كمَا قَالَ فِرْعَوْنُ: {ومَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} فَمَنَعَهَا الفلَاسفةُ وأَثبتَهَا بعضُهُمْ.
قُلْتُ: وسمعتُ وَالدِي رحمه الله يُنْقَلُ عَنْ شيخِهِ الإِمَامِ السُّبْكِيِّ وَالدِ المُصَنِّفِ أَنَّهُ كَانَ يُتَوَقَّفُ فِي استعمَالِ الذَّاتِ فِي حقِّ اللَّهِ تعَالَى.
ثم اختلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ العِلْمُ بِحَقِيقَتِهِ تعَالَى لِلْبَشَرِ الآنَ، أَي: فِي الدُّنْيَا؟
فَذَهَبَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ وإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَالِيُّ وإِلكيَاالهرَاسيُّ إِلَى امتنَاعِهِ، وَحَكَاهُ الإِمَامُ فَخْرُ الدّينِ عن/ (183/ب/د) جمهورِ المُحَقِّقِينَ قَالَ: وكلَامُ الصّوفِيَّةِ يُشْعِرُ بِهِ، ولهذَا قَالَ الجُنَيْدُ: وَاللَّهِ مَا عَرِفَ اللَّهَ إِلا اللَّهُ، وذكَرَ الطَّرْطُوشِيُّ عَنِ الحَارثِ المُحَاسِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْخَلْقِ.
وحَكُوا عَنِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: مَنِ انتهضَ لطلبِ مُدَبِّرِهِ فَانْتَهَى إِلَى مَوْجُودٍ ينتهِي إِلَيْهِ فِكْرُهُ فهو مُشَبِّهٌ، وإِنِ اطْمَأَنَّ إِلَى العدمِ الصّرفِ فهو مُعَطِّلٌ، وإِنِ اطْمَأَنَّ إِلَى مَوْجُودٍ وَاعْتَرَفَ بِالعجزِ عَن إِدرَاكِهِ فهو مُوَحِّدٌ، وهو معنَى قَوْلِ الصّديقِ رضي الله عنه: العَجْزُ عَنِ دَرْكِ الإِدرَاكِ إِدرَاكٌ.
وَقَدْ قِيلَ:
حَقِيقةُ المَرْءِ لَيْسَ المَرْءُ يُدْرِكُهَا
فَكَيْفَ كَيْفِيَّةَ الجبَّارِ فِي القِدَمِ؟!
وَاحتجَّ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ علَى ذَلِكَ بأَنَّهُ يمتنِعُ أَنْ يَكُونَ الكلُّ معلومًا للجزءِ؛ لأَنَّ
الجُزْئِيَّ مُتَنَاهٍ، وَالكُلِّيَّ غَيْرُ مُتَنَاهٍ.
وذهَبَ كثيرٌ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَاحتجُّوا بأَنَّ تَكْلِيفَنَا بمعرفةِ وَحْدَانِيَّتِهِ وَالحُكْمَ عَلَى ذَاتِه متوقِّفَان علَى معرفةِ حقيقتِهِ، وهو ضعيفٌ مردودٌ، ثُمَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى تجويزِ ذَلِكَ فِي الدُّنيَا فهو فِي الآخرةِ أَشدُّ تجويزًا له.
ومَنْ مَنَعَهُ فِي الدنيَا، فَاختلفُوا هَلْ يُمْكِنُ إِدرَاكُهُ فِي الآخرةِ، فطَرَدَ المَنْعَ الفلَاسفةُ وبعضُ أَصحَابِنَا كإِمَامِ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَالِيِّ، وكذَا نقلَه الشّريفُ فِي شرحِ (الإِرشَادِ) عَنِ القَاضِي أَبِي بكرٍ، ونُقِلَ عَنِ الإِمَامِ وَالآمِدِيِّ التوقُّفُ فِي ذلك.
وفِي الصّحيحينِ/ (226/ب/م) فِي حديثِ الرؤيةِ: ((فَيَأَْتِيهُمُ اللَّهُ تعَالَى فِي صُورَةِ لَا يَعْرِفُونَهَا فِيقولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فِيقولونَ: نَعُوذُ بَاللَّهِ مِنْكَ وهذَا مَكَانُنَا حتَّى يِأْتِينَا رَبُّنَا، فإِذَا جَاءَ ربُّنَا عَرَفْنَاه، فَيَأْتِيهُمُ اللَّهُ تعَالَى فِي صورتِهِ التي يَعْرِفُونَ، فيقولُ: أَنَا ربُّكُمْ: فِيقولونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتَّبِعُونَهُ)).
قَالَ العلمَاءُ: المُرَادُ بِالصورةِ هُنَا الصفةُ، وَالمعنَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ علَى مَا يَعْرِفُونَ مِنْ صفَاتِهِ العَلِيَّةِ، وفِي حديثٍ آخرَ:((وَكَيْفَ تَعْرِفُونَهُ؟ فقَالُوا: إِنَّهُ لَا شَبِيهَ لَهُ)).
ص: لَيْسَ بِجِسْمٍ ولَا جَوْهَرٍ ولَا عَرَضٍ، وَلَمْ يَزَلِ وَحْدَهُ ولَا مَكَانَ ولَا زمَانَ ولَا قُطْرَ ولَا أَوَانَ، ثُمَّ أَحْدَثَ هذَا العَالَمَ من غَيْرِ احتيَاجٍ، ولو شَاءَ مَا اخْتَرَعَهُ لَمْ يَحْدُثْ بَابتدَاعِهِ فِي ذَاتِه حَادثٌ.
ش: أَمَّا كَوْنُه لَيْسَ بِجْسمٍ؛ فلأَنَّ الأَجسَامَ تَقْبَلُ الزّيَادةَ وَالنَّقْصَ، قَالَ اللَّهُ تعَالَى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ} وهو مُحَالٌ فِي حقِّهِ تعَالَى، فكذلكَ
لَازمِهُ، ولَا غيرُه، بخلَافِ الكرَّامِيّةِ فِي ذَلِكَ، ويلزَمُ المُجَسِّمَةَ قِدَمُ العَالَمِ لأَنَّ الجِهَةَ وَالتحيُّزَ وَالمكَانَ مِنْ جُمْلَةِ العَالَمِ.
وأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ بِجْوَهْرٍ فلأَنَّ الجَوْهَرَ لُغَةً: الأَصْلُ، وَالبَاري تعَالَى لَيْسَ بأَصلٍ لِغَيْرِهِ، ولَا يَتَرَكَّبُ مِنْ شَيْءٍ، ولأَنَّ الجَوْهَرَ مَا يَقْبُلُ العَرَضُ، وَاللَّهُ تعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، ولَا غَيْرَهُ بخلَافِ الكَرَّامِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَيضًا/ (183/أَ/د) وَلَعَلَّهُمْ إِنَّمَا جَوَّزُوا إِطلَاقَ الاسمِ دُونَ المعنَى، وهو مردودٌ، لأَنَّ الأَسمَاءَ توقيفِيَّةٌ، ومَنْ لَمْ يَجْعَلْهَا توقيفِيَّةً فشرَطَ إِطلَاقَهَا عندَه أَنْ لَا تُوْهِمْ نقصًا.
وأَمَّا كَوْنُه لَيْسَ بِعَرَضٍ فلأَنَّ العَرَضَ لُغَةً: القليلُ البقَاءُ.
وَاصطلَاحًا، المستحيلُ البقَاءُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ للبَاري تعَالَى بقَاءٌ لَمْ يَزَلْ، ولَا يزَالُ، ولأَنَّ العَرَضَ مُفْتَقِرٌ إِلَى مَحَلٍّ يقُومُ بِهِ، تعَالَى اللَّهُ عَن ذلك.
وأَمَّا كَوْنُه لَمْ يَزَلْ وحدَه ولَا زمَانَ ولَا مكَانَ فقد دلَّ علَى ذَلِكَ قَوْلُه فِي حديثِ عَمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: ((كَانَ اللَّهُ ولَا شَيْءَ مَعَهُ)).
قَالَ الآمِدِيُّ: ولم يُنْقَلُ فِيهِ خلَافٌ، وإِنْ كَانَ مَذْهَبُ المُجَسِّمَةِ يَجُرُّ إِلَيْهِ كَمَا يجُرُّ إِلَى التّحيُّزِ وَالمكَانِ.
وأَمَّا إِحدَاثُه هذَا العَالَمَ فهو بِاخْتِيَارٍ مِنْهُ، خِلَافًا للفلَاسفةِ فِي قَوْلِهِم: إِنَّهُ فَاعِلٌ بِالذَاتِ، قَالَ تعَالَى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} .
وقَالَ قَوْمٌ مِنَ الأَوَائلِ: إِنَّ البَاري تعَالَى عِلَّةٌ لسَائرِ الموجودَاتِ؛ أَي: أَنَّ وُجُودَهَ اقْتَضَى وُجُودِهَا شيئًا فشيئًاَ.
وأَمَّا كَوْنُه غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ فلأَنَّ الحَاجَةَ إِلَيْهِ نَقْصٌ، وهو مُنَزَّه عَنْهُ.
وأَمَّا كَوْنُهُ لَمْ يُحْدِثْ بَابتدَاعِه فِي ذَاتِه حَادثٍ/ (227/أَ/م) فَلِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنَ النّقصِ.
ص: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ} القَدَرُ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ مِنْهُ.
ش: قَد نَطَقَ القرآنُ العزيزُ بأَنَّهُ فعَّالٌ لِمَا يريدُ، فقَالَ أَهْلُّ السُّنَّةِ: هو علَى عمومِه فِي الخيرِ وَالشَّرِّ.
وقَالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إِنَّمَا يريدُ الخيرُ، فهو فَعَّالٌ له دُونَ الشَّرِّ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مَذْهَبِهِم القَاضِي عبدِ الجبَّارِ بِقَوْلِهِ مخَاطِبًا ـ للأَستَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ ـ: سبحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفحشَاءِ فأَجَابَه الأَستَاذُ، سبحَانَ مَنْ لَا يَجْرِي فِي مُلْكِهِ إِلا مَا يشَاءُ.
وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} تَتِمَّتُه فِي التّنزيلِ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فأَوَّلُ هذه الآيةِ تَنْزِيهٌ، وآخرُهَا إِثبَاتٌ، وصدرُهَا ردٌّ علَى المُجَسِّمَةِ، وعَجُزُهَا ردٌّ علَى المُعَطِّلَةِ، وَالنكتُةُ فِي نَفْيِ التّشبيهِ أَوَّلاً أَنَّهُ لو بدأَ بِذِكْرِ السّميعِ وَالبصيرِ لأَوْهَمَ التّشبيهَ، فَاسْتُفِيدَ مِنَ الابتدَاءِ بنفِيِ التّشبيهِ أَنَّهُ لَا يُشَابِهُهُ فِي السَّمْعِ وَالبَصَرِ غيرُه.
وسَبَقَ الكلَامُ فِي أَنوَاعِ المَجَازِ علَى أَنَّ الكَافَ هَلْ هي زَائدةٌ أَمْ لَا.
وأَمَّا كَوْنُ القَدَرِ خيرِه وشرِّه مِنْهُ فَالكتَابُ وَالسُّنَّةُ طَافِحَانِ بِالدلَالةِ علَى ذَلِكَ، قَالَ تعَالَى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَهُ بِقَدَرٍ} {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} {ومَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أَي: بقضَائِه وقَدَرِهِ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِِي الأَرْضِ ولَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كتَابٍ مِنْ قَبْلَ أَنْ نَبْرَأََهَا} .
قَالَ الخطَابيُّ: يُتَوَهَّمُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ معنَى القَدَرِ مِنَ اللَّهِ الإِجبَارُ وَالقهرُ للعبدِ علَى مَا قضَاه وقَدَّرَهُ، وَلَيْسَ كذلك، وإِنَّمَا مَعْنَاه الإِخبَارُ عَن تقدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ بمَا يَكُونُ مِنْ أَفعَالِ العِبَادِ وَاكْتِسَابِهَا وَصُدُورِهَا عن تقديرٍ مِنْهُ، وخَلْقٍ لهَا، خيرِهَا وشرِّهَا، فَالقَدَرُ اسمٌ/ (183/ب/د) لِمَا صَدَرَ مُقَدَّرًا عَنْ فِعلِ القَادرِ كَالهدمِ وَالقَبْضِ، اسمٌ لمَا صَدَرَ عَنْ فِعْلِ الهَادِمِ وَالقَابضِ.
ويقَالَ: قَدَّرْتُ الشّيءَ بتخفِيفِ الدَّالِّ وتشديدِهَا المَعْنَى وَاحدٌ، وخَالَفَ فِي ذَلِكَ المُعْتَزِلَةُ فقَالُوا: إِنَّ الأُمُورَ مُسْتَأْنَفَةٌ بمشيئةِ العبدِ، وهو مستقِلٌّ بِهَا من غَيْرِ سَبْقِ قضَاءٍ وقَدَرٍ، ولذلك قِيلَ لَهُمْ القَدَرِيَّةُ؛ لأَنَّهُمْ نَفَوْا القَدْرَ، وفِي الحديثِ:((القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هذه الأُمَّةِ)) وذلك لِجَعْلِهم أَنفسَهُمْ مُسْتَبِدِّينَ بأَفعَالِهِمْ خَالِقِينَ لهَا فكأَنَّهُمْ يُثْبِتُون خَالِقَيْنِ: خَالقٍ للخيرِ،/ (227/ب/م) وخَالقٍ للشرِّ، كَمَا أَثبَتَ المجوسُ خَالقينِ.
وقَالَ الأَستَاذ أَبُو إِسْحَاقَ بظَاهرِ هذَا الحديثِ فقَالَ: لَا تُنْكَحُ نسَاؤُهم، ولَا تُؤْكَلُ ذبَائِحُهُمْ، وفِي قتلِ الوَاحِدِ مِنْهُم دِيَةُ مَجُوسِيٍّ.
وقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: القَدَرِيَّةُ إِذَا سَلَّمُوا العِلْمَ خَصَمُوَا، ومعنَاه أَنَّهُمْ إِنْ أَنكَرُوا عِلْمَ اللَّهِ فِي الأَزلِ بمَا يَكُونُ كَفَرُوا، وإِنِ اعْتَرَفُوا بِهِ فيُقَالُ لهم: هَلْ يَجُوزُ وُقُوعُ الأُمُورِ علَى خِلَافِ العِلْمِ القديمِ؟ فإِنْ جَوَّزُوه لَزِمَ مِنْهُ نِسْبَةَ الجَهْلِ إِلَى اللَّهِ، تعَالَى عَن ذَلِكَ، وإِن لَمْ يُجَوِّزُهُ فَلَا مَعْنَى للقَدَرِ إِلا ذلك.
قَالَ ابْنُ الحَاجِبِ: وهذَا مِنْ أَحْسَنِ الإِرشَادِ إِلَى الدَّلِيلِ عليهم.
قَالَ: ولَمْ يَرِدْ بِقَوْلِهِ: إِذَا سَلَّمُوا أَنَّهُمْ قَد يَمْنَعُونَهُ، لأَنَّ مُعْتَقِدَ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ
بِكُفْرِهِ.
ص: عِلْمُهُ شَامِلٌ لكلِّ مَعْلُومٍ جزئيَّاتٍ وكليَّاتٍ.
ش: قَالَ اللَّهُ تعَالَى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} وقَالَ: {ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ولَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ولَا رَطِبٍ ولَا يَابِسٍ إِلا فِي كتَابٍ مُبِينٍ} وقَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مثقَالُ ذَرَّةٍ فِي السّمَاوَاتِ ولَا فِي الأَرْضِ ولَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ ولَا أََكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
وأَطْبَقَ المسلمونَ علَى أَنَّهُ تعَالَى يَعْلَمُ دَبِيبَ النّملةِ السّودَاءِ علَى الصّخرةِ الصّمَّاءِ فِي اللّيلةِ الظّلمَاءِ، وأَنَّ علمَهُ محيطٌ بجميعِ الأَشيَاءِ جملة وتفصيلاً، وكيف لَا وهو خَالقُهَا؟ وَقَدْ قَالَ تعَالَى:{أَلَاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
وضلَّتِ الفلَاسفةُ بِقَوْلِهِم: إِنَّهُ يَعْلَمُ الجزئيَاتِ علَى الوجهِ الكليِّ لَا الجزئيِّ؛ لأَنَّهُ لو عَلِمَهَا علَى الوجهِ الجزئيِّ لتغيُّرِ العِلْمِ، فإِنَّ الجزئيَاتِ تتغيَّرُ بتغيُّرِ الأَزمنةِ وَالأَحوَالِ، وَالعِلْمُ تَابعٌ للمعلومَاتِ، فَيَلْزَمُ تغيُّرِ عِلْمِهِ، وَالعِلْمُ قَائمٌ بِذَاتِهِ فَيَكُون ُمحلًّا للحوَادثِ وهو مُحَالٌ.
وَارْتَاعَتِ الكرَّامِيَّةُ لهذِه الشُّبْهَةِ فَالتزَمُوا أَنَّ البَاري مَحَلٌّ للحوَادثِ، وظنُّوا أَنَّهُ لَا يتِمُّ إِثبَاتُ العِلْمِ مُطْلَقًا إِلا بذلك، ففَرُّوا من ضلَالةٍ إِلَى ضلَالةٍ، وَالمتكلِّمُون مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فريقَانِ، ففريقٌ قَالَ: لَا يحصُلُ بِذَلِكَ تغيُّرٌ فِي عِلْمِهِ تعَالَى، فإِنَّ العِلْمَ بأَنَّهُ سَيُوجَدُ/ (184/أَ/د) هو العِلْمُ بموُجُودِهِ فِي زمنِ الوُجُودِ، فإِنَّه إِذَا عَلِمَ أَنَّ فلَانًا فِي الجزءِ الفلَانيِّ مِنَ النّهَارِ قَاعدٌ وفِي الجزءِ الفلَانيِّ مُضْطَجِعٌ، وفِي الجزءِ الفلَانيِّ قَائمٌ،/ (228/أَ/م) وفِي الجزءِ الفلَانيِّ مَاشٍ، فكَانَتْ حَالتُهُ فِي كلِّ جزءٍ مِنَ النّهَارِ مَا عَلِمَ تعَالَى كَوْنَه عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الحَالةِ، فَلَا تغيُّرٌ فِي العلِمْ، فإِنَّ العِلْمَ بتفَاصيلِ ذَلِكَ قديمٌ، وإِنَّمَا يحتَاجُ الخَلْقُ إِلَى عِلْمٍ آخَرَ لطروءِ الغفلةِ منهم، وفريقٌ التَزَمَ التّغيُّرَ، وقَالَ:
إِنَّمَا يمتَنِعُ فِي الصّفَاتِ الحقيقيَّةِ دُونَ الإِضَافةِ، وَالتغيُّرُ فِي الإِضَافَاتِ لَا يُوجِبُ تغيُّرًا فِي الذَّاتِ، ومثَّلَ بعضُهم هذَا بأَسطوَانةٍ مُثَبَّتَةٍ فِي مكَانٍ قَامَ إِنسَانٌ عَن يمينِهَا فَقُلْنَا: الأَسطونةُ عَن يسَارِه، ثُمَّ تحوَّلَ إِلَى جَانبٍ آخَرَ فَقُلْنَا: صَارَتْ عَن يمينِه، ثُمَّ تحولَّ إِلَى غيرِهَا فنقولُ: صَارَتْ أَمَامَه أَو ورَاءَه، فَالأَسطوَانةُ لَمْ تتغيَّرْ وإِنَّمَا المُتَغَيِّرُ المُنْتَقِلُ، وَصَدَقَتْ هذه العبَارةُ عَلَيْهَا للإِضَافةِ، فكذَا إِذَا قُلْنَا: اللَّهُ تعَالَى عَالِمٌ الآنَ بمَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ سبحانه وتعالى عَالمًا بمَا كنَّا أَمسِ عَلَيْهِ، وسيكونُ عَالمًا بمَا نكونُ عَلَيْهِ غدًا، فَالتغيُّر جَارٍ علَى أَحوَالِنَا، وَالربُّ سبحانه وتعالى أَمسِ وَاليومِ وغدًا فِي معنَى كَوْنِه عَالمًا فِي جَمِيعِ الأَحوَالِ علَى حدٍّ وَاحدٍ.
ص: وقُدْرَتُه لكلِ مَقْدُورٍ.
ش: أَي: وَقُدْرَتُهُ شَامِلَةٌ لكلِّ مَقْدُورٍ مِنَ الجوَاهرِ وَالأَعرَاضِ، وَالمُرَادُ بِالمَقْدُورِ المُمْكِنِ، أَمَّا المُسْتَحِيلَاتُ فَلِعَدَمِ قَابليَّتِهَا للوجودِ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لتعلُّقِ الإِرَادةِ، لَا لنقصٍ فِي القدرةٍ، ولم يخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلا ابْنُ حَزْمٍ فقَال فِي (المِلَلِ وَالنَّحَلْ) إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَادرٌ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا؛ إِذ لو لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لكَانَ عَاجزًا.
وردَّ ذَلِكَ بأَنَّ اتخَاذَهُ الولدَ مُحَالٌ، وَالمُحَالُ لَا يدخُلُ تحتَ القُدْرَةِ، وعَدَمُ القُدْرَةِ علَى الشّيءِ، قَد تكونُ لِقُصُورِهَا عَنْهُ، وَقَدْ تكونُ لِعَدَمِ قبولِه لتأَثيرِهَا فِيهِ لِعَدَمِ إِمكَانِه بوُجُوبٍ أَو امتنَاعٍ، وَالعجزُ هو الأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي.
وذَكَرَ الأَستَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِسفرَايينيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ ذَلِكَ إِدريسُ عليه الصلاة والسلام، حَيْثُ جَاءَه إِبليسُ فِي صُورَةِ إِنسَانٍ وهو يَخِيطُ ويقولُ فِي كلِّ دَخْلَةٍ وَخَرْجَةٍ: سبحَانَ اللَّهِ وَالحمدُ لِلَّه، فجَاءَهُ بِقَشْرَةٍ، فقَالَ: اللَّهُ تعَالَى يقدرَّ أَنْ يجعلَ الدّنيَا فِي هذه القِشْرَةِ؟ فقَالَ: اللَّهُ سبحانه وتعالى قَادِرٌ أَنْ يَجْعَلَ هذه الدّنيَا فِي سَمِّ هذه الإِبرةِ، ونَخَسَ/ (228/ب/م) بِالإِبرةِ إِحدَى عينيه فصَارَ أَعورَ.
قَالَ: وهذَا وإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدِ انتشرَ، وظهَرَ ظهورًا لَا يُرَدُّ.
قَالَ: وَقَدْ أَخَذَ الأَشعريُّ من جوَابِ/ (184/ب/د) إِدريسَ أَجوبةً فِي مَسَائِلَ كثيرةٍ مِنْ هذَا الجنسِ، فأَوْضَحَ هذَا الجوَابَ فقَالَ: إِنْ أَرَادَ السَّائلَ: أَنَّ الدّنيَا علَى مَا هي عَلَيْهِ وَالقشرةُ علَى مَا هي عَلَيْهِ، فلم يَقُلْ مَا يُعْقَلُ، فإِنَّ الأَجسَامَ الكثيرةَ تَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ فِي مكَانٍ وَاحدٍ، وإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُصَغِّرُ الدّنيَا قَدْرَ القشرَةِ ويجعلُهَا فِيهَا أَو يُكَبِّرُ القِشْرَةَ قَدْرَ الدّنيَا فَيَجْعَلَهَا فِي القشرةِ، فَلَعَمْرِي اللَّهُ قَادرٌ علَى ذَلِكَ، وعلَى أَكثرَ منه.
قَالَ الشَّارِحُ: وإِنَّمَا لَمْ يَفْصِلْ إِدريسُ الجوَابَ هكذَا لأَنَّهُ معَانِدٌ، ولهذَا عَاقبَه علَى هذَا السّؤَالِ بِنَخْسِ العَيْنِ وهو عقوبةُ كلِّ سَائلٍ مِثْلِهِ، وتنَاوَلَ إِطلَاقُ المُصَنِّفِ القدرةَ علَى القُبْحِ وَالمخَالِفُ فِيهِ النَّظَّامُ قَالَ: القبحُ محَالُ علَى اللَّهِ، وَالمحَالُ غَيْرُ مقدورٍ عليه.
قَالَ الإِمَامُ: وقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: هو تعَالَى قَادِرٌ علَى كلِّ مُمْكِنٍ ولَا قبيحَ إِلا مَا قبَّحَهُ اللَّهُ تعَالَى.
ص: مَا عُلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ أَرَادَهُ ومَا لَا فلَا.
ش: الإِرَادةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ تَابعةٌ لِلْعِلْمِ، وعندَ المُعْتَزِلَةِ تَابعةٌ للأَمرِ؛ فأَهلُ السُّنَّةِ يقولونَ: اللَّهُ تعَالَى مُرِيدًا لِكُلِّ مَا عَلِمَ وُقُوعَهُ مِنْ خَيْرٍ وشَرٍّ وطَاعةٍ ومعصيةٍ، وَالمُعْتَزِلَةُ يقولونَ: يريدُ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الخيرِ وَالطَاعةِ، سَوَاءٌ وَقَعَ ذَلِكَ أَمْ لَا، ولَا يريدُ مَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشّرِّ وَالمعصيةِ، سَوَاءٌ وَقَعَ ذَلِكَ أَمْ لَا، فَعِنْدَنَا إِيمَانُ أَبِي جَهْلٍ مأُمُورٌ بِهِ وَغَيْرُ مُرَادٍ، وكُفْرُهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ومُرَادٌ، وعندَهم الأَمرُ بَالعَكْسِ.
قَالَ أَصحَابُنَا: ولو أَرَادَ مَا لَا يَقَعُ لَكَانَ نَقْصًا فِي إِرَادتِه لِكَلَالِهَا عَنِ النّفوذِ فِيمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ.
ص: بقَاؤُه غَيْرُ مُسْتَفْتَحٍ ولَا مُتَنَاهٍ.
ش: قَالَ جُمْهُورُ أَئمتِنَا: القِدَمُ وَالبقَاءُ رَاجعَانِ فِي حَقِّ اللَّهِ تعَالَى إِلَى استمرَارِ الوُجُودِ فِي المَاضِي إِلَى غَيْرِ غَايةٍ وفِي المستقبلِ إِلَى غَيْرِ نهَايةٍ.
وقَالَ الغَزَالِيُّ: هُمَا مِنْ صِفَاتِ النّفْيِ، فَإِنَّ مَرْجِعَهُمَا إِلَى نَفْيِ عَدَمٍ سَابقٍ، وعَدَمٍ لَاحِقٍ.
ص: لَمْ يَزَلْ بِأَسمَائِه وصفَاتِ ذَاتِه مَا دَلَّ عَلَيْهَا فِعْلُه مِنْ قُدْرَةٍ وعِلْمٍ وحيَاةٍ وإِرَادةٍ أَو التّنْزِيهِ عَنِ النّقْصِ مِنْ سَمْعٍ وبَصَرٍ وكَلَامٍ وبَقَاءٍ.
ش: مَذْهَبُ أَهْلِ الحَقِّ إِثبَاتُ صفَاتِ اللَّهِ تعَالَى الثّمَانيةِ المجموعةِ فِي قَوْلِ بعضِهم/ (229/أَ/م).
حيَاةٍ وعِلْمُ قُدْرَةٍ وإِرَادةٍ
…
كَلَامٌ وإِبصَارٌ وسَمْعٌ مَعَ البَقَا
إِلَاّ أَن بَعْضَ أَئمتِنَا يُنْكِرُ الثَّامنةَ وهي البقَاءُ، وَمِنْهُم القَاضِي أَبُو بَكْرٍ وإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالإِمَامُ فَخْرُ الدّينِ وَالبَيْضَاوِيُّ، ويَقُولُ هؤلَاءِ: هو بَاقٍ لِذَاتِه لَا لِبقَاءٍ كَمَا سَيَأْتِي عَن متأَخِّرِي المُعْتَزِلَةِ فِي بَقِيَّةِ الصّفَاتِ.
قَالُوا: وهذه الصّفَاتُ زَائدةٌ علَى مَفْهُومِ الذَّاتِ/ (185/أَ/د) ولَيْسَتْ هي الذَّاتُ ولَا غيرُهَا، وإِنَّمَا لَمْ تكنْ هي الذَّاتُ لِزيَادتِهَا عَلَيْهَا، ولَا غيرُهَا؛ لأَنَّ الغَيْرَيْنِ، مَا جَازَ مُقَارنةُ أَحَدِهِمَا بِزمَانٍ أَو مكَانٍ أَو وُجُودٍ أَو عَدَمٍ، وهذه الصّفَاتُ العَلِيَّةُ لَا تَقْبَلُ ذَلكَ.
وقَسَّمَهَا المُصَنِّفُ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ، وهي: القُدْرَةُ وَالعِلْمُ وَالحيَاةُ وَالإِرَادةُ، وإِلَى مَا يَقْتَضِي التّنْزِيهَ عَنِ النّقْصِ، وهي: السّمْعُ وَالبَصَرُ وَالكلَامُ وَالبقَاءُ.
وذَكَرَ الشَّيْخُ عِزِّ الدّينِ فِي القَوَاعدِ أَنَّ مِنْهَا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِغيرِه كَالحيَاةِ.
ومنهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِغيرِه كَشْفًا كَالعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالبصَرِ.
ومنهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِغيرِه تأَثيرًا كَالقدرةِ.
ومنهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِغيرِه مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ ولَا تَأْثِيرٍ كَالكلَامِ.
قَالَ: وأَعَمُّهَا تَعَلُّقًا الكلَامُ وَالعِلْمُ، وأَخَصُّهَا السّمْعُ، ويَتَوَسَّطُهَا البَصَرُ، انْتَهَى.
وورَاءَ ذَلِكَ مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا ـ وَبِهِ قَالَ الفلَاسفةُ وقدمَاءُ المُعْتَزِلَةِ ـ: إِنكَارُ هذه الصّفَاتِ، وقَالُوا: يَلْزَمُ مِنْ إِثبَاتِهَا التّركيبُ فِي الذَّاتِ فَلَا يقَالَ لَهُ: عَالِمٌ، ولَا قَادرٌ، وإِنَّمَا يقَالَ: لَيْسَ بعَاجزٍ ولَا جَاهلٍ، وَالعَجَبُ إِنكَارُ ابْنِ حَزْمٍ لَفْظَ الصّفَاتِ أَصْلاً ورَأْسًا، وطَعَنَ فِي الحديثِ الذي فِي الصّحيحَيْنِ مِنْ أَنَّهَا صِفَةُ الرّحْمَنِ بِطَعْنٍ غَيْرِ مَقبولٍ.
ثَانِيهُمَا ـ وَبِهِ قَالَ متأَخِّرُو المُعْتَزِلَةِ كأَبِي هَاشِمٍ وَغَيْرِه ـ: نَفْيُ حقَائقِ هذه الصّفَاتِ وإِثبَاتُ أَحكَامِهَا؛ فَيُقَالُ: عَالِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَعْلَمُ، وكذَا فِي البَاقي، وتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بأَنَّ الصّفَةَ غَيْرُ الموصوفُ فَيَلْزَمُ مِنْ إِثبَاتِهَا تَعَدُّدُ القديمِ، وَقَدْ قَالَ تعَالَى:{لَقَدْ كَفَرَ الذّينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} قَالُوا: وأَمَّا ثُبُوتُ العَالِمِيَّةِ وَالقَادِرِيَّةِ ونحوِهمَا لَهُ فهي نِسَبٌ وإِضَافَاتٌ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الخَارجِ، بِخلَافِ العِلْمِ وَالقُدْرَةِ، وَالقرآنُ العزيزِ يَرُدُّ عَلَيْهِم فَإِنَّ فِيهِ إِثبَاتُ العِلْمِ وَالقُدْرَةِ
لَهُ، قَالَ تعَالَى:{ولَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} وقَالَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وقَالَ: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} وقَالَ: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وَالقُوَّةُ: الْقُدْرَةُ، وقَالَ تعَالَى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وَالفِعْلُ/ (229/ب/م) مُشْتَقٌّ مِنَ المَصْدَرِ، وهو الإِرَادةُ، وإِذَا ثَبَتَ هذَا فِي بَعْضِ الصّفَاتِ ثَبَتَ فِي بَاقِيهَا؛ إِذْ لَا قَائلَ بِالفَرْقِ، ولو صَحَّ عَالِمٌ بِلَا عِلْمٍ لَصَحَّ عِلْمٌ بلَا عَالِمٍ.
تَنْبِيهٌ:
عَبَّرَ المُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (لَمْ يَزَلْ) ولَمْ يُعَبِّرْ بِقَوْلِهِ: (قَدِيمَةٍ) لأَنَّ المُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصحَابِنَا يقولون: لَا يُقَالَ لِهذه الصّفَاتِ قديمةٌ؛ لأَنَّ القديمَ بِقِدَمِ، ولَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِالصفَاتِ قِدَمٌ، بَلْ هي أَزَلِيَّةٌ، كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي (الْمُرْشِدِ).
قَالَ: وعَنْدَ أَبِي الْحَسَنِ صِفَاتُ ذَاتِ الرّبِّ قديمةٌ، ومَنَعَ أَنْ يَكُونَ القِدَمُ قديمًا بِقِدَمٍ بَلِ القديمُ قديمٌ لِنفسِه.
وَخَرَجَ بِقولِ المُصَنِّفِ: (صِفَاتُ ذَاتِه) صفَاتُ فِعْلِه، كَالخَالقِ وَالرَّازِقِ؛ فإِنَّهَا عِنْدَ الأَشْعَرِيِّ حَادثةٌ، وهي مِمَّا لَا تزَالُ، ولَا يَصِحُّ عندَه وَصْفُهُ بِهَا فِي الأَزَلِ؛ فَإِنُّ الخَالقُ حقيقةً مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الخَلْقَ، فَلَوْ كَانَ قديمًا لَزِمَ قِدَمُ الخَلْقِ، وذَهَبَتِ الحَنَفِيَّةُ إِلَى قِدَمِهَا أَيضًا، وقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ تَحْدُثَ لَهُ صِفَةٌ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، ولم يَسْتَحِقَّ اسْمَ الخَالقِ لِخَلْقِه الخَلْقَ، أَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِالخَالقِ القَادرِ علَى الخَلْقِ فَلَيْسَ فِي قِدَمِه خِلَافٌ.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: وأَبَى المُحَقِقُونَ مِنْ أَصحَابِنَا أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَزَلْ خَالِقًا ورَازِقًا، ولَكِنْ يقولونَ: لَمْ يَزَلْ قَادِرًا علَى الخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وإِذَا سُمِّيَ خَالِقًا بَعْدَ وُجُودِ الخَلْقِ لَمْ يُوجِبِ ذَلِكَ تغيُّرًا فِي ذَاتِه.
ص: ومَا صَحَّ فِي الكتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الصّفَاتِ نَعْتَقِدُ ظَاهرَ المَعْنَى ونُنَزِّهُهُ عِنْدَ سَمَاعِ المُشْكِلِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَئمتُنَا أَنُؤَوِّلُ أَمْ نُفَوِّضُ مُنَزِّهِينَ، مَعَ اتفَاقِهِمْ علَى أَنَّ جَهْلَنَا بِتفصيلِه لَا يَقْدَحُ.
ش: لَا تَنْحَصِرُ صِفَاتُ اللَّهِ العَلِيَّةِ فِي الثّمَانيةِ المُتَقَدِّمِ ذِكرُهَا، بَلْ نقولُ بِكُلِّ مَا وَرَدَ فِي الكتَابِ أَو السُّنَّةِ الصّحيحةِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ ظَاهِرُ المَعْنَى لَا إِشكَالَ فِيهِ اعتقدنَاه كَمَا وَرَدَ.
وإِن كَانَ مُشْكِلَ المَعْنَى يُوهِمُ ظَاهرُه الحُدُوثَ أَو التّغيُّرَ، كَقَوْلِهِ تعَالَى:{وجَاءَ رَبُّكَ} وقولِهِ عليه الصلاة والسلام: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا فِي كُلّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا)) / (230/أَ/م) فإِنَا نُنَزِّهُ اللَّهَ تعَالَى عِنْدَ سمَاعِه عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، ولأَئمتِنَا فِيهِ مَذْهَبَانِ مشهورَانِ.
أَحَدُهُمَا: تفويضُ المُرَادِ مِنْهُ إِلَى اللَّهِ تعَالَى، وَالسكُوتُ عَنِ التَّأْوِيلِ مَعَ الجَزْمِ بِأََنَّ
الظّواهرَالمُؤَدِّيَةَ إِلَى الحدوثِ أَو التّشبيهِ غَيْرُ مُرَادَةٍ وهو مذهبُ السّلفِ، وسُئِلَ مَالكٌ-رحمه الله-عَنْ قَوْلِهِ تعَالَى:{الرَّحْمَنُ عَلََى الْعَرْشِ اسْتوَى} فقَالَ: الاستوَاءُ معلومٌ، وَالكَيْفُ مجهولٌ، وَالإِيمَانٌ بِهِ وَاجبٌ، وَالسؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ.
وقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الكلَامِ علَى حديثِ الرّؤْيَةِ: المذهبُ فِي هذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنَ الأَئمةِ مِثُلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيِّ ومَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ
المُبَارَكِ وسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعٍ وَغَيْرِهم: أَنَّهُمْ قَالُوا: تُرْوَى هذه الأَحَاديثُ كَمَا جَاءَتْ، ونُؤْمِنُ بِهَا، ولَا يُقَالَ: كيفَ؟ ولَا نُفَسِّرُ ولَا نَتَوَهَّمُ، وهو الذي اختَاَرَه أَهْلُ الحديثِ.
ثَانِيهُمَا: أَنَّا نُؤَوِّلُهَا علَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تعَالَى بِشَرْطِ كَوْنِ المُتَأَوِّلِ مُتَّسِعًا فِي لُغَةِ العربِ.
وَقَدْ قِيلَ: مَذْهَبُ السّلَفِ فِي هذَا أَسْلَمُ، ومذهبُ الخَلَفِ أَحْكَمُ لِزَعْمِ قَائِلِه: إِنَّهُ وَقَفَ علَى المُرَادِ وَاهتدَى إِلَيْهِ بِالدليلِ، أَوْ أُعْلِمَ لِتَوَقُّفِهِ علَى زيَادةِ عِلْمٍ وَاتسَاعٍ فِيهِ.
وكَانَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ يَذْهَبُ إِلَى التَّأْوِيلِ أَوَّلاً ثُمَّ رَجِعَ عَنْهُ فَقَالَ فِي الرِّسَالةِ النِّظَامِيَّةِ: وَالذي نَرْتَضِِيهِ رَأَيًا ونَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقْدًا اتبَاعُ سَلَفِ الأُمَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ دَرَجُوا عَلَى تَرْكِ التّعَرُّضِ لمعَانِيهَا.
وقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدّينِ بْنُ عبدِ السّلَامِ: طريقةُ التَّأْوِيلِ بِشرطِه أَقربُهَا إِلَى
الحَقِّ.
وتَوَسَّطَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فقَالَ: إِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ قريبًا علَى/ (187/أَ/د) مَا يقتضِيه لِسَانُ العربِ لَمْ يُنْكَرْ، وإِنْ كَانَ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عَنْهُ، وآمَنَّا بِمَعْنَاه علَى الوَجْهِ الذي أُرِيدَ بِهِ مَعَ التّنزيهِ.
قَدْ: ومَا كَانَ معنَاه مِنْ هذه الأَلفَاظِ ظَاهرًا مفهومًا مِنْ تَخَاطُبِ العربِ قُلْنَا بِهِ/ (230/ب/م) وأَوَّلْنَاهُ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تعَالَى:{يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} فَتَحْمِلُه علَى حَقِّ اللَّهِ، ومَا يَجِبُ لَهُ، أَو علَى قريبٍ مِنْ هذَا المعنَى، ولَا يَتَوقَّفُ فِيهِ، وكَذَلِكَ قَوْلُه صلى الله عليه وسلم:((قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابعِ الرّحْمَنِ)) نَحْمُلُهُ علَى أَنَّ إِرَادةَ القَلْبِ وَاعتقَادَاتِه مُصَرَّفَةٌ بِقُدرةِ اللَّهِ ومَا يُوقِعُه فِي القلوبِ، انْتَهَى.
وَقَوْلُ المُصَنِّفِ: (مَعَ اتِّفَاقِهم علَى أَنَّ جَهْلَنَا بِتفصيلِه لَا يَقْدَحُ) أَيْ: اكتفَاءً بِالإِيمَانِ الإِجمَالِيِّ، كَالإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الشّرَائعِ وأَرْسَلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وكذلك نُؤْمِنُ بِالمُتَشَابهَاتِ علَى الإِجمَالِ، وإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنِ المُرَادُ بِهَا علَى التَّفْصِيلِ.
