الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ عَدْل اللَّه وَإِحْسَانه فِي الْجَزَاء عَلَى الْأَعْمَال]
فَصْلٌ: ثُمَّ خَتَمَهُ بِتَحْقِيقِ مَا بَيَّنَهُ فِيهِ مِنْ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَقَالَ:«يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» .
فَبَيَّنَ أَنَّهُ مُحْسِنٌ إلَى عِبَادِهِ فِي الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ إحْسَانًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَمْدَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِالْأَمْرِ بِهَا وَأَشَادَ إلَيْهَا، وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهَا، ثُمَّ إحْصَائِهَا، ثُمَّ تَوْفِيَةِ جَزَائِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْهُ وَإِحْسَانٌ، إذْ كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِ نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَلَيْسَ وُجُوبُ ذَلِكَ كَوُجُوبِ حُقُوقِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، الَّذِي يَكُونُ عَدْلًا لَا فَضْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِكَوْنِ بَعْضِ النَّاسِ أَحْسَنَ إلَى الْبَعْضِ، فَاسْتَحَقَّ الْمُعَاوَضَةَ، وَكَانَ إحْسَانُهُ إلَيْهِ بِقُدْرَةِ الْمُحْسِنِ دُونَ الْمُحْسَنِ إلَيْهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَعَاوِضَانِ لِيَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِالتَّفَضُّلِ عَلَى الْآخَرِ لِتَكَافُئِهِمَا، وَهُوَ قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْعِبَادَ لَنْ يَبْلُغُوا ضَرَّهُ فَيَضُرُّوهُ، وَلَنْ يَبْلُغُوا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ، فَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقٌّ، بَلْ هُوَ الَّذِي أَحَقَّ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ بِكَلِمَاتِهِ، فَهُوَ الْمُحْسِنُ بِالْإِحْسَانِ، وَبِإِحْقَاقِهِ وَكِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ فِي كِتَابَةِ الرَّحْمَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِحْقَاقِهِ نَصْرَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مُحْسِنٌ إحْسَانًا مَعَ إحْسَانٍ. فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَظُمَ فِيهَا الِاضْطِرَابُ.
فَمِنْ بَيْنِ مُوجِبٍ عَلَى رَبِّهِ بِالْمَنْعِ أَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا مُتَفَضِّلًا، وَمِنْ بَيْنِ مُسَوٍّ بَيْنَ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمَا تَنَزَّهَ عَنْهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَجَاعِلِ الْجَمِيعِ نَوْعًا وَاحِدًا، وَكُلُّ ذَلِكَ حَيْدٌ عَنْ سُنَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. وَكَمَا بَيَّنَ أَنَّهُ مُحْسِنٌ فِي الْحَسَنَاتِ، مُتِمٌّ إحْسَانَهُ بِإِحْصَائِهَا وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، بَيَّنَ أَنَّهُ عَادِلٌ فِي الْجَزَاءِ عَلَى السَّيِّئَاتِ فَقَالَ:«وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مِثْلِ قَوْلُهُ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101] . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ الْمُوَافِقَةُ لِفِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
قَالَ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ» . فَفِي قَوْلِهِ: «أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ» . اعْتِرَافٌ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَسَنَاتِ وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: «وَأَبُوءُ بِذَنْبِي» ، اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ مُذْنِبٌ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَهَذَا يُصَيِّرُ الْعَبْدَ شَكُورًا لِرَبِّهِ مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِهِ، فَيَسْتَوْجِبُ مَزِيدَ الْخَيْرِ، وَغُفْرَانَ الشَّرِّ، مِنْ الشَّكُورِ الْغَفُورِ الَّذِي يَشْكُرُ الْيَسِيرَ مِنْ الْعَمَلِ وَيَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنْ الزَّلَلِ.
وَهُنَا انْقَسَمَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فِي إضَافَةِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي إلَى رَبِّهِمْ وَإِلَى نُفُوسِهِمْ، فَشَرُّهُمْ الَّذِي إذَا أَسَاءَ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى الْقَدَرِ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الْقَدَرَ سَبَقَ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْ الْقَدَرِ، فَرَكِبَ الْحُجَّةَ عَلَى رَبِّهِ فِي ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ أَحْسَنَ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ وَنَسِيَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تَيْسِيرِهِ لِلْيُسْرَى، وَهَذَا لَيْسَ مَذْهَبَ طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَكِنَّهُ حَالُ شِرَارِ الْجَاهِلِينَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ لَا حَفِظُوا حُدُودَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَا شَهِدُوا حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، كَمَا قَالَ فِيهِمْ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ، وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْتَ بِهِ.
