الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهُنَّ» مَنْطُوقُهُ إبَاحَةُ الْمَسْحِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ، بَلْ يَكْفِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ كَالْمَنْطُوقِ، فَإِذَا خَالَفَهُ فِي صُورَةٍ حَصَلَتْ الْمُخَالَفَةُ، فَإِذَا كَانَ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يُبَاحُ مُطْلَقًا، بَلْ يُحْظَرُ تَارَةً، وَيُبَاحُ أُخْرَى، حَصَلَ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ، وَهَذَا وَاضِحٌ وَهِيَ نَافِعَةٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ مَنْ بَاشَرَ الْأَسْفَارَ فِي الْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالتِّجَارَةِ، وَغَيْرِهَا رَأَى أَنَّهُ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ وَالْوُضُوءُ، إلَّا بِتَضَرُّرٍ يُبَاحُ التَّيَمُّمُ بِدُونِهِ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعَدُوُّ بِإِزَائِهِ، فَفَائِدَةُ النَّزْعِ لِلْوُضُوءِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، فَحَيْثُ يَسْقُطُ الْوُضُوءُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، يَسْقُطُ النَّزْعُ، وَقَدْ يَكُونُ الْوُضُوءُ وَاجِبًا لَوْ كَانَا بَارِزَيْنِ، لَكِنْ مَعَ اسْتِتَارِهِمَا يَحْتَاجُ إلَى قَلْعِهِمَا وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، ثُمَّ لَبِسَهُمَا إذَا لَمْ تَتِمَّ مَصْلَحَتُهُ إلَّا بِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَمَرَّ فَإِنَّ طَهَارَتَهُ بَاقِيَةٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَضُرُّهُ، فَفِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يَتَوَقَّتُ، إذَا كَانَ الْوُضُوءُ سَاقِطًا، فَيَنْتَقِلُ إلَى التَّيَمُّمِ، فَإِنَّ الْمَسْحَ الْمُسْتَمِرَّ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ، وَإِذَا كَانَ فِي النَّزْعِ وَاللُّبْسِ ضَرَرٌ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، فَلَأَنْ يُبِيحَ الْمَسْحَ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ الْجُنُبُ إذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا]
74 -
58 مَسْأَلَةٌ:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، عَنْ الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ إلَى جَانِبِ الْحَوْضِ أَوْ الْجُرْنِ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ نَاقِصٌ ثُمَّ يُرْجِعُ بَعْضَ الْمَاءِ مِنْ عَلَى بَدَنِهِ إلَى الْجُرْنِ، هَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ إذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْجُرْنِ هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا أَمْ لَا؟ وَعَنْ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ الْجُنُبُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا. وَعَنْ الطَّاسَةِ الَّتِي تُحَطُّ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ جَارٍ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَغْتَرِفُ بِهَا مِنْ الْجُرْنِ النَّاقِصِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُغْسَلَ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟
أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا يَطِيرُ مِنْ بَدَنِ الْمُغْتَسِلِ أَوْ الْمُتَوَضِّئِ، مِنْ الرَّشَاشِ فِي إنَاءِ الطَّهَارَةِ لَا يَجْعَلُهُ مُسْتَعْمَلًا.
وَكَذَلِكَ غَمْسُ الْجُنُبِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ وَالْجُرْنِ النَّاقِصِ لَا يُصَيِّرُهُ مُسْتَعْمَلًا.
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَاءِ الَّتِي إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ الْجُنُبُ، لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إذَا كَانَ كَثِيرًا مِقْدَارَ قُلَّتَيْنِ.
وَأَمَّا الطَّاسَةُ الَّذِي تُوضَعُ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ لَا يَنْجَسُ إلَّا بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، فَالْأَصْلُ فِي الْأَرْضِ الطَّهَارَةُ، حَتَّى تُعْلَمَ نَجَاسَتُهَا، لَا سِيَّمَا مَا بَيْنَ يَدَيْ الْحِيَاضِ الْفَائِضَةِ فِي الْحَمَّامَاتِ، فَإِنَّ الْمَاءَ يَجْرِي عَلَيْهَا كَثِيرًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
75 -
59 أَجْوِبَةٌ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ.
وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَالْخَبِيثُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الطَّيِّبِ بِصِفَاتِهِ، فَإِذَا كَانَ صِفَاتُ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ صِفَاتِ الطَّيِّبِ دُونَ الْخَبِيثِ، وَجَبَ دُخُولُهُ فِي الْحَلَالِ دُونَ الْحَرَامِ.
