الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدر النضيد في إخلاص التوحيد
تأليف: محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه:
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن
وصف مخطوطة الأسئلة
1 -
في أعلى الصفحة الأولى مكتوب بخط الإمام الشوكاني رحمه الله العبارة التالية:
"هذا السؤال كتبه إلي القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم رحمه الله، وأجبت بالرسالة الآتية ".
2 -
أول الأسئلة: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. وبعد: فإنه خطر بالخاطر الفاتر القاصر تحرير هذا السؤال عما أهمه من مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء الأكابر.
3 -
آخر الأسئلة: .... ثم نقل كلام ابن الهمام في "الفتح القدير" وسيحيط الجواب منكم- إن شاء الله- بجميع ما فيه، وإثبات ما يثبته البال، ونفي ما ينفيه. والسلام.
4 -
نوع الخط: خط نسخي معتاد.
5 -
عدد الصفحات:\9\صفحة.
6 -
المسطرة: 23 سطرًا.
7 -
عدد الكلمات في السطر:
8 -
الناسخ: السائل القاضي: محمد بن أحمد مشحم.
[السؤال]
هذا السؤال كتبه إلي القاضي العلامة \محمد بن أحمد مشحم (1) رحمه الله وأجبت بالرسالة الآتية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وبعد.
فإنه خطر بالخاطر الفاتر القاصر تحرير هذا السؤال عما أهمه من مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء الأكابر، مع ما عرف فيها من اقتراف الأقوال، والرمي من كل فئة للأخرى بالداء العضال، وخروج أكثر المتوسلين عن جادة الطريق، وتعصب مخالفيهم ورميهم في بعض أقوالهم بالتكفير والتفسيق، فحراني ما رأيت إلى رقم هذه الكلمات في المسألة، واستفتاح أقفالها المقفلة، موجها للسؤال إلى من ألقت إليه العلوم مقاليدها، وملكته بالوهب والكسب طارفها وتليدها، فاقتصر منها أبكار المعاني التي لم يطمثها أحد قبله، وفتح من مقفلاتها ما كان مضموما لم يحم أحد حوله، فأصبحت عيون المعاني به قريرة، وأسرار البلاغة بوجوده مسرورة، ومعالم التنزيل بأنواره منيرة، وصدور الأمهات الست بأنها منشرحة، كما أن سطورها مشروحة، وأطرافها مزينة، بحلاه،
(1) هو محمد بن أحمد بن جار الله الصعدي، ثم الصنعاني اليماني، المعروف بمشحم الكبير، عالم أديب، ولي الخطابة والقضاء في بعض المدن أيام المنصور الحسن وابنه المهدي العباس، وتوفي بصنعاء (1181 هـ- 1767 م).
من آثاره: تنوير الصحيفة بذكر عوالي الأسانيد الشريفة.
إتحاف أهل الطاعة بفضيلة صلاة الجماعة.
إرشاد السالك إلى أوضح المسالك.
النسيم الساري على صفحات نهر الزلال الجاري في آداب المقرئ والقاري.
نظم نخبة الفكر في علم الأثر.
معجم المؤلفين (3/ 56 رقم 11657) والبدر الطالع (2/ 102) الأعلام للزركلي (6/ 14).
التي هي اللآلئ المروجة، شيخ الإسلام، وقاضي الأنام محمد بن علي أعلى الله شأنه، ورزقه المكانة، وأباح له فضله وإحسانه، وإذا تشرفت هذه الكتابة بمثولها بين يديه، فالتوسل في ستر ما فيها به أعزه الله إليه. ولتعلم أولا أن السائل ممن يرى جواز هذه الوسائل لكنه وقف قديما وحديثا على كلام لبعض الأكابر أوجب تحرير هذه الأحرف، وإبراز ما عنده ولا عند القاصر، ولما كان الأمر على هذه الصفة كان التحرير على طراز لعله يوافق الطائفة المنصفة، وسينجاب عن وجه السؤال غبار الأشكال إن شاء الله. إذا لوحظ من مولاي- حفظه الله- بالأفعال، ويحمد السرى عند الصباح، وتظهر أسارير وجهه عليها تباشير الفلاح، والله تعالى يديم ديم فوائدكم، ويعيد علينا بركات عوائدكم بمنه وفضله.
فنقول: التوسل (1) إلى الله- عز وجل معناه التقرب إليه والاستشفاع إلى جنابه جل جلاله بمن له منزلة لديه، وكرامة من عمل أو شخص. ولا يخفى أن لبعض الأعمال مزايا ومنازل لدى الملك المتعال، كما أن لبعض الأشخاص كذلك بلا إشكال، ومنه حديث الثلاثة (2) الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، ففرج الله عنهم، ومنه: كلمتان (3) خفيفتان [1] حبيبتان إلى الرحمن، فإن وصفها بكونهما حبيبتين مما يشعر بأن الحبيب إلى الله مما يتوسل به إليه لكرمه عليه.
ومن التوسل بالأشخاص حديث الضرير (4) الذي علمه الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الحاجة، وهو في (الحصن الحصين)، ورمز له للترمذي والنسائي والحاكم في المستدرك: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي، اللهم فشفعه في، قال المحقق
(1) سيأتي تعريفه (ص 312).
(2)
سيأتي تخريجه (ص 315).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6544 و6548) ومسلم رقم (2850) من حديث أبي هريرة.
(4)
سيأتي تخريجه (ص313).
الفاسي: أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب، والنسائي وابن ماجه والطبراني. وذكر في أوله قصة، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم.
ولفظ النسائي: أن أعمى أتى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، ادع الله لي أن يكشف لي عن بصري، قال: أو ادعك قال: يا رسول الله إنه قد شق علي، قال: فانطلق فتوضأ، ثم صل ركعتين .... ) الحديث. فهذا فيه التوسل بنبينا- صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنه الدعاء الوارد إذا تفلت القرآن عزاه السيوطي في أذكاره إلى الديلمي في مسند الفردوس (1)، وابن حبان:(اللهم إني أسألك بمحمد نبيك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك .... ) الحديث.
وفي أدعية الصباح والمساء مما رواه الطبراني في الكبير (2): (أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك).
