المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مسألة جماعة ينكرون على من أكل ذبيحة يهودي أو نصراني] - الفتاوى الكبرى لابن تيمية - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فُقَرَاء يَجْتَمِعُونَ يَذْكُرُونَ وَيَقْرَءُونَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جُنْدِيّ قَلَعَ بَيَاضَ لِحْيَتِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَمْع الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ بِدْعَةٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُل قَالَ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَبُوسُ الْأَرْضَ دَائِمًا هَلْ يَأْثَمُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْوُجُودِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مَعْنَى حَدِيثِ يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي]

- ‌[فَصَلِّ تَحْرِيمُ اللَّهِ الظُّلْمَ عَلَى الْعِبَادِ]

- ‌[فَصْلٌ إحْسَانُ اللَّه إلَى عِبَادِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ فِي الرِّزْقِ الْمُتَضَمِّن جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَغْفِرَةُ الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ نَوْعَانِ]

- ‌[فَصْلٌ بِرُّ النَّاس وَفُجُورهُمْ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِ اللَّه وَلَا يُنْقِصُ]

- ‌[فَصْلٌ سُؤَال الْخَلَائِق جَمِيعهمْ لِلَّهِ فِي مَكَان وَزَمَان وَاحِد]

- ‌[فَصْلٌ عَدْل اللَّه وَإِحْسَانه فِي الْجَزَاء عَلَى الْأَعْمَال]

- ‌[مَسْأَلَةٌ خَوْضُ النَّاس فِي أُصُولِ الدِّينِ مِمَّا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَقُولُ النُّصُوصُ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قُبُور الْأَنْبِيَاءِ هَلْ هِيَ الَّتِي تَزُورُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَمَاعَة يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ أَكَلَ ذَبِيحَة يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ زِيَارَة الْقُدْسِ وَقَبْرِ الْخَلِيلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اتِّبَاع الرَّسُولِ بِصَحِيحِ الْمَعْقُولِ]

- ‌[فَصْلٌ أَحَبّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ وَأَعْظَم الْفَرَائِضِ عِنْدَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَا يَفْعَلهُ النَّاس فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ الْكُحْلِ وَالِاغْتِسَالِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْتِزَامُ مَذْهَبِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ]

- ‌[كِتَابُ الطَّهَارَةِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ حَدِيث نِيَّة الْمَرْءِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ النِّيَّة فِي الدُّخُولِ فِي الْعِبَادَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَاء الْكَثِير إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ بِمُكْثِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ سُؤْرُ الْهِرَّةِ إذَا أَكَلَتْ نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَتْ مِنْ دُونِ الْقُلَّتَيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ فَغَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْكَلْب إذَا وَقَعَ فِي بِئْر كَثِير الْمَاء وَمَاتَ فِيهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَرِيض طُبِخَ لَهُ دَوَاءٌ فَوَجَدَ فِيهِ زِبْلَ الْفَارِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فَرَّان يَحْمِي بِالزِّبْلِ وَيَخْبِزُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ مِنْ اغْتِسَالِ النَّاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْكَلْبُ إذَا وَلَغَ فِي اللَّبَنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أُنَاس فِي مَفَازَةٍ وَمَعَهُمْ قَلِيلُ مَاءٍ فَوَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الزَّيْت إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ وَمَاتَتْ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ يَجُوزُ التَّعَمُّدُ لِإِفْسَادِهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَقَعَ عَلَى ثِيَابِهِ مَاءٌ مِنْ طَاقَةٍ مَا يَدْرِي مَا هُوَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ كَلْب طَلَعَ مِنْ مَاءٍ فَانْتَفَضَ عَلَى شَيْءٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْفَخَّار الَّذِي يُشْوَى بِالنَّجَاسَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْكَلْب هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجَسٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ عَظْم الْمَيْتَةِ وَقَرْنهَا وَظُفُرهَا وَرِيشهَا]

- ‌[فَصْلٌ لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي السِّوَاكِ وَتَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَة هَلْ تُخْتَنُ أَمْ لَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ وَلَا مُطَهَّرًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْخِتَان مَتَى يَكُونُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ كَمْ مِقْدَارُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْلِقَ عَانَتَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ كَانَ جُنُبًا وَقَصَّ ظُفُرَهُ أَوْ شَارِبَهُ أَوْ مَشَّطَ رَأْسَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَسْح الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ لَمْسُ كُلّ ذَكَر يَنْقُضُ الْوُضُوءَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَوَضَّأَ وَقَامَ يُصَلِّي فَأَحَسَّ بِالنُّقْطَةِ فِي صَلَاتِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَسّ يَد الصَّبِيّ الْأَمْرَدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَبَّلَ زَوْجَتَهُ أَوْ ضَمَّهَا فَأَمْذَى]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقَيْء يَنْقُضُ الْوُضُوءَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَكْل لَحْمِ الْإِبِلِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَة إذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ جَنَابَة أَوْ حَيْض]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مِنْ تَضَعُ دَوَاءً لِتَمْنَع نُفُوذَ الْمَنِيِّ فِي مَجَارِي الْحَبَلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ آدَاب الْحَمَّامِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ عُبُور الْحَمَّامِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَهِيجُ عَلَيْهِ بَدَنُهُ فَيَسْتَمْنِي بِيَدِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مِنْ بِهَا مَرَضٌ فِي عَيْنَيْهَا وَلَيْسَ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الْحَمَّامِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جُنُب فِي بَيْتٍ مُبَلَّطٍ مُغْلَق عَلَيْهِ لَا يَعْلَم مَتَى يَخْرَج مِنْهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَيُصَلِّي بِوُضُوءٍ مُحْتَقِنًا أَمْ يُحْدِثُ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَامَ جُنُبًا فَاسْتَيْقَظَ قَرَّبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَخَشِيَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِد]

