الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَتَوَابِعِهَا كَالْحُبِّ، وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَالشُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا ضَلَالٌ مُبِينٌ، بَلْ جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ فُرُوضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ تَرَكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ إمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا مُنَافِقٌ، لَكِنَّ النَّاسَ هُمْ فِيهَا كَمَا هُمْ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ، وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ طَافِحَةٌ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضُونَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِأَقَلَّ لَوْمًا مِنْ التَّارِكِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ أَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، بَلْ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ يَتَوَجَّهُ إلَى مَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، إنْ كَانَتْ الْأُمُورُ الْبَاطِنَةُ مُبْتَدَأَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ وَأُصُولَهَا، وَالْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ كَمَالَهَا وَفُرُوعَهَا الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِهَا.
[فَصْلٌ الْمَغْفِرَةُ الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ نَوْعَانِ]
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: «يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا» ، وَفِي رِوَايَةٍ:«وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ» .
فَالْمَغْفِرَةُ الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَغْفِرَةُ لِمَنْ تَابَ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] . إلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54] .
فَهَذَا السِّيَاقُ مَعَ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَيْأَسُ مُذْنِبٌ مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ مَا كَانَتْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ لِعَبْدِهِ التَّائِبِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْعُمُومِ الشِّرْكُ وَغَيْرُهُ مِنْ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ ذَلِكَ لِمَنْ تَابَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] إلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] .
وَقَالَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]، إلَى قَوْلِهِ:{أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74] .
وَهَذَا الْقَوْلُ الْجَامِعُ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ ذَنْبٍ لِلتَّائِبِ مِنْهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ، هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَثْنِي بَعْضَ الذُّنُوبِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ تَوْبَةَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ لَا تُقْبَلُ بَاطِنًا لِلْحَدِيثِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي فِيهِ: " فَكَيْفَ مَنْ أَضْلَلْت "، وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّهُ يَتُوبُ عَلَى أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: " اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْكَرَمِ عَذَّبُوا أَوْلِيَاءَهُ وَفَتَنُوهُمْ ثُمَّ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى التَّوْبَةِ " وَكَذَلِكَ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَنَحْوِهِ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، فِي الَّذِي قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَلَا نُصُوصُ الْوَعِيدِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ بِمُنَافِيَةٍ لِنُصُوصِ قَوْلِ التَّوْبَةِ، فَلَيْسَتْ آيَةُ الْفُرْقَانِ بِمَنْسُوخَةٍ بِآيَةِ النِّسَاءِ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ يَقِينًا أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فِيهِ وَعِيدٌ، فَإِنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ، إذْ نُصُوصُ التَّوْبَةِ مُبَيِّنَةٌ لِتِلْكَ النُّصُوصِ، كَالْوَعِيدِ فِي الشِّرْكِ، وَأَكْلِ الرِّبَا وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالسِّحْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ.
وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ تَوْبَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ الَّتِي تُلَائِمُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّوْبَةَ الْمُجَرَّدَةَ تُسْقِطُ حَقَّ اللَّهِ مِنْ الْعِقَابِ، وَأَمَّا حَقُّ الْمَظْلُومِ فَلَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، وَهَذَا حَقٌّ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَسَائِرِ الظَّالِمِينَ. فَمَنْ تَابَ مِنْ ظُلْمٍ لَمْ يَسْقُطْ بِتَوْبَتِهِ حَقُّ الْمَظْلُومِ، لَكِنْ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ أَنْ يُعَوِّضَهُ بِمِثْلِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَوِّضْهُ فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْعِوَضِ فِي الْآخِرَةِ، فَيَنْبَغِي لِلظَّالِمِ التَّائِبِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الْحَسَنَاتِ حَتَّى إذَا اسْتَوْفَى الْمَظْلُومُونَ حُقُوقَهُمْ لَمْ يَبْقَ مُفْلِسًا. وَمَعَ هَذَا فَإِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَوِّضَ الْمَظْلُومَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ، كَمَا إذَا شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ. وَلِهَذَا فِي حَدِيثِ الْقِصَاصِ الَّذِي رَكِبَ فِيهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ شَهْرًا حَتَّى شَافَهَهُ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ،
وَهُوَ مِنْ جِنْسِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ. صِحَاحِهِ أَوْ حِسَانِهِ قَالَ فِيهِ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْخَلَائِقَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قِبَلَهُ مَظْلَمَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ» . فَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الْعَدْلَ وَالْقِصَاصَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إذَا عَبَرُوا الصِّرَاطَ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. فَإِذَا هُذِّبُوا وَنَقَوْا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ» . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] ، وَالِاغْتِيَابُ مِنْ ظُلْمِ الْأَعْرَاضِ، قَالَ:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] .