وفي الأدعية الواردة بعد الصلاة: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، فإن للسائلين عليك حقا .... ) الحديث. عزاه السيوطي في أذكاره إلى الديلمي (3)
(1) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (4/ 302) من حديث أبي بكر. وقال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط محقق الكتاب: كذا في الأصل بياض بعد قوله أخرجه، وفي المطبوع: أحرجه رزين ولم أره بهذا اللفظ.
(2)
(10/ 315 رقم 10600)
(3)
قلت: أخرجه ابن ماجه في السنن رقم (778) وأحمد في مسنده (3/ 21) والطبراني في الدعاء رقم (421) وابن خزيمة في التوحيد كما في تخريج أحاديث الإحياء (2/ 807) وابن السني في عمل اليوم والليلة رقم (85) كلهم من حديث أبي سعيد بسند ضعيف؛ لضعف فضيل بن مرزوق، ولضعف عطية العوفي أيضًا.
وجملة القول إن الحديث ضعيف والله أعلم.
ومنه ما ذكره المفسرون (1) في تفسير الكلمات التي تلقاها أبو الخليقة آدم عليه السلام من ربه- جل وعلا- فأخرج ابن المنذر (2) عن محمد بن علي بن الحسن بن علي- رضي الله عنهم قال: لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه، واشتد ندمه، فجاءه جبريل [عليه السلام] فقال: يا آدم هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك؟ قال: بلى يا جبريل. قال: قم في مقامك الذي تناجي فيه ربك فمجده، وامدح حتى قال في آخر الحديث:"اللهم إني أسألك بجاه محمد عندك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي، فقال الله: يا آدم، من علمك هذا؟ قال: يا رب إنك لما نفخت في الروح فقمت بشرا سويا أسمع وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوبا: "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله، فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك، قال صدقت يا آدم ". وهذا وإن كان منقطعا فإن مثله [2] من مثل الباقر محمد بن علي- رضي الله عنه لا يقال بالرأي ولا يطلقه شاكا في سنده.
وأخرج الديلمي (3) في مسند الفردوس بسند واه عن علي- رضي الله تعالى عنه- أنه قال آدم: "اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد".
وأخرج ابن النجار (4) عن ابن عباس قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم قال: (سأل بحق محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن والحسين إلا تبت علي فتاب عليه).
وأخرج الطبراني في معجمه الصغير (5)، والحاكم (6) وأبو نعيم.
(1) انظر:- فتح القدير للشوكاني (1/ 103 - 105) جامع البيان للطبري (1/ 243).
(2)
كما في الدر المنثور (1/ 146 - 147) بسند ضعيف منقطع.
(3)
كما في " الدر المنثور "(1/ 147) بسند واه.
(4)
كما في " الدر المنثور "(1/ 147) ضعيف جدًا.
(5)
(2/ 82 - 83).
(6)
(2/ 615): وقال صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فتعقبه الذهبي بقوله: بل موضوع وعبد الرحمن واه، وعبد الله بن مسلم الفهري لا أدري من هو.
والفهري هذا أورده الذهبي في "ميزان الاعتدال" بهذا الحديث وقال: " خبر باطل، رواه البيهقي في الدلائل". اهـ.
والبيهقي (1) كلاهما في الدلائل، وابن عساكر (2) عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم: " لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى العرش، وقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي ..... " الحديث. كل هذه الأحاديث في الدر المنثور (3) - رحم الله مؤلفه، وجزاه خيرًا-.
فهذه الأحاديث منادية بجواز التوسل بمن له عند الله منزلة. وقد ساق الحافظ السيوطي في الخصائص (4) الكبرى صلاة الحاجة التي علمها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم الضرير في باب اختصاصه- عليه الصلاة والسلام بجواز أن يقسم على الله تعالى به. وذكر فيه قصة رواها أبو نعيم، والبيهقي في دلائل النبوة حاصلها عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان- رضي الله عنه وكان عثمان لا ينظر في حاجته، ولا يلتفت، فلقي عثمان بن حنيف، فشكى عليه، فقال له: ائت الميضاة، وعلمه صلاة الحاجة ففعلها، ثم أتى باب عثمان بن عفان فأدخله البواب على عثمان، ثم لقي عثمان بن حنيف فقال: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي- يريد عثمان بن عفان- حتى كلمته، قال له: ما كلمته، ولكن رأيت النبي- صلى الله عليه وآله وسلم جاءه ضرير فشكى إليه .... .. الحديث.
قال السيوطي (5) قال ابن عبد السلام: ينبغي أن يكون هذا مقصورا على رسول الله
(1) في " دلائل النبوة "(5/ 488) وقال: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
(2)
ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(1/ 142). وخلاصة القول أن الحديث موضوع.
(3)
(1/ 142 - 152).
(4)
(2/ 201 - 202).
(5)
في الخصائص (2/ 202).
- صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والأولياء؛ لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به- صلى الله عليه وآله وسلم تنبيها على علو درجته ومرتبته .... انتهى.
ولعله لأجل كلام ابن عبد السلام ترجم السيوطي (1) هذا الباب بهذه الترجمة، ولا يخفى أنه ليس في كلام ابن عبد السلام ما يشعر بالجزم، فإنه إنما قال ينبغي، وأصل وصفها إنما هو بمعنى الأولوية. وأيضا ليس في هذه الأدلة ما ينفي الجواز، بل كلها صريح في جواز التوسل بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم أو بمن له [3] منزلة عند الله رفيعة.
ولنتأمل في الأحاديث الواردة في شأن قصة آدم، فإنها منادية بأن كل ذي جاه عند ربه تعالى يجوز التوسل إليه تعالى، وعلى هذا جرى أكثر العلماء في توسلاتهم وأدعيتهم وأشعارهم بلا نكير. فأما ما نقل عن ابن عبد السلام (2)، ومثله عن مالك، فإنه ما أداهما إليه اجتهادهما. وهذه الأحاديث تلقاها الناس خلفا عن سلف بالقبول، وعمل بهذه الأدعية الفاضل منهم والمفضول، وما تحرج أحد من المسلمين عن الدعاء فيما أحسب بهذه الأدعية، ولا عن صلاة الحاجة.
