المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكتاب الخامس الاستدلال - الغيث الهامع شرح جمع الجوامع

[ابن العراقي]

الفصل: ‌الكتاب الخامس الاستدلال

‌الكتَابُ الخَامِسَ الاستدلَالُ

ص: الكتَابُ الخَامسَ فِي الاستدلَالِ.

وهو دَلِيلٌ لَيْسَ بنصٍ ولَا إِجمَاعٍ ولَا قيَاسٍ، فِيدخُلُ الاقترَانِيُّ، وَالاستثنَائِيُّ وقِيَاسُ العَكْسِ، وقولُنَا: الدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ كذَا، خُولِفَ فِي كذَا، لِمَعْنًى مفقودٍ فِي صُورَةِ النّزَاعِ، فِيبقَى علَى الأَصْلِ، وكذَا انْتِفَاءُ الحُكْمِ لانتفَاءِ مُدْرِكِه، كَقَوْلِنَا: الحُكْمُ يَسْتَدْعِي دَلِيلاً وإِلَاّ لَزِمَ تَكْلِيفُ الغَافِلِ، ولَا دَلِيلَ بِالسَّبْرِ أَو الأَصْلِ، وكذَا نحوُ قَوْلُهم: وُجِدَ/ (195/أَ/م) المُقْتَضِي أَو المَانعُ أَو فُقِدَ الشَّرْطُ خِلَافًا للأَكْثَرِ.

ش: عقَدَ المُصَنِّفِ هذَا الكتَابَ الخَامِسَ للأَدلَّةِ المختلَفِ فِيهَا، وعبَّرَ عَنْهَا بِالاستدلَالِ، لأَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ إِنَّمَا قَالَهُ عَالِمٌ بطريقِ الاستدلالِ وَالاستنبَاطِ، وَلَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ قطعيٌّ، ولَا أَجْمَعُوا عليه.

وعرَّفَهُ المُصَنِّف بأَنَّهُ: دَلِيلٌ لَيْسَ بنصٍّ ولَا إِجمَاعٍ ولَا قيَاسٍ؛ أَي: شرعيٍّ بِالمعنَى الخَاصِ المتقدِّمِ ذِكْرُهُ فإِنَّ القِيَاسَ الاقترَانيَّ وَالاستثنَائيَّ دَاخلَانِ فِي هذَا التَّعْرِيفِ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَيْسَ فِي هذَا التَّعْرِيفِ إِفصَاحٌ عَن كلِّ مَا دخَلَ فِيهِ، وإِنَّمَا ذُكِرَ ذَلِكَ إِجمَالاً،

ص: 636

ويَتَبَيَّنُ الأَمْرُ فِيهِ بِالتفصيلِ فِيدخُلُ فِي ذَلِكَ أُمُورٌ.

أَحَدُهَا: القِيَاسُ الأَقترَانِيُّ، وهو الذي لَا يَذْكُرُ النّتيجةَ ولَا نقيضَهَا فِي المُقَدِّمَتَيْنِ.

وعرَّفَهُ أَهْلُ المَنْطِقِ بأَنَّهُ قَوْلُ مُؤَلِّفٍ من قضَايَا متَى سَلِمَتْ لَزِمَ عَنْهُ لِذَاتِهِ قَوْلٌ آخَرُ كَقَوْلِنَا: العَالَمُ مُتَغَيِّرٌ وكلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ كلَّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ.

الثَّانِي: القِيَاسُ الاستثنَائِيُّ، وهو مَا يُذْكَرُ فِيهِ النّتيجةُ أَو نقيضُهَا، كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَ هذَا إِنسَانًا، فهو حيوَانٌ لكنَّهُ إِنسَانٌ فهو حيوَانٌ أَو هذَا لَيْسَ بحيوَانٍ فَلَيْسَ بإِنسَانٍ.

الثَّالِثُ: قِيَاسُ العَكْسِ، وهو إِثبَاتُ نقيضُ حُكْمِ الشيءِ فِي شَيْءٍ آخرَ لافْتِرَاقِهِمَا فِي العِلَّةِ، كَقَوْلِنَا فِي الصّبحِ: لَا يُقْصَرُ شَفْعٌ فَيصِيُرُ وِتْرًا، كَمَا أَنَّ الوِتْرَ لَا يُقْصَرُ شَفْعًا؛ أَي: صلَاةُ المَغْرِبِ.

وحكَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي (المُلَخَّصِ) فِي الاستدلَالِ بِهِ وَجْهَيْنِ لأَصحَابِنَا/ (158/ب/د) أَصحُّهمَا ـ وقَالَ: إِنَّهُ المَذْهَبُ ـ: أَنَّهُ يَصِحُّ.

وَاستدلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي عِدَّةِ موَاضِعَ، ومِنْ أَدِلَّتِهِ أَنَّ اللَّهَ تعَالَى دلَّ علَى التّوحيدِ بَالعَكْسِ فِي قَوْلِهِ:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وهذه دلَالةُ بَالعَكْسِ تَدُلُّ علَى أَنَّ ذَلِكَ طريقُ الأَحكَامِ.

ص: 637

الرَابِعُ: الدَّلِيلُ المُسَمَّى بِالنَافِي، كَقَوْلِنَا: الدَّلِيلُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ قَتْلِ الإِنسَانِ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنَّهُ خُولِفَ فِي صُوَرٍ لِمَعْنًى يختصُّ بِهَا لَيْسَ مَوْجُودًا فِي صُورَةِ النِّزَاعِ، فِيجِبُ العَمَلُ بِالدليل النَّافِي فِيمَا عدَاهَا.

الخَامِسُ: الاستدلَالُ علَى انْتِفَاءِ الحُكْمِ بَانتفَاءِ دليلِه كَقَوْلِنَا: الحُكْمُ الشَّرْعِيُّ/ (195/ب/م) لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دليلٍ، فإِنَّه لو ثَبَتَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وكُلِّفَ بِهِ لَزِمَ تَكْلِيفُ الغَافلِ، أَو لَمْ يُكَلَّفْ بِهِ فَلَا معنَى لثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ بِهِ، فإِنَّه لَا معنَى للحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِلا خطَابُ يَتَعَلَّقُ بفعِلِ المكلَّفِ، ولَا دَلِيلَ إِمَّا بِالسَّبْرِ كأَن نقولَ: الدَّلِيلُ إِمَّا نصٌّ أَو إِجمَاعٌ أَو قيَاسٌ، ولم يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهَا، أَو بِالأَصْلِ فَإِنَّ الأَصْلَ عَدَمُهُ، وَقَدْ اخْتَارَ البَيْضَاوِيُّ هذَا وجَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الأَدلَّةِ فَيَكُونُ النَّفْيُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، سَوَاءٌ اسْتُفِيدَ مِنْ دَلِيلٍ نَافٍ أَو انْتِفَاءِ دَلِيلٍ مُثْبَتٍ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ دَلِيلاً فِي بَعْضِ المَسَائِلِ لانتفَاءِ غيرِهِ، ويُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِأَنَّ عَدَمَ الوِجْدَانِ، لَا يَدُلُّ علَى عَدَمِ الوُجُودِ.

السَّادِسُ: أَنْ يَقْتَصِرَ علَى إِحدَى المُقَدَّمَتَيْنِ اعتمَادًا علَى شُهْرَةِ الأُخْرَى، كَقَوْلِنَا: وُجِدَ المُقْتَضِِي؛ أَيْ: السَّبَبَ فَيُوجَدُ الْمُسَبَّبُ، أَو وُجُودُ المَانِعِ فَيَنْتَفِي الحُكْمُ، أَو فُقِدَ الشَّرْطُ فَيَنْتَفِي أَيضًا، فإِنَّه يُنْتِجُ مَعَ مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى مُقَدَّرَةٍ، وهي قولُنَا: وكُلُّ سَبَبٍ إِذَا وُجِدَ وُجِدَ الحُكْمُ، فَلَمْ يُذْكَرُ لِظُهُورِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تعَالَى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لفَسَدَتَا} فَإنَّ حُصُولَ النَّتِيجةِ مِنْهُ يَتَوَقَّفُ علَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى ظَاهرةٍ، وهي: ومَا فَسَدَتَا.

وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي هذَا فَالأَكثرونَ علَى مَا نقلَه المُصَنِّفُ علَى أَنَّهُ لَيْسَ بدليلٍ، وإِنَّمَا هو دعوَى دليلٍ، فإِنَا إِذَا قلنَا: وُجِدَ المُقْتَضَى معنَاه الدَّلِيلُ، ولم نُقِمْ علَى وُجُودِه دَلِيلاً.

ص: 638

وَاختَارَ المُصَنِّفُ أَنَّهُ دليلٌ، فإِنَّه يَلْزَمُ من ثُبُوتِهِ ثُبُوتُ المطلوبِ.