ص: القُرْآنُ كلَامُه غيرُ مخلوقٍ علَى الحَقِيقَةِ لَا المجَازِ مكتوبٌ فِي مصَاحفِنَا محفوظٌ فِي صدورِنَا مقروءٌ بِألسنتِنَا.
ش: تَضَمَّنَ كلَامُه أُمُورًا.
أَحَدُهَا: أَنَّ القرآنَ كلَامُ اللَّهِ تعَالَى؛ أَيْ: القديمُ القَائمُ بِذَاتِهِ المُقَدَّسَةِ، وهو المُرَادُ بِالكلَامِ النّفْسِيِّ، ولِهذَا قَالَ أَصحَابُنَا: لَوْ حُلِفَ بِالقرآنِ انْعَقَدَتْ يمينُه حَمْلاً علَى الكلَامِ القديمِ، ولم يَحْكُمْ أَبُو حَنِيفَةَ بِانعقَادِ يَمِينِه حَمْلاً لَهُ علَى الأَلفَاظِ.
وزَعَمَ الشَّيْخُ عِزُّ الدّينِ بْنُ عبدِ السّلَامِ فِي (القوَاعِدِ) أَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ استعمَالِ اللّفظِ، وهو مردودٌ؛ فإِنَّه لَا يُفْهَمُ مِنَ القرآنِ عِنْدَ الإِطلَاقِ إِلَاّ
كلَامُ اللَّهِ تعَالَى.
وَقَدْ يُطْلَقُ القرآنُ ويُرَادُ بِهِ العِبَارَاتُ الدَّالةُ علَى الصّفةِ القديمةِ، وهي القرَاءةُ، ومنه قَوْلُهُ تعَالَى:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أَيْ: القرَاءةُ وَقْتَ الْفَجْرِ، وقولُه {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرآنَ} أَيْ: القرَاءةُ، وقولُه عليه الصلاة والسلام:(يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ) أَيْ: بِالقرَاءةِ، وقولُهم: إِنَّ القرآنَ معجزةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم ويَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ القديمُ معجزةً.
الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مخلوقٍ؛ لأَنَّهُ كلَامُ اللَّهِ تعَالَى، وكلَامُ اللَّهِ صِفَتُهُ، ويَسْتَحِيلُ اتِّصَافُ القديمِ بِالْمُحْدَثِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الإِنسَانَ فِي ثمَانيةٍ/ (231/أَ/م) وعِشْرِينَ مَوْضِعًا، وقَالَ: إِنَّهُ مخلوقٌ، وذَكَرَ القرآنَ فِي أَربعةٍ وخمسينَ موضعًا ولم يَقُلْ: إِنَّهُ مخلوقٌ، ولَمَّا جَمَعَ بَيْنَهُمَا نَبَّهَ علَى ذَلِكَ فَقَالَ:{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ} وقَالَ ابْنُ عبَاسٍ فِي قَوْلِهِ تعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} قَالَ غَيْرُ مخلوقٌ.
ورَوَى الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ بِـ (كُنْ) فَلَوْ كَانَتْ (كُنْ) مَخلوقةً فَمخلوقُ خَلْقٍ مخلوقًا.
قَالَ الأَئمةُ: ولو كَانَ كُنْ الأَوَّلُ مخلوقًا فهو مخلوقٌ بِأُخْرَى وأُخْرَى إِلَى مَا لَا يتنَاهَى وهو مستحيلٌ.
وقَالَ سفِيَانُ بْنُ عُيَيْنَةُ فِي قَوْلِهِ تعَالَى/ (187/أَ/د): {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} إِنَّ
الأَمرَ القرآنُ، فَفَصَلَ بَيْنَ المخلوقِ وَالأَمرِ، ولو كَانَ الأَمرُ مخلوقًا لَمْ يَكُنْ لِفَصْلِه مَعنًى.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَرَّقَ بَيْنَ الأَمرِ وَالخَلْقِ، فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ كَفَرَ.
أَيْ: مَنْ جَعَلَ الأَمرَ الذي هو قَوْلُه مِنْ مخلوقَاتِه فَقَدْ كَفَرَ.
وَالدَّلِيلُ علَى أَنَّ القرآنَ هو الأَمرُ قَوْلُهُ تعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} وحُكِيَ هذَا الاسْتِنْبَاطُ أَيضًا عَنْ أَحَمْدَ بْنِ حَنْبَلٍ-رحمه الله ورَضِي عَنْهُ-ومُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وأَحْمُدَ بْنِ شَيْبَانَ وَغَيْرِهم.
وهذَا الذي ذَكَرْنَاه مِنْ أَنَّ القرآنَ غَيْرُ مخلوقٍ هو فِي القَائمِ بِالذَّاتِ المُقَدَّسَةِ، أَمَّا العبَارَاتُ الدَّالةُ عَلَيْهِ وهي القِرَاءةُ فهي مخلوقةٌ حَادثةٌ، لَكِنِ امْتَنَعَ العُلَمَاءُ مِنْ إِطلَاقِ الخَلْقِ وَالحُدُوثِ عَلَيْهَا إِذَا سُمِّيَتْ قُرْآنًا لِمَا فِيهِ مِنَ الإِيهَامِ، وبَدَّعُوا القَائلَ: لَفْظِيٌّ بِالقرآنِ مخلوقٌ كَحُسَيْنِ الْكَرَابِيسِيِّ، سَدًّا لِلبَابِ، وهذَا كَمَا أَنَّ الجَبَّارَ يُطْلَقُ علَى النَّخْلَةِ الطّويلةِ إِطلَاقًا لُغَوِيًّا حَقِيقِيًّا، ويُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ: الجَبَّارُ مخلوقٌ، مَعَ إِرَادةِ النَّخْلَةِ؛ لِمَا فِيهِ الإِيهَامُ، أَمَّا قولُنَا: القرَاءةُ مخلوقةٌ فَلَا مَنْعَ فِيهِ؛ لِزوَالِ الإِشكَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي كلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ثلَاثةُ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا ـ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ-: أَنَّهُ الكلَامُ النَّفْسَانِيُّ القَائمُ بِالذَّاتِ الْمُنَزَّهُ عَنْ حَرْفٍ وصَوْتٍ/ (231/ب/م).
الثَّانِي ـ وَبِهِ قَالَ المُعْتَزِلَة ـ: إِنكَارُ الكلَامِ النَّفْسِيِّ وجَعْلِهِ مِنْ صِفَاتِ الأَفْعَالِ، ويقولون فِي قَوْلِهِ تعَالَى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} : إِنَّ المُرَادَ أَنَّهُ خَلَقَ الكلَامَ فِي الشَّجَرَةِ.
قَالُوا: وَالمُحْدِثُ لِهذه البِدْعَةِ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ الذي ضَحَّى بِهِ خَالِدٌ الْقَسْرِيِّ، أَيْ: ذَبَحَهُ يَوْمَ الأَضْحَى.
الثَّالِثُ ـ وَبِهِ قَالَ الْحَشَوِيَّةُ ـ: أَنَّهُ تعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِحَرْفٍ وصَوْتٍ قَائمٍ بِذَاتِهِ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَلْزَمَ حُلُولَ الحوَادثِ بِذَاتِهِ، وَمِنْهُم مَنْ قَالَ: بَلِ الحُرُوفُ وَالأَصوَاتُ قديمةٌ.
وأَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ القَوْلَ بِخَلْقِ القرآنِ أَبُو عَلِيٍّ الجُبَّائِيِّ وتَبِعَهُ المُعْتَزِلَةُ.
الأَمرُ الثَّالِثُ: أَنَّ القرآنَ مكتوبٌ فِي مصَاحفِنَا؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: ((لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ)) ولِهذَا قَالَ بَعْضُ أَصحَابِنَا: إِنَّهُ يَنْعَقِدُ اليَمِينُ بِالْمُصْحَفِ فِي حَالةِ الإِطلَاقِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ أَفْتَى أَبُو الْقَاسِمِ الدُّولَعِيُّ خَطِيبُ دِمَشْقَ مِنْ مُتأَخِّرِي
أَصحَابِنَا.
قَالَ: لأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الحَلِفَ بِالقرآنِ المكتوبِ، ويُؤَيِّدُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَحْسَنَ التّحلِيفَ بِالمُصْحَفِ، وَاتَّفَقَ الأَصحَابُ عَلَيْهِ، انْتَهَى.
وهو محفوظٌ فِي صُدُورِنَا؛ لِقولِه تعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أَوتُوا الْعِلْمَ} مقروءٌ بِأَلْسِنَتِنَا، ولهذَا حُرِّمَ القرآنُ علَى الجُنُبِ.
وقَالَ بعضُهم: لَا يقَالَ: إِنَّهُ فِي مصَاحفِنَا/ (187/ب/د) وصدورِنَا وأَلسنتِنَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تقييدِ كَوْنِه فِي المصحفِ بِالكتَابةِ، وهكذَا فِي البَوَاقِي؛ ونَظَرُ ذَلِكَ بأَنَّهُ لَا يقَالَ: إِن اللَّهَ تعَالَى فِي المسَاجدِ، وفِي القلوبِ، وعلَى الأَلسِنَةِ إِلَاّ علَى التّقييدِ، فيُقَالُ: هو معبودٌ فِي المسَاجدِ، معلومٌ فِي القلوبِ، مذكورٌ بِالأَلسنةِ.
فإِن قِيلَ: كَيْفَ اجتمعَ وَصْفُ القرآنِ العظيمِ بِكَوْنِه قديمًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومقروءًا؟
قُلْتُ: أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ هذَا الإِشكَالَ يَنْحَلُّ بِتحقيقِ مرَاتبِ الوُجُودِ، فهو بِاعْتِبَارِ الوُجُودِ فِي الأَعيَانِ قديمٌ قَائمٌ بِالذَّاتِ المُقَدَّسَةِ، وهو الوُجُودُ الحقيقيُّ، وبِاعْتِبَارِ الوُجُودِ الذّهْنِيِّ محفوظٌ فِي الصُّدورِ، وبِاعْتِبَارِ الوُجُودِ/ (232/أَ/م) البَيَانِيِّ+ متلوٌّ بِالأَلسنةِ، وبِاعْتِبَارِ الوُجُودِ البَيَانِيِّ مكتوبٌ فِي المصَاحفِ، وهو بِاعْتِبَارِ حقيقتِه النَّفْسِيِّةِ لَا فِي الصّدورِ ولَا فِي الأَلسنةِ ولَا فِي المصَاحفِ.
وَقَدْ قَالَ الأَشْعَرِيُّ: إِنَّ الأَلفَاظَ التي فِي المُصْحَفِ دَالَّةٌ علَى كلَامِ اللَّهِ لَا عَيْنِ كلَامِ اللَّهِ.
وأَنْكَرَ عَلَيْهِ بعضُهم، وقَالَ: أَجْمَعَ السّلَفُ علَى أَنَّ مَا بَيْنَ دِفَّتَيِّ المُصْحَفِ كلَامُ اللَّهِ تعَالَى.
وأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ لِلقرآنِ حقيقتَيْنِ:
شَرْعِيَّةً: وهي كلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مخلوقٍ، وهذَا مَوْضِعُ إِجْمَاعِ السّلَفِ.
وعَقْلِيّةً: وهي أَنَّ هذه الأَلفَاظَ دَالَّةٌ علَى كلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، ولَيْسَتْ عَيْنُهُ؛
لِقيَامِ الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ علَى قِدَمِ الكلَامِ ولِئَلَاّ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ القرآنُ مخلوقًا، وهو موضعُ كلَامِ الأَشْعَرِيِّ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُسَوِّغُ إِطلَاقَ ذَلِكَ؛ لِمُنَافَاتِه الحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وإِنْ كَانَ حقيقةً عقليّةً.
وجَمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ الأَدلَّةِ، ولهذَا كَانَ قَوْلُ المُصَنِّفِ:(علَى الحقيقةِ) لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِمَا قبلَه بَلْ بمَا بعدَه، وهو قَوْلُه:(مكتوبٌ إِلَى آخِرِهِ) أَيْ: إِنَّ إِطلَاقَه علَى ذَلِكَ حقيقةً، أَيْ: شرعيةً، وَبَيْنَ مرَادِه بِقَوْلِهِ: لَا المجَازِ؛ فَإِنَّهُ الذي قَابلَ الحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَو اللُّغَوِيّةَ فَيُعْلَمَ بِنَفِْيه أَنَّ المُرَادَ أَحَدُهُمَا، ولو كَانَ المُرَادُ الحَقِيقَةَ العَقْلِيَّةَ لَمْ يُؤَكَّدْ لِقولِه:(لَا المجَازِ) لأَنَّ الحَقِيقَةَ العَقْلِيَّةَ لَا يُقَالَ لِمُقَابلِهَا: مَجَازٌ، بَلْ قَدْ يَكُونُ حقيقةً أَيضًا بِاعْتِبَارِ اللّغةِ أَو الشَّرْعِ أَو العُرْفِ.
وحَاصِلُ هذَا أَنَّ إِطلَاقَ الكلَامِ علَى النّفسيِّ القديمِ فَقَطْ حقيقةً عقليّةً، وإِطلَاقَه أَيضًا علَى المكتوبِ وَالمحفوظِ وَالمقروءِ حقيقةً شرعيةً ولغويًّة وَلَيْسَ حقيقةً عقليّةً، فلو قَالَ: ويُطْلَقُ حقيقةٌ شرعيّةٌ علَى مَا هو مكتوبٌ فِي المصَاحفِ إِلَى آخِرِهِ ـ لكَانَ أَقَرَبَ إِلَى الفَهْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: يثبُتُ علَى الطَّاعةِ ويعَاقِبُ إِلَّا أَنْ يغفِرَ غَيَرَ الشَّرْكِ علَى المعصيَةِ، وَلَهُ إِثَابةٌ العَاصي وتعذيبُ المطيعِ وإِيلَامُ الدَّوَابِ وَالأَطفَالِ، ويستحيلُ وَصْفَه بِالظُّلْمِ.
ش: معنَى الثّوَابِ إِيصَالُ النَّفْعِ إِلَى المكلِّفِ علَى طريقِ الجزَاءِ/ (185/ب/د) ومنه/ (232/ب/م) قَوْلُه تعَالَى: {فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} أَي جزَاهم، وَالإِثَابةُ علَى الطَّاعةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، لكنهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَضْلٌّ، وعندَ المُعْتَزِلَةِ وجوبٌ.
ومعنَى العقَابِ: إِيصَالُ الأَلمِ إِلَى المُكَلَّفِ علَى طريقِ الجزَاءِ وهو مُتَحَتِّمٌ فِي الشِّرْكِ، ومُتَوَقِّفٌ فِي غَيْرِهِ مِنَ المعَاصي علَى انْتِفَاءِ العفوِ، قَالَ اللَّهُ تعَالَى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ َبِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وفِي
الصّحيحينِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: ((أَتَانِي جِبْرِيلُ فقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بَاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ)) قُلْتُ: وإِنْ زَنَا وإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: ((وإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ)).
فذكَرَ كبيرتينِ إِحْدَاهُمَا: تتعلَّقُ بحقِّ اللَّهِ تعَالَى وهي الزِّنَا، وَالأُخْرَى تتعلَّقُ بحقِّ العبَادِ وهي السّرقةُ، وفِي هذَا ردٌّ صريحٌ علَى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ: إِنَّ عذَابَ مرتكِبِ الكبيرةِ الفَاسقِ مؤبَّدٌ كَالكَافرٍ، وأَخَرْجُوه بِالفسقِ عَنِ الإِيمَانِ، ولم يدخُلْوه فِي الكُفْرِ، وقَالُوا بِالمنزلةِ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ، وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هذه المَسْأَلَةِ أَبُو عمرِو بْنِ العلَاءِ مَعَ عمرِو بْنِ عُبَيْدٍ المُعْتَزِلِيِّ، فقَالَ أَبُو عمرٍو: الخُلْفُ فِي الوعدِ قبيحٌ، وفِي الوعيدِ كَرَمٌ، وهو مِنْ مستحسناتِ العُقُولِ، وَاستشهَدَ بقولِ الشَّاعرِ:
وإِنِّي إِذَا مَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ
…
لَمُخْلِفُ إِيْعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي.
ولم يَسْتَحْسِنْ بعضُهم هذَا، وقَالَ: خبرُ الصَّادقِ لَا يخلِفُ، لَا فِي وَعْدٍ ولَا فِي وَعِيدٍ، وتَخْلُفُ العقوبةُ بِالعفوِ مِنْ قبيلِ تخصيصِ العمومِ، وذلك شَائعٌ فِي الأَخبَارِ كَالإِنشَاءِ، ويقَالُ فِي تقريرِهِ: هذه العقوبةُ جزَاؤُه وإِنْ جُوزِيَ.
وقَالَ الإِبيَاريُّ فِي شرحِ (البُرْهَان): مَنَعَ أَكْثَرُ المُتَكَلِّمِينَ العفوَ فِي الوعيدِ، وقَالُوا: إِذَا كَانَتِ الصّيغةُ عَامَّةً ولم يُعَذِّبْ تَبَيَّنَّا التّخصيصَ وَالتخصيصُ،
بيَانٌ لَا رَفْعَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يكنْ فِي جُمْلَةِ مَا انْدَرَجَ فِي اللّفظِ، وإِنْ كَانَ خَاصًا لَمْ يُتَصَوَّرِ العفوُ وإِلَاّ لَا يُقْلَبُ العِلْمُ جَهْلًا انْتَهَى.
ولو قَدَّمَ المُصَنِّفُ قَوْله: (علَى المَعْصِيَةِ) علَى قَوْلِه: (إِلَاّ أَنْ يَغْفِرَ غَيْرَ الشِّرْكِ) لكَانَ أَحسنَ.
وله تعَالَى أَنْ يُثِيبَ العَاصي، ويُعَذِّبَ المُطِيعَ، لأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي/ (233/أَ/م) مُلْكِهِ، إِنْ أَثَابَ فَبِفَضْلِهِ، وإِنْ عَاقَبَ فَبِعَدْلِهِ.
قَالَ أَصحَابُنَا: وَلَيْسَتْ المَعْصِيةُ عِلَّةَ العقَابِ، وَالطَاعةُ عِلَّةَ الثّوَابِ، إِنَّمَا هو أَمَارتَانِ عليهمَا، وأَنكَرَ ذَلِكَ المُعْتَزِلَةُ بنَاءً علَى أَصلِهم فِي التّقبيحِ العَقْليِّ، فَيؤدِّي إِلَى الظُّلْمِ وهو نَقْصٌ مُحَالٌ علَى اللَّهِ تعَالَى، وقَالَ أَصحَابُنَا: إِنَّمَا يَلْزَمُ النّقصُ علَى قَوْلِهم، فإِنَّهُم أَوجبُوا عَلَيْهِ تعَالَى حقًا لغيرِه، وَلَوْ وجَبَ عَلَيْهِ حقٌّ لغيرِهِ لكَانَ فِي قيدِه وهو نَقْصٌ.
قَالَ الإِمَامُ فِي (الرسَالةِ النِّظَامِيَّةِ): وممَا يَقْطَعُ مَادَّةَ خلَافِهم أَنَّ طَاعةَ العبَادِ لَا تفِي بِالنِّعَمِ المتوَاترةِ عَلَيْهِم النَّاجزةِ، فَكَيْفَ/ (188/، أَ/د) يَحْكَمُ العَقْلُ بَاستحقَاقِ ثَوَابٍ علَى عَمَلٍ وَقَعَ عِوَضًا عَنْ نَعِيمٍ أُوتِيَهُ العبدُ فِي الدُّنيَا).
وَاحتجَّ الشَّيْخُ عزُّ الدّينِ فِي (القوَاعدِ) بمَا وَرَدَ فِي الحديثِ: ((إِنَّ اللَّهَ تعَالَى يَخْلُقُ فِي النَّارِ أَقوَامًا)).
قَالَ: وكذلك لَا استبعَادَ فِي إِثَابةٍ مَنْ لَمْ يُطِعْ، ففِي الحديثِ الصّحيحِ:((إِنَّ اللَّه عز وجل يُنْشِئُ فِي الجنَّةِ أَقوَامًا)) وكذلك الحُكْمُ فِي الحورِ العينِ وأَطفَالِ المسلمينِ مِمَّنَّ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمُ مِنْ غَيْرِ إِثَابةٍ علَى عَمَلٍ سَابِقٍ، وَلَيْسَتْ الرّبوبِيَّةُ مقيَّدَةً بمصَالحِ العبوديَّةِ، ونحنُ نشَاهدُ مَا يُبْتَلَى بِهِ مِنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مِنَ الأَطفَالِ وَالدوَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وذلك عَدْلُ مَنْ يتصرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَيْفَ يريدُ.
وَقَوْلُ المُصَنِّفِ: (ويستحيلُ وَصْفُهُ بِالظُّلْمِ) جوَابٌ عَن سؤَالٍ مُقَدَّرٍ، فإِنَّه قَد يُخَيَّلُ مِنْ تعذيبِ المطيعِ وإِيلَامِ الأَطفَالِ أَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ، فَبَيَّنَ المُصَنِّفُ
إِحَالتَه عَلَيْهِ عَقْلاً وَسَمْعًا، أَمَّا العَقْلُ فَلِأَنَّ الظُّلْمَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالنهيِ عَنْهُ، ولَا يُتَصَوَّرُ فِي أَفعَالِهِ تعَالَى مَا يُنْهَى عَلَيْهِ؛ إِذ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ نَاهٍ، ولأَنَّ العَالَمَ خَلْقُهُ ومُلْكُهُ، ولَا ظُلْمَ فِي تصرُّفِ الإِنسَانِ فِي مُلْكِهِ، ولأَنَّهُ وَضَعَ الشّيءَ فِي غَيْرِ موضعِهِ وذلك مستحيلٌ علَى المحيطِ بكلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.
وأَمَّا السَّمْعَ فمَا لَا يُحْصَى مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَاديثِ قَالَ اللَّهُ تعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} وَالمُخََالِفُ فِي ذَلِكَ القَدَرِيَّةُ، قَالُوا: وَلَوْ وَقَعَ تَعْذِيبُ المُطِيعِ لكَانَ ظُلْمًا، وهو قبيحٌ مستحيلٌ عَلَيْهِ.
ويروَى أَنَّ أَبَا/ (233/ب/م) موسَى تَنَاظَرَ هو وعمرُو بْنُ العَاصِ فِي ذَلِكَ، فقَالَ عمرٌو: إِنْ أَجِدُ أَحدًا لَيُخَاصِمُ ربِّي إِليه.
فقَالَ أَبُو موسَى: أَنَا ذَلِكَ المُحَاكِمُ عليه.
فقَالَ عمرٌو: تُقَدِّرُ عليَّ شيئًا ثُمَّ تُعَاقِبُنِي عليه.
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ عمرٌو: وَلِمَ؟
قَالَ: لأَنَّهُ لَا يَظْلِمُكَ فَسَكَتَ عمرٌو ولم يُحِرْ جوَابًا.
ص: يرَاهُ المؤمنونَ يومَ القيَامةِ، وَاخْتَلَفَ هَلْ تجوزُ الرّؤيةُ فِي الدّنيَا وفِي المَنَامِ.
ش: رؤيةُ المؤمنينَ لربِّهم فِي الدَّارِ الآخرةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَدْ تَوَاتَرْتَ بِهَا الأَحَاديثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ودلَّ عَلَيْهِ قَوْلُه تعَالَى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاضِرَةٌ} وقوله تعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فإِنَّه لمَّا حَجَبَهُمْ فِي الغضبِ دلَّ علَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي الرِّضَى، وقولُه تعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةَ} وَالزيَادةُ: هي النَّظَرُ إِلَى وجهِ اللَّهِ تعَالَى، كَمَا ثَبَتْ فِي الصّحيحِ مِنْ حديثِ صُهَيْبِ رضي الله عنه، وَالمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ المُعْتَزِلَةُ، فأَنْكَرُوا الرّؤيةَ، لاعتقَادِهِمْ أَنَّ شَرْطَ المَرْئِيِّ أَنْ يَكُونَ فِي جهةٍ، وَاتِّصَالُ الشُّعَاعِ بِالمرئيِّ، وَالربُّ تعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الجهَاتِ.
ومذهبُ المُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ عِلْمٌ يَخْلُقُه اللَّهُ فِي نَفْسِ الرَّائي، مقَارنًا للرؤيةِ، ولَا يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ اتِّصَالُ الأَشعةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ ثَبَتَ لنَا رؤيةٌ بِغَيْرِ اتِّصَالِ/ (188/ب/د) شُعَاعٍ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: ((إِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ ورَاءِ ظَهْرِي كَمَا أَرَاكُمْ
مِنْ أَمَامِي)) وَقَدْ وَافَقَ المُعْتَزِلَةُ علَى أَنَّهُ تعَالَى يرَى عبَادَه، فهذَا رَاءٍ لَيْسَ فِي جهةٍ، ووَافَقَ جُمْهُورُهُمْ علَى أَنَّ الرَّبَّ تعَالَى يرَى نَفْسَه فَهَذَا مَرْئِيٌّ لَيْسَ فِي جِهَةٍ.
وقَالَ الشَّيْخُ عزُّ الدّينِ بْنُ عبدِ السّلَامِ فِي فتَاويه: أَمَّا رؤيةُ الربِّ فِي الآخرةِ فإِنَّه يرَى بِالنورِ الذي خَلَقَه فِي الأَعينِ زَائدًا علَى نورِ العِلْمِ، فإِنَّ الرّؤيةَ تَكْشِفُ مَا لَا يَكْشِفُهُ العِلْمُ، ولو أَرَادَ الرَّبُّ تعَالَى أَن يَخْلِقَ فِي القلبِ نورًا مِثْلَ نورِ الأَعينِ لمَا أَعْجَزَهُ ذَلِكَ، بَلْ لو أَرَادَ أَنْ يَخْلِقَ نُوْرَ الأَعْيُنِ فِي الأَيدي وَالأَرْجُلِ لأَمْكَنَ ذَلِكَ انْتَهَى.
وَقَدْ تَبِعَ المُصَنِّفُ رحمه الله الخطَّابِيَّ فِي جَعْلِ مسأَلةِ الرّؤيةِ مِنْ عقَائدِ الإِيمَانِ وَاستدلَّ لَهُ بمَا/ (234/أَ/م) فِي صحيحِ البخَاريِّ، عَن أَبِي هريرةَ أَنَّ رجلاً قَالَ: يَا رسولَ اللَّهِ مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بَاللَّهِ وَمَلَاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَبِلِقَائِهِ وَتُؤْمِنَ بِِالْبَعْثِ)) وقَالَ: قَوْله: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِلْقَائِه)) فِيهِ إِثبَاتُ رؤيةِ اللَّهِ فِي الدَّارِ الآخرةِ.
وقَالَ البيهقيُّ: عندي لو وَقَفَ +الحَلِيميِّ علَى هذَا الحديثِ وتأَوَّلَ اللّقَاءَ فِيهِ علَى مَا تأَوَّلَهُ الخطَّابِيُّ وجمَاعةٌ مِنْ أَصحَابِنَا لجعَلَ الإِيمَانِ بلقَاءِ اللَّهِ وهو رؤيتُه وَالنظَرُ إِلَيْهِ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ، انْتَهَى.
وقَالَ بعضُهم: المُرَادُ بِاللقَاءِ هُنَا لقَاءُ الأَروَاحِ لربِّ العَالمينَ عقبَ الموتِ وَالبعثِ الآخرِ هو بعثُ الأَشبَاحِ وَرَدِّ الأَروَاحِ إِليهَا.
قَالَ: وهو الأَشبهُ بسيَاقِ الحديثِ.
ثم حكَى المُصَنِّفُ الخِلَافَ فِي مسأَلتينِ.
إِحْدَاهُمَا فِي جَوَازِ رؤيةِ اللَّهِ تعَالَى بِالأَبصَارِ فِي الدّنيَا، وفِي ذَلِكَ قولَانِ للأَشعريِّ حكَاهمَا القشيريُّ.
أَحَدُهُمَا: الجوَازُ، ولهذَا اخْتَلَفَ الصّحَابةُ فِي رؤيةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ المِعْرَاجِ، فهو دَلِيلُ الجوَازِ، فإِنَّ المُحَالَ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ، وأَصحُّهُمَا المَنْعُ لحصولِ الإِجمَاعِ عَلَيْهِ، وَالخِلَافُ بَيْنَ الصّحَابةِ فِي رؤيةِ مخصوصةٍ لَا يطَّرِدُ فِي غيرِهَا، وفِي صحيحِ مسلِمٍ مرفوعًا:((تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ حتَّى يَمُوتَ)).
وقَالَ القَاضِي عيَاضٌ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهَا غَيْرُ مستحيلةٍ فِي الدّنيَا بَلْ مُمْكِنَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وقوعِهَا، وسببِ المَنْعِ أَنَّ قوَى الآدمِيِّينَ فِي الدّنيَا لَا تحتملُهَا كمَا لَمْ يحتملْهَا موسَى عليه السلام.
وذكَرَ ابْنُ الصّلَاحِ وأَبُو شَامةَ المَقْدِسِيِّ أَنَّهُ لَا يُصَدِّقُ مُدَّعِي رؤيةَ اللَّهِ تعَالَى فِي الدّنيَا يقظةً فإِنَّ شيئًا مُنِعَ مِنْهُ موسَى عليه السلام كليمُ اللَّهِ، وَاخْتُلِفَ فِي حصولِه لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يُسْمَحُ بِهِ لِمَنْ لَا يَصِلُ إِلَى مقَامِهمَا هذَا مَعَ قَوْلِه:{لَا تُدْرِكُهُ الأَبصَارُ} فإِنَّ الجُمْهُورَ حَمَلُوهُ فِي الدّنيَا جَمْعًا بَيْنَه وَبَيْنَ أَدلَّةِ الرّؤيةِ.
الثَانِيَةُ: فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يرَى فِي المنَامِ.
وَقَدْ حكَى/ (189/أَ/د) الخِلَافَ فِي ذَلِكَ الصَّابونيُّ مِنَ الحَنَفِيَّةِ فِي عقيدتِه، وَالقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الحنَابلةِ فِي كتَابِه (المعتمدِ الكبيرِ)، وحكَى عَنِ الإِمَامِ أَحمدَ أَنَّهُ
قَالَ: (رأَيْتُ رَبَّ العِزَّةِ فِي المَنَامِ) وهذَا يَدُلُّ علَى أَنَّ مذهبَهُ الجوَازُ، وهو/ (234/ب/م) مَحْكِيٌّ عَنْ مُعْظَمِ المُثْبِتِينَ للرؤيةِ، وذهبَتْ طَائفةٌ إِلَى إِحَالتِه؛ لأَنَّ مَا يُرَى فِي المنَامِ خيَالٌ أَو مِثَالٌ، وهُمَا علَى القديمِ مُحَالانِ.
وَقَدْ ذَكَرَ المُصَنِّفونَ فِي تعبيرِ الرُّؤيَا رؤيةَ اللَّهِ تعَالَى وتكلَّمُوا عَلَيْهَا.
قَالَ ابْنُ سيرينَ: إِذَا رأَى اللَّهُّ عز وجل أَو رأَى أَنَّهُ يكلِّمُه فإِنَّه يدخُلُ الجنَّةَ وينجُو من هم كَانَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعَالَى.
وقَالَ النَّوويُّ فِي شرحِ مُسْلِمٍ: قَالَ القَاضِي عيَاضٌ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ علَى جَوَازِ رؤيةِ اللَّهِ تعَالَى فِي المنَامِ وصحَّتِهَا، وإِنْ رآه إِنسَانٌ علَى صفةٍ لَا تَلِيقُ بجلَالِهِ مِنْ صفَاتِ الأَجسَامِ؛ لأَنَّ ذَلِكَ المرئيَّ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ ولَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التّجسيمُ، ولَا اخْتِلَافُ الحَالاتِ، بخلَافِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي النومِ، وكَانَتْ رؤيتُه تعَالَى فِي النومِ كسَائرِ أَنوَاعِ الرّؤيَا مِنَ التّمثيلِ وَالتخييلِ.
قَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ: رؤيةُ اللَّهِ تعَالَى فِي النومِ أَوهَامٌ وخوَاطرُ فِي القلبِ بأَمثَالٍ لَا تليقُ بِهِ سبحانه وتعالى عَنْهَا، وهي دلَالَات للرَائِي علَى أُمُورٍ ممَا كَانَ ويكونُ كسَائرِ المرئيَّاتِ.
وقَالَ الغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كتبِهِ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يُوِهُمُ رؤيةَ الذَّاتِ عِنْدَ الأَكثرينَ، فإِنْ تَوَهَّمَ شَخْصٌ خِلَافَ الحقِّ فَسَّرَ لَهُ معنَاه.
قَالَ: وَالخِلَافُ عَائدٌ إِلَى إِطلَاقِ اللّفْظِ بعدَ حُصُولِ الاتِّفَاقِ علَى المَعْنَى أَنَّ
ذَاتَ اللَّهِ غَيْرُ مرئيَّةٍ فإِنَّ المرئيَّ مثَالٌ، وَاللَّهُ يضرِبُ الأَمثَالَ لصفَاتِه وهو مُنَزَّهٌ عَنِ المِثْلِ.
ص: السّعيدُ مَنْ كَتَبَهُ فِي الأَزلِ سعيدًا، وَالشقِيُّ عكسُه، ثُمَّ لَا يتبدَّلَانِ ومَنْ عَلِمَ مَوْتَه مؤمنًا فَلَيْسَ بِشَقِيٍّ، وأَبُو بَكْرٍ مَا زلَّ بعينِ الرضَا منه.
ش: المُخْتَارُ عِنْدَ المُصَنِّفِ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوةَ لَا يتبدَّلَانِ، بَلْ مَنْ كَتَبَهُ اللَّهُ تعَالَى فِي الأَزلِ سعيدًا لَمْ يتغيَّرْ ذَلِكَ، ومَنْ كَتَبَهُ فِي الأَزلِ شَقِيًّا لَمْ يتغيَّرْ ذَلِكَ، وقَالَ: إِنَّ كلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي خُطْبَةِ الرّسَالةِ يقتضِيه حَيْثُ قَالَ: (وَأَسْتَهْدِيهِ بِهُدَاهُ الَّذِي لَا يَضِلُّ مَنْ أَنْعَمَ بِهِ عليه).
وذهَبَ آخرونَ إِلَى أَنَّهُمَا قَد يَتَبَدَّلَانِ، فَيُمْكِنُ أَنْ ينقلِبَ السّعيدُ شِقيًّا، وبَالعَكْسِ، وعُزِيَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ وأَكثرَ أَهْلُ الرّأَيِ وَالمُعْتَزِلَةِ.
وقَالَ اللَّهُ تعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يشَاءُ/ (235/أَ/م) وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فأَمُّ الكتَابِ: العِلْمُ القديمُ، وهذَا لَا يَقْبَلُ التغييرُ وَالمحوِ، وأَمُّ كلِّ شيءٍ: أَصلُه، وَالذي يتأَتَّى فِيهِ المحوُ وَالإِثبَاتُ اللّوحُ المحفوظُ، ومَا عِنْدَ الملَائكةِ، وذَكَرَ الوَاحِديُّ مِنْ حديثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((يَمْحُو اللَّهُ مَا يشَاءُ وَيُثْبِتُ إِلا السّعَادةَ وَالشّقَاوةَ وَالموتُ)) وهذَا إِنْ صَحَّ نصٌّ فِي البَابِ.
وفِي الصّحيحِ مِنْ حديثِ عَائشةَ رضي الله عنها مرفوعًا: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الجَنَّةَ وخَلَقَ لهَا أَهْلاً وَهُمْ فِي أَصلَابِ آبَائِهِمْ، وخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لهَا أَهلاً وَهُمْ فِِي أَصلَابِ آبَائِهِمْ)).
وقَالَ السُّبْكِيُّ: مَنْ آمَنَ ثُمَّ خُتِمَ له بِالكفُرِ لَمْ ينفعْه مَا مضَى بِالإِجمَاعِ، لكنْ
هَلْ نقولُ: إِنَّ ذَلِكَ الإِيمَانَ الذي تَقَدَّمَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ إِيمَانًا وأَنَّهُ حَبِطَ بعدَ أَنْ كَانَ إِيمَانًا.
وَالأَوَّلُ قَوْلُ الأَشعريِّ:
وَالأَقربُ الثَّانِي، لقولِه تعَالَى:{إِنَّ الَّذِّينَ أَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوَا} لكنْ قَد يُقَالُ مَعَ هذَا: قَد يَنْزِلُ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِهِ مَنْزِلَةُ المَعْدُومِ، فَيَصِحُّ نفيُه مجَازًا.
وَقَوْلُهُ: (ومَنْ عَلِمَ مَوْتَهُ مُؤْمِنًا فَلَيْسَ بِشَقِيٍّ) مُرَتَّبٌ علَى مَا سَبَقَ، وكذَا عَكْسُهُ مَنْ عَلِمَ مَوْتَهَ كَافرًا فَلَيْسَ بِسَعِيدٍ.
وَقَوْلُهُ: (وأَبُو بَكْرٍ مَا زَالَ بعينِ الرّضَى مِنْهُ) مُرَتَّبٌ علَى مَا سَبَقَ مِنْ عدمِ التّبَدُّلِ فِي السّعَادةِ وَالشّقَاوةِ، وهذه العبَارةُ للأَشعريِّ، ومعنَاهَا أَنَّهُ بحَالةٍ غَيْرِ مغضوبٍ عَلَيْهِ فِيهَا لِعِلْمِهِ تعَالَى بأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ وَيَصِيرُ مِنْ خُلَاصَةِ الأَبْرَارِ.
وظنَّ بَعْضُ الحَنَفِيَّةِ أَنَّ الأَشعريِّ يقولُ: إِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ المَبْعَثِ، وَلَيْسَ كَذْلِك، نَعَمْ كَانَ السُّبْكِيُّ يقولُ: إِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ الصِّدِّيقِ حَالةُ كُفْرٍ بَاللَّهِ، وكَانَ يقولُ: لعلَّ حَالَه قَبْلَ البَعْثِ كحَالِ زيدِ بْنِ عمرِو بْنِ نُفَيْلٍ وأَقرَانِه، وعلَى هذَا فَلَا يتعدَّى كلامُ الأَشعريِّ إِلَى كلِّ مَنْ خُتِمَ له بِالإِيمَانِ، لكنَّ هذَا الاحتمَالَ الذي أَبدَاهُ السُّبْكِيُّ بعيدٌ، وَالأَظهرُ اطِّرَادُ ذَلِكَ فِي حقِّ مَنْ مَاتَ مؤمنًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: وَالرِّضَا وَالمَحَبَّةُ غَيْرُ المشيئةِ وَالإِرَادةِ، فَلَا يَرْضَى لعبَادِه الكفرَ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} .
ش: الذي جَزَمَ بِهِ المُصَنِّفُ أَنَّ الرِّضَى وَالمَحَبَّةَ غَيْرُ المشيئةِ/ (235/ب/م) وَالإِرَادةِ، وَاستدلَّ علَى ذَلِكَ بأَنَّهُ لَا يرضَى لعبَادِهِ الكفرَ كَمَا نصَّ عَلَيْهِ التّنزيلُ، ومثلُه قَوْلُه تعَالَى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفسَادَ} مَعَ أَنَّهُ يَشَاؤُهُ ويريدُه لقولِه تعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} وذَهَبَ الجُمْهُورُ كَمَا حَكَاهُ الآمِدِيُّ إِلَى أَنَّ الكلَّ بمعنَى وَاحدٍ.
وقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كتَابِ (الحدودِ): (الإِرَادةُ وَالمشيئةُ وَالرضَى وَالمحبةُ بمعنَى وَاحدٍ) وأَجَابَ هؤلَاءِ عَن قَوْلِه تعَالَى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكفرَ} بجوَابينِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يرضَى الكفرَ دينًا وشَرْعًا، بَلْ يعَاقِبُ عليه.
ثَانِيهُمَا: أَنَّ المُرَادَ بِالعبَادِ مَنْ وُفِّقَ للإِيمَانِ؛ ولهذَا شرَّفَهُمْ سبحانه وتعالى بِالإِضَافةِ إِلَيْهِ فِي/ (190/أَ/د) قَوْلِه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطََانٌ} وفِي قَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَاد ُاللَّهِ} .
ص: وهو الرّزَّاقُ، وَالرزقُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ ولو حرَامًا.
ش: قَالَ اللَّهُ تعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرّزَاقُ} وَالرزَّاقُ حقيقةً فَاعلُ الرّزقِ.
ومَذْهَبُ الأَشَاعِرَةِ أَنَّ الرِّزْقَ هو مَا يُنْتَفُعُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حلَالاً أَو حرَامًا وقَالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لَا يَكُونُ الرّزقُ إِلا حَلَاَلاً.
وقَالُوا: إِنَّ الحرَامَ لَيْسَ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ للعبدِ، وهو مبنيٌّ علَى أَصلِهِمْ الفَاسدِ فِي التّقبيحِ العَقْلي.