فأما ما توهم من اختصاص صلاة الحاجة والتوسل بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم في حاله حياته فهذا التوهم ما أبعده عن فهم الأحاديث، وعن قوانين أهل العلم! فإنه لو صح التخصيص بهذه التخيلات الفاسدة لجاز في أكثر الأحاديث أن يقال: هذا خاص في حياته- صلى الله عليه وآله وسلم ومن أين لنا أنه عام بعد مماته! ونحو هذا ما توهم أيضًا في التوسل بالعباس (3) بن عبد المطلب- رضي الله عنه أنه يجوز التوسل بالحي دون الميت،؛ لأن الميت الذي قد صار رهينا في التراب ليس بأهل يتوسل بما له من الجاه والكرامة
(1) أي باب "اختصاصه صلى الله عليه وسلم بجواز أن يقسم على الله به" في الخصائص (2/ 201).
(2)
ذكره السيوطي في الخصائص الكبرى (2/ 202).
(3)
سيأتي تخريجه (ص 314).
والثواب .... وهذا كما أنه تخصيص بلا دليل بل بحسب الواقعة، بعيد في النظر فإن الحي يجوز منه الغفلة والخطأ، فأما الميت الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- صلى الله عليه وآله وسلم أو المقطوع بأن لهم عند الله منازل رفيعة، فإنه لا يجوز منه ما ذكر، والتوسل إنما هو بتلك المنزلة التي لذلك الشخص في الحقيقة التي نالها من ربه تعالى.
وحاصل الأمر أن من علمنا بطريق صحيحة منزلته عند ربه تعالى، فأي مانع لنا من التوسل به إلى ربه الذي أعطاه هذه الرتبة لديه! وإذا جازت الشفاعة في يوم القيامة لمن لهم الشفاعة من الأنبياء والصديقين والشهداء والعلماء، فما المانع من أن الله يشفعهم في هذه الدار. وهذه الأدعية الواردة عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أصل لهذه الدعوى، فإنها واقعة منه- صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الدار نقلها رواة أخباره لتعليم العباد بالدعاء بها عند الشدائد، ونزول الملمات، واستجلاب الخيرات، ودفع البليات [4].
ومن فروع هذه المسألة الدعاء عند قبور الصالحين. قال العلامة شمس الدين محمد بن محمد الجزري- رحمه الله تعالى- في عدة الحصن الحصين (1): وجرت استجابة الدعاء عند قبور الصالحين انتهى.
وفي كثير من التراجم لكثير من العلماء لا يأتي عليهم الحصر: وقبره مشهور مزور، وقبره مشهور باستجابة الدعاء، وقبر فلان ترياق مجرب، وقبر فلان من دعا عنده قضيت حاجته، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة في التراجم، لا سيما ما في كتب المتصوفة كطبقات الشعراني (2)
(1)(ص135) - مع هداية المستبصرين.
(2)
هو عبد الوهاب بن أحمد الحنفي، نسبه إلى محمد ابن الحنفية- من المتصوفين الغلاة، ولد بمصر (898 هـ \1493 م) ونشأ بساقية أبي شعرة (من قرى المنوفية) وإليه نسبته "الشعراني" والشعراوي، مات في القاهرة 973 هـ \1565 م له مؤلفات غالبها في التصوف منها:
لواقح الأنوار في طبقات الأخيار، القواعد الكشفية. انظر: الأعلام للزركلي (4/ 180 - 181).
والجندي، والشرجي، ونفحة المندل.
ولا ريب أن الدعاء عند القبور بغير ما ورد عن الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم بدعة، فقد مات في عصر النبوة أجلاء الصحابة، ومنهم حمزة أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وشهداء أحد، وشهداء بدر، ومات عثمان بن مظعون (1) الذي بكى عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم وعلم على قبره بصخرة ليلحق به من مات من أهله. وسعد بن معاذ (2) الذي اهتز عرش الرحمن لموته، وغيرهم من أكابر الصحابة ولم يؤثر عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أنه أرشد أحدا من أمته أنه إذا أهمته مهمة، أو نزلت به حاجة أن يأتي إلى قبر فلان من الصحابة ويقصده في قضاء الحاجات، ويتوسل به في المهمات. وعرفهم أنه- صلى الله عليه وآله وسلم سيموت، ولم يرشدهم أنه إذا نابتهم نائبة أن يأتون إلى قبره الشريف، ويدعون عنده، وقبره سيد القبور، وعصره خير العصور. بل قال:"لا تتخذوا قبري عيدا"(3) وعرفهم بالمحلات والأوقات التي تستجاب فيها الدعوات، ولم يقل إن قبر سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرحمن، أو قبر سيد الشهداء ترياق مجرب لقضاء الحاجات ونيل الطلبات.
فتعمد القبور للأدعية لديها، والتوسل بأهلها لا يخفى على متحل بالإنصاف، متخل عن الاعتساف أنه بدعة لم يأت بها أثر عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه- رضي الله عنهم ولا عن التابعين.
وخير الأمور السالفات على الهدى
…
وشر الأمور المحدثات البدائع [5]
ويكفي المتدين بدين الإسلام قوله- عليه الصلاة والسلام: " كل عمل ليس عليه
(1) أخرجه الترمذي رقم (989) وأبو داود رقم (3163) وابن ماجه رقم (1456) عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكى. أو قال عيناه تزرفان. وهو حديث صحيح.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3803) ومسلم رقم (2496) من حديث جابر.
(3)
سيأتي تخريجه (ص 325).
أمرنا فهو رد " (1). فأقل أحوال الممتثل للحديث أن ينظر هل جاء بقصد القبور لقضاء الحاجات أمر من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أو فعل، أو تقرير؟ فإن جاء فبها ونعمت، وإن لم يجئ شيء من ذلك عرف أنه مردود.
فإن قيل: زيارة القبور سنة مثاب عليها جاءت بها السنة قولا وفعلا وتقريرا، فإذا دعا الداعي بعد الزيارة، فإن الدعاء بعد عمل الصالحات من مظان الإجابة، وهو إن لم يرد بخصوصه فهو داخل فيما ذكروه من تقديم عمل صالح قبل الدعاء.
