الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتَابُ السَّادسُ
فِي التَّعَادُلِ وَالترَاجِيحِ
ص: الكِتَابُ السَّادسُ فِي التَّعَادُلِ وَالترَاجِيحِ
ص: يُمْتَنَعُ تَعَادُلُ القَاطِعَيْنِ وكَذَا الأَمَارَتَيْنِ فِي نَفْسِ الأَمرِ علَى الصّحيحِ، فَإِنْ تَوَهَّمَ التّعَادُلَ فَالتَّخْيِيرُ أَوِ التّسَاقطُ أَوِ الوَقْفُ أَوِ التّخْيِيرُ فِي الوَاجبَات وَالتسَاقطُ فِي غيرِهَا-أَقْوَالٌ.
ش: لمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الأَدِلَّةِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَالمُخْتَلَفِ فِيهَا، عَقَدَ هذَا الكتَابَ؛ لِبيَانِ كَيْفِيَّةِ الاستدلَالِ بِهَا عِنْدَ التّعَارضِ، فَذَكَرَ التّعَادُلَ وهو التّسَاوِي أَوَّلاً، ثُمَّ ذَكَرَ التّرَاجِيحَ.
وَالتعَادُلُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ القَطْعِيَّيْنِ مُمْتَنَعٌ، سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ نَقْلِيَّيْنِ، وإِلَاّ ثَبَتَ مُقْتَضَاهُمَا وهُمَا نَقِيضَانِ، وكَذَا بَيْنَ القَطْعِيِّ وَالظَّنِيِّ لانِتْفَاءِ الظّنِ عِنْدَ القَطْعِ بِالنقيضِ.
وأَمَّا التّعَادلُ بَيْنَ الأَمَارتَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَ فِي نَظَرِ المُجْتَهِدِ فهو مُتَّفَقٌ علَى جَوَازِهُ.
وإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الأَمرِ فَفِيهِ قولَانِ، أَصحُّهمَا عِنْدَ المُصَنِّفِ امتنَاعُهُ، وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيُّ، وحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالثَّانِي: الجَوَازُ، وَبِهِ قَالَ الأَكْثَرُونَ كَمَا حَكَاهُ الإِمَامُ وَالآمِدِيُّ وَابْنُ الحَاجِبِ وَاختَارَهُ.
وقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي قوَاعدِه: (لَا يُتَصَوَّرُ فِي الظّنُونِ تعَارضٌ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي العلومِ، وإِنَّمَا يَقَعُ التّعَارضُ بَيْنَ أَسبَابِ الظُّنونِ) فَإِنْ حَصَلَ الشّكُّ لَمْ نَحْكُمْ بِشَيْءٍ، وإِنْ وُجِدَ الظّنُّ فِي أَحَدِ الطّرفِيْنِ حُكِمَ بِهِ، وإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُكَذِّبًا لِلآخَرِ تَسَاقَطَا، كَتعَارضِ الخَبَرَيْنِ، وَالشّهَادَتَيْنِ، وإِنْ لَمْ يُكَذِّبْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عُمِلَ بِهِ بِحَسَبِ الإِمكَانِ كَدَابَّةٍ عَلَيْهَا رَاكبَانِ يُحْكَمُ بِهِمَا لهمَا؛ لأَنَّ كُلاًّ مِنَ اليَدَيْنِ لَا تُكَذِّبُ الأُخْرَى. انْتَهَى.
فإِذَا فَرَّعْنَا علَى جَوَازِ التّعَادُلِ فَفِيمَا يَصْنَعُ المُجْتَهِدُ مَذَاهِبُ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا فِي العَمَلِ وَالقضَاءِ، ويَجْعَلَ فِي الفَتْوَى الخِيرَةَ لِلمُسْتَفْتِي، وبِهذَا قَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ/ (165/أَ/د) وأَبُو عَلِيٍّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ، وجَزَمَ بِهِ الإِمَامُ وَالبَيْضَاوِيُّ فِي الكَلَامِ علَى تعَارضِ/ (203/ب/م) النّصَّيْنِ.
ثَانِيهُمَا: أَنَّهُمَا يَتَسَاقطَانِ ويَرْجِعُ إِلَى غيرِهِمَا وهو البَرَاءَةُ الأَصْلِيَّةُ، حَكَاهُ البَيْضَاوِيُّ عَنْ بَعْضِ الفقهَاءِ.
ثَالِثُهَا: الوَقْفُ كَالبَيِّنَتَيْنِ المُتَعَارِضَتَيْنِ.
رَابِعُهَا: التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ فِي الوَاجبَاتِ تَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا، كَمَالِكِ مَائتَيْنِ مِنَ الإِبلِ يُخْرِجُ أَرْبَعَ حِقَاقٍ أَو خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وإِنْ كَانَ فِي غيرِهَا كَتعَارضِ الإِبَاحةِ وَالتحريمِ تسَاقَطَا، ورَجِعَ إِلَى البرَاءةِ الأَصْلِيَّةِ.
قَالَ الشَّارِحُ: وَقَوْلُهُ: (فإِنْ تَوَهَّمَ) أَحسنَ مِنْ قَوْلِ غيرِه: (فإِنْ ظَنَّ) لأَنَّ الظَّنَّ لِلطَّرَفِ الرَّاجِحِ ولَا يُوجَدُ ذَلِكَ، وإِنَّمَا هو بِالنِّسَبَةِ إِلَى ظَنِّ
المُجْتَهِدِ.
قُلْتُ: التّعبيرُ هُنَا بِالتَّوَهُّمِ لَا يَصِحُّ؛ لأَنَّ هذَا الخِلَافَ إِنَّمَا هو مُفَرَّعٌ علَى جَوَازِ تعَادلِهمَا فِي نَفْسِ الأَمرِ، وهو خِلَافُ مَا صَحَّحَهُ المُصَنِّفُ؛ فكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: فإِنْ حَصَلَ التّعَادلُ، وبِتقديرِ تَفْرِيعِهِ علَى المَنْعِ فَقَدْ عَرَفْتَ الاتِّفَاقَ علَى جَوَازِهُ فِي نَظَرِ المُجْتَهِدِ، فَالتعبيرُ بِالظَّنِّ صوَابٌ، ولَا معنَى لِلتعبيرِ بِالتَّوَهُّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: وإِنْ نُقِلَ عَنْ مُجْتَهِدٍ قولَانِ مُتَعَاقِبَانِ فَالمُتأَخِّرُ قَوْلُهُ، وإِلَاّ فَمَا ذُكِرَ فِيهِ مَا المُشْعِرِ بِترجيحِه وإِلَاّ فهو مُتَرَدِّدٌ، ووَقَعَ لِلشَّافِعِيِّ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ مَكَانًا، وهو دَلِيلُ علَى عُلُوِّ شأَنِه عِلْمًا ودِينًا، ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامدٍ مُخَالفُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْهُمَا أَرْجَحُ مِنْ مُوَافقتِه، وعَكَسَ القَفَّالُ، وَالأَصَحُّ الترجيحُ بِالنَّظَرِ فَإِنْ وَقَفَ فَالوقْفُ.
ش: تَعَارُضُ قَوْلِ المُجْتَهِدِ فِي حَقِّ مُقَلِّدِيهِ كتعَارضِ الأَمَارتَيْنِ فِي حَقِّ المُجْتَهدِينَ؛ فَلِذلك ذَكَرَه عَقِبَه، فإِذَا نُقِلَ عَنْ مُجْتَهِدٍ قولَانِ فِي مسأَلةٍ وَاحدةٍ فَلَهُمَا حَالانِ.
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَذْكُرَهُمَا فِي وَقْتَيْنِ، فَإِنْ عَلِمَ المُتَأَخِّرَ مِنْهُمَا فهو قَوْلُهُ، ويكونُ الأَوَّلُ مرجوعًا عَنْهُ، وإِن جَهِلَ الحَالَ حُكِيَا عَنْهُ، ولَا يُحْكَمُ علَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِه بِالرجوعِ عَنْهُ، وإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا مرجوعٌ عَنْهُ.
الحَالةُ الثَّانِيةُ: أَنْ يَنُصَّ عليهمَا فِي وَقْتٍ وَاحدٍ، فإِنْ ذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ مَا يُشْعِرُ بِترجيحِ أَحَدِهُمَا ولوْ بِالتفريعِ عَلَيْهِ فهو مذهبُهُ.
وفَائِدَةُ ذِكْرِ المرجوحِ مَعَهُ بيَانُ مرجوحِيَّتِهِ لئلَا يُتَوَهَّمَ رُجْحَانُه، وإِن لَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ مَا يُشْعِرُ بِترجيحِ أَحَدِهُمَا فهو مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا.
ثم يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَا احتمَالَيْنِ لَهُ تَرَدُّدٌ بَيْنَهُمَا لِتعَارضِ الأَدلَّةِ عندَه، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا قَوْلَيْنِ لِلعلمَاءِ قَبْلَهَ.
ولَمْ يَقَعْ للشَّافِعِيِّ ذِكْرُ قولَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحدٍ مِنْ غَيْرِ ترجيحٍ لأَحَدِهُمَا إِلَاّ فِي بِضْعِ عشرةَ مسأَلةً، كمَا نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ (اللُّمَعِ) عَنِ القَاضِي أَبِي حَامدٍ المَرْوَزِيِّ، ووَهِمَ صَاحبُ (المَحْصُولِ) فِي نَقْلِه ذَلِكَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامدٍ، وفِي تعيينِه أَنَّهَا سَبْعَ عشرةَ/ (204/أَ/م) وتَتِمَّةُ كلَامِ/ (165/ب/د) القَاضِي أَبِي حَامدٍ سِتَّةَ عشرَ أَو سبعةَ عشرَ.
وقَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ: قَالَ المُحَقِّقُونَ: لَا تكَادَ تَبْلُغُ عشرًا.
وَاختلَافُ أَقوَالِ الشَّافِعِيِّ فِي المَسْأَلَةِ يَدُلُّ علَى عُلَوِّ شأَنِهِ فِي العِلْمِ لاتِّسَاعِ نَظَرِهِ ودَوَامِ اجتهَادِهِ وعملِه، وفِي الدّينِ حيثُ لَمْ يَسْتَنْكِفْ فِي الأُولَى مِنَ الرّجوعِ عمَّا ظَهَرَ لَهُ فَسَادُه، ولَمْ يَتَعَصُّبْ لِترويجِ مذهبِه، ولَمْ يُقَدِّمْ فِي الثَّانِيةِ علَى الجَزْمِ بِمَا هو مُتَرَدِّدٌ فِيهِ.
فإِذَا لَمْ يَعْلَمِ المُتَأَخِّرَ مِنْهُمَا، أَو ذَكَرَهُمَا فِي وقتٍ وَاحدٍ، ولَمْ يَذْكُرْ مَا يُشْعِرُ بِترجيحِ أَحَدِهُمَا، وكَانَ أَحَدَهُمَا مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ أَبِي حنيفةَ، وَالآخَرُ مُخَالفًا لَهُ ففِيه ثلَاثةُ أَقوَالٍ.
أَحَدِهَا ـ وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامدٍ ـ: أَنَّ مُخَالفتَه أَوْلَى؛ لأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا خَالفَه لاطِّلَاعِه علَى دَلِيلٍ يَقْتَضِي المُخَالفةَ.
وَالثَّانِي ـ وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ ـ: أَنَّ المُوَافِقَ لَهُ أَوْلَى، وصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وكأَنَّهُ بَنَاه علَى طريقتِه فِي التَّرْجِيحِ فِي المَذْهَبِ بِالكثرةِ كَالرِّوَايَةِ، وهو ضعيفٌ.
ثَالِثِهَا: أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي أَرجحِهمَا بِالطريقِ المُعْتَبَرِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا الرَّاجِحُ تَوَقَّفْنَا، وهذَا هو الأَصَحُّ عِنْدَ المُصَنِّفِ.
ص: وإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلمُجْتَهِدِ قَوْلٌ فِي مَسْأَلْةٍ لَكِنْ فِي نَظِيرِهَا فهو قَوْلُهُ المُخْرَّجُ فِيهَا علَى الأَصَحِّ، وَالأَصَحُّ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مُطْلَقًا بَلْ مُقَيَّدًا، ومِنْ مُعَارضةِ نَصٍّ آخَرَ لِلنظيرِ تَنْشَأُ الطُّرُقُ.