وَأَيْضًا: فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتِنُ؟ فَقَالَ:«الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . وَهَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّمَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِأَنَّ جُرْمَ النَّجَاسَةِ بَاقٍ، فَفِي اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالٌ لَهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَالَتْ، فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ قَائِمَةٌ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ خَمْرٌ فِي مَاءٍ، وَاسْتَحَالَتْ، ثُمَّ شَرِبَهَا شَارِبٌ، لَمْ يَكُنْ شَارِبًا لِلْخَمْرِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدُّ الْخَمْرِ، إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ طَعْمِهَا، وَلَوْنِهَا، وَرِيحِهَا.
وَلَوْ صَبَّ لَبَنَ امْرَأَةٍ فِي مَاءِ، وَاسْتَحَالَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ، وَشَرِبَ طِفْلٌ ذَلِكَ الْمَاءَ، لَمْ يَصِرْ ابْنَهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا بَاقٍ عَلَى أَوْصَافِ خِلْقَتِهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومُ قَوْلِهِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ لَا طَعْمِهِ، وَلَا رِيحِهِ، وَلَا لَوْنِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَعَنْ الِاغْتِسَالِ مِنْهُ.
قِيلَ: نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْجَسُ بِمُجَرَّدِ الْبَوْلِ، إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ نَهْيُهُ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ ذَرِيعَةٌ إلَى تَنْجِيسِهِ، فَإِنَّهُ إذَا بَالَ هَذَا تَغَيَّرَ بِالْبَوْلِ، فَكَانَ نَهْيًا مُبْتَدَأً سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. وَأَيْضًا فَيُقَالُ نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ ذَرِيعَةٌ إلَى تَنْجِيسِهِ، فَإِنَّهُ إذَا بَالَ هَذَا تَغَيَّرَ بِالْبَوْلِ، فَكَانَ نَهْيًا مُبْتَدَأً سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. أَيْضًا فَيُقَالُ: نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُلَّتَيْنِ: أَتُجَوِّزُ بَوْلَهُ فِيمَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ، إنْ جَوَّزْته فَقَدْ خَالَفَتْ ظَاهِرَ النَّصِّ، وَإِنْ حَرَّمْته فَقَدْ نَقَضْتَ دَلِيلَكَ.
وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، وَمَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ: أَتُسَوِّغُ لِلْحَاجِّ أَنْ يَبُولُوا فِي الْمَصَانِعِ الَّتِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ، إنْ جَوَّزْته فَقَدْ خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ، وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك.
وَيُقَالُ لِلْمُقَدَّرِ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ، إذَا كَانَ لِلْقَرْيَةِ غَدِيرٌ مُسْتَطِيلٌ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ رَقِيقٍ: أَتُسَوِّغُ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الْبَوْلَ فِيهِ، إنْ سَوَّغْته فَقَدْ خَالَفَتْ ظَاهِرَ النَّصِّ، وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَوْلِ، وَبَيْنَ صَبِّ الْبَوْلِ، فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، فَإِنَّ صَبَّ الْبَوْلِ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ مِنْ مُجَرَّدِ الْبَوْلِ، إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ، وَأَمَّا صَبُّ الْأَبْوَالِ فِي الْمِيَاهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ: إنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَمَا يَنْوِيهِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَالَ:«إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» وَفِي لَفْظٍ: «لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَأَمَّا مَفْهُومُهُ إذَا قُلْنَا بِدَلَالَةِ مَفْهُومِ الْعَدَدِ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْكُوتِ مُخَالِفٌ لِلْحُكْمِ فِي الْمَنْطُوقِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِيَظْهَرَ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالْمِقْدَارِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمَسْكُوتِ مُنَاقَضَةً لِلْحُكْمِ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمَنْطُوقِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجَسُ. بَلْ إذَا قِيلَ بِالْمُخَالَفَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْكُرْ هَذَا التَّقْدِيرَ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ مِيَاهِ الْفَلَاةِ الَّتِي تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَالدَّوَابُّ، وَالتَّخَصُّصُ إذَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ غَيْرُ اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ لَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] .
