الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة المحقق حول عقيدة الشوكاني من خلال كتبه
(1).
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن مذهب الإمام الشوكاني في الاعتقاد هو مذهب أهل السنة والجماعة إلا في مسائل معدودة كما سنوضحه في هذه المقدمة السريعة.
وقد نهج الشوكاني منهج السلف الصالح في فهم الكتاب والسنة، وصرح بأنه:
(1) معظم هذه المقدمة مستفادة من كتاب " منهج الإمام الشوكاني في العقيدة " تأليف: د. عبد الله نومسوك.
"لا ينبغي لعالم أن يدين بغير ما دان به السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، من الوقوف على ما تقتضيه أدلة الكتاب والسنة، وإبراز الصفات كما جاءت، ورد علم المتشابه (1) إلى الله سبحانه، وعدم الاعتداد بشيء من تلك القواعد المدونة في هذا العلم - أي علم الكلام- المبنية على شفا جرف هار من أدلة العقل بما يطابق الهوى، لا سيما إذا كانت مخالفة لأدلة الشرع الثابتة في القرآن والسنة، فإنها حينئذ حديث خرافة (2) ولعبة لاعب، فلا سبيل للعباد يتوصلون به إلى معرفة ما يتعلق بالرب سبحانه، وبالوعد والوعيد، والجنة والنار، والمبدأ والمعاد، إلا ما جاءت به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وليس للعقول وصول إلى تلك الأمور. . . "(3).
كما أن الإمام الشوكاني سلك في الاستدلال على وجود الله مسلك القرآن الكريم، وهو إثبات وجود الله عن طريق بيان عظمته وتدبيره المحكم، وقدرته على كل ما في العالم، وعنايته التامة بكل صغيرة وكبيرة.
وقد اشتمل القرآن الكريم على الحجج والبراهين القاطعة التي تقمع شبهة كل ملحد أو منحرف، في كل زمان ومكان. قال تعالى:{ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام:38] أي ما تركنا في القرآن من أمر الدين، إما تفصيلا أو إجمالاً (4).
ويمكن حصر الطرق التي سلكها الشوكاني في الاستدلال على وجود الله في طريقين:
(الطريق الأول): الفطرة والميثاق المعقود بينها وبين بارئها:
(1) علم المتشابه في القرآن هو العلم الذي يوكل بفهمه لعلم الله تعالى، ولا يجب الخوض فيه، وبخلافه المحكم فهو مفهوم لسائر الأمة.
(2)
من الأمثال النبوية، وخرافة رجل من خزاعة، كان قد غاب عن قبيلته ثم عاد، وزعم أن الجن اختطفته، وكان يحدث بأحاديث كذبا حتى ضرب به المثل: فقيل: أكذب من خرافة.
(3)
" أدب الطلب ومنتهى الأرب " للشوكاني ص 128 - 129 بتحقيقي.
(4)
فتح القدير. للشوكاني (2/ 114).
قال الشوكاني في " فتح القدير "(1)" كل فرد من أفراد الناس مفطور، أي مخلوق على ملة الإسلام، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان، وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وقول جماعة من المفسرين، وهو الحق، والقول بأن المراد بالفطرة هنا الإسلام هو مذهب جمهور السلف" ا هـ.
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]
استدل الشوكاني بهذه الآية الكريمة على أن التوحيد أمر فطري في الإنسان، ورجح القول بحمل الناس في الآية على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم، وأنهم جميعا مفطورون على ذلك، لولا عوارض تعرض لهم، فيبقون بسببها على الكفر، ثم قال رحمه الله:" وهذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه {ذلك الدين القيم}: أي ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو لزوم الفطرة، هو الدين القيم "(2).
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]. قال الشوكاني: " أي الإسلام (3). فالإسلام هو صبغة الله في كل مخلوق مدرك. وروي عن مجاهد في قوله تعالى: صبغة الله. قال: فطرة الله التي فطر الله الناس عليها (4).
ومما يدل على أن النفس تدرك وجود الله بفطرتها، وترجع إليه في الشدائد والمحن تستمد منه العون، وتطلب منه النجاة.
(1)(4/ 224).
(2)
فتح القدير. للشوكاني (4/ 224)
(3)
فتح القدير. للشوكاني (1/ 148)
(4)
فتح القدير. للشوكاني (1/ 149)
فسر الشوكاني هذه الآية وقال: " وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده، بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك، لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه، وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد "(1).
ويربط الشوكاني في تناسق بين هذه المعرفة الفطرية، وبين الميثاق الذي أخذه الله على الإنسان، وهو في عالم الذر قبل أن يخلق كما أشار سبحانه في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173].
يقول الشوكاني في تفسير الآية: " إن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره، فاستخرج منه ذريته، وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذر، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا المصير إلى غيره، لثبوته مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وموقوفا على غيره من الصحابة "(2).
وأيد تفسيره هذا بأحاديث كثيرة:
(منها): حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر
(1) فتح القدير. للشوكاني (2/ 435)
(2)
فتح القدير. للشوكاني (2/ 263)
آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم فتلا قال {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}: إلى آخر الآية (1).
وهناك ميثاق آخر يرتبط بالميثاق الأول: وهو ما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، تجديدا للميثاق الأول، وتذكيرا له، كما قال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].
قال الشوكاني في " فتح القدير "(2)" وسميت المعذرة حجة، مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة، تنبيها على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلا منه ورحمة ".
فلا منافاة بين هذا الميثاق والميثاق الأول، لأن كليهما ثابت في الكتاب والسنة.
قال الحافظ الحكمي في " معارج القبول "(3) " فمن أدرك هذا الميثاق وهو باق على فطرته التي هي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول فإنه يقبل ذلك من أول مرة، ولا يتوقف، لأنه جاء موافقا لما في فطرته، وما جبله الله عليه، فيزداد بذلك يقينه، ويقوى إيمانه فلا يتلعثم ولا يتردد.
ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله عليه من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول، بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه، وهوده أبواه، أو نصراه، أو مجساه، فهذا إن تداركه الله تعالى برحمته فرجع إلى فطرته، وصدق بما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب نفعه الميثاق الأول والثاني، وإن كذب هذا الميثاق كان مكذبا بالأول، فلم ينفعه
(1) وهو حديث صحيح لشواهده. أخرجه أحمد (1/ 272) والنسائي في تفسيره رقم (211) وابن أبي عاصم في السنة رقم (202) والحاكم قي المستدرك (1/ 27) و (2/ 544) وصححه وأقره الذهبي. وانظر " الصحيحة " رقم (1623) وتحقيقي لمعارج القبول (1/ 104).
(2)
(1/ 538)
(3)
(1/ 114) بتحقيقي.
إقراره به يوم أخذه الله عليه حيث قال: {بلى} جوابا لقوله تعالى: {ألست بربكم} وقامت عليه حجة الله، وغلبت عليه الشقوة، وحق عليه العذاب:{ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18] ا هـ.
(الطريق الثاني): النظر والاستدلال بالآيات:
إن القرآن الكريم مملوء بذكر الآيات التي تدعو الإنسان بأن يوجه نظره إلى خلق هذا الكون من سمائه وأرضه، وما فيهما من عجائب مخلوقات الله، وتدعوه إلى التفكر في أسراره ليدعم إيمانه بالخالق سبحانه، ويطرد الشك من نفسه.
يقول الله تعالى: {قُلِ انْظُروا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
قال الشوكاني في " فتح القدير "" والمراد بالنظر: التفكر والاعتبار، أي تفكروا واعتبروا بما في السماوات والأرض من المصنوعات الدالة على الصانع، ووحدته، وكمال قدرته، فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتفكرين، سواء كانت من جلائل مصنوعاته، كملكوت السماوات والأرض، أو من دقائقها من سائر مخلوقاته "(1).
وهذه الآيات القرآنية تتعلق إما بالكون وما فيه من مخلوقات، أو ما يسمى: بدلائل الآفاق، وإما بالإنسان نفسه، أو ما يسمى بدلائل النفس.