وقَالُوا: إِنَّ الرّزقَ مَا يَمْلُكُه العبدُ، ويَلْزَمُهُمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يأَكُلْ فِي عُمْرِهِ إِلا الحرَامَ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ شيئًا، ويردُّه قَوْلُه تعَالَى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرضِ إِلا علَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ويلزمُهم أَيضًا أَنَّ الدّوَابَّ لَا تُرْزَقُ لأَنَّهَا لَا تَمْلُكُ.
وقَالَ الإِمَامُ فِي (الرسَالةِ النّظَاميَّةِ)(الرزقُ يَنْقَسِمُ إِلَى حلَالٍ وحَرَامٍ) وإِلَى مَا لَا يَتَّصِفُ بشيءٍ مِنْهُمَا، كَرِزْقِ البَهَائِمِ) فأَثْبَتَ بَيْنَ الحلَالِ وَالحرَامِ وَاسِطَهُ، ومَوَّهْ بَعْضَ المُعْتَزِلَةِ فِي بَعْضِ المجَالسِ بِقَوْلِهِ لِنُصْرَةِ مذهبِهِ: الرزقُ مأُمُورٌ بِالإِنفَاقِ مِنْهُ ولَا شَيْءَ مِنَ المأُمُورِ بِهِ بحرَامٍ، يَنْتُجُ أَنَّ الرّزقَ لَيْسَ بحرَامٍ، ودليلُ الأُولَى قَوْلُه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} ودليلُ الثَّانِيةِ الإِجمَاعُ، وكَشَفَ هذه التَّمْوِيَهْ أَنَّ الأُولَى فَاسِدَةٌ لِعَدَمِ تَسْوِيرِهَا بكلٍّْ، فَلَا يصحُّ الإِنتَاجُ، ولو قِيلَ: كلُّ رِزْقٍ مأُمُورٌ بِالإِنفَاقِ مِنْهُ لَمْ يصحَّ، لأَنَّ الحَرَامَ لَيْسَ مأُمُورًا بِالإِنفَاقِ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: بيدِه الهدَايةُ وَالإِضلَالُ/ (236/أَ/م) خَلَقَ الضلَالَ وَالهدَايةَ وهو الإِيمَانُ.
ش: الدَّلِيلُ علَى أَنَّ بيدَهُ تعَالَى الهدَايةُ وَالإِضلَالُ قَوْلُه تعَالَى: {يَضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} وَقَوْلُهُ: {إِنّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} وَقَوْلُهُ: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ علَى عِلْمٍ} وَقَوْلُهُ: {مَنْ
يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ} وإِنَّمَا كَانَ بيدِه لأَنَّهُ خَالِقَهمَا وَالفَاعِلُ لهمَا، قَالَ تعَالَى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَْنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرِجًا} .
قَالَ البيهقيُّ: وهذه الآيةُ كَمَا هي حُجَّةٌ فِي الهدَايةِ وَالإِضلَالِ فهي حُجَّةٌ فِي خَلْقِ الهدَايةِ وَالضلَالِ؛ لأَنَّهُ قَالَ: (يَشْرَحُ وَيَجْعَلُ) وذَلِكَ يُوجِبُ الفِعْلَ وَالخلقَ.
وَالمخَالِفُ فِي ذَلِكَ المُعْتَزِلَةُ، قَالُوا: إِنَّ العبدَ يَخْلِقُ أَفعَالَ نفسِهِ مِنْ هُدًى وضلالٍ، وإِنَّ نسبةَ الهدَايةِ إِلَى اللَّهِ إِنَّمَا هي بمعنَى أَنَّهُ أَعَانَ عَلَيْهَا بِخَلْقِ القُدْرَةِ، وأَنَّهُ تعَالَى لَا يُضِلُّ أَحدًا، وإِنَّمَا الضَّالُّ أَضلَّ نفسَهُ، ولو أَضلَّهُ اللَّهُ لَظَلَمَهُ، ونسبةُ الإِضلَالِ إِلَى اللَّهِ معنَاهَا مَنْعُ الأَلطَافِ التي يحصُلُ بِهَا الاهتدَاءُ، ويُقَالُ لهم: مَنْعُ الأَلطَافِ إِمَّا أَنْ يُوجِبُ الضّلَالُ فيلزمُكُمْ المحذورُ مِنْ أَنَّهُ هو الخَالقُ له، أَو لَا يُوجِبُه فَلَا يُؤَثَرُ.
فإِنْ قَالُوا: مَنْعُ الأَلطَافِ مُرَجِّحٌ للضلالِ غَيْرِ مُوْجِبٍ/ (190/ب/د) له، وإِنَّمَا الموجبُ لَهُ فِعْلُ العبدِ.
قيلَ لهم: الموجِبُ لَهُ فِعْلُ العبدِ وحدَه، أَو مَعَ مَنْعِ اللّطفِ الأَوَّلِ بَاطلٌ؛ لأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَنْعُ اللطفِ مُرَجَّحًا فَالفعلُ غَيْرُ مستقِلٍّ بذلك، فتعيَّنَ الثَّانِي، وهو أَنَّ الموجِبَ المجموعُ، ويلزَمُ المحذورُ الذي أُلْزِمُوا بِهِ.
ثم بَيَّنَ المُصَنِّفُ رحمه الله أَنَّ الاهتدَاءَ هو الإِيمَانُ، فكلُّ مَا صَارَ بِهِ المرءُ مؤمِنًا فَهُوَ الهدَايةِ كمَا قَالَ تعَالَى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} .
ولِلَّهدَايةِ معنًى آخرُ، وهو بيَانُ الطريقِ كمَا قَالَ تعَالَى:{وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى علَى الهُدَى} ومنه قَوْلُه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ}
فقَالَ أَصحَابُنَا: الهدَايةُ حقيقةٌ فِي الأَوَّلِ وَهُوَ خَلْقُ الهُدَى، مجَازٌ فِي الثَّانِي، وهو بيَانُ الطريقِ، وعَكَسَهُ:(236/ب/م) المُعْتَزِلَةُ، ويردُّ عَلَيْهِم قَوْلُه تعَالَى:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} أَي: خَلْقُ الإِيمَانِ فِي قلوبِهم، فإِنَّ دعاءَهم وبيَانَ طريقِ الهُدَى لهم كَانَ وَاجبًا عَلَيْهِ بلَا شكٍّ.
وقَالَ تعَالَى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فعَمَّمَ الدّعوَةَ وخصَّ بِالهدَايةِ مَنْ شَاءَ.
ص: وَالتوفِيقُ: خَلْقُ القُدْرَةِ الدَّاعيةِ إِلَى الطَّاعةِ، وقَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ: خَلْقُ الطَّاعةِ، وَالخذلَانُ ضِدُّهُ.
ش: اخْتلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي معنَى التّوفِيقِ، فقَالَ الأَشعريُّ وَالأَكثرون: هو خَلْقُ قدرةِ الطَّاعةِ.
وقَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ: هو خَلْقُ الطَّاعةِ نَفْسِهَا.
قالَ الآمِدِيُّ: وَالأَوَّلُ أَوْفَقُ للوضعِ اللُّغَوِيِّ؛ إِذِ الموَافقةُ إِنَّمَا هي الطَّاعةُ، وبِخَلْقِ القُدْرَةِ الحَادثةِ يَكُونُ التّهيُّؤُ للموَافقةِ، ضرورةَ حُصُولِ الموَافقةِ عندَه، وعدمُ حصولِهَا عِنْدَ عدمِه، وإِنْ لَمْ تَكُنِ القدرةُ الحَادثةُ مُؤَثِّرَةً فِي الإِيجَادِ وإِنَّمَا خَالَفَ الإِمَامُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ القدرةِ الحَادثةِ فِي الطَّاعةِ لكنَّهُ أَبعدَ عَنِ الوضعِ اللُّغَوِيِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الطَّاعةَ بِهَا الموَافقةُ لَا التّهيُّؤُ للموَافقةِ وَالبحثُ لفظيٌّ.
وَالخذلَانِ ضدُّ التّوفِيقِ، فِيعودُ فِيهِ الخِلافُ فِي أَنَّهُ خَلْقُ قُدْرَةِ المعصيةِ أَوْ خَلْقِ المَعْصِيَةِ.
ص: وَاللُّطْفِ مَا يقَعُ عندَه صلَاحُ العبدِ أَخرةً.
ش: اللُّطْفُ عِنْدَ المُتَكَلِّمِينَ مَا يقَعُ عندَه صلَاحُ العبدِ فِي آخرتِه بِالطَاعةِ وَالإِيمَانِ دُونَ فسَادِهِ بِالكفرِ وَالعصيَانِ.
ثم قَالَ الأَشعريُّ وأَكثرُ أَئِمَّتِنَا: هو مخصوصٌ بشيءٍ، وهو خَلْقُ القدرةِ علَى فِعْلِ الصلَاحِ وَالإِيمَانِ وَالطَاعةِ.
وقَالَ المُعْتَزِلَةُ: لَا يُخْتَصُّ بشيءٍ دُونَ شيءٍ، بَلْ كلُّ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ صلَاحَ العبدِ فِيهِ فهو لُطْفٌ بِهِ.
قَالَ الآمِدِيُّ: وَالبحثُ فِيهِ لفظيٌّ
ص: وَالخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالأَكِنَّةُ خَلْقُ الضلالِ فِي القَلْبِ.
ش: الخَتْمُ فِي قَوْلِهِ تعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ علَى قُلُوبِهِمْ} الآيةُ، وَالطَّبْعُ فِي قَوْلِهِ:{وطَبَعَ اللَّهُ علَى قُلُوبِهِمْ} وَالأَكِنَّةُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا علَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} هي خَلْقُ اللَّهِ الضّلَالةَ فِي القلبِ، وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ ممَا تقدَّمَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تعَالَى خَالِقُ الهدَى وَالضلَالِ، وتقدَّمَ/ (191/أَ/د) خِلَافُ المُعْتَزِلَةِ فِي ذلك.
وقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الجُبَّائِيُّ وَابنُه أَبُو هَاشمٍ:/ (237/أَ/م) هي سِمَةٌ علَى القلبِ، يَعْلَمُ اللَّهُ تعَالَى بِهَا الملَائكةُ حَالَ الكُفَّارِ، فَيَذِمُّوهُمْ وَيَلْعَنُوهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سببًا لِلْكُفْرِ.
وقَالَ الكَعْبِيُّ، معنَاهَا قَطْعُ اللُّطْفِ عَنِ الكُفَّاِر لمَا عَلِمَهُ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ البَحْثُ فِي ذَلِكَ، وروَى أَصحَابُ السُّنَّنِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِه، فإِذَا تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَعْتَبَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وإِنْ زَادَ زَادَتْ، حتَّى يُغْلَقَ قَلْبُهُ، فذلِكَ الرَّانُ
الذي قَالَ اللَّهُ تعَالَى: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قَالَ التّرمذيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ: أَخْبَرَ رسولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم أَنَّ الذّنوبَ إِذَا تَتَابَعَتْ علَى القلوبِ أَغْلَقَتْهَا فإِذَا أَغْلَقَتْهَا أَتَاهَا حِينَئِذٍ الخَتْمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَالطَّبْعِ، فَلَا يَكُونُ لِلإِيمَانِ إِليهَا مَسلكٌ ولَا لِلكُفْرِ مِنْهَا مُخَلِّصٌ.
وَقِيلَ لِطَاوسٍ عَنْ رجلٍ مِنَ القَدَرِيَّةِ: إِنَّهُ فَقِيهٌ، فقَالَ: إِبليسُ أَفْقَهُ؛ لأَنَّهُ قَالَ: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} وَالقَدَرِيَّةُ تَقُولُ: لَا يَغْوِي اللَّه أَحدًا.
ص: وَالمَاهِيَّاتُ مجعولةٌ، وثَالِثُهَا إِنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً.
ش: فِي المَاهيَّاتِ ثلَاثةُ أَقوَالٍ.
أَحَدُهَا ـ وَبِهِ قَالَ أَصحَابُنَا ـ أَنَّهَا مجعولةٌ.
وَالثَّانِي ـ وَبِهِ قَالَ الفلَاسفةُ وَالمُعْتَزِلَةُ ـ أَنَّهَا غَيْرُ مجعولةٍ.
وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ؛ فَالمُرَكَّبَةُ مجعولةٌ وَالبسيطةُ غَيْرُ مجعولةٍ، ومعنَى هذَا
الخِلَافِ أَنَّ المَعْدُومَاتِ المُمْكِنَةَ قَبْلَ دخولِهَا فِي الوُجُودِ هَلْ تَأْثِيرُ الفَاعلِ فِي جَعْلِهَا ذَوَاتًا وفِي جَعْلِ تِلْكَ الذّوَاتِ مَوْجُودةً، وهذَا الخِلَافُ رَاجِعٌ لِمسأَلتَيْنِ.
إِحْدَاهُمَا: الخِلَافُ فِي المعدومِ هَلْ هو شَيْءٌ أَمْ لَا؟
فَلَمَّا قَالَ أَصحَابُنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ولَا ذَاتٍ، ولَا ثَابِتٍ ـ جَعَلُوا المَاهيَّاتِ مجعولةً بِجَعْلِ اللَّهِ.
ولَمَّا قَالَ المُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ شَيْءٌ، جَعَلُوا مَاهِيَّتَه ثَابِتةً فِي حَالِ العَدَمِ، ولَا تَأْثِيرَ لِلصَانعِ فِيهِ إِذَا أَوْجَدَهْ إِلَاّ فِي إِعطَاءِ صِفَةِ الوُجُودِ، فَلَمْ يجعلوا المَاهِيَّاتِ غيرَ/ (237/ب/م) مجعولةً، وإِنَّمَا المجعولُ وُجُودُهَا.
وأَمَّا مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ: البسيطةُ كَالجَوْهَرِ غَيْرُ مجعولةٍ؛ فَنَظَرٌ إِلَى نَفْيِ حقيقتِه؛ لأَنَّ الجَوْهَرَ جَوْهَرٌ وُجِدَ الغيرُ أَمْ لَا، وقَالَ: المركبةُ كَالسَّوَادِ المُلْتَئِمِ مِنَ اللّوْنِيَّةِ ومَانِعِيَّةِ البَصَرِ مجعولة+؛ لأَنَّهُ لَا يَكُونُ سوَادًا بِالاعْتِبَارِ الأَعَمِّ لذَاتِه بَلْ لِمُقدمَاتِه، فإِذَا قَطَعَ النّظَرَ عَنْ مُقدمَاتِه لَا يَكُونُ السّوَادُ سوَادًا وَالجزءُ غَيْرُ الكُلِّ.
الثَانِيَةُ: أَنَّ المَاهِيَّاتِ هَلْ هي مُتَقَرِّرَةٌ بِذوَاتهَا أَمْ لَا؟
فقَالَ الجُمْهُورُ: لَيْسَتْ مُتقرِّرةً بِذوَاتِهَا بَلْ بِغيرِهَا فهي مجعولةٌ.
وقَالَ المُعْتَزِلَةُ: هي مُتَقَرِّرَةٌ بِذوَاتِهَا، فَامْتَنَعَ تَأْثِيرُ الفَاعلِ فِي ذلكَ.
وظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ جَعْلَ المُصَنِّفِ هذه المَسْأَلَةَ مِمَّا يَجِبُ اعتقَادُه، ومسأَلةُ أَنَّ المَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِمَّا لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ تَنَاقُضٌ؛ فَإِنَّ مُدْرِكَهُمَا وَاحدٌ، وَالصَّوَابُ المذكورُ هُنَا فَقَدْ أَشَارَ الإِمَامُ فَخْرُ/ (191ب/د) الدّينِ إِلَى أَنَّ القَوْلَ بِأَنَّهَا غَيْرُ مجعولةٍ يَلْزَمُ مِنْهُ إِنكَارُ الصَّانعِ، فقَالَ: زَعَمَ جمهورُ المُعْتَزِلَةِ وَالفلَاسفةِ أَنَّ تَأْثِيرَ المُؤَثِّرِ يَكُونُ فِي وُجُودِ الأَمرِ لَا فِي مَاهِيَّتِه، وهو بَاطلٌ لأَنَّ الوُجُودَ لَا مَاهِيَّةَ لَهُ فَلَوْ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِلقَادرِ تَأْثِيرٌ فِي المَاهِيَّةِ لامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الوُجُودِ.
ص: أَرْسَلَ الرّبُّ تعَالَى رُسُلَهُ بِالمعجزَاتِ البَاهرَاتِ، وخَصَّ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ خَاتِمُ النّبِيِّينَ، المبعوثُ إِلَى الخَلْقِ أَجْمَعِينَ، المُفَضَّلُ علَى جَمِيع العَالَمِينَ، وبَعْدَه الأَنبيَاءُ، ثُمَّ الملَائكةُ، عليهم السلام.
ش: مِمَّا يَجِبُ اعتقَادُه بَعْثَةُ اللَّهِ لِلرُّسُلِ وإِقَامةُ الأَدلَّةِ علَى صِدْقِهم بِمَا أَجْرَاه علَى أَيدِيهم مِنَ المُعْجِزَاتِ البَاهرَاتِ لإِقَامةِ الحُجَّةِ علَى خَلْقِه، وَالمُرَادُ الحُجَّةُ الظَّاهِرةُ التي يُشَارِكُه فِي العِلْم بِهَا خَلْقُه، وأَمَّا الحُجَّةُ الحَقِيقِيَّةُ المُتَفَرِّدُ هو بِعِلْمِهَا فهي قَائمةٌ علَى الخَلْقِ بِدُونِ الرّسُلِ؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَه حَكَمٌ عَدْلٌ، وأَنْكَرَ ذَلِكَ طوَائفٌ مِنَ الفلَاسفةِ وَغَيْرِهم وأَنكروا جَمِيعَ مَا يُرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ.
وأَمَّا كَوْنُ نَبِيِّنَا- صلى الله عليه وسلم خَاتِمَ النّبِيِّينَ فَهو منصوصٌ عَلَيْهِ فِي التّنزيلِ، وقَالَ هو:(لَا نَبِيَّ بَعْدِي) وهو ثَابِتٌ فِي الصّحيحَيْنِ، وفِي تَهْذِيبِ الآثَارِ لِمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ:((لَا نَبِيَّ بَعْدِي/ (238/أَ/م) إِنْ شَاءَ اللَّهُ))، وهذه الزّيَادةُ موضوعةٌ، وَضَعَهَا مُحَمُّدُ بْنُ سَعِيدٍ المَصْلُوبُ كَمَا قَالَهُ الحَاكِمُ فِي (الإِكْلِيلِ) ولَوْ صَحَّتْ لَكَانَ هذَا الاستثنَاءُ لأَجْلِ عيسَى فإِنَّ نُبُوَّتَهُ لَمْ تَنْقُطْ، وإِنْ كَانَتْ شريعتُه قَدْ نُسِخَتْ، وتأَوَّلَهَا ابْنُ عبدِ البَرِّ فِي (التَّمْهِيدِ) علَى الرّؤْيَا؛ لأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَه مِنْ أَجزَاءِ النّبُوَّةِ غيرِهَا.
وَالمخَالفُ فِي ذَلِكَ فِرْقَةٌ مِنَ الفلَاسفةِ قَالُوا: إِنَّ النّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ.
وفِي (ذَمِّ الكلَامِ) لِلْهَرَّوِيِّ: أَنكروا علَى ابْنِ حِبَّانَ قَوْلَه: (النبوةُ العِلْمُ
وَالعَمَلُ) وحكموا عَلَيْهِ بِالزَّنْدَقَةِ، وهُجِرَ، وكُتِبَ فِيه إِلَى الخليفةِ، فَأُخْرِجَ إِلَى سَمَرَّقَنْدَ.
قُلْتُ: ومَا أَظُنُّ ابْنَ حِبَّانَ يقولُ: إِنْ مَنْ حَصَلَ لَهُ العِلْمُ وَالعَمَلُ صَارَ نَبِيًّا، ولَكِنَّ العِلْمَ وَالعَمَلَ آلَةٌ لِلنُّبُوَّةِ، ثُمَّ قَدْ يُؤْتِي اللَّهُ العَالِمَ العَاملَ النّبوةَ وَقَدْ لَا يُؤْتِيهِ اللَّهُ إِيَّاهَا {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وكَانَ هذَا قَبْلَ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام، أَمَّا الآنَ فَقَدْ عُلِمَ بِالدليلِ القَطْعِيِّ انْتِفَاءُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وأَمَّا كَوْنُه عليه الصلاة والسلام مبعوثًا إِلَى الخلقِ أَجمعِينَ فَالمُرَادُ المُكَلَّفُ مِنْهم، وهذَا يتنَاولُ الإِنسَ وَالجِنَّ وَالملَائكةَ، فأَمَّا الأَولَانِ فَبِالإِجمَاعِ، وَقَدْ نَقَلَه الإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي تفسيرِ سُورةِ البقرةِ فِي الجِنِّ، ويَدُلُّ لَهُ أَنَّهم قَصَدُوه وسَمِعُوا مِنْهُ القرآنَ وأَخَذُوا عَنْهُ الشّرَائعَ، وقَالَ:(لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ومَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وفِي التّنزيلِ: {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} وفِي الصّحيحَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصّلَاةُ/ (192/أَ/د) وَالسَّلَامُ قَالَ: ((بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ)) فَقِيلَ: المُرَادُ العَرَبُ وَالعَجَمُ، وَقِيلَ: الإِنْسُ وَالجِنُّ.
وأَمَّا الملَائكةُ فَمَحَلُّ خلَافٍ؛ فَفِي تفسيرِ الإِمَامِ فَخْرِ الدّينِ فِي سورةِ الفُرْقَانِ: دُخُولُهم؛ لِقَوْلِه تعَالَى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وَالمَلَائكةُ مِنَ العَالَمِينَ، وفِي
شُعَبِ الإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُرْسِلَ إِلَى الجِنِّ وَالإِنْسِ دُونَ الملَائكةِ ونَقَلَهُ عَنِ الحُلَيْمِيِّ، وأَقَرَّهُ.
وأَمَّا تفضِيلُه عليه الصلاة والسلام علَى جَمِيعِ العَالَمِينَ/ (238/ب/م) فَنَقَلَ الإِمَامُ فِي تفسيرِه الإِجمَاعَ عَلَيْهِ، وَاسْتَثْنَوهُ مِنَ الخِلَافِ فِي التّفضِيلِ بَيْنَ الملَائكةِ وَالبَشَرِ.
وأَمَّا تفضِيلُ الأَنبيَاءِ علَى الملَائكةِ فهو مَذْهَبُ الأَشْعَرِيِّ وجُمْهُورِ أَصحَابِه وإِحدَى الرّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
وذَهَبَتِ المُعْتَزِلَةُ إِلَى تفضِيلِ الملَائكةِ وَاختَارَه مِنْ أَصحَابِنَا القَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالأَستَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحَاكِمُ، وَالحُلَيْمِيُّ، وَالإِمَامُ فَخْرُ الدّينِ فِي (المَعَالِمِ) وأَبُو شَامةَ المَقْدِسِيِّ.
وقَالَ البَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الإِيمَانِ) قَدْ رَوى أَحَاديثَ المُفَاضلةِ بَيْنَ المَلَكِ وَالبَشَرِ ولِكُلِّ دَلِيلٍ وَجْهٌ، وَالأَمْرُ فِيهِ سَهْلٌ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ الفَائِدَةِ إِلَاّ معرفةَ الشّيْءِ علَى مَا هو عَلَيْهِ، انْتَهَى.
وهذَا مُخَالفٌ لِذِكْرِ المُصَنِّفِ هذه المَسْأَلَةَ فِي مَسَائِلِ العقَائدِ، وفِي المَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالثٌ بِالوَقْفِ، وَبِهِ قَالَ إِلْكِيَاالْهَرَّاسِيُّ، فَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى تفضِيل الأَنبيَاءِ بِقَوْلِهِ تعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ جمَاعةٍ مِنَ الأَنبيَاءِ:{وَكُلاًّ فَضَّلْنَا علَى العَالَمِينَ} وَالملَائكةُ مِنَ العَالَمِينَ وبِقولِه تعَالَى: {إِنَّ الذّينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ أَولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيِّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} وَالبَرِيِّةُ: الخَلِيقُةُ، وَالملَائكةُ منهم، وَالمُرَادُ هُنَا بَنُو آدَمَ؛ لأَنَّهُمْ المُجَازُونَ بِالجَنَّةِ دُونَ الملَائكةِ، وبِأَنَّ اللَّهَ تعَالَى
أَسْجَدَ لآدَمَ الملَائكةَ وَالمسجودُ لَهُ أَفْضَلُ مِنَ السَاجدِ، وفِي الأَنبيَاءِ مَنْ هو أَفْضَلُ مِنْ آدمَ؛ ولأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهم العِصْمَةُ مَعَ التّركيبِ المُعَرِّضِ للنَّوَائِبِ التي يَجِبُ الصّبرُ عَلَيْهَا، وَالشّهوَاتِ التي يَجِبُ الصّبرُ عَلَيْهَا؛ ولأَنَّ النَّاسَ فِي المَوْقِفِ إِنَّمَا يَسْتَشْفِعُونَ بِالأَنبيَاءِ دُونَ الملَائكةِ.
وقَالَ الإِمَامُ فَخْرُ الدّينِ: إِنَّ الخِلَافَ فِي التّفضيلِ بِمعنَى أَيِّهَا أَكثرُ ثوَابًا علَى الطَّاعَاتِ، ورُدَّ بِذَلِكَ احتجَاجُ الفَلَاسفةِ علَى أَفضلِيَّةِ الملَائكةِ بِأَنَّهَا نُورَانِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ وَالبَشَرُ ظَلْمَانِيّةٌ سُفْلِيّةٌ، وقَالَ: هذَا لَمْ يَلْقَ مَحَلَّ النّزَاعِ، وبِهذَا يَزُولُ الإِشكَالُ فِي المَسْأَلَةِ وضَلَّ َبَعْضُ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى التّصَوُّفِ فَزَعَمَ أَنَّ الوَلِيَّ أَفضلُ مِنَ النَّبِيِّ؛ لأَنَّهَا نِسْبَةُ العَبْدِ مِنَ اللَّهِ.
قَالَ السُّبْكِيُّ: وهذَا جَهْلٌ مِنْ قَائلِه، خَفِي عَلَيْهِ أَنَّ النّسْبَةَ فِي النَّبِيِّ أَكملُ وفِي الرّسولِ أَكملُ، ولَا يَصِحُّ مَا قَالَ هذَا الجَاهلُ لو لَمْ يَكُنْ فِي الرّسولِ وَالنَّبِيِّ بَعْدَ حِصَّةِ/ (239/أَ/م) الوِلَايةِ كَمَالٌ آخَرُ، وهَيْهَاتَ قَدْ عَمِي بَصَرُ هذَا عَنْ ذَلِكَ؛ فَلَوْ نَظَرَ إِلَى خصَائصِ الأَنبيَاءِ وَالكمَالاتِ الحَاصِلةِ لَهُمْ/ (192/ب/د) فَوْقَ الأَوليَاءِ وخصَائصِ الرّسَالةِ وَالكمَالاتِ الحَاصِلةِ لهم فوقَ الأَنبيَاءِ لأَبصرَ الأَوليَاءَ فِي الحضِيضِ الأَسفلِ وإِنْ كَانوا علَى خَيْرٍ، ولأَخَذَ بِحُجَّةِ الكمَال ِالذي للأَنبيَاءِ، انْتَهَى.
ص: وَالمُعْجِزَةُ أَمرٌ خَارقٌ لِلعَادةِ مَقرونٌ بِالتحدِّي مَعَ عدمِ المُعَارضَةِ وَالتحدي الدّعوَى.
ش: لَمَّا ذَكَرَ المُصَنِّفُ الإِرسَالَ بِالمعجزَاتِ احتَاجَ إِلَى تعريفِهَا، وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَضَمُّنِهَا تعجيزَ الذّينَ معهم التّحدِّي عَنِ المقَابلةِ بمثلِهَا.
وقَالَ الإِمَامُ فِي (الرسَالةِ النظَاميةِ+): تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ تَجُوزُ؛ فَإِنَّ الْمُعْجِزَ فِي الحَقِيقَةِ خَالِقُ العَجْزِ، ولَكِنْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِهَا أَنَّ مَنْ لَيْسَ نَبِيًّا يَعْجَزُ
عَنِ الإِتيَانِ بِمَا يُظْهِرُه اللَّهُ تعَالَى علَى النّبِيِّ.
فَقولُه: (أَمرٌ) جِنْسٌ، وعَبَّرَ بِهِ لِشُمُولِه القَوْلَ وَالفِعْلَ وَالإِعدَامَ، كَمَا لو تحدَّى بإِعدَامِ حَبلِ فِيَنْعَدِمُ.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ (خَارِقٌ لِلعَادةِ) مَا لَيْسَ كذلك، كَطُلوعِ الشّمسِ كَلَّ يومٍ علَى المعتَادِ، وفُهِمَ مِنْ إِطلَاقِه أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الخَارقِ مُعَيَّنًا، وَقَدْ نَقَلَ الآمِدِيُّ الاتِّفَاقَ عَلَيْهِ.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: (مَقْرُونٌ بِالتحدِّي) أَيْ: بِدعوَى النّبوةِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ أَو يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، وفِي ذَلِكَ احترَازٌ عَنِ الكرَامةِ؛ فَإِنَّه لَا تَحَدِّيَ فِيهَا، وعَنِ العَلَامَةِ الدَّالةِ علَى بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ بَعْثِهِ كَالنُّورِ الذي ظَهَرَ فِي جَبْهَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ويُسَمَّى إِرهَاصًا، وهو بِالصَّادِ المُهْمَلَةِ التّأَسيسِ، وَالتأَسيسُ مأَخوذٌ مِنَ الرَّهَصِ، وهو البُنْيَانُ الأَوَّلُ مِنَ الحَائطِ.
وَخَرَجَ بِعَدَمِ المُعَارِضِ السّحْرُ وَالشّعْبَذَةُ؛ فَإِنَّه يُمْكِنُ مُعَارضتُهَا.
قَالَ الآمِدِيُّ: وَوَجْهُ (اشْتِرَاطِ) كَوْنِ المبعوثِ إِلَيْهِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ المُعَارضَةُ أَنَّهُ لَو لَمْ يكن كَذَلِكَ لَسَاوَى النَّبِيَّ غيرُه، وَخَرَجَ المُعْجِزُ عَن كَوْنِه نَازِلاً مِنَ اللَّه مَنْزِلَةِ التّصديقِ.
وأُورِدَ علَى هذَا التَّعْرِيفِ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي تقييدُ المُعَارضِ بِكَوْنِه مُمَاثِلاً لِمَا أَتَى بِهِ الرّسولُ إِنْ كَانَ تَحَدِّيهِ بِخَارقٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا قَالَ أَكثرُ أَصحَابِنَا، وَاختَارَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَدَمَ اشْتِرَاطِ ذلكَ.
وقَالَ الآمِدِيّ: إِنَّهُ الحَقُّ.
ثَانِيهَا: يُشْتَرَطُ أَيضًا أَنْ يَكُونَ الخَارقُ/ (239/ب/م) غَيْرَ مُكَذِّبٍ له، فلو أَنْطَقَ جمَادًا أَو أَحْيَا مَيْتًا فَأَخبرَ بِكذبِه لَمْ تَكُنْ معجزةً له، ولَمْ تَدُلَّ علَى صِدْقِهِ علَى الصّحيحِ، كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وجَزَمَ بِهِ إِمَام الحَرَمَيْنِ فِي (الرسَالةِ النّظَاميةِ).
ثَالِثُهَا: قَيَّدَ ذَلِكَ بعضُهم بأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ التّكليفِ؛ للَاحترَازِ عَمَّا يَقَعُ فِي القِيَامةِ مِنَ الخَوَارقِ، قَالَهُ الأَستَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ.
قُلْتُ: ولَا يُحتَاجُ إِلَى هذَا؛ لِخروجِه بِقَوْلِهِ: (مقرونٌ بِالتحَدِّي)، فَإِنَّ القيَامةَ لَيْسَتْ مَحَلَّ دعوَى رسَالةٍ ولَا تَحَدٍّ.
رَابِعُهَا: وزَادَ الأَستَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَيضًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ علَى جِهَةِ الابتدَاءِ؛ لَيَخْرُجَ/ (193/أَ/د) مَنْ مَضَى فِي هذه الأَزمَانِ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ عَنِ الإِسلَام لَمْ يَبْلُغُهم القرآنُ وقَرَأَه عليهم، وتحدَّاهم بِهِ.
قُلْتُ: ولَا يُحتَاجُ لِذَلِكَ؛ لأَنَّ المُرَادَ دعوَى النّبُوَّةِ فِي زَمَنِ إِمكَانِهَا، وهي الآنَ مُسْتَحِيلةٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
ثم بَيَّنَ المُصَنِّفُ أَنَّ التّحَدِّيَ هو دعوَى النّبُوَّةِ.
وقَالَ بعضُهم: التّحَدِّي فِي اللّغةِ المُمَارَاةُ وَالمُنَازعةُ.
ص: وَالإِيمَانُ تصديقُ القلبِ، ولَا يُعْتَبَرُ إِلَاّ مَعَ التّلَفُّظِ بِالشّهَادتَيْنِ مِنَ القَادرِ، وَهَلْ التّلَفُّظُ شَرْطٌ أَو شَطْرٌ، فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَالإِسلَامُ: أَعمَالُ الجوَارحِ، ولَا تُعْتَبَرُ إِلَاّ مَعَ الإِيمَانِ، وَالإِحسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كأَنَّكَ ترَاه، فَإِنْ لَمْ تكن تَرَاه فإِنَّه يَرَاكَ.
ش: ذَكَرَ فِي هذه الجُمْلَةِ أَركَانَ الدِّينِ التي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم: ((هذَا جِبْريلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ)) وهي الإِيمَانُ وَالإِسلَامُ وَالإِحسَانُ.
فأَمَّا الإِيمَانُ هو فِي اللّغةِ التّصديقُ، وفِي الشَّرْعِ التّصديقُ بِكُلِّ مَا عُلِمَ بِالضرورة مَجِيءُ الرّسلِ بِهِ، دُونَ الأُمُورِ الاجتهَادِيَّةِ، كَذَا قَالَهُ الأَشْعَرِيُّ وأَكثرُ المُتَكَلِّمِينَ كَالقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالأَستَاذُ أَبِي إِسْحَاقَ وبِذلكَ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم حِينَ سأَلَه جِبْرِيلُ عليه السلام عَنْهُ فقَالَ:((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وملَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)) قَالُوا: ولَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِالقلبِ مَعَ القُدْرَةِ علَى الإِقرَارِ بِاللِّسَانِ، ولَا يَحْصُلُ الإِيمَانُ إِلَاّ بِمجموعِهمَا فَإِنَّ القَوْلَ مأُمُورٌ بِهِ كَالاعتقَادِ، قَالَ اللَّهُ تعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ} وقَالَ عليه الصلاة والسلام: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهَ)) فإِنْ عَجَزَ عَنِ التَّلَفُّظِ؛ لِخَرَسٍ أَو اخْتَرَامِ مَنِيَّةٍ قُبَيلَ التّمكينِ مِنْهُ صَحَّ إِيمَانُهُ، وإِنْ عُرِضَ عليه/ (240/أَ/م) التَّّلَفُّظُ فأَبَى مَعَ القدرةِ، كأَبِي طَالبٍ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِالاتِّفَاقِ، وكذَا إِنْ لَمْ يُعْرَضْ عَلَيْهِ عِنْدَ الجُمْهُور.
ومَال الغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ، وقَالُوا: كَيْفَ يُعَذَّبُ مَنْ قَلْبُهُ مملوءٌ بِالإِيمَانِ وهو المَقْصُودُ الأَصْلِيُّ، غَيْرَ أَنَّهُ لِخفَائِه نِيطَ الحُكْمُ بِالإِقرَارِ الظَّاهِرِ، وعلَى هذَا فهو مؤمنٌ عِنْدَ اللَّهِ تعَالَى، غَيْرُ مؤمنٍ فِي أَحكَامِ الدُّنيَا، عَكْسُ المُنَافِقِ وهو ظَاهرُ كلَامِ شَيْخِهِ فِي الإِرشَادِ) أَيضًا.
وعلَى المشهورِ فَالتَّلَفُّظُ مَعَ القدرةِ هَلْ هو شَرْطٌ لِلإِيمَانِ أَو شَرْطٌ لَهُ بِمعنَى أَنَّهُ أَحَدُ رُكْنَيْهِ، ويكونُ الإِيمَانُ هو المجموعُ؟ وبِالأَوَّلِ قَالَ المُتَكَلِّمُونَ، وحُكِيَ الثَّانِي عَن أَكثرِ السَّلَفِ، وَمِنْهُم أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وكلَامُ الغَزَالِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ولَا شَطْرٍ، وإِنَّمَا هو وَاجبٌ مِنْ وَاجبَاتِه، وفَسَّرَ المُعْتَزِلَةُ الإِيمَانَ بَامتثَالِ الوَاجبَاتِ، وَاجتنَابِ المَنْهِيَّاتِ؛ فَجَعَلُوه مِنْ قَبِيلِ الأَعمَالِ، ويَتَرَتَّبُ علَى هذَا الخِلَافِ أَنَّهُ هَلْ يَقْبَلُ الزّيَادةَ وَالنَقْصَ؟
فعلَى الثَّانِي يَقْبَلُهُمَا، وعلَى الأَوَّلِ فَالمشهورُ/ (193/ب/د) أَنَّهُ لَا يُقْبَلُهُمَا، وَاختَارَ النَّوَوِيُّ خلَافَه.
وأَمَّا الإِسلَامُ فهو فِي اللّغةِ الاستسلَامُ وَالانقيَادُ، وفِي الشَّرْعِ أَعمَالُ الجوَارحِ، وبِذلكَ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَأَلَه جبريلُ عليه السلام عَنِ الإِسلَامِ؟ فقَالَ:((أَنْ تَشْهَدَ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، وتَقِيمَ الصّلَاةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ، وتَحُجَّ البيتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سبيلاً)) ولَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ، ويَقَعُ مُعْتَدًّا بِهِ إِلاُّ مَعَ الإِيمَانِ وهو التّصديقُ الخَاصُّ كَمَا تَقَدَّمَ، ولَمْ يَحْكُوا خِلَافًا فِي أَنَّ الإِيمَانَ شَرْطٌ فِي الإِسلَامِ أَو شَطْرٌ.
وأَمَّا الإِحسَانُ فَقَدْ فَسَّرَهُ المُصَنِّفُ بِمَا فَسَّرَهُ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم فِي حديثِ جبريلَ، فَالإِيمَانُ مَبْدَأٌ، وَالإِسلَامُ وَسَطٌ، وَالإِحسَانُ كَمَالٌ، وَالدِّينُ الخَالصُ شَامِلٌ لِلثلَاثةِ، ومَنْ اتَّصَفَ بِالإِحسَانِ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ معصيةٌ ولَا خِلَافَ فِي الطَّاعةِ، وكيفَ هو عَالِمٌ بِأَنَّ اللَّهَ يرَاه مُسْتَحْضِرٌ+ لذلكَ، ولو عَلِمَ اطِّلَاعَ بَعْضِ الصَّالِحِينَ عَلَيْهِ لَمْ يُقْدِمْ علَى المعصيةِ، وفَسَّرَ بعضُهم الإِحسَانَ بِالإِخلَاصِ، وقَالَ: هو شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الإِيمَانِ وَالإِسلَامِ/ (240/ب/م) وَالحديثُ يَدُلُّ علَى تفسيرِه بِزيَادةٍ علَى ذلك.
ص: وَالفِسْقُ لَا يُزِيلُ الإِيمَانَ، وَالمَيِّتُ مؤمنًا فَاسقًا تَحْتَ المَشِيئَةِ إِمَّا أَنْ يُعَاقَبَ ثُمَّ يَدْخُلِ الجَنَّةَ، وإِمَّا أَنْ يُسَامَحَ بِمُجَرَّدِ فَضْلِ اللَّهِ أَو مَعَ الشّفَاعةِ، وأَوَّلُ شَافِعٍ وأَوْلَاهُ حَبِيبُ اللَّهِ مُحَمَّدُ المصطفَى- صلى الله عليه وسلم.