فَإِنَّهُ خَصَّ هَذِهِ الصُّورَةَ بِالنَّهْيِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْوَاقِعَةُ لَا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَخْتَصُّ بِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . فَذِكْرُ الزَّمَنَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلْحَاجَةِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ» ، فَهَذَا رَهْنٌ فِي الْحَضَرِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:«إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ» فِي جَوَابِ
سَائِلٍ مُعَيِّنٍ بَيَانٌ لِمَا احْتَاجَ السَّائِلُ إلَى بَيَانِهِ، فَلَمَّا كَانَ حَالُ الْمَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ كَثِيرًا قَدْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ، وَمِنْ شَأْنِ الْكَثِيرِ أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ، فَلَا يَبْقَى الْخَبَثُ فِيهِ مَحْمُولًا، بَلْ يَسْتَحِيلُ الْخَبَثُ فِيهِ لِكَثْرَتِهِ، بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ لَا خَبَثَ فِيهِ، فَلَا يَنْجَسُ، وَدَلَّ كَلَامُهُ صلى الله عليه وسلم، عَلَى أَنَّ مَنَاطَ التَّنْجِيسِ هُوَ كَوْنُ الْخَبَثِ مَحْمُولًا، فَحَيْثُ كَانَ الْخَبَثُ مَحْمُولًا مَوْجُودًا فِي الْمَاءِ كَانَ نَجِسًا، وَحَيْثُ كَانَ الْخَبَثُ مُسْتَهْلَكًا غَيْرَ مَحْمُولٍ فِي الْمَاءِ كَانَ بَاقِيًا عَلَى طَهَارَتِهِ، فَصَارَ حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ:«الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ لِبَيَانِ صُورَةِ السُّؤَالِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ الْخَبَثَ، فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ، إذْ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ قَدْ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ وَلَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، كَقَوْلِهِ:«الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَهُوَ إنَّمَا أَرَادَ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَلِيلًا فَقَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ لِضَعْفِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ أَمْرُهُ بِتَطْهِيرِ الْإِنَاءِ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَبِإِرَاقَتِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:«إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ، وَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» كَقَوْلِهِ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» .
فَإِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ غَمْسِ الْيَدِ فِي الْإِنَاءِ هُوَ الْإِنَاءُ الْمُعْتَادُ لِلْغَمْسِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنْ آنِيَةِ الْمِيَاهِ، فَكَذَلِكَ تِلْكَ الْآنِيَةُ الْمُعْتَادَةُ لِلْوُلُوغِ، وَهِيَ آنِيَةُ الْمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلْبَ يَلَغُ بِلِسَانِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى فِي الْمَاءِ مِنْ رِيقِهِ وَلُعَابِهِ مَا يَبْقَى وَهُوَ لَزِجٌ، فَلَا يُحِيلُهُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ، بَلْ يَبْقَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْخَبَثُ مَحْمُولًا، وَالْمَاءُ يَسِيرًا، فَيُرَاقُ ذَلِكَ الْمَاءُ لِأَجْلِ كَوْنِ الْخَبَثِ مَحْمُولًا فِيهِ، وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ الَّذِي لَاقَاهُ ذَلِكَ الْخَبَثُ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَبَثِ الْمُسْتَهْلَكِ الْمُسْتَحِيلِ: كَاسْتِحَالَةِ الْخَمْرِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ إذَا انْقَلَبَتْ فِي الدَّنِّ بِإِذْنِ اللَّهِ كَانَتْ طَاهِرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ جَوَانِبُ الدَّنِّ فَهُنَاكَ يُغْسَلُ الْإِنَاءُ، وَهُنَا لَا يُغْسَلُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحَالَةَ حَصَلَتْ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَاءَيْنِ، وَاَلَّذِي يَنْجَسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ وَمَا لَا يَنْجَسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، لَقَالَ: إذَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ نُجِّسَ، وَمَا بَلَغَهُمَا لَمْ يَنْجَسْ، إلَّا بِالتَّغَيُّرِ انْجَرَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فَأَمَّا مُجَرَّدُ قَوْلِهِ:«إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» مَعَ أَنَّ الْكَثِيرَ يَنْجَسُ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْعَادَةِ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ فَلَا يُنَجِّسُهُ، فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ انْتِفَاءِ سَبَبِ التَّنَجُّسِ، وَبَيَانٌ لِكَوْنِ التَّنَجُّسِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ حَمْلُ الْخَبَثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَنَجُّسَ الْمَاءِ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ أَثَرًا، أَوْ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّأْثِيرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّنَجُّسِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ» . فَأَمَرَ بِالْغَسْلِ مُعَلِّلًا بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْغَسْلِ غَيْرَ النَّجَاسَةِ وَالْحَدَثِ الْمَعْرُوفِ.
وَقَوْلُهُ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا النَّصُّ بِالِاعْتِبَارِ.
وَأَمَّا نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ، فَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