ش: إِذَا لَمْ يُعْرَفْ للمجتهدِ فِي مسأَلةٍ قَوْلٌ، وإِنَّمَا عُرِفَ لَهُ مثلُه فِي نظيرِهَا، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يخرجَ مِنْ نصِّه فِي تِلْكَ إِلَى هذه ويُعْرَفُ حكمُهَا قَالَ
الجُمْهُورُ: نَعَمْ.
وقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا، ولَا يُجْعَلُ مَا يقتضِيه قَوْلُه قولاً له، إِلا إِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ، كقولِه: تُثْبِتُ الشُّفْعَةُ فِي الشَّقْصِ مِنَ الدَّارِ، فيُقَالُ: قَوْلُه فِي الحَانوتِ كذلك.
وإِذَا قلنَا بَالأَوَّلِ فَهَلْ يُنْسَبُ إِليه؟
فِيه وجهَانِ، أَصحُّهمَا المَنْعُ؛ لأَنَّهُ رُبَّمَا ذَكَرَ فَرْقًا ظَاهِرًا لو رُوجِعَ، ومأَخذُ الخِلَافِ أَنَّ لَازمَ المذهبِ هَلْ هو مَذْهَبٌ؟
وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، نَعَمْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ مُقَيَّدًا، فيُقَالُ: هو قِيَاسٌ قَوْلِه، أَو قِيَاسُ أَصلِه.
وتَنْشَأَ الطُّرُقُ فِي المَذْهَبِ مِنْ كَوْنِ الشَّافِعِيِّ ينصُّ فِي مسأَلةٍ علَى شيءٍ، وينصُّ فِي نظيرِهَا علَى مَا يعَارضُه، ولَا يظهَرُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فِيختلِفُ الأَصحَابُ، فمِنْهُمْ مَنْ يُقَرِّرُ النَّصَّيْنِ، ويتكلَّفُ فِرْقًا، وَمِنْهُم مَنْ ينقِلُ جوَابَهُ فِي كلِّ مسأَلةٍ إِلَى الأُخْرَى، فِيصيرُ فِي كُلِّ مِنْهُمَا قولَانِ: مَنْصُوصٌ ومَخْرَجٌ.
المنصوصُ فِي هذه هو المخرجُ فِي تلك، وَالمنصوصُ/ (204/ب/م) فِي تِلْكَ هو المخرجُ فِي هذه، فِيصيرُ فِيهَا قولَانِ بِالنقلِ وَالتخريجِ.
ص: وَالترجيحُ تَقْوِيَةُ أَحَدِ الطريقينِ وَالعملُ بِالرَاجحِ وَاجبٌ، وقَالَ القَاضِي: إِلا مَا رَجُحَ ظنًا؛ إِذ لَا ترجيحُ بِظَنٍّ عندَهُ، وقَالَ البَصْرِيُّ: إِنْ رَجُحُ أَحَدُهُمَا بِالظَّنِّ فَالتخييرُ.
ش: لمَا تَكَلَّمَ علَى التّعَادُلِ شَرَعَ يتكلَّمُ علَى التَّرْجِيحِ، وعرَّفَهُ بأَنَّهُ/ (166/أَ/د) تقويةُ أَحدِ الطّريقينِ أَي: المتعَارضِينَ علَى الآخرِ؛ لِيعملَ بِالقويِّ، كَذَا عبَّرَ فِي (المَحْصُولِ) وعبَّرَ البَيْضَاوِيُّ بِالأَمَارتينِ؛ أَي: الدَّلِيلينِ الظَّنِّيَّيْنِ، وَاستحسنَه
المُصَنِّفُ فِي شرحِهِ، لامتنَاعِ التَّرْجِيحِ فِي غَيْرِ الأَمَارتينِ، فكَان يَنْبَغِي التَّعْبِيرُ بِهِ هنَا.
وقولُنَا: (لِيَعْملَ بِالقويِّ) احْتَرِزْ بِهِ عَن تقويتِهَا لَا لِلْعَمَلِ، بَلْ لبيَانِ كونِهَا أَفصحُ، وَقَدْ ظهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ هذَا فصلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، فمَا كَانَ يَنْبَغِي إِهمَالُه.
وزَاد صَاحِبُ (البديعِ) فِي التَّعْرِيفِ وصفَا؛ ليخرُجَ التَّرْجِيحَ بدليلٍ مُسْتَقِلٌّ فَلَا يجوزُ، لأَنَّهُ يؤدِّي إِلَى الانتقَالِ لدليلٍ آخرَ، فإِنَّه لَا تعلَّقَ للثَاني بَالأَوَّلِ فَالعدولُ إِلَيْهِ انتقَالٌ.
ونَازعَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ فِي تعريفِ التَّرْجِيحِ، بِالتقويةِ التي هي مستندِةٌ إِلَى الشَّارعِ أَو المُجْتَهِدِ حقيقةً، وإِلَى مَا بِهِ التَّرْجِيحُ مجَازًا، وقَالَ: هو فِي الاصطلَاحِ نفسُ مَا بِهِ التَّرْجِيحُ.
وإِذَا تبيَّنَ أَن إِحدَى الأَمَارتينِ أَرجحُ مِنَ الأُخْرَى فقَالَ الأَكْثَرُونَ: يجِبُ العَمَلُ بِالرَاجحِ.
وفصَّلَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ فقَالَ: يجِبُ العَمَلُ بِالرَاجحِ إِذَا ترجَّحَ بقطعيٍّ، كتقديمِ النَّصِّ علَى القِيَاسِ، فإِنَّ تَرَجَّحَ بظنِيٍّ كَالأَوصَافِ وَالأَحوَالِ وكثرةِ الأَدلَّةِ ونحوِهَا، فَلَا يجِبُ العَمَلُ بِهِ، فإِنَّ الأَصْلَ امتنَاعُ العَمَلِ بِالظنِّ، خَالفنَاه فِي الظّنونِ المستقلَّةِ بأَنفسِهَا لإِجمَاعِ الصّحَابةِ فِيبقَى التَّرْجِيحُ علَى أَصلِ الامتنَاعِ؛ لأَنَّهُ عمَلَ بظِنٍّ لَا يستقِلُّ بنفسِهِ.
ورُدَّ بِالإِجمَاعِ علَى عدمِ الفرقِ بَيْنَ المستقِلِّ وَغَيْرِه.
وَقَدْ رَجَّحَتِ الصّحَابةُ رضِي اللَّه تعَالَى عَنْهُم قَوْلَ عَائشةَ رضي الله عنها فِي التّقَاءِ الختَانينِ: (فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاغْتَسَلْنَا) علَى الخبرِ الذي رَوَاه جمَاعةٌ
مِنَ الصّحَابةِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: ((إِنَّمَا المَاءُ مِنَ المَاءِ)) لكونِهَا أَعرفُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ.
وأَنكرَ أَبُو عبدِ اللَّهِ البَصْرِيُّ مِنَ المُعْتَزِلَةِ التَّرْجِيحُ، وذهبَ عِنْدَ التّعَارضِ إِلَى التّخييرِ، ولو تفَاوَتَ الظَّنَّانِ.
قَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ: كَذَا حَكَاهُ القَاضِي عَنْهُ، وَلَمْ أَرَهُ فِي كلَامِهِ.
وقَالَ غيرُه: إِن صَحَّ عَنْهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، لأَنَّهُ مسبوقٌ بإِجمَاعِ الصّحَابةِ وَغَيْرِهِمْ.
ص: ولَا تَرْجِيحَ فِي القَطْعيَّاتِ لِعَدَمِ التَّعَارُضِ/ (205/أَ/م) وَالمتأَخِّرُ نَاسِخٌ وإِنَّ نَقْلَ التّأَخيرِ بِالآحَادِ عُمِلَ بِهِ؛ لأَنَّ دوَامَه مَظْنُونٌ.
ش: لَا مدخلَ للترجِيحِ فِي الأَدلَّةِ القَطْعيَّةِ؛ لأَنَّهُ فَرْعُ التّعَارُضِ، وَالتعَارُضُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ كَمَا تقدَّمَ، فإِنْ عُلِمَ التَّاريخُ وكَانَ المدلولُ قَابلاً للنسخِ، فَالمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ للمتقدِّمِ إِذَا عُلِمَ تأَخُّرُه بِالقطعِ، فإِنْ كَانَ منقولاً بِالآحَادِ عُمِلَ بِهِ أَيضًا، لأَنَّهُ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ الأَصْلِ فِيهِ الدّوَامُ وَالاستمرَارُ، وهو معنَى قَوْلِ المُصَنِّفِ:(لأَنَّ دوَامَهُ مَظْنُونٌ).
وقَالَ الإِبيَاريُّ فِي شرحِ (البَرْهَانِ): إِنَّ هذَا هو الأَظهرُ، وذَكَرَ مَعَهُ احتمَالاً آخر بِالمنع، لأَنَّهُ يؤدي إِلَى إِسقَاط المتوَاتر بِالآحَاد.
ص: وَالأَصَحُّ التَّرْجِيحُ بكثرةِ الأَدلَّةِ وَالروَاةِ.
ش: فِيهِ مسأَلتَانِ.
الأَولَى: يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بكثرةِ الأَدلَّةِ عِنْدَ مَالكٍ وَالشَّافِعِيِّ / (166/ب/د) وَالجُمْهُورُ،
خِلَافًا للحنفِيةِ؛ فإِنَّهَا تُفِيدُ تقويةُ الظَّنِّ، وَالظنَّانِ أَقوَى مِنَ الظّنِّ الوَاحِدِ، لِكَوْنِهِ أَقربُ إِلَى القَطْعِ.
الثَانِيَةُ: يَجُوزُ تَرْجِيحُ أَحدِ الخَبَرَيْنِ علَى الآخرِ بكثرةِ الرّوَاةِ، وَالخِلَافُ هُنَا أَضعفُ مِنَ الذي قبلَه، ولهذَا وَافَقَ هُنَا بَعْضَ المخَالفِين هنَاكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ للمسأَلةِ أَحوَالاً:
إِحدَاهَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي المَسْأَلَةِ دَلِيلٌ سوَى الخبرينِ، ويَسْتَوِي روَاتُهُمَا فِي العدَالةِ وَالثقةِ، ويزيدُ أَحَدُهُمَا بِعَدَدِ الرّوَاةِ، فقَالَ القَاضِي أَبُو بَكْر: العَمَلُ بِهِ قَطْعِيٌّ.
الثَانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ فِي المَسْأَلَةِ قيَاسٌ، فقَالَ القَاضِي أَبُو بَكْر: المَسْأَلَةُ الآن ظَنِّيَّةٌ.
قَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ: وتُشْبَهُ أَنْ تَكُونَ هذه مَحَلَّ الخِلَافِ.
الثَالثةُ: أَنْ يَكُونَ رَاوي أَحَدِهِمَا ثِقَةٌ، ويروي الآخرُ جَمْعٌ لَا يَبْلُغُونَ فِي الثّقةِ وَالعدَالةِ مبلغُه، فَاعتبرَ بَعْضُ المُحْدَثِينَ مَزِيَّةً العددِ، وبعضُهُمْ مَزِيَّةِ الثّقةِ.
قَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ: وَالغَالبُ علَى الظّنِّ المُتَعَلِّقُ بمزيةِ الثّقةِ.
ص: وأَنَّ العَمَلَ بِالمتعَارضِينِ ولو مِنَ وَجْهٍ أَولَى مِنْ إِلغَاءِ أَحَدِهمَا، ولو سُنَّةً قَابلَهَا كتَابٌ، ولَا يُقَدَّمُ الكتَابُ علَى السُّنَّةِ، ولَا السُّنَّةُ عَلَيْهِ، خِلَافًا لزَاعميهمَا، فإِن تعذَّرَ وعُلِمَ المتأَخِّرُ فنَاسِخٌ، وإِلَاّ رجع إِلَى غيرهمَا، وإِن تقَارنَا فَالتخيير إِن تعذر الجمع وَالترجيح، وإِن جهل التَّاريخ وأَمكن النّسخ رجع إِلَى غيرهمَا وإِلَاّ يخير النَّاظر، إِن تعذر الجمع وَالترجيح، فإِن كَانَ أَحَدُهُمَا أَعمَّ فكمَا سبَقَ.