ش: الفِسْقُ بِارتكَابِ الكبيرةِ أَوِ الإِصرَارِ علَى الصّغيرةِ لَا يُزِيلُ اسْمَ الإِيمَانِ، بَلْ مُرْتَكِبُ ذَلِكَ مُطِيعٌ بإِيمَانِه عَاصٍ بِفِسْقِهِ؛ فَمَنْ مَاتَ مِنَ المؤمنِينَ علَى فِسْقِهِ غَيْرَ تَائبٍ فهو تحتَ مشيئةِ اللَّهِ تعَالَى، إِمَّا أَنْ يُعَاقَبَ وقَدْرُ ذَلِكَ مُغَيَّبٌ عَنَّا، ثُمَّ يَدْخُلِ الجَنَّةَ ولَا يُمْكِنْ خُلُودُه فِي النَّارِ، وإِمَّا أَنْ يُسَامَحَ، ويَدْخُلِ الجَنَّةَ بِغَيْرِ عقوبةٍ، وذلكَ إِمَّا لِمُجَرَّدِ فَضْلِ اللَّهِ تعَالَى مِنْ غَيْرِ وَاسطةٍ، وإِمَّا بِوَاسطةِ الشّفَاعةِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ غيرِه، وأَوَّلُ الشّفعَاءِ وأَوْلَاهُمْ بِالقبولِ مُحَمَّدٌ الرّسولُ- صلى الله عليه وسلم وَقَدْ يُشَارِكُه فِي مِثْلِ هذَا غيرُه، وَالذي تَحَقَّقْنَا
اختصَاصُه بِهِ هو الشّفَاعةُ العُظْمَى؛ لِفَصْلِ القضَاءِ بَيْنَ الخَلْقِ، وتلك لَا يُنْكِرُهَا المُعْتَزِلَةُ إِنَّمَا أَنكروا غيرَهَا.
وقَالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إِنَّ الفِسْقَ يُخْرِجُ عَنِ الإِيمَانِ ولَا يُدْخِلُ فِي الكُفْرِ؛ فهو فَاسِقٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ ولَا كَافرٍ، فقَالوا بِالمَنْزِلَةِ بَيْنَ منزلتَيْنِ، وعندَهم أَنَّ الفَاسقَ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ كَالكَافِرِ، وأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا بشفَاعةٍ ولَا غيرِهَا، وأَنكروا الشّفَاعة؛ َ لوجُوبِ العقوبةِ عندَهم. وحكَى ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايةً: أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالفِسْقِ مِنَ الإِيمَانِ إِلَى الإِسلَامِ.
وقَالَ البَيْهَقِيُّ: توَاتَرَتِ الأَحَاديثُ فِي أَنَّ/ (194/أَ/د) المؤمنَ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ بِذُنُوبِه، غَيْرَ أَنَّ القَدْرَ الذي يَبْقَى فِيهَا غَيْرَ معلومٍ، وَالذي تَلْحَقُهُ الشّفَاعةُ ابتدَاءً حتَّى لَا يُعَذَّبُ أَصْلاً غَيْرَ معلومٍ، فَالذَّنْبُ خَطَرٌ عظيمٌ، ورَبُّنَا غفورٌ رحيمٌ، وعقَابُه شديدٌ أَليمٌ.
قَالَ العلمَاءُ: وَالشّفَاعَاتُ الأَخْرَوِيَّةُ خَمْسٌ:
أَحَدُهَا: الشّفَاعةُ العظمَى بِفَصْلِ القضَاءِ، وهي خَاصَّةٌ بِنَبِيِّنَا- صلى الله عليه وسلم بِالإِجمَاعِ.
الثَانِيَةُ: الشّفَاعةُ فِي إِدخَالِ قَوْمٍ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ولَا عِقَابٍ، وذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ هذه مُخْتَصَّةٌ بِهِ أَيضًا، وتَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.
الثَالثةُ: الشّفَاعةُ فِي قَوْمٍ استوجبوا النَّارَ حتَّى لَا/ (241/أَ/م) يدخلوهَا كَمَا سَبَقَ.
الرَابعةُ: الشّفَاعةُ فِي إِخرَاج ِقَوْمٍ مِنَ النَّارِ.
الخَامسةُ: الشّفَاعةُ فِي زيَادةِ الدَّرَجَاتِ فِي الجَنَّةِ، وزَادَ بعضُهم.
سَادسةً: وهي الشّفَاعةُ فِي تخفِيفِ العذَابِ عَنْ بَعْضِ الكُفَّارِ كَأَبِي طَالبٍ.
وسَابعةً: فِي التّخفِيفِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، كَمَا جَاءَ فِي حديثِ القَبْرَيْنِ
فَإِنَّ فِيهِ: ((فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا بِشَفَاعَتِي مَا دَامَ هذَانِ الغُصْنَانِ
رَطْبَيْنِ)).
ص: ولَا يَمُوتُ أَحَدٌ إِلَاّ بِأَجَلِهِ.
ش: هذَا فِي غَيْرِ المقتولِ إِجمَاعٌ، وفِي المقتولِ علَى المُعْتَمَدِ المَنْصُورِ ـ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ ومِنَ المُعْتَزِلَةِ الجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ، وذَهَبَ بَاقِي المُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّ القَاتلَ قَطَعَ أَجَلَهُ المَضْرُوْبَ لَهُ فَمَاتَ قَبْلَ وقتِه، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لُوْلَا القتلُ لَكََانَ يعيشُ أَو يَمُوتُ بِفِعْلِ اللَّهِ تعَالَى علَى قولَيْنِ، ودليلُنَا قَوْلُه تعَالَى:{فإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعةً ولَا يَسْتَقْدِمُونَ} وقولُه تعَالَى: {يَا أَيُّهَا الذّينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وقَالُوا لإِخوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَو كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا ومَا قُتِلُوَا} فَنَهَى تعَالَى عَنْ مِثْلِ قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ، ونَسَبَهُ إِلَى الكُفَّارِ.
وأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)).
فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ أَصَحُّهَا كمَا قَالَ النّوَوِيُّ: إِنَّ هذه الزّيَادةِ بِالْبَرَكَةِ فِي عُمْرِهِ وَالتوفِيقِ لِلطَاعَاتِ، وصيَانةِ أَوقَاتِه عَنِِ الضِيَاعِ، وَقِيلَ بِالنِّسَبَةِِ لِمَا يَظْهَرُ لِلملَائكةِ فِي اللّوحِ المحفوظِ، فَيَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّ عُمُرَهُ سِتُّونَ سَنَةً إِلاُّ أَنْ يَصِلَ رَحِمَهُ، فَيَزْدَادُ أَربعينَ، فَأَمَّا بِالنِّسَبَةِ إِلَى عِلْمِهِ تعَالَى فَالزيَادةُ مستحيلةٌ، وَقِيلَ: المُرَادُ بقَاءُ ذِكْرِهُ الجميلِ بعدَه فكأَنَّه لَمْ يَمُتْ.
وأَمَّا حديثُ: ((أَنَّ المقتولَ يَتَعَلَّقُ بِقَاتلِه يومَ القيَامةِ ويقولُ: رَبِّ ظَلَمَنِي وَقَتَلَنِي وَقَطَعَ أَجَلِي)) فَرَوَاهُ الطّبرَانِيُّ وتَكَلَّمَ فِي إِسنَادِه.
وبتقديرِ صِحَّتِه فهو محمولٌ علَى مقتولٍ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لوْ لَمْ @@@@يقتلْ لكَان يعطَى أَجلاً زَائدًاَ.
ص: وَالنفسُ بَاقيةٌ بعدَ قَتْلِ البدنِ، وفِي فنَائِهَا عِنْدَ القيَامةِ تَرَدُّدٌ، قَال/ (241/ب/م) الشَّيْخِ الإِمَامُ (194/ب/د): وَالأَظهرُ لَا تفنَىْ أَبدًا، وفِي عُجْبِ الذَّنْبِِ قولَانِ، قَالَ المُزَنِيُّ: وَالصَّحِيحُ يبلَى، وتأَوَّلَ الحديثَ.
(من محمد إلى أستاد مصطفى)
ش: بقَاءُ النَّفْسِ بَعْدَ مَوْتِ البدنِ، وهو مَذْهَبُ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنَ المسْلِمِينَ وَغَيْرِهم، وخَالفَ فِيهِ الفلَاسفةُ بنَاءً علَى إِنكَارِهم المَعَادَ الجِسْمَانِيَّ، وَاللَائقُ بِمَذْهَبِهم الكَفُّ عَنِ الكلَامِ فِي ذَلِكَ وَالتَّوَقُّفُ فِيهِ، وهذَا هو المَنْقُولُ عَنْ جَالِينُوسَ وهو مِنْ أَعيَانِهم، وَالقرآنُ مَشْحُونٌ بِالدِّلَالةِ علَى بَقَاءِ النَّفْسِ قَالَ تعَالَى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وَالذَائِقُ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ المَذُوقِ، وقَالَ:{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي} الآيَاتُ، وهِيَ نَصٌّ فِي بَقَاءِ الأَرْوَاحِ وَسَوْقِهَا إِلَى اللَّهِ تعَالَى يَوْمَئِذٍ.
وقَالَ: {ولَا تَحْسَبَنَّ الذّينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَموَاتًا بَلْ أَحيَاءٌ} .
وفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَزُورُ الْقُبُورِ، وَيُسَلِّمُ علَى الْمَوْتَى.
وفِي فنَائِهَا عِنْدَ القيَامةِ تَرَدَّدٌ لِلسُّبْكِيِّ، ذَكَرَهُ فِي تفسيرِهِ؛ فقَالَ: إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الأَرْوَاحَ تَبْقَى ـ وَهُوَ الْحَقُّ ـ فَهَلْ يَحْصُلُ لهَا عِنْدَ القيَامةِ فَنَاءٌ، ثُمَّ تُعَادُ
فَتُوَفَّى بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أَوْ لَا، بَلْ يَكُونُ مِنَ المُسْتَثْنَيْنَ فِي قَوْلِهِ تعَالَى:{إِلَاّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وَالأَقْرَبُ أَنَّهَا لَا تَفْنَى، وأَنَّهَا مِنَ الْمُسْتَثْنَى كمَا فِي الحُورِ الْعِينِ.
أَمَّا الْجِسْمُ فَإِنَّهُ يَبْلَى إِلَاّ عَجْبُ الذََّنَبِ، وهو بِفَتْحِ العَيْنِ وإِسكَانِ الجِيمِ وآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ، وَقِيلَ: تُبْدَلُ مِيمًا، وحَكَى الجُبَّائِيُّ بِتَثْلِيثِ العَيْنِ فِيهمَا، فَهذه سِتُّ لُغَاتٍ، وهو عَظْمٌ كَالخَرْدَلَةِ فِي أَصْلِ الصُّلْبِ عِنْدَ العَجْزِ، وهُوَ رَأْسُ العُصْعُصِ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إِلَاّ عَجْبُ الذَّنَبِ؛ مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ)) وفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ قِيلَ: ومَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: ((مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْهُ يُنْشَرُ)).
وحَكَى المُصَنِّفُ فِي بَلَاهُ قَوْلَيْنِ، وأَنَّ الْمُزَنِيَّ صَحَّحَ أَنَّهُ يَبْلَى، وَتأَوَّلَ الْحَدِيثَ؛ أَيْ: عَلَى أَنَّ عَجْبَ الذَّنَبِ لَا يأَكُلُهُ التُّرَابُ بَلْ يُفْنِيهِ اللَّهُ تعَالَى بِلا تُرَابٍ، كَمَا يُمِيتُ مَلَكَ المَوْتِ بِلا وَاسِطَةٍ مَلَكٌ آخَرُ، ووَافَقَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وقَالَ: إِنَّهُ آخِرُ مَا يَبْلَى مِنَ المَيْتِ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ هؤلَاءِ لِوَقْتِ فَنَائِهِ؛ هَلْ هو عِنْدَ فَنَاءِ العَالَمِ أَو قَبْلَ ذَلِكَ وهو مُحْتَمَلٌ، وَتَمَسَّكُوا بِظَاهرِ قَوْلِهِ تعَالَى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} وَالأَخْذُ بِالحديثِ أَوْلَى لِخُصُوصِهِ.
وقَالَ بعضُهم: إِنَّ عَجْبَ الذَّنَبِ/ (242/أَ/م) بِالنِّسَبَةِ إِلَى جِسْمِ الإِنسَانِ كَالْبَذْرِ بِالنِّسَبَةِ إِلَى جِسْمِ النّبَاتِ، وعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ تعَالَى:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} إِلَى أَنْ قَالَ: {كَذَلِكَ الْخُرُوجِ} ويُوَافِقُهُ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءٌ فَيَنْبِتُونَ مِنْهُ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ.
وقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الحَنْبَلِيُّ: لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي هذَا سِرٌّ لَا نَعْلَمُهُ؛ لأَنَّ مَنْ يُوجِدُ مِنَ الْعَدَمِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ لِفِعْلِهِ شَيْءٌ يَبْنِي/ (195/ب/د) عَلَيْهِ، ولَا خَمِيرَةَ؛ فَإِنْ عَلَّلَ هذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ البَارِي سُبحَانَهُ جَعَلَ هذَا عَلامَةً لِلْمَلَائكةِ علَى أَنَّهُ يُحْيِي كُلَّ إِنسَانٍ بِجَوَاهِرِهِ بِأَعْيَانِهَا لَا بِأَجسَامٍ مِثْلِهَا.
ص: وَحَقِيقَةُ الرُّوحِ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فُنُمْسِكُ عَنْهَا.
ش: افْتَرَقَ النَّاسُ فِي أَمْرِ الرُّوحِ فِرْقَتَيْنِ؛ فَفِرْقَةٌ أَمْسَكَتْ عَنِ الكلَامِ فِيهِ؛ لأَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا سَأَلُوا عَنْهُ أَنْزَلَ اللَّهُ تعَالَى علَى نَبِيِّهِ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} وقَالُوا: مَعْنَاهُ: فَاجْعَلُوا الرُّوحَ مِنَ الكَثِيرِ الذي لَمْ تُؤْتَوْهُ، ولَا تَسْأَلوا عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ سِرٌّ مِنْ أَسرَارِي.
قَالَ الْجُنَيدِ: الرُّوحُ شَيْءٌ اسْتَأَثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، ولَمْ يَطْلِعْ عَلَيْهِ أَحدًا مِنْ خَلْقِهِ، ولَا يَجُوزُ لِعِبَادِهِ الْبَحْثُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الثَّعْلَبِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا، وفِرْقَةٌ تَكَلَّمَتْ فِيهِ وبَحَثَتْ عَنْ
حقيقتِهِ، وأَجَابُوا عَنِ الآيَةِ بِجَوَابَيْنِ.
أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْيَهُودَ كَانوا قَدْ قَالُوا: إِنْ أَجَابَ عَنْهَا فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وإِنْ لَمْ يُجِبْ عَنْهَا فَهُوَ صَادِقٌ، فَلَمْ يُجِبْ؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأَذَنْ لَهُ فِيهِ، ولَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ بَيَانَهُ فِي ذَلِكَ الوقت؛ ِ تأْكِيدًا لِمُعْجِزَتِهِ وتصديقًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ، لَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الكلَامُ فِيهِ.
ثَانِيهَا: أَنْ َّسُؤَالَهُمْ إِنّمَا كَانَ سُؤَالَ تَعْجِيزٍ وَتَغْلِيطٍ؛ فَإِنَّ الرُّوحَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ رُوحِ الإِنسَانِ وَجِبْرِيلَ ومَلَكٍ آخَرَ يُقَالَ لَهُ الرُّوحُ، وصِنْفٌ مِنَ الملَائكةِ، وَالقرآنُ، وعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فأَرَادَ اليَهُودُ إِنَّ كُلَّ مَا أَجَابَهُمْ عَنْهُ يَقُولُونَ: لَيْسَ هو المُرَادُ، فَجَاءَ الجَوَابُ مُجْمَلاً؛ فإِنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَمْرِ الرَّبِّ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ مَعَانِي الرُّوحِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هؤلَاءِ فِي حَقِيقَتِهِ علَى أَقوَالٍ:
أَحَدِهَا ـ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ المُتَكَلِّمِينَ ـ: إِنَّهُ جِسْمٌ لَطِيفٌ.
قَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ: مُشْتَبِكَةٌ بِالأَجسَامِ الْكَثِيفَةِ اشتبَاكَ المَاءِ بِالعُودِ الأَخْضَرِ.
وقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: إِنَّهُ الأَصَحُّ عِنْدَ أَصحَابِنَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ عَرَضٌ، وأَنَّهُ هو الحيَاةُ التي صَارَ البَدَنُ/ (242/ب/م) بوُجُودِهَا حَيًّا، وإِلَيْهِ مَيْلُ القَاضِي أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ السَّهْرَوَرْدِيُّ: وَيُرَدُّ علَى هذَا الأَخبَارِ الدَّالَّةِ علَى
أَنَّهُ جِسْمٌ؛ لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الهُبُوطِ وَالْعُرُوجِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْبَرْزَخِ، وَالعَرَضِ لَا يُوصَفُ بِهذه الأَوصَافِ.
الثَّالِثِ ـ وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الصُّوفِيَّةَ ـ: أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولَا عَرَضٍ بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ، وَلَهُ تَعَلَّقٌ خَاصٌّ بِالبَدَنِ لِلتَدْبِيرِ وَالتحريكِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي البَدَنِ ولَا خَارِجٌ عَنْهُ، وهذَا هو رَأْيُ الفَلَاسِفَةِ.
ص: وكَرَامَاتُ الأَوليَاءِ حَقٌّ، قَالَ الْقُشَيْرِيُ: ولَا يَنْتَهُون َإِلَى نَحْوِ: وَلَدٌ دُونَ وَالِدٍ.
ش: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِثبَاتُ كرَامَاتِ الأَوليَاءِ حتَّى قَالَ أَبُو تُرَابٍ التَّخْشَبِيُّ: مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا فَقَدْ كَفَرَ.
قَالَ الشَّارِحُ: وَلَعَلَّهُ يَرَى تَكْفِيرَ الْمُبْتَدِعَةِ.
قُلْتُ: أَو أَرَادُ كُفْرَ النِّعْمَةِ.
وَقَدْ جَرَتْ خَوَارِقٌ علَى أَيْدِي الصَّحَابَةِ وَالتَابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَا يُمْكِنُ إِنكَارُهَا؛ لِتَوَاتِرِ مجموعُهَا، وأَنْكَرَهُ المُعْتَزِلَةُ دَاعِينَ أَنَّ إِثبَاتَهَا يُؤَدِي إِلَى اختلَاطِ النُّبُوَّةِ بِغَيْرِهَا، ونُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّمَا أَنْكَرُوا خَرْقَ العَادَاتِ.
وحَكَى الإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَنِ الأَستَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ إِنكَارَهَا، وَالذي حَكَاهُ عَنْهُ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالآمِدِيُّ: أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْكَرَ مِنْهَا مَا كَانَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ، كَإِحيَاءِ الْمَوْتَى، وقَلْبِ العَصَا حَيَّةً، وفَلْقِ الْبَحْرِ، ونحوِهَا، أَمَّا إِجَابَةُ دَعْوَةٍ، ومُوَاتَاةُ مَاءٍ فِي بَادِيَةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الميَاهِ ونَحْوَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرُهُ؛ وعلَى هذَا فَمَذْهَبُهُ كَالْمَحْكِيِّ هُنَا عَنِ الأَستَاذِ أَبِي القَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ: أَنَّ الكرَامَةَ لَا تَنْتَهِي إِلَى خَلْقِ وَلَدٍ بِلَا وَالِدٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرِّسَالَةِ: (إِنَّ كثيرًا مِنَ المقدورَاتِ يُعْلَمُ اليومَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظْهِرَ
كرَامةً لِوَلِيٍّ لِضَرُورَةٍ أَوْ شِبْهِ ضرورةٍ؛ مِنْهَا حُصُولُ إِنسَانٍ لَا مِنْ أَبَوَيْنِ، وقَلْبُ جَمَادٍ بَهِيمَةً، وأَمثَالُ هذَا نَكِيرٌ). انْتَهَى.
فَكَانَ نَقْلُ هذَا عَنِ الأَستَاذِ أَوْلَى؛ لِقِدَمِهِ، وَتَمَكُّنِهِ فِي هذَا الْعِلْمِ، لَكِنَّ المُصَنِّفُ يَرَى مَقَالَةَ الْقُشَيْرِيِّ غَيْرَ مقَالةِ الأَسْتَاذِ، بَلْ يجعلُهَا قَيْدًا؛ فقَالَ فِي (مَنْعُ الموَانِعِ): وبِهذَا/ (243/أَ/م) يَصِحُّ أَنَّ قَوْلَهُمْ: مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيَّ ٍجَازَ أَنْ يَكُونَ كرَامَةً لِوَلِيٍّ، لَيْسَ علَى عُمُومِهِ، وإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَا تُفَارِقُ المعجزةُ الكرَامةَ إِلَّا بِالتحَدِّي لَيْسَ علَى وَجْهِهِ.
قَالَ الشَّارِحُ: وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، بَلْ هذَا الذي قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ، وَالجُمْهُورُ علَى خلَافِهِ، وَقَدْ أَنْكَرُوهُ علَى الْقُشَيْرِيِّ حتَّى وَلَدِهِ أَبِي نَصْرٍ فِي كتَابِهِ (الْمُرْشِدُ) فقَالَ: قَالَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ: مَا وَقَعَ معجزةً لِنَبِيٍّ لَا يَجُوزُ تقديرُ وُقُوعِهِ كرَامةً لَوَلِيٍّ، كَقَلْبِ العَصَا ثُعْبَانًا، وإِحيَاءِ المَوْتَى، وَالصَّحِيحُ تجويزُ جُمْلَةِ خوَارِقِ العَادَاتِ كرَامةً للأَوليَاءِ. وفِي (الإِرْشَادِ) لإِمَامِ الحَرَمَيْنِ مِثْلُهُ.
وفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: إِنَّ الكرَامَاتِ تَجُوزُ بِخَوَارِقِ العَادَاتِ علَى اخْتِلَافِ أَنوَاعِهَا، ومَنَعَهُ بعضُهم وَادَّعَى أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِمِثْلِ إِجَابةِ دُعَاءٍ ونحوِه، وهذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ وإِنكَارٌ لِلْحِسِّ بَلْ الصَّوَابُ جريَانُهَا بِقَلْبِ الأَعيَانِ ونحوِه. انْتَهَى.
وبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ تعريفَ المعجزةِ يُغْنِي عَنْ تعريفِ الكرَامةِ؛ لانْحِطَاطِهَا عَلَيْهَا.
ص: ولَا نُكَفِّرُ أَحدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.
ش: هذه العبَارةُ مَحْكِيَّةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ وأَبِي حَنِيفَةَ وَالأَشْعَرِيِّ، وهي صحيحةٌ عَنِ الآخَرِينَ، ومأَخوذةٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَقْبَلُ شهَادةُ أَهْلِ الأَهوَاءِ إِلَاّ الْخَطَّابِيَّةِ مِنَ الرَّافِضَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ.
وقَالَ السُّبْكِيُّ: مَعْنَاهَا: لَا نُكَفِّرُ بِالذُّْنُوبِ التي هي مَعَاصٍ، أَمَّا تَكْفِيرُ بعضِ/ (196/أَ/د) المُبْتَدِعَةِ لِعقيدةٍ تَقْتَضِي
كُفْرَهُ حَيْثُ يَقْتَضِي الحَالُ القَطْعَ بِذَلِكَ أَو تَرْجِيحَهُ ـ فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، وهو خَارِجٌ بِقَوْلِنَا: بِذَنْبٍ، غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ: إِنَّ الإِنسَانَ مَا دَامَ يَعْتَقِدُ الشَّهَادَتَيْنِ فَتَكفِيرُهُ صَعْبٌ، ومَا يَعْرِضُ فِي قَلْبِهِ مِنْ بِدْعَةٍ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُضَادَّةً لِذَلِكَ لَا يُكَفَّرُ، وإِنْ كَانَتْ مُضَادَّةً لَهُ، فَإِذَا فُرِضَتْ غَفْلَتُهُ عَنْهَا وَاعتقَادُهُ لِلشهَادَتَيْنِ مُسْتَمِرٌّ فَأَرْجُو أَنَّ ذَلِكَ يَكْفِيهِ فِي الإِسلَامِ، وأَكْثَرُ أَهْلِ الْمِلَّةِ كَذَلِكَ، ويَكُونُ كَمِسْلِمٍ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ، إِلَاّ أَنْ يُقَالَ: مَا كُفِّرَ بِهِ لَا بُدَّ فِي إِسلَامِهِ مِنْ توبته عَنْه، ُ فَهَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ.
وَجَمِيعُ هَذِه العقَائدِ التي يُكَفَّرُ بِهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ قَدْ لَا يَعْتَقِدُهَا/ (243/ب/م) صَاحِبُهَا، إِلَّا حَالَ بَحْثِهِ فِيهَا لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ لَهُ أَوْ مُجَادَلَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وفِي أَكْثَرِ الأَوقَاتِ يَغْفَلُ عَنْهَا وهو ذَاكِرٌ لِلشهَادَتَيْنِ، لَا سِيِّمَا عِنْدَ الْمَوْتِ. انْتَهَى.
وَتَبِعَ المُصَنِّفُ عَبْدُ الْجَلِيلِ الْقَصْرِيُّ فِي عَدِّ هذَا مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ، لِحديثِ:((لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ)) لَكِنْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ موضوعٌ، لَا أَصْلَ لَهُ فَكَيْفَ بِحديثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ تَرَكَ الصَّلَاََةَ فَقَدْ كَفَرَ)).
قَالَ الشَّارِحُ: وفِي صِحَّةِ هذَا عَنْ أَحْمَدَ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ مَعْنَاهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بَاللَّهِ شَيْئًا، ولَا تَسْرِقُوا ولَا تَزْنُوَا؛ فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فأَجْرُهُ علَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا
فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ)).
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صحيحٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ: هَلْ كُنْتُمْ تُسَمُّونَ مِنَ الذُّنُوبِ كُفْرًا أَوْ شِرْكًا أَو نِفَاقًا؟ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مُؤْمِنِينَ مُذْنِبِينَ.
وأَمَّا حديثُ: ((مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ)) فَهُوَ مُؤَوَّلٌ إِمَّا علَى مُعَامَلَةِ الْمُرْتَدِّ فِي وُجُوبِ القتلِ، وإِمَّا علَى أَنَّهُ مُقَدِّمَةُ الْكُفْرِ؛ لأَنَّ اعتيَادَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَحْدِ، ولو كَانَ تَرَكَهَا كُفْرًا لَمَا أَمَرَ الشَّارِعُ بِقَضَائِهَا دُونَ تجديدِ إِيمَانٍ. انْتَهَى.
وَيَتَرَتَّبُ علَى عَدِمِ التَّكْفِيرِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَهَلْ يُقْطَعُ بِدخولِهِ إِيَّاهَا؟
فِيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا القَاضِي حُسَيْنٌ فِي بَابِ إِمَامَةِ المرأَةِ مِنْ تَعْلِيقِهِ، وقَالَ الْمُتْوَلِّيِّ: ظَاهرُ المَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِهِ، وعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ.
ص: ولَا نُجَوِّزُ الخروجَ عَلَى السُّلْطَانِ.
ش: هذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي العَادلِ، وهو المشهورُ فِي الجَائرِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
ص: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ عذَابَ القبرِ وسُؤَالَ الْمَلَكَيْنِ والصِّرَاطَ وَالميزَانَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةَ وَالنَارَ مَخْلُوقَتَانِ اليومَ.
ش: أَمَّا عذَابُ القَبْرِ وسُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ فَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأَئِمَّةِ، وقَال بِهِ جَمِيعُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعَالَى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} أَيْ: فِي البَرْزَخِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} / (244/أَ/م) وفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} نَزَلَتْ فِي عذَابِ الْقَبْرِ، وَاستعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وتوَاترَتْ بِهِ الأَحَاديثُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصحَابُنَا فِي أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ بَعْدَ إِحيَاءِ الْمَيْتِ بِجُمْلَتِهِ أَوْ بَعْدَ إِحيَاءِ أَقَلَّ جُزْءٍ يَحْتَمِلُ الحيَاةَ وَالعَقْلَ؟
وبِالأَوَّلِ قَالَ الْحُلَيْمِيُّ.
وبِالثَّانِي قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وإِمَامُ الحَرَمَيْنِ.
وَاخْتَلَفَتِ المُعْتَزِلَةُ فِي ذَلِكَ فأَنْكَرَهُ أَكثرُهم، وقَالَ بعضُهم: التَّعذيبُ لِلرُّوحِ دُونَ البدنِ، وقَالَ بعضُهم: يُعَذَّبُ بِلا إِعَادةِ رُوحٍ، فَإِذَا عَادَتْ إِلَيْهِ الرُّوحُ يومَ القيَامةِ ظَهَرَ عَلَيْهِ الأَلَمُ كَمَنْ يطعم بِنْجًا، ثُمَّ يَخْرُجُ لَا يُحِسُّ بِالأَلَمِ إِلَاّ بَعْدَ عَوْدِ إِحسَاسِهِ إِلَيْهِ، وَقَدْ صَحَّ مِنْ حديثِ البَّرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: إِعَادَةُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ. رَوَاهُ أَبُو دَاودَ، وصَحَّحَهُ جمَاعةٌ.
وأَمَّا سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ فهو حَقٌّ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوَا)) قَالَ: ((يَأَتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ؛ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هذَا الرَّجُلِ؟
فأَمَّا المؤمنُ فَيقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جميعًا، وأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ الكَافِرُ فَيقولُ: لَا أَدْرِي: كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ عَنْهُ، فيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ ولَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً
يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَاّ الثَّقَلَيْنِ)) وفِي رِوَايةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: ((يُقَالَ لأَحَدِهِمَا: الْمُنْكِرُ وَالآخَرُ: النَّكِيرُ)) وقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وقَالَ تَاجُ الدِّينِ بْنُ يُونُسَ: مُنْكِرٌ ونَكِيرٌ لِلْمُذْنِبِ؛ لإِنْكَارِهِمَا وأَمَّا الْمُطِيعُ فَمَلَكَاهُ مُبَشِّرٌ وبَشِيرٌ.
وقَوْلُهُ فِي الحديثِ: ((إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ)) يَقْتَضِي اختصَاصُ المُسَاءَلَةُ بِالْمَقْبُورِ، وَالظَاهرُ العمومُ لِلغريقِ وَالحريقِ وأَكِيلِ السِّبَاعِ وَغَيْرِهِمْ.
وَالحديثُ وَرَدَ علَى الغَالبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ.
نَعَمْ، يُسْتَثْنَى من ذَلِكَ الشَّهِيدُ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ/ (244/ب/م)((كَفَى بِبَارِقَةِ السِّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ شَاهدًا)).
وأَمَّا الْحَشْرُ فهو إِحيَاء ُاللَّهِ تعَالَى الْخَلْقَ بَعْدَ الإِمَاتةِ، وجَمْعِهِمْ بَعْدَ التَّفْرِيقِ،/ (197/ب/د) قَالَ تعَالَى:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحدًا} وفِي الصَّحِيحِ حديثُ الْمُسْرِفِ علَى نَفْسِهِ لَمَّا أَوْصَى بِأَنْ يُحْرَقَ، ويُذَرَّ نِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، ونِصْفَهُ فِي الْبَرِّ، فَأَمَرَ اللَّه ُالبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَالبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ـ وفِي روَايةٍ فَقَالَ لِلأَرْضِ:((أَدِّي مَا أَخَذْتِ)) وفِي روَايةٍ: ((قَالَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ أَخَذَ مِنْهُ ـ وقَالَ: كُنْ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائمٌ)).
وَالنَّشْرُ: بَعْثُ اللَّهِ تعَالَى الْخَلْقَ مِنَ القبورِ، وجَمْعِهِمْ جميعًا فِي عَرَصَاتِ القيَامةِ.
وأَنْكَرَ الفلَاسفةُ حَشْرَ الأَجسَادِ ونَشْرَهَا ورَدَّوْهَا إِلَى حَشْرِ الأَروَاحِ، ونُصُوصُ القرآنِ وَالسُّنَّةِ المُتَوَاتِرَةِ صريحةٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ.
وأَمَّا الصِّرَاطُ فهو جِسْرٌ يُضْرَبُ علَى ظَهْرَانِيِّ جَهَنَّمَ يَمَرُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الخلَائقِ، وَقَدْ وَرَدَتُ بِهِ الأَحَاديثُ الصَّحِيحَةُ، وَاستفَاضَتْ، وهو محمولٌ علَى ظَاهرِهِ، وفِي روَايةٍ:((إِنَّهُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ)).
وقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، وإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا فِي صحيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِيِّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ.
قَالَ بعضُهُمْ: ولو ثَبَتَ ذَلِكَ لوُجُوبِ تأَويلِهِ؛ لِيوَافِقَ الحديثَ الآخَرَ فِي قيَامِ الملَائكةِ علَى جَنْبَيْهِ وكَوْنِ الكَلَالِيبِ وَالْحَسَكِ فِيهِ، وإِعْطَاءِ المَارِّ عَلَيْهِ مِنَ النُّورِ قَدْرَ مَوْضِعِ قَدَمِهِ، ومَا هو فِي دِقْةِ الشَّعْرِ لَا يَحْتَمِلُ هذَا؛ فَيُمْكِنُ تأَويلُهُ بِأَنَّ أَمْرَهُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ؛ فَإِن ذَلِكَ يُضْرَبُ مَثَلاً لِلْخَفِيِّ الغَامِضِ، وَوَجْهُ غُمُوضِهِ أَنْ يَسَّرَ الجوَازَ عَلَيْهِ وعَسَّرَهُ علَى قَدْرِ الطَّاعَاتِ وَالمعَاصِي، ولَا يَعْلَمُ حُدُودَ ذَلِكَ إِلَاّ اللَّهُ تعَالَى.
وأَمَّا تَمْثِيلُهُ بِحَدِّ السَّيْفِ فَلإِسرَاعِ الملَائكةِ فِيه إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تعَالَى فِي إِجَازةِ النَّاسِ عَلَيْهِ.
وأَمَّا الميزَانُ فَالمُرَادُ بِهِ نَصْبُ ميزَانٍ ذِي كِفَّتَيْنِ، ولِسَانٍ تُوزَنُ فِيهِ الأَعْمَالُ وَالأَقوَالُ، فَإِمَّا أَنْ تُجَسَّدَ/ (245/أَ/م) الأَعْرَاضُ، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ لِلصُّحُفِ التي كُتِبَتْ فِيهَا الأَعمَالُ، وَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهِ الأَحَاديثُ، وَالمُرَادُ بِهِ تعريفُ العِبَادِ مَقَادِيرَ أَعمَالِهِمْ ـ وأَنْكَرَ المُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ.
وأَمَّا كَوْنُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَخْلُوقَتَيْنِ اليومَ فَلِقَوْلِهِ تعَالَى: {وَجَنَّةٌ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أَعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلكَافِرِينَ}.
وفِي الصَّحِيحَيْنِ: ((اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى ربِّهَا، وقَالَتْ: أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ)) وأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِدُخُولِهِ الْجَنَّةَ، ورُؤْيَتِهِ فِيهَا قَصْرًا لِعُمَرَ، وَرَأَى النَّارَ وفِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قَصَبَهُ وَالْحِمْيَرِيَّةُ التي دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ وَغَيْرِهِمَا.
وَالأَحَاديثُ فِي هذَا المَعْنَى كثيرةٌ، وأَنْكَرَتْ طَائفةٌ مِنَ المُعْتَزِلَةِ وُجُودَهُمَا الآنَ، ثُمَّ مِنْهُم مَنْ أَحَالَ ذَلِكَ عَقْلاً، كَعَبَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ الصَّيْمَرِيِّ، وَمِنْهُم مَنْ جَوَّزَهُ عَقْلاً، وقَالَ: إِنَّمَا عُرِفَ عَدَمُ خِلْقَتِهِمَا سَمْعًا كَعَبْدِ الْجَبَّارِ وأَبِي هَاشِمٍ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ الآنَ، وأَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ إِلَى النَّارِ الآنَ غُدْوَةً وَعَشِيًّا.
وَالقرآنُ يَدُلُّ علَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ السَّابعةِ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى.
ورَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيُّ فِي تَاريخِ أَصْبَهَانَ مِنْ طريقِ عَبِيدِ الْمَكْتَبِ عَنِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ جَهَنَّمَ مُحِيطَةٌ بِالدُّنْيَا وَإِنَّ الْجَنَّةَ مِنْ وَرَائِهَا؛ فَلِذَلِكَ كَانَ الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)).
ص: وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ نَصْبَ إِمَامٍ وَلَوْ مَفْضُولاً.
ش: أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ علَى المُبَادرةِ لِنَصْبِ إِمَامٍ بَعْدَ وَفَاةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ دَفْنِهِ وهو مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِلَاّ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: وُجُوبُهُ بِالشَّرْعِ، وَالمُعْتَزِلَةَ: بِالعَقْلِ.
وقَالَتِ الخوَارجُ: لَا يَجِبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجِبُ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ، دُونَ وقتِ الأَمْنِ، وعَكَسَهُ بعضُهم.
وَخَرَجَ بقولِ المُصَنِّفِ: (علَى النَّاسِ) قَوْلُ الإِمَامِيَّةِ: إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ علَى اللَّهِ تعَالَى.
وأَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ مَفْضُولاً) / (245/ب/م) إِلَى انعقَادِ إِمَامةِ الْمَفْضُولِ، وهو الصَّحِيحُ عِنْدَ جمهورِ أَصحَابِنَا.
وذَهَبَ الأَشْعَرِيُّ وطَائفةٌ مِنْ قُدَمَاءِ أَصحَابِهِ إِلَى مَنْعِهِ؛ فُإِنْ عُقِدَتْ لَهُ مَعَ وُجُودِ أَفْضَلَ مِنْهُ لَمْ تَنْعَقِدْ إِلَاّ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا لَا إِمَامًا فَتَمْضِِي أَحكَامُهُ، وهذَا يَقْتَضِي أَنَّ المَسْأَلَةَ اجتهَاديةٌ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ قَطْعِيَّةً لَقَضَى العَاقِدُونَ لِلْمَفْضُولِ، وَبِهِ صَرَّحَ الإِمَامُ فِي (الإِرْشَادِ).
ص: ولَا يَجِبُ علَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ.
ش: وَمَنْ يُوجِبُ عَلَيْهِ ولَا حُكْمَ إِلا َّلَهُ!
فإِن قِيلَ: هو أَوْجَبَهُ علَى نَفْسِهِ، كمَا فِي قَوْلِهِ:{كَتَبَ علَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وَقَوْلُهُ: {وكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .
قُلْنَا: ذَلِكَ إِحسَانٌ، وتَفَضُّلٌ لَا إِيجَابٌ وَالتزَامٌ، وأَوْجَبَ المُعْتَزِلَةُ علَى اللَّهِ اللُّطْفَ، وهو فَعْلُ مَا يُقَرِّبُ الْعَبْدَ إِلَى الطَّاعةِ وَالثوَابُ علَى الطَّاعةِ وَالعقوبةُ علَى الكبَائرِ قَبْلَ التّوبةِ، وفِعْلُ الأَصْلحِ لِعِبَادِهِ فِي الدّنيَا.
ص: وَالمَعَادُ الجِسْمَانِيُّ بَعْدَ الإِعدَامِ حَقٌّ.
ش: القرآنُ مَشْحُونٌ بِالدِّلَالَةِ علَى ذَلِكَ، قَالَ الإِمَامُ فَخْرُ الدّينِ فِي الأَربعين: الْجَمْعُ بَيْنَ إِنكَارِ الْمَعَادِ الجِسْمَانِيِّ وَبِأَنَّ القرآنَ حَقٌّ مُتَعَذَّرٌ؛ فُإِنَّ نصوصَ الكتَابِ وَالسُّنَّةِ توَاترَتْ بِهِ توَاترًا لَا يَقْبَلُ التّشكيكَ. انْتَهَى.
وإِنَّمَا قَيَّدَ/ (198/أَ/د) المُصَنِّفُ بِالجِسْمَانِيِّ؛ لأَنَّ الأَروَاحَ بَاقيةٌ لَمْ تَقْدُمْ+.
وأَنْكَرَ الفلَاسفةُ وطَائفةٌ مِنَ النّصَارَى المَعَادَ الْجِسْمَانِيِّ وأَثْبَتُوا ذَلِكَ لِلرُّوحِ فَقَطْ، وأَنْكَرَ الدَّهْرِيَّةُ (وَالمَلَاحِدَةُ) الجِسْمَانِيَّ وَالرُّوحَانِيَّ، وتَوَقَّفَ جَالِينُيوسُ فِي هذه المَذَاهِبِ، وحَكَى الإِمَامُ فِي الأَربعينَ إِثبَاتَ المَعَادِ الجِسْمَانِيِّ دُونَ الرُّوحَانِيِّ.
قَالَ الشَّارِحُ: وهذَا لَا يُعْقَلُ.
قُلْتُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الأَروَاحَ لَمْ تَقْدُمْ فِيمَا أُعِيدَ إِلَاّ الأَجسَامَ.
فَإِنْ قُلْتَ: هذَا هو القَوْلُ الأَوَّلُ.