ثم اخْْتَلَفَ القَائلونَ بهذَا، فقِيلَ: هو استدلَالٌ لدخولِه فِي تعريفِ الاستدلَالِ، وهو ظَاهرُ كلَامِ المُصَنِّفِ، وَقِيلَ: إِنْ أَثبَتَ السَّبَبَ أَو المَانِعَ أَو الشَّرْطَ بِغَيْرِ النَّصِّ أَو الإِجمَاعِ أَو القِيَاسِ فهو استدلَالٌ، وإِلَاّ فلَا.

ص: مسأَلةٌ: الاستقرَاءُ بِالجزئِيِّ علَى الكليِّ إِن كَانَ تَامًّا أَي بِالكلِّ، إِلا صُورَةَ النّزَاعِ فقطعِيٌّ عِنْدَ الأَكثرِ أَو نَاقصًا أَي: بِأَكثرِ الجزئيَاتِ فظنيٌّ ويُسَمَّى إِلحَاقُ الفردِ بِالأَغْلَبِ.

ش: مِنْ أَنوَاعِ الاستدلَالِ الاستقرَاءُ وهو علَى قسمينِ.

أَحَدُهُمَا: الاستقرَاءُ/ (196/أَ/م) التَّامُّ، وهو إِثبَاتُ الحُكْمِ فِي جزئيٍّ لثُبُوتِهِ فِي الكلِّ، كَقَوْلِنَا: كلُّ جِسْمٍ مُتَحَيِّزٍ، فإِِنَّهُ/ (158/أَ/د) اسْتُقْرِئَتْ جَمِيعُ الأَجسَامِ فَوُجِدَتْ كَذَلِكَ، ولَا خِلَافَ ـ كمَا قَالَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ ـ فِي أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَالأَكثرونَ علَى أَنَّهُ مفِيدٌ للقَطْعِ.

ثَانِيهُمَا: الاستقرَاءُ النَّاقصُ ـ وهو إِثبَاتُهُ فِي فَرْدٍ لثُبُوتِهِ فِي أَكثرِ الجزئيَاتِ، ويُسَمَّى عِنْدَ الفقهَاءِ إِلحَاق الفردِ بِالأَعمِّ الأَغلبِ، كَقَوْلِنَا فِي الوِتْرِ: لَيْسَ بوَاجبٍ لأَنَّهُ يُؤَدَّى علَى الرَّاحِلَةِ، ومُسْتَنَدُ هذه المقدِّمَةِ وهي أَدَاءُ النّوَافلِ دُونَ الفرَائضِ علَى الرَّاحِلَةِ الاستقرَاءُ.

قُلْتُ: وفِي هذَا نَظَرٌ، لقولِ الصّحَابيِّ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الوَتْرَ علَى الرَّاحلةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا المَكْتُوبَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالقَائلون بِهَا القِسْمُ الأَخيرُ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلا الظّنُّ لاحتمَالِ مخَالفةِ هذَا الفردِ للأَكثرِ.

ص: 639

وقَالَ الإِمَامُ فخرُ الدِّينِ: الأَظهرُ أَنَّهُ لَا يفِيدُ الظنُّ إِلا بدليلٍ مُنْفَصِلٍ، أَمَّا ثُبُوتُهُ فِي جُزْئِيٍّ لثُبُوتِهِ فِي جُزْئِيٍّ آخَرَ بجَامِعِ فهو القِيَاسُ الشَّرْعِيُّ، وأَمَّا هذَا فإِنَّه أَُلْحِقَ الفَرْدُ بِالأَكثرِ بِغَيْرِ جَامِعٍ.

ص: مسأَلةٌ: قَالَ علمَاؤُنَا: استصحَابُ العَدَمِ الأَصْليِّ، وَالعمومُ أَو النَّصُّ إِلَى وُرُودِ المغيرِ ومَا دلَّ الشَّرْعُ علَى ثُبُوتِهِ لوجودِ سببِه حُجَّةً مُطْلَقًا وَقِيلَ فِي الدّفعِ دُونَ الرَّفْعِ وَقِيلَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يعَارِضُه ظَاهرٌ مُطْلَقًا وَقِيلَ ظَاهِرٌ غَالَبٌ قيلَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: دُونَ سببٍ؛ لِيَخْرُجَ بولٌ وَقَعَ فِي مَاءٍ كثيرٍ فَوَجَدَ مُتَغَيِّرًا وَاحْتَمَلَ كَوْنَ التّغِييرِ بِهِ، وَالحقُّ سقوطُ الأَصْلِ إِنَّ قُرْبَ العهدِ وَاعتمَادَه إِنْ بَعُدَ ولَا يُحَتَّجُّ بَاستصحَابِ حَالِ الإِجمَاعِ فِي مَحَلِّ الخِلَافِ خِلَافًا للمُزَنِيِّ وَالصيرفِي وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالآمِدِيُّ فَعُرِفَ أَنَّ الاستصحَابَ ثُبُوتُ أَمْرٍ فِي الثَّانِي لثُبُوتِهِ فِي الأَوَّلِ لِفُقْدَانِ مَا يصلُحُ للتغييرِ أَمَّا ثُبُوتُه فِي الأَوَّلِ لثُبُوتِهِ فِي الثَّانِي فَمَقْلُوبٌ، وَقَدْ يقَالُ فِيهِ لو لَمْ يَكُنِ الثَّابتُ اليومَ ثَابِتًا أَمسِ لكَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ فِيقتضِي استصحَابُ أَمسِ بأَنَّهُ الآنَ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فدَلَّ علَى أَنَّهُ ثَابِتٌ.