ش: مَحَلُّ ترجيحِ أَحدِ الدَّلِيلينِ المتعَارضِينِ علَى الآخرِ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ الجمعُ بَيْنَهُمَا، فلو أَمْكَنَ ولو مِنْ وجهٍ صُيِّرَ إِلَيْهِ؛ لأَنَّ فِيهِ إِعمَالَهمَا وهو/ (205/ب/م) أَولَى مِنَ الإِهمَالِ، كحديثِ ((أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ)) مَعَ قَوْلِه عليه الصلاة والسلام:((لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بإِهَابٍ ولَا عَصَبٍ)) فيُحْمَلُ المَنْعُ علَى مَا قَبْلَ الدِّبَاغِ وَالإِبَاحةِ علَى مَا بعده، ولو كَانَ أَحدُ الدَّلِيلينِ المتعَارضِينِ سُنَّةٌ وَالآخرُ كتَابًا فَالحُكْمُ كذلك، وَقِيلَ: يُقَدَّمُ الكتَابُ لأَنَّهُ أَرجحُ، وَقِيلَ: السُّنَّةُ، لأَنَّهَا بيَانِ.
ومثَالُه قَوْلُه عليه الصلاة والسلام فِي البحرِ: ((الحِلُّ مَيْتَتُهُ)) فإِنَّه عَامٌّ فِي مَيْتَةِ البَحْرِ حتَّى خنزيرِه مَعَ قَوْلِه تعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} فإِنَّهُ يتنَاوَلُ خنزيرَ البحرِ، فتعَارَضَ عمومُ الكتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي خنزيرِ البحرِ فقَدَّمَ بعضُهم الكتَابَ فحرَّمَهُ. وبعضُهُم السُّنَّةَ فأَحَلَّهُ.
وقَالَ بعضُهُمْ: إِنْ أَمْكَنَ الجمعُ وإِلَاّ قَدَّمَ الكتَابَ إِنْ كَانَتِ السُّنَّةِ آحَادًا، فإِن كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً فسَيَأْتِي فِي كلَامِِهِِ.
وَقَدْ يقَالَ: هذَا مُكَرَّرٌ، فإِنَّه تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:(إِنَّهُ يخصُّ عمومَ القرآنِ بخبرِ الوَاحِدِ) ويلزَمُ مِنْهُ التّنَاقضُ فإِنَّه اختَارَ هنَاك التّخصيصَ وهنَا التّعَارُضُ، فإِنْ تعذَّرَ الجمعُ بَيْنَ الدَّلِيلينِ المتعَارضِين فإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمًا وَالآخرُ متأَخِّرًا أَو يتقَارَنَا أَو يَجْهَلَ التَّاريخُ.
الحَالةُ الأُولَى أَنْ يَعْلَمَ المتأَخِّرَ مِنْهُمَا، فهو نَاسِخٌ للأَوَّلِ، إِنْ قَبِلَ حُكْمُهُ النّسخَ، فإِنْ لَمْ يَقْبَلِ النَّسْخَ/ (167/أَ/د) تسَاقَطَا، ووَجَبَ الرجوعُ إِلَى غيرِهمَا، كَذَا قَالَهُ الإِمَامُ.
وَاعترضَه +النّقْشَوَانِيُّ بأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْبَلِ النَّسْخَ امتنَعَ العَمَلُ بِالمتأَخِّرِ فتعيَّنَ
المتقدِّمُ، ثُمَّ مَحَلُّ مَا أَطلقَهُ المُصَنِّفُ من سقوطِهمَا وَالرجوعِ إِلَى غيرِهمَا مَا إِذَا كَانَا مَعْلُومَيْنِ فإِنْ كَانَا مَظْنُونَيْنِ طُلِبَ التَّرْجِيحُ.
الثَانِيَةُ: أَنْ يتقَارَنَا، أَي: يكونَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا إِنْ تَعَذَّرَ الجَمْعُ وَالترجيحُ.
وكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يقولَ: (لِتَعَذُّرِ الجَمْعِ) لأَنَّ الكلَامَ مفروضٌ فِي تعذُّرِ الجَمْعِ.
الثَالثةُ: أَن يَخْتَلِفَ تَاريخُهمَا ولكنْ يُجْهَلُ فإِنْ كَانَ الحُكْمُ قَابلاً للنسخِ وجَبَ الرجوعُ إِلَى غيرِهمَا لإِمكَان التقدُّمِ فِي كلٍّ مِنْهُمَا، فَلَا يُعْمَلُ بِهِ، وإِِنْ لَمْ يَقْبَلِ النّسخَ فحكمُه حُكْمُ المتقَارِنَيْنِ، وهو التّخييرُ بَيْنَهُمَا، إِنْ تَعَذَّرَ الجمعُ وَالترجيحُ ولو أَحَالَ حُكْمَهُ عَلَيْهِ لكَانَ أَحسنَ، ثُمَّ هذَا إِذَا تَسَاوَيَا فِي العمومِ أَو الخُصُوصِ، فإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعمَّ فكمَا سَبَقَ؛ أَي: فِي آخرِ التخصيصِ مِنْ أَنَّهُ/ (206/أَ/م) يُصَارُ إِلَى التَّرْجِيحِ فَلَمْ يَحْتَجَّ إِلَى إِعَادتِهِ.
ص: مسأَلةٌ: يَرْجُحُ بِعُلُوِّ الإِسنَادِ وفقهِ الرَّاوي، ولغتِه، ونحوِه، ووَرَعِهِ، وضَبْطِهِ وفِطْنَتِهِ، وَلَوْ روَى المَرْجُوحَ بِاللفظِ، ويَقَظَتِهِ، وعَدَمِ بِدْعَتِهِ، وَشُهْرَةِ عدَالتِه، وكونِه مُزَكًّى بِالاختبَارِ، أَو أَكثرَ +مُزَكين، ومعروفَ النّسبِ، قِيلَ: ومشهورُه، وصريحُ التّزكيةِ علَى الحُكْمِ بشهَادتِهِ وَالعملِ بروَايتِه وحفظِ المرويِّ، وذِكْرِ السَّبَبِ وَالتعويلِ علَى الحفظِ دُونَ الكتَابةِ وظهورِ طريقِ روَايتِهِ، وسمَاعِهِ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ، وكونُه مِنْ أَكَابرِ الصّحَابةِ وذَكَرَا خِلَافًا للأَستَاذِ، وثَالِثُهَا: يَرْجُحُ فِي غَيْرِ أَحكَامِ النّسَاءِ +وحرًا ومتأَخِّرِ الإِسلَامِ، وَقِيلَ: متقدِّمُهُ، ومتحمِلًا بعدَ التَّكْلِيفِ، وَغَيْرُ مُدَلِّسٍ، وَغَيْرُ ذي اسْمَيْنِ، ومبَاشِرًا، وصَاحِبُ الوَاقَعَةِ، ورَاوِيًا بِاللفظِ، ولم يُنْكِرْه رَاوي الأَصْلِ، وكونِه فِي الصَّحِيحَيْنِ.
ش: ترجيحُ بَعْضِ الأَخبَارِ علَى بَعْضٍ يَكُونُ مِنْ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: بِحَسَبِ حَالِ الرَّاوي، وذلك بِاعْتِبَارَاتٍ:
أَحَدُهَا: كثرةُ الرّوَاةِ كَمَا تقدَّمَ.
ثَانِيهَا: عُلُوُّ الإِسنَادِ؛ لِتَضَمُّنِهِ قِلَّةَ الوسَائطَ، فَيَقِلُّ احتمَالُ الخَطَأِ فِيهِ؛ ولهذَا رَغِبَ الحُفَّاظُ فِي عُلُوِّ الإِسنَادِ، ورَكِبُوا المَشَقَّةَ فِي تحصيلِهِ.
ثَالِثُهَا: فقه الرَّاوي، سَوَاءً كَانت الرّوَاية بِاللفظ أَو المعنَى، لأَنَّ الفقيهَ إِذَا سُمِعَ مَا يَمْتَنِعُ حَمْلُه علَى ظَاهرِهِ بُحِثَ عَنْهُ حتَّى يَطَّلِعَ علَى مَا يزولُ بِهِ الإِشكَال بخلَاف غيره، وقَالَ بعضهم: إِن روَى بِاللفظ فَلَا ترجيحَ بذلكَ.
رَابِعُهَا: عِلْمُهُ بِاللغةِ وَالنحوِ؛ لأَنَّ العَالِمَ بِهِمَا يُمْكِنُهُ التّحفُّظَ عَن موَاقعِ الزللِ، فكَانَ الوثوقُ بروَايتِه أَكثرَ، كذَا فِي (المَحْصُولِ) ثُمَّ قَالَ: ويُمْكِنُ أَنْ يقَالَ: هو مَرْجُوحٌ؛ لأَنَّهُ يَعْتَمِدُ علَى معرفتِه فَلَا يُبَالِغُ فِي الحِفْظِ وَالجَاهلِ بِهِ يخَافُ فَيُبَالَغُ فِي الحفظِ.
خَامِسُهَا: رجحَانُه علَى/ (167/ب/د) الرَّاوي الآخرِ فِي وصفِ يَغْلِبُ ظنُّ الصّدقِ كَالوَرَعِ وَالضبطِ وَالفِطْنَةِ وَاليَقَظَةِ، وَلَوْ كَانَ الرَّاجِحُ بأَحدِ هذه الأُمُورِ روَى الحديثَ بِالمعنَى، وَالمرجوحُ بِهَا روَاه بِاللفظِ، وَقَدْ تقدَّمَ ذِكْرُ الخِلَافِ فِيه فِي فَقْهِ الرَّاوي، وظهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَه:(المرجوحُ) مرفوعٌ، فإِنَّه فَاعِلُ رَوَى.،
سَادِسُهَا: حَسُنَ اعتقَادُه فتُقَدَّمَ روَايتُه علَى روَايةِ المُبْتَدِعِ، وإِنْ لم/ (206/ب/م) تُسْقِطْ بِدْعَتُهُ عدَالَتَهُ.
سَابِعُهَا: شُهْرَةُ عدَالتِه، وكذَا شهرتُه بِالصفَاتِ السَّابقةِ مِنَ الورعِ وَالفطنةِ وَالعِلْمِ.
ثَامِنُهَا: كَوْنُه مُزَكًّى بِالاخْتِبَارِ وَالمُمَارَسَةِ، فَيُقَدَّمُ علَى مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُه
بِالتَّزْكِيَةِ لأَنَّ المُعَايَنَةَ أَقوَى مِنَ الخَبَرِ.
تَاسِعُهَا: كَثْرَةُ المُزَكِّينَ للرَّاوِي؛ ولهذَا قُدِّمَ حَدِيثُ بُسْرَةَ فِي الانْتِقَاضِ بِمَسِّ الذَّكَرِ علَى حَدِيثِ طَلْقٍ فِي نَفْيِهِ.
عَاشِرُهَا: كَوْنُهُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ، فَتُقَدَّمُ رِوَايَتُه علَى مَجْهُولِهِ، قَالَه فِي (المَحْصُولِ) وزَادَ الآمِدِيُّ وَابْنُ الحَاجِبِ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَشْهُورُ النَّسَبِ، ولَمْ يَرْتَضِهِ المُصَنِّفُ فلذلك ضَعَّفَه وَلَهُ وَجْهٌ؛ لأَنَّ مَنْ لَيْسَ مَشْهُورُ النَّسَبِ قَد يُشَارِكُه ضَعِيفٌ فِي الاسْمِ، وعَلَّلَه الآمِدِيُّ بأَنَّ احْتِرَازَه عمَّا يُوجِبُ نَقِيضَ مَنْزِلَتُه المَشْهُورَةَ أَكْثَرَ.
حَادي عشرِهَا: تُقَدَّمُ روَايةِ مَنْ صُرِّحَ بتزكيتِه علَى مَنْ حُكِمَ بشهَادتِه أَوْ عُمِلَ بروَايتِه، كَذَا ذَكَرَهُ الآمِدِيُّ وَغَيْره، وقدَّم البَيْضَاوِيُّ بعدَ التّعديلِ بِالاختبَارِ العَمَلَ علَى روَايتِه، ومقتضَاه تقديمُه علَى التّزكيَةِ.
ثَاني عشرِهَا: حُفِظَ المرويَّ بأَنْ يَحْكِي لفظَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كقولِ أَبِي مَحْذُورَةَ: (لَقَنَّنِي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً).
وروَايةُ عبدِ اللَّهِ بْنِ زيدِ
بْنِ عبدِ ربِّهِ: (الأَذَانُ لَا تَرْجِيعَ فِيهَا) وهو لَا يُحْكِيه لَفْظًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثَالثَ عشرِهَا: ذِكْرُ السبَبِ، فَيَرْجُحُ بِهِ علَى روَايةِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُ لزيَادةِ اهتمَامِ ذَاكرِ السبَبِ بِهِ.