قلت: لا ريب أن زيارة القبور من أجل الطاعات، وأن الدعاء بعد العمل الصالح من مظان الإجابة، ولعله- والله أعلم- حمل ابن الجزري وغيره على ما قالوه من استجابة الدعاء عند قبور الصالحين، فإن رحمة الله لا تعزب عن قبورهم، لكن الاعتبار بالمقاصد، فإن كان قصد الزائر إنما هو التوسل بالميت الصالح، فهذا هو الذي نعده بدعة، وإن كان القصد الزيارة للقبور فتلك سنة مثاب فاعلها، والدعاء بعدها مظان الإجابة. وقد أجمع المسلمون إجماعا فعليا على الدعاء بعد زيارة قبر الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم فإن الزائر بعد إكمال الزيارة يتوجه إلى القبلة، ويستدبر القبر الشريف، وقد يستقبل بعض الناس القبر الشريف ويدعو، وهذا لا إنكار فيه من أحد، فالمأمون من مولانا
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم في صحيحه رقم (1718) وأحمد (6/ 73، 270) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) والدارقطني في السنن (4/ 224 - 225، 227) والبيهقي (10/ 119) والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 231 رقم 359) وابن عدي في الكامل (1/ 247) والطيالسي في المسند (ص 202 رقم 1422) كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بلفظ: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ".
وأخرج البخاري في "خلق أفعال العباد" ص 43، وأحمد في المسند (6/ 146، 180، 240، 256، 270) والبغوي في شرح السنة (1/ 211 رقم 103).
وابن حجر في "تغليق التعليق"(3/ 397) كلهم بلفظ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
وأخرج ابن حجر في "تغليق التعليق"(3/ 398) بلفظ: "من فعل أمرا ليس عليه أمرنا فهو رد".
العلامة الإمام- نصر الله به شريعة سيد الأنام-.
بيان ما في مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء، والدعاء عند القبور واستيفاء الكلام في ذلك، مما يجوز به المسئول أعظم الأجور.
ولقد وقفت حال همي بتحرير السؤال في ترجمة السبكي الكبير- رحمه الله في طبقات ولده-رحمه الله على أمر غريب من مثل السبكي. قال التاج في الطبقات (1) في ترجمة والده (2) بعد أن ذكر من علومه وصلاحه، وأثنى عليه.
ومنها ما حكاه الأخ الشيخ العلامة الإمام بهاء الدين أبو حامد، ونقلته من خطه قال: عدت من الحجاز في سنة 756 هـ ووجدته ضعيفا، فاستشارني في نزوله لولده قاضي القضاة تاج الدين عن قضاء الشام، ووجدته كالجازم بأن ذلك سيقع، وقال لي: سبب هذا أني قبل أن أمرض بأيام [6]- أغلب ظني أنه قال: خمسة أيام- رحت إلى قبر الشيخ حماد خارج باب صغير، وجلست عند قبره منفردا ليس عندي أحد، وقلت له: يا سيدي الشيخ، لي ثلاثة أولاد: أحدهم قد راح إلى الله، والآخر في الحجاز، ولا أدري حاله، والثالث هذا، وأشتهي أن موضعي يكون له، قال: فلما كان بعد أيام- أغلب ظني أنه قال: يومين أو ثلاثة- جاءني الخالدي يسير إلى شخص كان فقيرا صالحا يصحب الفقراء فقال لي: فلان يسلم عليك ويقول لك: تقاطع عليه الزورة، تروح للشيخ حماد تطلب حاجتك منه ولا تقول له. قال: فقلت له على سبيل البسط: سلم عليه وقل له: ألست تعلم أني فقيه بائس، وأن كل أحد رآني ذاهبا إلى قبر الشيخ حماد، ولكن الشيطان يقوله له: إيش حاجته؟ قال: فتوجه الخالدي إليه ثم عاد وقال: يقول لك: لا تكن تعترض على الفقراء، الشيخ حماد يقول لك: انقضت حاجتك التي هي كيت وكيت. قال: فقلت
(1) طبقات الشافعية الكبرى (10/ 216).
(2)
وهو علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام .... بن سوار بن سليم السبكي. شيخ إمام فقيه محدث أصولي نحوي متكلم.
انظر ترجمته "طبقات الشافعية"(10/ 139 - 328).
له: أما الآن فنعم، فإن هذا لم يشعر به أحد. قال: فقلت له: سله هل ذلك كشف أو منام؟ قال: فعاد وقال: ليس ذلك إليك. انتهى المنقول من خط الأخ، انتهى المنقول من (1) الطبقات (2) وهو مما نتعجب منه ونسأل عنه.
نعم يبقى الكلام فيما لو فعل الإنسان هذا الذي قررنا أنه بدعة، يعني أنه أصابته نائبة فقصد قبر إمام من أئمة المسلمين، مشهور بالصلاح، ووقف لديه، وأدى الزيارة، وسأل الله بأسمائه الحسنى، وبما لهذا الميت لديه من المنزلة، هل تكون هذه البدعة عبادة لهذا الميت؟ ويصدق عليه أنه قد دعا غير الله، وأنه قد عبد غير الرحمن، ويسلب عنه اسم الإيمان، ويصدق على هذا القبر أنه وثن من الأوثان، ويحكم بردة ذلك الداعي، والتفريق بينه وبين نسائه، واستباحة أمواله، ويعامل معاملة المرتدين، أو يكون فاعل معصية كبيرة، أو مكروه؟ هذا كله فيمن فعل على هذه الصورة، ثم كذلك من يأتي من العوام إلى قبور الأولياء، فيقول: يا فلان- يخاطب الولي- أنا عليك، أنا مستجير بك، أنا أنا إلى غير ذلك، ولا ريب أن هذا عاص لله تعالى، لكن هل يكون عصيانه مخرجا له من الإيمان؟ وكاسيا له ثوب الكفران [7] مع كونه يعترف بعقله ولسانه أن الله تعالى هو المسبب لجميع الأمور حقيقة لا تحوم حول حماها؟ فإذا سألته عن هذا الفعل الذي يصنعه فيقول: إن للولي كرامات عند الله، وله جاه وشفاعة، ونحو هذا جرى في أشعار كثير من علمائهم في مدح الأولياء، نحو: قم بي بأهلي وبصحبي. ونحو قول بعض الأدباء:
هات لي منك يا ابن موسى إغاثة
…
عاجلا في مسيرها حثاثه
وأجرني من الزمان الذي يسر
…
لي ذا البلاء بغاثه
[ونحو هذا كثير](3)، حاصل الأمر أنها أوصاف لا تطلق إلا على الله تعالى، فإذا سألت من يتمسكها قال: لا أقول إن الولي يفعلها استقلالا، وإنما له من
(1) في المخطوط مكرر.
(2)
أي: طبقات الشافعية الكبرى (10/ 216).
(3)
في المخطوط مكرر.