ش:/ (196/ب/م) مِنَ الأَدلَّةِ المُخْتَلِفِ فِيهَا الاستصحَابُ، وأَطلَقَ جمَاعةٌ الخِلَافَ فِيهِ، وَالتحقيقُ أَنَّ لَهُ صورًا.

الأَولَى: استصحَابُ العدمُ الأَصْلِيُّ، كنفِي وُجُوبِ صلَاةِ سَادِسَةٍ.

دلَّ العَقْلُ علَى انتفَائِه، وإِن لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ تصريحٌ بِهِ لانتفَاءِ المُثْبِتِ للوجوبِ.

ص: 640

الثَانِيَةُ: اسْتِصْحَابُ مقتضَى العمومِ أَو النَّصِّ إِلَى أَنْ يَرِدَ المُخَصَّصِ أَو النَّاسِخِ.

وقَالَ ابنُ السَّمْعَانِيُّ: لَا يُسَمَّى هذَا استصحَابًا، لأَنَّ ثُبُوتَ الحُكْم فِيهِ بِاللفظِ.

الثَالثةُ: اسْتِصْحَابُ حُكْمٍ دلَّ الشَّرْعُ علَى ثُبُوتِهِ لوجودِ سببِه، كَالمُلْكِ إِذَا حصَلَ سبَبُهُ وشُغْلِ الذِّمَّةِ عَن فرضٍ أَو إِتلَافٍ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ وقَارُهُ، لَمْ يَخْتَلِفْ أَصحَابُنَا فِي العَمَلِ بِالاستصحَابِ فِي هذه/ (159/ب/د) الصُّوَرِ الثّلَاثِ، وفِي الصُّورَةِ الثَّالثةِ عِنْدَ غيرِنَا مَذَاهِبُ أُخَرْ.

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، حُكِيَ عَن بَعْضِ المُتَكَلِّمِينَ، وعَزَاهُ الإِمَامُ لِلْحَنَفِيَّةِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ حُجَّةٌ لإِبقَاءِ مَا كَانَ علَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لإِثبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ، ولهذَا كَانَ المَفْقُودُ لَا يَرِثُ لانتفَاءِ مُلْكِهِ لمَالِ مُوَرِّثِهِ قَبْلَ هذه الحَالةِ، وَالأَصْلُ دوَامُهُ، ولَا يُوَرَّثُ لإِبقَاءِ مَا كَانَ علَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وهذَا هو الموجودُ فِي كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ.

ويشهدُ لَهُ مَسَائِلُ فِي مَذْهَبِنَا وهو معنَى قَوْلِ المُصَنِّفِ: ((وَقِيلَ: فِي الدَّفْعِ دُونَ الرَّفْعِ)

أَي: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الدَّفْعِ دُونَ الرَّفْعِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ حجَّةٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعَارِضُهُ ظَاهرٌ، فإِنَّ عَارضُه ظَاهرٌ عمَلَ بِالظَّاهِرِ سَوَاءً كَانَ الظَّاهِرُ مستندًا إِلَى غَلَبةٍ أَمْ لَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ للشَّافِعِيِّ قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي تعَارُضِ الأَصْلِ وَالظَاهرِ أَيُّهَمَا يُقَدَّمُ.

الرَابِعُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إِن لَمْ يُعَارِضْهُ ظَاهرٌ مُسْتَنِدٌ إِلَى غَلَبَةٍ، سَوَاءٌ انْتَفَى المعَارِضُ

ص: 641

أَو لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ مستندًا إِلَى غَلَبَةٍ، فإِنْ أُسْنِدَ الظَّاهِرُ إِلَى غَلَبَةِ قُدِّمَ علَى الأَصْلِ.