وقد جمعها الله تعالى في كتابه العزيز في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21] وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
…
(1)(2/ 271، 276)
أما منهج الإمام الشوكاني في الإيمان بالقدر، فلا بد من استعراض آرائه في مسائل القدر، ليتبين لنا منهجه الذي سلكه:
1 -
أفعال الله تعالى وأفعال العباد:
يذهب الإمام الشوكاني كأهل السنة والجماعة إلى أن الله سبحانه وتعالى فاعل مختار، يتصرف في ملكه كيف يشاء بمقتضى مشيئته وحكمته، (لأنه خالق الخلق وموجده من العدم، فهو حقه وملكه، يتصرف به كيف يشاء، كما يتصرف العباد في أملاكهم من غير حرج عليهم، فإن مالك العبد أو الأمة إذا أراد أن يتصرف بهما ويخرجهما عن ملكه لم تنكر العقول ذلك، ولا تأباه العادات الجارية بين العباد، فكيف تصرف الرب بمخلوقاته، فإنه المالك للعبد وسيده، ولما في الأرضين والسماوات من العالم الذي خلقه، وشق سمعه وبصره، ورزقه، ومن عليه بالنعم إلى لا يقدر على شيء منها إلا هو، تعالت قدرته وتقدس اسمه)) (1).
قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68].
وقال تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
قال الشوكاني: ((أي أنه سبحانه لقوة سلطانه، وعظيم جلاله، لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره (وهم) أي: العباد (يُسألون) عما يفعلون، أي يسألهم الله عن ذلك لأنهم عبيده)) (2).
أما ما يتعلق بأفعال العباد، فقد ذهب الشوكاني مقررا لمذهب السلف إلى أن جميع أفعال العباد، خيرها وشرها، مخلوقة خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها، ((لأن الله خالق كل شيء من الأشياء الموجودة في الدنيا والآخرة، كائنا ما كان من غير فرق بين
(1) قطر الولي على حديث الولي. للشوكاني. (ص 413 - 414)
(2)
فتح القدير. للشوكاني (3/ 402)
شيء وشيء)) (1).
ومما يستدل به الشوكاني على هذا قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات:96]
قال الشوكاني في فتح القدير (2) عند تفسيره لهذه الآية: و" ما " في {وما تعملون} موصولة أي: وخلق الذي تصنعونه على العموم، ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولا أوليا، ويجوز أن تكون مصدرية، أي خلقكم وخلق عملكم
…
وجعلها موصولة أولى بالمقام، وأوفق بسياق الكلام)).
وقد قرر الإمام الشوكاني أن أفعال العباد التي صاروا بها مطيعين وعصاة هي مخلوقة لله تعالى (3)؛ وأن الله هو المنفرد بالخلق، وأن سائر الشركاء لا يخلقون شيئا {قل الله خالق كل شيء} [الرعد:16] كائنا ما كان، ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه (4).
2 -
الهدي والإضلال:
لقد قرر الشوكاني: ((أن الله- سبحانه وتعالى يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وأن الأمر بيده ما شاء يفعل، من شاء تعالى أن يضله أضله، ومن شاء أن يهديه جعله على صراط مستقيم لا يذهب به إلى غير الحق، ولا يمشي فيه إلا إلى صوب الاستقامة)) (5).
قال تعالى: {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}
(1) فتح القدير للشوكاني (4/ 474).
(2)
(4/ 402)
(3)
انظر" العذب النمير في جواب عالم بلاد عسير " المسألة الثانية في خلق أفعال العباد. وكذلك " أسئلة وأجوبة عن قضايا الشرك والتوحيد وغيرها " وهما ضمن هذا القسم- العقيدة-.
(4)
فتح القدير (3/ 74)
(5)
فتح القدير (2/ 114)
[الأنعام: 39].
كما أخبر- سبحانه- أنه لو شاء ما أشرك الناس، وأنه لو شاء لهداهم أجمعين.
قال تعالى: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام:107]
وقال تعالى: {ولو شاء لهداكم أجمعين} [النحل:9]
قال الشوكاني- رحمه الله في " فتح القدير"(1)((أي ولو شاء أن يهديكم جميعا إلى الطريق الصحيح، والمنهج الحق لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، بل اقتضت مشيئته - سبحانه - إراءة الطريق والدلالة عليها، {وهديناه النجدين} وأما الإيصال إليها بالفعل فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أن يكون البعض مؤمنا، والبعض كافرا، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع)).
كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} [الإنسان: 3].
كما قرر الشوكاني- رحمه الله أن الله تعالى قد وهب لعباده حرية الاختيار في أن يفعلوا وأن لا يفعلوا، لأنه ((خلقهم، وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم، وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية)) (2).
وبين أن ((هداية الله - سبحانه - لعباده إلى الحق هي بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات، وإرساله للرسل، وإنزاله للكتب، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام والأسماع والأبصار)) (3)
(1)(3/ 149 - 150)
(2)
فتح القدير (2/ 448)
(3)
فتح القدبر (2/ 444)
قال تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9 - 10]
((أي قد فاز من زكَّى نفسه وأنماها وأعلاها بالتقوى بكل مطلوب، وظفر بكل محبوب، وخسر من أضلها وأغواها، ومعنى (دساها) في الآية: أي أخفاها وأخملها، ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح)) (1)
((فعدم اهتداء الناس لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم، من السمع، والعقل، والبصر، والبصيرة، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق، والمجادلة بالباطل، والإصرار على الكفر)) (2).
كما بينه الله تعالى بقوله: {بل طبع الله عليها بكفرهم} [النساء: 155] وقوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفاسقين} [الصف:5]((أي لما أصروا على الزيغ، واستمروا عليه، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وصرفها عن قبول الحق)) (3)
وعلى هذا فإن إسناد الهداية والإضلال إلى الله تعالى إسناد من حيث إنه خلق أفعال العباد، ووضع نظام الأسباب والمسببات، لا أنه جبر الإنسان على الضلالة أو الهداية.
3 -
مبدأ السببية في القدر:
لقد أثبت الشوكاني- رحمه الله مبدأ السببية في الإيمان بالقدر، وأنكر إنكارا شديدا على المنكرين لها، ففي كتابه " قطر الولي على حديث الولي " تحدث عن هذا الموضوع بشيء من التفصيل، فبين أن الله- عز وجل لما قدر مقادير العباد، قدرها مع موجباتها وأسبابها، فقدر للخير موجباته وأسبابه، وقدر للشر كذلك، ومن أسباب
(1) فتح القدير: (5/ 449)
(2)
قتح القدير: (2/ 448)
(3)
فتح القدير (5/ 220)
الخير الدعاء والعمل الصالح، قال:((فكيف ينكر وصول العبد إلى الخير بدعائه أو بعمله الصالح، فإن هذا من الأسباب التي ربط الله مسبباتها بها، وعلمها قبل أن تكون، فعلمه على كل تقدير أزلي في المسببات والأسباب، ولا يشك من له اطلاع على كتاب الله عز وجل ما اشتمل عليه من ترتيب حصول المسببات على حصول أسبابها، وذلك كثير جدا)).
ومن ذلك قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31]{لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7]، {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة:282].
وكم يعد العاد من هذا الجنس في الكتاب العزيز، وما ورد في معناه من السنة المطهرة، فهل ينكر هؤلاء الغلاة (1) مثل هذا، ويجعلونه مخالفا لسبق العلم مباينا لأزليته؟ فإن قالوا: نعم، فقد أنكروا ما في كتاب الله- سبحانه- من فاتحته إلى خاتمته، وما في السنة المطهرة من أولها إلى آخرها. بل أنكروا أحكام الدنيا والآخرة جميعها، لأنها كلها مسببات مترتبة على أسبابها، وجزاءات معلقة بشروطها)) (2).
كما جمع الشوكاني- رحمه الله بين الأحاديث الواردة بسبق القضاء، وأنه قد فرغ من تقدير الأجل والرزق، والسعادة، والشقاوة، وبين الأحاديث في طلب الدعاء من العبد، وأن الله يجيب دعاءه، ويعطيه ما سأل مثله، وأنه يغضب إذا لم يسأل، وأن الدعاء يرد القضاء، ونحو ذلك كصلة الرحم، وأعمال الخير.
فحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبب العبد بأسباب الخير أو الشر،
(1) يقصد الشوكاني بالغلاة: أهل الكلام الذين أبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسنة من الإرشاد إلى الدعاء ونحوه؛ وجعلوه مخالفا لسبق العلم.
انظر "قطر الولي على حد حديث الولي" للشوكاني (ص 496)؛ و" تنبيه الفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصه من الدلائل " للشوكاني. وهو ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني" هذا.
(2)
انظر " قطر الولي "(ص 510 - 511). وتنبيه الأفاضل.
وحمل الأحاديث الأخرى على وقوع التسبب من العبد بأسباب الخير، أو التسبب بأسباب الضر، وقال: ((إن هذا الجمع لا بد منه، لأن الذي جاءنا بالأدلة الدالة على أحد الجانبين هو الذي جاءنا بالأدلة الدالة على الجانب الآخر، وليس في ذلك خلف لما وقع في الأزل، ولا مخالفة لما تقدم العلم به، بل هو من تقييد المسببات بأسبابها
…
)) (1).
وفصل الشوكاني- رحمه الله تفصيلا دقيقا عن الدعاء، وفائدته، وكونه سببا لرد القضاء، وأطال الكلام في رده على المخالفين له، الذين أبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسنة، من الإرشاد إلى الدعاء، وأنه يرد القضاء، وما ورد من الاستعاذة منه صلى الله عليه وسلم من سوء القضاء، وما ورد من أنه يصاب العبد بذنبه، وبما كسبت يده، ونحو ذلك مما جاءت به الأدلة الصحيحة، وجعلوه مخالفا لسبق العلم، ورتبوا عليه أنه يلزم انقلاب العلم جهلاً (2).
4 -
الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى:
ذهب الشوكاني- رحمه الله في هذه المسألة مذهب جمهور أهل السنة، وهو إثبات الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، أي أن أفعال الله تعالى وأوامره معللة بعلل غائية، وحكم بالغة يحبها ويرضاها، ويفعل لأجلها، وأنه مما ينافي كماله وجلاله وحكمته ورحمته أن تكون أفعاله وأحكامه صادرة منه لا لحكمة، ولا لغاية مطلوبة.
وقد دل على ذلك القرآن الكريم في مواطن عدة.
كقوله تعالى وهو يثني على عباده المؤمنين: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} [آل عمران: 191]
(1) انظر "قطر الولي" ص 509 - 510، وتنبيه الأفاضل
(2)
انظر "قطر الولي" ص511 - 512. وتنبيه الأفاضل. وقد أفرد الشوكاني رحمه الله رسالة بعنوان " بحث في أن إجابة الدعاء لا ينافي سبق القضاء" وهي ضمن هذا القسم الأول- العقيدة- برقم (5).
قال الشوكاني في "فتح القدير"(1)((أي يقولون: ما خلقت هذا عبثا ولهوا بل خلقته دليلا على حكمتك وقدرتك؛ سبحانك: أي تنزيها لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلاً)).
(1)(1/ 411)
أما عناية الإمام الشوكاني- رحمه الله بتوحيد الألوهية فقد اعتنى به عناية بالغة، وأولاه اهتماما كبيرا، ويكفي ما يدل على اهتمامه وعنايته به أنه ألف عدة رسائل (1) يبين فيها معنى هذا التوحيد، وما يناقضه من الشركيات، أسبابها وفتنها، وخاصة شركيات القبوريين
…
كما أشار الشوكاني- رحمه الله في مواضع متعددة من مؤلفاته إلى أن هذا التوحيد حقيقة دين الإسلام وأساسه:
1 -
أنه الغاية العظمى، والمقصد الأسمى الذي من أجله خلق الله الخلق وأوجدهم في هذه الأرض. كما قال تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].
قال الشوكاني في " فتح القدير"(2)((عبادة الله: إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه)). ((ومعنى العبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد، وكل مخلوق من الإنس والجن خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته، منقاد لما قدره عليه، خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعا وضرا. ووجه تقديم الجن على الإنس هاهنا تقدم وجودهم)) (3).
2 -
أنه الغاية العظمى، والمقصد الأساسي الذي من أجله أرسلت الرسل، وبه أنزلت الكتب. يقول الشوكاني- رحمه الله ((
…
ولم يبعث الله رسله، ولا أنزل عليهم كتبه إلا لإخلاص توحيده وإفراده بالعبادة، واستدل بآيات كثيرة:(منها): {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59، المؤمنون: 23، الأعراف: 65، هود: 50، الأعراف: 73، هود: 61،
(1) أهمها: " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4) و" شرح الصدور في تحريم رفع القبور" وهو ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " و" العذب النمير " في السؤال الأول. وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2).
(2)
(1/ 107)
(3)
فتح القدير. للشوكانى (5/ 92).
الأعراف: 85، هود: 84] {أن اعبدوا الله واتقوه} [نوح:3]، {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} [طه: 14].
وبالجملة: فرسل الله- صلوات الله عليهم-، وكذلك جميع كتبه المنزلة متفقة على هذه الدعوة، وقد تكفل القرآن الكريم بحكاية جميع ذلك لمن تتبعه)) (1).
3 -
أنه معنى شهادة: أن لا إله إلا الله.
قال الشوكاني- رحمه الله في " فتح القدير"(2) في تفسير قوله تعالى: {لا إله إلا هو} [البقرة:255](أي: لا معبود بحق إلا هو). وفي قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو} [آل عمران:2] قال: ((أي هو المستحق للعبودية)) (3) وقال أيضا عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم في دعاء استفتاحه: (لا إله إلا أنت)) (4) أي ليس لنا معبود نتذلل له، ونتضرع إليه، في غفران ذنوبنا إلا أنت)) (5).
وأنواع العبادة كثرة جدا، قال الشوكاني:((إنه يصعب حصرها، وتتعسر الإحاطة بها)) (6) منها:
(1)
الدعاء:
قال الشوكاني- رحمه الله: " فاعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة، المطلوبة من العباد، ولو لم يكن في الكتاب العزيز إلا مجرد طلبه منهم لكان ذلك مفيدا للمطلوب، أعني كونه من العبادة.
واستدل- رحمه الله بكثير من الآيات القرآنية:
(1) انظر " العذب النمير " في السؤال الأول وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2).
(2)
(1/ 271).
(3)
فتح القدير للشوكاني (1/ 312).
(4)
وهو حديث صحيح. أحرجه مسلم (1/ 535) رقم 771).
(5)
نيل الأوطار للشوكاني (3/ 28).
(6)
قطر الولي للشوكاني (ص 455).
(منها): قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء:110]. وقال سبحانه: {ادعوني أستجب لكم} [غافر:60].
قال: ((فهذه الآيات البينات دلت على أن الدعاء مطلوب لله- عز وجل من عباده، وهذا القدر يكفى في إثبات كونه عبادة، فكيف إذا انضم إليه النهي عن دعاء غير الله، قال تعالى: {فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن:18] (1).
(2)
المحبة:
قال الشوكاني- رحمه الله: ((اعلم أن محبة الله- عز وجل هي من أعظم الفرائض المفترضة على العباد، كما يدل على ذلك آيات الكتاب المبين، وأحاديث سيد المرسلين، وإجماع المسلمين أجمعين، فمن ذلك قول الله- عز وجل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] وقد علم أن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض واجب لا خلاف فيه 000)) (2).
(3)
الخوف والرجاء:
قال تعالى في سورة [آل عمران: 175]{إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} .
قال الشوكاني في " فتح القدير"(3) في تفسير الآية: ((أي فافعلوا ما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه، لأني الحقيق بالخوف مني، والمراقبة لأمري ونهيي، لكون الخير والشر بيدي)).
ومنها قوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} [المائدة: 44].
(1) انظر " العذب النمير " المسألة الأولى. وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2).
(2)
بحث في وجوب محبة الرب. للشوكاني، وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (6).
(3)
(1/ 400).
أما الرجاء فهو نوع من أنواع العبادة، قال الله- عز وجل:{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110].
قال الشوكاني في " فتح القدير"(1)((الرجاء: توقع وصول الخير في المستقبل، أي: من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين {فليعمل عملا صالحا} وهو ما دل الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله. {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} من خلقه، سواء كان صالحا أو طالحا، حيوانا أو جمادا)).