- ‌[مَسْأَلَةٌ سَافَرَ مَعَ رُفْقَةٍ هُوَ إمَامُهُمْ فَاحْتَلَمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَة إذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا أَلِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا قَبْل أَنْ تَغْتَسِلَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْخَمْر إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ مِنْ يَخْرُجُ مِنْ ذَكَرِهِ قَيْحٌ لَا يَنْقَطِعُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي حَالِ النِّفَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَا تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَتَانِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَنِيّ الْإِنْسَانِ وَغَيْره مِنْ الدَّوَابِّ الطَّاهِرَةِ]

- ‌[فَصَلِّ طَهَارَةُ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ الَّتِي لَمْ تَحْرُمْ]

- ‌[فَصَلِّ فِي مَنِيِّ الْآدَمِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْكَلْب إذَا وَلَغَ فِي اللَّبَنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ كَانَ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ وَحَمَلَ الْمُصْحَفَ بِأَكْمَامِهِ لِيَقْرَأَ بِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مُدَّة الْحَيْض]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مُدَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْجُنُبُ إذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إزَالَة النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَاس فِي مَفَازَةٍ وَمَعَهُمْ مَاءٌ قَلِيلٌ فَوَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوَانِي النُّحَاسِ الْمُطَعَّمَة بِالْفِضَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَمْس النِّسَاءِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قِنْطَار زَيْتٍ وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ طَوَاف الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْحَجُّ بِدُونِ طَوَافِهَا وَهِيَ حَائِضٌ]

- ‌[مَسْأَلَة مِنْ بَاشَرَ امْرَأَتَهُ أَيُؤَخِّرُ الطُّهْر إلَى أَنْ يَتَضَحَّى النَّهَارُ]

- ‌[مَسْأَلَة دِبَاغ جُلُود الْحُمُرِ وَجِلْد مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَالْمَيْتَة]

- ‌[مَسْأَلَة مُرَابٍ خَلَّفَ مَالًا وَوَلَدًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهِ]

- ‌[مَسْأَلَة الْجُبْنِ الْإِفْرِنْجِيِّ وَالْجُوخِ]

الفصل: ‌[مسألة جماعة ينكرون على من أكل ذبيحة يهودي أو نصراني]

الْجِنْسِ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَخُرُوجٌ عَنْ مُوجِبِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، كَمَا هُوَ خُرُوجٌ عَنْ مُوجِبِ النُّصُوصِ، وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ خِلَافُ الْقِيَاسِ، لَكِنْ يَقُولُونَ: مَعَنَا آثَارٌ تُوَافِقُ اتَّبَعْنَاهَا، وَيَقُولُونَ: إنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَمْ يَتَنَاوَلْ كُلَّ مُسْكِرٍ، وَغَلِطُوا فِي فَهْمِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ مُثَابِينَ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ، وَمَعْرِفَةُ عُمُومِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي النَّصِّ وَخُصُوصِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] . وَالْكَلَامُ فِي تَرْجِيحِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَمُثْبِتِيهِ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ، لَا تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ بَسْطَهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَةٌ قُبُور الْأَنْبِيَاءِ هَلْ هِيَ الَّتِي تَزُورُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ]

11 -

مَسْأَلَةٌ:

فِي قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، هَلْ هِيَ هَذِهِ الْقُبُورُ الَّتِي تَزُورُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ؟ مِثْلُ: قَبْرِ نُوحٍ، وَقَبْرِ الْخَلِيلِ، وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ، وَيُونُسَ وَإِلْيَاسَ وَاَلْيَسَع، وَشُعَيْبٍ وَمُوسَى وَزَكَرِيَّا، وَهُوَ بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ؟ وَأَيْنَ قَبْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؟ فَهَلْ يَصِحُّ مِنْ تِلْكَ الْقُبُورِ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ .

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْقَبْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ هُوَ قَبْرُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَبْرُ الْخَلِيلِ فِيهِ نِزَاعٌ؛ لَكِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ قَبْرُهُ، وَأَمَّا يُونُسُ وَإِلْيَاسُ وَشُعَيْبٌ وَزَكَرِيَّا فَهُوَ يُعْرَفُ، وَقَبْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ الَّذِي بِالْكُوفَةِ، وَقَبْرُ مُعَاوِيَةَ هُوَ الْقَبْرُ الَّذِي تَقُولُ الْعَامَّةُ إنَّهُ قَبْرُ هُودٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَةٌ جَمَاعَة يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ أَكَلَ ذَبِيحَة يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ]

12 -

مَسْأَلَةٌ:

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَةِ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ مُطْلَقًا، وَلَا يَدْرِي مَا حَالُهُمْ، هَلْ دَخَلُوا فِي دِينِهِمْ قَبْلَ نَسْخِهِ وَتَحْرِيفِهِ وَقَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ يَتَنَاكَحُونَ، وَتُقَرُّ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ، وَلَا يُعْرَفُ مَنْ وَلَّاهُمْ مِنْ

ص: 159

آبَائِهِمْ، فَهَلْ لِلْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ مَنْعُهُمْ مِنْ الذَّبْحِ لِلْمُسْلِمِينَ، أَمْ لَهُمْ الْأَكْلُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ كَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ؟

أَجَابَ: رضي الله عنه: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى أَحَدٍ أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَا يَحْرُمُ ذَبْحُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ لَا يُسَوَّغُ فِيهَا الْإِنْكَارُ إلَّا بِبَيَانِ الْحُجَّةِ، وَإِيضَاحِ الْمَحَجَّةِ، لَا الْإِنْكَارُ الْمُجَرَّدُ الْمُسْتَنِدُ إلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ. فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْأَهْوَاءِ، كَيْفَ وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَقَبْلَهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِمَا عُلِمَ مِنْ حَالِ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ لِهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُحَرِّمُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ مُطْلَقًا، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الرَّافِضَةِ، وَهَؤُلَاءِ يُحَرِّمُونَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ وَأَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْفُتْيَا، وَلَا مِنْ أَقْوَالِ أَتْبَاعِهِمْ، وَهُوَ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] .

قِيلَ: الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الشِّرْكَ الْمُطْلَقَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُونَ فِي الشِّرْكِ الْمُقَيَّدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] . فَجَعَلَ الْمُشْرِكِينَ قِسْمًا غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17]

ص: 160

فَجَعَلَهُمْ قِسْمًا غَيْرَهُمْ، فَأَمَّا دُخُولُهُمْ فِي الْمُقَيَّدِ، فَفِي قَوْله تَعَالَى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] . فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ. وَسَبَبُ هَذَا: أَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] . وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، وَلَكِنَّهُمْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا، فَابْتَدَعُوا مِنْ الشِّرْكِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ اللَّهُ سُلْطَانًا، فَصَارَ فِيهِمْ شِرْكٌ بِاعْتِبَارِ مَا ابْتَدَعُوا، لَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الدِّينِ.

وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] هُوَ تَعْرِيفٌ لِلْكَوَافِرِ الْمَعْرُوفَاتِ اللَّاتِي كُنَّ فِي عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ، وَأُولَئِكَ كُنَّ مُشْرِكَاتٍ لَا كِتَابِيَّاتٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَنَحْوِهَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: إذَا قُدِّرَ أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكَاتِ وَالْكَوَافِرِ يَعُمُّ الْكِتَابِيَّاتِ، فَآيَةُ الْمَائِدَةِ خَاصَّةٌ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمُمْتَحِنَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا» وَالْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ إنَّهُ مُفَسِّرٌ لَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ صُورَةَ التَّخْصِيصِ لَمْ تَرِدْ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ، وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بَعْدَ أَنْ شُرِعَ.

ص: 161

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إذَا فَرَضْنَا النَّصَّيْنِ خَاصَّيْنِ، فَأَحَدُ النَّصَّيْنِ حَرَّمَ ذَبَائِحَهُمْ وَنِكَاحَهُمْ، وَالْآخَرُ أَحَلَّهُمَا، فَالنَّصُّ الْمُحَلِّلُ لَهُمَا هُنَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَتَكُونُ نَاسِخَةً لِلنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَا يُقَالُ إنَّ هَذَا نَسْخٌ لِلْحُكْمِ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ بِخِطَابٍ شَرْعِيٍّ حَلَّلَ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ، بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالتَّحْرِيمُ الْمُبْتَدَأُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْفِعْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ نَاسِخًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ؛ مِنْ أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يُحَرِّمْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ إلَّا هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ تَحْرِيمَ مَا سِوَى الثَّلَاثَة إلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْلِيلُ مَا سِوَى ذَلِكَ، بَلْ كَانَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَفْوًا لَا تَحْلِيلَ فِيهِ وَلَا تَحْرِيمَ، كَفِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ:«الْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» .