الخَامِسُ: أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَدَّمُ الظَّاهِرُ الغَالِبُ علَى الأَصْلِ إِذَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ كَمَا لو رأَى مِنْ بعدُ ظَبْيَةٍ تَبُولُ فِي مَاءٍ كثيرٍ ثُمَّ قُرِّبَ إِلَيْهِ فَوَجَدَه متغيِّرًا، فإِنَّا نَحْكُمُ بنجَاسَتِهِ إِحَالةً علَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ، نصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وتَابعَه الأَصحَابُ إِعمَالاً للسبَبِ الظَّاهِرِ.

السَّادِسُ: الفَرْقُ فِي هذه الصُّورَةِ بَيْنَ أَنْ يَعْهَدَهُ/ (197/أَ/م) عَن قُرْبٍ غَيْرِ مُتَغَيِّرٍ فَيَعْمَلُ بِالسبَبِ المذكورِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ له بِهِ عَهْدٌ أَو يَعْهَدُه مِنْ زمنٍ بعيدٍ، فِيُعْمَلُ بَاستصحَابِ الأَصْلِ، قَالَهُ القفَّالُ وَالجُرْجَانِيُّ المَعْرُوفُ بِالحُسَيْنِ، كلَاهمَا فِي (شرحِ التّلخيصِ).

وقَالَ المُصَنِّفُ: إِنَّهُ الحقُّ.

الرَابعةُ: استصحَابُ حَالِ الإِجمَاعِ فِي مَوْضِعِ الخِلَافِ، بأَنْ يَجْمَعُوا علَى حُكْمٍ فِي حَالٍ، فَيَتَغَيَّرُ الحَالُ، ويقَعُ الخِلَافُ، فَالأَكثرونَ علَى أَنَّهُ لَا يستصْحِبُ حَالَ الإِجمَاعِ.

وقَالَ بَاستصحَابِهِ مِنْ أَصحَابِنَا المُزَنِيِّ وأَبُو بَكْرٍ الصّيرفِيُّ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَذَهَبَ إِلَيْهِ الآمِدِيُّ.

ومثَالَه إِذَا رأَى المُتَيَّمِّمُ المَاءَ أَثنَاءَ الصّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ صلَاتُه، لِانْعِقَادِ الإِجمَاعِ علَى صِحَّةِ صلَاتِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، فَيَسْتَصْحِبُ الصحَّةُ بعدَهَا، حتَّى يقومَ دَلِيلٌ علَى أَنَّ الرّؤيةَ قَاطِعَةٌ.

إِذَا تقرَّرَ ذَلِكَ، فَالاستصحَابُ ثُبُوتُ أَمرٍ فِي الزّمنِ الثَّانِي لثُبُوتِه فِي الزَّمَنِ الأَوَّلِ لانتفَاءِ مَا يصلُحُ أَنْ يتغيَّرَ بِهِ الحُكْمُ بعدَ البَحْثِ التَّامِّ.

فأَمَا عكسُه وهو ثُبُوتُهُ فِي الأَوَّلِ لثُبُوتِهِ فِي الثَّانِي فهو الاستصحَابُ المعكوسُ أَو المَقْلُوبُ. قَالَ السُّبْكِيُّ: ولم يَقُلْ الأَصحَابُ بِهِ، إِلا فِي مسأَلةٍ وَاحدةٍ فِيمَنِ اشْتَرَى

ص: 642

شَيْئًا وَادَّعَاه مدَّعٍ وأَخَذَهُ مِنْهُ بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ، فقَالُوا: يَثْبُتُ لَهُ الرّجوعُ علَى البَائعِ، وهو استصحَابُ الحَالِ فِي المَاضِي، فإِنَّ البَيِّنَةَ لَا تَثْبِتُ +المُلْكَ، ولكنَّهَا تُظْهِرُهُ، فِيجِبُ كَوْنُ المُلْكِ سَابقًا علَى إِقَامتِهَا، ويُقَدَّرُ لَهُ لَحْظَةٌ لَطِيفَةٍ، ومِنَ المُحْتَمَلِ/ (160/أَ/د) انتقَالَ المُلْكِ مِنَ المُشْتَرِي إِلَى المُدَّعِي، ولكنَّهُمُ اسْتَصْحَبُوا مُقْلُوبًا وهو عدمُ الانتقَالِ منه.