قُلْتُ: قَدْ وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي أَنَّ الأَروَاحَ تَفْنَى عِنْدَ القيَامة ِأَمْ لَا؟ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَجِيءُ مِنْ ذَلِكَ قولَانِ، وَالعَجَبُ مِنْ تَلَقِّي بَعْضِ الجُهَّالِ أَصُولَ دِينِهِ مِنَ الفلَاسفةِ، وَقَدْ زَادُوا علَى عَبَدَةِ الأَوثَانِ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ/ (246/أَ/م) فِي إِنكَارِ المَعَادِ، بِالقولِ بِقِدَمِ العَالَمِ، وعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وكَذَّبُوا جَمِيعَ الأَنبيَاءِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ مُوَالاةِ أَعدَائِهِ.
ص: ونَعْتَقِدُ أَنَّ خَيْرَ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَتُهُ فَعُمَرُ فَعُثْمَانُ فَعَلِيٌّ أُمَرَاءُ المؤمنينَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
ش: أَمَّا كَوْنُ خَيْرِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبَا بَكْرٍ َفهو مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، كَمَا نَقَلَهُ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، ولَا يُقَيَّدُ بِخِلَافِ الرَّوَافِضِ فِي تقديمِهم عَلِيًّا، ولَا بِمُخَالَفَةَ مَنْ فَضَّلَ العَبُّاسَ، وفِي صحيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ.
قَالَ: قُلْتُ
لأَبي: أَيِّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ.
وأَمَّا كَوْنُهُ خَلِيفَةً فَقَدْ كَانَ الصّحَابةُ رضي الله عنهم يُخَاطِبُونَهُ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الإِشَارةِ وَالاسْتِنْبَاطِ لَا بِطريقِ النَّصِّ وَالتصريحِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعَالَى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعرَابِ} الآيَةُ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه هو الذي دَعَا الأَعْرَابَ إِلَى جِهَادِ بَنِي حَنِيفَةَ، وكَانوا أُولِي بَأَسٍ شَدِيدٍ، وقُوتِلُوا لِيُسْلِمُوا لَا لِيَبْذُلُوا الجزيةُ، وكَانَ قتَالُهم بِأَمرِ الصِّدِّيقِ، فَقَالَ:{فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الطَّاعةَ لأَبِي بَكْرٍ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وهي كَالنَّصِّ علَى خلَافَتِهِ.
ومِنْهَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَخْلَفَهُ فِي الصّلَاةِ أَيَامَ مَرَضِهِ، فَيُلْحَقُ بِهَا غيرُهَا؛ ولِذَلِكَ قَالُوا لَهُ: قَدْ رَضِيَكَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاكَ لِدُنْيَانَا؟!
ومِنْهَا: مَا فِي الصّحيحَيْنِ عَنْ جُبَيْرٍ بْنِ مُطْعَمٍ قَالَ: أَتَتْ امْرَأَة ُالنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فقَالَتْ: إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ؟ تَعْنِي الْمَوْتَ ـ فقَالَ: ((إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ)).
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فِي هذَا دَلِيلٌ علَى أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ومِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيضًا عَنْ عَائِشَةَ قُلْتُ: دَخَلَ عَلَيَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ـ
فِي اليومِ الذي بُدِئَ فِيهِ
…
الحَدِيثُ، وفِيهِ:((ادْعُ لِي أَبَاكِ وأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ لأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا/ (246/ب/م) فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، ويَقُولُ قَائِلٌ، ويَأَبَى اللَّهُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَاّ أَبَا بَكْرٍ)).
ومِنهَا: مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، َ رَأَيْتُنِي علَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٍ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاء اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبَى قُحَافَةَ فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ استحَالَتْ غَرَبًا فأَخذَهَا ابْنُ الخَطَّابِ فَلَمْ أََرَ عَبْقِرَيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِع ُنَزْعَ عُمْرَ حتَّى ضَرَبَ النَّاسَ بِعَطَنٍ)).
وَقَوْلُهُ: ((وفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ)) أَشَارَ بِهِ إِلَى قِصَرِ مُدَّتِهِ، وشُغْلِهِ بِالحربِ لأَهلِ الرِّدَّةِ عَنِ الافتتَاحِ.
وَقَوْلُهُ: (ذنَوُبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ) إِشَارةٌ إِلَى مُدَّتِهِ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ سَنَتَيْنِ وأَشْهُرًا، وهو شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى:(ذَنُوبَيْنِ) من غَيْرِ شَكٍّ.
فإِنْ قُلْتُ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ الاستخلَافَ: إِنْ أَسْتَخْلِفُ فَقَدْ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خيرٌ مِنِّي ـ يَعْنِي: أَبَا بَكْرٍ ـ
وإِنْ أَتْرُكُكُمْ فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هو خَيْرٌ مِنِّي ـ يَعْنِي: رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟
قُلْتُ: مُرَادُهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَسْتَخْلِفْ نَصًّا أَوْ تَصْرِيحًا كَمَا قَدَّمْتُهُ.
وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ دَلِيلٌ علَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنُصَّ عَلَى خَلِيفَةٍ، وهو إِجمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ. انْتَهَى.
وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كتَابِ (السِّيَاسَةِ وَالإِمَامَةِ) أَنَّ الْحَسَنَ البَصْرِيِّ سُئِلَ هَلْ اسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ؟ فقَالَ: إِيْ، وَالذي لَا إِلهَ إِلَاّ هو اسْتَخْلَفَهُ، وهو كَانَ أَعْلَمُ بَاللَّهِ، وأَتْقَى لَهُ مِنْ أَنْ يَتَوَثَّبَ عَلَيْهَا لَوْ لَمْ يأَمُرْهُ.
وَاختَارَ ذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ حَزْمٍ.
وأَمَّا كَوْنُ عُمَرَ رضي الله عنه يَلِيَهُ فِي الفضِيلةِ؛ فأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وفِي صحيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي سؤَالِهِ لأَبِيهِ عَنْ خيرِ النَّاسِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: عُمُرُ.
وفِي صحيحِ الْبُخَارِيِّ أَيضًا عَن ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ/ (247/أَ/م).
وهو فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ الأَكثرِينَ.
وفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ: فَيَسْمَعُ ذَلِكَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُنْكِرَهُ علينَا.
وهو صَرِيحٌ فِي الرَّفْعِ، وَالخِلَافُ بَيْنَ عُثْمَانَ وعَلِيٍّ مشهورٌ، وَالأَكثرونَ علَى تفضِيلِ عُثْمَانَ، وحُكِيَ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةَ تفضِيلُ عَلِيٍّ.
وفِي المَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالثٌ بِالْوَقْفِ فِي ذَلِكَ، وهو مَحْكِيٌّ عَنْ مَالكٍ، وقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ علَى أَنَّ أَفضلَ النَّاسِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَبُو/ (199/أَ/د) بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ووَقَفَ أَوَائِلُهم فِي عُثْمَانَ وعَلِيٍّ، قَالَ: فَأَمَّا اليومَ فَلَا تَخْتَلِفُونَ أَنَّ التَّرْتِيبَ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ، قَالَ: وعليه عَامَّةُ أَهْلِ الحديثِ مِنْ زَمَنِ أَحَمْدَ بْنِ حَنْبَلَ، وهَلُمَّ جَرَّا. انْتَهَى.
وَاخْتَلَفَ فِي أَنَّ التَّرتيبَ المذكورَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِيٌّ، وبِالأَوَّلِ قَالَ الأَشْعَرِيُّ، وبِالثَّانِي قَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ، ومِنَ الغريبِ مَا فِي تَعْلِيقِ القَاضِي حُسَيْنٍ فِي
بَابِ إِمَامَةِ المرأَةِ: مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ أَوْ الْخِتْنَيْنِ يَعْنِي الصِّهْرَيْنِ عُثْمَانَ وعَلِيٍّ هَلْ يُكَفَّرُ أَوْ يُفَسَّقُ؟ وجهَانِ.
ص: وبرَاءةُ عَائشةَ مِنْ كُلِّ مَا قُذِفَتْ بِِهِِ.
ش: لأَنَّ القرآنَ العظيمَ نَزَلَ بِبَرَاءَتِهَا، وشَهِدَ بِأَنَّهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ؛ فَمَنْ قَذَفَهَا فَقَدْ كَفَرَ لِتَكْذِيبِهِ القرآنَ.
ص: وَنُمْسِكُ عَمَّا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ ونَرَى الْكُلَّ مأَجورِينَ.
ش: لأَنَّ عدَالَتَهُمْ ثَابِتةٌ بِالنَّصِّ فَلَا يَزُولُ بِالاحتمَالِ وَالاجتهَادِ، ومَا صَدَرَ مِنْهُم مِمَّا قَدْ يُنْكِرُ مِنْ غيرِهِمْ فَهُمْ فِيهِ مأَجورُونَ؛ لأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَصَدُوا بِهِ إِقَامَةَ الدِّينِ فَهُمْ مأَجورُونَ عَلَى اجتهَادِهِمْ، مَنْ وَافَقَ مِنْهُمُ الصَّوَابَ وَمَنْ أَخْطَأَه. ُ
وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولَا نَصِيفَهُ)) وفِي هذَا الحديثِ اليَأْسُ مِنْ بلوغِ مَنْ بَعْدَهُمْ مرتبةَ أَحَدِهِمْ فِي الْفَضْلِ؛ فَإِنَّ هذَا المفروضَ مِنْ مِلْكِ الإِنسَانِ ذَهَبًا بِقَدْرِ أُحُدٍ مُحَالٌ فِي العَادةِ لَمْ يَتَّفِقْ لأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ وإِنفَاقِهِ فِِي وُجُوهِ الْخَيْرِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ الثَّوَابَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ ثوَابُ الوَاحِدِ مِنَ الصّحَابةِ/ (247/ب/م) رضي الله عنهم إِذَا تَصَدَّقَ بِنِصْفِ مُدٍّ وَلَوْ مِنْ شَعِيرٍ، وذلكَ بِالتقريبِ رِبْحُ قَدَحٍ بِالْكَيْلِ الْمِصْرِيِّ، وذلكَ إِذَا طَحَنَ وعَجَنَ لَا يَبْلُغُ رَغِيفًا علَى الْمُعتَادِ، ومَنْ تَدَبَّرَ هذَا الحديثَ لَمْ يَجِدْ فِي مَنَاقِبِ الصَّحَابةِ شيئًا أَبْلَغَ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: وأَنَّ الشَّافِعِيَّ ومَالِكًا وأَبَا حَنِيفَةَ وَالسُّفْيَانَيْنِ وأَحْمَدَ وَالأَوْزَاعِيَّ وإِسْحَاقَ ودَاوُدَ وسَائِرَ أَئِمَّةِ المسلمين علَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ.
ش: خِلَافًا لِمَنْ حَمَلَهُ التَّعَصُّبُ وَالْجَهْلُ علَى القَدْحِ فِي بعضِهم، ومنَاقِبُهُمْ مأَثورةٌ، وفضَائِلُهُمْ مشهورةٌ، ومَنْ طَالَعَ التّوَاريخَ تَيَقَّنَ ذَلِكَ، ويَكْفِي فِي انتشَارِ عِلْمِهِمْ وتَقَرُّرِ جَلَالَتِهِمْ علَى مَدَى الأَزمَانِ، وذلك لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ علَى أَنْ يَصْنَعَهُ لِنَفْسِهِ ولَا لِغيرِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ دَاوُدَ مِنَ الأَئِمَّةِ المتبوعِينَ وعُظِّمَ شَأْنُهُ: ولَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ بَعْضِ أَصحَابِنَا: إِنَّهُ لَا يَتَعَدَّ بِخِلَافِهِ فِي الْفُروعِ علَى الإِطلَاقِ.
ص: وأَنَّ أَبَا الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ إِمَامٌ فِي السُّنَّةِ مُقَدَّمٌ.
ش: وَصَفَهُ بِذَلِكَ الأَئِمَّةُ، فقَالَ الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسمَاعِيلِيِّ: أَعَادَ اللَّهُ هذَا الدِّينَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وأَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ وأَبِي نُعَيْمٍ الإِسْتَرَابَاذِيِّ.
وقَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ: لَوْ أَتَى اللَّهَ/ (199/ب/د) بِقُرَابِ الأَرْضِ ذُنُوبًا رَجَوْتُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ؛ لِدَفْعِهِ عَنْ دِينِهِ.
وقَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ: أَفْضَلُ أَحوَالِي أَنْ أَفْهَمَ كلَامَ أَبِي الْحَسَنِ.
وقَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرِبِيِّ: كَانَتْ المُعْتَزِلَةُ قَدْ رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ حتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ الأَشْعَرِيَّ فَحَجَزَهُمْ فِي أَقمَاعِ السّمَاسِمِ.
وَقَدْ اختلق عَلَيْهِ الْكَرَّامِيَّةُ وَالْحَشَوِيَّةُ أَشيَاءَ أَرَادُوا بِهِ شَيْنَهُ وعَيْبَهُ أَو لَمْ يَفْهَمُوا عَنْهُ مرَادَهُ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ علَى لِسَانِ الحَافظِ أَبِي القَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ فِي كتَابِهِ (تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا نُسِبَ لِلأَشْعَرِيِّ).
وقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ البَاجِيِّ: قَدْ نَاظَرَ ابْنُ عُمَرَ مُنْكِرِي الْقَدَرَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِم بِالحديثِ، ونَاظَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الخَوَارِجَ، ونَاظَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِي
حَفْصًا الْفَرْدَ+، وسَائِرُ الأَئِمَّةِ، وأَلَّفَ فِيهِ مَالكٌ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الأَشْعَرِيُّ، وإِنَّمَا بَيَّنَ الأَشْعَرِيُّ ـ ومَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ـ مَنَاهِجَهُمْ وَوَسَّعَ أَطْنَابَ الأُصُولِ الَّتِي أَصَّلُوهَا فَنُسِبَتْ بِذَلِكَ إِلَيْهِ، كَمَا نُسِبَ/ (248/أَ/م) مَذْهَبُ الْفِقْهِ علَى رأَي أَهْلِ المدينةِ إِلَى مَالكٍ ورأَيِ الكوفِيين إِلَى أَبِي حنيفةَ؛ لَمَّا كَانَ هو الذي صَحَّ مِنْ أَقوَالِهِمْ مَا وَصَّى بِهِ النَّاسَ.
ص: وأَن أَبَا الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ إِمَامٌ فِي السُّنَّةِ مُقَدَّمٌ.
ش: أَشَار بِذَلِكَ إِلَى الْحَضِّ علَى اتِّبَاعِ طريقِ السَّلَفِ الصُّوفِيَّةِ، ونَبْذِ طَرَائِقِ مُتأَخِّرِيهِمُ الفَاسدةِ، التي خرجوا بَابتدَاعِهم فِيهَا عَنِ الحَدِّ، وسَلَّمُوا أَمْرَ دِينِهِمْ لِلْفلَاسفةِ أَو لِلشيطَانِ الرَّجِيمِ، وخَصَّ الْجُنَيْدَ بِالذِّكْرِ لأَنَّهُ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ، ويُحْكَى أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ اجْتَازَ مجلسَه فَسَمِعَ كلَامَه، فقيل له: مَا تقولُ فِي هذَا؟ فقَالَ: لَا أَدْرِي مَا أَقولُ، ولكن أَرَى لهذَا الكلَامِ صَوْلَةً لَيْسَتْ بِصَوْلَةِ مُبْطِلٍ، ثُمَّ صَحِبَهُ ولَازَمَهُ، وكَانَ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الأُصُولِ وَالفروعِ أَذْهَلَ العُقُولَ، ويقولُ: هذَا بِبَرَكَةِ مُجَالَسَِةِ أَبِِي القَاسِمِ.
وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ: إِنَّكَ تُكَلِّمُ علَى كلَامِ كُلِّ أَحَدٍ، وهُنَا رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ الْجُنَيْدُ، فَانْظُرْ هَلْ تَعْتَرِضُ عَلَيْهِ أَمْ لا؟ فَحَضَرَ حَلْقَتَهُ فَسَأَلَ الْجُنَيْدَ عَنِ التَّوْحِيدِ فأَجَابَهُ، فَتَحَيَّرَ عَبْدُ اللَّهِ، وقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ مَا قُلْتَ، فأَعَادَ، ولَكِنْ لَا بِتَلْكَ العِبَارَةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هذَا شَيْءٌ آخَرُ لَمْ أَحْفَظْهُ، أَعِدْهُ عَلَيَّ مَرَّةً أُخْرَى، فأَعَادَهُ بِعبَارةٍ أُخْرَى، فقَالَ عبدُ اللَّهِ: لَيْسَ يُمْكِنَنِي حِفْظُ مَا تقولُ أَمْلِهْ عَلَيَّ، فقَالَ: إِنْ كُنْتَ أَجَزْتَهُ فَأَنَا أَمْلِيهِ، فقَامَ عَبْدُ اللَّهِ، وقَالَ بِفَضْلِهِ وَاعْتَرَفَ بِعُلَوِّ شأَنِهِ.
ومِنْ كلَامِ الْجُنَيْدِ: الطّريقُ إِلَى اللَّهِ عز وجل مَسْدُودٌ علَى خَلْقِهِ إِلَاّ علَى الْمُقْتَفِينَ آثَارَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقَالَ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ القرآنَ، ويَكْتُبِ/ (200/أَ/د) الحديثَ لَمْ
يَقْتَدِ بِهِ فِي هذَا الأَمرِ؛ لأَنَّ عِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالكتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وقَالَ: إِنِي لَيَخْطُرُ لِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إِلَاّ بشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ مِنَ الكتَابِ وَالسُّنَّةِ.
ص: ومِمَّا لَا يَضَرُّ جَهْلُهُ، وتَنْفَعُ معرفَتُهُ ِالأَصَحُّ إِنَّ وُجُودَ الشّيءِ عَيْنُهُ، وقَالَ كثيرٌ مِنْهُم غَيْرَهُ/ (248/ب/م).
ش: شَرَعَ فِي القِسْمِ الثَّانِي مِنْ قِسْمِي أَصُولِ الدِّينِ، وهو مَا لَا يجبُ معرفتُه فِي العقَائدِ، وإِنَّمَا هو مِنْ رِيَاضَاتِهِ، فَيَنْفَعُ معرفتُه ولَا يَضُرُّ جَهْلُهُ؛ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ هَلْ هو عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ أَوْ زَائدٌ عَلَيْهَا؟
وبِالأَوَّلِ قَالَ الأَشْعَرِيُّ.
وَالثَّانِي مَحْكِيٌّ عَنِ المُعْتَزِلَةِ، وَاختَارَهُ الإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ.\
وقَالَ الفلَاسفةُ: هو عَيْنُ المَاهِيَّةِ فِي القديمِ وزَائِدٌ عَلَيْهَا فِي الحَادِثِ.
ص: فَعَلَى الأَصَحِّ الْمَعْدُومِ لَيْسَ بِشَيْءٍ ولَا ذَاتٍ ولَا ثَابِتٍ وكذَا علَى الآخَرِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ.
ش: اخْتُلِْفَ فِي أَنَّ الْمعدومَ؛ هَلْ يُقَالُ له فِي حَالِ عَدَمِهِ: شَيْءٌ، وذَاتٌ، وثَابِتٌ، أَمْ لَا؟
وبِالثَّانِي قَالَ الأَشَاعِرَةُ وأَبُو الْحُسَيْنِ البَصْرِيُّ.
وبِالأَوَّلِ قَالَ أَكْثَرُ المُعْتَزِلَةِ، وَمَحَلِّ الخِلَافِ فِِي المعدومِ الذي هو مُمْكِنُ الوُجُودِ؛ فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعُ الوُجُودِ لِذَاتِهِ كَاجتمَاعِ الضِّدَّيْنِ وقَلْبِ الحقَائقِ فَلَا يُسَمَّى شيئًا، بلَا خلَافٍ.
وَوَجْهُ تَفْرِيعِ هذه المَسْأَلَةِ علَى الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ عَيْنِهِ فَالمعدومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لأَنَّهُ مَتَى زَالَ الوُجُودُ لَزِمَ القَطْعُ بِزَوَالِ المَاهِيَّةِ؛ فَلَوْ كَانَ شيئًا لَزِمَ اجتمَاعُ النّقيضِيْنِ وهُمَا الوُجُودُ وَالعَدَمُ.
وإِنْ قُلْنَا: زَائِدٌ علَى المَاهِيَّةِ فَقِيلَ: إِنَّهُ شَيْءٌ؛ لانْفِكَاكِ أَحَدِهِمَا عَنِ الآخَرِ، وقَالَ الأَكْثَرُونَ: لَيْسَ بِشيْءٍ؛ لِتلَازُمِهِمَا.
ص: وأَنَّ الاسْمَ الْمُسَمَّى.
ش: هذَا قَوْلُ الأَشَاعِرَةِ، وحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى.
وقَالَ المُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ غيرُهُ، وحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تفسيرِهِ: مَرَّ بِي أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنِ الاسْمِ أَهو الْمُسَمَّى؟ فقَالَ: لَيْسَ بِهِ ولَا غَيْرُهُ. يريدُ دَائمًا فِي كُلِّ موضعٍ.
وقَالَ الإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي تفسيرِهِ: إِنْ كَانَ المُرَادُ بِالاسْمِ هذَا اللّفْظَ الذي هو أَصوَاتٌ، وبِالمُسَمَّى تِلْكَ الذَّوَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، فهو غَيْرُ الْمُسَمَّى، وإِنْ كَانَ المُرَادُ بِالاسمِ ذَاِتَ المُسَمَّى، وبِالمُسَمَّى أَيضًا تِلْكَ الذَّاتَ كَانَ قولُنَا: الاسمُ هو المُسَمَّى معنَاه أَنَّ ذَاتَ الشَّيْءِ عَيْنُ ذَاتِ ذَلِكَ الشَّيْءِ/ (249/أَ/م) وهذَا وإِنْ كَانَ حَقًّا، إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الوَاضحَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَوْضَ فِي هذه المَسْأَلَةِ علَى جَمْعِ التَّقْدِيرَاتِ تَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ.
وقَالَ ابْنُ الحَاجِبِ فِي (شَرْحِ الْمُفَصَّلِ): لَا خِلَافَ: أَنَّهُ يُطْلَقُ الاسمُ علَى الْمُسَمَّى وهو التَّسْمِيَةُ، وإِنَّمَا الخِلَافُ هَلْ هو فِي التَّسْمِيَةِ مَجَازٌ، وفِي الْمُسَمَّى حقيقةٌ أَو العَكْسُ؟
وَالأَوَّلُ مَذْهَبُ الأَشْعَرِيِّ.
وَالثَّانِي مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ، وهو خِلَافٌ لَفْظِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بَاعتقَادٍ ولَا بِحقيقةٍ، وفِي القرآنِ ظوَاهرٌ (200/ب/د) فِي المَذْهَبَيْنِ، قَالَ تعَالَى:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ أَسمَاءً} {سَبَّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وعَلَى هذَا مَذْهَبُ الأَشْعَرِيِّ، وقَالَ تعَالَى:{أَنْبِؤُونِي بأَسمَاءِ هَؤُلَاءِ} {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وهذَا علَى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ.
وقَالَ الشَّارِحُ: مَنْشَأُ الخِلَافِ فِي هذه المَسْأَلَةِ أَنَّ المُعْتَزِلَةَ لَمَّا أَحْدَثُوا القَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وأَسمَاءِ اللَّهِ قَالُوا: إِنَّ الاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى؛ تَعْرِيضًا بِأَنَّ أَسمَاءَ اللَّهِ تعَالَى غيرُهُ، وكُلُّ مَا سِوَاهُ مخلوقٌ، كَمَا فَعَلُوا فِي الصِّفَاتِ حيثُ لَمْ يُثْبِتُوا حقَائِقَهَا بَلْ أَحكَامِهَا؛ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الصِّفَةَ غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، فَلَوُ كَانَ لَهُ صفَاتٌ لَزِمَ تعدُّدُ القديمِ، ومَوَّهُوا علَى الضّعفةِ بِأَنَّ الاسمَ مِنْ جِنْسِ الأَلفَاظِ وَالْمُسَمَّى لَيْسَ بِلَفْظٍ.
وقَالُوا: الاسمُ اللَّفْظُ فَلَيْسَ لِلَّهِ فِي الأََزَلِ اسمٌ ولَا صِفَةٌ، فَلَزِمَهُمْ نَفْيُ صِفَةِ الإِلَهِيَّةِ، تعَالَى اللَّهُ عَن ذلكَ.
ولَمَّا رَأَى أَهْلُ الحَقِّ مَا فِي هذه المقَالةِ مِنَ الدّسيسةِ أَنكرُوهَا، ونَفَرُوا عَنْهَا حتَّى قَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يقولُ: إِذَا رأَيْتَ الرَّجُلَ يقولُ: الاسمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَاشهدُوا عَلَيْهِ بِالزَّنْدَقَةِ.
وعَارَضَهُمْ مَنْ قَالَ: الاسمَ هو المُسَمَّى، ولم يقصدُوا بِهِ أَنَّ نَفْسَ اللّفْظِ هو حقيقةُ الذَّاتِ؛ فَإِنَّ فسَادَ ذَلِكَ معلومٌ بِالبديهةِ، وإِنَّمَا قَصَدُوا بِهِ دَفْعَ تَمْوِيهِهِمْ، وأَنَّ الاسمَ حَيْثُ ذُكِرَ بِوَصْفٍ َأَو خَبَرٍ عَنْهُ، فإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْمُسَمَّى، ولَوْلَا هو لَمْ يُذْكَرْ أَصْلاً، وَاستشهدُوا (249/ب/م) بِقَوْلِهِ تعَالَى:{سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وإِنَّمَا سَبَّحَ الرَّبُّ سبحانه وتعالى، وَقَوْلُهُ:{نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ثُمَّ قَالَ: {يَا يَحْيَى} فنَادَى الاسمَ، وإِنَّمَا المَقْصُودُ المُسَمَّى، انْتَهَى.
وقَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو حَامِدٍ بْنُ السُّبْكِيِّ ـ أَخُو المُصَنِّفِ ـ فِي مَا كتَبَهُ الإِمَامُ علَى (مُخْتَصَرِ ابْنِ الحَاجِبِ): وَجْهُ التَّحقيقِ فِيهَا علَى مَا تَلَقَّيْنَاهُ مِنْ أَفوَاهِ مشَايِخِنَا رضي الله عنهم أَنْ يُقَالَ: إِذَا سَمَّيْتَ شيئًا بِاسْم؛ ِ فَالنَّظَرُ فِي ثلَاثةِ أَشيَاءٍ: ذَلِكَ الاسمُ وهو اللَّفْظُ، ومعنَاهُ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ، ومعنَاهُ بعدَ التَّسْمِيَةِ وهو الذَّاتُ التي أُطْلِقَ اللّفْظُ عَلَيْهَا، وَالذَّاتُ وَاللَّفْظُ متغَايرَانِ قَطْعًا، وَالنُّحَاةُ إِنَّمَا يُطْلِقُونَ الاسمَ علَى اللَّفْظِ؛ لأَنَّهم إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الأَلفَاظِ، وهو غَيْرُ الْمُسَمَّى قَطْعًا عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالذَّاتُ هي الْمُسَمَّى عِنْدَ الفريقَيْنِ، وَلَيْسَ هو الاسمُ قَطْعًا، وَالخِلَافُ فِي الأَمْرِ الثَّالِثِ: وهو معنَى اللّفْظِ قَبْلَ التَّلْقِيبِ، فَعَلَى قوَاعدِ المُتَكَلِّمِينَ يُطْلِقُونَ الاسمَ عَلَيْهِ، ويَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ الثَّالِثُ أَمْ لَا؟ فَالخِلَافُ عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ فِي الاسمِ المَعْنَوِيِّ هَلْ هو المسمَّى أَمْ لَا؟ لَا فِي الاسمِ اللّفظِيِّ، وأَمَّا النُّحَاةُ فَلَا يُطْلِقُونَ الاسمَ علَى غَيْرِ اللّفظِ؛ لأَنَّ صِنَاعَتَهُمْ إِنَّمَا تَنْظُرُ فِي الأَلفَاظِ وَالمتكلِّمُ لَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ، ولَا يَمْنُعُ هذَا الإِطلَاقَ؛ لأَنَّهُ إِطلَاقُ الاسْمِ المدلولِ علَى الدَّالِ، ويزيدُ شيئًا آخَرَ وعَاهُ عِلْمُ الكلَامِ إِلَى تحقيقِهِ فِي مسأَلةِ
الأَسمَاءِ وَالصفَاتِ وإِطلَاقِهَا علَى البَارِي تعَالَى، علَى مَا هو مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ.
ومِثَالُ ذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: عَبْدُ اللَّهِ أَنْفُ النَّاقَةِ؛ فَالنُّحَاةُ يُرِيدُونَ بِاللَّقَبِ لَفْظَ أَنْفِ النَّاقَةِ، وَالمتكلمون يريدونَ معنَاه، وهو مَا يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ مدحٍ أَو ذَمٍّ، وَقَوْلُ النُّحَاةِ: إِنّ اللَّقَبَ ـ ويَعْنُونَ بِهِ اللّفْظَ ـ مُشْعِرٌ بِضِعَةٍ/ (201/أَ/د) أَوْ رِفْعَةٍ ـ لَا يُنَافِيهِ؛ لأَنَّ اللّفْظَ يُشْعِرُ لِدلَالَتِهِ علَى المَعْنَى، وَالمَعْنَى فِي الحَقِيقَةِ هو المُقْتَضِي لِلضِّعَةِ أَوِ الرِّفْعَةِ، وذَاتُ عَبْدِ اللَّهِ هي الْمُلَقَّبُ عِنْدَ الفريقَيْنِ، فهذَا تنقيحُ مَحَلِّ الخِلَافِ فِي هذه المسأَلةِ، فَلْيُتَأَمَّلُ؛ فَإِنَّهُ تَنْقِيحٌ حَسَنٌ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الخِلَافَ فِي أَنَّ الاسمَ/ (250/أَ/م) هو المُسَمَّى أَمْ غَيْرُهُ خَاصٌّ بِأَسمَاءِ الأَعلَامِ الْمُشْتَقَّةِ لَا فِي كُلِّ اسمٍ. انْتَهَى.
ص: وأَنَّ أَسمَاءَ اللَّهِ تعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ.
ش: هذَا مَذْهَبُ الأَشْعَرِيِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الأَسمَاءِ وَالصِّفَاتِ إِلَّا إِنْ وَرَدَ التّنصيصُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قِيلَ: يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ القَطْعُ، وَالصَّحِيحُ ـ كمَا قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي (الْمُرْشِدُ) الاكتفَاءُ بِالظوَاهِرِ، وأَخبَارُ الآحَادِ كَسَائرِ الأَحكَامِ، لَكِنْ لَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ القِيَاسُ.
ثُمَّ هَلْ يُكْتَفَى بِالإِطلَاقِ مَرَّةً أَوْ لَا بُدَّ مِنَ التّكرَارِ أَوِ الكثرةِ؟ فِيهِ رأَيَانِ، وذهبَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِلَى جَوَازِ تَسْمِيَتِهِ بِكُلِّ مَا لَاقَ بِجَلَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، إِلَاّ أَنْ يُوهِمَ نَقْصًا.
وَاختَارَ الغَزَالِيُّ الفَرْقَ بَيْنَ الاسمِ وَالصِّفَةِ، فِيُشْتَرَطُ التّوقِيفُ فِي الاسمِ دُونَ الصِّفَةِ.
ص: وأَنَّ الْمَرْءَ يقولُ: أَنَا مؤمنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ خوفًا مِنْ سُوءِ الخَاتمةِ ـ وَالعِيَاذُ بِاللَّهِ ـ لَا شَكًّا فِي الحَالِ.
ش: جَوازُ ذَلِكَ هو قَوْلُ أَكثرِ السَّلَفِ، وحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالمَالِكِيَّةُ وَالحَنَابِلَةُ وَالأَشْعَرِيُّ وَالْمُحَدِّثُونَ، وزَادَ بعضُهم علَى ذَلِكَ فأَوجبَهُ، ومَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وطَائفةٌ، وقَالُوا: هو شَكٌّ، وَالشّكُّ فِي الإِيمَانِ كُفْرٌ.
وحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي (تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ) عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ يقولُ: أَنَا مؤمنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وإِذَا قَالَ: مُسْلِمٌ، لَا يَسْتَثْنِي، وأُجِيبَ عَنْ شُبْهَةِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَكًّا بِأَجوبةٍ:
أَحَدِهَا ـ وعليه اقْتَصَرَ المُصَنِّفُ ـ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ سُوءِ الخَاتمةِ؛ لأَنَّ الأَعمَالَ مُعْتَبَرَةٌ بِهَا، كَمَا أَنَّ الصَّائمَ لَا يَصِحُّ الحُكْمُ عَلَيْهِ بِالصَّوْمِ إِلَاّ آخِرَ النََّهَارِ، فَلَوْ طَرَأَ الْفِطْرُ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا.
وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا يقولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ ولَا يَسْتَثْنِي.
فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: أَهو فِي الجَنَّةِ؟ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: فَهَلَاّ وَكَلْتَ+ الأُولَى كَمَا وَكَلْتَ+ الثَّانِيةَ؟
وَالْعَجَبُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَبِي حَنِيفَةَ لِذَلِكَ، وقَالَ بِهِ مِنَ الحَنَفِيَّةِ الْمَاتُرِيدِيُّ.
ثَانِيهَا: أَنَّ فِي الإِطلَاقِ تزكيةُ النَّفْسِ.
ثَالِثِهَا: التَّبَرُّكُ بِذِكْرِ اللَّهِ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ شَكٌّ، كَقَوْلِهِ تعَالَى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} وقولُهُ عليه الصلاة والسلام: ((وإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ)) / (250/ب/م).
رَابِعِهَا: أَنَّ الْمَشِيئَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى كَمَالِ الإِيمَانِ؛ فَقَدْ يَحِلُّ بِبَعْضِهِ، فَيُسْتَثْنَى
لِذلكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الخِلَافَ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ؛ لاتفَاقِهِمَا علَى أَنَّ أَمْرَ الخَاتمةِ مَجْهُولٌ، وأَنَّ الاعتقَادَ الحَاضِرَ يَضُرُّهُ أَدْنَى تَرَدُّدٍ، وأَنَّ الانتفَاعَ بِهِ مَشْرُوطٌ بِالْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تَسْمِيَتِهِ إِيمَانًا، وهو لَفْظِيٌّ.
ص: وأَنَّ مَلَاذَ الكَافِرَ استدرَاجٌ.
ش: أَيْ: لَا نِعْمَةَ، بَلْ هي كَالْعَسَلِ الْمَسْمُومِ، وهو الْمَحْكِيُّ عَنِ الأَشْعَرِيِّ.
وقَالَ آخرونَ: بَلْ هي نِعَمٌ، ويَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تعَالَى:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} وَقَوْلُهُ: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} وَقِيلَ: بإِثبَاتِ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ دُونَ الدِّينِيَّةِ، وقَالَ القَاضِي أَبُو يَعْلَى/ (201/ب/د) مِنَ الحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِهِمْ.
وقَالَ الآمِدِيُّ فِي (الأَبْكَارِ): لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَصحَابِنَا أَنَّ اللَّهَ تعَالَى لَيْسَ لَهُ علَى مَنْ عَلِمَ إِصْرَارَهُ علَى الْكُفْرِ نِعْمَةٌ دِينِيَّةٌ، وأَمَّا النِّعْمَةُ الدُّنْيَوِيَّةِ فَاختلفوا فِيهَا ولِلأَشْعَرِيِّ قولَانِ، ومَيْلُ القَاضِي أَبِي بَكْرٍ إِلَى الإِثبَاتِ، وأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ علَى أَن لِلَّهِ علَى الكَافرِ النِّعْمَةَ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ.
ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الخِلَافَ لَفْظِيٌّ؛ فَمَنْ نَفَى النِّعَمَ لَا يُنْكِرُ الْمَلَاذَّ فِي الدُّنْيَا وتَحْقِيقَ أَسبَابِ الهدَايةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُسَمِّيهَا نِعَمًا؛ لِمَا يَعْقُبُهَا مِنَ الهلَاكِ، ومَنْ أَثْبَتَ كَوْنَهَا نِعَمًا لَا يُنَازِعُ فِي تَعْقِيبِ الْهَلَاكِ لَهَا غَيْرَ أَنَّهُ سَمَّاهَا نِعَمًا لِلصورةِ.
وفِي (الرِّسَالَةِ) لِلْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ السِّيَارِيِّ: عَطَاؤُهُ علَى نَوْعَيْنِ:
كرَامةٍ، وَاستدرَاجٍ؛ فَمَا أَبْقَاهُ عَلَيْكَ فهو كرَامَةٌ، ومَا أَزَالَهُ عَنْكَ فهو استدرَاجٌ، فَقُلْ: أَنَا مؤمنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ومِنْ ذَلِكَ يَظْهَرُ منَاسبةُ ذِكْرِ المُصَنِّفِ هذه المَسْأَلَةَ عَقِبْ مَا قبْلَهَا.
ص: وأَنَّ المُشَارَ إِلَيْهِ بِأَنَا: الْهَيْكَلُ المخصوصُ.
ش: اخْتُلِفَ فِي حقيقةِ النَّفْسِ الإِنسَانيةِ، وهي مَا يُشِيرُ إِليهَا كُلُّ وَاحِدٍ بِقَوْلِهِ: أَنَا؛ فَقَالَ كثيرٌ مِنَ المتكلمِينَ: هو الْبَدَنُ الْمُعَيَّنُ وَالْهَيْكَلُ المخصوصُ.
وقَالَ الإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي (الْمَطَالِبِ) إِنَّهُ قَوْلُ جمهورِ الْخَلْقِ، وَالمُخْتَارُ عَنْ أَكثرِ المتكلمِينَ؛ لأَنَّ كُلَّ عَاقلٍ إِذَا قِيلَ لَهُ: مَا الإِنسَانُ؟ / (251/أَ/م) يشيرُ إِلَى هذه البِنْيَةِ المخصوصةِ؛ ولأَنَّ الخِطَابَ يَتَوَجَّهُ إِليهَا، وكذَا الثّوَابُ وَالعِقَابُ.
وقَالَ بعضُهم: بَلْ هي اسمٌ لِخُصُوصِ اللّطيفةِ المُودَعَةِ فِيهِ وهي الرُّوحُ، حَكَاهُ الأَشْعَرِيُّ فِي (الْمَقَالاتِ) عَنْ بَعْضِ المُعْتَزِلَةِ، وَالمشهورُ فِي القرآنِ وَاللغةِ الأَوَّلُ، قَالَ تعَالَى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} وَالمخلوقُ مِنَ الطِّينِ إِنَّمَا هو الْبَدَنُ.
قَالَ الشَّارِحُ: وأَعْجَبُ مِنَ المُصَنِّفِ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدِهِمَا اقْتِصَارُهُ علَى إِيرَادِ قَوْلِ الْهَيْكَلِ، مَعَ أَنَّ بعضَهُمْ قَالَ: إِنَّهُ مَبْنِيٌّ علَى إِنكَارِ النُّفُوسِ بَعْدَ المُفَارَقَةِ، وهو قَوْلٌ ضعيفٌ سَبَقَ مِنَ المُصَنِّفِ الْجَزْمُ بِخلَافِهِ.
وَقَدْ سُئِلَ المُصَنِّفُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ المسأَلتَيْنِ فَقَالَ: لَا ارتبَاطَ بَيْنَهُمَا حتَّى يُسأَلَ عَنِ الجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وفِيهِ نَظَرٌ: فَإِنَّ القَائِلَ بِأَنَّ النَّفْسَ المُشَارَ إِلَيْهِ إِنَّمَا هو الهَيْكَلُ، إِذَا كَانَ حيًّا، وبِزَوَالِ الحيَاةِ يَزُولُ التّركيبُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُ اختيَارُ الإِمسَاكِ عَنِ الكلَام فِي الرُّوحِ فَكَيْفَ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا هُنَا؟
وَانْفَصَلَ المُصَنِّفُ عَنْ هذَا بِأَنَّهُمَا مسأَلتَانِ.
إِحْدَاهُمَا فِي حقيقةِ الرُّوحِ؛ هَلْ هي عَرَضٌ أَو جَوْهَرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَقوَالِ، وهو موضعٌ مَا سُكِتَ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ المُشَارَ إِلَيْهِ بِـ (أَنَا) هَلْ هو هذه الجُثَّةُ أَوِ الرُّوحُ؟ فَمَنْ قَالَ: الرُّوحُ الْجُثَّةُ فَلَا إِشكَالَ عِنْدَهُ، وأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّهَا الجُثَّةُ، وهو الذي يَقْطَعُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ يقولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الرُّوحِ غَيْرَ الْجُثَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ المُشَارُ إِلَيْهِ بـ (أَنَا) الْجُثَّةَ، بَلِ المُشَارُ إِلَيْهِ بـ (أَنَا) الْجُثَّةُ، إِذَا كَانَتِ النّفْسُ قَائمةٌ بِهَا؛ لِتَخْرُجَ جُثَّةُ الْمَيِّتِ.
