الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلِهَذَا «قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ بِئْرِ بُضَاعَةَ، لَمَّا ذُكِرَ لَهُ أَنَّهَا يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَالنَّتْنُ، فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَقَالَ فِي حَدِيثٍ الْقُلَّتَيْنِ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ «لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. فَقَوْلُهُ «لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» : بَيَّنَ أَنَّ تَنْجِيسَهُ بِأَنْ يَحْمِلَ الْخَبَثَ، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ الْخَبَثُ فِيهِ مَحْمُولًا، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مَعَ اسْتِحَالَةِ الْخَبَثِ لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ.
[فَصْلٌ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ يَجُوزُ التَّعَمُّدُ لِإِفْسَادِهَا]
فَصْلٌ وَإِذَا عُرِفَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا، كَالْخَمْرِ لَمَّا كَانَ الْمُوجِبُ لِتَحْرِيمِهَا وَنَجَاسَتِهَا هِيَ الشِّدَّةَ، فَإِذَا زَالَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ طَهُرَتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَالَتْ بِقَصْدِ الْآدَمِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَا تَأْكُلُوا خَلَّ خَمْرٍ، إلَّا خَمْرًا بَدَأَ اللَّهُ بِفَسَادِهَا، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ خَلًّا مِنْ خَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا فَسَادَهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اقْتِنَاءَ الْخَمْرِ مُحَرَّمٌ، فَمَنْ قَصَدَ بِاقْتِنَائِهَا التَّخْلِيلَ كَانَ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَالْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا إذَا اقْتَنَاهَا لِشُرْبِهَا، وَاسْتِعْمَالِهَا خَمْرًا فَهُوَ لَا يُرِيدُ تَخْلِيلَهَا، وَإِذَا جَعَلَهَا اللَّهُ خَلًّا كَانَ مُعَاقَبَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، فَلَا يَكُونُ فِي حِلِّهَا وَطَهَارَتِهَا مَفْسَدَةٌ.
وَأَمَّا سَائِرُ النَّجَاسَاتِ: فَيَجُوزُ التَّعَمُّدُ لِإِفْسَادِهَا، لِأَنَّ إفْسَادَهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، كَمَا لَا يُحَدُّ شَارِبُهَا؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا يُخَافُ عَلَيْهَا بِمُقَارَبَتِهَا الْمَحْظُورَ كَمَا يُخَافُ مِنْ مُقَارَبَةِ الْخَمْرِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ الْجُمْهُورُ أَنْ تُدْبَغَ جُلُودُ الْمَيْتَةِ، وَجَوَّزُوا أَيْضًا إحَالَةَ النَّجَاسَةِ بِالنَّارِ وَغَيْرِهَا.
وَالْمَاءُ لِنَجَاسَتِهِ سَبَبَانِ. أَحَدُهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْآخَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: التَّغَيُّرُ بِالنَّجَاسَةِ، فَمَتَى كَانَ الْمُوجِبُ لِنَجَاسَتِهِ التَّغَيُّرَ، فَزَالَ التَّغَيُّرُ، كَانَ طَاهِرًا: كَالثَّوْبِ الْمُضَمَّخِ بِالدَّمِ، إذَا غُسِلَ عَادَ طَاهِرًا.
وَالثَّانِي: الْقِلَّةُ: فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا، وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَفِي نَجَاسَتِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: أَنَّهُ يَنْجُسُ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ يَسْتَثْنِي الْبَوْلَ، وَالْعَذِرَةَ الْمَائِعَةَ، فَيَجْعَلُ مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ نَجَسًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: يَنْجُسُ مَا وَصَلَتْ إلَيْهِ الْحَرَكَةُ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ.
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ نَصَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، كَمَا نَصَرَ الْأُولَى طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، لَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ قَالُوا: إنَّ قَلِيلَ الْمَاءِ يَنْجُسُ بِقَلِيلِ النَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَحُدُّوا ذَلِكَ بِقُلَّتَيْنِ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَمَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ: كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: فِي الْمَائِعَاتِ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ. فَهَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا مِنْ الْمَائِعَاتِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، لَكِنْ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ اعْتِبَارُ الْقُلَّتَيْنِ فِي الْمَاءِ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ إذَا سُوِّيَتْ بِهِ فَنَقُولُ: إذَا وَقَعَ فِي الْمَائِعِ الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ، فَصُبَّ عَلَيْهِ مَائِعٌ كَثِيرٌ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ طَاهِرًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا، وَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ قَلِيلٌ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَصَارَ الْجَمِيعُ كَثِيرًا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ، فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَاءِ أَنَّ الْجَمِيعَ طَاهِرٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَاهِرًا حَتَّى يَكُونَ الْمُضَافُ كَثِيرًا.
