الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِنَّ مَا مَنَعَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ شُرْبَ الْخَمْرِ، قَالُوا: لِأَنَّهَا تَزِيدُهُ عَطَشًا.
وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ بِمَاءِ الْوُلُوغِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى التَّيَمُّمِ. وَيَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ مَا يُقِيمُ بِهِ نَفْسَهُ، فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ، أَوْ الْمَاءِ النَّجِسِ، فَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَلَوْ وَجَدَ غَيْرَهُ مُضْطَرًّا إلَى مَا مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ الطَّيِّبِ، أَوْ النَّجِسِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَهُ إيَّاهُ وَيَعْدِلَ إلَى التَّيَمُّمِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ أَوْ حَدَثٌ صَغِيرٌ. وَمَنْ اغْتَسَلَ وَتَوَضَّأَ وَهُنَاكَ مُضْطَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ، أَوْ الذِّمَّةِ، أَوْ دَوَابِّهِمْ الْمَعْصُومَةِ، فَلَمْ يَسْقِهِ كَانَ آثِمًا عَاصِيًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ الزَّيْت إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ وَمَاتَتْ فِيهِ]
28 -
12 - مَسْأَلَةٌ:
فِي الزَّيْتِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ مِثْلُ الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا وَمَاتَتْ فِيهِ، هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قِيلَ يَنْجُسُ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُكَاثَرَ بِغَيْرِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ أَمْ لَا؟ . وَإِذَا قِيلَ تَجُوزُ الْمُكَاثَرَةُ، هَلْ يَجُوزُ إلْقَاءُ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجِسِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ لَا فَرْقَ؟ وَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْمُكَاثَرَةُ، وَقِيلَ بِنَجَاسَتِهِ، هَلْ لَهُمْ طَرِيقٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ مِثْلُ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ، أَوْ غَسْلِهِ إذَا قِيلَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَتْ الْمِيَاهُ النَّجِسَةُ الْيَسِيرَةُ تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ، هَلْ تَطْهُرُ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ بِالْمُكَاثَرَةِ أَمْ لَا؟ .
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَائِعَاتِ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَهَلْ تَنْجُسُ؟ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ تَكُونُ كَالْمَاءِ فَلَا تَنْجُسُ مُطْلَقًا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، أَوْ لَا يَنْجُسُ الْكَثِيرُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا إذَا بَلَغَتْ قُلَّتَيْنِ؟
فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ: أَنَّهَا تَنْجُسُ وَلَوْ مَعَ الْكَثْرَةِ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهَا كَالْمَاءِ سَوَاءً، كَانَتْ مَائِيَّةً، أَوْ غَيْرَ مَائِيَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: كَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، نَقَلَهُ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَحُكِيَ ذَلِكَ لِأَحْمَدَ فَقَالَ: إنَّ أَبَا ثَوْرٍ شَبَّهَهُ بِالْمَاءِ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَ الْمَائِعَاتِ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْمَاءِ، وَمَذْهَبُهُمْ فِي الْمَائِعَاتِ مَعْرُوفٌ: فَإِذَا كَانَتْ مُنْبَسِطَةً بِحَيْثُ لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهَا بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ لَمْ تَنْجُسْ كَالْمَاءِ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِالْعَكْسِ: بِالْقُلَّتَيْنِ كَالشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ أَنَّهَا كَالْمَاءِ يُذْكَرُ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي يَسِيرِ النَّجَاسَةِ إذَا وَقَعَتْ فِي الطَّعَامِ الْكَثِيرِ رِوَايَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي نَافِعٍ، مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، فِي الْجِبَابِ الَّتِي بِالشَّامِ لِلزَّيْتِ تَمُوتُ فِيهِ الْفَأْرَةُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ الزَّيْتَ، قَالَ: وَلَيْسَ الزَّيْتُ كَالْمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الزَّيْتِ وَغَيْرِهِ تَقَعُ فِيهِ الْمَيْتَةُ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَوْصَافَهُ وَكَانَ كَثِيرًا؛ لَمْ يَنْجُسْ بِخِلَافِ مَوْتِهَا فِيهِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ مَوْتِهَا فِيهِ، وَوُقُوعِهَا فِيهِ. وَمَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: أَنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ، إلَّا السَّمْنَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ، كَمَا يَقُولُونَ إنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ، إلَّا إذَا بَالَ فِيهِ بَائِلٌ. وَالثَّالِثَةُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَائِعِ الْمَائِيِّ: كَخَلِّ الْخَمْرِ، وَغَيْرِ الْمَائِيِّ: كَخَلِّ الْعِنَبِ، فَيُلْحَقُ الْأَوَّلُ بِالْمَاءِ دُونَ الثَّانِي.