رَابعَ عشرِهَا: تقدَّمَ روَايةِ مِنْ اعتمَادِهِ علَى حفظِهِ علَى روَايةِ مِنْ اعتمَادِهِ علَى كتَابِهِ، للَاختلَافِ فِي جَوَازِ الاعتمَادِ علَى الكتَابِ مِنْ غَيْرِ حِفْظٍ.
خَامسَ عشرِهَا: ظُهُورُ طريقِ روَايتِهِ؛ أَي: الطّريقِ التي يُحْمَلُ بِهَا الحديثُ مِنْ سَمَاعِ مِنْ لفظِ الشَّيْخِ أَو قرَاءةٍ عَلَيْهِ أَو غيرِهمَا، فتُقَدَّمُ علَى روَايةِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَعَيُّنُ طَرِيقِ تَحَمُّلِه، كَذَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَلَمْ أَرَهْ فِي كلَامِ غيرِه، ولم يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّارِحُ.
سَادسَ عشرِهَا: كَوْنُ سمَاعِهِ شفَاهًا لَيْسَ مِنْ ورَاءِ حِجَابٍ،/ (207/أَ/م) كروَايةِ القَاسِمِ بْنِ محمَّدٍ عن عَائشةَ رضي الله عنها:(أَنَّ بُرَيْرَةَ عُتِقَتْ وكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا) فهي متقدِّمَةٌ علَى روَايةِ الأَسودِ عَنْهَا (إِنَّهُ كَانَ حُرًّا) فإِنَّ القَاسمَ سُمِعَ مِنْهَا
بلَا حِجَابٍ؛ لأَنَّهَا عمَّتْهُ، وَالأَسودُ مِنْ ورَاءِ حجَابٍ.
سَابعَ عَشْرِهَا: كَوْنُهُ مِنْ أَكَابرِ الصّحَابةِ؛ أَي: رؤسَائِهم لِقُرْبِهِ مِنْ مَجْلِسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم/ (168/أَ/د)، وَلَيْسَ المُرَادُ بِذَلِكَ كِبَرَ السَّنِّ.
وعَنْ أَحْمَدَ روَايةٌ: إِنَّهُ لَا تَرْجِيحَ به، ومثلُه تقديمُ مَنْ هو أَكثرُ صحبةً.
ثَامنَ عشرِهَا: كَوْنُهُ ذَكَرًا فَتُرَجَّحُ رِوَايتُهُ علَى روَايةِ المَرْأََةِ لأَنَّهُ أَقوَى ضَبْطًا.
قَالَ الشَّارِحُ: وهو ضَعِيفٌ، وَالصوَابُ مَا قَالَهُ الأَستَاذُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بهَا.
وقَالَ ابنُ السَّمْعَانِيُّ فِي (القوَاطِعِ) إِنَّهُ ظَاهِرُ المذهبِ، ولم يَذْكُرِ الأَوَّلَ إِلا احتمَالاً له، وحكَى +إِلكيَاالطَّبَرِيُّ+ الاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، فقَالَ: لَمْ يَقُلْ أَحدٌ: إِنَّ رِوَايَةَ الرِّجَالِ مُرَجَّحَةٌ علَى روَايةِ النِّسَاءِ وكَانَ المَانِعُ مِنْهُ أَنَّ الذي يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ يجِبُ رِجُوعُه إِلَى عينٍ مَا وقَعَ الاحتجَاجُ بِهِ، وَقَدْ تَعْرِضُ امرأَةٌ أَضبطُ مِنَ الرّجلِ أَو أَحْفَظُ.
وفِي المَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وهو تقديمُ روَايةِ المرأَةِ إِذَا كَانَ المرويُّ فِي أَحكَامِ النسَاءِ، وتقديمُ روَاةِ الذكورِ فِي غَيْرِ ذلك.
تَاسعَ عشرِهَا: كَوْنُهُ حُرًّا وهو ضعيفٌ، كَالذي قبله.
قَالَ ابنُ السَّمْعَانِيُّ: وَالحُرِّيَّةُ لَا تَأْثِيرَ لهَا فِي قُّوَّةِ الظَّنِّ.
عشرونُهَا: كَوْنُ رَاوِيه مُتَأَخِّرَ الإِسلَامِ أَو مُتَأَخِّرَ الصّحبةِ لحفظِه آخرَ الأَمرينِ، ولهذَا قدَّمَ حديثَ ابْنِ عبَاسٍ فِي التشهُّدِ، علَى روَايةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وعكَسَهُ الآمِدِيُّ وَابْنُ الحَاجِبِ فقدَّمَا روَايةَ مُتَقَدِّمِ الإِسلَامِ لزيَادةِ
أَصَالتِهِ فِي الإِسلَامِ.
وحكَى ابنُ السّمعَانيُّ عَنِ الحَنَفِيَّة: أَنَّهُ لَا ترجيحَ بهذَا، لدوَامِ صحبةِ المتقدِّمِ الإِسلَامِ إِلَى وفَاةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا يترجَّحُ المتأَخِّرُ الإِسلَامِ عليه.
وقَالَ ابْنُ السمعانيِّ: ومَا قُلْنَاه أَولَى؛ لأَنَّ سَمَاعَ المُتَأَخِّرِ يُحَقِّقُ بآخرِه، وسمَاعُ المُتَقَدِّمِ يَحْتَمِلُ المتقدِّمُ/ (207/ب/م) وَالمُتَأَخِّرُ، فمُحَقَّقٌّ التّأَخُّرِ أَولَى.
حَادي عشرينِهَا، أَنْ يَكُونَ تحمُّلُه لِمَا روَاه بعدَ التّكليفِ، فتُقَدَّمُ روَايتُه علَى مَنْ لَمْ يَتَحَمَّلْ إِلَّا فِي صِبَاه، وعلَى المتحمِّل فِي الحَالتينِ، لاحتمَالِ كَوْنِ هذَا المرويِّ مِنَ المتحمِّلِ فِي الصِّبَا.
قَالَ الشَّارِحُ: ويشمَلُ تعبيرُه بِالتكليفِ مَنْ روَى حَالَ الكفرِ أَو حَالَ الكفرِ، وَالإِسلَامُ، فإِن لَمْ يُرْوَ إِلا فِي الإِسلَامِ يُقَدَّمُ عليه.
قُلْتُ: هذَا مَبْنِيٌّ علَى أَنَّ الكفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بفروعِ الشّريعةِ، ثُمَّ لو عُبِّرَ بِالتحمُّلِ لكَانَ أَولَى مِنَ التّعبيرِ بِالروَايةِ؛ لأَنَّ الأَغلبَ أَنْ يُرَادَ بِالروَايةِ الأَدَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثَاني عشرينِهَا: كَوْنُهُ غَيْرَ مُدَلِّسٍ، فتُقَدَّمُ رِوَيَتُهُ علَى المُدَلِّسِ، ولَا يَخْفَى أَنَّ المُرَادَ حَيْثُ قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ، وإِلَاّ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ.
ثَالثُ عشرينِهَا: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ اسمَانِ فروَايتُه مُقَدَّمَةٌ علَى روَايةِ مَنِ اشْتَهَرَ بَاسمينِ.
رَابعُ عشرينِهَا: كَوْنُهُ مبَاشرًا للوَاقعةِ فإِنَّه أَعرفُ بِهَا من غيرِه، ولهذَا قدَّمَ الشَّافِعِيُّ روَايةَ أَبِي رَافعٍ فِي نِكَاحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ميمونةَ حلَالًا علَى روَايةِ ابْنِ عبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا/ (168/ب/د) لأَنَّ أَبَا رَافِعَ كَانَ السّفِيرُ فِي ذلك.
خَامسُ عشرينِهَا: كَوْنُهُ صَاحبَ الوَاقعةِ، كروَايةِ ميمونةَ أنَّه عليه الصلاة والسلام تَزَوَّجَهَا وهو حلالٌ، روَاه مُسْلِمٌ.
سَادسُ عشرينِهَا: كَوْنُهُ روَى الحديثَ بلفظِه، فَيُقَدَّمُ علَى مَنْ روَاه بِالمعنَى أَو شَكَّ هَلْ روَاه بلفظِهِ أَو مَعْنَاه.
سَابع عشرينِهَا: كَوْنُ ذَلِكَ الحديثِ لَمْ يُنْكِرِ الأَصْلَ فِيهِ روَايةُ الفَرْعِ، فَيُقَدَّمُ علَى مَا أَنَكَرَ الأَصْلَ وإِنْ لَمْ يَقْبَلْ إِنكَارُه، وَتَعْبِيرُ المُصَنِّفِ برَاويِ الأَصْلِ تَبَعَ فِيهِ (المَحْصُولُ) و (المِنهَاجُ) لكنه قَالَ فِي شرحِه: الصوَابُ زيَادةُ (ال) فِي الرَّاوي أَو حذفِه بِالكليَّةِ.
ثَامنُ عشرينِهَا: كَوْنُهُ فِي الصّحيحينِ مُقَدَّمٌ علَى مَا هو فِي أَحَدِهمَا، وعلَى مَا كَانَ علَى شرطِهمَا ولم يخرِّجَاهُ.
ص: وَالقولُ، فَالفعلُ فَالتقريرُ، وَالفصيحُ لَا زَائدَ الفصَاحةِ علَى الأَصحِّ، وَالمشتمِلُ علَى زيَادةٍ وَالوَاردُ بلغةِ قريشٍ، وَالمدنيُّ وَالمشعرُّ/ (208/أَ/م) بِعُلُوِّ شأَنِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَالمذكورُ فِيهِ الحُكْمُ مَعَ العِلَّةِ، وَالمتقدِّمُ فِيهِ ذِكْرُ العِلَّةِ علَى الحُكْمِ، وعكسَ +النّقشوَانِيُّ، ومَا فِيهِ تهديدٌ أَو تأَكيدٌ، ومَا كَانَ عمومًا مُطْلَقًا علَى ذي السّببِ، إِلا فِي السَّبَبِ، وَالعَامُّ الشَّرْطِيُّ علَى النكرةِ المنفِيَّةِ علَى الأَصحِّ، وهي علَى البَاقي، وَالجمعُ المعرَّفُ علَى (مَا) و (من) وَالكلُّ علَى الجنسِ المعرَّفِ لاحتمَالِ العَهْدِ، وقَالُوا ومَا لَمْ يَخُصَّ وعندي عكسُه، وَالأَقلُّ تخصيصًا وَالاقتضَاءُ علَى الإِشَارةِ
وَالإِيمَاءِ، ويرجِّحَانِ علَى المفهومينِ، وَالموَافقةُ علَى المخَالفةِ، وَقِيلَ عكسُه.
ش: الثَّانِي التَّرْجِيحُ بحسبِ المتنِ، وذلك بأُمُورٍ.
أَحَدُهَا: كَوْنُهُ قولاً مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُقَدَّمُ علَى فعلِه إِذَا تعَارَضَ مَعَهُ للَاتِّفَاقِ علَى دلَالةِ القولِ، ولَاحتمَالِ الفعلِ الاختصَاصَ بِهِ.
ثَانِيهَا: يُقَدَّمُ فعلُه عليه الصلاة والسلام علَى تقريرِه.
ثَالِثُهَا: يُقَدَّمُ الخبرُ الفصيحُ اللّفْظِ علَى الرّكيكِ، للَاختلَافِ فِي قبولِ الرّكيكِ، وإِن كَانَ الحقُّ قبولَه لاحتمَالِ روَايةِ رَاويِه له بِالمعنَى، وإِنْ كَانَ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَنْطِقْ إِلا بِالفصيحِ.
رَابِعُهَا: الأَصحُّ أَنَّهُ لَا ترجيحَ بزيَادةِ الفصَاحةِ فَلَا يُرَجَّحُ الأَفصحُ علَى الفصيحِ؛ لأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يتكلَّمُ بِالأَمرينِ ولَا سيَّمَا بحضورِ مَنْ لَا يَعْرِفُ إِلا الفصيحَ.