وَهَذَا مَحْفُوظٌ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، أَوْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحَلَّهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَعُلِمَ أَنَّ تَحْلِيلَ الطَّيِّبَاتِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ لَا بِمَكَّةَ، وقَوْله تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] إلَى قَوْلِهِ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] ، إلَى آخِرِهَا. فَثَبَتَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ إمَّا عَفْوًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِمَّا مُحَرَّمًا ثُمَّ نُسِخَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ.

ص: 162

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حِلُّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَالْكَلَامُ فِي نِسَائِهِمْ كَالْكَلَامِ فِي ذَبَائِحِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتَ حِلُّ أَحَدِهِمَا، ثَبَتَ حِلُّ الْآخَرِ، وَحِلُّ أَطْعِمَتِهِمْ لَيْسَ لَهُ مُعَارِضٌ أَصْلًا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، مَحْمُولٌ عَلَى الْفَوَاكِهِ وَالْحُبُوبِ. قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ لِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ مُبَاحَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوس، فَلَيْسَ فِي تَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَائِدَةٌ. الثَّانِي: أَنَّ إضَافَةَ الطَّعَامِ إلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَارَ طَعَامًا بِفِعْلِهِمْ، وَهَذَا إنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِي الذَّبَائِحِ الَّتِي صَارَتْ لَحْمًا بِذَكَاتِهِمْ، فَأَمَّا الْفَوَاكِهُ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا مَطْعُومَةً لَمْ تَصِرْ طَعَامًا بِفِعْلِ آدَمِيٍّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَرَنَ حِلَّ الطَّعَامِ بِحِلِّ النِّسَاءِ، وَأَبَاحَ طَعَامَنَا لَهُمْ، كَمَا أَبَاحَ طَعَامَهُمْ لَنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا أَبَاحَ طَعَامَهُمْ لَنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ، وَالْحَبِّ لَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ لَفْظَ الطَّعَامِ عَامٌّ، وَتَنَاوَلَهُ اللَّحْمَ وَنَحْوَهُ أَقْوَى مِنْ تَنَاوُلِهِ لِلْفَاكِهَةِ، فَيَجِبُ إقْرَارُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَرَنَ بِهِ قَوْله تَعَالَى:{وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] ، وَنَحْنُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُطْعِمَهُمْ كُلَّ أَنْوَاعِ طَعَامِنَا، فَكَذَلِكَ يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ طَعَامِهِمْ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، بَلْ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهْدَتْ لَهُ

ص: 163

الْيَهُودِيَّةُ عَامَ خَيْبَرَ شَاةً مَشْوِيَّةً، فَأَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ قَالَ:«إنَّ هَذِهِ تُخْبِرُنِي أَنَّ فِيهَا سُمًّا» ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ حَلَالٌ لَمَا تَنَاوَلَ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ.

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ لَمَّا غَزَوْا خَيْبَرَ، أَخَذَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ جِرَابًا فِيهِ شَحْمٌ، قَالَ: قُلْت لَا أُطْعِمُ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا أَحَدًا، فَالْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَأَيْضًا «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ» ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْإِهَالَةُ مِنْ الْوَدَكِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ الذَّبِيحَةِ وَمِنْ السَّمْنِ وَنَحْوِهِ، الَّذِي يَكُونُ فِي أَوْعِيَتِهِمْ الَّتِي يَطْبُخُونَ فِيهَا فِي الْعَادَةِ، وَلَوْ كَانَتْ ذَبَائِحُهُمْ مُحَرَّمَةً لَكَانَتْ أَوَانِيهِمْ كَأَوَانِي الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى رَخَّصَ أَنْ يُغْسَلَ. وَأَيْضًا فَقَدْ اسْتَفَاضَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنْ ذَبَائِحِ الْمَجُوسِ، وَوَقَعَ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ مِنْ النِّزَاعِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْجُبْنَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِنْفَحَةِ، وَفِي إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِطَهَارَتِهَا، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولَانِ بِنَجَاسَتِهَا، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ.

فَصْلٌ: الْمَأْخَذُ الثَّانِي: الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ كَوْنُ هَؤُلَاءِ

ص: 164

الْمَوْجُودِينَ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَهُوَ الْمَأْخَذُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ السَّائِلِ، وَهُوَ الْمَأْخَذُ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . هَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ هُوَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُتَدَيِّنٌ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ أَوْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ آبَاؤُهُ قَدْ دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، بَلْ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ صَرِيحًا.

وَالثَّانِي: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَأَصْلُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ عَلِيًّا، وَابْنَ عَبَّاسٍ تَنَازَعَا فِي ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تُبَاحُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا نِسَاؤُهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَرُوِيَ عَنْهُ. تَغُرُّوهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُومُوا بِالشُّرُوطِ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ، فَإِنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ تُبَاحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] .

وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يُحَرِّمُوا ذَبَائِحَهُمْ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ عَلِيٍّ وَحْدَهُ، وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَصَحَّحَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، بَلْ هِيَ آخِرُ قَوْلَيْهِ، بَلْ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.