وَخَيْرُ الْأَقْسَامِ وَهُوَ الْقِسْمُ الْمَشْرُوعُ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَنَّهُ إذَا أَحْسَنَ شَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَحَمِدَهُ إذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَهُ مُحْسِنًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُسِيئًا فَإِنَّهُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَجَمِيعُ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ إلَى رَبِّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ، فَلَوْ لَمْ يَهْدِهِ لَمْ يَهْتَدِ، كَمَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43] . وَإِذَا أَسَاءَ اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَتَابَ مِنْهُ، وَكَانَ كَأَبِيهِ آدَمَ الَّذِي قَالَ:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وَلَمْ يَكُنْ كَإِبْلِيسِ الَّذِي قَالَ:{بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40]
وَلَمْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ، وَلَا فِعْلِ مَحْظُورٍ، مَعَ إيمَانِهِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ أَطَاعُوا اللَّهَ فِي قَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . وَلَكِنْ بَسْطُ ذَلِكَ، وَتَحْقِيقُ نِسْبَةِ الذَّنْبِ إلَى النَّفْسِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، فِيهِ أَسْرَارٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهَا، وَمَعَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى؛ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] . لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الطَّاعَةَ وَالْمَعَاصِيَ، كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يُحَرِّفَ بَعْضُهُمْ الْقُرْآنَ وَيَقْرَأَ فَمِنْ نَفْسِك. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يُنَاقِضُ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، وَحَتَّى يُضْمِرَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ الْحَقُّ فَيَجْعَلُ قَوْلَ اللَّهِ الصِّدْقَ الَّذِي يُحْمَدُ وَيُرْضَى، قَوْلًا لِلْكُفَّارِ يُكَذَّبُ بِهِ وَيُذَمُّ وَيَسْخَطُ بِالْإِضْمَارِ الْبَطِلِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. ثُمَّ إنَّ مِنْ جَهْلِ هَؤُلَاءِ ظَنَّهُمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةً لِلْقَدَرِيَّةِ، وَاحْتِجَاجُ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَنَّ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ سَوَاءٌ مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُوجِدُ لِفِعْلِهِ دُونَ اللَّهِ أَوْ هُوَ الْخَالِقُ لِفِعْلِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَمَنْ أَثْبَتَ خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَأَثْبَتَ الْجَبْرَ أَوْ نَفَاهُ أَوْ أَمْسَكَ عَنْ نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ مُطْلَقًا، وَفَصَّلَ الْمَعْنَى أَوْ لَمْ يُفَصِّلْهُ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ إدْخَالَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَدَرِ فِي غَايَةِ الْجَهَالَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهَا الْمَسَار وَالْمَضَارُّ دُونَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] . وَهُوَ الشَّرُّ وَالْخَيْرُ فِي قَوْلِهِ: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} [هود: 10]، وقَوْله تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ - ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 94 - 95] .
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] . فَهَذِهِ حَالُ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ مَعَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، كَحَالِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالظَّالِمِينَ مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، إذَا أَصَابَهُمْ نِعْمَةٌ وَخَيْرٌ قَالُوا: لَنَا هَذِهِ، أَوْ قَالُوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنْ أَصَابَهُمْ عَذَابٌ وَشَرٌّ تَطَيَّرُوا بِالنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَقَالُوا: هَذِهِ بِذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ بِذُنُوبِ أَنْفُسِهِمْ لَا بِذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي هَذَا فِي بَيَانِ حَالِ النَّاكِلِينَ عَنْ الْجِهَادِ الَّذِينَ يَلُومُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ، فَإِذَا أَصَابَهُمْ نَصْرٌ وَنَحْوُهُ قَالُوا هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ مِحْنَةٌ قَالُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ الَّذِي جَاءَنَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْجِهَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] إلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النساء: 77] إلَى قَوْلِهِ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} [النساء: 78]
أَيْ: هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ: {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78] . أَيْ سَبَبُ أَمْرِك وَنَهْيِك، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79] . أَيْ: مِنْ نِعْمَةٍ. {فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، أَيْ: فَبِذَنْبِك، كَمَا قَالَ:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وَقَالَ:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الروم: 36] .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي هَذَا الْبَابِ: فَهُمْ قَوْمٌ لَبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَهُمْ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَبَيْنَ شِرَارِ النَّاسِ، وَهُمْ الْخَائِضُونَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَاطِلِ، فَقَوْمٌ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَهْدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُضِلُّونَهَا وَيُوجِبُونَ لَهَا فِعْلَ الطَّاعَةِ، وَفِعْلَ الْمَعْصِيَةِ بِغَيْرِ إعَانَةٍ مِنْهُ وَتَوْفِيقٍ لِلطَّاعَةِ، وَلَا خِذْلَانَ مِنْهُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَقَوْمٌ لَا يُثْبِتُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِعْلًا وَلَا قُدْرَةً وَلَا أَمْرًا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَنْحَلُّ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَكُونُ أَكْفَرَ الْخَلْقِ، وَهُمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِالْقَدَرِ مُتَنَاقِضُونَ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلٍ يُحِبُّونَهُ وَفِعْلٍ يُبْغِضُونَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ وَلِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِأَفْعَالِ الْمُعْتَدِينَ، فَإِذَا جَعَلُوا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ سَوَاسِيَةً لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَذُمُّوا أَحَدًا، وَلَا يَدْفَعُوا ظَالِمًا، وَلَا يُقَابِلُوا مُسِيئًا، وَأَنْ يُبِيحُوا لِلنَّاسِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كُلَّ مَا يَشْتَهِيهِ مُشْتَهٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَعِيشُ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ، إذْ هُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى شَرْعٍ فِيهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، أَعْظَمُ مِنْ اضْطِرَارِهِمْ إلَى الْأَكْلِ وَاللِّبَاسِ.
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لِشَرْحِهِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةِ وَالْقَوَاعِدِ النَّافِعَةِ، بِنُكَتٍ مُخْتَصَرَةٍ تُنَبِّهُ الْفَاضِلَ عَلَى مَا فِي الْحَقَائِقِ،