وقَالَ الشَّارِحُ: إِنمَا قَالَ المُصَنِّفُ: (لَا زَائدَ الفصَاحةِ) ولم يقُلْ: (إِلَاّ الأَفصحَ) كمَا فِي المنهَاجِ، لأَنَّ الأَفصحَ أَنْ يَكُونَ فِي كلمةٍ وَاحدةٍ لغتَانِ، إِحْدَاهُمَا أَفصحُّ مِنَ الأُخْرَى، وَالأَزيدُ فصَاحةً أَنْ يَكُونَ فِي كلمَاتِ مِنْهَا الفصيحُ وَالأَفصحُ، ولكنَّ الأَفصحَ فِيهَا أَكثرُ انْتَهَى.
خَامِسُهَا: يقدَّمُ المشتمِلُ علَى زيَادةِ كَالتكبيرِ فِي العيدِ سبعًا تُقدَّمُ علَى روَايةِ الأَربعِ.
سَادِسُهَا: يُقَدَّمُ مَا كَانَ بلغةِ/ (169/أَ/د) قُرَيْشٍ علَى لغةِ غيرِهم مِنَ العربِ.
سَابِعُهَا: يُقَدَّمُ المَدَنِيُّ علَى المَكِّيِّ؛ لأَنَّ الأَكثرَ فِي المكيِّ كَوْنِه قَبْلَ الهجرةِ فَيُلْحَقَ الأَقلُّ بِالأَكثرِ.
ثَامِنُهَا: يُقَدَّمُ الخبرُ الدَّالُّ علَى علوِّ شأَنِ/ (208/ب/م) الرّسولِ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الآخرِ وبدأَ الدينُ غريبًا.
تَاسِعُهَا: يُقَدَّمُ مَا ذُكِرَتْ فِيهِ عِلَّتُهُ علَى غيرِه؛ لأَنَّ ذِكْرُ عِلَّتُهُ يَدُلُّ علَى الاهتمَامِ بِهِ كحديثِ: ((مَنْ بدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ)) مَعَ حديثِ النّهيِ عَنْ قتلِ النسَاءِ لِكَوْنِهِ علَّقَ القتلَ فِيهِ بِالردَّةِ، وذلك لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورةَ. ِ
وَالأَنوثةِ، ولَا وَصْفَ فِي لفظِ النّسَاءِ، فأَمْكَنَ حملُه علَى الحَرْبِيَاتِ.
عَاشِرُهَا: يقدَّمُ مَا ذُكِرَتْ فِيهِ العِلَّةُ قَبْلَ الحُكْمِ علَى عكسِه، ولم يَذْكُرِ الأُصُولِيُّونَ هذَا فِي الترَاجيحِ، وإِنَّمَا أَخَذَهُ المُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِ الإِمَامِ فِي (المَحْصُولِ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَقَدُّمُ العِلَّةِ علَى الحُكْمِ أَقوَى فِي الإِشعَارِ بِالعلِّيَّةِ مِنَ الثَّانِي.
وعكسَه النّقْشَوَانِيُّ+ فقَالَ: إِذَا تقدَّمَ الحُكْمُ تُطُلِّبَتْ نفسُ السَّامِعِ، فإِذَا سُمِعَ وصفًا مُعَقَّبًا بِالفَاءِ سَكَنَتْ نفسُهُ عَنِ الطلبِ، ورَكَنَتْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هو العِلَّةُ، بخلَافِ مَا إِذَا تقدَّمَ معنَى ثُمَّ ذكَرَ الحُكْمَ فقد يُكْتَفَى فِي العِلَّةِ بمَا سبَقَ إِذَا كَانَ شديدَ المنَاسبةِ مثلُ:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وَقَدْ لَا، مثلُ قَوْلِهِ:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَّاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} .
حَادي عشرِهَا: مَا فِيهِ تهديدٌ علَى مَا لَيْسَ كذلك.
ثَاني عشرِهَا: مَا فِي دلَالتِه تأَكيدٌ علَى مَا لَيْسَ كذلك، كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: ((أَيُّمَا امرأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذنِ وليِّهَا فنِكَاحُهَا بَاطلٌ، فنكَاحُهَا بَاطِلٌ،
فنكَاحُهَا بَاطِلٌ)) فهو أَرجحُ مِنْ حديثِ: ((الأَيِّمُ أَحَقُّ بنفسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا)) إِنْ سَلِمَ دلَالتُهُ علَى المطلوبِ.
ثَالثُ عشرِهَا: إِذَا تعَارَضَ عَامَّانِ: أَحَدُهُمَا وَارِدٌ علَى سببٍ، وَالآخرُ مُطْلَقٌ فإِنْ كَانَ تعَارضُهمَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ السَّبَبِ قُدِّمَ المطلقُ، وإِن كَانَ فِي مَحَلِّ السّببِ قُدِّمَ ذو السَّبَبِ.
رَابعُ عشرِهَا: يُقَدَّمُ العَامُّ الشَّرْطِيُّ؛ أَي: الذي فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ كـ (أَي) و (من) و (مَا) علَى النكرةِ المنفِيَّةِ؛ لأَنَّ الأَوَّلَ فِيهِ معنَى التَّعْلِيلِ، فهو أَدلُّ علَى المَقْصُودِ ممَا لَيْسَ بِمُعَلَّلٍ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الحَاجِبِ وَغَيْرُه، ويوَافِقُه قَوْلُ (المَحْصُولِ) إِنَّ عمومَ الأَوَّلِ بِالوضعِ، وَالثَّانِي بِالقرينةِ.
وجَزَمَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ بتقديمِ النّكرةِ المنفِيَّةِ علَى غيرِهَا مِنْ أَنوَاعِ العمومِ، وتُقَدَّمَ هي ـ؛ أَي: النكرةُ المنفِيَّةُ ـ علَى بَاقي العمومَاتِ،/ (209/أَ/م) ويُقَدَّمُ الجَمْعُ المعرَّفُ بـ (أَل) علَى (من) و (مَا) أَي الاستفهَاميتينِ، أَمَّا لو كَانَا للشرطِ فقد تقدَّمَ ترجيحُ الشّرطيِّ علَى غيرِه.
ويقدَّمُ الكلُّ؛ أَي: الجَمْعُ المعرَّفِ و (مَا) و (من) علَى اسمِ الجنسِ المُعَرَّفِ بِال لاحتمَالِهِ العهدَ احتمَالاً قريبًا بخلَافِ الثَّلَاثَةِ، فإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ العهدَ أَو تَحْتَمِلُه علَى بُعْدٍ.
خَامسُ عشرِهَا: يقدَّمُ/ (169/ب/د) العَامُّ الذي لَمْ يدخلْه تخصيصٌ علَى مَا دخلَه التّخصيصُ لكونِ الأَوَّلِ حقيقةً، وَالثَّانِي مجَازًا، كَذَا قَالُوا.
قَالَ المُصَنِّفُ: وعندي عكسُه.
وعلَّتُهُ أَنَّ غَالِبَ العمومَاتِ مخصصٌ، فمَا
دخلَه التّخصيصُّ بعدَ تخصيصِه مَرَّةً أُخْرَى بخلَافِ البَاقي علَى عمومِهِ، وسبقَه إِلَى ذَلِكَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ.
سَادسُ عشرِهَا: يُقَدَّمُ مَا قلَّ تخصيصُه علَى مَا كثرِ.
قَالَ الشَّارِحُ: ويَنْبَغِي أَن يجيءَ فِيهِ الاحتمَالُ السَّابقُ.
سَابعُ عشرِهَا: يُقَدِّمُ دلَالةَ الاقتضَاءِ علَى دلَالةِ الإِشَارةِ لترجيحِهَا بقصدِ المتكلِّمِ، وعلَى دلَالةِ الإِيمَاءِ لِتَوَقُّفِ صدقِ المتكلِّمِ أَو صِحَّةِ الملفوظِ بِهِ عَلَيْهَا
ثَامنُ عشرِهَا: يرجحَانِ؛ أَي: دلَالةُ الإِشَارةِ وَالإِيمَاءُ علَى دلَالةِ المفهومينِ؛ أَي: مَفْهُومُ الموَافقةِ وَالمخَالفةِ.
تَاسعُ عشرِهَا: يُرَجِّحُ مَفْهُومَ الموَافقةِ علَى مَفْهُومِ المخَالفةِ، للَاتِّفَاقِ علَى الأُولَى وَالخُلْفُ فِي الثَّانِيةِ، وَقِيلَ: عكسُه.
وَاختَارَه الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ لمَا فِيهِ مِنَ التّأَسيسِ بخلَافِ مَفْهُومِ الموَافقةِ فإِنَّه تأَكيدٌ.
ص: وَالنَاقِلُ عَنِ الأَصْلِ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وَالمُثْبِتُ علَى النَّافِي، وثَالِثُهَا: سَوَاءٌ، ورَابِعُهَا: إِلا فِي الطّلَاقِ وَالعِتَاقِ، وَالنهيِ علَى الأَمرِ، وَالأَمرُ علَى الإِبَاحةِ، وَالخبرُ علَى الأَمرِ وَالنهيِ، وخبرُ الحظرِ علَى الإِبَاحةِ وثَالِثُهَا: سوَاءٌ، وَالوُجُوبُ، وَالكرَاهةُ، علَى النّدبِ، وَالندبُ علَى المبَاحِ فِي الأَصحِّ، ونَافِي الحَدِّ خِلَافًا لقومٍ، وَالمعقولُ معنَاه وَالوصفِيُّ علَى التّكليفِيِّ فِي الأَصحِّ.
ش: الثَّالِثُ: التَّرْجِيحُ بِاعْتِبَارِ مدلولِ الخبرِ، وذلك بأُمُورٍ.
أَحدُهَا: إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مقرِّرًا لحُكْمِ الأَصْلِ، وَالآخرُ نَاقِلًا، فَالجُمْهُورُ علَى ترجيحِ النَّاقلِ، لإِفَادتِه حكمًا شَرْعِيًّا، كحديثِ:((مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأَ))
مَعَ حديثِ: ((هَلْ هُوَ إِلَّا بِضْعَةٌ مِنْكَ)).
وَاختَارَ الإِمَامُ وَالبَيْضَاوِيُّ تقديمَ المقرِّرِ لهَا؛ لأَنَّهُ إِن قَدَّرَ سَابقًا فِي الزَّمَنِ علَى النَّاقلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ لاستفَادةِ مضمونِه مِنَ البرَاءةِ/ (209/ب/م) الأَصْليَّةُ، فتعيَّنَ تقديرُه متأَخِّرًا عَنِ النَّاقلِ، فَيَكُونُ نَاسِخًا له، وَالعملُ بِالنَاسخِ وَاجبٌ.
ثَانِيهَا: إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُثْبَتًا وَالآخرُ نَافِيًا ففِيه مَذَاهِبُ.
أَحَدُهَا: تقديمُ المُثْبَتِ لزيَادةِ عِلْمِهِ.
وَالثَّانِي: عَكْسُهُ.
وَالثَّالِثُ: يتسَاويَانِ، لمعَارضةِ زيَادةِ العِلْمِ فِي المُثْبِتِ بَاعتضَادِ النَّافِي بَالأَصْلِ وَبِهِ قَالَ القَاضِي عبدُ الجبَّارِ
وَالرَابِعُ: تقديمُ النَافِي إِلا فِي الطلَاقِ وَالعِتَاقِ، وهذَا مأَخوذٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الحَاجِبِ: إِنَّ الخبرَ الموجِبَ للطلَاقِ وَالعتَاقِ رَاجحٌ علَى المُزِيلِ لهمَا لموَافقةِ الأَصْلِ.
قَالَ: وَقَدْ يُعْكَسُ، فيُقَدَّمُ النَّافِي لهمَا، وهذَا رأَيُ قومٍ.
ثَالِثُهَا: ترجيحُ النّهي علَى الأَمرِ.
رَابِعُهَا: ترجيحُ الأَمرِ علَى الإِبَاحةِ، لأَنَّهُ أَحوطُ، وَقِيلَ: يترجَّحُ الإِبَاحةُ، ورجَّحَهُ الصّفِيُّ/ (170/أَ/د) الهِنْدِيُّ.
خَامِسُهَا: يُرَجَّحُ الخبرُ علَى الأَمرِ وَالنهيِ؛ لأَنَّ دلَالتَه علَى الثّبوتِ أَقوَى مِنْ دلَالةِ غَيْرِه عَلَيْهِ، ولأَنَّهُ لو لَمْ يَقُلْ بِهِ لَزِمَ الخُلْفُ فِي خبرِ الصَّادقِ، وبهذَا يُعْلَمُ أَنَّ المُرَادَ الخبرُ المَحْضُ لَا مَا صيغتُه خَبَرٌ، ومعنَاه الأَمرُ.