فَقَدْ نَبَّهَهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ الِاغْتِيَابِ وَهُوَ مِنْ الظُّلْمِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلَمَةٌ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَلْيَأْتِهِ فَلْيَسْتَحِلَّ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ فِيهِ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ إلَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَإِلَّا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ» أَوْ كَمَا قَالَ. وَهَذَا فِيمَا عَلِمَهُ الْمَظْلُومُ مِنْ الْعِوَضِ، فَأَمَّا إذَا اغْتَابَهُ أَوْ قَذَفَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، فَقَدْ قِيلَ: مِنْ شَرْطِ تَوْبَتِهِ إعْلَامُهُ، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. لَكِنَّ قَوْلَهُ مِثْلُ هَذَا أَنْ يَفْعَلَ مَعَ الْمَظْلُومِ حَسَنَاتٍ، كَالدُّعَاءِ لَهُ، وَالِاسْتِغْفَارِ وَعَمَلِ صَالِحٍ يَهْدِي إلَيْهِ يَقُومُ مَقَامَ اغْتِيَابِهِ وَقَذْفِهِ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:" كَفَّارَةُ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته ".
وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا نَفْيَ قَبُولِ التَّوْبَةِ، مِثْلُ قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ. وَقَوْلُهُمْ: إذَا تَابَ الْمُحَارِبُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَسْقُطُ عَنْهُ حُدُودُ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فِي سَائِرِ الْجَرَائِمِ، كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَقَوْلُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ إذَا تَابُوا بَعْدَ الرَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ، فَهَذَا إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ رَفْعَ الْعُقُوبَةِ الْمَشْرُوعَةِ عَنْهُمْ، أَيْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ بِحَيْثُ يُخَلَّى بِلَا عُقُوبَةٍ، بَلْ يُعَاقَبُ، إمَّا لِأَنَّ تَوْبَتَهُ غَيْرُ مَعْلُومَةِ الصِّحَّةِ، بَلْ يُظَنُّ بِهِ الْكَذِبُ فِيهَا، وَإِمَّا لِأَنَّ رَفْعَ الْعُقُوبَةِ بِذَلِكَ يُفْضِي إلَى انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَسَدِّ بَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْجَرَائِمِ، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْ هَؤُلَاءِ تَوْبَةً صَحِيحَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ فِي الْبَاطِنِ، إذْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ. بَلْ هَذِهِ التَّوْبَةُ لَا تَمْنَعُ إلَّا إذَا عَايَنَ أَمْرَ الْآخِرَةِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18] الْآيَةَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا لِي:" كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ ". وَأَمَّا مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ، فَهَذَا كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: أَنَا اللَّهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ اللَّهُ:{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] .
وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ، بَيَّنَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ لَيْسَتْ هِيَ التَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا، فَإِنَّ اسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِ إمَّا بِمَعْنَى النَّفْيِ إذَا قَابَلَ الْإِخْبَارَ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الذَّمِّ وَالنَّهْيِ إذَا قَابَلَ الْإِنْشَاءَ، وَهَذَا مِنْ هَذَا، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ - فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84 - 85] ، الْآيَةَ. بَيَّنَ أَنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ
رُؤْيَةِ الْبَأْسِ لَا تَنْفَعُ، وَأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ كَفِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ:«إنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» ، وَرُوِيَ:«مَا لَمْ يُعَايِنْ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى عَمِّهِ التَّوْحِيدَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَقَدْ عَادَ يَهُودِيًّا كَانَ يَخْدُمُهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ. فَقَالَ:«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: آوُوا أَخَاكُمْ» .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ الْعَامَّةَ فِي الزُّمَرِ هِيَ لِلتَّائِبِينَ، أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . فَقَيَّدَ الْمَغْفِرَةَ بِمَا دُونَ الشِّرْكِ، وَعَلَّقَهَا عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَهُنَاكَ أَطْلَقَ وَعَمَّمَ، فَدَلَّ هَذَا التَّقْيِيدُ وَالتَّعْلِيقُ عَلَى أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ التَّائِبِ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ أَهْلُ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي الْجُمْلَةِ خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ نُفُوذَ الْوَعِيدِ بِهِمْ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ قَدْ أَسْرَفَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ حَتَّى تَوَقَّفُوا فِي لُحُوقِ الْوَعِيدِ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، كَمَا يُذْكَرُ عَنْ غُلَاتِهِمْ أَنَّهُمْ نَفَوْهُ مُطْلَقًا، وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ، وَالْجَافِي عَنْهُ، نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ اتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مُتَطَابِقَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يُعَذَّبُ، وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: «يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا» . الْمَغْفِرَةُ بِمَعْنَى تَخْفِيفِ الْعَذَابِ، أَوْ بِمَعْنَى تَأْخِيرِهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَهَذَا عَامٌّ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا شَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَبِي طَالِبٍ مَعَ مَوْتِهِ عَلَى الشِّرْكِ، فَنُقِلَ مِنْ غَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى جُعِلَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ فِي قَدَمَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ. قَالَ:«وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ»
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى دَلَّ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61] ، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] .
فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل: «يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي» ، فَإِنَّهُ هُوَ بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِيمَا يَحْسُنُ بِهِ إلَيْهِمْ مِنْ إجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَغُفْرَانِ الزَّلَّاتِ، بِالْمُسْتَعِيضِ بِذَلِكَ مِنْهُمْ جَلْبَ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، كَمَا هِيَ عَادَةُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يُعْطِي غَيْرَهُ نَفْعًا لِيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ بِنَفْعٍ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا لِيَنْفِيَ بِذَلِكَ ضَرَرَهُ، فَقَالَ:«إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي» . فَلَسْت إذًا أَجُسُّكُمْ بِهِدَايَةِ الْمُسْتَهْدِي وَكِفَايَةِ الْمُسْتَكْفِي الْمُسْتَطْعِمِ وَالْمُسْتَكْسِي، بِاَلَّذِي أَطْلُبُ أَنْ تَنْفَعُونِي، وَلَا أَنَا إذَا غَفَرْت خَطَايَاكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَتَّقِي بِذَلِكَ أَنْ تَضُرُّونِي، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، إذْ هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ إلَّا بِتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَكَيْفَ بِمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِالْغَنِيِّ الصَّمَدِ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحِقَّ مِنْ غَيْرِهِ نَفْعًا أَوْ ضَرًّا.
وَهَذَا الْكَلَامُ كَمَا بَيَّنَ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بِهِمْ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَبْلُغُوا أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ، وَمَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ اسْتِجْلَابَ نَفْعِهِمْ، كَمَا أَمَرَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَوْ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَالْأَمِيرِ لِرَعِيَّتِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا دَفْعَ مَضَرَّتِهِمْ، كَنَهْيِ هَؤُلَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ لِبَعْضِ النَّاسِ عَنْ مَضَرَّتِهِمْ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقِينَ يَبْلُغُ بَعْضُهُمْ نَفْعَ بَعْضٍ، وَمَضَرَّةَ بَعْضٍ، وَكَانُوا فِي أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ قَدْ يَكُونُونَ كَذَلِكَ، وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ. فَبَيَّنَ تَنْزِيهَهُ عَنْ لُحُوقِ نَفْعِهِمْ وَضَرِّهِمْ فِي إحْسَانِهِ إلَيْهِمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَفْعَالِهِ بِهِمْ وَأَوَامِرِهِ لَهُمْ، قَالَ قَتَادَةُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ، وَلَا نَهَاهُمْ