قُلْتُ: وعدمُ الرجوعِ وجهٌ مشهورٌ، وكَانَ شَيْخُنَا الإِمَامُ البَلْقِينِيُّ يُرَجِّحُه ويقولُ: إِنَّهُ الصّوَابُ المُتَّعَيَّنُ، وَالمَذْهَبُ الذي لَا يَجُوزُ غيرُه، قَالَ: وحكَى القَاضِي حُسَيْنٌ الأَوَّلُ عَنِ الأَصحَابِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ فِي غَايةِ الإِشكَالِ.

وأَنكرَ ذَلِكَ شيخُنَا، وقَالَ: نقلَه هذَا عَنِ الأَصحَابِ لَا يُعْرَفُ فِي كتَابٍ مِنْ كُتُبِ الأَصحَابِ فِي الطَّرِيقَيْنِ قَبْلَ القَاضِي ولَا بَعْدَهُ، إِلا فِي كلَامِ الإِمَامِ وَالغَزَالِيِّ ومَنْ تَبِعَهُمَا حكَايةً عَنِ القَاضِي.

قَالَ: وهي طريقُةُ غَيْرُ مستقيمةٍ جَامعةٌ لأَمْرِ محَالِ، وهُوَ أَنَّهُ يَأَخُذُ النَّتَاجَ وَالثَّمَرَةَ وَالزَّوَائِدَ المنفصلَةَ كلُّهَا وهي قَضِيَّةُ صِحَّةِ البَيْعِ، ويرجِعُ علَى البَائعِ بِالثَّمَنِ وهو قضِيَّةُ فسَادِ البَيْعِ، وهذَا مُحَالٌ وَخَرْقٌ عظيمٌ/ (197/ب/م) وظوَاهرُ نصوصِ الشَّافِعِيِّ وكلَامُ الأَصحَابِ يُبْطِلُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فإِن قُلْتُ: قَد قَالُوا بِالاستصحَابِ المَقْلُوبِ فِيمَا لو قَذَفَهُ، فَزَنَا المَقْذُوفُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الحَدُّ عَنِ القَاذفِ.

قُلْتُ: لَمْ يَثْبِتُوا زنَاه فِيمَا تقدَّمَ، ولذلكَ لَمْ يَرَدُّوا شهَادتُه السَّابقُةُ، وإِنَّمَا أَسقطُوا الحَدَّ للشُّبْهَةِ لاحتمَالِ أَنَّ افتضَاحَه متقدِّمٌ السَّبَبِ، وَالحدودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَقَوْلُ المُصَنِّفِ: (وَقَدْ يقَالُ) إِلَى آخرِه، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنَّ الطّريقَ فِي تقريرِ الاستصحَابِ المقلوبِ أَن يُقَالَ: لو لَمْ يَكُنْ الحُكْمُ الثَّابِتُ الآنَ ثَابِتًا أَمسِ لكَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ، إِذ لَا وَاسِطَةَ، وإِذَا كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ أَمسِ اقتضَى الاستصحَابَ أَنَّهُ

ص: 643

الآنَ غَيْرُ ثَابِتٍ لكنَّهُ ثَابِتٌ الآنَ فدلَّ علَى أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا أَمسِ أَيضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: مسأَلةٌ لَا يُطَالَبُ النَّافِي بِالدليلِ إِنِ ادَّعَى علمًا ضَرُورِيًّا وإِلَاّ فَيُطَالَبُ بِهِ علَى الأَصحِّ.

ش: هَلْ يُطَالَبُ النَّافِي للشيءِ بدليلٍ علَى نفِيه.

يُنْظُرُ، فإِنْ دلَّ علَى النّفِيِ أَمْرٌ ضرورِيٌّ لَمْ يُطَالَبْ عَلَيْهِ بدليلٍ.

وإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا ففِيه مَذَاهِبُ.

أَصحُّهَا ـ وَبِهِ قَالَ الأَكْثَرُونَ ـ: إِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ كَالإِثبَاتِ.

وَالثَّانِي: لَا، وعَزَاهُ المُصَنِّفُ فِي (شرحِ المختصرِ) للظَاهِرِيَّةِ.

قَالَ الشَّارِحُ: وَالذي فِي (الإِحكَامِ) لابْنِ حَزْمٍ الأَوَّلُ.