وَفِي الْجُمْلَةِ: لِلْعُلَمَاءِ فِي الْمَائِعَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا كَالْمَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهَا طَعَامٌ وَإِدَامٌ فَإِتْلَافُهَا فِيهِ
فَسَادٌ؛ وَلِأَنَّهَا أَشَدُّ إحَالَةً لِلنَّجَاسَةِ مِنْ الْمَاءِ؛ أَوْ مُبَايِنَةٌ لَهَا مِنْ الْمَاءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَاءَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرْنَا حُجَّةَ مَنْ قَالَ بِالتَّنْجِيسِ، وَأَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا، فَلَا تَقْرَبُوهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ، وَبَيَّنَّا ضَعْفَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَطَعْنَ الْبُخَارِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَغَيْرِهِمْ فِيهِ، وَأَنَّهُمْ بَيَّنُوا أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ مَعْمَرٌ عَلَى الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: (بَابٌ فِي الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ) . حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ:«أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا» . وَقَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَاللَّفْظُ لِلْحُسَيْنِ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» . قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: رُبَّمَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،
عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ) حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو عَمَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، «عَنْ مَيْمُونَةَ: أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ» . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ - وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ مَيْمُونَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَصَحُّ.
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. قَالَ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ: حَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا خَطَأٌ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ. قُلْت: وَحَدِيثُ مَعْمَرٍ هَذَا الَّذِي خَطَّأَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ إنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ:«إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» . كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه فِي مُسْنَدِهِ، وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ مَعْمَرًا كَانَ يَرْوِيهِ أَحْيَانًا مِنْ الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَكَانَ يَضْطَرِبُ فِي إسْنَادِهِ، كَمَا اضْطَرَبَ فِي مَتْنِهِ، وَخَالَفَ فِيهِ الْحُفَّاظَ الثِّقَاتِ الَّذِينَ رَوَوْهُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي رَوَاهُ مَعْمَرٌ، وَمَعْمَرٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْغَلَطِ، وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَلَا يُعْرَفُ مِنْهُ غَلَطٌ.
فَلِهَذَا بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ مَا دَلَّ عَلَى خَطَأِ مَعْمَرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: (بَابُ إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ) ثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا الزُّهْرِيُّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ «عَنْ مَيْمُونَةَ: أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ» . قِيلَ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا سَمِعْت الزُّهْرِيَّ يَقُولُهُ إلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ سَمِعْت مِنْهُ مِرَارًا. ثَنَا عَبْدَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ - عَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَهُوَ جَامِدٌ، أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ، الْفَأْرَةُ أَوْ غَيْرُهَا. قَالَ: بَلَغَنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ، فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ، ثُمَّ أُكِلَ» ، مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ كَمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِسَنَدِهِ وَلَفْظِهِ، وَأَمَّا مَعْمَرٌ فَاضْطَرَبَ فِيهِ فِي سَنَدِهِ وَلَفْظِهِ، فَرَوَاهُ تَارَةً عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ فِيهِ:«وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» . وَقِيلَ عَنْهُ «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ» وَاضْطَرَبَ عَنْ مَعْمَرٍ فِيهِ.
وَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حَدِيثَ مَعْمَرٍ مَحْفُوظٌ فَعَمِلُوا بِهِ، وَمِمَّنْ ثَبَتَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ فِيمَا جَمَعَهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ. كَذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ لَمَّا أَفْتَى بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَحْتَجُّ أَحْيَانًا بِأَحَادِيثَ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ كَاحْتِجَاجِهِ بِقَوْلِهِ:«لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ، فَاسْتَدَلَّ بِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا فَعَلَّلُوا حَدِيثَ مَعْمَرٍ، وَبَيَّنُوا غَلَطَهُ، وَالصَّوَابُ مَعَهُمْ.
فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْته مِنْ الزُّهْرِيِّ مِرَارًا لَا يَرْوِيهِ إلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ إلَّا قَوْلُهُ:«أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا» رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ، أَنَّ الزُّهْرِيَّ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ وَغَيْرِهِ، فَأَفْتَى «بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ، فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ» .
فَهَذِهِ فُتْيَا الزُّهْرِيِّ فِي الْجَامِدِ وَغَيْرِ الْجَامِدِ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ رَوَى فِي الْحَدِيثِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ يَحْتَجُّ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ النَّوْعَيْنِ بِالْحَدِيثِ، وَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى. وَالزُّهْرِيُّ أَحْفَظُ أَهْلِ زَمَانِهِ، حَتَّى يُقَالَ إنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ فِي حَدِيثٍ وَلَا نِسْيَانٌ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَكْثَرُ حَدِيثًا مِنْهُ، وَيُقَالُ إنَّهُ حَفِظَ عَلَى الْأُمَّةِ تِسْعِينَ سُنَّةً لَمْ يَأْتِ بِهَا غَيْرُهُ، وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كِتَابًا مِنْ حِفْظِهِ ثُمَّ اسْتَعَادَهُ مِنْهُ بَعْدَ عَامٍ، فَلَمْ يُخْطِئْ مِنْهُ حَرْفًا
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ إلَّا نِسْيَانُ الزُّهْرِيِّ، أَوْ مَعْمَرٍ، لَكَانَ نِسْبَةُ النِّسْيَانِ إلَى مَعْمَرٍ أَوْلَى بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ، مَعَ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى نِسْيَانِ مَعْمَرٍ، وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَعْمَرًا كَثِيرُ الْغَلَطِ عَلَى الزُّهْرِيِّ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه، فِيمَا حَدَّثَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ:«أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ» ، فَقَالَ أَحْمَدُ: هَكَذَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرٌ بِالْبَصْرَةِ، وَحَدَّثَهُمْ بِالْبَصْرَةِ مِنْ حِفْظِهِ، وَحَدَّثَ بِهِ بِالْيَمَنِ، عَنْ الزُّهْرِيِّ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: مَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ بِالْبَصْرَةِ فَفِيهِ أَغَالِيطُ، وَهُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ الَّذِينَ رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: هُمْ الْبَصْرِيُّونَ: كَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى السَّامِيِّ.
وَالِاضْطِرَابُ فِي الْمَتْنِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ هَذَا يَقُولُ: إنْ كَانَ ذَائِبًا أَوْ مَائِعًا لَمْ يُؤْكَلْ، وَهَذَا يَقُولُ: وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَنْتَفِعُوا بِهِ، وَاسْتَصْبِحُوا بِهِ، وَهَذَا يَقُولُ: فَلَا تَقْرَبُوهُ، وَهَذَا يَقُولُ: فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤْخَذَ وَمَا حَوْلَهَا فَيُطْرَحُ. فَأَطْلَقَ الْجَوَابَ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّفْصِيلَ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَرَوْهُ مِنْ كِتَابٍ بِلَفْظٍ مَضْبُوطٍ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ مِنْ الْمَعْنَى فَغَلِطَ.
وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:«وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْقَلِيلِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ: كَالسَّمْنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ السَّائِلِ سَمْنٌ فَوْقَ قُلَّتَيْنِ يَقَعُ فِيهِ فَأْرَةٌ حَتَّى يُقَالَ فِيهِ: تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي حِكَايَةِ الْحَالِ، مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ، يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ. بَلْ السَّمْنُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَوْعِيَتِهِمْ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ قَلِيلًا، فَلَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَمْ يَدُلَّ إلَّا عَلَى نَجَاسَةِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّ الْمَائِعَاتِ الْكَثِيرَةَ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا: لَا نَصٌّ صَحِيحٌ، وَلَا ضَعِيفٌ، وَلَا إجْمَاعٌ، وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ. وَعُمْدَةُ مَنْ يُنَجِّسُهُ يَظُنُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ، سَرَتْ فِيهِ كُلِّهِ فَنَجَّسَتْهُ، وَقَدْ عُرِفَ فَسَادُ هَذَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِطَرْدِهِ، فَإِنَّ طَرْدَهُ يُوجِبُ نَجَاسَةَ الْبَحْرِ، بَلْ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ
مِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الْآخَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنِي مَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ، وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ الْمُسْتَثْنَى بِمَشَقَّةِ التَّنْجِيسِ، وَبِعَدَمِ وُصُولِ النَّجَاسَةِ إلَى الْكَثِيرِ، وَبَعْضُهُمْ بِتَعَذُّرِ التَّطْهِيرِ. وَهَذِهِ الْعِلَلُ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَثِيرِ مِنْ الْأَدْهَانِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحَبِّ الْعَظِيمِ قَنَاطِيرُ مُقَنْطَرَةٌ مِنْ الزَّيْتِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ صِيَانَتُهُ عَنْ الْوَاقِعِ، وَالدُّورُ وَالْحَوَانِيتُ مَمْلُوءَةٌ مِمَّا لَا يُمْكِنُ صِيَانَتُهُ كَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِ، فَالْعُسْرُ وَالْحَرَجُ بِتَنْجِيسِ هَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ بِتَنْجِيسِ الْكَثِيرِ أَثَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَاخْتَلَفَ كَلَامُ أَحْمَدَ رحمه الله فِي تَنْجِيسِ الْكَثِيرِ.
وَأَمَّا الْقَلِيلُ فَإِنَّهُ ظَنَّ صِحَّةَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ فَأَخَذَ بِهِ، وَقَدْ اطَّلَعَ غَيْرُهُ عَلَى الْعِلَّةِ الْقَادِحَةِ فِيهِ، وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا لَمْ يَقُلْ بِهِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، كَأَنْ يَأْخُذَ بِحَدِيثٍ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ ضَعْفُهُ، فَيَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ، وَقَدْ يَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَتَبَيَّنَ صِحَّتُهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّتُهُ أَخَذَ بِهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ رضي الله عنهم، وَلِظَنِّهِ صِحَّتَهُ، عَدَلَ إلَيْهِ عَمَّا رَمَاهُ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، وَرَوَى صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِهِ، عَنْ أَبِيهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا إسْمَاعِيلُ، ثَنَا عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ، قَالَ: تُؤْخَذُ الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا. قُلْت: يَا مَوْلَانَا فَإِنَّ أَثَرَهَا فِي السَّمْنِ كُلِّهِ. قَالَ: عَضِضْت بِهِنَّ أَبِيك إنَّمَا كَانَ أَثَرُهَا بِالسَّمْنِ، وَهِيَ حَيَّةٌ وَإِنَّمَا مَاتَتْ حَيْثُ وُجِدَتْ. ثَنَا أَبِي، ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنْ جَرٍّ فِيهِ زَيْتٌ وَقَعَ فِيهِ جُرَذٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُذْهُ وَمَا حَوْلَهُ فَأَلْقِهِ، وَكُلْهُ. قُلْت: أَلَيْسَ جَالَ فِي الْجَرِّ كُلِّهِ؟ قَالَ: إنَّهُ جَالَ وَفِيهِ الرُّوحُ فَاسْتَقَرَّ حَيْثُ مَاتَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، عَنْ صَالِحٍ قَالَ: ثَنَا أَبِي، ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ؟ فَقَالَ: إنَّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا وَدَمُهَا.