الكرامات (1) بعد الممات ما ينجو به الداعي لديه، والمستجير به، وهذا لا ريب في خطئه إنما الشأن في كفر فاعله، ومعاملته معاملة المرتد في جميع أحواله، بحيث لو تيسر للإنسان قتله لقتله، أو لو تيسرت أمواله لأخذها، فإن كان الأمر هكذا، فما بال أئمة المسلمين وعلماء الدين لم يناشدوا أهل هذه الجهات التهامية واليمنية والشامية كصعدة وأحوالها بالقتال، ويذيقونهم أشد النكال! وقد أمرهم الله تعالى بالقوة التي لا تنكر، والأمداد الذي هو أشهر من أن يشهر. وإن كان الأمر مفضيا إلى الفسق فالمطلوب تحقيق هذا السؤال بأطرافه، ولا يمنع مولاي-حفظه الله وحماه- سوء أدب السائل لتحرير السؤال على غير قاعدة السؤال، فإنه إنما عرض ما في خلده الملازم للاختلال، ليتبين للمسؤل علة السؤال، فيرشد إلى دواء ذلك الاعتلال، والله تعالى هو المطلع على خفيات السرائر، ونسأله أن يغفر لنا الكبائر من الذنوب والصغائر والسلام ختام.
ومن تمام الفائدة المطلوبة نقل ما تكلم به ابن تيمية (2) وتلميذه (3) في الدعاء عند القبور، والتكلم عليه نفيا أو إثباتا، فقد أطال الكلام في مواضع من كتبه. ومحط الفائدة هل تلك الكلمات الصادرة من العوام أو الخواص عبادة لغير الله أم لا (4)؟ والله الهادي وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله.
الحمد لله، أورد السيوطي- رحمه الله في الدر المنثور (5) في تفسير قوله تعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب .. (6). أحاديث كثيرة في النهي عن اتخاذ المحلويب (7) في
(1) انظر: رسالة "بحث في التصوف" رقم (25) من القسم الأول. وسيأتي مناقشة ذلك خلال رسالتنا هذه.
(2)
انظر اقتضاء الصراط (2/ 569، 776) وسيأتي.
(3)
أي ابن القيم انظر: "مدارج السالكين"(1/ 385) وسيأتي، "إغاثة اللهفان"(1/ 288).
(4)
وانظر ذلك خلال الجواب وتعليقنا عليه.
(5)
(2/ 184 - 191).
(6)
[آل عمران: 37].
(7)
قال الشيخ الألباني في الضعيفة (1/ 647) وجملة القول: إن المحراب في المسجد بدعة، ولا مسوغ لجعله من المصالح المرسلة، ما دام أن غيره
مما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم مقامه مع البساطة، وقلة الكلفة، والبعد عن الزخرفة " اهـ.
قال ابن حزم في "المحلى"(4/ 239) رقم المسألة (497): " وتكره المحاريب في المساجد
…
قال علي: أما المحاريب فمحدثه، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف وحده ويصف الصف الأول خلفه اهـ.
المساجد فالسؤال:
أولاً: عن رتبة تلك الأحاديث.
ثانيًا: عن صفة المحاريب المنهي عن اتخاذها، هل هي الطاقات كما في بعض الآثار التي سردها، أم هذه المحاريب التي توجد الآن في المساجد؟
ثالث: عن محراب الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان في عهده كيف صفته، وهل غير الآن عن صفته الذي كان عليها؟
رابعًا: هل يظهر لكم عله للنهي لعلها زالت فحصل الإقدام من الناس على هذه المحاريب على فرض أنها هي المنهي عنها.
وقد ساق السيوطي تلك الأحاديث بعينها في الخصائص (1) الكبرى فنقلتها بلفظه، قال: باب: اختصاصه- صلى الله عليه وآله وسلم بكراهة الصلاة في المحراب. وقد كان لمن قبلنا، كما قال تعالى:} فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب {(2).
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (3) عن موسى الجهني قال: قال رسول الله- صلى الله
(1)(2/ 206)
(2)
[آل عمران: 39]
(3)
(2/ 59) وهو حديث ضعيف. قال الألباني في " الضعيفة "(1/ 640): وهذا سند ضعيف وله علتان:
الأولى: الإعضال، فإن موسى الجهني، وهو ابن عبد الله- إنما يروي عن الصحابة بواسطة التابعين، أمثال: عبد الرحمن بن أبي ليلى، والشعبي ومجاهد، ونافع وغيرهم، فهو من أتباع التابعين، وفيهم أورده ابن حبان في ثقاته (7/ 449).
وعليه، فقول السيوطي في "إعلام الأريب بدعة المحاريب" (ص 68) بتحقيق محمد صبحي بن حسن حلاق:"إنه مرسل" ليس دقيقا،؛ لأن المرسل في عرف المحدثين إنما هو قول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس كذلك.
الأخرى: قال: الحافظ في "التقريب": "صدوق سيئ الحفظ" وهذا ما وقع في نسختنا المخطوطة من "المصنف" ووقع فيما نقله السيوطي عنه في "الإعلام": (إسرائيل)، يعني: إسرائيل بن أبي يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، وهو من طبقة أبي إسرائيل، وكلاهما من شيوخ وكيع، ولم أستطع البت بالأصح من النسختين، وإن كان يغلب على الظن الأول، فإن نسختنا جيدة مقابلة بالأصل. نسخت سنة 735 هـ، وبناء على ما وقع للسيوطي قال:" هذا مرسل صحيح الإسناد".
وقد عرفت أن الصواب أنه معضل، وهذا إن سلم من أبي إسرائيل وما أظنه بسالم، فقد ترجح عندي أن الحديث من روايته، بعد أن رجعت إلى نسخة أخرى في "المصنف"(1/ 188\ 1) فوجدتها مطابقة للنسخة الأولى فالسند ضعيف مع إعضاله، ثم رأيته كذلك في المطبوعة (2/ 59). اهـ.
عليه وآله وسلم-: "لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى". وأخرج ابن أبي شيبة (1) عن عبيد بن الجعد قال: كان أصحاب محمد- صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد، يعني الطاقات. وأخرج ابن أبي شيبة (2) عن ابن مسعود قال:" اتقوا هذه المحارب". وأخرج ابن أبي شيبة (3) عن أبي ذر قال: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد.
