الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصَلِّ فِي مَنِيِّ الْآدَمِيِّ]
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَنِيِّ الْآدَمِيِّ وَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: إنَّهُ نَجِسٌ، كَالْبَوْلِ، فَيَجِبُ غَسْلُهُ رَطْبًا وَيَابِسًا مِنْ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَطَائِفَةٍ. وَثَانِيهَا: إنَّهُ نَجِسٌ، يُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
ثُمَّ هُنَا أَوْجُهٌ قِيلَ يُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ، وَمَسْحُ رَطْبِهِ مِنْ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ، وَمَنِيُّ الرَّجُلِ يَتَأَتَّى فَرْكُهُ وَمَسْحُهُ، بِخِلَافِ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّهُ رَقِيقٌ كَالْمَذْيِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ.
وَقِيلَ: يُجْزِئُ فَرْكُهُ فَقَطْ مِنْهُمَا، لِذَهَابِهِ بِالْفَرْكِ، وَبَقَاءِ أَثَرِهِ بِالْمَسْحِ.
وَقِيلَ: بَلْ الْجَوَازُ مُخْتَصٌّ بِالْفَرْكِ مِنْ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَثَالِثُهَا: إنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ، كَالْمُخَاطِ، وَالْبُصَاقِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرْنَاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُصَلِّي فِيهِ» . وَرُوِيَ فِي لَفْظِ الدَّارَقُطْنِيِّ: «كُنْت أَفْرُكُهُ إذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إذَا كَانَ رَطْبًا» .
فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ كَالْبَوْلِ نَجِسًا يَكُونُ نَجَاسَةً غَلِيظَةً. فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا: كَالدَّمِ، أَوْ طَاهِرًا: كَالْبُصَاقِ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ تَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنْ الْأَنْجَاسِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ
حَمْلِ قَلِيلِهِ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثِيرِهِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ» . فَهَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ الْفَرْكِ فِي مَنِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْغَسْلُ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الطَّاهِرَ لَا يُطَهَّرُ. فَيُقَالُ: هَذَا لَا يُخَالِفُهُ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ لِلرَّطْبِ، وَالْفَرْكَ لِلْيَابِسِ، كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ، أَوْ هَذَا أَحْيَانًا وَهَذَا أَحْيَانًا، وَأَمَّا الْغَسْلُ فَإِنَّ الثَّوْبَ قَدْ يُغْسَلُ مِنْ الْمُخَاطِ، وَالْبُصَاقِ، وَالنُّخَامَةِ اسْتِقْذَارًا لَا تَنْجِيسًا؛ وَلِهَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بِإِذْخِرَةٍ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْلُتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الْإِذْخِرِ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَحْثُهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ» . وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ، لَا مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَاتِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَتِهِ لَا يُجَوِّزُونَ مَسْحَ رَطْبِهِ.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَوَّلِينَا، بِمَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِإِذْخِرَةٍ» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، عَنْ شَرِيكٍ، قَالُوا: وَهَذَا لَا يُقْدَحُ؛ لِأَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ. وَرَوَى عَنْ سُفْيَانَ، وَشَرِيكٍ وَغَيْرِهِمَا، وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحْمَدُ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ، فَيُقْبَلُ رَفْعُهُ وَمَا يَنْفَرِدُ بِهِ.
وَأَنَا أَقُولُ: أَمَّا هَذِهِ الْفُتْيَا فَهِيَ ثَابِتَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَبْلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمَا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي كُتُبِهِمْ، وَأَمَّا رَفْعُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَمُنْكَرٌ بَاطِلٌ، لَا أَصْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ رَوَوْهُ عَنْ شَرِيكٍ مَوْقُوفًا. ثُمَّ شَرِيكٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَيْسَا فِي الْحِفْظِ بِذَاكَ، وَاَلَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِعَطَاءٍ مِثْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ الَّذِي هُوَ أَثْبَتُ فِيهِ مِنْ الْقُطْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَكِّيِّينَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلَّا مَوْقُوفًا، وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى وَهْمِ تِلْكَ الرُّوَاةِ.