قَالَ الشَّارِحُ: ولَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّعَسُّفِ مِنْ خُرُوجِهِ عَنْ طريقةِ النَّاسِ فِي حِكَايةِ هذَا الْمَذْهَبِ.
ص: وأَنَّ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ ـ وهو الْجُزْءُ الذي لَا يَتَجَزَّأُ ـ ثَابِتٌ.
ش: مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجزَاءٍ لَا تَتَجَزَّأُ بِالْفِعْلِ ولَا بِالْوَهْمِ لِلْعَجْزِ عَنْ تَمْيِيزِ طَرَفٍ مِنْهَا، ولَا بِالْفَرْضِ لاستلزَامِ خلَافَ/ (202/أَ/د) الْمَقْدُورِ، ويُسَمَّى كُلٌّ مِنْ تِلْكَ الأَجْزَاءِ جَوْهَرًا فَرْدًا، وخَالفَ فِي ذَلِكَ مُعْظَمُ الفلَاسفةِ وَالنَّظَّامُ وَالْكِنْدِيُّ/ (251/ب/م) مِنَ المُعْتَزِلَةِ؛ فَقَالُوا: بِتقديرِ أَنْ يَنْتَهِي إِلَى حَدَّ ٍ
لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ بِالفِعْلِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لَهَا فِي الْوَهْمِ وَالتَّعَقُّلِ، وهو مَذْهَبٌ فَاسدٌ؛ لأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى وُجُودِ اتصَالاتٍ لَا نِهَايةَ لَهَا، ويُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَكُونَ أَجزَاءُ الْخَرْدَلَةِ مُسَاوِيَةً لِأَجزَاءِ الْجَبَلِ؛ لأَنَّ كُلَّ وَاحدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَنَاهَى، وإِذَا حَكَمَ الْوَهْمُ علَى الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ بِالانقسَامِ، وحَكَمَ العَقْلُ بإِحَالتِه لِقيَامِ الدَّلِيلِ علَى ذَلِكَ أَيُقَدَّمُ الْوَهْمُ علَى العَقْلِ؟
ووَقَفَ الإِمَامُ فِي هذه المسأَلةِ، وهو مُقْتَضَى كلَامُ إِمَامِ الحَرَمَيْنِ، وَالْقُصْدُ بِإِثبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ أَنَّهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ حَدَثِ الْعَالَمِ؛ فَإِنَّ الْجِسْمَ إِذَا أَثْبَتَ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجزَاءٍ مُفْرَدَةٍَ استحَالَ خُلَوِّهِ عَنِ الأَلوَانِ التي هي عبَارةٌ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالاجتمَاعِ وَالافترَاقِ، وهي معَانٍ حَادثةٌ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنِ الأَلوَانِ الحَادثةِ لَا يَسْبِقُهَا، ومَا لَا يَسْبِقُ الحَادثةَ فهو حَادثٌ، أَوْ يُؤَدِّي إِلَى مَا لَا أَوَّلَ لَهُ مِنَ الحوَادثِ وهو مُحَالٌ.
ص: وأَنَّهُ لَا حَالَ، أَيْ: لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الموجودِ وَالمعدومِ خِلَافًا لِلقَاضِي وإِمَامِ الحَرَمَيْنِ.
ش: الجُمْهُورُ علَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَوْجِودِ وَالمعدومِ، وأَثْبَتَ المُعْتَزِلَةُ بَيْنَهُمَا وَاسطةً، سَمَّوْهَا بِالحَالِ، وعَرَّفُوهَا بِأَنَّهَا صفةٌ لِموجودٍ، لَا يُوصَفُ بِوجودٍ ولَا عدمٍ، أَيْ: أَنَّهَا غَيْرُ مَوْجُودةٍ فِي الأَعْيَانِ ولَا مَعْدُومةٍ فِي الأَذهَانِ، وَحَكَاهُ المُصَنِّفُ عَنِ القَاضِي أَبِي بَكْرٍ وإِمَامِ الحَرَمَيْنِ؛ فأَمَّا القَاضِي فهو أَحَدُ قَوْلَيْهِ كَمَا قَالَهُ الآمِدِيُّ، وأَمَّا إِمَامُ الحَرَمَيْنِ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وقَالَ فِي كتَابِهِ المُسَمَّى بـ (المَدَارِكِ) اخترْنَا فِي (الشَّامِلِ) الْمَشْيَ علَى أَسَاليبِ الكلَامِ فِي القَطْعِ بإِثبَاتِ الأَحوَالِ، ونحنُ الآنَ نَقْطَعُ بِنَفْيِهَا، وَاحْتَجَّ الإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ علَى نَفْيِهَا بِأَنَّ تِلْكَ الوَاسطةَ إِنْ كَانَ لَهَا ثُبُوتٌ بِوَجْهٍ مَا كَانَتْ مَوْجُودةٌ وإِنْ لَمْ تَكُنْ فَمَعْدُومَةٌ،
وأَشَارَ فِي (الطَّوَالِعِ) إِلَى أَنَّ البحثَ لَفْظِيٌّ.
ص: وأَنَّ النِّسَبَ وَالإِضَافَاتِ أُمُورٌ اعتبَاريةٌ لَا وُجُودِيَّةٌ.
ش: هذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، لَكِنِ اسْتَثْنَوا مِنْ ذَلِكَ الأَيْنَ كَمَا/ (252/أَ/م) فِي (الطَّوَالِعِ) وَغَيْرِهِ، وهو حُصُولُ الجِسْمِ فِي المكَانِ؛ فَقَالُوا بِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ، وقَالَتِ الفلَاسفةُ: هي وُجُودِيَّةٌ.
ص: وأَنَّ الْعَرَضَ لَا يقومُ بِالعَرَضِ ولَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ ولَا يَحِلُّ مَحَلَّيْنِ.
ش: فِيهِ مَسَائِلُ:
الأَولَى: أَنَّ الْعَرَضَ ـ وهو مَا لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، ومَا يَفْتَقِرُ فِي وُجُودِهِ إِلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ كَالحركةِ وَالسُّكُونِ، وَالبَيَاضِ وَالسَّوَادِ ـ لَا يقومُ بِالعَرَضِ؛ لأَنَّ الْعَرَضَ مَا لَا يقومُ بِنَفْسِهِ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى مَحَلٍّ يقومُ بِهِ كَالْجِسْمِ؛ فَلَوْ قَام َالْعَرَضُ بِعَرَضٍ لَكَانَ الْمَحَلُّ جَوْهَرًا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَرَضًا لَا عَرَضًا وجِسْمًا لَا جِسْمًا، وهو مُحَالٌ.
وجَوَّزَتِ الفلَاسفةُ قِيَامَ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ، وَاختَارَهُ الإِمَامُ فِي (المَحْصُولِ) لأَنَّ السُّرْعَةَ وَالْبُطْءِ عَرَضَانِ قَائمَانِ بِالحركةِ، ولَيْسَا بِقَائِمَيْنِ بِالجِسْمِ؛ إِذْ يُقَالَ: جسمٌ بَطِيءٌ فِي حركتِهِ، ولَا يُقَالُ: بَطِيءٌ فِي جِسْمِيَّتِهِ.
وأَجَابَ الأَوَّلُونَ بِأَنَّ السُّرْعَةَ وَالْبُطْءِ قَائمَانِ بِالْمُتَحِرِّكِ بِوَاسِطَةِ الحركةِ لَا بِنَفْسِ الحركةِ؛ فَالأَعرَاضُ إِنَّمَا تقومُ بِالجوَاهرِ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِلَا وَاسطةٍ، كَالحركةِ وَقَدْ يَكُونُ بِوَاسطةٍ كَالسرعةِ قَامَتْ بِالجوهرِ بِوَاسطةِ الحركةِ.
الثَانِيَةُ ـ وهي مَبْنِيَّةٌ علَى الَّتِي قَبْلَهَا ـ: أَنَّ العَرَضَ لَا يَبْقَى زمَانَيْنِ، بَلْ يَفْنَى ذَلِكَ العَرَضُ ويَخْلُفُهُ غيرُهُ، هذَا مَذْهَبُ الأَشَاعِرَةِ، ورَتَّبُوا عَلَيْهِ نَفْيَ قِدَمِ العَالَمِ؛ لأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْقَ زَمَنَيْنِ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ بَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى اللَّهِ علَى مُرُورِ الأَزْمَانِ، وإِليهِ الإِشَارةُ بِقَوْلِهِ تعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} فَالجْوهَرُ مُفْتَقِرٌ إِلَى الفَاعلِ/ (202/ب/د) فِي إِيجَادِهِ، ثُمَّ فِي بَقَائِهِ وإِمدَادِهِ بِأَعرَاضِهِ، فَلَوْ بَقِيَ العَرَضُ لَمَا احتَاجَ إِلَى فَاعلٍ.
وذَهَبَ الفلَاسفةُ إِلَى بَقَاءِ جَمِيعِ الأَعرَاضِ دُونَ الأَزمِنَةِ وَالحركَاتِ، وذَهَبَ الْجُبَّائِيِّ وَابْنُهُ إِلَى بَقَاءِ الأَلوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، دُونَ العُلُومِ وَالإِرَادَاتِ وَالأَصوَاتِ.
الثَالثةُ: أَنَّ العَرَضَ الوَاحِدَ لَا يَحِلُّ مَحَلَّيْنِ خِلَافًا لأَبِي هَاشِمٍ؛ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ التّأَلُّفَ عَرَضٌ وَاحدٌ حَالٌّ فِي مَحَلَّيْنِ، ووَافَقَ علَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ بَقَاؤُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَحَلَّيْنِ، وَاحْتَجَّ أَصحَابُنَا بِأَنَّهُ لو جَازَ/ (252/ب/م) قِيَامُ العَرَضِ الوَاحِدِ بِمَحَلَّيْنِ لأَمْكَنَ حُلُولُ الْجِسْمِ الوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ فِي حَالةِ وَاحدةٍ، وهو مُحَالٌ.
ص: وأَنَّ الْمِثْلَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ كَالضِّدَّيْنِ بِخِلَافِ الخِلَافِيْنِ، أَمَّا النَّقِيضَانِ فَلا يَجْتَمِعَانِ ولَا يَرْتَفِعَانِ.
ش: المعلومَاتُ تَنْحَصِرُ فِي الْمِثْلَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ وَالخِلَافِيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ؛ لأَنَّ الْمُعْلُومَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ اجتمَاعُهمَا فُهُمَا الخِلَافَانِ، وإِنْ لَمْ يُمْكِنْ؛ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ارتفَاعُهُمَا فَهُمَا النَّقِيضَانِ؛ فَإِنْ أَمْكَنَ ارتفَاعُهُمَا فَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الحَقِيقَةِ أَمْ لَا، وَالأَوَّلُ الضّدَانِ، وَالثَّانِي: الْمِثْلَانِ، ونَذْكُرُهُمَا علَى تَرْتِيبِ المُصَنِّفِ:
فَالأَوَّلُ: المِثْلَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ ويُمْكِنُ ارتفَاعُهُمَا كَالبَيَاضِ وَالبَيَاضُ، وَاحْتَجَّ أَصحَابُنَا علَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ بِأَنَّ الْمَحَلَّ لو قَبْلَ الْمِثْلَيْنِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ يَقْبَلُ
الضِّدَّيْنِ؛ فَإِنَّ القَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ، أَو عَنْ مِثْلِهِ، أَوْ ضِدِّهِ، فَلَوْ قَبِلَ الْمِثْلَيْنِ لَجَازَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا فِي الْمَحَلِّ وَانتفَاءِ الآخَرِ، فَيُخَلِّفَهُ ضِدَّهُ، فَيَجْتَمِعُ الضَّدَّانِ وهو مُحَالٌ.
الثَّانِي: الضّدَّانِ كَذَلِكَ، لَا يَجْتَمِعَانِ، وَقَدْ يَرْتَفِعَانِ؛ فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ مَثَّلَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ وَالحيَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ارتفَاعُهُمَا عَنِ الحيوَانِ.
قُلْتُ: يُمْكِنُ ارتفَاعُهُمَا بَانْعِدَامِ الحيوَانِ، وإِنَّمَا لَا يرتفعَانِ مَعَ وُجُودِهِ.
الثَّالِثُ: الخِلَافَانِ، وهُمَا اللّذَانِ يَجْتَمِعَانِ ويَرْتَفِعَانِ كَالكلَامِ وَالْعُقُودِ.
الرَابِعُ: النَّقيضَانِ، وهُمَا اللّذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ ولَا يرتفعَانِ كَوُجُودِ زَيْدٍ وعَدَمِهِ.
ص: وأَنَّ أَحَدَ طَرَفِيِّ الْمُمْكِنِ لَيْسَ أَوْلَى بِهِ.
ش: الصُّحِيحُ أَنَّ أَحَدَ طَرَفِيِّ المُمْكِنِ مِنَ الوُجُودِ وَالعَدَمِ لَيْسَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الطَّرَفِ الآخَرِ؛ فَإِنَّه لو كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ وتَحَقَّقَ سَبَبُ الطُّرَفِ الآخَرِ؛ فَإِنْ لَمْ تَبْقَ تِلْكَ الأَوْلَوِيَّةُ لَا تكونُ تِلْكَ مِنْ ذَاتِهِ، وإِنْ بَقِيَتْ فَإِنْ لَمْ يَضُرَّ الطَّرَفُ الآخَرُ أَوْلَى بِهِ لَمْ يكنْ السَّبَبُ سببًا، وإِنْ صَارَ فَيَكُونُ كِلَا الطّرفَيْنِ أَوْلَى، لَكِنَّ أَحَدَهُمَا بِالذَّاتِ وَالآخَرُ بِالْغَيْرِ، ومَا بِالذَّاتِ أَقْوَى؛ فَإِنْ تَحَقَّقَ الطَّرَفُ الآخَرُ كَانَ مَا بِالْغَيْرِ أَقْوَى، وإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ سَبَبًا.
وَقِيلَ: الْعَدَمُ أَوْلَى بِهِ/ (253/أَ/م) بِذَاتِهِ.
وَقِيلَ: الْعَدَمُ أَوْلَى بِالموجودَاتِ السَّيَّالَةِ لِذَاتِهَا وهو الزَّمَانُ وَالحركةُ وَالصَّوْتُ وعوَارِضُهَا.
وَقِيلَ: الوَاقِعُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْلَى بِهِ.
وَقِيلَ: الوُجُودُ أَوْلَى عِنْدَ وُجُودِ العِلَّةِ دُونَ الشَّرْطِ.
ص: وأَنَّ البَاقِي مُحْتَاجٌ إِلَى السَّبَبِ وَيَنْبَنِي علَى أَنَّ عِلَّةَ احتيَاجِ الأَثَرِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ الإِمكَانُ أَوِ الْحُدُوثِ أَوْ هُمَا جَزْءَا عِلَّةٍ أَوِ الإِمكَانُ بِشَرْطِ الْحُدُوثِ وهي أَقْوَالٌ.
ش: الأَكثرونَ علَى أَنَّ الْمُمْكِنَ حَالةَ بَقَائِهِ يَحْتَاجُ إِلَى السَّبَبِ المُؤَثِّرِ، كَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ابتدَاءِ وُجُودِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَدُومُ ذَلِكَ الوُجُودُ لِدَوَامِ ذَلِكَ الْمُؤَثِرِ الأَوَّلِ، وخَالَفَ فِيهِ الفَلَاسفةُ حتَّى رَتَّبَ بعضُهم علَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الفِعْلُ مِنَ الفَاعلِ لَمْ يَبْقَ إِلَى الفَاعلِ حَاجةٌ كَبَقَاءِ البِنَاءِ بَعْدَ البنَاءِ، ورَكِبُوا فِي ذَلِكَ أَمرًا شَنِيعًا، وهو أَنَّهُ لو جَازَ عَدَمُ الصَّانِعِ لَمَا ضَرَّ ذَلِكَ وُجُودُ العَالَمَ؛ فإِنَّه قَدْ أَخْرَجَهُ مِنَ العَدَمِ إِلَى الوُجُودِ، فَانْقَضَتْ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ/ (203/أَ/د) وهذَا الخِلَافُ مَبْنِيٌّ علَى الخِلَافِ فِي مسأَلةٍ أُخْرَى، وهي أَنَّ عِلَّةَ احتيَاجِ الأَثَرِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ مَاذَا؟ وفِيه مَذَاهِبُ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا الإِمْكَانُ، وهو اختيَارُ الإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِي، وَحَكَاهُ عَنْ أَكْثَرِ الأُصُولِيِّينَ.
الثَّانِي: أَنَّهَا الحُدُوثُ، وهو الخُرُوجُ مِنَ العَدَمِ إِلَى الوُجُودِ، وعَلَيْهِ رُتِّبَ ذَلِكَ الأَمْرُ الشَّنِيعُ الذي ذَكَرْنَاهُ قريبًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا المجموعُ مِنْهُمَا فَهِي مُرَكَّبَةٌ.
الرَابِعُ: أَنَّ العِلَّةَ الإِمْكَانُ فَقَطْ، وَالْحُدُوثُ شَرْطٌ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الحُدُوثَ (هو كَوْنُ الوُجُودِ) مسبوقًا بِعَدَمٍ، وَالإِمكَانُ كَوْنُ الشّيْءِ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ ولَا عَدَمُهُ امتنَاعًا وَاجبًا ذَاتِيًّا.
ص: وَالمَكَانُ قِيلَ: السَّطْحُ البَاطِنُ لِلحَاوِي الْمُمَاسِّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِر مِنَ الْمَحْوِيِّ فِيهِ، وَقِيلَ: بَعْدَ مَوْجُودٍ يَنْفَذُ فِيهِ الْجِسْمُ، وَقِيلَ: بَعْدَ مَفْرُوضٍ وَالبُعْدُ الخَلَاءُ.
ش: ذَكَرَ المُصَنِّفُ هُنَا مِنْ عِلْمِ الحِكْمَةِ ثلَاثةُ أُمُورٍ: الْمَكَانُ وَالخلَاءُ، وَالزَّمَانُ.
وأَمَّا المَكَانُ فَنَقَلَ فِيهِ المُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَقوَالٍ:
أَحَدِهَا: أَنَّهُ السَّطْحُ البَاطِنُ لِلْجِسْمِ الحَاوِي المُمَاسِّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنَ الجِسْمِ المَحْوِيِّ، كَالسَّطْحِ البَاطِنِ مِنَ الكَوْنِ المُمَاسِّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِر مِنَ المَاءِ/ (253/ب/د) الذي فِيهِ، وهو علَى هذَا عَرَضٌ؛ لأَنَّ السَّطْحَ عَرَضٌ فَهُوَ المُنَاسَبَةُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجِسْمَيْنِ وإِلَى هذَا مَالَ الغَزَالِيُّ فِي كتَابِ (مَقَاصِدِ الفَلَاسِفَةِ) وقَالَ: إِنَّهُ الذي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ أَرِسْطَاطَالِيسَ، ورَجَعَ إِلَيْهِ الْكُلُّ.
وقَالَ الإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: قَالَ بِهِ أَرِسْطَاطَالِيسُ وجمهورُ أَتبَاعِهِ كَالفَارَابِيِّ وَابْنُ سِينَا.
وقَالَ الآمِدِيُّ فِي (الأَبْكَارِ) إِنَّهُ الأَشْبَهُ علَى أَصُولِ الفَلَاسِفَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ بَعْدَ مَوْجُودٍ يَنْفَذُ فِيهِ ذَاتُ الْجِسْمِ، ويَسْرِي فِيهِ، وهو مَحْكِيٌّ عَنْ أَفلَاطُونَ وَغَيْرُهُ.
الثَّالِثِ: أَنَّهُ بَعْدَ مفروضٍ مُقَدَّرٍ، وهو قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ المكَانِ مِنْ قُدَمَاءِ الفلَاسفةِ، ونُسِبَ إِلَى جَحْدِ الضَّرُورِيَّاتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ المُصَنِّفُ أَنَّ الْبُعْدَ هو الْخَلَاءُ، فَيَكُونُ المكَانُ علَى الْقَوْلَيْنِ الآخَرَيْنِ خَلَاءً مَوْجُودًا ومُقَدَّرًا.
قَالَ الإِمَامُ: القَائلونَ بِأَنَّ المكَانَ هو الفَضَاءُ فَرِيقَانِ.
أَحَدُهُمَا: الْمُتَكَلِّمُونَ، يقولُونَ: هذَا الفَضَاءُ وَالخَلَاءُ عَدَمٌ مَحْضٌ ونَفْيٌ صِرْفٌ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ الْبَتَّةَ.
الثَانِيَةُ: الفلَاسفةُ، يقولونَ: هذَا الخَلَاءُ أَبْعَادٌ مَوْجُودةٌ قَائمةٌ بِنَفْسِهَا وهي أَمْكِنَةُ الأَجسَام، وهو اختيَارُ أَفْلَاطُونَ وَغَيْرِه، ثُمَّ اختَلفوا فقِيلَ: لَا امتنَاعٌ
فِي بقَاءِ هذَا الفَضَاءِ خَالِيًا عَنِ الأَجْسَامِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُمْتَنَعٌ. انْتَهَى.
هذَا كلَامُ أَهْلِ العِلْمِ الطَّبِيعِيِّ، وأَمَّا بِالنِّسَبَةِ لِلْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ فَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: المكَانُ مَا اسْتُقِرَّ فِيهِ، أَو تُصُرِّفَ عَلَيْهِ؛ لأَنَّ التُّصَرُّفَ هو الأَخْذُ فِي جِهَاتٍ مختلفةٍ كَتَصَرُّفِ الرِّيَاحِ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: المكَانُ مَا وُجِدَ فِيهِ سُكُونٌ أَوْ حركةٌ.
قَالُوا: وَالسُّكُونُ هو الحُصُولُ فِي حَيْزٍ أَكْثَرَ مِنْ زمَانٍ وَاحدٍ.
وَالحركةُ انتقَالٌ مِنْ حَيِّزٍ إِلَى حَيِّزٍ، ووَزْنُهُ (فَعَال) مِنَ التُّمَكُّنِ؛ فَالمِيمُ فِيهِ أَصليةٌ كَالسينِ فِي سَحَابٍ.
وأَنْكَرَ علَى الْجَوْهَرِيِّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ (مَفْعَل) مِنَ الكونِ، كَالْمَقَالِ مِنَ الْمَقُولِ؛ لأَنَّهُمْ قَالُوا فِي جَمْعِهِ: أَمْكُنٌ وأَمْكِنَةٌ وأَمَاكِنٌ، وأَفْعُل وأَفْعِلَة وأَفَاعِلَ، إِنَّمَا هِيَ لِجَمْعِ مَا الفَاءُ أَوَّلُهُ؛ ولأَنَّهُمْ قَالُوا:(تَمَكَّنَ، ولَوْ كَانَ مِنَ الكَوْنِ لَقَالُوا: تَكُونُ كَتَقُولُ مِنَ القَوْلِ) فَأَمَّا تَمَسْكَنَ وتَمَدْرَعَ فَقَلِيلٌ.
ص: وَالخَلَاءُ جَائزٌ، وَالمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُ/ (254/أَ/م) الْجِسْمَيْنِ لَا يَتَمَاسَّانِ ولَا بَيْنَهُمَا مَا يُمَاسُّهُمَا.
ش: إِنَّمَا ذَكَرَ المُصَنِّفُ الخَلَاءَ بَعْدِ ذِكْرِ المكَانِ لِقَوْلِ بعضِهم: إِنَّ الْمَكَانَ هو الخَلَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ، وعَرَّفَهُ بِحُصُولِ جِسْمَيْنِ لَا يَتَلَاقَيَانِ، ولَا يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا مَا لَا يلَاقِيهِمَا، وَهَلْ هو وُجُودِيٌّ أَوْ عَدَمِيٌّ؟ فِيهِ خِلافٌ تَقَدَّمَ، وَالأَكثرونَ علَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَاخلُ العَالَمِ وخَارجُهَ خلَاءً، وَبِهِ قَالَ قدمَاءُ الفلَاسفةِ، وأَنْكَرَ مُتَأَخِّرُوهُمْ وُجُودَهُ.
ص: وَالزَّمَانُ، قِيلَ: جَوْهَرٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولَا جِسْمَانِيٍّ، وَقِيلَ: فَلَكُ مَعْدِلِ (202/ب/د) النّهَارِ، وَقِيلَ: عَرَضٌ فَقِيلَ: حركةُ مَعْدِلِ النِّهَارِ، وَقِيلَ:
مِقدَارُ الحركةِ، وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ مُقَارَنَةُ مُتَجَدِّدٍ مَوْهُومٍ لِمُتَجَدِّدٍ معلومٍ؛ إِزَالةً للإِبْهَامِ.
ش: وفِي تَعْرِيفِ الزّمَانِ أَقوَالٌ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ جوهرٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولَا جِسْمَانِيٍّ، وَاسْتُدِلَّ علَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ قريبًا مِنْ جِسْمٍ وبعيدًا مِنْ آخَرَ، وَبَدِيهَةُ العَقْلِ شَاهدةٌ بِأَنَّ نِسْبَةَ جَمِيعِ الزّمَانِ إِلَى جَمِيعِ الأَشيَاءِ علَى السَّوِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: ولَا جِسْمَانِيٍّ، أَيْ: حَالٌّ فِي الجسمِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ لَيْسَ حَالاًّ فِي جسمٍ، وَاختَارَهُ الإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي (الْمَطَالِبِ) وَغَيْرِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ فَلَكُ مَعْدِلُ النّهَارِ، وهو علَى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ جَوْهَرٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ حركةُ مَعْدِلِ النّهَارِ، وقَالَ الْمَعَرِّيُّ فِي (رِسَالَةِ الْغُفْرَانِ): هذَا لَفْظٌ لَا حقيقةَ لَهُ.
الرَابِعُ: أَنَّهُ مِقْدَار حركةِ الفَلَكِ.
الخَامِسُ: وَاختَارَهُ المُصَنِّفُ ـ أَنَّهُ مقَارنةُ مُتَجَدِّدٍ موهومٍ لِمُتَجَدِّدٍ معلومٍ؛ إِزَالةً للإِبهَامِ، وإِليهِ مَالَ الآمِدِيُّ فِي (الأَبْكَارِ) قَالَ: ولَا بُعْدَ فِي قَوْلِ القَائلِ: كُلُّ الزّمَانِ هو مَا يُقَدِّرُهُ الْمُقَدِّرُ، ويَفْرِضُهُ الفَارِضُ مِنْ مُقَارنةِ مَوْجُودٍ لِموجودٍ قَالَ: وهو مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِم: كَانَ كَذَا وقتَ طلوعِ الشّمسِ، أَيْ: أَنَّهُ قَارنُ وُجُودَه طلوعُهَا، وهذه الأَقوَالُ الثّلَاثةُ الأَخيرةُ متفقةٌ علَى أَنَّهُ عَرَضٌ.
ص: ويُمْتَنَعُ تدَاخُلُ الأَجسَامِ.
ش: معنَى تدَاخُلِ الأَجسَامِ وُجُودُ جَوْهَرٍ تَحْتَ وُجُودِهِ جوَاهِرُ أُخَرُ، ولم يخَالِفْ/ (254/ب/م) فِي ذَلِكَ إِلَاّ النَّظَّامُ فَقَالَ: اللَّوْنُ وَالطَعْمُ وَالرَائحةُ كُلٌّ مِنْهَا جسمٌ لَطِيفٌ، فَإِذَا تدَاخَلَتْ هذه الأَجسَامُ اللّطيفةُ حَصَلَ مِنْ مجموعِهَا جسمٌ كَثِيفٌ.
وقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي حديثِ إِرسَالِ المَلَكِ إِلَى الرَّحِمِ؛ لِيَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ: وهذَا يَرُدُّ علَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الجَوْهَرَ لَا يدخلُ فِي جوهرٍ؛ لأَنَّ الْمَلَكَ جَوْهَرٌ، ويَدْخُلُ فِي الرَّحِمِ لِيُصَوِّرَ، وَالرَّحِمُ جوهرٌ، ولَا يَشْعُرُ صَاحبُه بِهِ.
قُلْتُ: قَدْ يُقَالَ: إِنَّمَا دَخَلَ جوهرُ الْمَلَكِ فِي فضَاءِ الرّحِمِ، فلم يَلْزَمْ مِنْهُ تدَاخلُ الأَجسَامِ، وإِنَّمَا هو دخولُ مظروفٍ فِي ظَرْفٍ كَدُخُولِ الإِنسَانِ بيتًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: وخُلُوُّ الْجَوْهَرِ عَنْ جَمِيعِ الأَعرَاضِ.
ش: مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ خُلُوِّ جَوْهَرٍ َعَنْ عَرَضٍ مِنَ الأَعرَاضِ، بَلْ يَلْزَمُ قِيَامُ عَرَضٍ بِهِ، وخَالَفَ فِيهِ بَعْضُ الفلَاسفةِ؛ لِقولِهم بِقِدَمِ الجوَاهرِ وحُدُوثِ الأَعرَاضِ.
ص: وَالجوهرُ غَيْرُ مُرَكَّبٍ مِنَ الأَعرَاضِ.
ش: هذه مقَالةُ الجُمْهُورِ، وحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ لو تَرَكَّبَ مِنْهَا لمَا قَامَتْ بِهِ، لكنَّهَا قَائمةٌ بِهِ، أَمَّا الأُولَى فلِأَنَّهُ لو قَامَتِ الأَعرَاضُ بِالجوهرِ لكَانَتْ قَائمةً بِالعرضِ، وهو مُحَالٌ، وأَمَّا الثَّانِيةُ فَلِلِاَتفَاقِ علَى أَنَّ الجَوْهَرَ يصِحُّ اتِّصَافُه بِالحيَاةِ وَالعِلْمِ وَالقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَعَرْاضِ، وخَالَفَ فِي ذَلِكَ النَّظَّامُ وَالنَّجَارُ فقَالا: إِنَّ الجوَاهرَ
أَعرَاضٌ مُجْتَمِعَةٌ.
ص: وَالأَبعَادُ متنَاهيةٌ.
ش: أَي: إِنَّ كلَّ جسمٍ فبُعْدُهُ مُتَنَاهٍ، أَي: لَهُ نهَايةٌ، أَي حدٌّ، وهو الطََّرْفُ الذي لَا يَحُدُّ شيئًا آخرَ، وخَالَفَ فِيهِ بَعْضُ الأَوَائلِ فأَثْبَتَ أَبعَادًا لَا نهَايةَ لهَا.
ص: وَالمعلولُ قَالَ الأَكثرُ: يقَارِنُ عِلَّتَهُ زمَانًا، وَالمُخْتَارُ ـ وفَاقًا للشيخ الإِمَامِ ـ يَعْقُبُهَا مُطْلَقًا، وثَالِثُهَا إِنْ كَانَتْ وَضْعِيَّةً لَا عَقْلِيَّةً.
ش: تُقَدَّمَ العِلَّةُ علَى المعلولِ فِي الرُّتْبَةِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وأَمَّا فِي الزَّمَانِ ففِيه مَذَاهِبُ.
أَحَدُهَا ـ وَبِهِ قَالَ الأَكْثَرُونَ ـ أَنَّهَا تُقَارِنُه، وفِي أَصلِ (الروضةِ) / (255/أَ/م) إِنَّهُ الصّحيحُ، وَبِهِ أَجَابَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ، وعبَارةُ الرَّافعيِّ أَنَّهُ الذي ارتضَاه إِمَامُ الحَرَمَيْنِ، ونَسَبَهُ للمحقِّقِينَ.
الثَّانِي: وَاختَارَهُ المُصَنِّفُ تبعًا لوَالدِه، إِنهَا تَسْبِقُهُ وهو يَتَعَقَّبُهَا.
الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الوضعيَّةِ، وَمِنْهَا الشَّرْعِيَّةُ، فِيسْبِقُ المعلولُ، وَالعَقْلِيَّةُ فتقَارِنُهُ لكونِهَا مُؤَثِّرَةً بِذَاتِهَِا، وهذَا ظَاهرُ نصِّ الشَّافِعِيِّ فِي (الأَمِ) فِي كتَابِ/ (205/أَ/د) الطّلَاقِ.
قَالَ الشَّيْخُ عزُّ الدِّينِ فِي (القوَاعدِ): الأَسبَابُ القوليَّةُ التي يستقِلُّ بِهَا المتكلِّمُ كَالطلَاقِ وَالعتَاقِ، الأَصحُّ أَنَّ أَحكَامَهَا تقترنُ بآخرِ جزءٍ مِنْهَا، فتقرنُ الحُرِّيَةَ بِالرَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنتَ حرٌّ، وَالطلَاقَ بِالقَافِ مِنْ: أَنْتَ طَالقٌ، وهذَا اختيَارُ
الأَشعريِّ وَالحُذَّاقِ مِنْ أَصحَابِ الشَّافِعِيِّ وهو مطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ الأَلفَاظِ كَالأَمرِ وَالنهيِّ، فإِذَا قَالَ:(اقْعُدْ) كَانَ آمرًا مَعَ الدَّالِ من قَوْلِهِ: (اقْعُدْ) وإِذَا قَالَ: (لَا تَقْعُدْ) كَانَ نَاهيًا مَعَ الدَّالِ مِنْ قَوْلِهِ: (لَا تَقْعُدْ) وكذَا الأَقَاريرُ وَالشّهَادَاتُ وأَحكَامُ الحُكَّامِ، وقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيّةِ: لَا تَقْتَرِنْ هذه الأَحكَامَ بشيءٍ مِنْ هَذه الأَلفَاظِ بَلْ يقعُ عَقِبَهَا مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلٍ، انْتَهَى.
ص: وَاللَّذَّةُ حصرَهَا الإِمَامُ وَالشَّيْخُ الإِمَامُ فِي المعَارفِ، وقَالَ ابْنُ زَكَرِيَّا: هي الخلَاصُ مِنَ الأَلمِ، وَقِيلَ: إِدرَاكُ المُلَائِمِ، وَالحقُّ أَنَّ الإِدرَاكَ مَلْزُومُهَا ويقَابلُهَا الأَلمُ.
ش: نَقَلَ المُصَنِّفُ عَنْ وَالدِهِ، وَالإِمَامُ فَخْرُ الدَّينِ حصرُ اللَّذَّةِ فِي المعَارفِ، وعبَارةُ الإِمَامِ تدلُّ علَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصِرْ، وإِنَّمَا جَعَلَهَا أَعلَاهَا، فإِنَّه قَالَ: اللَّذَّاتُ المطلوبةُ فِي هذه الحيَاةِ العَاجلةِ محصورةٌ فِي ثلَاثةِ:
اللذَّاتُ الحسيَّةُ، وهي قضَاءُ الشّهوتينِ، ويشَارِكُ فِيهَا الآدميُّ غَيْرَهُ مِنَ الحيوَانَاتِ، وأَوسطُهَا اللَّذَّاتُ الخيَاليَّةُ، وهي الحَاصِلةُ مِنَ الاستعلَاءِ وَالرئَاسةِ، لِدَفْعِ أَلَمِ القَهْرِ وَالغَلَبَةِ، وهي أَشدُّهَا التصَاقًا بِالعَقْلَاءِ إِذَا لَمْ ينَالُوا رُتْبَةَ الأَوليَاءِ، وكذلك قَالَ بعضُهم: آخرُ مَا يَخْرُجُ مِنْ رؤوسِ الصِّدِّيقينَ حُبُّ الرِّئَاسةِ، وأَعلَاهَا اللَّذَاتُ العَقْليَّةُ، وهي الحَاصِلةُ بسببِ معرفةِ الأَشيَاءِ، وَالوقوفُ علَى حقَائقِهَا، وهي اللَّذَّةُ علَى الحقيقةِ،/ (255/ب/م) وأُخِذَ ذَلِكَ مِنْ كلامِ الغَزَالِيِّ، فإِنَّه قَالَ: وَالعَقْلِيَّةُ أَقلُّهَا وجودًا وأَشرفُهَا، أَمَّا قلتُّهَا فَلِأَنَّ الحِكْمَةَ لَا يَسْتَلِذُّ بِهَا إِلا الحكيمُ، وقصورُ الرَّضِيعِ عَن إِدرَاكِ لذَّةِ العسلِ وَالطيورِ السِّمَانِ وَالحلَاوةِ لَا تدلُّ علَى أَنَّهَا ليست بلذيذةٍ، وَاستطَابتُه اللَّبَنَ لَا يَدُلُّ علَى أَنَّهُ أَطيبُ الأَشيَاءِ، وَالنَاسُ كلُّهُمْ إِلا النَّادرَ مُقَيَّدُونَ فِي صِبَى الجهلِ غَيْرُ بِالغينَ فِي رُتْبَةِ العلومِ، فَلِذَلِكَ لَا يستلذُّونَهُ.
وَمَنْ يَكُنْ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ
…
يَجِدْ مُرًّا بِهِ المَاءَ الزُّلَالَا.
وأَمَّا شَرَفُهَا فلأَنَّهَا ملَازمِةٌ لَا تزولُ، ودَائمةٌ لَا تُمَلُّ، وثمرتُهَا فِي الدَّارِ الآخرةِ، وَالقَادرُ علَى الشريفِ إِذَا رَضِِي بِالخسيسِ الفَاني كَانَ مُصَابًا فِي عقلِهِ محزونًا بشقَاوتِه، وأَقلُّ أَمرٍ فِيهِ أَنَّ الفضَائلَ النّفسيَّةَ لَا سيَّمَا العِلْمُ وَالعملُ لَا تحتَاجُ إِلَى أَعوَانٍ وَحَفَظَةٍ، بخلَافِ المَالِ فإِنَّ العِلْمَ يَحْرُسْكَ، وأَنتَ تَحْرُسُ المَالَ، وَالعِلْمُ يزيدُ بِالإِنفَاقِ، وَالمَالُ ينقُصُ بِهِ، وَالعِلْمُ مَانعٌ مِنَ الرّذَائلِ، وَالمَالُ قَد يُفْضِي إِلَى الرَّذِيلَةِ، ولذلك ذَمَّهُ اللَّهُ فِي القرآنِ فِي موَاضعَ.
وقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدّينِ فِي (القوَاعدِ) هذَا مختصٌّ بدَارِ المِحْنَةِ، وأَمَّا دَارُ الكَرَامَةِ وهي الجَنَّةُ فإِنَّ اللّذةَ تحصلُ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَلَمٍ يتقدَّمُهَا، أَو يقترِنُ بِهَا؛ لأَنَّهَا +خُرِقَتْ فِيهَا العَادةُ فِيجِدُ أَهلُهَا لذَّةَ الشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ،+ ولذَّةُ الطعَامِ مِنْ غَيْرِ جوعٍ، قَالَ: وكذلك +خُرِقَتِ العَادةُ فِي العُقُوبَاتِ، فإِنَّ أَقلَّ عقوبَاتِ الآخرةِ لَا يبقَى مَعَهُ فِي هذه الدَّار حيَاة، وأَمَّا تِلْكَ الدَّارُ فإِنَّ أَحدَهم لَتَأَتِيَهُ أَسبَابُ الموتِ مِنْ كلِّ مكَانٍ ومَا هو بميِّتٍ انْتَهَى.
وذهبَ محمَّدُ بْنُ زكريَّا إِلَى أَنَّ اللّذَّةَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، وهو الخلَاصُ مِنَ الأَلمِ، وزيَّفَهُ الإِمَامُ بمَا إِذَا وقَعَ البصرُ علَى صُورَةٍ حسنةٍ، فإِنَّه يَلْتَذَّ بإِبصَارِهَا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شعورٌ بِهَا، حتَّى يجعَلَ تِلْكَ اللذَّةَ خُلَاصًا عَنِ أَلَمِ الشَّوْقِ إِليهَا، وكذلك قَد يَحْصُلُ للإِنسَانِ لَذَّةٌ عظيمةٌ بِالعثورِ علَى كَنْزِ مَالٍ فَجْأَةً.
وَقِيلَ اللَّذَّةُ إِدرَاكُ المُلَائِمِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سينَا فِي بَعْضِ كُتُبهِ.
وقَال فِي (الشِّفَاءِ) إِدرَاكُ المُلَائِمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ملَائِمٌ.
وقَال المُصَنِّفُ تبعًا للسَّمَرْقَنْدِيِّ فِي (الصحَائفِ): الحقُّ أَنَّ الإِدرَاكَ/ (256/أَ/م) لَيْسَ نفسُ اللَّذَّةِ بَلْ مَلْزُومُهَا.
وفِي (المَحْصُولِ) فِي القِيَاسِ: إِنَّ الصّوَابَ أَنَّهَا لَا تُحَدُّ، لأَنَّهَا مِنَ الأُمُورِ
الوجدَانيَّةِ، وعليه مَشَى فِي (الطوَالعِ).