وقد جمع الله- سبحانه- بين العبادتين الخوف والرجاء قي قوله {وادعوه خوفا وطمعا} [الأعراف: 56].
قال الشوكاني: ((وفيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفا وجلا طامعا في إجابة الله لدعائه، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعا بين الخوف والرجاء ظفر بمطلوبه، والخوف: الانزعاج من المضار التي لا يؤمن من وقوعها. والطمع: توقع حصول الأمور المحبوبة)) (2).
(4)
الاستعانة والاستغاثة:
قال الشوكاني- رحمه الله: ((الاستعانة بالنون: هي طلب العون، ولا خلاف أنه يجوز أن يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدنيا، كأن يستعين به على أن يحمل معه متاعه، أو يعلف دابته، أو يبلغ رسالته، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله فلا يستعان فيه إلا به)) (3).
ومنه قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] قال - رحمه
(1)(3/ 318)
(2)
فتح القدير للشوكاني (2/ 213) وانظر (4/ 192).
(3)
الدر النضيد في إخلاص التوحيد. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
الله -: ((المعنى تحصل بالعبادة، وتحصل بالاستعانة، لا نعبد غيرك ولا نستعين)) (1).
أما الاستغاثة: فهي طلب الغوث منه تعالى من جلب خير، أو دفع شر، وهي نوع من أنواع العبادة التي لا تصح إلا لله- سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال:9]
يقول الشوكاني- رحمه الله: ((فأما الاستغاثة بالمعجمة والمثلثة فهي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار وهو طلب النصر، ولا خلاف أنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال، فهو غاية الوضوح، وما أظنه يوجد فيه اختلاف، ومنه: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} [القصص: 15] وكما قال تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} [الأنفال: 72] وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يستغاث فيه إلا به، كغفران الذنوب، والهداية، وإنزال المطر، والرزق ونحو ذلك، كما قال تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران:135])) (2)
(5)
الذبح:
ومن أنواع العبادة الذبح نسكا لله تعالى: من هدي، وأضحية، وعقيقة، وغير ذلك.
قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت} [الأنعام: 162 - 163](3)
(1) فتح القدير للشوكاني (1/ 22).
(2)
" الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
(3)
انظر " فتح القدير " للشوكاني (2/ 185).
(6)
التوكل:
ومن أنواع العبادة التوكل على الله- عز وجل وهو اعتماد القلب عليه، وثقته به، وأنه كافيه، وهو عبادة عظيمة تعبد الله به عباده، وأمرهم بأن يعتمدوا عليه وحده دون سواه، ولا يوفق للقيام به على وجه الكمال إلا أولياء الله وحزبه المؤمنون.
وقد فرضه الله- عز وجل على عباده، حيث أمر به في مواضع عديدة من كتابه العزيز:
قال تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 122]
قال تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} [المائدة:123](1).
(1) انظر "فتح القدير" للشوكاني (3/ 98).
أما ما ذهب إليه الشوكاني في التوسل والتشفع بدعاء الصالحين، فهو رأي صائب، واستدلال صحيح، غير أنه لم يفرق رحمه الله بين هذا النوع من التوسل، وبين التوسل بالذوات والأشخاص، فاختلط الأمر عليه، فخلط بينهما وجعلهما نوعا واحدا، كما اختلط عليه الأمر أيضا بين التوسل بالذوات والأشخاص، وبين التوسل بالأعمال الصالحة، فجعل الأول كالثاني في الجواز، فوقع بذلك في أخطاء.
وإليك بيانها:
أ- التوسل بذات المتوسل به إلى الله تعالى، أو بجاهه، أو منزلته، أو نحو ذلك، عمل غير شرعي، سواء كان المتوسل به نبيا من الأنبياء، أو عالما من العلماء، لأنه لم يأمر به الله، ولا بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أو من بعدهم من القرون الخيرة أنه يعمل به، إذ لو كان مشروعا لفعلوه، ولسبقونا إليه، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعيته.
وقد تقرر في الكتاب العزيز، والسنة المطهرة أن الإسلام مبني على أصلين عظيمين:
(أحدهما): أن لا نعبد إلا الله.
و (الثاني): أن لا نعبده إلا بما شرع، كما تقرر أن الدعاء نوع من أنواع العبادة، بل هو أجلها وأعظمها.
فمن دعا المخلوقين من دون الله، واستغاث بهم، كان مشركا به- سبحانه-، ومن توسل في دعائه إلى الله بالمخلوقين، أو أقسم عليه بهم كان مبتدعا بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، لأنه عمل غير مشروع. وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف (1) أي لا بد فيها من ثبوت النص الشرعي المستلزم مشروعيتها واستحبابها.
(1) انظر "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 20 تحقيق د. ربيع بن هادي المدخلي.
2 -
إن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي ورد في حديث الأعمى هو في التحقيق توسل بدعائه وشفاعته لا بذاته، لأن الأعمى طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، ليرد الله عليه بصره (1) فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو هو أيضا، ويسأل أن يقبل الله شفاعة نبيه فيه، فقوله في دعائه: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أي شفاعة نبيك بدعائه، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا شافعا له بالدعاء، وهو سائل قبول شفاعة الرسول، ولهذا قال في دعائه أيضا: اللهم فشفعه في.
وهكذا كان توسل الصحابة به صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما مات توسلوا بدعاء غيره، ولم ينقل عن أحد منهم أنه التجأ إلى قبره، وطلب منه الدعاء لقضاء حاجته، ولو كان ذلك مشروعا لفعلوه، وأكبر دليل على ذلك وأوضحه استسقاء عمر بالعباس (2).
(1) انظر " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
(2)
" منهج الإمام الشوكاني في العقيدة " تأليف\ د. عبد الله نومسوك. (1/ 332 - 333).
أما عناية الشوكاني- رحمه الله بتوحيد الأسماء والصفات، فقد اعتنى به عناية فائقة، وأولاه اهتماما بالغا. وفيما يلي نسوق بعضا من كلامه.
قال رحمه الله: ((اعلم أن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله، وتشعبت أطرافه، وتناسبت فيه المذاهب، وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت فيه النحل، وسبب هذا عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه، حتى تفرقوا فرقا، وتشعبوا شعبا، وصاروا أحزابا، وكانوا في البداية ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة مختلفي المقاصد، متبايني المطالب:
فطائفة: وهي أخف هذه الطوائف- المتكلفة علم ما لم يكلفها الله بعلمه إثما وأقلها عقوبة وجرما، وهى التي أرادت الوصول إلى الحق، والوقوف على الصواب، لكن سلكت فيه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى عقبة كؤود لا يرجع من سلكها فضلا عن أن يظفر فيها بمطلوب صحيح، ومع هذا أصلوا أصولا ظنوها حقا، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث نبوية صحيحة، واعتلوا في ذلك الدفع بشبه واهية، وخيالات مختلة)) (1).
وقسم الشوكاني هؤلاء إلى طائفتين، ويقصد بهما: المعتزلة القدرية، والجبرية الجهمية، قال:
((الطائفة الأولى: هي الطائفة التي غلت في التنزيه، فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد، ويضطرب له القلب، ومن تعطيل الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتا أوضح من شمس النهار، وأظهر من فلق الصباح، وظنوا هذا من صنيعهم موافقا للحق، مطابقا لما يريده الله - سبحانه - فضلوا الطريق المستقيم، وأضلوا من رام سلوكها.
والطائفة الأخرى: هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة غلوا بلغ إلي حد أنه لا تأثير
(1)" التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- لرقم (3).
لغيرها، ولا اعتبار بما سواها، وأفضى ذلك إلى الجبر المحض، والقسر الخالص، فلم يبق لبعث الرسل، وإنزال الكتب كثير فائدة، ولا يعود ذلك على عباده بعائدة، وجاءوا بتأويلات للآيات البينات، فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال)) (1).
وذكر طائفة ثالثة ويقصد بها الأشاعرة ((توسطت، ورامت الجمع بين الضب والنون، وظنت أنها وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل وتناضل، وتحقق وتدقق في زعمها، وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت به مما يوافق ما ذهبت إليه و {كل حزب بما لديهم فرحون} [الروم:32] وعند الله تلتقي الخصوم)). (2)
ثم بين- رحمه الله مذهب الحق الذي يجب الأخذ به في هذه المسألة بقوله: ((وإن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد كانوا- رحمهم الله، وأرشدنا إلى الإقتداء بهم، والاهتداء بهديهم- يمرون أدلة الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا يتأولون، وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم، ولا يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل)) (3).
وقال- رحمه الله: ((إن مذهب السلف من الصحابة- رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم، هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل، وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات، تلوا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال والقيل، وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك، ولا نتكلف، ولا نتكلم بما لم نعلمه، ولا أذن الله لنا بمجاوزته، فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه، ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه إلا بالوقوع
(1)" التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
(2)
" التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
(3)
" التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه، وما حفظوه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وحفظه التابعون عن الصحابة، وحفظه من بعد التابعين عن التابعين)) (1)
وقال- رحمه الله مقررا لمنهج السلف في الإثبات مع التنزيه: ((إن الآية: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] يستفاد بها نفي المماثلة في كل شيء، فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة، وتعرف به الكلام عند وصفه - سبحانه- بالسميع البصير، وعند ذكر السمع والبصر واليد والاستواء ونحو ذلك مما اشتمل عليه الكتاب والسنة، فتقرر بذلك الإثبات لتلك الصفات، لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فيدفع به جانبي الإفراط والتفريط، وهما المبالغة في الإثبات المفضية إلى التجسيم، والمبالغة في النفي المفضية إلى التعطيل، فيخرج من بين الجانبين وغلو الطرفين أحقية مذهب السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبته- الله- لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه إلا هو)) (2).
وقال في قطع الأطماع عن إدراك الكيفية المستنبط من قوله تعالى: {ولا يحيطون به علما} [طه: 110] إنه لم يحط بفائدة هذه الآية، ويقف عندها، ويقتطف من ثمراتها إلا الممرون للصفات على ظاهرها، المريحون أنفسهم من التكلفات، والتعسفات، والتأويلات، والتحريفات، وهم السلف الصالح كما عرفت، فهم الذين اعترفوا- بعدم- الإحاطة، وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله، وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته، وماهية صفاته، بل العلم كله له (3).
وقد اشتد إنكار الشوكاني رحمه الله على المتكلمين ومناهجهم، وقرر أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من غير تأويل، ولا تخريف، ولا تكلف، ولا تعسف، ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل (4). وأن هذا المسلك القويم هو
(1)" التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
(2)
" التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
(3)
" التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
(4)
" التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين، فلم يكلف الله أحدا من عباده أن يعتقد أنه جل جلاله متصف بغير ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن زعم أن الله- سبحانه- تعبد عباده بأن يعتقدوا أن صفاته الشريفة كائنة على الصفة التي يختارها طائفة من طوائف المتكلمين، فقد أعظم على الله الفرية، بل كلف عباده أن يعتقدوا أنه ليس كمثله شيء، وأنهم لا يحيطون به علما (1).
أما موقف الشوكاني- رحمه الله من صفات الله تعالى فقد أول بعضها في تفسيره "فتح القدير" تأويلا أشعريا.
والصفات التي أولها هي: " الوجه"(2)، و" العين"(3) و" اليد"(4) و" العلو"(5)، و"المجيء"(6) و" الإتيان"(7) و" المحبة"(8)، و"الغضب"(9) وهذا التأويل مناقض لمنهجه في رسالته " التحف " في إثبات الصفات على ظاهرها، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهو مذهب السلف الصالح- رضوان الله عليهم-.
قلت: إن الشوكاني- رحمه الله على مذهب السلف، وكان يحبه، ويدعو إليه، كما هو ظاهر لكل من قرأ رسالته " التحف " غير أنه- كما يظهر لي- لم يستوعب مذهب السلف في مسألة الصفات استيعابا جيدا.
(1)" تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام " للشوكاني. وهى ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".
(2)
" فتح القدير": (4/ 189).
(3)
"فتح القدير ": (3/ 481) و (5/ 2 0 1) و (5/ 123) و (3/ 365) و (2/ 497).
(4)
" فتح القدير ": (5/ 48) و (2/ 57) و (5/ 258) و (4/ 445).
(5)
"فتح القدير ": (2/ 104) و (2/ 124) و (3/ 67) و (5/ 288).
(6)
" فتح القدير ": (5/ 440).
(7)
" فتح القدير ": (1/ 210، 211) و (2/ 181).
(8)
" فتح القدير": (1/ 333).
(9)
" فتح القدير": (3/ 380).
لقد قال في " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول"(1) وقد فرغ من تأليفه سنة (1231هـ) كما نص عليه في ختامه (2)، أي بعد: فتح القدير بسنتين (3) قال ما نصه: ((الفصل الثاني فيما يدخل في التأويل، وهو قسمان:
(أحدهما): أغلب الفروع ولا خلاف في ذلك.
(والثاني): الأصول: كالعقائد، وأصول الديانات، وصفات الباري عز وجل. وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب:
(الأول): أنه لا مدخل للتأويل فيها، بل يجري على ظاهرها، ولا يؤول شيء منها، وهذا قول المشبهة.
و (الثاني): أن لها تأويلا، ولكن نمسك عنه، مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل لقوله تعالى:{وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران:7]. قال ابن برهان: وهذا قول السلف.
قلت (أي الشوكاني): وهذا هو الطريقة الواضحة، والمنهج المصحوب بالسلامة عن الوقوع في مهاوي التأويل لما لا يعلم تأويله إلا الله، وكفى بالسلف الصالح قدوة لمن أراد الإقتداء، وأسوة لمن أحب التأسي، على تقدير عدم ورود الدليل القاضي بالمنع من ذلك، فكيف وهو قائم موجود في الكتاب والسنة.
(والمذهب الثالث): أنها مؤَولة: قال ابن برهان: والأول من هذه المذاهب باطل، والآخران منقولان عن الصحابة، ونقل هذا المذهب الثالث عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأم سلمة)) اهـ.
(1) ص 583 بتحقيقنا.
(2)
ص930.
(3)
فرغ الشوكاني رحمه الله من تأليف " فتح القدير سنة (1229هـ) انظر "فتح القدير" (5/ 524).
((قلت: هذا وهم من الشوكاني، والظاهر أن الأول هو قول السلف وليس المشبهة كما زعم، فإن مذهب السلف إثبات الصفات وإجراؤها على ظواهرها من غير تأويل ولا تشبيه، وتفويض كنهها وكيفيتها إلى الله تعالى، كما قرره- رحمه الله قي رسالته "التحف".
أما الثاني: فهو قول المفوضة أو القريب منه، وليس قول السلف كما زعم، لأن السلف لا يقولون أن لها تأويلا، ولكنا نمسك عنه، بل يثبتون معناها من غير تصور المشابهة ولا تمثيل، وأما ما نقله عن ابن برهان فهو باطل، لأنه لم يرد حرف واحد في التأويل المعروف عندهم عن السلف، وكل ما نقل فهو كذب واختراع (1).
والشوكاني- رحمه الله نقل هذا الكلام ولم يعقب عليه، وكأنه مقبول عنده، وهو مردود. وهكذا لكل عالم زلة ولكل جواد كبوة، والعصمة لله- سبحانه- ولمن عصمه من الأنبياء والمرسلين)) (2) اهـ.
أما موقف الإمام الشوكاني- رحمه الله من مسألة خلق القرآن، فقد ذهب مذهب الواقفية، فلم يجزم برأي هل هو مخلوق أم غير مخلوق:
قال الشوكاني في "فتح القدير"(3)((وهذه المسألة: أي قدم القرآن وحدوثه قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية، والمعتصمية، والواثقية، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد؛ والحبس الطويل، وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي (4) وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده، والقصة
(1) انظر " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية "(5/ 90) و
(6/ 394). وذم التأويل لابن قدامة ص 40 تحقيق الأخ بدر البدر.
(2)
" منهج الإمام الشوكاني في العقيدة "(1/ 471 - 473).
(3)
(3/ 397)
(4)
هكذا في الأصل: ولعل الصواب: أحمد بن نصر الخزاعي، أبو عبد الله. انظر " تاريخ بغداد "(5/ 137).
أشهر من أن تذكر
…
ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه، وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع، ولكنهم- رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه، ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف، وإرجاع العلم إلى علام الغيوب، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة، وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه، والتمسك بأذيال الوقف، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى، وفيه السلامة، والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله، والأمر لله - سبحانه-)) اهـ.
وهذا موقف غير سديد من الإمام الشوكاني- رحمه الله لأن السلف في صدر الإسلام كانوا في غنى عن الزيادة على القول: القرآن كلام الله، لأنهم لم يكونوا يفقهون من هذه الإضافة إلا أنها صفة من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة، حتى ظهرت الجهمية، وظهرت بدعة القول بخلق القرآن، فعقل أئمة السلف خطرها، وقابلوهم برفضها وإنكارها، والتشديد عليهم في ذلك، لأن حقيقة كلامهم الكفر، لما تضمن من تكذيب القرآن، وإثبات النقص لله، ولا سبيل لهم لإبطال هذه البدعة إلا أن قالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق (1).
كما أن الشوكاني- رحمه الله جعل الحلف بالقرآن كالحلف بمخلوق من مخلوقات الله (2)، وهذا رأي باطل قال به المعتزلة وأتباعهم. والصحيح أن القرآن كلام الله تكلم
(1) انظر " الرد على الجهمية للدارمي ص 259 ضمن عقائد السلف. و" منهج الإمام الشوكاني في العقيدة" (1/ 417 - 424).
(2)
كما يتضح هذا من صيغة السؤال السادس في رسالة " إرشاد السائل إلى دلائل المسائل " وهي ضمن الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني- الفقه-.
الله به حقيقة بلفظه ومعناه؛ وهو- سبحانه- موصوف بالكلام؛ فعلى هذا يكون الحلف بالقرآن حلفا بصفة من صفاته- سبحانه-؛ وصفات الله - سبحانه غير مخلوقة؛ فالقرآن غير مخلوق؛ والحلف به جائز؛ لأنه حلف بكلام الله؛ ويعقد به اليمين؛ وهذا ما اجمع عليه السلف أهل السنة (1).
(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 336) وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص 191.
كما اهتم الإمام الشوكاني- رحمه الله بتعريف الشرك، وبيان أقسامه، وذكر نماذج من الأعمال الشركية:
أما معنى الشرك فقد قال: ((إن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه، ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكا بالصنم والوثن والإله لغير الله، زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد، كما يفعله كثير من المسلمين، بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئا يختص به- سبحانه- سواء أطلق على ذلك الغير ما كانت تطلق عليه الجاهلية أو أطلق عليه اسما آخر فلا اعتبار بالاسم قط)) (1)
وقد نهى الله- سبحانه وتعالى عن الشرك به في كثير من الآيات، كقوله تعالى:{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} [النساء:36].
قال الشوكاني في تفسير الآية: ((أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء من غير فرق بين حي وميت، وجماد وحيوان، ولا تشركوا به شيئا من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر، والواضح والخفي)) (2).
أما أقسام الشرك فهي ثلاثة:
1 -
الشرك في توحيد الربوبية:
وهو إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى، كشرك من يجعل الإنسان مستقلا بإحداث فعله، وشرك من يجعل الأجسام الطبيعية من الشمس والقمر والنجوم والجبال ونحوها كما يقوله الطبيعيون، أو العقول كما تقوله الفلاسفة، أو الأرواح والنفوس كما يقوله
(1)" الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
(2)
" فتح القدير " للشوكاني (1/ 464).
عباد القبور، أو الملائكة، أو غير ذلك من المخلوقات.
ومن هذا القسم شرك فرعون، إذ قال منكرا الرب الخالق:{وما رب العالمين} [الشعراء:23] وقال مدعيا لنفسه الربوبية {أنا ربكم الأعلى} [النازعات:24] وأمثاله ممن يدعي لنفسه الربوبية.
وقد رد الله- سبحانه- على أصحاب هذا الشرك في آيات كثيرة من القرآن:
(منها): قال تعالى في سورة الأعراف (191 - 192): {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون} (1).
(ومنها): قوله- سبحانه- في وصف آلهتهم: {واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا} [الفرقان: 3](2).
2 -
الشرك في توحيد الأسماء والصفات:
وهو نوعان:
(أحدهما): تشبيه الخالق بالمخلوق. كمن يقول: يد الله كيدي و ..... وهو شرك المشبهة الذين رد الله عليهم بقوله: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] وقوله: {ولا يحيطون به علما} [طه:110] 0 (3)
(والثاني): اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق، قال تعالى:{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون}
(1) انظر تفسير ذلك في " فتح القدير "(2/ 274).
(2)
انظر تفسير ذلك في " فتح القدير "(4/ 61).
(3)
" التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3)
[الأعراف:180](1).
3 -
الشرك في توحيد الألوهية والعبادة:
وهو نوعان:
(أحدهما): شرك أكبر: وهو أن يتخذ العبد ندا لله تعالى في العبادة، يدعوه، أو ينذر له، أو يذبح له، أو يخافه، أو يصرف له أي نوع من أنواع العبادة، كشرك مشركي مكة أيام بعثة النبي- صلى الله عليه وسلم وقد قالوا في آلهتهم:{هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس:18] وقالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] والمراد بهذا القول: الشفاعة لهم في الدنيا (2) ومن هذا النوع شرك عباد القبور الذين جعلوا بعض خلق الله شريكا له، مثلا، وندا، فاستغاثوا به فيما لا يستغاث فيه إلا بالله، وطلبوا منه ما لا يطلب إلا من الله، مع القصد والإرادة (3).
وهذا النوع من الشرك هو الذي قال الله تعالى فيه: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} [النساء:36]؛ {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل:36]، {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} [المائدة: 72].
والآيات في النهي عن هذا الشرك، وبيان بطلانه كثيرة جدا، والكتب السماوية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا الشرك، وتقبح أهله، وتنص على أنهم أعداء الله تعالى. وما أهلك الله تعالى من الأمم السابقة إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله (4). وأن هذا الشرك خطره عظيم لما يأتي:
(1) انظر تفسير ذلك في "فتح القدير"(2/ 268، 270).
(2)
انظر تفسير ذلك في " فتح القدير "(4/ 449).
(3)
" الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
(4)
" الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
1 -
إنه يحبط العمل. قال تعالى: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام:88].
والحبوط: هو البطلان (1) أي بطلت أعمالهم، لأن الشرك يخرجهم من الملة الإسلامية.
2 -
إن صاحبه خالد مخلد في النار إذا مات مصرا عليه، وإن الله لا يغفر له إلا إذا تاب في وقت التوبة.
قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} [النساء:116]
قال الشوكاني: ((أي ضل عن الحق ضلالا بعيدا، لأن الشرك أعظم أنواع الضلال، وأبعدها من الصواب)) (2).
3 -
إنه أفظع ظلم، وأعظم جريمة:
قال تعالى: {الذين آمنوا ولو يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] أي لم يخالطوه بظلم، والمراد بالظلم الشرك، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود (3) رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان:{يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13](4).
(والثاني): شرك أصغر:
(1) فتح القدير. (2/ 137).
(2)
فتح القدير. (1/ 516) وانظر أيضا (1/ 475).
(3)
أخرجه البخاري رقم (32) ومسلم رقم (124)
(4)
فتح القدير (2/ 135) و (4/ 238).
وهذا النوع من الشرك مما ينافي كمال التوحيد في عبادة الله- عز وجل ويناقضه، وهو وإن كان لا يخرج من الملة فإن صاحبه على خطر عظيم، ينقص من أجره شيء كثير، وقد يحبط منه العمل الذي وقع فيه هذا الشرك. وفي هذا ذكر الشوكاني- رحمه الله أحاديث كثيرة (1).
. ذكر نماذج من الأعمال الشركية، وكلام الشوكاني عنها:
تناول الشوكاني- رحمه الله نماذج من الأعمال الشركية التي يجب على كل مسلم معرفتها ليسلم منها، وليكون على بينة من أمرها حتى لا يقع فيها:
1 -
الاستغاثة بغير الله:
كالاستغاثة بالأموات، والاستعانة بهم، ومناجاتهم عند الحاجة، وتعظيم قبورهم، واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء حوائج المحتاجين، وإنجاح طلبات السائلين (2)
2 -
النذر لغير الله:
وهي نذر في معصية، وهي من النذر الذي لا يبتغى به وجه الله (3).
3 -
الذبح لغير الله (4)
4 -
الحلف بغير الله:
كالحلف بالنبي، أو الكعبة، أو الأمانة، أو الحياة، أو بولي من الأولياء، أو بالشرف أو بغير ذلك من المخلوقات، كل ذلك من الشرك الأصغر.
(1) انظر قطر الولي ص 457 - 459، وفتح القدير (3/ 319). و" الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
(2)
انظر " الدر النضيد في إخلاص التوحيد" وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4) و"فتح القدير"(2/ 450).
(3)
انظر " شرح الصدور في تحريم رفع القبور " وهي ضمن كتاب " الفتح الرباني" - الفقه- و" أدب الطلب ومنتهى الأرب " ص 179 بتحقيقي.
(4)
انظر " فتح القدير "(1/ 170) و" نيل الأوطار "(10/ 68) و"شرح الصدور".
قال الشوكاني: ((قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، فلا يحلف إلا بالله وذاته وصفاته، وعلى ذلك اتفق الفقهاء)) (1).
5 -
السحر وأنواعه:
ذهب الشوكاني- رحمه الله مذهب أهل السنة في أن السحر له حقيقة، وله تأثير بإذن الله، واستدل بقوله تعالى:. {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} [البقرة:102](2).
وذكر الشوكاني- رحمه الله أنواعا كثيرة من أعمال السحر التي هي شرك بالله منها:
أ- الكهانة والتنجيم وما في معناهما:
وقد ورد في النهي عن إتيان الكهان وتصديقهم أحاديث كثيرة أوردها الشوكاني رحمه الله في مؤلفاته (3).
ب- التطير:
قال الشوكاني- رحمه الله: ((وأما التطير فهو الطيرة بكسر الطاء المهملة، وفتح المثناة التحتية، وقد تسكن، وهي التشاؤم بالشيء، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع، وأبطله، ونهى عنه)) (4)
ج- تعليق التمائم ونحوها:
(1) انظر ما أورده الشوكاني من هذه الأحاديث في " نيل الأوطار "(10/ 21) و (158 - 160) و" العذب النمير " و" الدر النضيد " ..
(2)
فتح القدير (1/ 121) ونيل الأوطار (9/ 43).
(3)
فتح القدير (1/ 123 - 124) ونيل الأوطار (9/ 45 - 46) " الدر النضيد في إخلاص التوحيد
(4)
"نيل الأوطار"(10/ 133).
قال الشوكاني- رحمه الله: ((فمن ذلك ما ورد في تعليق التمائم، إنه من الشرك، وتعليق الخيط في اليد للحمى)) (1)
. ذكر نماذج من البدع التي تكلم عليها الشوكاني:
1 -
بدعة الرافضة:
أ- معاداتهم للصحابة- رضوان الله عليهم-.
قال الشوكاني- رحمه الله ((وانظر إلى أي مبلغ بلغ الشيطان الرجيم بهؤلاء المغرورين المجترئين على هذه الأعراض المصونة المحترمة المكرمة، فيا لله العجب من هذه العقول الرقيقة، والأفهام الشنيعة، والأذهان المختلة، والإدراكات المعتلة! فإن هذا التلاعب الذي تلاعب الشيطان، يفهمه أقصر الناس عقلا، وأبعدهم فطانة، وأجمدهم فهما، وأقصرهم قي العلم باعا، وأقلهم اطلاعا، فإن الشيطان- لعنه الله- سول لهم بأن هؤلاء الصحابة- رضي الله عنهم الذين لهم المزايا التي لا يحيط بها حصر، ولا يحصيها حد، ولا عد، أحفاء بما يهتكون من أعراضهم الشريفة، ويجحدون من مناقبهم المنيفة، حتى كأنهم لم يكونوا هم الذين أقاموا أعمدة الإسلام بسيوفهم، وأوصلوا دين الإسلام إلى أطراف المعمورة، من شرق الأرض وغربها، ويمينها وشمالها، فاتسعت رقعة الإسلام، وطبقت الأرض شرائع الإيمان، وانقطعت علائق الكفر، وانقصمت حباله.
يا لله العجب، يعادون خير عباد الله، وأنفعهم للدين الذي بعث به رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وهم لم يعاصروهم، ولا عاصروا من أدركهم، ولا أذنبوا إليهم بذنب، ولا ظلموهم في مال، ولا دم، ولا عرض، بل قد صاروا تحت أطباق الثرى، وفي رحمة واسع الرحمة منذ مئات من السنين)) (2).
هذا وقد اعتنى الإمام الشوكاني- رحمه الله اعتناء كبيرا بالرد على هذه الطائفة
(1)" العذب النمير " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2).
(2)
قطر الولي (ص 294).
الضالة في هذا الموضوع، فقد ألف كتابين:
(أحدهما): " در السحابة في مناقب القرابة والصحابة"(1) بين فيه مناقب وفضائل كل من الصحابة والقرابة- رضوان الله عليهم-.
(والثاني): " إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صلى الله عليه وسلم (2). نقل فيه إجماع أهل البيت من ثلاث عشرة طريقة على عدم ذكر الصحابة بسب أو ما يقاربه
ب- اعتقادهم بعصمة علي- رضي الله عنه:
قال الشوكاني- رحمه الله: ((عصمة علي وحجية قوله ذهب إلى القول بهما جماعة من أهل البيت، وذهب جماعة منهم وسائر المسلمين أجمعين إلى أن المعصوم إنما هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم على الخصوص، والحجة إنما هي ما جاء عن الله وعنه)) (3).
2 -
بدعة المتصوفة:
قال الشوكاني- رحمه الله: ((فقد كان أول هذا الأمر يطلق هذا الاسم على من بلغ في الزهد والعبادة إلى أعلى مبلغ، ومشى على هدي الشريعة المطهرة، وأعرض عن الدنيا، وصد عن زينتها، ولم يغتر ببهجتها، ثم حدث أقوام جعلوا هذا الأمر طريقا إلى الدنيا، ومدرجا إلى التلاعب بأحكام الشرع، ومسلكا إلى أبواب اللهو والخلاعة، ثم جعلوا لهم شيخا يعلمهم كيفية السلوك، فمنهم من يكون مقصده صالحا، وطريقته حسنة، فيلقن أتباعه كلمات تباعدهم من الدنيا، وتقربهم من الآخرة، وينقلهم من رتبة إلى رتبة على أعراف يتعارفونها، ولكنه لا يخلو غالب ذلك من مخالفة للشرع، وخروج عن كثير من آدابه)) (4).
(1) أكرمني الله بتحقيقه على ثلاث مخطوطات ولله الحمد والمنة.
(2)
وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (19)
(3)
" عقود الزبرجد في جيد مسائل علامة ضمد " وهي ضمن كتاب "الفتح الرباني"- الفقه-.
(4)
أدب الطلب ومنتهى الأرب " (ص 199) بتحقيقي
وقد ابتدعت المتصوفة أمورا كثيرة، ودعوا إليها، ولم تكن عند الزهاد السابقين، منها ترك الزواج، وإدامة الجوع، ومواصلة الصوم، والعزلة، والخلوة، والغناء، والوجد، وتقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة، وتقديس الأولياء، وتفضيلهم على الأنبياء، ومنها القول بالحلول، ووحدة الوجود، والاتحاد بين المخلوق والخالق. وهكذا تدرج المتصوفة إلى أن شرعوا لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله.
ولقد تصدى لهذه الأمور البدعية، وكشف عن حقائقها كثير من العلماء ومنهم الإمام الشوكاني رحمه الله. وخاصة في كتابه:" قطر الولي على حديث الولي، أو ولاية الله والطريق إليها ". ورسالته: " الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد"(1) حيث نقل فيها أقوال العلماء أهل السنة في الحكم على ما تضمنته الكتب الصوفية من الضلال والإضلال، كما جمع في هذه الرسالة ما صدر عن هؤلاء المتصوفين المخذولين من المقالات التي كل واحدة منها أكفر الكفر
…
وأكد- رحمه الله أن القيام على هؤلاء المتصوفة من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء (2).
. وإليك بعض البدع التي وقع فيها الصوفية:
أ- الزهد الصوفي:
وقد أنكر الشوكاني- رحمه الله (الزهد الصوفي المخالف للإسلام) لأنه هو الذي يضعف جسم المؤمن، ويحول دون قيامه بواجباته نحو نفسه وأسرته ومجتمعه (3).
ب- الولاية الصوفية:
وهى من أكثر الأشياء التي يدندن حولها المتصوفة في الماضي والحاضر، وقد فصل الشوكاني- رحمه الله تعالى- موضوع الولاية تفصيلا دقيقا، وأفرد لها تأليفا في كتابه
(1) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (24).
(2)
انظر "الصوارم الحداد" وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (24)
(3)
" فتح القدير "(2/ 69) و (2/ 200) و (2/ 530).
" قطر الولي على حديث الولي، أو ولاية الله والطريق إليها"(1).
ج- عقيدة الاتحاد بين المخلوق والخالق:
وهى عقيدة اكتسبوها من الديانات والفلسفات الأجنبية، كالهندية وغيرها (2).
د- رفع التكاليف الشرعية (3)
3 -
بدعة القبوريين:
وهى من البدع السيئة على هذه الأمة كتشييد القبور، وبنائها، وتسريجها، وتزيينها، واتخاذها مساجد وما إلى ذلك، وما يترتب عليها من الاعتقادات الفاسدة في أصحاب القبور (4).
…
أما الإيمان بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فهو من الإيمان بالغيب الذي وصف الله به المؤمنين، وهو ركن من أركان الإيمان التي يجب الإيمان بها، كما دلت على ذلك الأدلة الكثيرة من كتاب وسنة.
كقوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285].
قال الشوكاني (5)((قوله: {لا نفرق بين أحد من رسله} أي لا نكفر بما جاءت به الرسل، ولا نفرق بين أحد منهم، ولا نكذب به)).
(1) أكرمني الله بتحقيقه على مخطوطتين ولله الحمد والمنة.
(2)
" الصوارم الحداد " وهى ضمن هذا القسم- العقيدة برقم (24).
(3)
"قطر الولي"(ص 487).
(4)
" أدب الطلب ومنتهى الأرب"(ص 194 - 195) بتحقيقي.
(5)
"فتح القدير"(1/ 309)
وفي حديث جبريل وسؤاله للنبي- صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(1).
وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- متفاضلون، وأن بعضهم أفضل من بعض كما قال تعالى:{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} [البقرة:253](2).
وقد أجمعت الأمة على أن الرسل أفضل من الأنبياء، والرسل بعد ذلك متفاضلون فيما بينهم، وأفضل الرسل والأنبياء خمسة وهم: محمد صلى الله عليه وسلم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى- عليهم الصلاة والسلام-. وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وقد خصهم الله- سبحانه- بالذكر قي آيتين من كتابه:
قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13].
وقال تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} [الأحزاب:7]
قال الشوكاني- رحمه الله: ((ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل، لكونهم من أصحاب الشرائع المشهورة، ومن أولي العزم من الرسل، وتقديم ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم مع تأخر زمانه فيه من التشريف له والتعظيم ما لا يخفى)) (3).
كما أن الشوكاني- رحمه الله اهتم اهتماما بالغا ببيان المهمة الكبرى التي بعث الله من أجلها الرسل والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- حيت ألف رسالتين الأولى بعنوان:
(1) أخرجه مسلم رقم (1/ 8) وغيره.
(2)
فتح القدير (1/ 268) وانظر أيضًا (3/ 235).
(3)
فتح القدير (4/ 264).
" المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة"(1) والثانية بعنوان: " إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات"(2) وأورد فيهما النصوص من القرآن والسنة، ومن الكتب السابقة: كالتوراة، والزبور، والإنجيل، مما يدل على اتفاق أنبياء الله وكتبه على إثبات كل مقصد من هذه المقاصد، أي التوحيد، والمعاد، والنبوات، وتصديق بعضهم بعضًا.
…
أما الإيمان بوجود الجن والشياطين جزء من عقيدة المؤمن، لما ثبت في ذلك من الكتاب والسنة، وإجماع الأمة.
وقد اعتنى الشوكاني- رحمه الله بهذا الموضوع، وأفرد له بحثا صغيرا بعنوان " بحث في وجود الجن"(3) أورد فيها الأدلة الدالة على وجود الجن والشياطين، ورد على المنكرين على وجودهما من بعض المعتزلة وأمثالهم.
وقد ذهب- رحمه الله مذهب القائلين بأن جميع الجن ولد إبليس، كما أن جميع الإنس هم ولد آدم. وأن الشياطين هم مردة الإنس والجن (4) وهذا مذهب الجمهور، الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية (5).
والجن أجناس مختلفة، منهم المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، قال تعالى، إخبارا عنهم:{وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا} [الجن:11] أي جماعات متفرقة، وأصنافا مختلفة (6).
(1) وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (10).
(2)
وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (9).
(3)
وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (8).
(4)
انظر بحث في وجود الجن. وفتح القدير (5/ 303).
(5)
انظر مجموع فتاوى شيح الإسلام (15/ 7) وانظر أيضًا (4/ 235).
(6)
فتح القدير (5/ 306).
وهل أرسل الله إليهم رسلا منهم؟
اختلف العلماء في هذا على قولين: قيل: فيهم رسل، لقوله تعالى:{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} [الأنعام: 130] وقيل: الرسل من الإنس، والجن فيهم النذر. وهذا قول الجمهور من العلماء سلفا وخلفا وهو الراجح (1).
ورجح الشوكاني- رحمه الله هذا القول في تفسيره (2).
…
أما رؤية الله- سبحانه وتعالى في الجنة، أعظم نعيم يناله المؤمنون، وهي ثابتة بالكتاب والسنة المتواترة، واتفق على القول بها جميع الصحابة والتابعين، وجميع أئمة الإسلام المعروفين بالإمامة والدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبين إلى أهل السنة والجماعة.
وقد قرر الشوكاني- رحمه الله هذه المسألة في مؤلف مستقل سماه: " البغية في مسألة الرؤية "(3).
وأورد فيها الأدلة الدالة على ثبوت الرؤية ورد على المنكرين للرؤية من أهل البدع والأهواء من الجهمية، ومن تابعهم من المعتزلة والرافضة، وغيرهم.
…
أما خلود الجنة والنار، وبقاؤهما، وأنهما لا يفنيان أبدا، ولا يفنى من فيهما، ثابت بالكتاب والسنة. وقد وافق الشوكاني- رحمه الله أهل السنة في هذا الموضوع في عدة مواضع من تفسيره (4)، بل أفرده بالتأليف في رسالة بعنوان " كشف الأستار في إبطال
(1) انظر مجموع فتاوى شيح الإسلام (4/ 234) و (11/ 307).
(2)
فتح القدير (5/ 303).
(3)
وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (17).
(4)
فتح القدير (1/ 55، 56، 166) و (3/ 335) و (3/ 475).
قول من قال بفناء النار" (1) ردا على سؤال ورد إليه في هذا الموضوع. ويقصد بمن قال بفناء النار الجهمية ومن تابعهم؛ كما صرح في أول الرسالة.
كما أورد- رحمه الله أدلة المخالفين لأهل السنة التي استدلوا بها على فناء النار وانقطاع عذاب أهلها. وفندها تفنيدا رائعا؛ وأجاب عن هذه الاستدلالات كلها (2).
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهك خالصة، ولا تجعل فيها شركا لأحد.
وكتبه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب
(1) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (18).
(2)
انظر " كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (18).