فَإِنْ قُلْت: أَلَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ أَنَّ زِيَادَةَ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ رَفَعَ، لَا لِمَنْ وَقَفَ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ. قُلْت: هَذَا عِنْدَنَا حَقٌّ مَعَ تَكَافُؤِ الْمُحَدِّثِينَ الْمُخْبِرِينَ وَتَعَادُلِهِمْ، وَأَمَّا مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ مَنْ لَمْ يُزِدْ، فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَوَّلُونَا، وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا لَمْ تَتَصَادَمْ الرِّوَايَتَانِ وَتَتَعَارَضَا، وَأَمَّا مَتَى تَعَارَضَتَا يَسْقُطُ رِوَايَةُ الْأَقَلِّ بِلَا رَيْبٍ، وَهَهُنَا الْمَرْوِيُّ لَيْسَ هُوَ مُقَابَلٌ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَهَا ثُمَّ قَالَهَا صَاحِبُهُ تَارَةً، تَارَةً ذَاكِرًا، وَتَارَةً آثِرًا، وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ حَالٍ، وَقَضِيَّةُ عَيْنٍ، فِي رَجُلٍ اسْتَفْتَى عَلَى صُورَةٍ، وَحُرُوفٍ مَأْثُورَةٍ، فَالنَّاسُ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُسْتَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَتْ الْقَضِيَّةُ إلَّا وَاحِدَةً إذْ لَوْ تَعَدَّدَتْ الْقَضِيَّةُ لَمَا أَهْمَلَ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ اهْتِمَامِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَأَهْلُ نَقْدِ الْحَدِيثِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ أَقْعَدُ بِذَلِكَ وَلَيْسُوا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهْمٌ.
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ، فَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِطَهَارَتِهِ حَتَّى يَجِيئَنَا مَا يُوجِبُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ، وَقَدْ بَحَثْنَا وَصَبَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ أَصْلًا، فَعُلِمَ أَنَّ
كُلَّ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ مُلَابَسَتِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنِيَّ يُصِيبُ أَبْدَانَ النَّاسِ، وَثِيَابَهُمْ، وَفُرُشَهُمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَلَغُ الْهِرُّ فِي آنِيَتِهِمْ، فَهُوَ طَوَافُ الْفَضَلَاتِ، بَلْ قَدْ يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْبُصَاقِ، وَالْمُخَاطِ، الْمُصِيبِ ثِيَابَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ مَنِيِّ الِاحْتِلَامِ وَالْجِمَاعِ، وَهَذِهِ الْمَشَقَّةُ الظَّاهِرَةُ تُوجِبُ طَهَارَتَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّنْجِيسِ قَائِمًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ خَفَّفَ فِي النَّجَاسَةِ الْمُعْتَادَةِ فَاجْتَزَأَ فِيهَا بِالْجَامِدِ، مَعَ أَنَّ إيجَابَ الِاسْتِنْجَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ أَهْوَنُ مِنْ إيجَابِ غَسْلِ الثِّيَابِ مِنْ الْمَنِيِّ، لَا سِيَّمَا فِي الشِّتَاءِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالْمَنِيِّ، وَالْقَيْءِ» رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَدْ مَضَى فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْسِلُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَارِجٌ يُوجِبُ طَهَارَتَيْ الْخَبَثِ وَالْحَدَثِ، فَكَانَ نَجِسًا كَالْبَوْلِ وَالْحَيْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إيجَابَ نَجَاسَةِ الطَّهَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ، فَإِنَّ إمَاطَتَهُ وَتَنْحِيَتَهُ أَخَفُّ مِنْ التَّطْهِيرِ مِنْهُ، فَإِذَا وَجَبَ الْأَثْقَلُ، فَالْأَخَفُّ أَوْلَى، لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ، فَإِنَّ الِاسْتِنْجَاءَ إمَاطَةٌ وَتَنْحِيَةٌ، فَإِذَا وَجَبَ تَنْحِيَتُهُ فِي مَخْرَجِهِ فَفِي غَيْرِ مَخْرَجِهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَذْيِ فَكَانَ نَجِسًا كَالْمَذْيِ، وَذَاكَ؛ لِأَنَّ الْمَذْيَ يَخْرُجُ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الشَّهْوَةِ، وَالْمَنِيُّ أَصْلُ الْمَذْيِ عِنْدَ اسْتِكْمَالِهَا، وَهُوَ يَجْرِي فِي مَجْرَاهُ، وَيَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِهِ، فَإِذَا نَجِسَ الْفَرْعُ فَلَأَنْ يَنْجَسَ الْأَصْلُ أَوْلَى.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الذَّكَرِ، أَوْ خَارِجٌ مِنْ الْقُبُلِ، فَكَانَ نَجِسًا كَجَمِيعِ الْخَوَارِجِ مِثْلُ: الْبَوْلِ، وَالْمَذْيِ، وَالْوَدْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي النَّجَاسَةِ مَنُوطٌ بِالْمَخْرَجِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَضَلَاتِ الْخَارِجَةَ مِنْ أَعَالِي الْبَدَنِ لَيْسَتْ نَجِسَةً، وَفِي أَسَافِلِهِ تَكُونُ نَجِسَةً، وَإِنْ جَمَعَهَا الِاسْتِحَالَةُ فِي الْبَدَنِ
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ قَصَرَته الشَّهْوَةُ، وَلِهَذَا يَخْرُجُ عِنْدَ الْإِكْثَارِ مِنْ الْجِمَاعِ أَحْمَرَ، وَالدَّمُ نَجِسٌ، وَالنَّجَاسَةُ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ عِنْدَكُمْ.
وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ، فَيَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ الْبَوْلِ، فَيَكُونُ كَاللَّبَنِ فِي الظَّرْفِ النَّجِسِ، فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ.
فَنَقُولُ: الْجَوَابُ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ: أَمَّا حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَلَا أَصْلَ لَهُ. فِي إسْنَادِهِ ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ مَنَاكِيرُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَقَوْلُهُمْ يُوجِبُ طَهَارَتَيْ الْخَبَثِ وَالْحَدَثِ، أَمَّا الْخَبَثُ فَمَمْنُوعٌ، بَلْ الِاسْتِنْجَاءُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ، كَمَا يُسْتَحَبُّ إمَاطَتُهُ مِنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ وَاجِبٌ، كَمَا قَدْ قِيلَ: يَجِبُ غَسْلُ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْ الْمَذْيِ، وَكَمَا يَجِبُ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إذَا خَرَجَ الْخَارِجُ مِنْ الْفَرْجِ، فَهَذَا كُلُّهُ طَهَارَةٌ وَجَبَتْ لِخَارِجٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ بِهَا إمَاطَتَهُ وَتَنْجِيسَهُ، بَلْ سَبَبٌ آخَرُ كَمَا يُغْسَلُ مِنْهُ سَائِرُ الْبَدَنِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ النَّجَاسَةُ، بَلْ سَبَبٌ آخَرُ. فَقَوْلُهُمْ يُوجِبُ طَهَارَةَ الْخَبَثِ، وَصْفٌ مَمْنُوعٌ فِي الْفَرْعِ، فَلَيْسَ غَسْلُهُ عَنْ الْفَرْجِ لِلْخَبَثِ، وَلَيْسَتْ الطَّهَارَاتُ مُنْحَصِرَةً فِي ذَلِكَ كَغَسْلِ الْيَدِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالْأَغْسَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَغَسْلِ الْأُنْثَيَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الطَّهَارَةُ إنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا، فَهِيَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، فَيَبْطُلُ قِيَاسُهُ عَلَى الْبَوْلِ لِفَسَادِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ.
وَأَمَّا إيجَابُهُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ فَهُوَ حَقٌّ، لَكِنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَيْسَتْ أَسْبَابُهَا مُنْحَصِرَةً فِي النَّجَاسَاتِ، فَإِنَّ الصُّغْرَى تَجِبُ مِنْ الرِّيحِ إجْمَاعًا، وَتَجِبُ بِمُوجِبِ الْحُجَّةِ مِنْ مُلَامَسَةِ الشَّهْوَةِ، وَمِنْ مَسِّ الْفَرْجِ، وَمِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَمِنْ الرِّدَّةِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كَانَتْ تَجِبُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلِّ مَا غَيَّرَتْهُ النَّارُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَسْبَابِ غَيْرُ نَجِسَةٍ.