ثُمَّ ذَكَرَ المُصَنِّفُ أَنَّ الأَلَمَ يقَابِلُ اللّذَّةَ فَيَكُونُ علَى الأَوَّلِ وُجُودِيًّا وهو الوقوعُ فِي غَيْرِ المُلَائِمِ، وعلَى الثَّانِي عَدَمِيًّا وهو إِدرَاكُ غَيْرِ المُلَائِمِ.
ص: ومَا تَصَوَّرَهُ العَقْلُ إِمَّا وَاجِبٌ أَو ممتنِعٌ أَو مُمْكِنٌ؛ لأَنَّ ذَاتَه إِمَّا أَن تَقْتَضِِي وُجُودَهُ فِي الخَارجِ أَو عَدَمِهِ، أَو لَا تقتضِي شيئًا.
ش: أَي: فَالَّذِي اقْتَضَتْ ذَاتُه وُجُودَهُ فِي الخَارجِ هو الوَاجبُ، وَالذي اقْتَضَتْ عَدَمَهُ هو المُمْتَنِعُ، وَالذي لَمْ تقتضِ ذَاتُه وَاحدًا مِنْهُمَا هو المُمْكِنُ، ولَا يُمْكِنُ تَغَيُّرُ وَاحدٍ مِنْ هذه الثلَاثةِ عمَا هو عَلَيْهِ، وقَالَ بعضُهم: همَا قسمَانِ، وأَدْرَجَ الوَاجِبَ فِي المُمْكِنِ.
ص: خَاتِمْةٌ.
ش: هذه الخَاتِمَةُ فِي عِلْمِ التّصوفِ، وَاقتدَى فِي الختمِ بِهِ بصَاحبِ (الشَّاملِ الصغيرِ) ليكونَ السعيُّ فِي تطهيرِ القلبِ خَاتمِةُ الأَمرِ.
ص: أَوَّلُ الوَاجبَاتِ المعرفةُ، وقَالَ الأَستَاذُ، النّظرُ المؤدِّي إِليهَا، وَالقَاضِي: أَوَّلُ النّظرِ، وَابْنُ فَوْرَكٍ وإِمَامُ الحَرَمَيْنِ: القصدُ إِلَى النّظرِ.
ش: اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَا يَجِبُ علَى المُكَلَّفِ علَى أَكثرَ مِنْ عَشْرَةِ أَقوَالٍ، حكَى المُصَنِّفُ مِنْهَا أَربعةً.
أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ اللَّهِ تعَالَى، لقولِه تعَالَى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}
{وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وبهذَا قَالَ الأَشعريُّ.
قَالَ ابْنُ التِّلْمِسَانِيُّ: وهو قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الحديثِ، وَسَلَكُوا طريقَ السَّلَفِ، وَنَهُوا عَنْ ملَابَسَةِ الكلَامِ، وزعَمُوا أَنَّهُ مُحْدَثٌ، (وَفَنٌّ مُخْتَرَعٌ) بعدَ انصرَامِ زَمَنِ الصّحَابةِ وَالتَابعينَ، وأَنْكَرُوا قَوْلَ أَهْلِ الكلَامِ: أَوَّلُ وَاجبِ النّظرِ، ولو قَالَ الكَافِرُ: أَمْهِلُونِي لِأَنْظُرَ وأَبْحَثَ لَمْ يُمْهَلْ، ولكِنْ يُقَالُ له: أَسْلِمْ فِي الحَالِ، وإِلَاّ فأَنْتَ مَعْرُوضٌ علَى السّيفِ، قَالَ: ولَا أَعْلَمُ فِي هذَا خِلَافًا بَيْنَ الفقهَاءِ، وَقَدْ نصَّ عَلَيْهِ ابْنُ سُرَيْجٍ.
وَالثَّانِي: النَّظَرُ المُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَتِهِ تعَالَى، فإِنَّه لَا يُتَوَصَّلُ إِليهَا إِلا بِالنظرِ، ومَا لَا يَتِمُّ الوَاجبُ إِلا بِهِ فهو وَاجِبٌ، وفِي القرآنِ آيَاتٌ فِي وُجُوبِ النّظرِ، وَالتَنْبِيهُ علَى الآيَاتِ/ (256/ب/م) وَالعلَامَات. ُ
وصحَّحَ الشَّيْخُ عزُّ الدِّينِ فِي (القوَاعدِ) أَنَّهُ لَا يجِبُ النّظرُ إِلا عِنْدَ الشَّكِّ فِيمَا يجِبُ اعتقَادُه، فَيَلْزَمُ النَّظَرُ فِيه إِلَى أَنْ يَعْتَقِدُهُ.
وقَالَ الغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: النّظرُ طويلٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَجِيزٌ عِنْدَ العَارفِ بِهِ، فإِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّكَ مُحْدَثٌ، فَالمُحْدَثُ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ المُحْدِثِ، فَحَصَلَ لَك البرهَانُ علَى الإِيمَانِ بَاللَّهِ فمَا أَقربَ هَاتينِ المَعْرِفَتَيْنِ.
الثَّالِثُ ـ وَبِهِ قَالَ القَاضِي: أَنَّهُ مَعْرِفَةُ الأَوَائلِ وَالمقدِّمَاتِ التي لَا يتمُّ النّظرُ إِلا بهَا.
الرَابِعُ: وَبِهِ قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ وإِمَامُ الحَرَمَيْنِ: أَنَّهُ القَصْدُ إِلَى النَّظْرِ الصّحيحِ، فإِنَّه لَا يحصلُ النَّظرُ إِلا بِالقصدِ إِلَيْهِ، وذَكَرَ الإِمَامُ فِي (المَحْصُولِ)
وَغَيْرِهِ: أَنَّ الخِلَافَ لَفْظِيٌّ يرجِعُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ المُرَادُ الوَاجبُ لِعَيْنِهِ أَو لغيرِهِ؟ فمن أَرَادَ الأَوَّلَ قَالَ: إِنَّهُ المعرفةُ، ومَنْ أَرَادَ الثَّانِي قَالَ: إِنَّهُ النَّظَرُ أَو القَصْدُ إِلَى النَّظَرِ،
قَالَ الشَّارِحُ: بَلْ هو مَعْنَوِيٌّ تَظْهَرُ فَائدتُهُ فِي المعصيةِ بِتَرْكِ النّظرِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهُ، دُونَ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ.
قُلْتُ: قَد عَرَفْتَ بتقريرِ الإِمَامِ أَنَّهُ وَاجِبٌ جَزْمًا، إِلا أَنَّهُ وُجُوبُ الوسَائلِ دُونَ المقَاصدِ، فَكَيْفَ يقَالُ: لَا يُعْصَى عِنْدَ مَنْ لَمْ يُوجِبْه؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: وذو النَّفْسِ الأَبِيَّةِ يَرْبَأُ بِهَا عَنِ سَفْسَافِ الأُمُورِ ويَجْنَحُ إِلَى معَاليهَا.
ش: لمَّا بدأَ بمعرفةِ اللَّهِ، ثنَّى بِالنظرِ فِي الموجودَاتِ من نفسِه وَغَيْرِهَا ذَاتًا وقولاً وفعلاً، فِيتعَاطَى معَاليهَا فِي الظَّاهِرِ، وهو عِلْمُ الشريعةِ وَالبَاطنِ، وهو عِلْمُ الحقيقةِ، وَيَجْتَنِبُ فِيهَا الرَّدِي التَّافِهَ، وهو الدُّنْيَا التي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلَى/ (206/أَ/د) اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ)) وقَالَ وَقَدْ مَرَّ بِجَدْيٍ أَشلَّ مَيْتٍ: ((لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ علَى اللَّهِ مِنْ هذَا علَى أَحَدِكُمْ)) وقَالَ: ((الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلا ذِكْرَ اللَّهِ، ومَا وَالَاهُ، أَو عَالِمًا أَو مُتَعَلِّمًا)) ولو لَمْ يَكُنْ فِي مَحَبَّةِ الدّنيَا مِنَ المفسدةِ إِلا الاشتغَالُ بِهَا عَنِ اللَّه تعَالَى.
وَقَدْ قَالَ بعضُهُم لِوَلَدِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تَغْبِطَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا علَى دُنْيَاهُمْ، فوَاللَّهِ مَا
نَالُوهَا رَخِيصَةً، ووَاللَّهِ مَا نَالُوهَا حتَّى فَقَدُوا اللَّهَ.
وَقَوْلُهُ:/ (257/أَ/م)(يَرْبَأُ بِهَا) هو بِالهمزِ أَي: يَرْفَعُهَا.
قَالَ الجوهريُّ: وقولُهم: إِنِّي لأَرْبَأُ بِكَ عَنْ هذَا الأَمرِ، أَي: أَرْفَعُكَ عَنْهُ انْتَهَى، ومِنْهُ مَا أَنْشَدَهُ بعضُهم.
قَدْ هَيَّئُوكَ لِأََمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ
…
فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الهَمَلِ
وَالسَّفْسَاف بسين مهملة وفَاء مكرَّرتينِ: الأَمرُ الحقيرُ وَالرديءُ مِنْ كلِّ شيءٍ، وهو ضدُّ العَالي، وأَصلُه مَا يظهَرُ من غُبَارِ الدَّقِيق إِذَا نُخِلَ، وَالتُّرَابِ إِذَا انْتَشَرَ.
ورَوَى البيهقيُّ فِي شُعَبِ الإِيمَانِ عَن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)).
فَالمَعَالِي وَالسَّفْسَافُ كلمتَانِ جَامِعَتَانِ لأَسبَابِ السّعَادةِ وَالشّقَاوةِ، وأَبِيُّ النَّفْسِ لَا يرضَى أَنْ يَكُونَ أَدْنَى مَعَ القُدْرَةِ علَى أَنْ يَكُونَ أَعْلَى، ولَا يَمِيلُ إِلَى الإِعْوِجَاجِ، وَقَدْ هُدِيَ إِلَى الطريقِ المستقيمِ، فإِنَّ الصَّادَّ عَن معرفةِ اللَّهِ أَو العَمَلِ للآخرةِ الإِقبِالُ علَى الشّهوَاتِ وَالحرصُ علَى الدّنيَا، ولهذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لو أَوْصَى لِأَعْقَلِ النَّاسِ صُرِفَ إِلَى الزُّهَادِ.
وَقِيلَ لعبدِ اللَّهِ بْنِ المبَاركِ: مِنَ الملوكِ؟ قَالَ: الزُّهَادُ.
قُلْتُ: لأَنَّهُمْ ّمَلَكُوا أَنْفُسَهُمْ، ولو تَسْتَعْبِدُهُمْ الدُّنيَا، ولم يُحَقِّرْهُمُ الطّمعُ فِيهَا عِنْدَ أَهْلِ الآخرةِ وَالدُّنْيَا، ومِمَّا يُرَغِّبُ فِي الزُّهْدِ فِيهَا خِسَّةُ شركَائِهَا، وقلَّةُ وفَائِهَا، وكثرةُ بلَائِهَا، وتحققُّ فنَائِهَا.
ص: ومَنْ عَرَفَ رَبَّهُ، تصوَّرَ تَبْعِيدَهُ وَتَقْرِيبَهُ، فخَاَفَ ورجَا، فأَصغَى إِلَى الأَمرِ وَالنَّهْيِ، فَارْتَكَبَ وَاجْتَنَبَ َفأَحَبَّهُ مولَاه، فكَانَ سمعُه
وبصرُه ويدُه التي يَبْطِشُ بِهَا، وَاتَّخَذَهُ وَلِيًّا، إِن سَأَلَهُ أَعطَاه وإِنِ اسْتَعَاذَ بِهِ أَعَاذَهُ.
ش: قَالَ بَعْضُهُمْ: العَارفُ عِنْدَ أَهْلِ التّصوفِ مَنْ عَرَفَ الحقَّ بأَسمَائِهِ وصفَاتِه، ثُمَّ صدَّقَ اللَّهَ فِي جَمِيعِ مُعَامَلَاَتِهِ، ثُمَّ تَنَقَّى عَن أَخلَاقِه المذمومةِ وآفَاتِهِ، ثُمَّ طَالَ بِالبَابِ وقوفُه، ودَامَ بِالقلبِ عُكُوفُهُ، فَحَظِيَ مِنَ اللَّهِ بجميعِ آمَالِهِ، وصدَّقَ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَحوَالِهِ، وَانْقَطَعَتْ عَنْهُ هوَاجسُ نَفْسُهُ، ولم/ (257/ب/م) يَصْغَ بقلبِه إِلَى خَاطرِ يَدْعُوه إِلَى غيرِه.
وقَالَ الشَّيْخُ عزُّ الدّينِ فِي (القوَاعدِ) الطّريقِ فِي إِصلَاحِ القلوبِ التي تَصْلُحُ الأَجسَادُ بصلَاحِهَا، وتَفْسُدُ بفسَادِهَا، تَطْهِيرُهَا مِنْ كلِّ مَا يُبَاعِدُ عَنِ اللَّهِ، وتَحَلِّيهَا بكلِّ مَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ ويُزْلِفُ لديه مِنَ الأَحوَالِ وَالأَقوَالِ وَالأَعمَالِ، وَحُسْنِ الآمَالِ، وَلُزُومِ الإِقبِالِ عَلَيْهِ وَالإِصغَاءِ إِلَيْهِ، وَالمُثُولِ بَيْنَ يديهِ فِي كلِّ وقتٍ مِنَ الأَوقَاتِ وحَالٍ مِنَ الأَحوَالِ، علَى حَسَبِ الإِمكَانِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءٍ إِلَى السّآمةِ وَالمِلَالِ، قَالَ: ومعرفةُ ذَلِكَ هي المُلَقَّبَةُ بعِلْمِ الحقيقةِ، وليسَتْ الحَقِيقَةُ خَارجِةً عَنِ الشّريعةِ، بَلِ الشّريعةُ طَافِحَةٌ بإِصلَاحِ القلوبِ بِالمعَارفِ، وَالأَحوَالِ وَالعزومِ وَالنيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى.
فإِذَا عَرَفَ الإِنسَانُ ربَّهُ تَصَوَّرَ بقلبِهِ تَبْعِيدَهُ إِلَيْهِ وتَقْرِيبَه مِنْهُ، وَلَيْسَ المُرَادُ قُرْبَ المسَافةِ وبُعْدَهَا، بَلْ التَّبْعِيدُ بِتَرْكِ اللُّطْفِ وَالإِرشَادِ وَالتوفِيقِ وإِرَادةِ الشَّرِّ بِهِ، وَالتقريبُ بِاللطفِ وَالإِرشَادِ وَالتوفِيقِ وإِرَادةِ الخيرِ بِهِ، فهمَا تَبْعِيدٌ وتَقْرِيبٌ مَعْنَوِيَّانِ، فخَافَ أَنْ يقَعَ فِي التبعيدِ، ورجَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التقريبِ، فَفَزَعَ إِلَى العِلْمِ، وأَصغَى إِلَى أَوَامِرِ اللَّهِ تعَالَى ونَوَاهِيهِ، فبَحَثَ عَنْهَا وعَلِمَهَا بِحَسَبِ الإِمكَانِ، فَارْتَكَبَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نهَاه اللَّهُ عَنْهُ، فكَانَ نَتِيجَةُ عِلْمِهِ عَمَلَه بِهِ.
ومَنْ كَلَاَمِ بَعْضِهِمْ: العِلْمُ يَهْتِفُ بِالعملِ، فإِنْ أَجَابَهُ وإِلَاّ ارْتَحَلَ فنَالَ بِالعِلْمِ
وَالعَمَلِ مَحَبَّةَ اللَّهِ تعَالَى لَهُ (وهو يَدُلُّ علَى أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ سَابقةً علَى مَحَبَّتِهِ له، وفِيه خلَافٌ) وَالأَصَحُّ الأَوَّلُ.
قَالَ بعضُهُمْ: علَامةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ بُغْضُ المرءِ لنفسِهِ؛ لأَنَّهَا مَانِعٌ لَهُ مِنَ المَحْبُوبِ فإِذَا وَافَقَتْهُ نَفْسُه فِي المَحَبَّةِ أَحبَّهَا، لَا لأَنَّهَا نَفْسُهُ، بَلْ لأَنَّهَا تُحِبُّ مَحْبُوبَهُ، وَتَرَتَّبَ علَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تعَالَى لَهُ صيَانَةُ جوَارحِهِ وحوَاسِّهِ فَلَا يَسْمَعُ إِلا لِلَّهِ ولَا يُبْصِرُ إِلا له، ولَا يَبْطِشُ إِلا لِأََجْلِهِ، كمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:((مَنْ أَحَبَّ لِلَّه وَأَبْغَضَ لِلَّه وأَعطَى لِلَّه وَمَنَع لِلَّه فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ)) / (258/أَ/م) وكمَا كَانَتْ حَالةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ، إِلا أَنْ تُنْتَهَكُ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَكُونُ هُوَ يَنْتَقِمُ لِلَّهِ.
وأَصلُّ هذَا الحديثِ فِي صحيحِ البخَاريِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللَّهِ تعَالَى: ((مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُه بِالْحَرْبِ، ومَا تَقَرَّبَ إِلي عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُه عَلَيْهِ، ومَا يزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنوَافلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعُهُ الذي يَسْمَعُ مِنْهُ وَبَصَرُهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدُهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، فإِنْ سأَلَنِي فَلَأُعْطِيَنَّهُ، وإِنِ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ)) قَالَ بَعْضُهُم فِي معنَى هذَا الحديثِ: إِنَّ اللَّهَ تعَالَى يَتَوَلََّى مَنْ أَحَبَّهُ فِي جَمِيعِ أَحوَالِه، كَمَا يَتَوَلَّى الوَالِدَانِ جَمِيعَ أَحوَالِ الطَّفْلِ، فَلَا يَمْشِي إِلا بِرِجْلِ أَحَدِهِمَا ولَا يأَكلُ إِلا بِيَدِهِ، فَفَنِيَتْ صِفَاتُهُ وقَامَتْ صفَاتُ الوَالِدَيْنِ مقَامَهَا لشدَّةِ اعتنَائِهمَا بِحِفْظِهِ، فكذلك حَالُ الولِيِّ مَعَ الرَّبِّ سبحانه وتعالى، وَاتِّخَاذُ اللَّهِ لَهُ وليًّا يحتمِلُ أَنْ يَكُونَ فعيلاً بمعنَى فَاعلٍ، أَي وَلِيُّ أَمْرِ اللَّهِ.
(وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ؛ أَي: وَلِيَ اللَّهُ أَمْرَهُ) وَتَرَتَّبَ علَى وِلَاَيَتِهِ إِجَابةُ دَعْوَتِهِ وإِعَاذَتُهُ ممَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخَرَّازُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تعَالَى أَنْ يُوَالِي عبدَهُ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ
ذِكْرِهِ، فإِذَا اسْتَلَذَّ الذِّكْرَ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابُ القُرْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى مجَالسِ الأُنْسِ، ثُمَّ أَجْلَسَهُ علَى كُرْسِيِّ التّوحيدِ، ثُمَّ رَفَعَ عَنْهُ الحُجُبَ، وأَدْخَلَهُ دَارَ القُرْبِ، وكَشَفَ لَهُ الجلَالَ وَالعَظَمَةَ، فإِذَا وقَعَ بَصَرُهُ علَى الجلَالِ وَالعظمةِ خرَجَ مِنْ حِسِّهِ ودَعَاوَى نَفْسِه، ويَحْصُلُ حِينَئِذٍ فِي مقَامِ العِلْمِ بَاللَّهِ فَلَا يَتَعَلَّمُ بِالخَلْقِ بَلْ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ لَهُ وَتَجَلِّيهِ لِقَلْبِهِ حِينَئِذٍ، فَيَسْمَعُ مَا لَمْ يُسْمَعْ، ويَفْهَمُ مَا لَمْ يَفْهَمْ.
ص: وَدَنِيءُ الهِمَّةِ لَا يُبَالِي فَيَجْهَلُ فوقَ جهلِ الجَاهلينَ ويدخُلُ تحتَ رِبْقَةَ المَارِقِينَ.
ش: دَنِيءُ الهِمَّةِ ـ وهو مِنْ جُنْحِ إِلَى سَفَاسِفِ الأُمُورِ وَعَدَلَ عَنْ معَالِيهَا ـ لَا يُبَالِي هَلْ قَرَّبَهُ اللَّهُ أَو أَبْعَدَهُ، فَلَا يَتَعَلَّمُ أَمْرَهُ ولَا نَهْيَهُ، ولَا يَعْمَلُ بمقتضًى وَاحدٍ مِنْهُمَا لو عَلِمَهُ، ولَا يُبَالِي مَا اكْتَسَبَ مِنَ المَالِ هَلْ هو مِنْ حِلٍّ أَو حَرَامٍ، ولَا مَا عَمَلَ مِنَ الأَعمَالِ هَلْ يُوَافِقُ الشَّرْعَ أَمْ لَا/ (258/ب/م)، ولَا يُبَالِي فِي أَفعَالِهِ هَلْ تُسْخِطُ الرَّبَّ أَو تُرْضِيه قَد أَعْرَضَ عَن أُخْرَاهُ وَانْهَمَكَ فِي دُنْيَاهُ.
وَقَدْ قَالَ العلمَاءُ: إِنَّ الخَسِيسَ مَنْ بَاعَ دِينَهُ بِدُنْيَاهُ، وأَخَسُّ الأَخِسَّاءِ مَنْ بَاعَ دِينَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ.
ص: فَدُونَكَ صَلَاَحًا أَو فسَادًا وَرِضًا أَو سَخَطًا وقربَا أَو بُعْدًا وسَعَادَةً أَو شَقَاوَةً وَنَعِيمًا أَو جَحِيمًا.
ش: هذَا خِطَابٌ لِمَنْ عَلِمَ الفَرْقَ بَيْنَ الحَالَتَيْنِ وَتَضَمَّنَ قَوْلَهُ (دُونَكَ) تَحْذِيرًا وإِغرَاءً فَالإِغرَاءُ للصلَاحِ وَالرِّضَى وللقُرْبِ وَالسعَادةِ وَالنعيمِ.
وَالتحذيرُ لمقَابلِهَا أَي: بعدَ أَنْ عَرَفْتَ الطَّرِيقَيْنِ فَاسْلُكْ طَرِيقَ الهُدَى وَاحْذَرْ طَرِيقَ/ (206/أَ/د) الضلالِ.
ص: وإِذَا خَطَرَ لَك أَمْرٌ فَزِنْهُ بِالشَّرْعِ فإِنْ كَانَ مأُمُورًا فبَادِرْ فإِنَّه مِنَ الرَّحْمَنِ، فإِنْ خَشِيتَ وقوعَه لَا إِيقَاعَه علَى صفةٍ مَنْهِيَّةٍ فَلَا عليك، وَاحْتِيَاجُ اسْتِغْفَارِنَا إِلَى اسْتِغْفَارٍ لَا يُوجِبُ تَرْكَ الاستغفَارِ، ومِنْ ثَمَّ قَالَ السَّهْرَوَرْدِيُّ: اعْمَلْ وإِنْ خِفْتَ العُجْبَ مُسْتَغْفِرًا مِنْهُ وإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا فإِيَّاكَ فإِنَّه مِنَ الشّيطَانِ فإِنْ مِلْتَ فَاسْتَغْفِرْ.
ش: إِذَا عُرِضَ لِسَالِكِ طَرِيقِ الآخِرَةِ أَمْرٌ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَزِنَهُ بميزَانِ الشَّرْعِ، فإِنَّ الأَحكَامَ لَا تُعْرَفُ إِلا مِنْهُ، وَلَهُ ثلَاثةُ أَحوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مأُمُورٌ بِهِ شرعًا، إِمَّا علَى طريقِ الوُجُوبِ أَو الاستحبَابِ، فَلْيُبَادِرْ إِلَى فِعْلِهِ، فإِنَّه مِنَ الرّحمنِ عز وجل، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِلهَامًا مِنَ اللَّهِ له، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِلقَاءِ المَلَكِ فِي الرَّوْعِ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَن إِلقَاءِ المَلَكِ قَد يُعَارِضُه النَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ بِالوسَاوسِ، بخلَافِ الخوَاطرِ الإِلْهَامِيَّةِ فإِنَّه لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ بَلْ تنقَادُ لهَا النّفسُ وَالشّيطَانُ طَوْعًا وَكَرْهًا.
قَالَ الشَّارِحُ: وعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: (فَبَادِرْ) بفَاء التَّعْقِيبِ ـ السرعةُ:
قَالَ الأَستَاذُ أَبُو القَاسمِ القُشَيْرِيُّ: فإِنَّكَ إِنْ تَوَقَّفْتَ بِرَدِّ الأَمرِ، وَهَبَّتْ ريحُ التََّكَاسلِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ البُوشِنْجِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي شُغُلٍ فَدَعَا مَنْ نزَعَ قميصَه عَنْهُ، وقَالَ: ادْفَعْه إِلَى فلَانٍ، فقِيلَ: لو صَبِرْتَ حتَّى تَخْرُجَ؟
فقَالَ: خَشِيتُ أَنْ يزولَ هذَا الخَاطرُ عَنِ القلبِ.
قُلْتُ: هذه الفَاءُ لَا دلَالةَ لهَا علَى التَّعْقِيبِ، وإِنَّمَا هي لربطِ الجزَاءِ بِالشَّرْطِ، وَالدَالةُ علَى التّعقيبِ/ (259/أَ/م) هي العَاطفةُ، ولكنْ هذَا المَعْنَى مَفْهُومٌ مِنْ لَفْظِ المبَادرةِ،
ولَا يُحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ لدلَالةِ الفَاء، ِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فإِنْ خَشِيتَ مَعَ كَوْنِهِ مأُمُورًا بِهِ أَنْ يَقَعَ علَى صِفَةٍ مَنْهِيَّةٍ لِعُجْبٍ أَو رِيَاءٍ فَلَا يَكُنْ ذَلِكَ مَانعًا لَك مِنَ المبَادَرَةِ إِلَيْهِ، أَقِمِ الأَمْرَ وَاحْتَرِزْ عَنِ النَّهْيِ، فإِنْ أَوْقَعْتَهُ علَى الصِّفَةِ المَنْهِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ مُحِيطًا له.
قُلْتُ: وإِنَّمَا عبَّرَ المُصَنِّفُ بِالوقوعِ، وَاحْتَرَزَ عَنِ الإِيقَاعِ، لأَنَّهُ لو كَانَ قصْدُه إِيقَاعَهُ علَى الصِّفَةِ المذمومةِ بأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا يقُومُ للريَاءِ فإِن ذَلِكَ الخَاطرَ شَيْطَانِيٌّ، وإِنَّمَا الكلَامُ فِي خشيةِ وُقُوعِ هذه المفسدةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ هي الحَاملُ لَهُ علَى الفعلِ، وَقَدْ قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: العَمَلُ لأَجلِ النَّاسِ شِرْكٌ، وَتَرْكُ العَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ ريَاءٌ، وَالإِخلَاصُ أَنْ يُعَافِيكَ اللَّهُ مِنْهُمَا.
ثم أَشَارَ المُصَنِّفُ إِلَى الجوَابِ عَن سؤَالٍ تقديرُهُ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ رَابِعَةِ العَدَوِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ: (اسْتِغْفَارُنَا يَحْتََاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ) ومُقْتَضَاه أَنْ لَا نَسْتَغْفِرَ، لأَنَّهُ أَمْرٌ يَحُوجُ إِلَى التَّنَصُّلِ مِنْهُ، فأَجَابَ عَنْهُ بأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي تَرْكَ الاستغفَارِ.
قَالَ الغَزَالِيُّ فِي (الإِحيَاءِ) فِي بَابِ التّوبةِ: لَا تَظُنَّنَّ أَنَّ رَابِعَةَ تَذُمُّ حركةَ اللِّسَانِ بِالاستغفَارِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ تعَالَى، بَلْ تَذُمُّ غفلةَ القلبِ، فهو محتَاجٌ إِلَى الاستغفَارِ مِنْ غفلةِ قَلْبِهِ، لَا مِنْ حركةِ لِسَانِهِ، فإِنْ سَكَتَ عَنِ الاستغفَارِ بِاللسَانِ أَيضًا احتَاجَ إِلَى استغفَارينِ.
قَالَ: وهذَا معنَى قَوْلِ القَائلِ الصَّادقِ: حسنَاتُ الأَبرَارِ سَيِّئَاتُ المُقَرَّبِينَ.
ثُمَّ اسْتَشْهَدَ المُصَنِّفُ لمَا قَرَّرَهُ من ذَلِكَ بقولِ الشَّيْخِ شهَابِ الدّينِ السَّهْرَوَرْدِيِّ وَقَدْ سأَلَهُ بَعْضُ أَئمَّةِ خُرَسَانَ فقَالَ: القَلْبُ مَعَ الأَعمَالِ يدَاخلُه العُجْبُ، وَمَعَ
تَرْكِ الأَعمَالِ يَخْلُدُ إِلَى البطَالةِ.
فأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: لَا تَتْرُكِ الأَعمَالَ، ودَاوِ العُجْبَ بأَنْ تَعْلَمَ أَن ظُهُورَهُ مِنَ النَّفْسِ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، فإِنَّ ذَلِكَ كفَّارَتَهُ، ولَا تَدَعِ العَمَلَ رأَسًا.
وكذَا قَالَ الإِمَامُ فِي (المطَالبِ) من مكَائدِ الشّيطَانِ تَرْكُ العَمَلِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ/إِنه مرَاءٌ وهذَا بَاطلٌ، فإِنَّ تَطْهِيرَ العَمَلِ مِنْ نَزَغَاتِ الشّيطَانِ بِالكليَّةِ مُتَعَذِّرٌ/ (206/ب/د) فَلَوْ وَقَفَتْ العبَادةُ علَى الكمَالِ لِتَعَذُّرِ الاشتغَالِ بِشَيْءٍ مِنَ العبَادَاتِ، وذلكَ يُوجِبُ البطَالةُ، وهي أَقصَى غرضِ الشّيطَانِ/ (259/ب/م).
وقَالَ النّوويُّ: ولو فَتَحَ الإِنسَانُ عَلَيْهِ بَابَ ملَاحظةِ النَّاسِ، وَالاحترَازُ مِنْ تَطَرُّقِ ظُنُونِهِمْ البَاطلةِ لأَفسدَ عَلَيْهِ أَكثرَ أَبوَابِ الخيرِ، وَضَيَّعَ علَى نَفْسِهِ شيئًا عظيمًا مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ، وَلَيْسَ هذَا طريقةُ العَارِفِينَ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ من قَالَ: سِيرُوا إِلَى اللَّهِ عَرَجًا وَمَكَاسِيرَ، ولَا تَنْتَظِرُوا الصِّحَّةَ فإِنَّ انتظَارَ الصِّحَّةِ بطَالةٌ.
وحُكِيَ عَنِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا خِفْتَ علَى عَمَلِكَ العُجْبَ فَاذْكُرْ رضَى مَنْ تَطْلُبُ، وفِي أَيِّ النَّعِيمِ تَرْغَبْ ومِنْ أَيِّ عِقَابٍ تَرْهَبُ، وأَيَّ عَاقِبَةٍ تَشْكُرُ، وأَيَّ بَلَاءٍ تَذْكُرْ، فإِنَّكَ إِذَا فَكَّرْتَ فِي وَاحدةٍ مِنْ هذه الخِصَالِ صَغُرَ فِي عَيْنِكَ عَمَلُكَ.
الحَالةُ الثَّانِيةُ: أَنْ تَجِدَ ذَلِكَ الأَمْرَ مَنْهِيًّا عَنْهُ شرعًا، فَلَا تَقْرَبْهُ، فإِنَّ ذَلِكَ الخَاطرَ مِنَ الشّيطَانِ كذَا قَالَ المُصَنِّفُ وَقَدْ يَكُونُ مِنَ النَّفْسِ، قَالُوا: وَالفرقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ خَاطِرَ النَّفْسِ لَا تَرْجِعُ عَنْهُ، وخَاطرَ الشّيطَانِ قَد يَنْقِلُهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِنْ صَمَّمَ الإِنسَانُ علَى عَدَمِ فِعْلِهِ؛ لأَنَّ قَصْدَهُ الإِغرَاءُ لَا خصوصُ قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، فإِْن فَعَلْتَ ذَلِكَ المَنْهِيَّ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِنْهُ، ولَا تيأَسْ مِنَ الرَّحْمَةِ، قَالَ اللَّهُ تعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} .
ص: وَحَدِيثُ النَّفْسِ ـ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَو يَعْمَلْ ـ وَالهَمُّ مَغْفُورَانِ.
ش: مَا يقَعُ فِي النَّفْسِ مِنَ المعصيةِ لَهُ مرَاتبُ.
الأَوْلَى: الهَاجِسُ وهو مَا يُلْقَى فِيهَا، ولَا يُؤََاخَذُ بِهِ إِجمَاعًا؛ لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ العبدِ، وإِنَّمَا هو وَارِدٌ لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ.
الثَانِيَةُ: الخَاطِرُ وهو جريَانُه فِيهَا وهو مَرْفُوعٌ أَيضًا.
الثَالثةُ: حَدِيثُ النَّفْسِ، وهو تَرَدُّدُه هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَمْ لَا، وهو مَرْفُوعٌ أَيضًا، لقولِه عليه الصلاة والسلام:((إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ)).
الرَابعةُ: الهَمُّ، وهو قصدُ الفِعْلِ، وهو مَرْفُوعٌ أَيضًا؛ لقولِه تعَالَى:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ} الآيةَ، ولو كَانَتْ مؤَاخذةٌ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ وَلِيَّهُمَا، ولقولِهِ عليه الصلاة والسلام:((وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ)) فِي هذه المرتبةِ تَفْتَرِقُ الحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ، فإِنَّ الحَسَنَةَ تُكْتَبُ له، وَالسَّيِّئَةُ لَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ، بخلَافِ الثّلَاثِ الأُوَلِ، فإِنَّه لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثوَابٌ ولَا عِقَابٌ، وَاقْتَصَرَ المُصَنِّفُ علَى هَاتَيْنِ المَرْتَبَتَيْنِ لوضوحِ الأَمرِ/ (260/أَ/د) فِي الأُولَيَيْنِ، وَقَيَّدَ المُصَنِّفُ معرفةَ حديثِ النَّفْسِ بمَا إِذَا لَمْ يَتَكَّلَّمَ بذلك، ولم يَعْمَلْ بِهِ، فإِنْ تَكَلَّمَ أَو عمَلَ حَصُلَتِ المؤَاخذةُ بأَمرينِ، وهمَا حديثُ النََّفْسِ وَالعملُ، ولَا يُغْفَرُ حديثُ النَّفْسِ إِلا إِذَا لَمْ يَعْقُبْهُ عَمَلٌ، وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّقْييدِ فِي الهمِّ أَيضًا مِنْ طريقِ الأَولَى لأَنَّهُ آكدُ مِنْ حديثِ النَّفْسِ.
الخَامسةُ: العَزْمُ، وهو قُوَّةُ القَصْدِ وَالجَزْمُ بِهِ، فقَالَ بعضُهُمْ: هو كَالأَقسَامِ المُتَقَدِّمَةِ، وَالمَحْكِيُّ عَنِ المُحَقِّقِينَ المؤَاخذةُ بِهِ، لقولِه عليه الصلاة والسلام ((إِذَا التَّقَى المُسْلِمَانِ بِسَيفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ)) قِيلَ: يَا رسولَ اللَّهِ! هذَا القَاتلُ فمَا بِالُ المَقْتُولِ؟ قَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا علَى قَتْلِ أَخِيهِ)).
ص: وإِنْ لَمْ تُطِعْكَ الأَمَارةُ فجَاهِدْهَا فإِنْ فَعَلْتَ فَتُبْ.
ش: إِذَا هَمَّ الإِنسَانُ بِمَعْصِيَةٍ فَلْيُعَالِجْ نَفْسَهُ حتَّى لَا يقَعَ فِيهَا، فإِنْ لَمْ تُطِعْهُ نَفْسُهُ الأَمَّارَةُ له بِالسوءِ علَى ذَلِكَ فَلْيُجَاهِدْهَا بِقَدْرِ الإِمكَانِ، فإِنَّهَا حِينَئِذٍ أَكبرُ أَعدَائِهِ، لِقَصْدِهَا بِهِ الهلَاكَ الأَبديَّ، وفِي الحديثِ:((أَعْدَى عَدُوٌّ لَكَ نَفْسُكَ التي بَيْنَ جَنْبَيْكَ)).
وقَالَ بعضُهُمْ: معَالجةُ المعصيةِ إِذَا خَطَرَتْ حتَّى لَا تقَعَ أَهونُ من معَالجةِ التوبةِ حتَّى تُقْبَلَ؛ لأَنَّ ذَلِكَ يَكُفُّ النَّفْسَ.
وَالتوبةُ بِالندمِ وَالأَسفِ وَالبكَاءِ، ثُمَّ لَا يَدْرِي أَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُ أَمْ لَا، وَالمُوَاقِعُ للمعصيةِ إِنْ كَانَ لَاهيًا/ (207/أَ/د) عَنِ النَّهْيِ وَالوعيدِ فهو مِنَ الذِّينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، وإِنِ اسْتَحْضَرَ النَّهْيَ وَالوَعِيدَ وأَقْدَمَ عَلَيْهَا تَجَرُّؤًا فهو هَالِكٌ، أَو تَسْوِيفًا فَمَغْرُورٌ؛ لِتَرْكِهِ مَا وجَبَ عَلَيْهِ، وتعلُّقِهِ بمَا قَد لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وهو التّوبةُ.
وإِنَّمَا خصَّ المُصَنِّفُ هذَا بِالأَمَّارَةِ؛ لأَنَّ النَّفُوسَ ثَلَاثَةٌ هذه شرُّهَا، وَالثَانِيَةُ: اللَّوَّامَةُ التي يقَعُ مِنْهَا الشرُّ، لكنَّها تُسَاءُ بِهِ وتَلُومُ عَلَيْهِ وَتُسَرُّ بِالحَسَنَةِ كمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:((مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
الثَالثةُ: المُطْمَئِنَّةُ، وهي التي اطْمَأَنَّتْ إِلَى الطَّاعةِ، ولم تُوَاقِعْ مَعْصِيَةً، فإِنْ
غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ وَفَعَلَ المَعْصِيَةَ فَلْيُبَادِرِ للتَّوْبَةِ.
قَالَ الشَّارِحُ: وَالفورُ مَفْهُومٌ مِنْ إِتيَانِهِ بِالفَاءِ.
قُلْتُ: عَرَفْتَ أَنَّ هذه الفَاءَ لَا دلَالةَ لهَا علَى الفَوْرِ كَمَا تقدَّمَ، وقبولُ التّوبةِ/ (260/ب/م) مِنَ الكُفْرِ قَطْعِيٌّ، وفِي قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنَ المعصيةِ قولَانِ، هَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَيضًا أَو ظَنِيٌّ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: الأَصحُّ أَنَّهُ ظَنِيٌّ، وقَالَ الإِبيَاريُّ فِي شرحِ (البَرْهَانِ) الصّحيحُ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ.
ص: فإِنْ لَمْ تُقْلِعْ لاسْتِلْذَاذِ أَو كَسَلَ فَتَذَكَّرَ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ، وفَجْأَةَ الفَوَاتِ، أَو لِقُنُوطِ فَخَفْ مَقْتَ رَبِّكَ، وَاذْكُرْ سِعَةَ رَحْمَتِهِ، وأَعَرْضِ التَّوْبَةَ ومحَاسِنَهَا، وهي النَّدَمُ، وتَتَحَقَّقُ بِالإِقلَاعِ وَعَزْمِ أَنْ لَا يَعُودَ، وَتَدَارَكْ مُمْكِنُ التَّدَارُكِ.
ش: إِذَا لَمْ تُقْلِعِ النَّفْسَ عَنِ المَعْصِيَةِ، فإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِاسْتِلْذَاذِهَا أَو تَكَاسُلِهَا فَتُعَالَجَ بِتَذَكُّرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ، وَمُفَرِّقِ الجَمَاعَاتِ، وَهُوَ المَوْتُ، وَقَدْ يُفْجَأُ فَيُتَحَقَّقُ فَوْتُ المَصْلَحَةِ، وَتَذَكُّرُه مُكَدِّرٌ لِلْعَيْشِ، وَمُقَصِّرٌ لِلْأَمَلِ، وبَاعِثٌ علَى العَمَلِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام:((أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ)).