وأخرج ابن أبي شيبة (4) عن علي أنه كره الصلاة في الطاق. وأخرج مثله (5) عن الحسن وإبراهيم النخعي (6)، وسالم بن أبي
(1) في مصنفه (2/ 59). ولكنه عن سالم بن أبي الجعد، وليس عبد الله بن أبي الجعد كما في المخطوط.
(2)
في المصنف (2/ 59 - 60) بسند صحيح.
(3)
في مصنفه (2/ 60).
(4)
في مصنفه (2/ 59).
(5)
في مصنفه (2/ 59).
(6)
في مصنفه (2/ 59).
الجعد (1)، وأبي خالد الوالي. وأخرج الطبراني (2) والبيهقي في سننه (3) عن أبي عمر مرفوعا: اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب ...... انتهى منه.
بعد تحرير هذا وقفت على شرح المناوي (4) لحديث: اتقوا هذه المذابح، يعني: المحاريب، ففسر المحاريب بصدور المجالس أي تجنبوا صدور المجالس، قال: ووقع للمصنف أنه جعل هذا نهيا عن اتخاذ المحاريب في المساجد والوقوف فيها. وقال: خفي على قوم كون المحراب بالمسجد بدعة، وظنوا أنه كان في زمن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن في زمنه ولا في زمن خلفائه، بل حدث في المائة الثانية مع ثبوت النهي عنه، ثم ردة المناوي، وقال: إن ابن الأثير (5) فسر المحاريب بصدور المجالس، وتبعه غيره، ونقل فيه كلمات محتملة ليس فيها صرت الرد لما فهمه السيوطي، ثم نقل كلام ابن الهمام في الفتح القدير (6)، وسيحيط الجواب منكم- إن شاء الله- بجميع ما فيه، وإثبات ما يثبته البال، ونفي ما ينفيه.
والسلام.
(1) في مصنفه (2/ 59) بسند صحيح.
(2)
كما في "مجمع الزوائد"(8/ 60) وقال الهيثمي: "وفيه عبد الله بن مغراء، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه ابن المديني في روايته عن الأعمش، وليس هذا منها.
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 439) بسند حسن.
(4)
في "فيض القدير شرح الجامع الصغير"(1/ 144).
(5)
في النهاية (1/ 359).
(6)
في شرح فتح القدير (1/ 425). وللإمام الشوكاني بحث في "المحاريب" سيأتي في القسم الرابع "الفقه وأصوله" من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".
وصف المخطوط
1 -
عنوان المخطوط: الدر النضيد في إخلاص التوحيد.
2 -
موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك.
4 -
آخر الرسالة: .. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. انتهى تحريره بقلم مؤلفه في ليلة الأحد لسبع مضت من شهر رجب سنة\214 هـ حامدا ومصليا مسلما على رسوله وآله.
5 -
نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 -
عدد الصفحات:\60\صفحة. الصفحة الأولى هي للعنوان.
7 -
المسطرة: 23 سطرا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 12 - 14 كلمة.
9 -
الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
[الجواب]
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك، وبعد:
فإنه وصل إلى الحقير الجاني محمد بن علي الشوكاني، غفر الله له ذنوبه، وستر عن عيون الناس عيوبه- سؤال من عالم مفضال، عارف بما قد قيل وما يقال في مدارك الحرام والحلال عند اختلاف الأقوال، وتباين آراء الرجال، وهو العلامة الفهامة الأفخم محمد بن أحمد بن محمد (1) مشحم كثر الله فوائده، ومد على أهل العلم موائده.
وحاصل السؤال هو عن التوسل بالأموات المشهورين بالفضل وكذلك الأحياء والاستغاثة هم ومناجاتهم عند الحاجة من نحو: " على الله وعليك يا فلان" و" وأنا بالله وبك " وما يشابه ذلك، وتعظيم قبورهم واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء حوائج المحتاجين، ونجاح طلبات السائلين، وما حكم من فعل شيئا من ذلك، وهل يجوز قصد قبور الصالحين لتأدية الزيارة ودعاء الله عندها من غير استغاثة بهم، بل للتوسل بهم فقط؟
فأقول مستعينا بالله: اعلم أن الكلام على هذه الأطراف يتوقف على إيضاح ألفاظ هي منشأ الاختلاف والالتباس، فمنها الاستغاثة بالغين المعجمة، والمثلثة، ومنها الاستعانة بالعين المهملة والنون، ومنها التشفع ومنها التوسل.
[معنى الاستغاثة](2)
فأما الاستغاثة بالمعجمة والمثلثة: فهي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار وهو
(1) تقدمت ترجمته (285).
(2)
الاستغاثة: فقد اتفقت المصادر على أن معناه طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كما أن الاستنصار طلب النصر، والاستغاثة طلب العون، فيقال: استغاثه استغاثة فأغاثه إغاثة وغوثا وغياثا.
ويرى ابن الأثير: أن الإغاثة والإعانة بمعنى واحد. وعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة، ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته، إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حالة الشدة بخلاف الاستعانة. النهاية (3/ 400) ولسان العرب (10/ 153).
طلب النصر، ولا خلاف أنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق، فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال فهو في غاية الوضوح، وما أظنه يوجد فيه خلاف، ومنه:} فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه {(1). وكما قال:} وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر {(2). وكما قال تعالى:} وتعاونوا على البر والتقوى {(3). وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يستغاث فيه إلا به كغفران الذنوب، والهداية، وإنزال المطر والرزق، ونحو ذلك كما قال تعالى:} ومن يغفر الذنوب إلا الله {(4). وقال:} إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء {(5)، وقال:} يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض {(6).
وعلى هذا يحمل ما أخرجه الطبراني في معجمه (7) الكبير أنه كان في زمن النبي- صلى
(1)[القصص:15]
(2)
[الأنفال:72]
(3)
[المائدة:2]
(4)
[آل عمران:135]
(5)
[القصص: 56]
(6)
[فاطر: 3]
(7)
أورده الهيثمي في المجمع (10/ 159) وقال: رواه الطبراني في الكبير من حديث عبادة بن الصامت، ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث.
قلت: وأخرجه أحمد في المسند (5/ 317) بإسناد ضعيف من حديث عبادة بن الصامت، قال:" خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقام لي، إنما يقام لله تبارك وتعالى".
وأورده الهيثمي في المجمع (8/ 40) وعزاه لأحمد وقال: "وفيه راو لم يسم، وابن لهيفة ".