وَأَمَّا الْكُبْرَى فَتَجِبُ بِالْإِيلَاجِ إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، وَلَا نَجَاسَةَ، وَتَجِبُ بِالْوِلَادَةِ
الَّتِي لَا دَمَ مَعَهَا عَلَى رَأْيٍ مُخْتَارٍ، وَالْوَلَدُ طَاهِرٌ، وَتَجِبُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يُقَالُ هُوَ نَجِسٌ، وَتَجِبُ بِالْإِسْلَامِ عِنْدَ طَائِفَةٍ، فَقَوْلُهُمْ: إنَّمَا أَوْجَبَ طَهَارَةَ الْحَدَثِ، أَوْ أَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ: نَجِسٌ، مُنْتَقِضُ بِهَذِهِ الصُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، فَبَطَلَ طَرْدُهُ، فَإِنْ ضَمُّوا إلَى الْعِلَّةِ كَوْنَهُ خَارِجًا انْتَقَضَ بِالرِّيحِ وَالْوَلَدِ نَقْضًا قَادِحًا.
ثُمَّ يُقَالُ: قَوْلُكُمْ " خَارِجٌ " وَصْفٌ طَرْدِيٌّ، فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِرَازُ بِهِ، ثُمَّ إنَّ عَكْسَهُ أَيْضًا بَاطِلٌ، وَالْوَصْفُ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ، فَإِنَّ مَا لَا يُوجِبُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ نَجِسٌ كَالدَّمِ الَّذِي لَمْ يَسِلْ، وَالْيَسِيرِ مِنْ الْقَيْءِ، وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي الْفَرْقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذِهِ أَوْجُهٌ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: التَّطْهِيرُ مِنْهُ أَبْعَدُ مِنْ تَطْهِيرِهِ، فَجُمِعَ مَا بَيْنَ مُتَفَاوِتَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ، فَإِنَّ الطَّهَارَةَ مِنْهُ طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ، وَتَطْهِيرُهُ إزَالَةُ خَبَثٍ، وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْأَسْبَابُ وَالْأَحْكَامُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ هَذِهِ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ دُونَ تِلْكَ. وَهَذِهِ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتِلْكَ مِنْ بَابِ اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهَذِهِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَاءِ أَوْ التُّرَابِ، وَقَدْ تُزَالُ تِلْكَ بِغَيْرِ الْمَاءِ فِي مَوَاضِعَ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي مَوَاضِعَ عَلَى رَأْيٍ، وَهَذِهِ يَتَعَدَّى حُكْمُهَا مَحَلَّ سَبَبِهَا إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَتِلْكَ يَخْتَصُّ حُكْمُهَا بِمَحَلِّهَا، وَهَذِهِ تَجِبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ السَّبَبِ أَوْ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ، وَتِلْكَ تَجِبُ فِي مَحَلِّ السَّبَبِ فَقَطْ، وَهَذِهِ حِسِّيَّةٌ وَتِلْكَ عَقْلِيَّةٌ، وَهَذِهِ جَارِيَةٌ فِي أَكْثَرِ أُمُورِهَا عَلَى سُنَنِ مَقَايِيسِ الْبَاحِثِينَ، وَتِلْكَ مُسْتَصْعَبَةٌ عَلَى سَيْرِ الْقِيَاسِ، وَهَذِهِ وَاجِبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي وُجُوبِ الْأُخْرَى خِلَافٌ مَعْلُومٌ، وَهَذِهِ لَهَا بَدَلٌ، وَفِي بَدَلِ تِلْكَ فِي الْبَدَنِ خَاصَّةً خِلَافٌ ظَاهِرٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَقِيَاسُ هَذِهِ الطَّهَارَةِ عَلَى تِلْكَ الطَّهَارَةِ كَقِيَاسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ، وَتِلْكَ عِبَادَةٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقِيقَتَيْنِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إلْحَاقُهُ بِالْمَذْيِ، فَقَدْ مَنَعَ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ عَلَى قَوْلٍ بِطَهَارَةِ الْمَذْيِ، وَالْأَكْثَرُونَ سَلَّمُوهُ وَفَرَّقُوا بِافْتِرَاقِ الْحَقِيقَتَيْنِ، فَإِنَّ هَذَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ بِخِلَافِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ عَدَمَ الْإِمْنَاءِ عَيْبٌ يُبْنَى عَلَيْهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مُنْشَؤُهَا عَلَى أَنَّهُ نَقْصٌ،