ص: 165

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ: مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَرِهَهُ إلَّا عَلِيًّا، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ، وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ، كَالْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ: كَانَ آخِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِذَبَائِحِهِمْ بَأْسًا.

وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَأَحْمَدُ إنَّمَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي بَنِي تَغْلِبَ، وَهُمْ الَّذِينَ تَنَازَعَ فِيهِمْ الصَّحَابَةُ، فَأَمَّا سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ، مِثْلُ تَنُوخَ وَبَهْرَاءَ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْيَهُودِ فَلَا أَعْرِفُ عَنْ أَحْمَدَ فِي حِلِّ ذَبَائِحِهِمْ نِزَاعًا، وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً، وَلَكِنْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَنْ جَعَلَ فِيهِمْ رِوَايَتَيْنِ كَبَنِي تَغْلِبَ، وَالْحِلُّ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَمَا أَعْلَمُ لِقَوْلِ الْآخَرِ قُدْوَةً مِنْ السَّلَفِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ [قَالُوا] بِأَنَّهُ: مَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، بَلْ مَجُوسِيًّا لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ وَمُنَاكَحَةُ نِسَائِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ مَجُوسِيًّا، وَأَمَّا الْأُمُّ فَلَهُ فِيهَا قَوْلَانِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مَجُوسِيَّيْنِ حَرُمَتْ ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ هَذَا غَلَطٌ عَلَى مَالِكٍ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ.

وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخَرَّجَةِ عَنْ أَحْمَدَ فِي سَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا هَؤُلَاءِ، فَأَمَّا إذَا جَعَلَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي بَنِي تَغْلِبَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ، أَوْ قِيلَ إنَّ النِّزَاعَ عَامٌّ، وَفَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِحِلِّ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ وَنِسَائِهِمْ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، فَإِنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا عِبْرَةَ بِالنَّسَبِ، بَلْ لَوْ كَانَ الْأَبَوَانِ جَمِيعًا مَجُوسِيَّيْنِ أَوْ وَثَنِيَّيْنِ وَالْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِلَا رَيْبٍ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.

ص: 166

وَمَنْ ظَنَّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ مَنْ أَبَوَيْهِ مَجُوسِيَّانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَجُوسِيٌّ قَوْلٌ وَاحِدٌ فِي مَذْهَبِهِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً لَا رَيْبَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَنَاقَضُ فَيُجَوِّزُ أَنْ يُقَرَّ بِالْجِزْيَةِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَيَقُولُ مَعَ هَذَا بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ نَصْرَانِيِّ الْعَرَبِ مُطْلَقًا، وَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرَ كِتَابِيٍّ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ.

وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ آخِرُ كُتُبِهِ، فَذَكَرَ فِيمَنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، كَالرُّومِ، وَقَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ، وَهُمْ تَنُوخُ، وَبَهْرَاءُ، وَمِنْ بَنِي تَغْلِبَ هَلْ تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِنِكَاحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى مُخَرَّجَةٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي ذَبَائِحِهِمْ، وَاخْتَارَ أَنَّ الْمُنْتَقِلَ إلَى دِينِهِمْ حُكْمُهُ حُكْمُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ انْتِقَالُهُ بَعْدَ مَجِيءِ شَرِيعَتِنَا أَوْ قَبْلَهَا، وَسَوَاءٌ انْتَقَلَ إلَى دِينِ الْمُبَدِّلِينَ أَوْ دِينٍ لَمْ يُبَدَّلْ، وَيَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُ وَأَكْلُ ذَبِيحَتِهِ.

وَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ أَبَوَاهُ مُشْرِكَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالرُّومِ، فَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُشْرِكًا فَهُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّهُ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، قَالَ أَصْحَابُهُ: وَإِذَا أَقْرَرْنَاهُ بِالْجِزْيَةِ، حَلَّتْ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا. وَأَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْته مِنْ نِزَاعِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي بَنِي تَغْلِبَ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالْجُمْهُورُ أَحَلُّوهَا وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ.

ثُمَّ الَّذِينَ كَرِهُوا ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ تَنَازَعُوا فِي مَأْخَذِ عَلِيٍّ، فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا إنَّمَا حَرَّمَ ذَبَائِحَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ

ص: 167

النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِالنَّسَبِ لَا بِنَفْسِ الرَّجُلِ، وَأَنَّ مَنْ شَكَكْنَا فِي أَجْدَادِهِ، هَلْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ لَا، أَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فَحَقَنَّا دَمَهُ بِالْجِزْيَةِ احْتِيَاطًا، وَحَرَّمْنَا ذَبِيحَتَهُ وَنِسَاءَهُ احْتِيَاطًا، وَهَذَا مَأْخَذُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ.

وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَلِيٌّ لَمْ يَكْرَهْ ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ إلَّا لِكَوْنِهِمْ مَا تَدَيَّنُوا بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي وَاجِبَاتِهِ وَمَحْظُورَاتِهِ، بَلْ أَخَذُوا مِنْهُ حِلَّ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَطْ، وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَذَا الْمَأْخَذُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ هُمْ مَنْ كَانَ دَخَلَ جَدُّهُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَرَادَ ذَلِكَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، بَلْ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ هُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ، وَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَسَوَاءٌ كَانَ دُخُولُهُ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا.

وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ قَدِيمٌ، وَاحْتَجَّ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَنْ لَا يُقَرُّ الرَّجُلُ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَنْ هُوَ فِي زَمَانِنَا إذَا انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ خَطَأَ مَنْ يُنَاقِضُ مِنْهُمْ. وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، يَقُولُونَ: مَنْ دَخَلَ هُوَ، أَوْ أَبَوَاهُ، أَوْ جَدُّهُ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أُقِرَّ بِالْجِزْيَةِ، سَوَاءٌ دَخَلَ فِي زَمَانِنَا هَذَا، أَوْ قَبْلَهُ.

وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُونَ: مَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ إلَّا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَعَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:

ص: 168

أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ جَمَاعَةٌ تَهَوَّدُوا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَلِيلٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مِقْلَاتًا، وَالْمِقْلَاتُ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، كَثِيرَةُ الْقَلَتِ، وَالْقَلَتُ: الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ، كَمَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ مِذْكَارٌ مِئْنَاثٌ إذَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْوِلَادَةِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَالسُّمَّا الْكَثِيرَةُ الْمَوْتِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَنْذُرُ إنْ عَاشَ لَهَا وَلَدَانِ تَجْعَلُ أَحَدَهُمَا يَهُودِيًّا لِكَوْنِ الْيَهُودِ كَانُوا أَهْلَ عِلْمٍ وَكِتَابٍ، وَالْعَرَبُ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ وَأَوْثَانٍ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ تَهَوَّدُوا، فَطَلَبَ آبَاؤُهُمْ أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] الْآيَةَ.

فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ آبَاؤُهُمْ مَوْجُودِينَ تَهَوَّدُوا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا دُخُولٌ بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَهَذَا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَمَعَ هَذَا نَهَى اللَّهُ عز وجل عَنْ إكْرَاهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَهَوَّدُوا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِمَنْ دَخَلَ بِنَفْسِهِ فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ الْآخَرِ. وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ يُعْقَدُ لَهُ الذِّمَّةُ ثَبَتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ، وَأَنَّهُ تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ وَطَعَامُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمَانِعَ لِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ إلَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يَدْخُلُونَ، فَإِذَا ثَبَتَ بِنَصِّ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ دَخَلُوا فِي الْخِطَابِ بِلَا نِزَاعٍ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَحَوْلَهَا كَانُوا عَرَبًا وَدَخَلُوا فِي دِينِ الْيَهُودِ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُفَصِّلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَكْلِ طَعَامِهِمْ، وَحِلِّ نِسَائِهِمْ، وَإِقْرَارِهِمْ بِالذِّمَّةِ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ أَبَوَاهُ بَعْدَ مَبْعَثِ عِيسَى عليه السلام، وَمَنْ دَخَلَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا بَيْنَ الْمَشْكُوكِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ حَكَمَ فِي الْجَمِيعِ حُكْمًا وَاحِدًا عَامًّا.

فَعُلِمَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ طَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ، وَجَعْلَ طَائِفَةٍ لَا تُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ. وَطَائِفَةٍ تُقَرُّ وَلَا

ص: 169

تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَطَائِفَةٍ يُقَرُّونَ وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، تَفْرِيقٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتَةِ عَنْهُ.

وَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَفِيضِ، أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِمْ يَهُودٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَحِمْيَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعَرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ:«إنَّك تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ» ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَعَدْلَهُ مَعَافِرَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ أَبُوهُ قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ عَرَبٌ كَثِيرُونَ أَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ لَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَأَصْحَابِهِ بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ، بَلْ قَبِلُوا مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، وَأَبَاحُوا ذَبَائِحَهُمْ، وَنِسَاءَهُمْ، وَكَذَلِكَ نَصَارَى الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ، وَمَنْ تَدَبَّرَ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ عَلِمَ كُلَّ هَذَا بِالضَّرُورَةِ، وَعَلِمَ أَنَّ التَّفْرِيقَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ مُسْلِمًا أَوْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الدِّينِ هُوَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ لَا بِاعْتِقَادِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، لَا يَلْحَقُهُ هَذَا الِاسْمُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَافِ آبَائِهِ بِذَلِكَ، لَكِنَّ الصَّغِيرَ حُكْمُهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حُكْمُ أَبَوَيْهِ، لِكَوْنِهِ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا بَلَغَ وَتَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْكُفْرِ كَانَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ كَانَ أَبَوَاهُ يَهُودًا أَوْ نَصَارَى، فَأَسْلَمَ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَكَفَرَ كَانَ كَافِرًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَفَرَ بِرِدَّةٍ لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُرْتَدًّا لِأَجْلِ آبَائِهِ.