سَادِسُهَا: يرجِعُ الحظرُ علَى الإِبَاحةِ للَاحتيَاطِ، وَقِيلَ: عكسُه، وَقِيلَ:
همَا سوَاءٌ، ورجَّحَهُ فِي المستصفَى، وَحَكَاهُ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ عَن أَبِي هَاشمٍ وعيسَى بْنِ أَبَانَ.
سَابِعُهَا: يُرَجَّحُ مَا يَقْتَضِي الوُجُوبَ علَى مَا يَقْتَضِي النَّدْبَ احتيَاطًا.
ثَامِنُهَا: يرجِعُ مَا يَقْتَضِي الكرَاهَةَ علَى مَا يَقْتَضِي النَّدْبَ.
تَاسِعُهَا: يُرَجِّحُ مَا يَقْتَضِي الندبَ علَى مَا يَقْتَضِي الإِبَاحةَ، ومقَابلُ الأَصحُّ فِي كلَامِ المُصَنِّفِ احتمَالُ للصفِيِّ الهِنْدِيِّ أَنَّهُ يُرَجِّحُ الإِبَاحةَ لتأَبُّدِهَا بَالأَصْلِ وسهولتِهَا، وأَنَّهُ لَا إِجمَالَ فِي صيغتِهَا بخلَافِ النّدبِ يثبُتُ بصيغةِ الأَمرِ وفِيهَا الإِجمَالُ.
عَاشِرُهَا: إِذَا تعَارَضَ مَا يَدُلُّ علَى نَفْيِ الحَدِّ ومَا يَدُلُّ علَى إِثبَاتِه قِدَمُ الدَّالِّ علَى نفِيهِ؛ لأَنَّ الحدودَ تُدْرَأُ بِالشبهَاتِ، ورجَّحَ الغَزَالِيُّ أَنَّهُمَا سوَاءٌ، وإِليه أَشَارَ بِقَوْلِهِ: خِلَافًا لقومٍ.
حَادي عشرِهَا: يُقَدَّمُ الحُكْمُ المعقولُ المَعْنَى علَى المتعبَّدِ بِهِ الذي لَا يُعْقَلُ معنَاه.
ثَاني عشرِهَا: الأَصحُّ تقديمُ المُثْبِتِ للحُكْمِ الوضعيِّ علَى المُثْبِتِ للحكمِ التّكليفِيِّ؛ لأَنَّ الوضعيَّ لَا يتوقَّفُ علَى مَا يَتَوقَّفُ عَلَيْهِ التّكليفِيُّ من أَهليَّةِ المخَاطَبِ وفهمِه وتمَكُّنِهِ مِنَ الفعلِ، فهو أَوْلَى، وَقِيلَ: يُقَدَّمُ التّكليفِِيُّ،/ (210/أَ/م) لأَنَّهُ مقصودٌ بِالذَاتِ، ولأَنَّهُ أَكثرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: وَالموَافِقُ دَلِيلاً آخرَ، وكذَا مُرْسَلًا أَو صحَابيًا، أَو أَهْلَ المدينةِ، أَو الأَكثرَ فِي الأَصحِّ، وثَالِثُهَا فِي موَافِقِ الصّحَابيِّ إِن كَانَ حَيْثُ مَيَّزَهُ النّصُّ، كزيدٍ فِي الفرَائضِ، ورَابِعُهَا: إِن كَانَ أَحدُ الشَّيْخينِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: إِلا أَنْ يخَالفَهمَا معَاذٌ فِي الحلَالِ وَالحرَامِ، أَو زِيدَ فِي الفرَائضِ ونحوِهمَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ، وموَافِقٌ زِيدَ فِي الفرَائضِ، فمعَاذٌ، فعَلِيٌّ ومعَاذٌ فِي أَحكَامِ غَيْر الفرَائضِ، فعَلِيٌّ.
ش: الرَّابِعُ التَّرْجِيحُ بِالأُمُورِ الخَارجيَّةِ، وذلك من وجوهٍ:
أَحَدُهَا: موَافقةُ دَلِيلٍ آخرَ مِنْ كتَابٍ أَو سُنَّةٍ أَو إِجمَاعٍ أَو قيَاسٍ، فِيُقَدَّمُ علَى مَا لَا يُوَافِقُ دَلِيلاً آخرَ، وذلك كتقديمِ حديثِ عَائشةَ فِي التّغليسِ بِالصبحِ علَى حديثِ الإِسفَارِ بِهَا، لموَافقتِه لقولِه تعَالَى:{حَافِظُوا علَى الصَّلَوَاتِ} ومِنَ المحَافظةِ عَلَيْهَا إِيقَاعُهَا فِي أَوَّلِ الوقتِ.
ثَانِيهَا: موَافقةُ خبرٍ مُرْسَلٍ، وإِن لَمْ يقُلْ بِحُجِّيَّتِهِ.
ثَالِثُهَا: موَافقةُ قَوْلِ بَعْضِ الصّحَابةِ علَى الأَصحِّ، وسَيَأْتِي الخِلَافُ فِيهِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَنْتَشِرْ، فإِنِ انتشرَ ولم يخَالِفْ وجَعَلْنَاه إِجمَاعًا صَارَ قَاطِعًا، وسقَطَ الظّنُّ المقَابِلُ له.
رَابِعُهَا: موَافقةُ عمِلِ أَهْلِ المدينةِ، وإِن لَمْ نجعلْه حُجَّةً علَى الأَصحِّ أَيضًا، كتقديمِ روَايةِ إِفرَادِ الإِقَامةِ علَى حديثِ أَبي/ (170/ب/د) محذورةٍ فِي تثنيتِهَا.
خَامِسُهَا: موَافقةُ فتوَى الأَكثرينَ؛ لأَنَّهُ أَقربُ إِلَى الصَّوَابِ، كَذَا قَالَهُ جمَاعةٌ مِنْهُم البيضَاويُّ، وَحَكَاهُ فِي (المَحْصُولِ) عَن عيسَى بْنِ أَبَانَ، وَصَحَّحَهُ المُصَنِّفُ، ومنع آخرونَ مِنْهُم الغَزَالِيُّ التَّرْجِيحُ بِهِ، لأَنَّهُ لو سَاغَ التَّرْجِيحُ بمَذْهَبِ بَعْضِ المجتهدينِ لانسدَّ بَابُ الاجْتِهَادِ علَى البعضِ الآخرِ، وَلَيْسَ قَوْلُ الأَكثرِ حُجَّةً، ثُمَّ حكَى المُصَنِّفُ بقيَّةَ المَذَاهِبِ فِي التَّرْجِيحِ بقولِ الصّحَابيِّ.
ثَانِيهَا: المَنْعُ.
ثَالِثُهَا: التَّفْصِيلُ، فإِنْ كَانَ ذَلِكَ الصّحَابيُّ قَد ميَّزَه النَّصُّ علَى غَيْرِه مِنَ
الصّحَابةِ كزيدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي الفرَائضِ كَانَتْ موَافقتُه مُرَجِّحَةً، وإِلَاّ فهو كغيرِه مِنَ الأَئمَّةِ.
وَحَكَاهُ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
رَابِعُهَا: يُرَجَّحُ بموَافقةِ أَحدُ الشَّيْخينِ أَبِي بكرٍ وعُمَرَ رضي الله عنهما دُونَ غيرِهمَا مِنَ الصَّحَابةِ.
خَامِسُهَا: التَّرْجِيحُ بموَافقةِ أَحَدِهِمَا إِلَّا أَنْ يخَالفَهمَا معَاذُ بْنُ جَبَلٍ، ويكونُ ذَلِكَ فِي الحلَالِ / (210/ب/م) أَو الحرَامِ، أَو زيدُ بْنُ ثَابِتٍ ويكونُ ذَلِكَ فِي الفرَائضِ.
سَادسُهَا وهو مَحْكِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِن كَانَ الخبرَانِ فِي الفرَائضِ قَدَّمَ مِنْهُمَا مَا يُوَافِقُ قَوْلَ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ، ثُمَّ مَا يوَافِقُ قَوْلَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، ثُمَّ مَا يُوَافِقُ عليَّ بْنَ أَبِي طَالبٍ، لشهَادةِ النَّصِّ بترجيحِ زيدٍ فِي الفرَائضِ، ومعَاذٍ فِي الحلَالِ وَالحرَامِ، وعليٍّ فِي القضَاءِ، وَالحلَالُ وَالحرَامُ أَعمُّ مِنَ الفرَائضِ، وَالقضَاءُ أَعمُّ مِنَ الحلَالِ وَالحرَامِ، لدخولِهِ فِي الموَاريثِ ونحوِهَا، وَالدَّلِيلُ الأَخصُّ مُقَدَّمٌ علَى الأَعمِّ، فإِنْ كَانَا فِي غَيْرِ الفرَائضِ قُدِّمَ مِنْهُمَا مَا يوَافِقُ قَوْلَ معَاذٍ، ثُمَّ مَا يوَافِقُ قَوْلَ عَلِيٍّ، لمَا بيَّنَّاهُ مِنَ الذي رَجُحُ فِيهِ معَاذٌ أَخصُّ مِنَ الذي رَجُحَ فِيهِ عَلِيٍّ رضي الله عنهم.
ص: وَالإِجمَاعُ عَلَىَ النَّصِّ، وإِجمَاعُ الصّحَابةِ علَى غيرِهِمْ، وإِجمَاعُ الكلِّ علَى مَا خَالَفَ فِيهِ العوَامَّ، وَالمُنْقَرِضُ عَصْرُهُ، ومَا لَمْ يُسْبَقْ، بخلَافٍ علَى غيرِهمَا.
ش: ذَكَرَ فِي هذه الجُمْلَةِ ترجيحَ بَعْضِ الإِجمَاعَاتِ علَى بعضٍ، وقَدَّمَ أَولاً أَنَّ الإِجمَاعَ مقدَّمٌ علَى النّصِّ؛ أَي: ولو كَانَ كتَابًا أَو سُنَّةً متوَاترةً، فإِذَا تعَارَضَ إِجمَاعَانِ قُدِّمَ المُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا كإِجمَاعِ الصّحَابةِ علَى التَّابعينِ وَالتَابعينَ علَى تَابعيهم وهكذَا، وكذلِكَ يُقَدَّمُ الإِجمَاعُ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ علَى الإِجمَاعِ المُخْتَلَفِ فِيهِ،
فَيُقَدَّمُ الإِجمَاعُ الذي فِيهِ قَوْلَ الكُلِّ مِنَ المجتهدينَ وَالعوَامِّ علَى إِجمَاعِ المجتهدينَ الذي لَمْ يُوَافِقْ عَلَيْهِ العوَامُّ، وفِي هذَا نَظَرٌ مَعَ قَوْلِ المُصَنِّفِ فِي الإِجمَاعِ إِنَّهُ لَمْ يخَالِفْ أَحدٌ فِي عدمِ اعتبَارِ قَوْلِ العَامَّةِ، ويَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ أَيضًا تقديمُ إِجمَاعِ الذّينَ انقرَضَ عصرُهم علَى إِجمَاعِ الذّينَ لَمْ يَنْقَرِضْ عصرُهم للخلَافِ فِي الثَّانِي.
وَالإِجمَاعُ الذي لَمْ يَسْبِقْ بخلَافٍ علي المسبوقِ بخلَافٍ، للخلَافِ فِي الثَّانِي أَيضًا.
وكتَبَ المُصَنِّفُ بخطِّه علَىلحَاشيةِ: وَقِيلَ: المسبوقُ أَوْلَى، وَقِيلَ: سوَاءٌ.
ص: وَالأَصَحُّ تسَاوِي المتوَاترينِ مِنْ كتَابٍ أَو سُنَّةٍ، وثَالِثُهَا تقدُّمُ السُّنَّةِ لقولِه عز وجل + {لِتُبَيِّنَ} .
ش: إِذَا تعَارَضَ المتوَاترَانِ/ (171/أَ/د) من كتَابٍ أَو سُنَّةٍ وَاسْتَوَتِ دلَالتُهمَا فِي الرُّتْبَةِ ففِيه مَذَاهِبُ:
أَصحُّهَا: تسَاويهمَا.
وَالثَّانِي: تقدُّمُ الكتَابِ.