وإِن كَانَ سَبَبُ تَرْكِ التَّوْبَةِ القَنُوطَ وَاليأَسَ مِنْ رحمةِ اللَّهِ لشدَّةِ الذَّنْبِ، أَو استحضَارِ نِقْمَةِ الرَّبِّ فهذَا ذَنْبٌ آخَرُ قَد ضَمَّهُ إِلَى الأَوَّلِ، فَيَلْحَقُ مَقْتُ اللَّهِ علَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تعَالَى:{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} وطريقُ علَاجِهِ استحضَارُ سِعَةِ رحمةِ اللَّهِ تعَالَى لقولِه تعَالَى: {يَا عِبَادِيِ الَّذِّينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعًا} وفِي الحديثِ الصّحيحِ: ((لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضٍ فَلَاَةٍ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ
…
)) الحديثُ المشهورُ. وفِي الحديثِ الصّحيحِ: ((لو لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ)) ويعَالِجُ نَفْسَهُ أَيضًا بأَنْ يَعْرِضَ علَى نَفْسِهِ التَّوْبَةَ ومَحَاسِنَهَا، ومَا وَرَدَ فِيهَا، ثُمَّ فسَّرَ المُصَنِّفُ التّوبةَ بأَنَّهَا النَّدمُ، وتَبِعَ فِي ذَلِكَ الأُصُولِيِّينَ كَالقَاضِي وَالأَستَاذِ.
وقَالَ الفقهَاءُ: للتوبةِ ثلَاثةُ أَركَانٍ، وهي الإِقلَاعُ فِي الحَالِ، وَالنَّدَمُ علَى المَاضِي، وَالعَزْمُ علَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنْ تَعَلَّقَتِ المَعْصِيَةُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ اعْتَبَرَ رُكْنَ رَابِعٍ، وهو الخُرُوجُ عَنْ تِلْكَ المَظْلَمَةِ، وإِليه أَشَارَ المُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:(وَتَدَارَكَ مُمْكِنَ التّدَارُكِ) وقَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي (الشَّامِلِ):
إِنْ لَمْ يَرُدَّ المَظْلَمَةَ وَنَدِمَ فقد صَحَّتْ تَوْبَتُهُ، فإِنَّهَا/ (261/أَ/م) النَّدَمُ علَى مَا سَلَفَ، ومَا تَعَلَّقَ بِرَدِّ المَظْلَمَةِ حقٌّ آخرُ، وجَبَ عَلَيْهِ، فإِذَا لَمْ يفعلْه لَمْ يَبْطُلْ مَا أَتَى بِهِ مِنْ حقيقةِ التّوبةِ، وأَهْمَلُوا للتوبةِ شرطًا آخَرَ، وهو أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِلَّهِ تعَالَى، فَقَدْ يَنْدَمُ الإِنسَانُ علَى شُرْبِ الخَمْرِ لِضَرَرِهَا فِي بدنِه، ويُقْلِعُ ويَعْزِمُ لِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ تَوْبَةً، وإِذَا اعْتُبِرَتِ النِّيَّةُ فِي جَمِيعِ الأَعمَالِ فَالتَّوْبَةُ أَوْلَى بذلك، فإِنَّ النِّيَّةَ رُوحُ العملِ، ونَقَلَ ابْنُ القُشَيْرِيِّ عَنْ وَالِدِه اعْتِبَارَ أَمْرٍ آخَرَ، وهو تَذَكُّرُهُ للذَّنْبِ، فَلَوْ نَسِيَهُ لَمْ تَصِحَّ توبتُه مِنْهُ كَمَا لو نَسِيَ صَاحبُ الدَّيْنِ.
وقَالَ القَاضِي: إِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ تَفْصِيلَ الذنوبِ فَلْيَقُلْ: إِنْ كَانَ لي ذَنْبٌ لَمْ أَعْلَمْهُ فإِنِّي تَائِبٌ إِلَى اللَّهِ تعَالَى مِنْهُ، وكأَنَّهُ فِيمَا إِذَا عَلِمَ لِنَفْسِهِ ذنوبًا لَمْ يَتَذَّكَرْهَا، فأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ لِنَفْسِهِ ذنبًا فَالنَّدَمْ علَى مَا لَمْ يَكُنْ مُحَالٌ.
وقَالَ الشَّيْخُ عزُّ الدّينِ: يَتَذَكَّرَ مِنَ الذّنوبِ السَّالفةِ مَا أَمْكَنَ تَذَكُّرُهُ، ومَا
تَعَذَّرَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَقْدِرُ عليه.
وجمَعَ المُصَنِّفُ بَيْنَ طَرِيقَتَيِ الأُصُولِيِّينَ وَالفقهَاءِ فَتَبِعَ الأُصُولِيِّينَ فِي تفسيرِهَا بِالندمِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ النّدمَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلا بِبَقِيَّةِ الأُمُورِ التي اعْتَبَرَهَا الفُقَهَاءُ.
قَالَ الوَاسِطِيُّ: وكَانَتِ التّوبةُ فِي بَنِي إِسرَائيلَ بقتلِ النّفسِ، كمَا قَالَ تعَالَى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قَالَ: فكَانَتْ توبتُهم إِفنَاءَ أَنْفُسِهِمْ، وَتَوْبَةَ هذه الأُمَّةِ أَشدُّ وهي إِفنَاءُ نفوسِهِمْ عَن مُرَادِهَا مَعَ بقَاءِ رُسومِ الهيَاكلِ، وَمَثَّلَهُ بعضُهم بِمَنْ أَرَادَ كَسْرَ لَوْزَةً فِي قَارُورَةٍ، وذلك مَعَ عُسْرِهِ يَسِيرٌ علَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ تعَالَى عليه.
ص: وَتَصِحُّ وَلَوْ بَعْدَ نَقْضِهَا عَنْ ذَنْبٍ ولو صَغِيرًا مَعَ الإِصرَارِ علَى آخَرَ وَلَوْ كبيرًا عِنْدَ الجُمْهُورِ.
ش: فِيهِ مسَائلُ:
الأُولَى: مَنْ تَابَ ثُمَّ نقضَ التّوبةَ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ التّوبةِ المَاضِيةِ، وعليه المبَادرةُ إِلَى تجديدِ التَّوْبةِ مِنَ المعَاودةِ، قَالَ تعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التّوَّابِينَ} وهذه صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لَا تُطْلَقُ إِلا علَى مَنْ أَكْثَرَ التَّوْبَةِ.
وفِي الحديثِ: ((مَا أَضَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ فِي اليومِ سَبْعِينَ مَرَّةً)).
وخَالَفَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ فقَالَ بَانْتِقَاضِ تَوْبَتِهِ الأَولَى، فَيُؤََاخَذُ بِذَلِكَ الذَّنْبِ/ (261/ب/م) الذي تَابَ منه.
الثَانِيَةُ: تَجِبُ التّوبةُ مِنَ الصّغَائرِ كَالكبَائرِ خِلَافًا لأَبي هَاشمٍ، ولم يَسْتَحْضِرْ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي (الإِرشَادِ) مخَالفتَه فِي ذَلِكَ، فحَكَى الإِجمَاعُ علَى الأَوَّلِ،
وتَوَقَّفَ السُّبْكِيُّ فِي وُجُوبِ التّوبةِ مِنْهَا عينًا، وقَالَ: لعلَّ وقوعَهَا مُكَفَّرَةٌ بِالصلَاةِ، وَاجْتِنَابُ الكبَائرِ يَقْتَضِي أَنَّ الوَاجبَ إِمَّا التّوبةُ أَو فِعْلُ مَا يُكَفِّرُهَا، وبتقديرِ الوُجُوبِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ علَى الفَوْرِ حتَّى يَمْضِي مَا يُكَفِّرُهَا، وخَالَفَهُ وَلَدُه المُصَنِّفُ فقَالَ: الذي أَرَاه وُجُوبُ التّوبةِ عَيْنًا علَى الفورِ، عَنْ كلِّ ذَنْبٍ، نَعَمْ إِنَّ فَرْضَ عدمِ التّوبةِ عَنِ الصغيرةِ ثُمَّ جَاءَتِ المُكَفِّرَاتُ كَفَّرَتِ الصَّغِيرَتَيْنِ، وَهُمَا تِلْكَ الصغيرةُ وعدمُ التَوْبَةِ.
الثَالثةُ: تَصِحُّ التّوبةُ عَنْ ذَنْبٍ مَعَ الإِصرَارِ علَى ذَنْبٍ آخَرَ، خِلَافًا للمُعْتَزِلَةِ، بنَاءً علَى أَصلِهم فِي التّقبيحِ العَقْليِّ؛ لأَنَّ الكلَّ فِي القُبْحِ علَى حدٍّ سوَاءٍ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِم قَوْلُه تعَالَى:{وَآخَرَونَ اعْتََرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهْ} وَقَوْلُهُ: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} .
وفَصَّلَ بَعْضُ أَصحَابِنَا فِي ذَلِكَ فقَالَ الحُلَيْمِيُّ: تصِحُّ التوبةُ مِنْ كبيرةٍ دُونَ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا.
وَمُقْتَضَاهُ عدمُ الصِّحَّةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِهَا، وَبِهِ صرَّحَ الأَستَاذُ أَبُو بَكْرٍ، لكن قَالَ الأَستَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، تصِحُّ حتَّى لو تَابَ عَنِ الزِّنَا بِمَرْأَةٍ مَعَ الإِقَامةِ علَى الزِّنَا بِمِثْلِهَا صَحَّ.
قَالَ ابْنُ القُشَيْرِيُّ: وأَبَاهُ الأَصحَاب.
قَالَ: وقَالَ الإِمَامُ: إِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ العُقُوبَةَ علَى أَحَدِهِمَا صحَّتِ التّوبةُ مِنْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُخْرَى.
وقَالَتِ الصُّوفِيةُ: لَا تَكُونُ تَوْبَةُ السَّالكِ مفتَاحًا للمقَامَاتِ حتَّى يتوبَ عَن جَمِيعِ الذّنوبِ، لأَنَّ كَدْوَرَةَ بَعْضِ القلبِ وَاسْوِدَادَهُ بِالذنبِ تَمْنَعُ مِنَ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ تعَالَى.
ص: وإِنْ شَكَكْتَ أَمأَمُورٌ أَم مَنْهِيٌّ فأَمْسِكْ، ومِنْ ثَمَّ قَالَ الجُوَيْنِيُّ فِي المُتَوَضِّئِ يَشُكُّ أَيَغْسِلُ ثَالثِةً أَم رَابِعَةً: لَا يَغْسِلُ.
ش: الحَالةُ الثَّالثةُ أَنْ يَشُكَّ فِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ مأُمُورٌ بِهِ أَو مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
قَالَ الشَّارِحُ: فَالوَاجبُ الإِمسَاكُ عَنْهُ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم: ((دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ)).
قُلْتُ: فِي وُجُوبِ الإِمسَاكِ هُنَا نَظَرٌ، ويَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ الإِمسَاكُ، ولَا يَجِبُ إِنْ كَانَ مُقَابِلُ النّهيِ/ (262/أَ/م) الإِبَاحةَ، فإِنَّه مِنْ بَابِ الشُّبْهَةِ، وَتَرْكُهَا وَرَعٌ لَا وُجُوبٌ/ (209/أَ/د) وَاستدلَالُه علَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:((دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ)) يَدُلُّ علَى ذَلِكَ وإِنْ كَانَ مقَابلُ النَّهيِ الإِيجَابَ، فقِيَاسُ الشَّكُّ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ الصّلَاةِ وُجُوبُ الفِعْلِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ يُقَالُ: التَّرْكُ أَرْجَحُ لأَنَّ جَانِبَ دَرْءِ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ علَى جَلْبِ المَصَالِحِ، وإِنْ كَانَ ذَلِكَ الأَمرُ للَاستحبَابِ وذلك النَّهْيُ للكرَاهيَةِ، وهو الموَافِقُ لمسأَلةِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيِّ، فإِنَّه إِذَا شَكَّ فِي الوضوءِ فِي الغَسْلَةِ التي يرِيدُ الإِتيَانَ بِهَا، هَلْ هي ثَالثةٌ فتكونُ مَسْنُونَةً أَو رَابِعَةٌ فتكونُ مَكْرُوهَةً، فهو دَائرٌ بَيْنَ تَرْكِ مُسْتَحَبٍّ وَفِعْلِ مَكْرُوهٍ، فَكَيْفَ يَجْيءُ الإِيجَابُ هنَا؟
وَالمُصَنِّفُ إِنَّمَا قَالَ: (فأَمْسِكْ) فأَمَرَ بِذَلِكَ اسْتِحْبَابًا لَا وُجُوبًا، وَالتصريحُ بِالوُجُوب مِنْ تَصَرُّفِ الشَّارِحِ الفَاسدِ مَعَ أَنَّ (جمهورَ الأَصحَابِ) لَمْ يَرْتَضَوْا مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو محمَّدٍ مِنْ تَعْلِيلِ ذَلِكَ بأَنَّ ارْتِكَابَ سَيِّئَةٍ أَهْوَنُ مِنْ ارْتكَابِ بدعةٍ، وقَالُوا: إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ التّحقيقِ، وَلِهَذَا لَوْ شَكَّ أَصلَى ثلَاثًا أَم أَربعًا أَتَى بِرَابِعَةٍ وجوبًا مَعَ احْتِمَالِ وُقُوعِ المَنْهِيِّ بِالزيَادةِ، فإِطلَاقُ الشَّارِحِ إِيجَابُ الإِمسَاكِ خطأٌ.%%%%%%%%%%%%%%%%
وَقَوْلُ المُصَنِّفِ (أَمْسِكْ) مِنْ غَيْرِ تفصيلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الأَمرُ لِلوُجُوبِ أَوْ للَاستحبَابِ وَالنَّهْيِ لِلتحريمِ أَوِ الكرَاهيةِ ـ غَيْرُ مستقيمٌ، وَاستشهَادُهُ بِمَا هو ضعيفٌ، فِي نَظَرِ أَكثرِ الأَصحَابِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ.
وذَكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي تَاريخِه: أَنَّ رَجُلاً رأَى الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ يَتَوَضَّأُ علَى دِجْلَةَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ أَكثرَ مِنْ ثَلَاثٍ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: لَو صَحَّتْ لِيَ الثّلَاثُ لَمْ أَزِدْ.
وحَكَى الشَّارِحُ عِبَارَةَ المُصَنِّفِ: أَغْسِلُ ثَالثةً أَم رَابعةً، وهو تعبيرٌ غيرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لأَنَّهُ فِي هذَا المثَالِ لَا يأَتِي بغسلةٍ أُخْرَى قَطْعًا، وَالذي فِي نُسْخَتِي أَيَغْسِلُ ثَالثةً أَمْ رَابعةً، وهي عبَارةٌ صحيحةٌ، أَيْ: يَشُكُّ هَلْ غسلتينِ مَرَّتَينِ فَيَكُونُ التي يَغْسِلُهَا (ثَالثةً أَمْ لَا فَيَكُونُ يغسلُهَا) رَابعةً.
وقَالَ الشَّارِحُ: وإِنَّمَا اقتصرَ المُصَنِّفُ علَى هذه الأَحوَالِ الثّلَاثةِ؛ لأَنَّهَا قُطْبُ العِلْمِ، وعَلَيْهَا يَدُورُ رحَى العَمَلِ، وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الأَئمةِ أَنَّهُ رأَى فِي ابتدَاءِ أَمْرِهِ فِي المنَامِ أَنَّهُ حَضَرَ الجَامِعَ فوجَدَ مُتَصَدِّرًا فَجَلَسَ لِيَقْرَأَ عَلَيْهِ، فقَالَ: أَنتَ تَقْرَأُ عَلَيَّ، وَقَدْ عَلَّمَكَ اللَّهُ المَسَائِلَ الثّلَاثَ؟ (فَانْتَبَهَ، وأَتَى مُعَبِّرًا، فقَالَ: اذْهَبْ فَسَتَصِيرُ أَعْلَمَ أَهْلِ زمَانِكِ؛ فَإِنَّ المَسَائِلَ الثَّلَاثَ) التي أَشَارَ إِلَيْهَا أَمَّهَاتُ العِلْمِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((الحَلَالُ/ (262/ب/م) بَيِّنٌ، وَالحرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ)). انْتَهَى.
ص: وَكُلٌّ وَاقِعٍ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تعَالَى وإِرَادَتِهِ وهو خَالِقُ كَسْبِ الْعَبْدِ قَدَّرَ لَهُ قُدْرَةً هي استطَاعَتُهٌ تَصْلُحُ لِلْكَسْبِ لَا للإِبدَاعِ؛ فَاللَّهُ خَالقٌ غَيْرُ مُكْتَسِبٍ وَالعبدُ مُكْتَسِبٌ غَيْرُ خَالِقٍ.
ش: كُلٌّ مِنَ الخيرِ وَالشّرِّ وَاقِعٌ بِقدرةِ اللَّهِ وإِرَادتِهِ، وفِي صحيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ مشركُو قُرَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخَاصِمُونَهُ فِي هذَا الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} إِلَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءَ ٍخَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .
ولَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ (فِي صَحِيحِهِ): يُخَالِفُونَهُ فِي الْقَدَرِ، وقَالَ تعَالَى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} .
وذهبَ مَنْ لَمْ يَتَشَرَّعْ مِنَ الفلَاسفةِ إِلَى نَفْيِ القَدَرِ جملةً، وذَهَبَتِ المُعْتَزِلَةُ إِلَى نَفْيِهِ فِي الكُفْرِ وَالمعَاصِي دُونَ الطَّاعَاتِ، وَاختلفوا فِي المُبَاحَاتِ، وأَحْسَنُ مَا يُردُّ عَلَيْهِم بِهِ إِثبَاتُ العِلْمِ لِلَّهِ تعَالَى؛ ولِهذَا قَالَ الشَّافِعِيِّ: الْقَدَرِيَّةُ إِذَا سَلَّمُوا العِلْمَ خَصَمُوا، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ مَالِكٌ بِِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:((اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ)).
وقَالتْ الْجَبْرِيَّةُ: لَا قُدْرَةَ/ (208/ب/د) لَلْعَبْدِ أَصْلاً، وتَوَسَّطَ أَهْلُ السُّنَّةِ بَيْنَ القَدَرِيّةِ وَالجَبْرِيَّةِ، فقَالُوا: اللَّهُ تعَالَى خَالقٌ لأَفعَالِ العبَادِ كَمَا أَنَّهُ خَالقٌ لِذَوَاتِهِمْ قَالَ تعَالَى: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ} وقَالَ: {هَلْ مِنْ خَالقٍ غَيْرُ اللَّهِ} وقَالَ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُونَ} .
فَإِنْ قِيلَ: فإِذَا كَانَ اللَّهُ تعَالَى خَالقُ الفِعْلَ فَكَيْفَ يعَاقبُ علَى شَيْءٍ خَلَقَهُ؟
قُلنَا: كَمَا يُعَاقِبُ خَلْقًا خَلَقَهُ فَلَيْسَتْ عُقُوبَتُهُ علَى مَا خَلَقَ بِأَبْعَدَ مِنْ عقوبتِه مِنْ خَلَقَ، يَفْعَلُ مَا يشَاءُ، ويُحْكِمُ مَا يُرِيدُ، لَا يَسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وهُمْ يُسأَلُونَ، لَكِنَّ
مِنَ العبدِ كَسْبٌ عَلَيْهِ يُثَابُ وعَلَيْهِ يُعَاقَبُ، قَالَ اللَّهُ تعَالَى {ومَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فَأَثْبَتَ لَهُ الرَّمْيَ، ونَفَاهُ عَنْهُ بِاعْتِبَارَيْنِ، فإِذَا نَسَبَ الْفِعْلَ إِلَى القدرةِ القديمةِ سُمِّيَ خَلْقًا، وَالقَادِرُ خَالِقًا، وإِذَا نَسَبَ إِلَى القدرةِ الحَادثةِ سُمِّيَ كَسْبًا، ولَا بُدَّ مِنَ القَوْلِ بِالكَسْبِ تصحيحًا لِلتَّكْلِيفِ وَالثوَابُ وَالعِقَابُ؛ لامتنَاعِ الجَمْعِ بَيْنَ اعتقَادِ الْجَبْرِ المَحْضِ وَالتكليفِ، وحَاصِلُهُ أَنَّ الأَفعَالَ تُنْسَبُ لِلْخَلْقِ شَرْعًا؛ لإِقَامةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، ولَا فَاعلَ فِي الحقيقةِ/ (263/أَ/م) إِلَّا اللَّهُ، فَمُرَاعَاةُ الظَّاهِرِ شريعةٌ، ومرَاعَاةُ البَاطِنِ حقيقيةٌ، وفِي هذَا المذهبِ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا؛ ولِهذَا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: الْقَدَرُ سِرُّ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، لَا جَبْرٌ ولَا تفويضٌ، وتَعَجَّبَ كثيرٌ مِنْ هذَا التَّوَسُّطِ، وقَالُوا: لَا نَعْقِلُ فَرْقًا بَيْنَ الفعلِ الذي نَفَاهُ الأَشْعَرِيُّ عَنِ العبدِ وَالكسبِ الذي أَثْبَتَهُ لَهُ، بَلْ هو كَقَوْلِ الْجَبْرِيَّةِ: إِنَّ العبدَ لَا قدرةَ لَهُ ولَا فِعْلَ ولَا كَسْبَ، ولم يَنْفَرِدِ الأَشْعَرِيُّ بِذَلِكَ بَلْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُم عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا بْنُ جَعْفَرٍ الصَّادِقُ، وَقَدْ سُئِلَ: أَيُكَلِّفُ اللَّهُ العِبَادَ مَا لَا يَطِيقُونَ؟
فقَالَ: هو أَعْدَلُ مِنْ ذلكَ.
قِيلَ: أَفَيَسْتَطِيعُونَ أَنْ يفعلوا مَا يريدون؟
قَالَ: هم أَعجزُ مِنْ ذلك.
وحكَى القَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إِن لِلعبدِ كَسْبًا، وَقَدْ دَلَّ القرآنُ علَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّه تعَالَى نَسَبَ الفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ
ومَا تَعْمَلُونَ} ونَسَبَ الْكَسْبَ لِلْعَبْدِ؛ فَقَالَ تعَالَى: {جَزَاءٌ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وقَالَ: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيدِيكُمْ} وَالكَسْبُ لَيْسَ إِبرَازًا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الوُجُودِ بَلْ نِسْبَةٌ يَعْلَمُهَا الْعَبْدُ بَيْنَ قُدْرَتِهِ ومقدورِهِ فِي مَحَلِّهِ ضرورةً؛ فَكُلُّ أَحَدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ حركةِ المُرْتَعِشِ وحركةِ المُخْتَارِ، فَتِلْكَ مُجْرَدُ فِعْلٍ مِنَ اللَّهِ تعَالَى لَا كَسْبَ لِلعبدِ فِيهَا، وهذه منسوبةٌ إِلَيْهِ، وخُصَّتْ بِاسْمِ الْكَسْبِ فَاللَّهُ تعَالَى خَالِقُ أَفعَالِ العِبَادِ، وهي مُكْتَسَبَةٌ لَهُمْ، وحُجَّةُ اللَّهِ تعَالَى قَائمةٌ عليهم، فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، ولَا مَطْمَعَ فِي الوصولِ إِلَى كَشْفِ ذَلِكَ خَاليًا عَنِ الإِشكَالِ، وَالأُمُورُ إِذَا تعَارَضَتْ صِرْنَا إِلَى أَقْرَبِ احتمَالٍ، وَاللَّهُ المُوَفِّقُ، وإِليه المَرْجِعُ.
ص: ومِنْ ثَمَّ الصّحيحُ أَنَّ القدرةَ لَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ وأَنَّ الْعَجْزَ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ تُقَابِلُ القدرةَ تَقَابُلَ الضِّدَّيْنِ لَا الْعَدمِ وَالْمَلَكَةِ.
ش: فِيهِ مسأَلتَانِ:
الأُولَى: ذَهَبَ الأَشْعَرِيُّ وأَكثرُ أَصحَابِهِ إِلَى أَنَّ القدرةَ علَى الفِعْلِ لَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ؛ لاستحَالةِ اجتمَاعِهِمَا، فَاستطَاعةُ الإِيمَانِ توفِيقٌ وَاستطَاعةُ الكُفرِ خِذْلَانٌ، ولَا تَصْلُحُ إِحْدَاهُمَا لِمَا تصلحُ لَهُ الأُخْرَى.
وقَالَ القَلَانِسِيُّ مِنْ أَصحَابِنَا: إِنَّهَا تَصْلُحُ لَهُمَا علَى الْبَدَلِ، وَحَكَاهُ الأَستَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ سُرَيْجٍ، ومعنَاهُ أَنهَا/ (263/ب/م) إِنِ اقْتَرَنَتْ بِالإِيمَانِ صَلُحَتْ له دُونَ الكُفْرِ، وإِنِ اقْتَرَنَتْ بِالكُفْرِ صَلُحَتْ له دُونَ الإِيمَانِ.
وقَالَتِ المُعْتَزِلَةُ: تصلحُ لهمَا، ويَلْزَمُ عَلَيْهِ الاستغنَاءُ عَنْ تجديدِ الإِمدَادِ، وهو
مُحَالٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((وأَنَا علَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ)) فأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ رَبِّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ لافْتِقَارِهِ إِلَى استطَاعةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ، وفِي التَّنْزِيلِ {فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} فَدَلَّ علَى أَنَّ استطَاعةَ الهُدَى لَا تصلحُ لِلضلَالِ، وأَصلُ الخِلَافِ فِي هذه المَسْأَلَةِ أَنَّ الاستطَاعةَ مَعَ الفعلِ أَو قبلَهُ؛ فَمَنْ قَالَ: هي مَعَهُ ـ وهو الصّحيحُ عِنْدَ الأَشْعَرِيِّ ـ مَنَعَ صلَاحِيَّةَ الْقُدْرَةِ لِلضِّدَّيْنِ، ومَنْ قَالَ قَبْلَهُ، جَوَّزَ ذلكَ.
الثَانِيَةُ: اخْتُلِفَ فِي حقيقةِ العَجْزِ؛ فقَالَ المتكلمون: هو صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ قَائمةٌ بِالعَاجزِ ـ تُضَادُّ القدرةَ، وَالتقَابُلُ بَيْنَهُمَا تقَابُلُ الضِّدَّيْنِ، وقَالَ الفلَاسفةُ: هو عَدَمُ القدرةِ مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ قَادرًا وَالتقَابُل بَيْنَهُمَا تقَابُلُ العَدَمُ وَالْمَلَكَةُ وتَوَقَّفَ الإِمَامُ فِي (الْمُحَصِّلِ) فِي ذَلِكَ، وَاختَارَ فِي (الْمَعَالِمِ) الثَّانِي؛ لأَنَّا مَتَى تَصَوَّرْنَا هذَا الْعَدَمَ حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ عَاجِزًا، وإِنْ لَمْ نَعْقِلْ مِنْهُ أَمرًا آخَرَ؛ فَدَلَّ علَى أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ مِنَ الْعَجْزِ إِلَاّ هذَا الْعَدَمُ.
تَنْبِيهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَجْهُ بِنَاءِ هَاتَيْنِ المسأَلَتَيْنِ علَى مَسأَلةِ خَلْقِ الأَفْعَالِ ـ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ المُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: ومِنْ ثَمَّةَ ـ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ تَأْثِيرٌ بِقُدْرَتِهِ وأَنَّ القدرةَ فِي الحَقِيقَةِ لِلَّه تعَالَى لَزِمَ مِنْهُ امتنَاعُ وُقُوعِ الفِعْلِ مِنْ قَادِرَيْنِ، وأَنَّ الْعَجْزَ ضِدُّ القدرةِ، ولَمَّا انْتَفَى عَنِ العَبْدِ تَأْثِيرُ الْقُدْرَةِ ثَبَتَ لَهُ الْعَجْزُ.
ثَانِيهُمَا: وَجْهُ إِدخَالِ المُصَنِّفِ هذه المَسْأَلَةِ فِي مَسَائِلِ التَّصَوُّفِ ـ وهي مِنْ مَسَائِلِ الكلَامِ ـ شِدَّةُ تَعَلُّقِهَا بِالحَقِيقَةِ البَاعثةِ علَى العملِ؛ فُإِنَّهُ إِذَا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَبْدَ وأَفعَالَهَ وأَرْسَلَ الرُّسُلَ بِالشّرَائعِ، وأَخْفَى عَنِ العبَادِ مَا عَلِمَهُ مِنْ أَحوَالِهم؛ فَمَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِهِ السّعَادةُ يَسَّرَهُ لِلطَّاعَةِ، ومَنَعَ مَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِهِ
الشَّقَاوةُ مِنَ الطَّاعةِ، وَالأَعمَالُ بِالخوَاتِيمِ ومبنَاهَا علَى السَّابقةِ؛ فَالشّريعةُ خطَابُهُ عبَادَهُ بِتكَاليفِهِ، وَاْلحقيقةُ/ (264/أَ/م) تَصَرُّفُهُ فِي خَلْقِهِ كَيْفَ يشَاءُ، وَقَدْ اجْتَمَعَ الأَمرَانِ فِي قَوْلِهِ تعَالَى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ومَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} فَالحَقِيقَةُ بَاطِنُ الشّريعةِ، ولَا يُغْنِي بَاطِنٌ عَنْ ظَاهرٍ، ولَا ظَاهِرٌ عَن بَاطِنٌ.
ص: ورَجَّحَ قَوْمٌ التَّوَكُّلَ وآخَرُونَ الاكتسَابَ وثَالِثٌ الاختلَافَ، ومِنْ ثَمَّ قِيلَ: إِرَادةُ التّجريدِ مَعَ دَاعِيَةِ الأَسبَابِ شَهْوَةٌ خَفِيَّةٌ، وسُلُوكُ الأَسبَابِ مَعَ دَاعِيَةِ التّجريدِ انْحِطَاطٌ عَنِ الذِّرْوَةِ الْعَلِيَّةِ، وَقَدْ يَأْتِي الشَّيْطَانُ بِاطِّرَاحِ جَانِبِ اللَّهِ تعَالَى فِي صُورَةِ الأَسبَابِ أَو بِالْكَسَلِ وَالتَّمَاهُنِ فِي صُورَةِ التَّوَكُّلِ، وَالْمُوَفَّقُ يَبْحَثُ عَنْ هَذَيْنِ، ويَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ ولَا يَنْفَعُنَا عِلْمُنَا بِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ سبحانه وتعالى.
ش: اخْتُلِفَ فِي التَّوَكُّلِ وَالاكتسَابِ أَيِّهِمَا أَرْجَحُ علَى أَقوَالٍ:
أَحَدِهَا: التَّوَكُّلُ؛ لأَنَّهُ حَالُهُ عليه الصلاة والسلام، وحَالُ أَهْلِ الصِّفَةِ، وفِي الحديثِ الصّحيحِ فِي صِفَةِ الَّذِينَ يَدْخَلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابِ:((وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) ولأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ مُجَاهدَاتٍ، وَالأَجْرُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ.
ثَانِيهَا: الاكْتِسَابُ؛ لِقولِهِ عليه الصلاة والسلام: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ أَطْيَبُ مِمَّا كَسَبَتْ يَدَاهُ)) رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وفِيهِ أَيضًا مَرْفُوعًا: ((إِنَّ دَاودَ ـ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ كَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)) ولأَنَّهُ فِعْلُ الأَكَابِرِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ.
ثَالِثُهَا ـ وهو المُخْتَارُ ـ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحوَالِ النَّاسِ؛ فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْفَاقَةِ ولَمْ يَسْخَطْ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرِّزْقِ ولَا اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ فَالتَّوَكُّلُ فِي حِقِّهِ أَفْضَلُ، قَالَ اللَّهُ تعَالَى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ علَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وفِي الحديثِ: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ علَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)).
ومَنْ تَسَخَّطَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرِّزْقِ أَوِ اضْطَرَبَ قَلْبُهُ، أَوْ تَشَوَّفَ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَالْكَسْبُ لَهُ أَرْجَحُ، وفِي هذَا جَمْعٌ بَيْنَ اخْتِلَافِ الأَدِلَّةِ، وهو نَظِيرُ جَوَازِ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ المَالِ لِمَنْ يَصْبِرُ علَى الإِضَاقَةِ، وكرَاهَتُهُ لِمَنْ لَيْسَ كذلكَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمَانِ: وَعَلَيْهِ أَكثرُ أَهْلِ/ (264/ب/م) الْمَعْرِفَةِ.
وقَالَ بعضُهم: التَّوَكُّلُ حَالُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالكَسْبُ سُنَّتُهُ؛ فَمَنْ ضَعُفَ عَنْ حَالِهِ فَلْيَسْلُكْ سُنَّتَهُ، وذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ أَنَّ فقيرًا كَتَبَ فَتْوَى: مَا تَقُولُ الفقهَاءُ فِي الفقيرِ الْمُتَوِجِّهِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَسْبُ؟
فأَجَابَ مَنْ نَوَّرَ اللَّهُ بَصِيْرَتَهُ: إِنْ كَانَ تَوَجُّهُهُ دَائمًا لَا فترةَ فِيهِ فَالكَسْبُ عَلَيْهِ حرَامٌ، وإِنْ كَانَتْ لَهُ فِي بَعْضِ الأَوقَاتِ فترةٌ مَا فَالتَّكَسُّبُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ.
قُلْتُ: وفِي جَعْلِ المُصَنِّفِ الاكتسَابَ فِي مُقَابَلَةِ التَّوَكُّلِ نَظَرٌ، فإِنَّ الاكتسَابَ لَا يُنَافِي التَّوَكُلَّ، فإِنَّ التَّوَكُلَّ رُكُونُ القلبِ إِلَى اللَّهِ، وَالاعتمَادُ عَلَيْهِ، لَا علَى السَّبَبِ فقد يَحْرُمُ ثَمْرَةُ السَّبَبِ مَعَ تعَاطِيهِ، وفِي الحديثِ أَنَّ رجلاً قَالَ: يَا
رسولَ اللَّهِ! أَرْسِلُ نَاقَتِي وأَتَوَكَّلُ، أَو أَعْقِلُهَا وأَتوكلُ؟ فقَالَ:((اعْقِلْهَا وتوكَّلْ)) روَاه البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُه.
(ورَوَى معَاويةُ بْنُ قُرَّةَ) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى علَى قَوْمٍ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ المتوكلون. فقَالَ: بَلْ أَنتم الْمُتَّكِلُونَ، أَلَا أَخْبِرُكُمْ بِالمتوكِّلِينَ: رَجُلٌ أَلْقَى حَبّْهَ فِي بَطْنِ الأَرضِ، ثُمَّ تَوَكَّلَ علَى ربِهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي الْمُتِّكِلِينَ علَى أَموَالِ النَّاسِ.
وقَالَ الْجُنَيْدُ: لَيْسَ التّوكُّلُ الكسبَ، ولَا تَرْكَ الكسبِ؛ التَّوَكُّلُ سُكُونُ الْقَلْبِ إِلَى موعودِ اللَّهِ تعَالَى.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: فَعَلَى هذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ تجريدُ هذَا السُّكونِ عَنِ الكَسْبِ شرطًا فِي صِحَّةِ التّوكلِ، بَلْ هو مكتسبٌ بِظَاهرِ العِلْمِ مُعْتَمَدٌ بِقَلْبِهِ علَى اللَّهِ تعَالَى، كَمَا قَالَ بعضُهم: اكتسبْ ظَاهرًا وتَوَكَّلْ بَاطنًا؛ فهو مَعَ كَسْبِهِ لَا يَكُونُ معتمدًا علَى كَسْبِهِ بَلْ معتمدًا فِي كفَايةِ أَمْرِهِ علَى اللَّهِ تعَالَى.
قُلْتُ: فكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ التّعبِيرُ بِقَوْلِهِ: ورَجَّحَ قَوْمٌ تَرْكَ الأَسبَابِ وقَوْمٌ: الاكتسَابَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ): يُشِيرُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ بْنُ عطَاءِ اللَّهِ فِي كتَابِ (التَّنْوِيرُ فِي إِسقَاطِ التَّدْبِيرِ) قَالَ: طَلَبُكَ التَّجْرِيدَ مَعَ إِقَامةِ اللَّهِ إِيَّاكَ فِي الأَسبَابِ مِنَ الشّهْوَةِ الخَفِيَّةِ، وطَلَبُكَ الأَسبَابَ مَعَ إِقَامَةِ اللَّهِ إِيَّاكَ فِي التَّجْرِيدِ
انْحِطَاطٌ عَنِ الْهِمَّةِ الْعَلِيَّةِ.
وَافْهَمْ ـ رحمك اللَّهُ ـ أَنَّ مِنْ شأَنِ العدوِّ أَنْ يأَتِيَكَ فِيمَا أَنتَ فِيهِ، فَيُحَقِّرُهُ عندَكَ؛ لِتَطْلُبَ غَيْرَ مَا أَقَامَكَ اللَّهُ فِيهِ، فَيُشَوِّشُ قَلْبَكَ ويَتَكَدَّرُ وقتُكَ/ (265/أَ/م) وذلك أَنَّهُ يأَتِي لِلْمُتَسَبِّبِينَ فَيقولُ: لو تَرَكْتُمُ الأَسبَابَ وتَجَرَّدْتُمْ لأَشرقَتْ لَكُمُ الأَنوَارُ، ولَصَفَتْ مِنْكُمُ القلوبُ وَالأَسرَارُ، وكذلك َصَنَعَ فلَانٌ وفلَانٌ، ويَكُونُ هذَا الْعَبْدُ لَيْسَ مقصودًا بِالتجريدِ، ولَا طَاقةَ لَهُ بِهِ، إِنَّمَا صلَاحُهُ فِي الأَسبَابِ فَيَتْرُكُهَا فَيَتَزَلْزَلُ إِيمَانُهُ، ويَذْهَبُ إِيقَانُهُ ويَتَوَجَّهُ إِلَى الطَّلَبِ مِنَ الخلقِ، وإِلَى الاهتمَامِ بِالرزقِ، وكذلكَ يأَتَي لِلْمُتَجِرِّدِينَ ويقولُ: إِلَى مَتَى تَتْرُكُونَ الأَسبَابَ؟ أَلمْ تعلموا أَنَّ ذَلِكَ يُطْمِعُ القلوبَ لِمَا فِي أَيدي النَّاسِ، ولَا يُمْكِنُكَ الإِيثَارُ ولَا القيَامُ بِالحقوقِ، وعِوَضُ مَا يَكُونُ مُنْتَظَرًا مَا يَفْتَحُ بِهِ عليك؛ فَلَوْ دَخَلْتَ فِي الأَسبَابِ بَقِيَ غيرُكَ منتظِرًا مَا يَفْتَحُ عَلَيْهِ مِنْكَ، ويكونُ هذَا الْعَبْدُ قَدْ طَابَ وَقْتُهُ، وَانْبَسَطَ نورُهُ، ووَجَدَ الرَّاحةَ بِالانقطَاعِ عَنِ الخَلْقِ، ولَا يزَالُ بِهِ حتَّى يعودَ إِلَى الأَسبَابِ فَيُصِيبُهُ كُدْرَتُهَا ويَغْشَاهُ ظُلْمَتُهَا، ويعودُ الدَّائمُ فِي سَبَبِهِ أَحسنَ حَالاً مِنْهُ، وإِنَّمَا يَقْصِدُ الشّيطَانُ بِذَلِكَ أَنْ يَمْنَعَ العِبَادَ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وأَنْ يُخْرِجَهُمْ عَمَّا اختَارَ لَهُمْ إِلَى مُخْتَارِهِمْ لأَنفسِهم، ومَا أَدْخَلَكَ اللَّهُ فِيهِ تَوَلَّى إِعَانَتَكَ عَلَيْهِ، ومَا دَخَلْتَ فِيهِ بِنَفْسِكَ وَكَلَكَ إِلَيْهِ، وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا. انْتَهَى.
وفِيه تَنْبِيهٌ: علَى مَكِيدةٍ شَيْطَانِيَّةٍ، وهو أَنَّهُ قَدْ يَحُثَّ علَى السَّبَبِ، ويُوهِمُ لَهُ السُّنَّةَ دَاسًّا فِيهِ الرُّكُونَ إِلَيْهِ، وَاطِّرَاحِ جَانِبِ الرَّبِّ تعَالَى/ (210/أَ/د) وَقَدْ يَحُثُّ علَى التَّرْكِ مُوهِمًا أَنَّهُ فِي مَقَامِ التّوَكُّلِ، وإِنَّمَا هو عَجْزٌ ومَهَانَةٌ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُفِّقَ لِلْفَرْقِ، وحَذِرَ مِنْ تَمْوِيهِهِ وَاغتيَالِهِ.
هذَا آخِرُ مَا تَيَسَّرَ جَمْعُهُ، وكَانَ الفَرَاغُ مِنْ جَمْعِهِ وتَأْلِيفِهِ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ َالأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعَ ٍوعِشْرِينَ وثَمَانِي مِائَةٍ علَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ خَطُّ مُؤَلِّفِهِ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلاً وآخِرًا وظَاهِرًا وبَاطِنًا، وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٌ، وآلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمْ تسليمًا كثيرًا إِلَى يومِ الدِّينِ، ورَضِي اللَّهُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وعَنِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحسَانٍ إِلَى يومِ الدِّينِ، وحَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الْوَكِيلُ.