وَكَثْرَةُ الْإِمْذَاءِ رُبَّمَا كَانَتْ مَرَضًا وَهُوَ فَضْلَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ كَالْبَوْلِ، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي انْبِعَاثِهِمَا عَنْ شَهْوَةِ النِّكَاحِ، فَلَيْسَ الْمُوجِبُ لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ أَنَّهُ عَنْ شَهْوَةِ الْبَاءَةِ فَقَطْ، بَلْ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ أَجْرَيْنَاهُ مَجْرَاهُ فَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْعًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ النَّاقِصِ، كَالْإِنْسَانِ إذَا أَسْقَطَتْهُ الْمَرْأَةُ قَبْلَ كَمَالِ خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَبْدَأُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، يُنَاطُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْسَانِ إلَّا مَا قَلَّ وَلَوْ كَانَ فَرْعًا فَإِنَّ النَّجَاسَةَ اسْتِخْبَاثٌ، وَلَيْسَ اسْتِخْبَاثُ الْفَرْعِ بِالْمُوجِبِ خَبَثَ أَصْلِهِ كَالْفُضُولِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْإِنْسَانِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَقِيَاسُهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَارِجَاتِ بِجَامِعِ اشْتِرَاكِهِنَّ فِي الْمَخْرَجِ مَنْقُوضٌ بِالْفَمِ، فَإِنَّهُ مَخْرَجُ النُّخَامَةِ وَالْبُصَاقِ الطَّاهِرَيْنِ، وَالْقَيْءِ النَّجِسِ، وَكَذَلِكَ الدُّبُرُ مَخْرَجُ الرِّيحِ الطَّاهِرِ، وَالْغَائِطِ النَّجِسِ، وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ مَخْرَجُ الْمُخَاطِ الطَّاهِرِ، وَالدَّمِ النَّجِسِ، وَإِنْ فَصَلُوا بَيْنَ مَا يَعْتَادُ النَّاسُ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَبَيْنَ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ لِأَسْبَابٍ حَادِثَةٍ، قُلْنَا النُّخَامَةُ الْمَعِدِيَّةُ إذَا قِيلَ بِنَجَاسَتِهَا مُعْتَادَةٌ، وَكَذَلِكَ الرِّيحُ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ: لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَخْرَجِ، وَلِمَ لَا يُقَالُ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْدِنِ وَالْمُسْتَحَالِ، فَمَا خُلِقَ فِي أَعْلَى الْبَدَنِ فَطَاهِرٌ، وَمَا خُلِقَ فِي أَسْفَلِهِ فَنَجِسٌ، وَالْمَنِيُّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، بِخِلَافِ الْبَوْلِ وَالْوَدْيِ، وَهَذَا أَشَدُّ اطِّرَادًا؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ وَالنُّخَامَةَ الْمُنَجَّسَةَ خَارِجَانِ مِنْ الْفَمِ، لَكِنْ لَمَّا اسْتَحَالَا فِي الْمَعِدَةِ كَانَا نَجِسَيْنِ، وَأَيْضًا فَسَوْفَ نُفَرِّقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فَقَوْلُهُمْ: مُسْتَحِيلٌ عَنْ الدَّمِ، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ، عَنْهُ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ مُسْتَنِيرَةٍ قَاطِعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْآدَمِيِّ، وَبِمُضْغَتِهِ، فَإِنَّهُمَا مُسْتَحِيلَانِ عَنْهُ، وَبَعْدَهُ عَنْ الْعَلَقَةِ، وَهِيَ دَمٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِنَجَاسَتِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّمَ قَبْلَ طُهُورِهِ وَبُرُوزِهِ يَكُونُ نَجِسًا، فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى تَنْجِيسِهِ، وَلَا يَعْنِي الْقِيَاسَ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ وَبَرَزَ بِاتِّفَاقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لِلدَّلِيلِ عَلَى طَهَارَتِهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّجِسَ هُوَ الْمُسْتَقْذَرُ الْمُسْتَخْبَثُ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَثْبُتُ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ إلَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا مَوَاضِعَ خَلْقِهَا، فَوَصْفُهَا بِالنَّجَاسَةِ فِيهَا وَصْفٌ بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ خَاصَّةَ النَّجِسِ وُجُوبُ مُجَانَبَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِيهَا فِي الْبَدَنِ مِنْ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى حَامِلًا وِعَاءً مَسْدُودًا، قَدْ أَوْعَى دَمًا، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؟ فَلَئِنْ قُلْت: عُفِيَ عَنْهُ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ. قُلْت: بَلْ جُعِلَ طَاهِرًا لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْهُ، وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّلُ طَهَارَةَ الْهِرَّةِ بِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ، حَيْثُ يَقُولُ:«إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» . بَلْ أَقُولُ: قَدْ رَأَيْنَا جِنْسَ الْمَشَقَّةِ فِي الِاحْتِرَازِ مُؤَثِّرًا فِي جِنْسِ التَّخْفِيفِ، فَإِنْ كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْ جَمِيعِ الْجِنْسِ مُشِقًّا، عُفِيَ عَنْ جَمِيعِهِ، فَحُكِمَ بِالطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَعْضِهِ عُفِيَ عَنْ الْقَدْرِ الْمُشِقِّ، وَهُنَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي دَاخِلِ الْأَبْدَانِ فَيُحْكَمُ لِنَوْعِهِ بِالطَّهَارَةِ: كَالْهِرِّ، وَمَا دُونَهَا، وَهَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الدِّمَاءَ الْمُسْتَخْبَثَةَ فِي الْأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَا تَقُومُ حَيَاتُهُ إلَّا بِهَا، حَتَّى سُمِّيَتْ نَفْسًا، فَالْحُكْمُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ أَحَدَ أَرْكَانِ عِبَادِهِ مِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ نَوْعًا نَجِسًا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الدِّمَاءِ الْمُسْتَخْبَثَةِ شَيْءٌ مِنْ أَدِلَّةِ النَّجَاسَةِ وَخَصَائِصِهَا.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا الْأَعْيَانَ تَفْتَرِقُ حَالُهَا بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ عَمَلِهَا وَمَنْفَعَتِهَا، وَبَيْنَ مَا إذَا فَرَّقْت ذَلِكَ، فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ مَا دَامَ جَارِيًا فِي أَعْضَاءِ الْمُتَطَهِّرِ فَهُوَ طَهُورٌ، فَإِذَا انْفَصَلَ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، وَالْمَاءُ فِي الْمَحَلِّ النَّجِسِ مَا دَامَ عَلَيْهِ فَعَمَلُهُ بَاقٍ وَتَطْهِيرُهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، فَإِذَا فَارَقَ مَحَلَّ عَمَلِهِ فَهُوَ إمَّا
نَجِسٌ أَوْ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَهَذَا مَعَ تَغَيُّرِ الْأَمْوَاهِ فِي مَوَارِدِ التَّطْهِيرِ، تَارَةً بِالطَّاهِرَاتِ، وَتَارَةً بِالنَّجَاسَاتِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُخَالَطَةُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ أَسْبَابِ التَّغْيِيرِ لَا تُؤَثِّرُ فِي مَحَلِّ عَمَلِنَا وَانْتِفَاعِنَا، فَمَا ظَنُّك بِالْجِسْمِ الْمُفْرَدِ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ لُبَابُ الْفِقْهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ عَنْ أَصْلِ الدَّلِيلِ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ، فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَحَالَ وَتَبَدَّلَ. وَقَوْلُهُمْ: الِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ. قُلْنَا: مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الْفَتْوَى الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِجْمَاعِ؟ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْخَمْرَ إذَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا وَتَحْوِيلِهَا خَلًّا طَهُرَتْ، وَكَذَلِكَ تَحْوِيلُ الدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ، بَلْ أَقُولُ الِاسْتِقْرَاءُ دَلَّنَا أَنَّ كُلَّ مَا بَدَأَ اللَّهُ بِتَحْوِيلِهِ وَتَبْدِيلِهِ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ، مِثْلُ: جَعْلِ الْخَمْرِ خَلًّا، وَالدَّمِ مَنِيًّا، وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً، وَلَحْمِ الْجَلَّالَةِ الْخَبِيثِ طَيِّبًا، وَكَذَلِكَ بَيْضُهَا وَلَبَنُهَا، وَالزَّرْعُ الْمُسْتَسْقَى بِالنَّجِسِ إذَا سُقِيَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَزُولُ حُكْمُ التَّنْجِيسِ، وَيَزُولُ حَقِيقَةُ الْجِنْسِ وَاسْمِهِ التَّابِعِ لِلْحَقِيقَةِ، وَهَذَا ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحَوِّلُهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، وَيُبَدِّلُهَا خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَوَادِّهَا وَعَنَاصِرِهَا. وَأَمَّا مَا اسْتَحَالَ بِسَبَبِ كَسْبِ الْإِنْسَانِ: كَإِحْرَاقِ الرَّوْثِ حَتَّى يَصِيرَ رَمَادًا، وَوَضْعِ الْخِنْزِيرِ فِي الْمَلَّاحَةِ حَتَّى يَصِيرَ مِلْحًا، فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. وَلِلْقَوْلِ بِالتَّطْهِيرِ اتِّجَاهٌ وَظُهُورٌ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَنِيَّ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الذَّكَرِ فِي خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ غَلِيظٌ، وَتِلْكَ رَقِيقَةٌ، وَفِي لَوْنِهِ فَإِنَّهُ أَبْيَضُ شَدِيدُ الْبَيَاضِ، وَفِي رِيحِهِ فَإِنَّهُ طَيِّبٌ كَرَائِحَةِ الطَّلْعِ، وَتِلْكَ خَبِيثَةٌ، ثُمَّ جَعَلَهُ اللَّهُ أَصْلًا لِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَالْإِنْسَانُ الْمُكْرَمُ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُهُ نَجِسًا؟ .