وَكُلُّ حُكْمٍ عُلِّقَ بِأَسْمَاءِ الدِّينِ مِنْ إسْلَامٍ وَإِيمَانٍ، وَكُفْرٍ وَنِفَاقٍ، وَرِدَّةٍ وَتَهَوُّدٍ، وَتَنَصُّرٍ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ، وَكَوْنُ الرَّجُلِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَمَنْ كَانَ بِنَفْسِهِ مُشْرِكًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ غَيْرَ مُشْرِكَيْنِ، وَمَنْ كَانَ أَبَوَاهُ مُشْرِكَيْنِ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ لَا حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا وَآبَاؤُهُ مُشْرِكِينَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. أَمَّا إذَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَوْنِهِ

ص: 170

مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَجْلِ كَوْنِ آبَائِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ قَوْله تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1]، وَقَوْلُهُ:{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [آل عمران: 20] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِهَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ وَإِخْبَارٌ عَنْهُمْ، الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ، الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ مِنْ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ مَا جَرَى، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، وَلَا هُمْ مِمَّنْ خُوطِبُوا بِشَرَائِعِ الْقُرْآنِ، وَلَا قِيلَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مَاتُوا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ كُفَّارٌ تَمَسَّكُوا بِكِتَابٍ مُبَدَّلٍ مَنْسُوخٍ، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ كَمَا يُخَلَّدُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ سَوَّغَ إقْرَارَهُمْ بِالْجِزْيَةِ، وَأَحَلَّ طَعَامَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ هُمْ كُفَّارٌ، وَإِنْ كَانَ أَجْدَادُهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ عَذَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَخَفَّ مِنْ عَذَابِ مَنْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلْ وُجُودُ النَّسَبِ الْفَاضِلِ هُوَ إلَى تَغْلِيظِ كُفْرِهِمْ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى تَخْفِيفِ كُفْرِهِمْ، فَمَنْ كَانَ أَبُوهُ مُسْلِمًا وَارْتَدَّ كَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظَ مِنْ كُفْرِ مَنْ أَسْلَمَ هُوَ ثُمَّ ارْتَدَّ.

وَلِهَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ إذَا ارْتَدَّ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا كَفَرَ بِهِمَا وَبِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاتَّبَعَ الْكِتَابَ الْمُبَدَّلَ الْمَنْسُوخَ كَانَ كُفْرُهُ مِنْ أَغْلَظِ الْكُفْرِ، وَلَمْ يَكُنْ كُفْرُهُ أَخَفَّ مِنْ كُفْرِ مَنْ دَخَلَ بِنَفْسِهِ فِي هَذَا الدِّينِ الْمُبَدَّلِ، وَلَا لَهُ بِمُجَرَّدِ نِسْبَةِ حُرْمَةٍ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ دِينُ آبَائِهِ إذَا كَانَ هُوَ مُخَالِفًا لَهُمْ،

ص: 171

فَإِنَّ آبَاءَهُ كَانُوا إذْ ذَاكَ مُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَمَنْ كَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ فَلَيْسَ مُسْلِمًا فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ.

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَوْلَادِ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا كَفَرُوا مَزِيَّةٌ عَلَى أَمْثَالِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مَاثَلُوهُمْ فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ الْمُبَدَّلِ الْمَنْسُوخِ، عُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِكْرَامُ هَؤُلَاءِ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ، وَحِلِّ ذَبَائِحِهِمْ، وَنِسَائِهِمْ دُونَ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُ فَرْقٌ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَرْقُ بِالْعَكْسِ كَانَ أَوْلَى، وَلِهَذَا يُوَبِّخُ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَا لَا يُوَبِّخُهُ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى أَجْدَادِهِمْ نِعَمًا عَظِيمَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَبَدَّلُوا كِتَابَهُ، وَغَيَّرُوا دِينَهُ، فَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ.

فَهُمْ مَعَ شَرَفِ آبَائِهِمْ وَحَقِّ دِينِ أَجْدَادِهِمْ مِنْ أَسْوَأِ الْكُفَّارِ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ أَشَدُّ غَضَبًا عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْ الِاسْتِكْبَارِ وَالْحَسَدِ وَالْمُعَانَدَةِ وَالْقَسْوَةِ وَكِتْمَانِ الْعِلْمِ، وَتَحْرِيفِ الْكِتَابِ، وَتَبْدِيلِ النَّصِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَيْسَ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ لِهَؤُلَاءِ الْأَرْجَاسِ الْأَنْجَاسِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبْغَضِ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ مَزِيَّةً عَلَى سَائِرِ إخْوَانِهِمْ الْكُفَّارِ، مَعَ أَنَّ كُفْرَهُمْ إمَّا مُمَاثِلٌ لِكُفْرِ إخْوَانِهِمْ الْكُفَّارِ، وَإِمَّا أَغْلَظُ مِنْهُ إذْ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ كُفْرَ الدَّاخِلِينَ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ هَؤُلَاءِ مَعَ تَمَاثُلِهِمَا فِي الدِّينِ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَوْجُودِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ النَّسَبِ؛ هُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، الَّذِينَ اتَّبَعَتْهُمْ عَلَيْهِ الرَّافِضَةُ وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا

ص: 172

بِالتَّقْوَى النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» ، وَلِهَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ يَمْدَحُ فِيهَا أَحَدًا بِنَسَبِهِ، وَلَا يَذُمُّ أَحَدًا بِنَسَبِهِ، وَإِنَّمَا يَمْدَحُ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى وَيَذُمُّ بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحِ، أَنَّهُ قَالَ:«أَرْبَعٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أُمَّتِي لَنْ يَدْعُوهُنَّ، الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ» .

فَجَعَلَ الْفَخْرَ بِالْأَحْسَابِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لَا فَخْرَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِكَوْنِ أَجْدَادِهِ لَهُمْ حَسَبٌ شَرِيفٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِكَافِرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَخْرٌ عَلَى كَافِرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكَوْنِ أَجْدَادِهِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ؟ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الدِّينِ فَضِيلَةٌ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِينَ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ النَّسَبِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِمَنْ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى آبَاؤُهُ مُؤْمِنِينَ مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، عَلَى مَنْ كَانَ أَبُوهُ دَاخِلًا فِيهِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَإِذَا تَمَاثَلَ دِينُهُمَا تَمَاثَلَ حُكْمُهُمَا فِي الدِّينِ.

وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا عَلَّقَتْ بِالنَّسَبِ أَحْكَامًا، مِثْلُ كَوْنِ الْخِلَافَةِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَوْنِ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُمْ الْخُمُسُ، وَتَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ الْفَاضِلَ مَظِنَّةُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُهُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا» . وَالْمَظِنَّةُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِمَا إذَا خَفِيَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْ انْتَشَرَتْ، فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ دِينُ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ وَعُرِفَ نَوْعُ دِينِهِ وَقَدْرُهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَسَبِهِ الْأَحْكَامُ الدِّينِيَّةُ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَبِي لَهَبٍ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ، لَمَّا عُرِفَ كُفْرُهُ كَانَ أَحَقَّ بِالذَّمِّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا جَعَلَ لِمَنْ يَأْتِي بِفَاحِشَةٍ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ، كَمَا جَعَلَ لِمَنْ يَقْنُتْ مِنْهُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَجْرَيْنِ مِنْ الثَّوَابِ.

ص: 173

فَذَوِي الْأَنْسَابِ الْفَاضِلَةِ إذَا أَسَاءُوا كَانَتْ إسَاءَتُهُمْ أَغْلَظَ مِنْ إسَاءَةِ غَيْرِهِمْ، وَعُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُفْرُ مَنْ كَفَرَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ غَيْرِهِمْ وَعُقُوبَتُهُمْ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ مَنْ كَفَرَ وَفَسَقَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ تُخَفَّفُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ إمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَكْرَمَهُ بِنِعْمَتِهِ وَرَفَعَ قَدْرَهُ إذَا قَابَلَ حُقُوقَهُ بِالْمَعَاصِي وَقَابَلَ نِعَمَهُ بِالْكُفْرِ، كَانَ أَحَقَّ بِالْعُقُوبَةِ مِمَّنْ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِ كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانُوا يَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ، لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ طَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ بِالْأَنْسَابِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً لِأَمْرٍ يَخْتَصُّ بِهِمْ، كَمَا أَنَّ عُمَرَ ضَعَّفَ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ، وَجَعَلَ جِزْيَتَهُمْ مُخَالِفَةً لِجِزْيَةِ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُلْحِقْ بِهِمْ سَائِرَ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا أَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِمْ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنْ يُقَالَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ لَا يَحِلَّ لَنَا طَعَامُ جُمْهُورٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ نَسَبَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَلَا نَعْلَمُ قَبْلَ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَجْدَادَهُ كَانُوا يَهُودًا أَوْ نَصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِلَّ ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمًا رَفْعَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنْ يُقَالَ مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ، فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا لِبَيَانِ رُجْحَانِ الْقَوْلِ بِالتَّحْلِيلِ، وَأَنَّهُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَأَمَّا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ نَحْوَهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، يَجُوزُ لِمَنْ تَمَسَّكَ فِيهَا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْآخَرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ، فَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ لِمَنْ رَجَّحَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ إلَّا بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، وَفِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا سَمَّوْا عَلَيْهَا غَيْرَ اللَّهِ، وَفِي شَحْمِ الثَّرْبِ، وَالْكُلْيَتَيْنِ، وَذَبْحِهِمْ لِذَوَاتِ الظُّفُرِ كَالْإِبِلِ وَالْبَطِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَتَنَازَعُوا فِي ذَبْحِ الْكِتَابِيِّ لِلضَّحَايَا

ص: 174