وَالثَّالِثُ: السُّنَّةُ لقولِه تعَالَى: {لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وضعَّفَهُ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ بأَنَّهُ لَيْسَ الخِلَافُ فِي السُّنَّةِ المُفَسِّرَةِ بَلْ فِي السُّنَّةِ المعَارِضَةِ، وخرَجَ/ (211/أَ/ك) بتقييدِ المُصَنِّفِ المُتَوَاتِرَيْنِ بأَنَّهُمَا مِنْ كتَابٍ أَو سُنَّةٍ إِذَا كَانَ المُتوَاتِرَانِ مِنَ السُّنَّةِ فإِنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ قَطْعًا.
ص: وَتَرْجِيحُ القِيَاسِ بِقُوَّةٍ دَلِيلُ حُكْمِ الأَصْلِ وكونُه علَى سُنَنِ القِيَاسِ؛ أَي: فَرْعِهِ مِنْ جنسِ أَصلِه.
ش: شَرَعَ يتكلَّمُ علَى ترَاجيحِ الأَقيسةِ، وهو الغرضُ الأَعظمُ من بَابِ الترَاجيحِ، وفِيه اتِّسَاعُ الاجْتِهَادِ أَو تنَافسُ القِيَاسَيْنِ، وترجيحُ بعضِهَا علَى بعضٍ، قَد يَكُونُ بحسبِ الأَصْلِ، وَقَدْ يَكُونُ بحسبِ الفَرْعِ، وَقَدْ يَكُونُ بحسبِ العِلَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ بخَارجِ عَن ذلك.
الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بحسبِ الأَصْلِ وفِيه قِسْمَانِ.
أَحَدُهُمَا: بِحَسَبِ قُوَّةِ دليلِه، بأَنْ يَكُونَ دَلِيلُ أَحَدِهِمَا قَطْعِيًّا أَو مَنْطُوقًا أَو عُمُومًا لَمْ يُخَصَّ، وَالآخرُ بخلَافِهِ فَيُقَدَّمُ الأَوَّلُ لِقُوَّتِهِ.
ثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا علَى سُنَنِ القِيَاسِ، وَالآخرُ لَيْسَ كذلك، فَيُقَدَّمُ الأَوَّلُ، وَالمُرَادُ بِكَوْنِه علَى سُنَنِ القِيَاسِ أَنْ يَكُونَ أَصلُه مِنْ جِنْسِ الفَرْعِ المتنَازَعِ، كقِيَاسِ مَا دُونَ أَرشِ الموضِّحَةِ عَلَيْهَا فِي تَحَمُّلِ العَاقلَةِ له، فهو أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ ذَلِكَ علَى ضَمَانِ الأَموَالِ فِي عَدَمِ تحمُّلِهَا له، لأَنَّ الموضِّحَةَ مِنْ جنسِ المُخْتَلَفِ فِيهِ فكَانَ الفَرْعُ علَى سُنَنِ الأَصْلِ، وَالجنسُ بِالجنسِ أَشبَهُ.
وإِنَّمَا فسَّرْنَا كَوْنَه علَى سُنَنِ القِيَاسِ بأَنْ يَكُونَ فَرْعُهُ مِنْ جِنْسِ أَصلِه، لِئَلَّا يقَالَ: لَيْسَ هذَا مِنْ وُجُوِه التَّرْجِيحَاتِ فإِنَّه يُشْتَرَطُ فِي كلِّ أَصلٍ أَنْ لَا يُخَالِفَ سُنَنَ القِيَاسِ، فبينَا المرَادُ هُنَا مِنْ هذَا اللّفظِ.
ص: وَالقطعُ بِالعِلَّةِ أَو الظَّنِّ الأَغلبُ، وكونُ مسلكِهَا أَقوَى، وذَاتُ أَصلينِ علَى ذَاتِ أَصلٍ وَقِيلَ: لَا، وذَاتيةٌ علَى حُكْمِيَّةٍ وعكَسَ السّمعَانيُّ؛ لأَنَّ الحُكْمَ بِالحُكْمِ أَشْبَهُ، وكونُهَا أَقلَّ أَوصَافًا وَقِيلَ عكسُه، وَالمقتضِيةُ احتيَاطًا فِي الفرضِ وعَامَّةِ الأَصْلِ، وَالمُتَّفَقُ علَى تَعْلِيلِ أَصلِهَا، وَالموَافِقَةُ الأُصُولَ علَى موَافَقَةِ أَصلٍ وَاحدٍ، قِيلَ: أَو الموَافِقَةُ عِلَّةً أُخْرَى إِنْ جَوَّزَ عِلَّتَانِ، ومَا ثَبَتَتْ عِلَّتُهُ بِالإِجمَاعِ، فَالنَّصُّ القَطْعيين، فَالظَّنِّيَّيْنِ، فَالإِيمَاءُ فَالسَّبْرُ، فَالمنَاسَبَةُ، فَالشَّبَهُ، فَالدورَانِ، وَقِيلَ: النَّصُّ فَالإِجمَاعُ، وَقِيلَ: الدّورَانِ فَالمنَاسبةُ ومَا قبلَهَا ومَا بعدَهَا وقِيَاسُ المَعْنَى علَى الدّلَالةِ/ (211/ب/م) وَغَيْرُ المُرَكَّبِ عَلَيْهِ إِن قَبِلَ، وعَكَسَ الأَستَاذُ، وَالوصفُ الحقيقيُّ، فَالعُرْفِيُّ، فَالشَّرْعِيُّ الوُجُودِيُّ، فَالعَدَمِيُّ البسيطُ، فَالمُرَكَّبُ وَالبَاعِثَةُ علَى الأَمَارَةِ، وَالمُطَّرِدَةُ المُنْعَكِسَةٌ، ثُمَّ المُطَّرِدَةٌ فَقَطْ علَى المُنْعَكِسَةِ فَقَطْ، وفِي المُتَعَدِّيَةِ وَالقَاصِرَةِ أَقوَالٌ ثَالِثُهَا سَوَاءً وفِي الأَكثرِ فروعًا قولَانِ.
ش: الثَّانِي أَنْ يَكُونَ التَّرْجِيحُ بحسبِ العِلَّةِ وذلك من وجوهٍ.
أَحدُهَا: القِيَاسُ الذي وُجُودُ عِلَّتُهُ مقطوعٌ بِهِ، مقدَّمٌ علَى الذي وُجُودُ عِلَّتِهِ مظنونٌ، وكذَا لو كَانَا مَظْنُونَيْنِ لكنَّ الظنَّ فِي أَحَدِهِمَا أَغلبُ فَالأَغلبُ/ (171/ب/د) علَى الظّنِ أَوْلَى.
ثَانِيهُمَا: يُرَجَّحُ القِيَاسُ الذي مَسْلَكُ عِلَّتِهِ، أَي دليلُهَا، قطعيٌّ علَى مَا مَسْلَكُهُ ظَنِّيٌّ.
ثَالِثُهَا: الأَصحُّ ترجيحُ العِلَّةِ المَرْدُودَةِ إِلَى أَصلينِ فأَكثَرَ علَى العِلَّةِ المردودةِ إِلَى أَصلٍ وَاحدٍ، وَقِيلَ: همَا سوَاءٌ.
رَابِعُهَا: إِذَا كَانَتْ إِحدَى العِلَّتَيْنِ صِفَةً ذَاتِيَّةً وَالأُخْرَى صفةً حُكْمِيَّةً، فَالأَصحُّ تقديمُ الذَّاتيَّةِ لأَنَّهَا أَلزمُ.
وَقِيلَ: الحُكْميةُ، وصححَّهُ ابنُ السّمعَانِي لأَنَّ الحُكْمَ بِالحُكْمِ أَشْبَهُ، فَيَكُونُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَوْلَى.
خَامِسُهَا: إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَقلُّ أَوصَافًا وَالأُخْرَى أَكثرُ أَوصَافًا فَالأَصحُّ ترجيحُ قليلةِ الأَوصَافِ؛ لأَنَّهَا أَسْلَمُ، وَقِيلَ: الكبيرةُ أَوْلَى، لأَنَّهَا أَكثرُ شَبَهًا بَالأَصْلِ.
سَادِسُهَا: تقدَّمَ التي تقتضِِي احتيَاطًا فِي الفرضِ علَى التي لَا تقتضِيه، كَذَا بخطِّ المُصَنِّفِ، الفرضُ بِالفَاءِ، ولكنَّ الذي ذَكَرَهُ ابنُ السّمعَاني: فِي الغرضِ، بِالغينِ المُعْجَمَةِ.
سَابِعُهَا: تُقَدَّمُ العِلَّةُ التي تَعُمُّ حُكْمَ أَصلِهَا علَى التي يُخَصُّ حُكْمُ أَصلِهَا لتَعْلِيلِ الرِّبَا فِي البُرِّ +بِالطعم، فإِنَّه يَقْتَضِي المُرَادَ الحُكْمَ فِي قليلِهِ وكثيرِه، بخلَافِ تَعْلِيلِه بِالكيلِ فإِنَّه لَا يَطَّرِدُ فِيمَا لَا يُكَالُ مِنَ البُرِّ وهو القليلُ.
ثَامِنُهَا: تُقَدَّمُ العِلَّةُ المُتَّفَقُ علَى تَعْلِيلِ أَصلِهَا علَى العِلَّةِ المُخْتَلَفِ فِي تَعْلِيلِ أَصلِهَا.
تَاسِعُهَا: تُقَدَّمُ العِلَّةُ الموَافِقَةُ لأَصولٍ عديدةٍ فِي الشّريعةِ علَى الموَافقةِ لأَصلٍ وَاحدٍ.
عَاشِرُهَا: حكَى ابنُ السّمعَانيِّ قولاً: إِنَّهُ يُرَجِّحُ العِلَّةَ الموَافقةَ لِعِلَّةٍ أُخْرَى، بنَاءٌ علَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ، وقَالَ: الأَصحُّ أَنَّهَا لَا تَتَرَجَّحُ (212/أَ/م) بذلك؛ لأَنَّ الشّيءَ إِنَّمَا يَتَقَوَّى بصفةٍ فِي ذَاتِهِ لَا بَانضمَامِ غَيْرِهِ إِليه.
حَادي عشرِهَا: تُقَدَّمُ مَا ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُهُ بِالإِجمَاعِ علَى مَا ثَبَتَتْ عِلِّيْتُه بِالنَّصِّ لقبولِ النَّصِّ للتأَويلِ بخلَافِ الإِجمَاعِ، كَذَا قَالَه فِي (المَحْصُولِ) ثُمَّ قَالَ: ويُمْكِنُ تقديمُ النَّصِّ؛ لأَنَّ الإِجمَاعَ فرعُه، وجزَمَ بهذَا البحثِ صَاحبُ (الحَاصِلِ) وَالبَيْضَاوِيُّ وَقَدْ حَكَاهُ المُصَنِّفُ بعدَ ذلك.
ثم قَد يَكُونُ كلٌّ مِنَ الإِجمَاعِ وَالنصِّ قَطْعِيَّيْنِ، وَقَدْ يكونَانِ ظَنِّيَّيْنِ، لكن حَمَلَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ الظَّنِّيْيَنْ ِعلَى مَا إِذَا تسَاوَيَا فِي الدّلَالةِ، قَالَ: فإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَالحَقُّ أَنَّهُ يَتَّبِعُ فِيهِ الاجْتِهَادَ فمَا كَانَتْ إِفَادتُهُ للظنِّ أَكثرُ فهو أَوْلَى، فإِنَّ الإِجمَاعَ وإِنْ لَمْ يَقْبَلِ التّخصيصَ وَالنسخَ فَقَدْ تَضْعُفُ دلَالَتُهُ علَى المطلوبِ فقد يَنْجَبِرُ النّقصُ، وَقَدْ لَا يَنْجَبِرُ، فَيُتَّبَعُ فِيهِ الاجتهَادُ.
ثَاني عشرِهَا: تقدُّمُ مَا يُثْبَتُ عِلِّيَّتُهُ بِالإِيمَاءِ علَى مَا ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُهُ بِالطُرُقِ العَقْليَّةِ، لاستنَادِ الظَّنِ فِيه إِلَى سبَبٍ خَاصٍّ.
كذَا نقلَهَ الإِمَامُ عَنِ الجُمْهُورِ، ثُمَّ قَالَ: وفِيهِ نَظَرٌ، لأَنَّ الإِيمَاءَ لَيْسَ فِيهِ لفْظٌ يَدُلُّ علَى العِلِّيَّةِ، وإِنَّمَا يَدُلُّ بوَاسطِةِ المنَاسبةِ، أَو الدَّوَرَانِ أَو السَّبْرِ، فهي أَصلٌ وَالأَصْلُ أَقوَى مِنَ الفَرْعِ، فَيَكُونُ كلٌّ مِنْ هذه الثّلَاثَةِ أَقوَى منه.