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ نَاظَرَ بَعْضَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهِ، لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ: مَا بَالُك وَبَالُ هَذَا؟ قَالَ: أُرِيدَ أَنْ أَجْعَلَ أَصْلَهُ طَاهِرًا، وَهُوَ يَأْبَى إلَّا أَنْ يَكُونَ نَجِسًا. ثُمَّ لَيْسَ شَأْنُهُ شَأْنَ الْفُضُولِ، بَلْ شَأْنُ مَا هُوَ غِذَاءٌ وَمَادَّةٌ فِي الْأَبْدَانِ، إذْ هُوَ قِوَامُ النَّسْلِ، فَهُوَ بِالْأُصُولِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْفَضْلِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَفِيهِ أَجْوِبَةٌ: أَحَدُهَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّ بَيْنَهُمَا جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ، وَأَنَّ الْبَوْلَ إنَّمَا يَخْرُجُ رَضْحًا، وَهَذَا مَشْهُورٌ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ اتِّصَالِهِمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْلُومًا إلَّا فِي ثَقْبِ الذَّكَرِ، وَهُوَ طَاهِرٌ أَوْ مَعْفُوٌّ عَنْ نَجَاسَتِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَرَى فِي مَجْرَاهُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَوْلَ قَبْلَ ظُهُورِهِ نَجِسٌ، كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ فِي الدَّمِ، وَهُوَ فِي الدَّمِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي الْبَوْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُكْنٌ وَبَعْضٌ وَهَذَا فَضْلٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُمَاسَّةَ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ مُوجِبَةٌ لِلتَّنْجِيسِ، كَمَا قَدْ قِيلَ فِي الِاسْتِحَالَةِ، وَهُوَ فِي الْمُمَاسَّةِ أَبْيَنُ، يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْله تَعَالَى:{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] . وَلَوْ كَانَتْ الْمُمَاسَّةُ فِي الْبَاطِنِ لِلْفَرْثِ مَثَلًا مُوجِبَةً لِلنَّجَاسَةِ لَنَجِسَ اللَّبَنُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ بَيْنَهُمَا حَاجِزًا؟ قِيلَ: الْأَصْلُ عَدَمُهُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ هَذَا فِي مَعْرِضِ بَيَانِ ذِكْرِ الِاقْتِدَارِ بِإِخْرَاجِ طَيِّبٍ مِنْ بَيْنِ خَبِيثَيْنِ فِي الِاغْتِذَاءِ، وَلَا يَتِمُّ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجِزِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعَ الْحَاجِزِ ظَاهِرٌ فِي كَمَالِ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خَالِصًا} [النحل: 66] وَالْخُلُوصُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ قِيَامِ الْمُوجِبِ لِلشُّرْبِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَخُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مَنْ رَأَى إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا. وَإِنَّمَا حَدَثَ نَجَاسَةُ الْوِعَاءِ، فَقَالَ: الْمُلَاقَاةُ فِي الْبَاطِنِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، وَمَنْ نَجَّسَ هَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنِيِّ، بِأَنَّ الْمَنِيَّ يَنْفَصِلُ عَنْ النَّجَسِ فِي الْبَاطِنِ، أَيْضًا بِخِلَافِ اللَّبَنِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَّا بَعْدَ إبْرَازِ الضَّرْعِ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ فِي حَدِّ مَا يَلْحَقُهُ النَّجَاسَةُ.