والخلاصة أن حديث عبادة بن الصامت ضعيف والله أعلم.
الله عليه وآله وسلم- منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر: قوموا بنا نستغيث برسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ".
فمراده أن- صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأما ما يقدر عليه المخلوق فلا مانع من ذلك، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل الحجر، أو يحول بينه وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعا صائلا، أو لصا، أو نحو ذلك.
وقد ذكر أهل العلم: أنه يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله سبحانه، وأن كل غوث من عنده، وإذا حصل شيء من ذلك على يد غيره فالحقيقة له سبحانه، ولغيره مجاز. ومن أسمائه المغيث والغياث.
قال أبو عبد الله الحليمي (1) الغياث (2) هو المغيث، وأكثر ما يقال غياث المستغيثين، ومعناه: المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه، ومجيبهم ومخلصهم (3).
وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين [2](4): "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" يقال: أغاثه
(1) هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم، البخاري، الشافعي، فقيه، محدث، أديب، ولد ببخارى سنة 338 هـ ونشأ بها، وولي القضاء، وتوفي في ربيع الأول سنة 403هـ.
من تصانيفه: المنهاج في شعب الإيمان، آيات الساعة وأحوال الساعة. انظر: تذكرة الحفاظ (3/ 219) شذرات الذهب (3/ 167 - 168).
(2)
المغيث: اسم من الأسماء الحسنى الزائدة عن الأسماء المعروفة.
انظر: موسوعة له الأسماء الحسنى (ص 15) الدكتور أحمد الشرباصي.
وقال ابن تيمية في "الفتاوى"(1/ 111): " قالوا: من أسمائه تعالى المغيث والغياث، وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة، قالوا واجتمعت الأمة على ذلك.
قلت: وحديث أبي هريرة بسياق الأسماء ضعيف.
(3)
ذكره ابن تيمية في "الفتاوى"(1/ 111).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1014) ومسلم في صحيحه رقم (897) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه
إغاثة وغياثة وغوثا، وهو في معنى المجيب والمستجيب. قال تعالى:} إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم {(1)، إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة بالأقوال. وقد تقع كل منهما موقع الآخر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه (2) ما لفظه: والاستغاثة بمعنى أن تطلب من الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر وإما مخطئ ضال.
وأما بالمعنى الذي نفاها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم فهو أيضًا مما يجب نفيها ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضًا كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها.
ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي (3): استغاثة المخلوق (4) بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشيخ أبي
(1)[الأنفال:9].
فالاستغاثة في هذه الآية دعاء لكنه دعاء خاص، فلو لم تكن دعاء لكانت مقابلتها بالإجابة غير وجيه.
(2)
مجموع فتاوى (1/ 112).
(3)
هو طيفور بن عيسى البسطامي من الأعلام، كان جده مجوسيا وأسلم، وهم ثلاثة أخوة: آدم وطيفور وعلي، وكلهم زهاد عباد، من الصوفية، وأبو يزيد أجلهم حالا، مات سنة 261 هـ وقيل: سنة 264هـ.
حلية الأولياء (33 - 42) طبقات الأولياء (ص 398).
قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى"(13/ 257): وقد جمع أبو الفضل الفلكي- علي بن الحسين بن أحمد بن الحسن الهمداني- كتابا من كلام أبي يزيد البسطامي سماه "النور من كلام طيفور" فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد- رحمة الله عليه- وفيه أشياء حسنة من كلام أبي يزيد، وكل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4)
ذكره ابن تيمية في الفتاوى (1/ 112، 330).
عبد الله (1) القرشي: استغاثة المخلوق (2) بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
وأما الاستعانة بالنون فهي طلب العون، ولا خلاف أنه يجوز أن يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدنيا، كأن يستعين به على أن يحمل معه متاعه، أو يعلف دابته، أو يبلغ رسالته، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله- جل جلاله فلا يستعان فيه إلا به. ومنه:} إياك نعبد وإياك نستعين {(3)
(1) هو عبد الله بن محمد القرشي التونسي، صوفي كبير الشأن عند المتصوفة، ولد بالإسكندرية سنة 637 هـ ومات بتونس سنة 699 هـ.
"الطبقات الكبرى": (1/ 159)"طبقات الأولياء": (ص 488).
(2)
ذكره ابن تيمية في " الفتاوى "(1/ 112و 330).
(3)
[الفاتحة: 4].
فائدة: النسبة بين الاستغاثة والدعاء:
من المعلوم أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، كما قال تعالى} فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه {[القصص: 15] والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب ومن غيره " تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" للشيخ سليمان بن عبد الله (ص 214).
فالاستغاثة دعاء لكنه دعاء خاص فلو لم تكن دعاء لكانت مقابلتها بالإجابة غير وجيه، وقد قال تعالى:} إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم {[الأنفال:9].
ولتوضيح النسبة بين الاستغاثة والدعاء لا بد من بيان أن الدعاء في القرآن والسنة نوعان:
الأول: دعاء عبادة، وهذا النوع ورد كثيرا في القرآن كقوله تعالى:} فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين {[الشعراء: 213].
النوع الثاني: دعاء المسألة، وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ومن أدلته قوله تعالى:} قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ {[الأنعام: 40 - 41].
فائدة: أنواع الاستغاثة:
الأول: طلب إزالة الشدة من المخلوق في الأسباب الظاهرة والأمور الحسية العادية، على أن يكون المستغاث به حيا حاضرا، كالاستنصار بالحاضر القوي على قتال، أو دفع عدو صائل، أو سبع مفترس، ونحو ذلك من كل ما يقدر المخلوق على الغوث فيه، وهذا النوع لا خلاف في جوازه.
والأصل في جوازه قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام:} فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه {[القصص: 15].
وقوله تعالى:} وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر {[الأنفال: 72].
وقوله تعالى:} وتعاونوا على البر والتقوى {[المائدة: 2]. مع ملاحظة أنه لا بد من توفر شرطين وهما:
1 -
) شرط في المستغاث لأجله، بأن يكون مما يقدر المخلوق على الإغاثة في مثله.
2 -
) وشرط في المستغاث به، بأن يكون حيا حاضرا فلو تخلف شرط منهما خرجت الاستغاثة عن حيز الجواز إلى حيز الشرك أو الابتداع.