وجزَمَ البَيْضَاوِيُّ بهذَا البحثِ، فقدَّمَ المنَاسبةَ ثُمَّ الدّورَانَ ثُمَّ السَّبْرَ ثُمَّ الإِيمَاءُ ثُمَّ الطَّرْدَ ثُمَّ بقيَّةَ طُرُقَ العِلَّةِ، ومَا بِقي مِنْهَا إِلا تنقيحُ المنَاطِ، وتأَخُّرُه عَنِ الطّردِ مُشْكِلٌ وَالصوَابُ
تقديمُهُ عليه.
ثَالثُ عشرِهَا:/ (172/أَ/د) ترجيحُ مَا ثَبَتَتْ عِلِّيْةُ وَصْفِهِ بِالسَّبْرِ علَى الثَّابتةِ بِالمنَاسبةِ، لدلَالتِهِ علَى نَفْيِ المعَارضِ بخلَافِ المنَاسبةِ، كَذَا اختَارَهُ الآمِدِيُّ وَابْنُ الحَاجِبِ، وتقدَّمَ عَنِ البَيْضَاوِيِّ خلَافُه.
رَابعُ عشرِهَا: تَقَدُّمَ مَا ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُهُ بِالمنَاسبةِ علَى الشَّبَهِ، قَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ: وأَدْنَى المعَاني فِي المنَاسبةِ تَرْجُحُ علَى أَعلَى الاشتبَاهِ.
خَامسُ عشرِهَا: تَقَدُّمُ مَا ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُهُ بِالشَّبَهِ علَى الثَّابتةِ بِالدورَانِ، كَذَا جزَمَ بِهِ المُصَنِّفُ، لكن قَالَ إِمَامُ/ (212/ب/م) الحَرَمَيْنِ: إِنَّ مَا ثَبَتَ بِالطردِ وَالعَكْسِ مقدَّمٌ علَى غَيْرِه مِنَ الأَشبَاهِ لجريَانِهِ مجرَى الأَلفَاظِ.
وَقَوْلُهُ: وَقِيلَ: النَّصُّ فَالإِجمَاعُ؛ أَي: تقدَّمَ مَا ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُهُ بِالنَّصِّ علَى الإِجمَاعِ.
وَقَدْ تقدَّمَ هذَا عَن صَاحِبَيِ (الحَاصِلِ) و (المنهَاجِ).
وَقَوْلُهُ: وَقِيلَ: الدَّوَرَانُ فَالمُنَاسِبُ أَنْ يَرْجِّحَ بعضُهم العِلَّةَ الثَّابِتَةَ بِالدورَانِ علَى الثَّابِتَةِ بِالمنَاسبةِ، وعلَّلَهُ بَأنَّ المطَّردةَ المُنْعَكِسَةَ أَشبهُ العللِ العَقْليةِ، وضُعِّفَ بأَنَّ العللَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ وَالعَقْلِيَّةَ موجبةٌ، فَلَا يُمْكِنُ اعتبَارُ هذه بتلك.
سَادسُ عشرِهَا: تَقَدُّمُ قِيَاسِ المَعْنَى علَى قِيَاسِ الدّلَالةِ، وهذَا رَاجِعٌ إِلَى تقديمِ المنَاسبةِ علَى الشَّبَهِ.
سَابعُ عشرِهَا: تقدُّمُ القِيَاسِ غَيْرُ المُرَكَّبِ علَى المُرَكَّبِ للَاختلَافِ فِي المُرَكَّبِ، ولهذَا قَالَ المُصَنِّفُ: إِن قيلَ بِهِ، وَقَدْ يَرْجُحُ فِي شُرُوطِ حُكْمِ الأَصْلِ عدمُ قبولُ مُرَكَّبِ الأَصْلِ، ومُرَكَّبُ الوصفِ، وعكسَ الأَستَاذُ.
ثَامنُ عشرِهَا: يَرْجُحُ التَّعْلِيلُ بِالوصفِ الحقيقيِّ وهو المَظِنَّةُ كَالسَّفَرِ علَى التَّعْلِيلِ بِالحُكْمِ كَالمَشَقَّةِ وعلَى الوَصْفِ الاعْتِبَاريِّ أَو الحُكْميِّ كَقَوْلِنَا فِي المَنِيِّ:
مبتدأُ خَلْقِ بَشَرٍ فأَشبهَ الطّينَ مَعَ قَوْلِهم: مَائعٌ يُوجِبُ الغُسْلَ فأَشبهَ الحيضَ.
تَاسعُ عشرِهَا: يَرْجُحُ التَّعْلِيلُ بِالوصفِ العُرْفِيِّ علَى الشّرعيِّ؛ لأَنَّ العُرْفَ مُنَاسِبٌ، وَالشّرعيَّ أَمَارةٌ.
عشرونُهَا: يرجُحُ الوُجُوديُّ علَى العدميِّ كَقَوْلِنَا: السَّفَرْجَلُ مَطْعُومٌ فهو رِبَوِيٌّ كَالبُرِّ، مَعَ قَوْلِهم: لَيْسَ بِمَكِيلٍ ولَا مَوْزُونٍ.
حَادي عشرينِهَا: تقدُّمُ التَّعْلِيلُ بِالعِلَّةِ البسيطةِ كَتَعْلِيلِ الرِّبَا بِالطُّعْمِ علَى التَّعْلِيل بِالمُرَكَّبَةِ كَالطُّعْمِ مَعَ التَّقْدِيرِ بكيلٍ أَو وزنٍ، لكثرةِ فروعِ البسيطةِ وفوَائدِهَا، ولقلَّةِ الاجْتِهَادِ فِيهَا، وَقِيلَ بترجُّحِ المُرَكَّبَةِ، وَقِيلَ: همَا سوَاءٌ، وفِي (التلخيصِ) لإِمَامِ الحَرَمَيْنِ: قَالَ القَاضِي: ولعلَّهُ الصّحيحُ.
ثَاني عشرينِهَا: تُقَدَّمَ العِلَّةُ التي بمعنَى البَاعثةِ، علَى العِلَّةِ التي بمعنَى الأَمَارَةِ؛ لأَنَّهَا أَسْرَعُ قبولاً، كذَا قَالَ ابْنُ الحَاجِبِ، قَالَ المُصَنِّفُ فِي شرحِه: ويقَابِلُ أَنْ يقولَ العِلَّةُ أَبدًا إِمَّا/ (213/أَ/م) بمعنَى البَاعثِ أَو الأَمَارةِ أَو المُؤَثِّرِ علَى مَا سَبَقَ الخِلَافُ فِيه.
أَمَا أَنَّهَا تَارةً بمعنَى البَاعثِ وتَارةً بمعنَى الأَمَارةِ، فلم يَقُلْ بِهِ أَحدٌ، وكأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ ذَاتَ التّأَثيرِ أَرْجَحُ مِنَ التي لَا يَظْهَرُ لهَا معنًى.
قَالَ الشَّارِحُ: مُرَادُهُ بِالجَامِع فِيهِ البَاعثُ علَى مَا الجَامِعِ فِيهِ الأَمَارةُ للَاتِّفَاقِ علَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالوصفِ البَاعثِ وَالخِلَافُ فِي الأَمَارةِ.
ثَالثُ عشرينِهَا: تُقَدَّمُ المطَّرِدَةُ المنعكِسَةُ علَى التي لَا تَنْعَكِسُ، لأَنَّ الأُولَى أَغلبُ علَى الظنِّ.
رَابعُ عشرينِهَا: تقدَّمُ المطَّرِدَةُ التي ليسَتْ منعكِسةً علَى المُنْعَكِسَةِ التي ليسَتْ
مطَّرِدَةً للَاتِّفَاقِ علَى اعتبَارِ الاطِّرَادِ، وَالخِلَافُ فِي اعتبَارِ الانعكَاسِ.
خَامسُ عشرينِهَا: هَلْ تُقَدَّمُ العِلَّةُ المُتَعَدِّيَةِ علَى القَاصرةِ أَو بَالعَكْسِ أَو يستويَانِ؟
فِيه ثلَاثةُ أَقوَالٍ حكَاهَا إِمَامُ الحَرَمَيْنِ.
سَادسُ/ (172/ب/د) عشرينِهَا: فِي ترجيحِ العِلَّةِ التي هي أَكثرُ فروعًا علَى التي هي أَقلُّ فروعًا قولَان، فَمَنْ يُرَجِّحُ المتعدِّيَةِ يُرَجِّحُ الكثيرة َالفروعِ علَى القليلةِ.
ض: وَالأَعرفُ مِنَ الحدودِ السَّمْعِيَّةِ علَى الأَخْفَى، وَالذَاتِيُّ علَى العرضِيِّ، وَالصريحُّ وَالأَعمُّ، وموَافقةُ نَقْلِ السَّمْعِ وَاللُّغَةِ، ورُجْحَانِ طريقِ اكتسَابِهِ.
ش: ذَكَرَ فِي هذه الجُمْلَةِ التَّرْجِيحَ فِي الحدودِ، وهي إِمَّا عقليَّةٌ كتعريفِ المَاهِيَّاتِ، وإِمَا سمعيَّةٌ لثُبُوتِهَا مِنَ الأَحكَامِ، وهو المُرَادُ هنَا، وذلك من وجوهٍ:
أَحَدُهَا: ترجيحُ الأَعْرَفِ علَى الأَخفَى، لأَنَّ الأَوَّلَ أَفضَى إِلَى مقصودةِ التَّعْرِيفِ مِنَ الثَّانِي.
ثَانِيهَا: ترجيحُ الذَّاتِي علَى العرضِيِّ.
ثَالِثُهَا: ترجيحُ مَا كَانَ بِالأَلفَاظِ الصّريحةِ علَى غيرِهَا.
رَابِعُهَا: ترجيحُ الأَعمِّ علَى الأَخصِّ لفَائِدَةِ التّكثيرِ، وَقِيلَ: يُرَجَّحُ الأَخصُّ للَاتِّفَاقِ علَى ثُبُوتِ مدلولِهِ، وَالاختلَافُ فِي الزّيَادةِ التي فِي الأَعمِّ.
خَامِسُهَا: يُرَجَّحُ الحَدُّ الموَافِقُ للنقلِ السَّمْعِيِّ أَو اللُّغَوِيِّ علَى غَيْرِه لغلبةِ الظّنِّ بحصَّتِهِ.
سَادِسُهَا: إِذَا كَانَ أَحدُ الحدَّيْنِ طريقُ اكتسَابِهِ أَرجحُ مِنْ طريقِ اكتسَابِ الآخرِ كَكَوْنِ طريقِ الأَوَّلِ قطعيًّا، وَالثَّانِي ظنيًّا،/ (213/ب/م) قُدِّمَ الأَوَّلُ.
ص: وَالمُرَجَّحَاتُ لَا تَنْحَصِرُ ومثَارُهَا غلبةُ الظَّنِّ وسبَقَ كثيرٌ فَلَمْ نَعُدَّه.
ش: أَي: إِنَّ مَرْجِعَ جَمِيعِ المُرَجَّحَاتِ إِلَى غلبةِ الظّنِّ.
وأَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وسبَقَ كثيرٌ) إِلَى تقديمِ بَعْضِ أَنوَاعِ المفَاهيمِ علَى بعضٍ، فسَبَقَ فِي بحثِ المفهومِ، وإِلَى تقديمِ الشّرعيِّ، ثُمَّ العُرْفِيِّ، ثُمَّ اللُّغَوِيِّ، فسَبَقَ فِي بحثِ الحقيقةِ، وإِلَى تعَارُضِ مَا يَخِلُّ بِالفهمِ كَالمجَازِ وَالاشترَاكِ وَغَيْرِهمَا، وإِلَى تعَارُضِ القَوْلِ وَالفعلِ، فسَبَقَ فِي الكلَامِ علَى السُّنَّةِ، وإِلَى دخولِهَا الفَاءَ فِي كلَامِ الشَّارعِ أَو الرَّاوي، فسَبَقَ فِي مسَالِكِ العِلَّةِ، وإِلَى تقديمِ بَعْضِ أَنوَاعِ المنَاسبِ علَى بَعْضٍ فسبَقَ فِي المنَاسبةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.