وَالْمُكَاثَرَةُ الْمُعْتَبَرَةُ: أَنْ يُصَبَّ الطَّاهِرُ عَلَى النَّجَسِ، وَلَوْ صُبَّ النَّجَسُ عَلَى الطَّاهِرِ الْكَثِيرِ، كَانَ كَمَا لَوْ صُبَّ الْمَاءُ النَّجَسُ عَلَى مَاءِ كَثِيرٍ طَاهِرٍ أَيْضًا، وَذَلِكَ مُطَهِّرٌ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا، وَإِنْ صُبَّ الْقَلِيلُ الَّذِي لَاقَتْهُ النَّجَاسَةُ عَلَى قَلِيلٍ لَمْ تُلَاقِهِ النَّجَاسَةُ، وَكَانَ الْجَمِيعُ كَثِيرًا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ كَانَ كَالْمَاءِ الْقَلِيلِ إذَا ضُمَّ إلَى الْقَلِيلِ، وَفِي ذَلِكَ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ، أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ الْمَاءِ هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ لَوْ نَجِسَ الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ لَمْ يَلْزَمْ تَنْجِيسُ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ، وَلِهَذَا أَمَرَ مَالِكٌ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَاسْتَعْظَمَ إرَاقَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُمَنُّ لَهُ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ أَشْرِبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَطْعِمَتِهِمْ، فَإِنَّ فِي نَجَاسَتِهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ وَالضِّيقِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُونَ رَفْعَ الْحَرَجِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِذَا لَمْ يُنَجِّسُوا الْمَاءَ الْكَثِيرَ رَفْعًا لِلْحَرَجِ فَكَيْفَ يُنَجِّسُونَ نَظِيرَهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَالْحَرَجُ فِي هَذَا أَشَقُّ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمَائِعَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا تَكَادُ تَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَاءُ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ غَيْرِهِ، فَعَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ بِخِلَافِ الْمَائِعَاتِ. قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: إنَّ الْمَاءَ إنَّمَا دَفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَتَنْتَقِلُ مَعَهُ، فَلَا يَبْقَى عَلَى الْمَحَلِّ نَجَاسَةٌ وَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ، فَإِنَّمَا كَانَ طَاهِرًا لِاسْتِحَالَتِهَا فِيهِ لَا لِكَوْنِهِ أَزَالَهَا عَنْ نَفْسِهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ فِي الْإِزَالَةِ، وَهِيَ كَالْمَاءِ فِي التَّنْجِيسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ الْمَاءِ يُزِيلُهَا إذَا زَالَتْ مَعَهُ أَنْ يُزِيلَهَا إذَا كَانَتْ فِيهِ، وَنَظِيرُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ: الْغُسَالَةُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْ الْمَحَلِّ، وَتِلْكَ نَجِسَةٌ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ، وَفِيهَا بَعْدَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: هَلْ هِيَ طَاهِرَةٌ، أَوْ مُطَهَّرَةٌ، أَوْ نَجِسَةٌ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: الْمَاءُ يَنْجُسُ بِوُقُوعِهَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يُزِيلُهَا عَنْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا كَانَتْ النُّصُوصُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ الْوُقُوعِ مَعَ الْكَثْرَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»
وَقَوْلُهُ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» .
فَإِنَّهُ إذَا كَانَ طَهُورًا يَطْهُرُ بِهِ غَيْرُهُ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، إذْ لَوْ نَجِسَ بِهَا لَكَانَ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاتِهَا، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، لَكِنْ إنْ بَقِيَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ حَرُمَتْ، وَإِنْ اسْتَحَالَتْ زَالَتْ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْتِحَالَةَ النَّجَاسَةِ مَعَ مُلَاقَاتِهَا فِيهِ لَا تُنَجِّسُهُ، إنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ زَالَتْ كَمَا زَالَتْ عَنْ الْمَحَلِّ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يُزِيلُهَا عَنْ غَيْرِهِ فَقَدْ خَالَفَ الْمُشَاهَدَةَ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: غَايَةُ هَذَا أَنْ يَقْتَضِيَ أَنَّهُ يُمْكِنُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعِ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ. وَأَحْمَدُ جَعَلَهُ لَازِمًا فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَائِعَ لَا يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَقَالَ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ تُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ دَفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَاءِ، فَيَلْزَمُ جَوَازُ إزَالَتِهِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ لِلْعَيْنِ، قَلَّاعٍ لِلْأَثَرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، فَنَقُولُ بِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ دَفْعُهَا عَنْ غَيْرِهِ، لِكَوْنِ الْإِحَالَةِ أَقْوَى مِنْ الْإِزَالَةِ، فَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ إنَّهُ يَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ أَنْ تَكُونَ الْمَائِعَاتُ كَالْمَاءِ، فَإِذَا كَانَ الصَّحِيحُ فِي الْمَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مَعَ الْكَثْرَةِ، فَكَذَلِكَ الصَّوَابُ فِي الْمَائِعَاتِ، وَفِي الْجُمْلَةِ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَاءِ، وَالْمَائِعَاتِ مُمْكِنٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَهَذَا مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَاتِ، وَفِي مَسْأَلَةِ مُلَاقَاتِهَا لِلْمَائِعَاتِ الْمَاءِ وَغَيْرِ الْمَاءِ.
وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا، وَالْمَعَانِيَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْوَبُ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ بِدُونِ التَّغَيُّرِ بَعِيدٌ عَنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَكَوْنُ حُكْمِ النَّجَاسَةِ تَبْقَى فِي
مَوَارِدِهَا بَعْدَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِمَائِعٍ، أَوْ غَيْرِ مَائِعٍ بَعِيدٌ عَنْ الْأُصُولِ وَمُوجَبِ الْقِيَاسِ، وَمَنْ كَانَ فَقِيهًا خَبِيرًا بِمَأْخَذِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَزَالَ عَنْهُ الْهَوَى، تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ فِي اسْتِعْمَالِهَا فَسَادٌ، فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، كَمَا يُنْهَى عَنْ ذَبْحِ الْخَيْلِ الَّتِي يُجَاهَدُ عَلَيْهَا، وَالْإِبِلِ الَّتِي يُحَجُّ عَلَيْهَا، وَالْبَقَرِ الَّتِي يُحْرَثُ عَلَيْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، لَا لِأَجْلِ الْخَبَثِ.
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَنَفِدَتْ أَزْوَادُهُمْ، فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي نَحْرِ الظَّهْرِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، ثُمَّ أَتَى عُمَرُ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ الْأَزْوَادَ، فَيَدْعُو اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ فِيهَا وَيُبْقِي الظَّهْرَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ» . فَنَهْيُهُ لَهُمْ عَنْ نَحْرِ الظَّهْرِ كَانَ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ لِلرُّكُوبِ، لَا؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ مُحَرَّمَةٌ. فَهَكَذَا يُنْهَى فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِهَا، كَمَا يُنْهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِمَا لَهُ حُرْمَةٌ مِنْ طَعَامِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَعَلَفِ دَوَابِّ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهَا، بَلْ لِحُرْمَتِهَا، فَالْقَوْلُ فِي الْمَائِعَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الْجَامِدَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ إحَالَةُ الْمَائِعَاتِ لِلنَّجَاسَةِ إلَى طَبْعِهَا أَقْوَى مِنْ إحَالَةِ الْمَاءِ، وَتَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَاتِ أَسْرَعُ مِنْ تَغَيُّرِ الْمَائِعَاتِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ لِاسْتِحَالَتِهَا إلَى طَبِيعَتِهِ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى وَأَحْرَى.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْمَاءِ وَالْمَائِعِ طَعْمٌ، وَلَا لَوْنٌ، وَلَا رِيحٌ، لَا نُسَلِّمُ أَنْ يُقَالَ بِنَجَاسَتِهِ أَصْلًا، كَمَا فِي الْخَمْرِ الْمُسْلَبَةِ أَوْ أَبْلَغَ، وَطُرِدَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الِاسْتِحَالَةِ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِيلَاتِ مِنْ النَّجَاسَةِ طَاهِرَةٌ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ دَفْعَ الْعَيْنِ لِلنَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهَا كَدَفْعِ الْمَاءِ، لَا يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ، بَلْ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي التُّرَابِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي النَّجَاسَةِ إذَا
أَصَابَتْ الْأَرْضَ، وَذَهَبَتْ بِالشَّمْسِ، أَوْ الرِّيحِ، أَوْ الِاسْتِحَالَةِ هَلْ تَطْهُرُ الْأَرْضُ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَطْهُرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الدَّلِيلِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ «عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ» ، وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ:«إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيَدْلُكْهُمَا فِي التُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ» .
وَكَانَ الصَّحَابَةُ: كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَغَيْرِهِ، يَخُوضُونَ فِي الْوَحْلِ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ، وَلَا يَغْسِلُونَ أَقْدَامَهُمْ، وَأَوْكَدُ مِنْ هَذَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي ذُيُولِ النِّسَاءِ إذَا أَصَابَتْ أَرْضًا طَاهِرَةً بَعْدَ أَرْضٍ خَبِيثَةٍ: تِلْكَ بِتِلْكَ» وَقَوْلُهُ: «يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ» . وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيِّ الَّتِي شَرَحَهَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَسَائِلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الذُّيُولَ يَتَكَرَّرُ مُلَاقَاتُهَا لِلنَّجَاسَةِ، فَصَارَتْ كَأَسْفَلِ الْخُفِّ وَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ. فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ جَعَلَ الْجَامِدَاتِ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ عَنْ غَيْرِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، كَمَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ، وَجَعَلَ الْجَامِدَ طَهُورًا؛ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ.
وَإِذَا كَانَتْ الْجَامِدَاتُ لَا تَنْجُسُ بِمَا اسْتَحَالَ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ لِأَنَّ إحَالَتَهَا أَشَدُّ وَأَسْرَعُ.