وَالثَّالِثُ: يجب فِي العَقْليَاتِ دُونَ الشَّرْعِيَاتِ، وقَالَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ، بعدَ إِطلَاقِ الخِلَافِ: لَا يَتَّجِهُ فِيهَا خِلَافٌ؛ لأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالنَافِي مَنْ يَدِّعِي العِلْمَ أَو الظَّنَّ بِالنَّفْيِ فهذَا يجِبُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وإِنْ أَرِيدَ بِهِ مَنْ يَدَّعِي عدمَ عِلْمِهِ أَو ظَنِّهِ فهذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ؛ لأَنَّهُ يَذْكُرُ جَهْلَهُ بِالشّيءِ، وَالجَاهِلُ بِالشَّيْءِ غَيْرُ مطَالَبٍ بِالدليلِ علَى جَهْلِهِ.

ص: ويجِبُ الأَخذُ بأَقلِّ المقولِ وَقَدْ مَرَّ.

ش: تقدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ الكلَامِ علَى الإِجمَاعِ السّكوتيِّ، وأَشَارُّ إِلَيْهِ هُنَا لِئْلَا

ص: 644

يُتْوَهَّمَّ أَنَّهُ أَهْمَلَهَا.

ص: وَهَلْ يَجِبُ الأَخذُ بِالأَخفِّ أَو الأَثقلِّ أَو لَا يجِبُ (160/ب/د) شيءٌ؟ أَقوَالٌ.

ش: إِذَا تعَارَضَتِ المَذَاهِبُ، أَو أَقوَال الرّوَاة، أَو الاحتمَالات النَّاشئة عَنِ الأَمَارَاتِ فَهَلْ يجِبُ الأَخذُ بأَخفِّهَا، ويكونُ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الاستدلالِ كَمَا قيلَ بوُجُوبِ الأَخذِ/ (198/أَ/م) بأَقلَّ مَا قيلَ، أَو بأَثقلِهَا وأَشدَّهَا كَمَا قيلَ هنَاكَ: يجِبُ بِالأَكثرِ، أَو لَا يجِبُ الأَخذُ بشيءٍ منهَا؟ فِيهِ ثلَاثةُ مَذَاهِبَ.

ص: مسأَلةٌ: اخْتَلَفَوا هَلْ كَانَ المصطفَى صلى الله عليه وسلم مُتَعَبِّدًا قَبْلَ النبُوَّةِ بِشَرْعٍ، وَاخْتَلَفَ المُثْبِتُ، فَقِيلَ: نُوحٌ وإِبرَاهيمُ وموسَى وعيسَى ومَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ أَقوَالٌ، وَالمُخْتَارُ الوقفُ تأَصيلاً وتفريعًا وبعدَ النّبوَّةِ المَنْعِ.

ش: اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام هَلْ تَعَبَّدَ بشرعٍ أَحدٍ مِنَ الأَنبيَاءِ قَبْلَ النُّبوةِ أَو بعدَهَا، فأَمَّا مَا قَبْلَ النّبوَّةِ ففِيه مَذَاهِبُ.

أَحَدُهَا: نَعَمْ، وَاختَارَه ابْنُ الحَاجِبِ وَالبيضَاويُّ.

وَالثَّانِي: لَا، ونقلَه القَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَن جمهورِ المُتَكَلِّمِينَ، وعلَى هذَا فَانْتِفَاؤُه بِالعَقْل أَو النَّقْلِ؟ فِيهِ خلَافٌ.

ص: 645

وَالثَّالِثُ: الوَقْفُ، وَبِهِ قَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَالِيُّ وَالآمِدِيُّ.

وعلَى الأَوَّلِ، فقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بشريعةِ آدمَ، وَلَمْ يَحْكِهِ المُصَنِّفُ.

وَقِيلَ: نُوْحٌ، وَقِيلَ: إِبرَاهيمُ، وَقِيلَ: موسَى، وَقِيلَ: عيسَى.

وقَالَ بعضُهم: مَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرَعَ مِنْ غَيْرِ تخصيصُ بشريعةٍ.

قَالَ المُصَنِّفُ: وَالمُخْتَارُ الوقفُ تأَصيلاً وتفريعًا، أَي: فِي أَصلِ المَسْأَلَةِ وفِي فرعِهَا، وهو تَعيين النَّبِيّ الذي كَانَ مُتَعَبِّدًا بشرعِه.

قَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ: وهذَا تَرْجِعُ فَائدتُه إِلَى مَا يجري مجرَى التّوَاريخ، ولَا يَخْفَي أَنَّ الخِلَافَ فِي الفروعِ التي تَخْتَلِفُ فِيهَا الشّرَائعُ، أَمَّا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ كَالتوحيدِ فَلَا شكَّ فِي التّعبُّدِ بِهِ.

وأَمَّا بعدَ النُبُوَّةِ فهو مُرَتَّبٌ علَى مَا قبلَهَا، فإِنْ مَنَعْنَا هنَاكَ فهنَا أَوْلَى، وإِنْ جوزنَا هنَاكَ فَالأَكثرونَ هُنَا مِنَ الأَشَاعِرَةِ وَالمُعْتَزِلَةَ علَى المنعِ.

قَالَتِ المُعْتَزِلَةُ بِامْتِنَاعِهِ عَقْلاً، وَغَيْرُهم بِامْتِنَاعِهِ نقلاً، وَاختَارَه الإِمَامُ وَالآمِدِيُّ.

وقَالت طَائفة: كَانَ متعبدًا بمَا لَمْ يُنُسَخْ مِنْ شَرْعِِه مِنْ قبلِه، علَى معنَى أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَا مُتَابِعٌ.

وَاختَارَه ابْنُ الحَاجِبِ.

قَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ: وللشَّافِعِيِّ مَيْلٌ إِلَى هذَا، وبنَى عَلَيْهِ أَصلاً من أَصولِه فِي كتَابِ الأَطْعَمَةِ وتَابَعَهُ معظمُ أَصحَابِهِ./ (198/ب/م).

ص: مسأَلةٌ: حُكْمُ المنَافعِ وَالمَضَارِّ قَبْلَ الشَّرْعِ مَرَّ وبعدَه الصَّحِيحُ أَنَّ أَصلَ المضَارِّ التَّحْرِيمُ وَالمنَافِعَ الحلُّ قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ: إِلا أَموَالَنَا لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ دمَاءَكُمْ وأَموَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ)).

ص: 646

ش: حُكْمُ المنَافِعِ وَالمضَارُّ فِيمَا قَبْلَ الشَّرْعِ سَبَقَ ذِكْرُهُ أَوَّلُ الكتَابِ، عِنْدَ قَوْلِه:(ولَا حُكْمَ قَبْلَ الشَّرْعِ) بَلْ الأَمرُ مَوْقُوفٌ إِلَى ورودِه، وأَمَّا بَعْدَ الشَّرْعِ، فَالأَصْلُ فِي المضَارِّ التَّحْرِيمُ وفِِي المنَافعِ الإِذنُ، كَقَوْلِهِ تعَالَى فِي مَعْرِضِ الامتنَانِ/ (161/أَ/د):{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} وقولُه عليه الصلاة والسلام: ((لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ)) وخَالَفَ فِيهِ بعضُهم، وَاسْتَثْنَى- وَالِدُ المُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ أَصْلَ المنَافِعِ الحِلُّ- الأَموَالَ، فقَالَ: وَلَكَ أَنْ تقولَ: الأَموَالُ مِنْ جملةِ المنَافعِ، وَالظَاهرُ أَنَّ الأَصْلَ فِيهَا التَّحْرِيمُ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ)) وهو أَخصُّ مِنَ الأَدلَّةِ التي استدَلَّ بِهَا علَى الإِبَاحةِ فَيَكُونُ قَاضِيًا عَلَيْهَا، إِلا أَنَّهُ أَصلٌ طَاريءٌ علَى أَصلِ سَابقٍ، فإِنَّ المَالَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُه مِنَ المنَافعِ، الأَصْلُ فِيهِ الإِبَاحةُ بِالأَدلَّةِ السَّابقةِ، ومِنْ خُصُوصِيَّتِهِ الأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ بهذَا الحديثِ.

قُلْتُ: فِي هذَا الكلَامِ نَظَرٌ، وَالدَّعْوَى عَامَّةٌ، وَالدَّلِيلُ خَاصٌّ فإِنَّه ادَّعَى أَنَّ الأَصْلَ فِي الأَموَالِ التَّحْرِيمُ وَالدَّلِيلُ الذي ذَكَرَهُ خَاصٌّ بِالأَموَالِ المختصَّةِ، فإِذَا وَجَدْنَا مُبَاحًا فِي البَرِّيَّةِ أَو غيرِهَا فَلَيْسَ فِي الحديثِ مَا يَدُلُّ علَى تحريمِهِ، وكونُ المَالِ الذي تعلَّقَ بِهِ حقُّ الغيرِ حرَامًا لَا يُنَافِي كَوْنَ الأَصْلِ فِي الأَموَالِ الإِبَاحةَ؛ لأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حُرِّمَ لعَارضٍ وهو تعلُّقُ حقِّ الغيرِ، وذلك لَا ينَافِي أَنَّ الأَصْلَ فِيهَا الإِبَاحةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 647