قُلْت: فَهَذِهِ فَتَاوَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالزُّهْرِيِّ، مَعَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ رَاوِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، ثُمَّ إنَّ قَوْلَ مَعْمَرٍ فِي الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ " فَلَا تَقْرَبُوهُ " مَتْرُوكٌ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ، فَإِنَّ جُمْهُورَهُمْ يُجَوِّزُوا الِاسْتِصْبَاحَ بِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُجَوِّزُ بَيْعَهُ أَوْ تَطْهِيرَهُ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ " فَلَا تَقْرَبُوهُ "، وَمَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ يَقُولُ: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» احْتِرَازٌ عَنْ الثَّوْبِ، وَالْبَدَنِ وَالْإِنَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَجَّسُ، وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِمَاءٍ يَتَنَجَّسُ، فَإِنَّ الْهَوَاءَ وَنَحْوَهُ لَا تَتَنَجَّسُ، وَلَيْسَ بِمَاءٍ. كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ:«إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» احْتِرَازٌ عَنْ الْبَدَنِ، فَإِنَّهُ يُجْنِبُ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِمَاءٍ يُجْنِبُ، وَلَكِنْ خَصَّ الْمَاءَ بِالذِّكْرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ، «فَإِنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ اغْتَسَلَتْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَتَوَضَّأَ بِسُؤْرِهَا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ جُنُبًا فَقَالَ: إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» مَعَ أَنَّ الثَّوْبَ لَا يُجْنِبُ، وَالْأَرْضُ لَا تُجْنِبُ، وَتَخْصِيصُ الْمَاءِ بِالذِّكْرِ لِمُفَارَقَةِ الْبَدَنِ لَا لِمُفَارَقَةِ كُلِّ شَيْءٍ.
فَنَفَى عَنْهُ النَّجَاسَةَ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ، كَمَا نَفَى عَنْهُ الْجَنَابَةَ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، وَالنَّجَاسَاتُ مِنْ الْخَبَائِثِ، فَالْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ لِلْخَبِيثِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ فَهَلْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ يُنَجِّسُهُ لِاخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ إلَى حَيْثُ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى تَطْهِيرِهِ، أَوْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ طَهَارَتُهُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْخَبِيثَةُ الَّتِي يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا؟ لِلْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْأَصْلُ النَّجَاسَةُ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ
وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اخْتِلَاطَ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ يُوجِبُ تَحْرِيمَهُمَا جَمِيعًا. ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ طَرَدُوا ذَلِكَ فِيمَا إذْ كَانَ الْمَاءُ يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ. قَالُوا: لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَبْلُغُهُ إذَا بَلَغَتْهُ الْحَرَكَةُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ طَرْدُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا لَزِمَ تَنْجِيسُ الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يَطْرُدُوا ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَاءُ عَمِيقًا وَمِسَاحَتُهُ قَلِيلَةً، ثُمَّ إذَا تَنَجَّسَ الْمَاءُ فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَطْهُرَ بِنَزْحٍ، فَيَجِبُ طَمُّ الْآبَارِ الْمُتَنَجِّسَةِ، وَطَرَدَ هَذَا الْقِيَاسَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالُوا بِالتَّطْهِيرِ بِالنَّزْحِ اسْتِحْسَانًا، إمَّا بِنَزْحِ الْبِئْرِ كُلِّهَا إذَا كَبِرَ الْحَيَوَانُ أَوْ نَضَخَ، وَإِمَّا بِنَزْحِ بَعْضِهَا إذَا صَغُرَ بِدِلَاءٍ ذَكَرُوا عَدَدَهَا، فَمَا أَمْكَنَ طَرْدُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ قَالُوا بِطَهَارَةِ مَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفَلَوَاتِ وَالْغُدْرَانِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ صِيَانَتُهَا عَنْ النَّجَاسَةِ، فَجَعَلُوا طَهَارَةَ ذَلِكَ رُخْصَةً، لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إنَّ الْبَوْلَ، وَالْعَذِرَةَ الرَّطْبَةَ، لَا يَنْجُسُ بِهِمَا، إلَّا مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ، تَرَكَ طَرْدَ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ مَا يَتَعَذَّرُ نَزْحُهُ يَتَعَذَّرُ تَطْهِيرُهُ، فَجَعَلَ تَعَذُّرَ التَّطْهِيرِ مَانِعًا مِنْ التَّنَجُّسِ.
فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَغَيْرُهَا مِنْ مَقَالَاتِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ تُبَيِّنُ: أَنَّهُ لَمْ يَطْرُدْهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَأَنَّ كُلَّهُمْ خَالَفُوا فِيهِ الْقِيَاسَ رُخْصَةً، وَأَبَاحُوا مَا تُخَالِطُهُ النَّجَاسَاتُ مِنْ الْمِيَاهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الْخَاصَّةِ
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْجُسَ الْمَاءُ حَتَّى يَتَغَيَّرَ، كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ، وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَغَيْرِهِمْ: كَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ، مَعَ قَوْلِهِ إنَّ الْقَلِيلَ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، وَأَمَّا ابْنُ عَقِيلٍ، وَابْنُ الْمُنَى، وَابْنُ الْمُظَفَّرِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَأَبُو نَصْرٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: فَنَصَرُوا هَذَا - أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ - كَالرِّوَايَةِ الْمُوَافِقَةِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ،
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَدِدْت أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمِيَاهِ كَانَ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ مُوَافِقٌ لِهَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَغَيَّرَتْ طَعْمَهُ، أَوْ لَوْنَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَنْجُسُ.
وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ، أَوْ طَعْمَهُ، أَوْ رِيحَهُ» ضَعِيفٌ؟
فَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، فَإِذَا ظَهَرَ فِي الْمَاءِ الدَّمُ، أَوْ طَعْمُ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ لِذَلِكَ مُسْتَعْمِلًا لِهَذِهِ الْخَبَائِثِ. وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا لَمْ يَخُصَّ صُورَةَ التَّغَيُّرِ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ. وَفِي الْجُمْلَةِ: فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَبَائِثَ الَّتِي هِيَ الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ فِي الْمَاءِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَاسْتُهْلِكَتْ، لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ دَمٌ، وَلَا مَيْتَةٌ، وَلَا لَحْمُ خِنْزِيرٍ أَصْلًا كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ إذَا اُسْتُهْلِكَتْ فِي الْمَائِعِ لَمْ يَكُنْ الشَّارِبُ لَهَا شَارِبًا لِلْخَمْرِ، وَالْخَمْرَةُ إذَا اسْتَحَالَتْ بِنَفْسِهَا وَصَارَتْ خَلًّا، كَانَتْ طَاهِرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّجَاسَةَ إذَا اسْتَحَالَتْ طَهُرَتْ أَقْوَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، فَإِنَّ انْقِلَابَ النَّجَاسَةِ مِلْحًا، وَرَمَادًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ: هُوَ كَانْقِلَابِهَا مَاءً، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَسْتَحِيلَ رَمَادًا، أَوْ مِلْحًا، أَوْ تُرَابًا، أَوْ مَاءً، أَوْ هَوَاءً، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَهَذِهِ الْأَدْهَانُ، وَالْأَلْبَانُ، وَالْأَشْرِبَةُ: الْحُلْوَةُ، وَالْحَامِضَةُ، وَغَيْرُهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ، وَالْخَبِيثَةُ، قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ، وَاسْتَحَالَتْ فِيهَا، فَكَيْفَ يَحْرُمُ الطَّيِّبُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى؟ وَمَنْ الَّذِي قَالَ إنَّهُ إذَا خَالَطَهُ الْخَبِيثُ، وَاسْتُهْلِكَ فِيهِ، وَاسْتَحَالَ قَدْ حَرُمَ، وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ، لَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا إجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ.