المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ١

[الشوكاني]

الفصل: ‌التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف

‌التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف

(1)

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه

محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

(1) عنوان الرسالة في (ب): (التحف في مذاهب السلف).

ص: 237

وصف المخطوط (أ)

1 -

عنوان الرسالة: " التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف ".

2 -

موضوع الرسالة: في توحيد الله سبحانه.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام، وآله الكرام، ورضي الله عن صحبه الأعلام.

وبعد: فإنه وصل سؤال من بعض الأعلام الساكنين ببلد الله الحرام وهذا لفظه: ......

4 -

آخر الرسالة: وفي هذه الجملة -وإن كانت قليلة- ما يغني من شح بدينه، وتحرص عليه من تطويل المقال، وتكثير ذيوله وتوسيع دائرة فروعه وأصوله، والمهدي من هداه الله، ..

5 -

نوع الخط: خط نسخي معتاد.

6 -

عدد الأوراق: (7) ورقات.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 26 - 27 سطرا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة.

9 -

الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.

10 -

تاريخ النسخ: 1228 هـ.

ص: 239

وصف المخطوط (ب)

1 -

عنوان الرسالة: " التحف في مذاهب السلف ".

2 -

موضوع الرسالة: في توحيد الله سبحانه.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام، وآله الكرام، ورضي الله عن صحبه الأعلام.

وبعد: فإنه وصل سؤال من بعض الأعلام الساكنين ببلد الله الحرام وهذا لفظه

4 -

آخر الرسالة: وفي هذه الجملة، وإن كانت قليلة -ما يغني من شح بدينه، وتحرص عليه عن تطويل المقال، وتكثير ذيوله وتوسيع دائرة فروعه وأصوله، والمهدي من هداه والله أعلم

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الأوراق: (5) ورقات.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 29 سطرا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 12 - 13 كلمة.

9 -

تاريخ النسخ: 18 شهر ربيع الأول سنة 1275هـ.

ص: 242

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام، وآله الكرام، ورضي الله عن صحبه الأعلام.

وبعد: فإنه وصل سؤال من بعض الأعلام الساكنين ببلد الله الحرام، وهذا لفظه:

بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين، ما يقول فقهاء الدين، وعلماء المحدثين، وجماعة الموحدين، في آيات الصفات وأخبارها اللاتي نطق بها الكتاب العظيم، وأفصحت عنها سنة الهادي إلى صراط مستقيم؟

هل إقرارها، وإمرارها (1)، وإجراؤها على الظاهر بغير تكييف (2)، ولا تمثيل (3)، ولا تأويل (4)، ولا تعطيل (5) عقيدة الموحدين وتصديق بالكتاب المبين، واتباع بالسلف الصالحين؟ أو هذا مذهب المجسمين؟

وما حكم من أول الصفات، ونفى ما وصف الله به نفسه، ووصفه به بنيه، وتأيد

(1) قال الحافظ ابن عبد البر كما في المختصر العلو (ص 39): " أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك ".

وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد: عن الأحاديث التي في الصفات؟ فكلهم قالوا لي: أمروها كما جاء بلا تفسير. رفي رواية: بلا كيف.

انظر: الفتوى الحموية (ص 109)، مختصر العلو للذهبي (ص 38) للألباني.

(2)

التكيف: تحديد وتعين كنه الصفة وحقيقتها، بمعنى أن يجعل لها كيفية معلومة، وليس المراد بنفي الكيفية تفويض المعنى المراد من الصفات، بل المعنى معلوم من لغة العرب. وهذا هو مذهب السلف، كما قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول. . .

(3)

التمثيل: هو تشبيه الله بخلقه في الصفات الذاتية أو الفعلية.

(4)

التأويل: هو صرف الصفة عن معناها الحقيقي إلى معنى مجازي.

(5)

التعطل: نفى الصفات الإلهية عن الله، وإنكار قيامها بذاته، أو إنكار بعضها.

وانظر: " الكواشف الجلية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن سلمان (ص52)، القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص 64 - 68).

ص: 245

بالنصوص، واتفق عليه الخصوص، من أن الله- سبحانه- في (1) سمائه، مستو على عرشه، بائن (2) من خلقه، وعلمه في كل مكان؟ والدليل: آيات الاستواء (3) والصعود (4) والرفع (5).

(1)(في): بمعنى (على). كما قال تعالى حكاية عن فرعون: (ولأصلبنكم في جذوع النخل)[طه: 71] أي: على جذوع النخل.

(2)

أي: منفصل من خلقه. انظر: " الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة " ص 55 - 57.

(3)

(منها): 1)

قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. . .)[الأعراف: 54]. 2)

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)[يونس: 3].

3 -

) (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ .. )[الرعد: 2].

4 -

) (الرحمن على العرش استوى)[طه: 5].

5 -

) (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ .. )[الفرقان: 59].

6 -

) (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)[الحديد: 4].

(4)

ومن آيات الصعود:

1 -

) قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، [فاطر: 10].

2 -

) (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)[السجدة: 5].

3 -

) (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)[آل عمران: 55].

(5)

من آيات الرفع:

1 -

) قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)[آل عمران: 55].

2 -

) (بل رفعه الله إليه)[النساء: 158].

ص: 246

وقوله تعالى: {أأمنتم من في السماء} (1).

ومن السنة: حديث الجارية (2)، والنزول (3) وعمران بن حصين (4) وقوله

(1)[الملك: 16].

قال ابن الجوزي في " زاد المسير "(8/ 322): وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:(أأمنتم) بهمزتين (من في السماء) قال ابن عباس: أمنتم عذاب من في السماء وهو الله عز وجل؟؟ اهـ.

(2)

يشير إلى حديث معاوية بن الحكم السلمي، قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذي قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بين آدم. آسف كما يأسفون. لكني صككتها صكة. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي. قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: " ائتني بها " فأتيته بها. فقال لها: " أين الله " قالت: في السماء. قال: " من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال:" أعتقها، فإنها مؤمنة ".

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (33/ 537). وأحمد (5/ 447 - 448 - 449) والطيالسي في المسند (ص150 رقم 1105).

واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة "(3/ 391 - 392 رقم 652) وابن أبي عاصم في " كتاب السنة "(1/ 215 رقم 489) والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص421 - 422. وابن خزيمة في كتاب التوحيد ص121 - 122.

(3)

يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له ".

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1145) ومسلم رقم (168/ 758)، وأبو داود رقم (4733) والترمذي رقم (446) وابن ماجه رقم (1366) وأحمد (2/ 264). وابن خزيمة في " كتاب التوحيد " ص 130. وابن أبي عاصم في " السنة " رقم (492 و493) واللالكائي في " شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة " رقم (742 - 745). والطيالسي في المسند (ص 328 رقم 2516) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 2).

(4)

يشير إلى الحديث أخرجه الترمذي (5/ 519 رقم 3483).

عن عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: " يا حصين كم تعبد اليوم إلها؟ " قال أبي: سبعة، ستا في الأرض، وواحد في السماء. قال:" فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء. قال: " يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك " قال: فلما أسلم حصين قال: يا رسول الله، علمني الكلمتين اللتين وعدتني، فقال:" قل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي ".

قال الترمذي: هذا حديث غريب وقد روي هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه. وأورده الذهبي في " العلو للعلي الغفار " ص 24 وقال شبيب: ضعيف. وقال الألباني: حديث ضعيف.

ص: 247

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء! "(1).

وغير ذلك من الآيات المتواترة، والأحاديث المتكاثرة (2).

وأول الآيات، وجعل الاستواء استيلاء (3)

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4351) ومسلم في صحيحه رقم (1064) وأحمد (3/ 4) من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

كذا في المخطوط وصوابه الآيات المتكاثرة، والأحاديث المتواترة.

(3)

قال ابن تيمية في " الأسماء والصفات "(2/ 111) أنه لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى، إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور:

ثم استوى بشر على العراق

من غير سيف ولا دم مهراق

ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه. وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة، وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته. فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده؟! وقد طعن فيه أئمة اللغة.

وذكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه " الإفصاح " قال: سئل الخليل هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا ما لا تعرفه العرب، ولا هو جائز في لغتها.

2 -

أنه روي عن جماعة من أهل اللغة أنهم قالوا: لا يجوز استوى بمعنى استولى إلا في حق من كان عاجزا ثم ظهر، والله تعالى لا يعجزه شيء والعرش لا يغالبه في حال، فامتنع أن يكون بمعنى استولى.

وقالوا: لا يكون استوى بمعنى استولى إلا فيما كان منازعا مغالبا، فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل استولى. والله لم ينازعه أحد في العرش.

3 -

إن معنى هذه الكلمة مشهور، ولهذا لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك عن قوله:(الرحمن على العرش استوى) قالا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ولا يريد أن: الاستواء معلوم في اللغة دون الآية؛ لأن السؤال عن الاستواء في الآية كما يستوي الناس.

4 -

إن هذا التفسير لم يفسره أحد من السلف من سائر المسلمين من الصحابة والتابعين فإنه لم يفسره أحد من الكتب الصحيحة عنهم. بل أول من قال ذلك: بعض الجهمية والمعتزلة.

5 -

الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك، هو عام في المخلوقات كالربوبية والعرش، وإن كان أعظم المخلوقات، ونسبة الربوبية إليه لا تنفي نسبتها إلى غيره، كما في قوله تعالى:(قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم)، [المؤمنون: 86]. وكما في دعاء الكرب.

فلو كان استوى بمعنى استولى - كما هو عام في الموجودات كلها- لجاز من إضافته إلى العرش أن يقال: استوى على السماء، وعلى الهواء، والبحار والأرض، وعليها ودونها ونحوها، إذ هو مستو على العرش.

فلما اتفق المسلمون على أنه يقال: استوى على العرش ولا يقال: استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال: استولى على العرش والأشياء، علم أن معنى استوى خاص بالعرش ليس عاما كعموم الأشياء.

وانظر" شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " اللالكائي (3/ 399) و" العلو" للذهبي ص 133 والأسماء والصفات للبيهقي ص 405 - 415.

ص: 248

وأول النزول بالرحمة (1)، وهكذا جعل التأويل علة مطردة في سائر نصوص الصفات

(1) قال ابن تيمية في " شرح حديث النزول "(ص 144 - 148): وإن تأول ذلك بنزول رحمته أو غير ذلك. قيل له: الرحمة التي تثبتها: إما أن تكون عينا قائمة بنفسها، وإما أن تكون صفة قائمة في غيرها.

فإن كانت عينا وقد نزلت إلى السماء الدنيا: لم يمكن أن نقول: من يدعوني فأستجب له، كما لا يمكن الملك أن يقول ذلك.

وإن كانت صفة من الصفات: فهي لا تقوم بنفسها بل: لا بد لها من محل، ثم لا يمكن الصفة أن تقول هذا الكلام ولا محلها، ثم إذا نزلت الرحمة إلى السماء الدنيا ولم تنزل إلينا فأي منفعة لنا في ذلك؟.

وإن قال: بل الرحمة ما ينزله على قلوب قوام الليل في تلك الساعة من حلاوة المناجاة والعبادة وطيب الدعاء والمعرفة، وما يحصل في القلوب من مزيد المعرفة بالله والإيمان به. وذكره تجلية لقلوب أوليائه، فإن هذا أمر معروف يعرفه قوام الليل.

قيل له: حصول هذا في القلوب حق، ولكن هذا ينزل إلى الأرض إلى قلوب عباده، لا يزل إلى السماء الدنيا، ولا يصعد بعد نزوله، وهذا الذي يوجد في القلوب يبقى بعد طلوع الفجر، لكن هذا النور والبركة والرحمة التي في القلوب هي من آثار ما وصف به نفسه من نزوله بذاته سبحانه وتعالى.

كما وصف نفسه بالنزول عشية عرفة، في عدة أحاديث صحيحة، وبعضها في " صحيح مسلم " رقم (1348) ورقم (3014) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه عز وجل ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء ".

ص: 249

وغاص في ظلام العقل، بسبحه في الجهل والشبهات.

وإذا قيل له: أين الله؟ أجاب بأنه لا يقال: أين الله؟ الله لم يكن له مكان كما هو جواب فريقي المضلين.

فهل هذا جواب الجهميين (1) .... والمريسيين (2) أفيدونا بجواب رجاء الثواب {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (3).

(1) الجهمية: نسبة إلى جهم بن صفوان الضال المبتدع، تلميذ الجعد بن درهم أول من صدر عنه القول بخلق القرآن.

وهو الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وأنكر الاستطاعات كلها، وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وزعم أيضًا أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وأن الكفر هو الجهل به فقط وقال: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المحلوقين على المجاز. انظر: الفرق بين الفرق (ص211).

(2)

المريسيون: نسبة إلى بشر المريسي، وهو رأس من رءوس القائلين بخلق القرآن.

وقال الذهبي في الميزان (1/ 322): عن بشر هذا: مبتدع ضال، لا ينبغي أن يروى عنه، ولا كرامة

ولم يدرك الجهم بن صفوان، إنما أخذ مقالته، واحتج لها، ودعا إليها وقال أبو النضر هاشم بن القاسم: كان والد بشر المريسي يهوديا قصابا صباغا في سويقة نصر بن مالك

وقال قتيبة بن سعيد: بشر المريسي كافر. اهـ.

(3)

[النحل: 111]

ص: 250

فإن هذا المقام طال فيه النزاع، وحارت فيه الأفهام، وزلت الأقدام، وكل يدعي الصواب بزخرف الجواب، فأبينوا المدعى بالدليل، وبينوا طريق الحق بالتفصيل والتطويل، ضاعف الله لكم الأجور، ووقاكم الشرور، آمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهى.

وأقول: اعلم أن [1أ] الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله، وتشعبت أطرافه، وتباينت فيه المذاهب، وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت فيه النحل.

وسبب هذا: عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه، حتى تفرقوا فرقا، وتشعبوا شعبا، وصاروا أحزابا، وكانوا في البداية، ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة، مختلفي المقاصد، متبايني المطالب.

فطائفة: وهي أخف هذه الطوائف المكلفة علم ما لم يكلفها الله سبحانه بعلمه إثما، وأقلها عقوبة وجرما- وهي التي أرادت الوصول إلى الحق، والوقوف على الصواب، لكن سلكت في طلبه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى عقبة كئود لا يرجع من سلكها سالما، فضلا أن يظفر فيها بمطلوب صحيح.

ومع هذا، أصلوا أصولا ظنوها حقا، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة نبوية، واعتلوا في ذلك الدفع بشبه واهية، وخيالات مختلة.

وهؤلاء هم طائفتان:

الطائفة الأولى: هي الطائفة التي غلت في التنزيه، فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد، ويضطرب له القلب، من تعطيل (1) الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتا أوضح

(1) وهم نفاة الصفات، قال ابن تيمية في شرح حديث النزول ص 74 - 75: ولهذا كان السلف والأئمة يسمون نفاة الصفات: (معطلة)؛ لأن حقيقة قولهم: تعطل ذات الله تعالى، وإن كانوا هم قد لا يعلمون أن قولهم مستلزم للتعطيل، بل يصفونه بالوصفين المتناقضين، فيقولون: هو موجود قديم واجب، ثم ينفون لوازم وجوده فيكون حقيقة قولهم: موجود ليس بموجود حق ليس بحق، خالق ليس بخالق، فينفون عنه النقيضين إما تصريحا بنفيهما، وإما إمساكا عن الإخبار بواحد منهما.

فلا يقولون موجود ولا موجود، ولا حي ولا حي، ولا عالم ولا عالم قالوا؛ لأن وصفه بالإثبات تشبيه له بالموجودات، ووصفه بالنفي فيه تشبيه له بالمعدومات فآل بهم إغراقهم في نفى التشبيه إلى أن وضعوه بغاية التعطل.

ص: 251

من شمس النهار، وأظهر من فلق الصبح، وظنوا هذا من صنيعهم موافقا للحق، مطابقا لما يريده الله سبحانه، فضلوا الطريق المستقيم، وأضلوا من رام سلوكها.

والطائفة الأخرى: هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة غلوا بلغ إلى حد أنه لا تأثير لغيرها، ولا اعتبار بما سواها، وأفضى ذلك إلى الجبر المحض (1) والقسر الخالص

(1) الجبر: وهو القول بالجبر الذي يقول به الجبرية، وهم الذين ينفون قدرة العبد ومشيئته، وأوضح فرقة تمثل هذا الاتجاه الجهمية الذين يردون كل شيء إلى الله والعبد عندهم أشبه ما يكون بريشة في مهب الريح.

وقد أنكره السلف والأئمة، حيث توسل بذلك قوم إلى إسقاط الأمر والنهي والوعد والوعيد، وأنكر من أنكر منهم ما جعله الله تعالى من الأسباب حتى خرجوا عن الشرع والعقل، وقالوا: إن الله يحدث الشبع والري عند وجود الأكل والشرب لا بهما، ويحدث النبات عند نزول المطر لا به.

وهذا خلاف ما جاء به الكتاب والسنة قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57].

وكره السلف أن يقال (جبر) وأن يقال ما جبر.

قال الأوزاعي: "ما أعرف للجبر أصلا من القرآن والسنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلف والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما وصفت هذا مخافة أن يرتاب رجل من أهل الجماعة والتصديق ".

وروي عن الزبيدي عندما سئل عن (الجبر) قال: " أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبد على ما أحب ". انظر: بغية المرتاد (ص 261 - 263) وشرح حديث النزول (ص 252 - 253).

ص: 252

فلم يبق لبعثة الرسل، وإنزال الكتب كثير فائدة، ولا يعود ذلك على عباد لله بعائدة.

وجاءوا بتأويلات للآيات البينات، ومحاولات لحجج الله الواضحات، فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال، مع أن كلا المقصدين صحيح، ووجه كل منهما صبيح، لولا ما شابه من الغلو القبيح.

وطائفة توسطت، ورامت الجمع بين الضب (1) والنون (2)، وظنت أنها قد وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط.

(1) جمع بين الضب والنون.

الضب: حيوان معروف، جمعه ضباب، وكنيته أبو حسل، والحسل ولده.

والنون: الحوت، وجمعه نينان، وهذا مثل يضرب في الجمع بين أمرين متنافيين، والتأليف بين شيئين متخالفين.

لأن الضب حيوان بري لا يرد الماء ويلازم الصحراء وأكثر ما يكون في الكدى، كما قال خالد بن علقمة:

ترى الشر قد أفنى دوائر وجهه

كضب الكدى أفنى براثينه الحفر

لأن في طبعه النسيان وعدم الهدية ولذلك يحفر جحره عند صخرة أو في أكمة لئلا يضل عنه إذا خرج لطلب الطعام، لذلك يقال: أحير من ضب، ومن عجيب أمره أنه يعيش سبعمائة سنة ولا تسقط له سن وهو لا يشرب الماء. ويقال: إنه يبول كل أربعين يوما مرة.

ومن كلام العرب: لا أفعل ذلك حتى يرد الضب، كما يقولون: حتى يشيب الغراب.

ومن الكلام الموضوع على ألسنة العجماءات، قالت السمكة: رد يا ضب! فقال:

أصبح قدي صردا

لا يشتهي أن يردا

(2)

والنون حيوان بحري لا يفارق الماء أبدا فلا يجتمعان. قال الصابئ:

الضب والنون قد يرجى اجتماعهما

وليس يرجى اجتماع المال والأدب

ولما بين الضب والنون من التنافي والتقابل قال حاتم الأصم أو غيره:

وكيف أخاف الفقر والله رازقي

ورازق هذا الخلق في العسر واليسر

تكفل بالأرزاق للخلق كلهم

وللضب في البيدا وللحوت في البحر

ولوضوح ذلك يقال عند التجهيل: فلان لا يفرق بين الضب والنون. زهر الأكم في الأمثال والحكم، للحسن اليوسي (2/ 50 - 51) و (2/ 148).

ص: 253

ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل وتناضل، وتحقق وتدقق [1ب] في زعمها، وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت مما يوافق ما ذهبت إليه {كل حزب بما لديهم فرحون} (1)، وعند الله تلتقي الخصوم.

ومع هذا فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم. فكان غاية ما ظفروا به من هذه الأعلمية لطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز، وقالوا هنيئا للعامة.

فتدبر هذه الأعلمية التي كان حاصلها أن يهنئ من ظفر بها لأهل الجهل البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم، وممن يدين بدينهم، ويمشي على طريقتهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوت، ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها، الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه، ويتمنى عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلا به، عاطلا عنه!.

ففي هذا عبرة للمعتبرين، وآية بينة للناظرين، فهلا عملوا على جهل هذه المعارف التي دخلوا فيها بادئ بدء، وسلموا من تبعاتها، وأراحوا أنفسهم من تعبها، وقالوا كما قال القائل:

أرى الأمر يفضي إلى آخر

فصير آخره أولاً

وربحوا الخلوص من هذا التمني، والسلامة من هذه التهنئة للعامة، فإن العاقل لا يتمنى رتبة مثل رتبته، أو دونه، ولا يهنئ لمن هو مثله أو دونه، بل يكون ذلك لمن رتبته أرفع من رتبته، ومكانه أعلى من مكانه.

فيالله العجب من علم يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه، وأفضل مقدارا بالنسبة إليه! وهل سمع السامعون مثل هذه الغريبة، أو نقل الناقلون ما يماثلها ويشابهها؟!

وإذا كان هذا حال هذه الطائفة التي قد عرفناك أنها أخف الطوائف تكلفا، وأقلها تبعة، فما ظنك بما عداها من الطوائف التي قد ظهر فساد مقاصدها، وتبين بطلان

(1)[الروم: 32]

ص: 254

مواردها ومصادرها، كالطوائف التي أرادت بالمظاهر التي تظاهرت بها كياد الإسلام وأهله، والسعي في التشكيك فيه بإيراد الشبه وتقرير الأمور المفضية إلى القدح في الدين، وتنفير أهله عنه؟!.

وعند هذا تعلم أن خير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع، وأن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم [2أ]، ثم الذين يلونهم (1)، وقد كانوا رحمهم الله، وأرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم يمرون أدلة الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون ولا يحرفون ولا يؤلون.

وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم. ولا يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل. وإن نزغ من بينهم نازغ، أو نجم في عصرهم ناجم، أوضحوا للناس أمره، وبينوا لهم أنه على ضلالة، وصرحوا بذلك في المجامع والمحافل، وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لما ظهر معبد الجهني (2) وأصحابه.

(1) يشير إلى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته ".

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم في صحيحه رقم (2533) والترمذي رقم (3859) وقال: حديث حسن صحيح.

وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2534) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم" والله أعلم أذكر الثالث أم لا.

قال: " ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا ".

وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (2651) ومسلم في صحيحه رقم (2535) بلفظ " خيركم

".

وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2536) عن عائشة قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: "القرن الذي أنا فيه ثم الثاني، ثم الثالث".

(2)

يقال: هو ابن عبد الله بن عكيم ويقال: ابن عبد الله بن عويمر، ويقال ابن خالد. وكان رأسا في القدر، وهو أول من تكلم في القدر بالبصرة، قدم المدينة فأفسد بها أناسا وذكره أبو زرعة في الضعفاء ومن تكلم فيهم.

وقال الدارقطني: حديثه صالح ومذهبه رديء.

قال الأوزاعي: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق، يقال له سوس، كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد، وقال مرحوم بن عبد العزيز العطار عن أبيه وعمه: كان الحسن يقول: إياكم ومعبدا فإنه ضال مضل. مات بعد الثمانين وقبل التسعين.

انظر تهذيب التهذيب (10/ 203 - 204 رقم 416).

ص: 255

وقالوا: إن الأمر أنف (1) فتبرءوا منه، وبينوا ضلالته، وبطلان مقالته للناس، فحذروه إلا من ختم الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة.

وهكذا كان من بعدهم، يوضح للناس بطلان أقوال أهل الضلال، ويحذرهم منها، كما فعله التابعون- رحمهم الله بالجعد بن درهم (2)، ومن قال بقوله، وانتحل نحلته الباطلة

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 36 - 37 رقم 1/ 8) عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني. فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر. فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد. فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله. فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي. فقلت: أنا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفزون العلم. وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر. وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.

إنما الأمر أنف: أي مستأنف استئنافا من غير أن يكون سبق به سابق قضاء وتقدير، وإنما هو مقصور على اختيارك ودخولك فيه.

النهاية (1/ 75). ولسان العرب (1/ 238).

(2)

الجعد بن درهم، عداده في التابعين، مبتدع ضال. زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر، والقصة مشهورة.

" وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة ":

منها: أنه جعل قارورة ترابا وماء فاستحال دودا وهوام، فقال: أنا خلقت هذا لأنني كنت سبب كونه فبلغ ذلك جعفر بن محمد، فقال: ليقل كم هو- وكم الذكران منه والإناث- إن كان خلقه، وليأمر الذي يسعى إلى هذا أن يرجع إلى غيره، فبلغه ذلك فرجع " اهـ.

ولما ظهر قول الجعد بخلق القرآن تطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه ولم يكن له كثير أتباع غيره.

ثم يسر الله تعالى قتل الجعد على يد خالد بن عبد الله القسري الأمير، قتله يوم عيد الأضحى بالكوفة، وذلك لأن خالدا خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.

أخرجه البخاري في " خلق أفعال العباد " رقم (3) و" التاريخ الكبير "(1/ 64) والدارمي في الرد على الجهمية. ص7، 13 وفي " الرد على المريسي " ص 118. والبيهقي في الأسماء والصفات ص 254، وفي "السنن الكبرى" (10/ 205 - 206) والآجري في الشريعة (ص 97، 328).

وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن حبيب.

وقال الألباني في " مختصر العلو ": لكنه يتقوى بالذي بعده، فإن إسناد خبر منه ولعله لذلك جزم العلماء بهذه القصة.

انظر البداية والنهاية لابن كثير (9/ 364 - 365). الميزان (1/ 399 رقم 1482) ولسان الميزان (2/ 105).

ص: 256

ثم ما زالوا هكذا لا يستطيع المبتدع في الصفات أن يتظاهر ببدعته، بل يكتمونها كما تتكتم الزنادقة (1) بكفرهم، وهكذا سائر المبتدعين في الدين، على اختلاف البدع وتفاوت المقالات الباطلة.

ولكنا نقتصر هاهنا على الكلام في هذه المسألة التي ورد السؤال عنها، وهى مسألة

(1) ورد في كتاب " جامع العلوم في اصطلاحات الفنون "(2/ 157) ما يلي: الزندقة ألا يؤمن بالآخرة ووحدانية الخالق

وعن ثعلب أن الزند معناه: الملحد والدهري، وعن ابن دريد: أنه فارسي معرب، وأصله زنده وهو من يقول بدوام الدهر.

وفي " شرح المقاصد ": وإن كان باعترافه بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار شعائر الإسلام يبطن العقائد التي هي كفر بالاتفاق خص باسم الزنديق وهو في الأصل منسوب إلى " زند " اسم كتاب أظهره مزدك في أيام " قباذ " وزعم أنه تأويل كتاب المجوس الذي جاء به زرادشت، يزعمون أنه نبيهم.

انظر كتاب " من تاريخ الإلحاد في الإسلام " عبد الرحمن بدوي ص 35.

ص: 257

الصفات، وما كان من المتكلمين فيها بغير الحق، المتكلف علم ما لم يأذن الله بأن يعلموه، وبيان أن إمرار أدلة الصفات على ظاهرها هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأن كل من أراد من نزاع المتكلفين، وشذاذ المحدثين، والمتأولين أن يظهر ما يخالف المرور على ذلك الظاهر، قاموا عليه، وحذروا الناس منه، وبينوا لهم أنه على خلاف ما عليه أهل الإسلام.

فصار المبتدعون في الصفات، القائلون بأقوال تخالف ما عليه السواد الأعظم من الصحابة والتابعين وتابعيهم في خبايا وزوايا لا يتصل بهم إلا مغرور، ولا ينخدع بزخارف أقوالهم إلا مخدوع، وهم مع ذلك على تخوف من أهل الإسلام، وترقب لتزول مكروه بهم من حماة الدين، من العلماء الهادين، والرؤساء والسلاطين، حتى نجم ناجم المحنة، وبرق بارق الشر من جهة الدولة (1)، ومن لهم في الأمر والنهي والإصدار والإيراد أعظم صولة، وذلك في الدولة بسبب قاضيها أحمد بن أبي دؤاد (2).

(1) في عهد الدولة العباسية كانت محنة القول بخلق القرآن، التي ثبت فيها علماء الأمة أمام زخم البدعة فأيد الله بهم هذا الدين.

انظر: " مناقب الإمام أحمد بن حنبل " للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ص 387 - 420.

(2)

أحمد بن أبي دؤاد بن جرير، أبو عبد الله القاضي الأيادي. يقال إن اسم أبي دؤاد: الفرج

والصحيح أن اسمه كنيته. ولي ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم، ثم للواثق، وكان موصوفا بالجود والسخاء، وحسن الخلق، ووفور الأدب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على الامتحان بخلق القرآن.

قال الحسن بن ثواب: قال: سألت أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق؟ قال: كافر. قلت: فابن دؤاد؟ قال كافر بالله العظيم. قلت. بماذا كفر؟ قال: بكتاب الله تعالى، قال الله تعالى:(ولئن اتبعت أهواءكم بعد الذي جاءك من العلم) فالقرآن من علم الله، فمن زعم أن علم الله مخلوق فهو كافر بالله العظيم.

وقال عبد العزيز بن يحيى المكي: دخلت على أحمد بن دؤاد وهو مفلوج، فقلت: إني لم آتك عائدا، ولكن جئت أحمد الله على أنه سجنك في جلدك.

ولد أحمد بن أبي دؤاد سنة ستين ومائة بالبصرة، ومات في المحرم سنة أربعين ومائتين يوم السبت لسبع بقين منه، ودفن في داره ببغداد وصلى عليه ابنه العباس.

انظر: تاريخ بغداد (4/ 141 - 156 رقم 1825).

ص: 258

فعند ذلك أطلع المنكمشون [2ب] في تلك الزوايا رءوسهم، وانطلق ما كان قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا بمذاهبهم الزائفة، وبدعهم المضلة، ودعوا الناس إليها، وجادلوا عنها، وناضلوا المخالفين لها حتى اختلط المعروف بالمنكر، واشتبه على العامة الحق بالباطل، والسنة بالبدعة.

ولما كان الله سبحانه قد تكفل بإظهار دينه على الدين كله (1)، وبحفظه عن التحريف (2)، والتغيير والتبديل، أوجد من علماء الكتاب والسنة في كل عصر من العصور من يبين للناس دينهم، وينكر على أهل البدع بدعهم، فكان لهم- ولله الحمد- المقامات المحمودة، والمواقف المشهودة في نصر الدين، وهتك المبتدعين.

وبهذا الكلام القليل الذي ذكرنا، وتعرف أن مذهب السلف (3) من الصحابة [رضي الله عنهم]

(1) قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)[التوبة: 33].

(2)

قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[الحجر: 9]

(3)

يقوم على دعائم أربع:

1 -

) الإثبات المفصل المجمل لكل صفة كما ورد بها النص، فيتحقق بهذا قوله تعالى:(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)[الأعراف: 180] وقوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى)[الإسراء: 110].

وقد تضمنت هذه الدعامة الإيمان بكل صفة لله تعالى كما وردت في الكتاب والسنة.

2 -

) الدعامة الثانية: التنزيه، وعدم التكييف والتشبيه. فيتحقق بهذا قوله تعالى:(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)[الشورى: 11].

وقوله تعالى: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون)[الصافات: 180] ولذلك تضمنت هذه الدعامة تنزيه صفات الرب تعالى عن مشابهة صفات خلقه.

3 -

) الدعامة الثالثة: عدم التأويل المفضي إلى التعطيل. فيتحقق بهذا قوله تعالى: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأعراف: 180].

والتعطيل: إلحاد في أسماء الله وصفاته.

وقد تضمنت هذه الدعامة إثبات كل صفة على الحقيقة كما ورد بها النص من غير صرف له إلى معنى آخر غير ظاهر.

4 -

) الدعامة الرابعة: العلم بالله تعالى والمعرفة به من خلال صفاته فيتحقق بهذا قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص:29].

وقد تضمنت هذه الدعامة أن السلف كانوا يعلمون معاني الصفات ويفرقون بينها بحسب ما دلت عليه مما تعرفه العرب من لسانها فالعلم غير الحياة، والإتيان غير الاستواء على العرش، واليد غير الوجه، وهكذا سائر الصفات.

انظر: "الرسالة في اعتقاد أهل السنة " ص 3 - 4 و" مجموع الفتاوى "(6/ 518).

ص: 259

والتابعين وتابعيهم هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل. وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات تلوا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال والقيل، وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك، ولا نتكفف، ولا نتكلم بما لم نعلمه (1)، ولا أذن الله لنا بمجاوزته، فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه، ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه إلا بالوقوع في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه، وما حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظه

(1) كان السلف أبعد الناس عن الخوض فيما لم يحيطوا به علما مما أخبر الله تعالى عنه من الغيب، فكما أنهم لم يكونوا يحيطون بذات الله علما، يكونوا يحيطون بصفاته علما؛ إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات إلا أن صفاته كانت دليل المعرفة به، ولا تصلح أن تكون كذلك وهي من المتشابه الذي ليس للعباد أن يعلموا حقيقته، وإنما كانت معلومة المعاني عندهم مجهولة الكيف، كما أن ذاته تعالى معلومة عندهم بصفاته، مجهولة الكيف، وهذا معنى إمرار الصفات كما جاءت.

انظر: "الرسالة في اعتقاد أهل السنة " ص 4.

ص: 260

التابعون عن الصحابة، وحفظه من بعد التابعين عن التابعين. وكان في هذه القرون الفاضلة الكلمة في الصفات متحددة، والطريقة لهم جميعا متفقة، وكان اشتغالهم بما أمرهم الله بالاشتغال به وكلفهم القيام بفرائضه من الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وإنفاق الأموال في أنواع البر، وطلب العلم النافع، وإرشاد الناس إلى الخير على اختلاف أنواعه، والمحافظة على موجبات الفوز بالجنة، والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة، وبما تبلغ إليه القدوة، ولم يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه، ولا تعبدهم بالوقوف على حقيقته.

فكان الدين إذ ذاك صافيا عن كدر البدع، خالصا عن شوب قذر التمذهب، فعلى هذا النمط كان الصحابة-رضي الله عنه والتابعون وتابعوهم، وبهدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم[3 أ] اهتدوا، وبأفعاله وأقواله اقتدوا.

فمن قال: إنهم تلبسوا بشيء من هذه المذاهب الناشئة في الصفات أو غيرها، فقد أعظم عليهم الفرية، وليس بمقبول في ذلك، فإن أقوال الأئمة المطلعين على أحوالهم، العارفين بها، الآخذين عن الثقات الأثبات، يرد عليه، ويدفع في وجهه، يعلم ذلك كل من له علم، ويعرفه كل عارف.

فاشدد يديك على هذا، واعلم أنه مذهب خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (1)، ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في الصفات

(1) تقدم تخريج الحديث بذكر" القرون الثلاثة" أما زيادة قرن رابع فقد أخرجها أحمد في " المسند "(4/ 267) من طريق شيبان، عن عاصم، عن خيثمة والشعبي عن النعمان بن بشير فذكره.

وأخرجها أحمد (4/ 267) من طريق حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن النعمان بن بشير، فذكره.

وأخرجها أحمد في المسند (4/ 277 - 278) من طريق أبي بكر عن عاصم، عن خيثمة عن النعمان بن بشير، فذكره.

وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 19) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، وفي طرقهم عاصم بن بهدلة وهو حسن الحديث، وبقية رجاله رجال أحمد رجال الصحيح. اهـ.

وأخرجها ابن حبان في الثقات (8/ 1) من طريق حماد بن سلمة، عن الجريري عن أبي نضرة عن عبد الله بن مولة عن بريدة الأسلمي وذكره.

وقال ابن حبان: هذه الفظة: "ثم الذين يلونهم" في الرلبعة تفرد بها حماد بن سلمة وهو ثقة مأمون وزيادة الألفاظ عندنا مقبولة عن الثقات، إذ جائز أن يحضر جماعة شيخا في سماع شيء ثم يخفى على أحدهم بعض الشيء ويحفظه من هو مثله أو دونه في الإتقان كما بيناه في غير موضع من كتبنا. اهـ.

والخلاصة أن الحديث صحيح بهذه الزيادة والله أعلم.

ص: 261

وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون، واصطلحوا عليها، وجعلوها أصلا يرد إليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وافقها فقد وافقا الأصول المتقررة في زعمهم، وإن خالفا الأصول المتقررة في زعمهم، ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم، والمخالف لها من قسم المردود والمتشابه، ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة، ظاهرة المعنى، أو ألف حديث مما ثبت في الصحيح لم يبالوا به، ولا رفعوا إليه رءوسهم، ولا عدوه شيئا.

ومن كان منكرا لهذا، فعليه بكتب هذه الطوائف المصنفة في علم الكلام، فإنه سيقف على الحقيقة، ويسلم هذه الجملة، ولا يتردد فيها.

ومن العجب العجيب والنبأ الغريب أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة من أهل الكلام، التي جعلها من بعدهم أصولا- لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل، والفرية على الفطرة، وكل فرد من أفرادها قد تنازعت فيه عقولهم، وتخالفت عنده إدراكاتهم، فهذا يقول: حكم العقل في هذا الكلام كذا، وهذا يقول: حكم العقل في هذا كذا، ثم يأتي بعدهم من يجعل ذلك الذي يعقله من تقلده ويقتدي به، أصلا يرجع إليه، ومعيارا لكلام الله [تعالى] وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل منهما ما وافقه

ص: 262

ويرد ما خالفه.

فيا لله، ويا للمسلمين، ويا لعلماء الدين من هذه الفواقر [3ب] الموحشة التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها.

وأعزب من هذا وأعجب، وأشنع وأفظع أنهم بعد أن جعلوا هذه التعقلات التي تعقلوها، على اختلافهم فيها وتناقضهم في معقولاتها، أصولا ترد إليها أدلة الكتاب والسنة، جعلوها أيضًا معيارا لصفات الرب تعالى، فما تعقله هذا من صفات الله قال به جزما، وما تعقله خصمه منها قطع به، فأثبتوا لله- عز وجل الشيء ونقيضه، استدلالا بما حكمت به في صفات الله عقولهم الفاسدة، وتناقضت في شأنه، ولم يلتفتوا إلى ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله [صلى الله عليه وسلم]، بل إن وجدوا ذلك موافقا لما تعقلوه جعلوه مؤيدا له ومقويا، وقالوا: قد ورد دليل السمع مطابقا لدليل العقل. وإن وجدوه مخالفا لما تعقلوه جعلوه واردا على خلاف الأصل، ومتشابها وغير معقول المعنى، ولا ظاهر الدلالة.

ثم قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه، وجعل ذلك أصلا يرد إليه أدلة الكتاب والسنة، وجعل المتشابه عند أولئك محكما عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقا له عنده، فكان حاصل كلام هؤلاء أنهم يعلمون من صفات الله ما لا يعلمه، وكفاك بهذا، وليس بعده شيء، وعنده يتعثر القلم حياء من الله- عز وجل.

وربما استبعد هذا مستبعد، واستكثره مستكثر، وقال: إن في كلامي هذا مبالغة وتهويلا وتشنيعا وتطويلا، وإن الأمر أيسر من أن يكون حاصله هذا الحاصل، وثمرته مثل هذه الثمرة التي أشرت إليها.

فأقول: خذ جملة البلوى، ودع تفصيلها، واسمع ما يصك سمعك، ولولا هذا الإلحاح منك ما سمعته، ولا جرى القلم بمثله.

ص: 263

هذا أبو علي (1)، وهو رأس من رءوسهم، وركن من أركانهم، وأسطوانة من أساطينهم، قد حكى عنه الكبار، آخر من حكى عنه ذلك صاحب شرح القلائد (2) والله لا يعلم الله من نفسه إلا ما يعلم هو.

فخذ هذا التصريح حيث لم تكتف بذلك التلويح، وانظر هذه الجرأة على الله [سبحانه](3) التي ليس بعدها جرأة، فيا لأم أبي علي الويل، أينهق مثل هذا النهيق ويدخل نفسه إلى هذا المضيق!؟ وهل سمع السامعون بيمين أفجر من هذه اليمين الملعونة؟ أو نقل الناقلون عن مسلم كلمة تقارب معنى [4أ] هذه الكلمة المفتونة؟ أو بلغ مفتخر إلى ما بلغ إليه هذا المختال الفخور؟ أو وصل من يفجر في أيمانه إلى ما يقارب هذا الفجور؟

وكل عاقل يعلم أن أحدنا لو حلف أن ابنه أو أباه لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو لكان كاذبا في يمينه، فاجرا فيها؛ لأن كل فرد من أفراد الناس ينطوي على صفات وغرائز لا يحب أن يطلع عليها غيره، ويكره أن يقف على شيء منها سواه، ومن ذا الذي يدري بما يجول في خاطر غيره! ويستكن في ضميره، ومن ادعى علم ذلك، وأنه يعلم من غيره من بني آدم ما يعلمه ذلك الغير من نفسه، ولا يعلم ذلك الغير من

(1) هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي، من أئمة المعتزلة. ورئيس علماء الكلام في عصره، وإليه نسبة الطائفة " الجبائية " له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب. نسبته إلى جبي (من قرى البصرة) اشتهر في البصرة، ودفن بجبي. له " تفسير " حافل مطول، رد عليه الأشعري.

ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين. ومات سنة ثلاث وثلاثمائة.

الأعلام للزركلي (6/ 256) واللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير (1/ 255 - 256).

(2)

اسم الكتاب" الدرر الفرائد شرح القلائد " للإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى الذي ولد بمدينة ذمار يوم الاثنين لعله سابع شهر رجب سنة 775هـ قرأ علم العربية حتى برع فيها، ثم أخذ علم الكلام، ونهل من علم الفقه، ودرس الكشاف، وتبحر في العلوم واشتهر فضله، وبعد صيته، وله مؤلفات عديدة. وقد توفي في شهر ذي القعدة سنة 840 هـ وقبره بظفير حجة مشهور.

البدر الطالع (1/ 122 - 126 رقم 77).

(3)

زيادة يستلزمها السياق.

ص: 264

نفسه إلا ما يعلمه هذا المدعي، فهو إما مصاب العقل، يهذي بما لا يدري، ويتكلم بما لا يفهم، أو كاذب شديد الكذب، عظيم الافتراء، فإن هذا أمر لا يعلمه غير الله - سبحانه-، فهو الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما توسوس به نفسه، وما يسر عباده وما يعلنون، وما يظهرون وما يكتمون كما أخبرنا بذلك في كتابه (1) العزيز في غير موضع.

فقد خاب وخسر من أثبت لنفسه من العلم ما لا يعلمه إلا الله من عباده، فما ظنك بمن جاوز هذا وتعداه، وأقسم بالله [سبحانه] أن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو؟! ولا يصح لنا أن نحمله على اختلال العقل، فلو كان مجنونا لم يكن رأسا يقتدي بقوله جماعات من أهل عصره، وممن جاء بعده وينقلون كلامه في الدفاتر، ويحكون عنه في مقامات الاختلاف.

ولعل أتباع هذا ومن يقتدي بمذهبه لو قال لهم قائل وأورد عليهم مورد قول الله عز وجل {ولا يحيطون به علما} (2)، وقوله:{ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} (3)، وقال لهم: هذا يرد ما قاله صاحبهم، ويدل على أن يمينه هذه فاجرة مفتراة، لقالوا: هذا ونحوه مما يدل دلالته، ويفيد مفاده، هو من المتشابه

(1)(منها): قوله تعالى:

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)[ق:16].

وقوله تعالى: (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)[البقرة: 77].

وقوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ)[الأنعام: 3].

وقوله تعالى: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)[طه: 7].

(2)

[طه: 110]

(3)

[البقرة: 255]

ص: 265

الوارد على خلاف دليل العقل، المدفوع بالأصول المقررة.

وبالجملة، فإطالة ذيول الكلام في مثل هذا المقام إضاعة للأوقات، واشتغال بحكاية الخرافات المبكيات، لا المضحكات. وليس مقصودنا هاهنا إلا إرشاد السائل إلى أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من غير تأويل، ولا تحريف، ولا تكلف، ولا تعسف، ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل [4ب] وأن ذلك هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم.

فإن قلت: ماذا تريد بالتعطيل في مثل هذه العبارات التي تكررها؟ فإن أهل المذاهب الإسلامية يتنزهون عن ذلك، ويتحاشون عنه، ولا يصدق معناه، ولا يوجد مدلوله إلا في طائفة من طوائف الكفار، وهم المنكرون للصانع؟.

قلت: يا هذا، إن كنت ممن له إلمام بعلم الكلام الذي اصطلح عليه طوائف من أهل الإسلام، فإنه لا محالة قد رأيت ما يقوله كثير منهم، ويذكرونه في مؤلفاتهم، ويحكونه عن أكابرهم، أن الله- سبحانه وتعالى، وتنزه وتقدس- لا هو جسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا داخل العالم ولا خارجه (1).

فأنشدك الله، أي عبارة تبلغ مبلغ هذه العبارة في النفي؟! وأي مبالغة في الدلالة على هذا النفي تقوم مقام هذه المبالغة؟!

فكأن هؤلاء في فرارهم من شبهة التشبيه إلى هذا التعطيل كما قال القائل:

فكنت كالساعي إلى مثعب

موائلا من سبل الراعد (2)

أو كالمستجير من الرمضاء (3) بالنار، والهارب من لسعة الزنبور إلى لدغة الحية، ومن

(1) انظر رد ابن تيمية على هؤلاء في منهاج السنة (2/ 130 - وما بعدها). الأسماء والصفات (1/ 38 - 40) لابن تيمية وتلبيس الجهمية (1/ 89).

(2)

المثعب: مسيل الماء في الوادي. الموائل: طالب النجاة. وهو مثل يضرب لمن يهرب من الشيء فيقع بما هو أشد منه.

(3)

يضرب في الخلتين من الإساءة تجتمعان على الرجل.

ص: 266

قرصة النملة إلى قضمة الأسد.

وقد كان يغني هؤلاء وأمثالهم من المتكلمين المتكلفين كلمتان من كتاب الله عز وجل، وصف بهما نفسه، وأنزلهما على رسوله وهما:{ولا يحيطون به علما} (1) و {ليس كمثله شيء} (2). فإن هاتين الكلمتين قد اشتملتا على فصل الخطاب، وتضمنتا بما يغني أولي الألباب السالكين في تلك الشعاب والهضاب، الصاعدين في متوعدات هاتيك العقاب، فالكلمة منها دلت دلالة بينة على أن كل ما تكلم به البشر في ذات الله وصفاته على وجه التدقيق، ودعاوى التحقيق فهو مشوب بشعبة من شعب الجهل، مخلوط بخلوط هي منافية للعلم، ومباينة له. فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم لا يحيطون به علما، فمن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا فلا شك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة، وقد نفيت عن كل فرد؛ لأن هذه القضية هي في قوة لا يحيط به فرد من الأفراد علما.

فكل قول من أقوال المتكلفين صادر عن جهل، إما من كل وجه أو من بعض الوجوه، وما صدر عن جهل فهو مضاف إلى جهل، ولا سيما إذا كان في ذات الله [5أ] وصفاته، فإن ذلك من المخاطرة في الدين ما لم يكن في غيره من المسائل، وهذا يعلمه كل ذي علم، ويعرفه كل عارف.

ولم يحط بفائدة هذه الآية، ويقف عندها، ويقتطف من ثمراتها إلا الممرون للصفات على ظاهرها، المريحون أنفسهم من التكلفات والتعسفات التأويلات والتحريفات، وهم السلف الصالح-كما عرفت- فهم الذين اعترفوا بالإحاطة، وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله، وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاته، بل العلم كله له، وقالوا كما قال من

(1)[طه: 110]

(2)

[الشورى: 11]

ص: 267

قال (1) ممن اشتغل بطلب هذا المحال، فلم يظفر بغير القيل والقال:

العلم للرحمن جل جلاله

وسواه في جهلاته يتغمغم

ما للتراب وللعلوم وإنما

يسعى ليعلم أنه لا يعلم

بل اعترف كثير من هؤلاء المتكلفين بأنه لم يستفد من تكلفه وعدم قنوعه بما قنع به السلف الصالح إلا بمجرد الحيرة التي وجد عليها غيره من المتكلفين فقال: (2)

(1) فخر الدين الرازي محمد بن عمر القرشي المتوفى 606 هـ فقد سطر في آخر عمره اعترافه بفساد علم الكلام وبطلانه فقال: " لقد تأملتُ الطرقَ الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات:(الرحمن على العرش استوى)[طه: 5] و (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)[فاطر: 10] وأقرأ في النفي: (ليس كمثله شيء)[الشورى: 11](ولا يحيطون به علما)[طه: 110](هل تعلم له سميا)[مريم: 65].

من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وأنشد:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وقال: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز.

انظر: درء التعارض (1/ 660)، الحموية (ص 207 - 208) البداية والنهاية (13/ 56)، منهاج السنة (5/ 271).

(2)

وهو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548 هـ أو 549 هـ فقد ورد عنه أنه قال: " عليكم بدين العجائز فهو من أسنى الجوائز ".

وأخبر عما انتهى إليه أمر هؤلاء الفلاسفة والمتكلمين من الحيرة، والندم وقد كان منهم ثم أنشد:

لقد طفت في تلك المعاهد

وقد رد عليه الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى بقوله:

لعلك أهملت الطواف بمعهد

الرسول ومن والاه من كل عالم

فما حار من يهدي بهدي محمد

ولست تراه قارعا سن نادم

انظر: ديوان الإمام الصنعاني ص369، وانظر: ترجمة أبو الفتح وكلامه، درء التعارض (1/ 159) منهاج السنة (5/ 270) الفتوى الحموية ص 7.

ص: 268

وقد طفت في تلك المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم (1)

وها أنا أخبرك عن نفسي، وأوضح لك ما وقعت فيه في أمسي، فإني في أيام الطلب، وعنفوان الشباب شغلت بهذا العلم الذي سموه تارة علم الكلام، وتارة علم التوحيد، وتارة علم أصول الدين، وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم، ورمت الرجوع بفائدة، والعود بعائدة، فلم أظفر من ذلك بغير الخيبة والحيرة، وكان ذلك من الأسباب التي حببت إلي مذهب السلف، على أني كنت قبل ذلك عليه، ولكن أردت أن أزداد فيه بصيرة، وبه شغفا، وقلت عند النظر في تلك المذاهب:

وغاية ما حصلته من مباحثي

ومن نظري من بعد طول التدبر

هو الوقف ما بين الطريقين حيرة

فما علم من لم يلق غير التحير

على أنني قد خضت منه غماره

وما قنعت نفسي بدون التبحر [5ب](2).

وأما الكلمة الثانية، وهي {ليس كمثله شيء} (3) فبها يستفاد نفي المماثلة في كل شيء، فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة، ويعرف بها الكلام عند وصفه سبحانه بالسميع والبصير، وعند ذكر السمع والبصر واليد والاستواء ونحو ذلك مما اشتمل عليه الكتاب والسنة، فيقرر بذلك الإثبات لتلك الصفات لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فيندفع به جانبي الإفراط والتفريط، وهما المبالغة في الإثبات، المفضية إلى التجسيم، والمبالغة في النفي المفضية إلى التعطيل، فيخرج من بين الجانبين وغلو الطرفين

(1) وقد نسب ابن خلكان هذه الأبيات لابن سينا كما في ديوان الصنعاني ص 369. وهى في نهاية الأقدام ص3 للشهرستاني.

(2)

للشوكاني في ديوانه ص189.

(3)

[الشورى: 11]

ص: 269

أحقية مذهب السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبته لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه إلا هو، فإنه القائل:{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (1). ومن جملة الصفات التي أمَرَّهَا السلف على ظاهرها، وأجروها على ما جاء به القرآن والسنة من دون تكليف ولا تأويل: صفة الاستواء التي ذكرها السائل، فإنهم يقولون: نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه من استوائه على عرشه، على هيئة لا يعلمها إلا هو، وفي كيفية لا يدري بها سواه، ولا نكلف أنفسنا غير هذا، فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا يحيط عباده به علما.

وهكذا يقولون في مسألة الجهة التي ذكرها السائل، وأشار إلى بعض ما فيه دليل عليها، والأدلة في ذلك طويلة كثيرة في الكتاب والسنة. وقد أجمع أهل العلم منها لا سيما أهل الحديث مباحث طولوها بذكر آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة.

وقد وقفت من ذلك على مؤلف (2) بسيط في مجلد جمعه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي (3) رحمه الله استوفى فيه كل ما فيه دلالة على الجهة من كتاب، أو سنة

(1)[الشورى: 11]

(2)

وهو كتاب " العلو للعلي الغفار " للذهبي.

وقد اختصره المحدث الألباني مقتصرا على الصحيح منه.

ومثله: كتاب" إثبات صفة العلو" للإمام أبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي. كتاب "علو الله على خلقه " للدكتور موسى بن سليمان الدويش.

(3)

هو الإمام الحافظ، مؤرخ الإسلام: شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الفارقي الشافعي الدمشقي الشهير بالذهبي.

ولد في شهر ربيع الآخر سنة 673 هـ في قرية كفر بطنا في غوطة دمشق، ونشأ الذهبي في أسرة علمية متدينة اعتنت بإرساله إلى مشايخ دمشق المشهورين، وقد توجه اهتمامه إلى علم القراءات والحديث، ووصل إلى مصر والشام وزار أكثر المدن لتلقي العلم حتى ضرب بعلمه المثل.

تولى الذهبي عدة وظائف علمية في دمشق شملت الخطابة والتدريس والمشيخة في كبريات دور الحديث ولم تشغله هذه الوظائف عن البحث والتأليف، بل ترك ثروة علمية عظيمة من أهمها:

تاريخ الإسلام الكبير ويقع في تسعة وأربعين مجلدا، وسير أعلام النبلاء ويقع في (25) مجلدا، وميزان الاعتدال ويقع في (4) مجلدات.

توفي في ليلة الاثنين (3) ذو القعدة سنة 748 هـ ودفن بمقابر باب الصغير بدمشق.

الأعلام للزركلي

(5/ 326).

ص: 270

أو قول صاحب.

والمسألة أوضح من أن تلتبس على عارف، وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل، ولكنها لما وقعت فيها تلك القلاقل والزلازل الكائنة بين بعض الطوائف الإسلامية كثر الكلام فيها، وفي مسألة الاستواء، وطال خصوصا بين الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب، فلهم في ذلك تلك الفتن الكبرى والملاحم العظمى، وما زالوا هكذا في عصر بعد عصر.

والحق هو ما عرفناك من مذهب [6أ] السلف الصالح، فالاستواء على العرش والكون في تلك الجهة قد صرح به القرآن الكريم في مواطن يكثر حصرها، ويطول نشرها وكذلك صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث (1)، بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد المسلمين في نفسه، ويحسه في فطرته، وتجذبه إليه طبيعته كما تراه في كل من استغاث بالله سبحانه وتعالى، والتجأ إليه، ووجه أدعيته إلى جنابه الرفيع، وعزه المنيع، فإنه يشير عند ذلك بكفه، أو يرمي إلى السماء بطرفه، ويستوي في ذلك عند عروض أسباب الدعاء، وحدوث بواعث الاستغاثة، ووجود مقتضيات الإزعاج، وظهور دواعي (2).

(1) تقدم في حديثه الجارية. وحديث أبي سعيد الخدري.

(2)

لعله يشير المؤلف رحمه الله إلى الأيدي وظهور دواعي الالتجاء، كما في حديث أنس أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فقال: يا رسول الله هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه

أخرجه البخاري رقم (1013) ومسلم رقم (897).

وقد ورد في رفع اليدين في الدعاء أكثر من مائة حديث في وقائع متفرقة. انظر الصحيحة رقم (2941).

ص: 271

الالتجاء- عالم الناس وجاهلهم، والماشي على طريقة السلف والمقتدي بأهل التأويل، القائلين بأن الاستواء هو الاستيلاء (1) - كما قاله جمهور المتأولين، أو الإقبال (2). -كما قاله أحمد بن يحيى (3) ثعلب. . .، والزجاج (4) والفراء (5) وغيرهم، أو كناية عن

(1) تقدم التعليق على ذلك.

(2)

قال ابن كثير في تفسيره (1/ 213): (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، أي: قصد إلى السماء والاستواء هاهنا تضمن معنى القصد والإقبال.

(3)

هو أحمد بن يحيى بن يسار الشيباني مولاهم الإمام البغدادي أبو العباس ثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، ولد سنة 200 هـ، وابتدأ النظر في العربية والشعر واللغة وسنه ستة عشرة، وحفظ كتب الفراء فلم يشذ منها حرف، وعني بالنحو أكثر من غيره، فلما أتقنه أكبّ على الشعر والمعاني والغريب.

من مصنفاته: المصون في النحو، واختلاف النحويين، ومعاني القرآن.

وثقل سمعه بآخره، ثم صم، وتوفي يوم السبت لعشر خلون من جمادى الأولى سنة 291 هـ.

بغية الوعاة للسيوطي (1/ 396 رقم 787).

(4)

هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري، عالم بالنحو واللغة، كان من أهل الفضل والدين، حسن الاعتقاد، وكان في فتوته يخرط الزجاج، ثم مال إلى النحو، معلمه المبرد، واختص بصحبة الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب، وعلَّم ولده القاسم الأدب، أخذ عنه الزجاجي وغيره.

من مؤلفاته: معاني القرآن وإعرابه، والاشتقاق. توفي سنة 310 هـ.

انظر: بغية الوعاة (1/ 411 - 413 رقم 825).

(5)

هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منصور الديلمي، أبو زكريا المعروف بالفراء، أعلم الكوفيين بالنحو واللغة وفنون الأدب، فقيه متكلم، عالم بأيام العرب وأخبارها، عارف بالنجوم والطب، ولد في الكوفة سنة 144 هـ، ودرس اللغة والقرآن بها وبالبصرة وبغداد على الرواسي ويونس بن حبيب والكسائي، وانتقل إلى بغداد، واتخذه المأمون العباسي مؤدبا لولديه، فكان أكثر مقامه فيها، فإذا كان آخر السنة أتى الكوفة فأقام أربعين يوما يفرق في أهله ما جمعه. وكان يميل إلى الاعتزال. ومات الفراء بطريق مكة سنة 207 هـ.

معجم المفسرين لعادل نويهض (2/ 729).

ص: 272

الملك (1) والسلطان كما قاله آخرون.

فالسلامة والنجاة في إمرار ذلك على الظاهر، والإذعان بأن الاستواء والكون على ما نطق به الكتاب والسنة من دون تكييف ولا تكلف، ولا قيل ولا قال، ولا فضول في شيء من المقال. فمن جاوز هذا المقدار بإفراط أو تفريط فهو غير مقتد بالسلف، ولا واقف في طريق النجاة، ولا معتصم عن الخطأ، ولا سالك في طريق السلامة والاستقامة (2).

وكما تقول هكذا في الاستواء والكون في تلك الجهة، فكذا تقول في مثل قوله

(1) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 107) وانظر رد ابن تيمية على ذلك في الأسماء والصفات (2/ 109).

(2)

والخلاصة: إن " علو الله تعالى " ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع.

أما الكتاب: فقد تنوعت دلالته على ذلك: فتارة بلفظ "العلو" و"الفوقية" و"الاستواء" على العرش " و" كونه في السماء ":

قال تعالى: (وهو العلي العظيم)[البقرة: 255].

قال تعالى: (وهو القاهر فوق عباده)[الأنعام: 18].

قال تعالى: (الرحمن على العرش استوى)[طه: 5].

وتارة بلفظ صعود الأشياء وعروجها ورفعها إليه:

قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب)[فاطر: 10].

قال تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه)[المعارج: 4].

قال تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي)[آل عمران: 55].

وتارة بلفظ " نزول الأشياء منه " ونحو ذلك

.

قال تعالى: (قل نزله روح القدس من ربك)[النحل: 102].

قال تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض)[السجدة: 5].

وأما السنة: قال صلى الله عليه وسلم في سجوده: "سبحان ربي الأعلى". أخرجه مسلم في صحيحه رقم (203/ 772) من حديث حذيفة، وقوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه، إن رحمتي سبقت غضي" من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري رقم (7422) ومسلم رقم (2751).

وقوله: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء" وقد تقدم تخريجه.

وثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم رفع يده وهو على المنبر يوم الجمعة يقول: "اللهم أغثنا". أخرجه البخاري رقم (1014) ومسلم رقم (8/ 897).

وأما العقل: فقد دل على وجوب صفة الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص والعلو صفة كمال والسفل نقص فوجب لله تعالى صفة العلو وتنزيهه عن ضده.

وأما الفطرة: فقد دلت على علو الله تعالى دلالة ضرورية فطرية: فما من داع أو خائف فزع إلى ربه تعالى إلا وجد في قلبه ضرورة الاتجاه نحو العلو لا يلتفت عن ذلك يمنة ولا يسرة، واسأل المصلين يقول الواحد منهم في سجوده " سبحان ربي الأعلى ".

وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على: أن الله فوق سماواته مستو على عرشه.

قال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات ". وهو أثر صحيح. أخرجه الذهبي في العلو (ص 138 - مختصر).

وقال ابن تيمية في " الفتوى الحموية "(ص43) إسناده صحيح. والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 408).

ص: 273

سبحانه: {وهو معكم أين ما كنتم} (1) و {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} (2) وفي نحو {إن الله مع الصابرين} (3)، {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (4) إلى ما يشابه ذلك ويماثله ويقاربه ويضارعه.

فنقول في مثل هذه الآيات (5) هكذا جاء القرآن أن الله سبحانه مع هؤلاء، ولا

(1)[الحديد: 4]

(2)

[المجادلة: 7]

(3)

[الأنفال: 46]

(4)

[النحل: 128]

(5)

قال ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 147: وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى. فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، أو والنجم معنا.

ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة.

ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها) إلى قوله: (وهو معكم أين ما كنتم)[الحديد: 4].

دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية، ومقتضاها أنه مطلع عليكم شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: أنه معهم بعلمه وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.

فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر، فأما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع. أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها- وإن امتاز كل موضع بخاصية- فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها.

ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله تعالى: (وهو معكم أين ما كنتم)[الحديد:4].

وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع بينهما في قوله سبحانه وتعالى:(وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[الحديد:4]. فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا.

الفتوى الحموية (ص146 - 147).

ص: 274

نتكلف بتأويل ذلك كما يتكلف غيرنا بأن المراد بهذا الكون وهذه المعية هو كون العلم ومعيته، فإن هذه شعبة من شعب التأويل (1)، تخالف مذاهب السلف، وتباين ما كان

(1) كذا قال رحمه الله، وليس هذا الصواب، بل السلف الصالح من الصحابة والتابعين هم الذين فسروا هذه المعية بمعية العلم والاطلاع، ولعل الشوكاني لم يقف على أقاويل السلف في هذه الآيات عند تحرير الجواب؛ لأننا نجده في تفسير "فتح القدير" قد فسرها على مذهب السلف.

فقال: (5/ 166): (وهو معكم أين ما كنتم) أي: بقدرته وسلطانه وعلمه، وقال أيضًا (5/ 187): ومعنى (أينما كنتم) إحاطة علمه بكل تناج يكون منهم، في أي مكان من الأمكنة.

قال الآجري في " الشريعة " ص 288: فإن قال القائل: فأيش معنى قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم)[المجادلة: 7] التي بها يحتجون؟

قيل له: علمه عز وجل والله على عرشه وعلمه محيط بهم وبكل شيء من خلفه، كذا فسره أهل العلم. والآية تدل أولها وآخرها على أنه العلم.

انظر " مختصر العلو "(ص 138 - 139) رقم (124، 125، 126).

وذكر ابن رجب في شرح "الحديث التاسع والعشرين" من الأربعين النووية: أن المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة.

قال تعالى: (لا تحزن إن الله معنا)[التوبة: 40].

قال تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)[النحل: 128]. وأن المعية العامة تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم ".

وقال ابن كثير في تفسير آية المعية في: سورة المجادلة (8/ 42) ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه المعية معية علمه ".

قال: " ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضًا مع علمه بهم وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء ". ا هـ.

قال ابن تيمية في العقيدة الواسطية (ص 115): "وليس معنى قوله: (وهو معكم) [الحديد: 4] أنه مختلط بالحق، فإن هذا لا توجبه اللغة، بل القمر آية من آيات الله تعالى من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان". اهـ.

ولم يذهب إلى هذا المعنى الباطل إلا "الحلولية" من قدماء "الجهمية" وغيرهم الذين قالوا: إن الله بذاته في كل مكان، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

خلاصة القضية:

1 -

): معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف.

2 -

): هذه المعية حق على حقيقتها لكنها معية تليق بالله تعالى ولا تشبه معية أي مخلوق لمخلوق.

3 -

): هذه المعية تقتضي الإحاطة بالخلق علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا.

4 -

): هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطا بالخلق أو حالا في أمكنتهم.

5 -

): هذه المعية لا تناقض ما ثبت لله تعالى من علوه على خلقه واستوائه على عرشه.

وقد تقدم توضيح ذلك وشرحه.

وانظر الفتوى الحموية (ص 107 - 120) والعقيدة الواسطية (ص 115) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم في المثال التاسع (ص 409) مختصر العلو (ص 138 - 139).

ص: 275

عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم. وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه:

وهذا الحق ليس به خفاء

فدعني من بنيات الطريق [6 ب]

وقد هلك المتنطعون (1) ولا يهلك على الله إلا هالك، وعلى نفسها (2) براقش تجني.

وفي هذه الجملة- وإن كانت قليلة- ما يغني من شح بدينه، وتحرص عليه عن تطويل المقال، وتكثير ذيوله وتوسيع دائرة فروعه وأصوله، والمهدي من هداه الله.

حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني في شهر ربيع الآخر بحصن كوكبان حامدا لله سبحانه مصليا مسلما على رسوله وآله سنة 1228 هـ.

[انتهت الرسالة المفيدة يوم الثلاثاء بعد العصر لعله (18) شهر ربيع أول من سنة خمسة وسبعين ومائتين بعد الألف (1275هـ) ختمها الله بحق محمد وآله صلى الله عليه وسلم](3).

(1) يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا. وهو من حديث عبد الله بن مسعود. أخرجه مسلم رقم (7/ 2670) وأبو داود رقم (4608).

هلك المتنطعون، أي: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.

(2)

مثل يضرب لمن يعمل عملا يرجع ضرره إليه.

قال في مجمع الأمثال للميداني (2/ 337 - 338): كانت براقش كلبة لقوم من العرب، فأغير عليهم، فهربوا ومعهم براقش فاتبع القوم آثارهم بنباح براقش، فهجموا عليهما فاصطلموهم، قال حمزة بن بيض:

لم تكن عن جناية لحقتني

لا يساري ولا يميني رمتني

بل جناها أخ علي كريم

وعلى أهلها براقش تجني

(3)

زيادة من المخطوطة " ب ".

ص: 277