الثاني: طلب الغوث فيما لا يقدر عليه إلا الله، كإنزال المطر، هداية القلوب وغفران الذنوب.
أو كان فيما يقدر عليه المخلوق عادة لكن المستغاث به إما ميت راقد في قبره، وإما حي لكنه غائب مع اعتقاده أن الاستغاثة تبلغه أينما كان. وهذا النوع لا شك في عدم جوازه فمن اعتقد أن مقدسه المخلوق يقدر عن محو ذنوبه أو هداية قلبه أو على إنزال المطر أو تيسير رزقه بمجرد المشيئة، أو اعتقد أن ذلك المقدس يسمع استغاثاته وهو راقد في قبره، أو غائب عنه فهو مشرك بعقيدته هذه قبل أن يتوجه إلى المقدس بالاستغاثة.
وعلى هذا نص جميع العلماء المحققين فقال ابن تيمية: "ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا- كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها ". الفتاوى (1/ 112، 332).
وقال ابن تيمية في " اقتضاء الصراط "(2/ 683): وهذه البدعة الكفرية إنما حدثت في العصور المتأخرة لما شاعت الخرافات وانتشر الجهل وعمت الأقاليم الإسلامية مغالطات المتصوفة وأباطيلهم، وإلا فلم يكن من حال السلف أن يستغيثوا بغير الله أبدا ".
[حكم التشفع بالمخلوق]
وأما التشفع بالمخلوق فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز طلب [3] الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا، وثبت بالسنة المتواترة (1)، واتفاق جميع الأمة
(1) تقدم شرحها (منها): ما أخرجه البخاري رقم (6305) ومسلم رقم (341/ 200) عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لكل نبي دعوة دعاها لأمته وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".
(ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (6304) ومسلم رقم (334/ 198) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا ".
(ومنها): حديث الشفاعة وهو حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3340) ومسلم رقم (327/ 194) من حديث أبي هريرة وفيه: "
…
يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع ".
(ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (614) من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة".
أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم هو الشافع المشفع، وأنه يشفع للخلائق يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربه، ولم يقع الخلاف إلا في كونها لمحو ذنوب المذنبين، أو لزيادة ثواب المطيعين. ولم يقل أحد من المسلمين بنفيها قط.
وفي سنن أبي داود (1) أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فقال:"شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه"، فأقره على قوله نستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله: نستشفع بالله عليك. وسيأتي تمام الكلام في الشفاعة.
(1) في السنن رقم (4726).
قلت: وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد (ص 103 - 104) وابن أبي عاصم رقم (575) والطبراني في الكبير رقم (1547) والبغوي في شرح السنة (1/ 175) واللالكائي (3/ 395 - 396) من حديث جبير ابن مطعم. وهو حديث ضعيف.
[التوسل]
وأما التوسل (1) إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه فقد قال
(1) معنى التوسل:
التوسل لغة: مأخوذ من الوسيلة، والوسيلة والوصيلة والتوسل والتوصل معناهما متقارب، لأن السين والصاد دائما يتناوبان يعني أحدهما يستعير مكان الآخر، ولهذا يقرأ قوله تعالى:} اهدنا الصراط المستقيم {[الفاتحة: 6] ويقرأ:} اهدنا السراط {بالسين كلاهما قراءة سبعية فيجوز أن تقرأ:} اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم {[الفاتحة: 6 - 7] أو تقول: {اهدنا السراط المستقيم سراط الذين أنعمت عليهم} .
فالتوسل والتوصل معناهما متقارب جدا. والوسيلة هي: السبب الموصل إلى المقصود.
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (5/ 279).
والتوسل شرعا: عبادة يراد بها التوصل إلى رضوان الله والجنة، ولهذا نقول: جميع العبادات وسيلة إلى النجاة من النار ودخول الجنة، فكل الأعمال الصالحة كلها وسيلة، والغرض من الأعمال الصالحة قوله تعالى:} فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز {[آل عمران: 185].
التوسل إلى الله تعالى هو اتخاذ وسيلة لإجابة الدعاء، والتوسل في دعاء الله أن يقرن الداعي في دعائه ما يكون سببا في قبول دعائه، ولا بد من دليل عن كون هذا الشيء سببا للقبول. ولا يعلم ذلك إلا من طريق الشرع.
أقسام التوسل:
توسل مشروع وهو ما كان بوسيلة جاءت بها الشريعة وهو أنواع:
1 -
): التوسل إلى الله تعالى بأسمائه.
2 -
): التوسل إلى الله تعالى بصفاته.
3 -
): التوسل إلى الله تعالى بأفعاله.
4 -
): التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به.
5 -
): التوسل إلى الله تعالى بحال الداعي.
6 -
): التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح الذي ترجى إجابة دعائه.
7 -
): التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح.
وستجد أمثلة ذلك خلال الرسالة.
ثانيًا: التوسل الممنوع: وهو ما كان بوسيلة لم تثبت في الشرع وهو نوعان:
1 -
): توسل المشركين بأصنامهم وأوثانهم وتوسل الجاهلين بأوليائهم.
2 -
): توسل يكون بوسيلة سكت عنها الشرع.
انظر قاعدة جليلة (ص 17 - 82).
الشيخ عز الدين بن عبد السلام (1): إنه لا يجوز (2) التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن صح الحديث فيه، ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي (3) في سننه، والترمذي (4) وصححه، وابن ماجه (5) وغيرهم (6): أن أعمى أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت في بصري فادع الله لي، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" توضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد إني أشفع بك في رد بصري، اللهم شفع نبيي في " وقال: " فإن كانت لك حاجة فمثل ذلك "(7) فرد الله بصره.
(1) ستأتي ترجمته في رسالة " الصوارم الحداد " رقم (24).
(2)
ذكره ابن تيمية في " الفتاوى "(1/ 347).
(3)
في عمل اليوم والليلة رقم (658 - 660).
(4)
في السنن رقم (3578). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(5)
في السنن رقم (1385).
(6)
كأحمد في المسند (4/ 138) والحاكم في المستدرك (1/ 313) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي
…
كلهم من حديث عثمان بن حنيف. وهو حديث صحيح.
(7)
قال ابن تيمية في قاعدة جليلة ص 151: فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء فمن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقا حيا وميتا. وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه. ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضي حوائجهم. ويظنوا أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو لهم ولا أن يطيعوه، فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع، الجميع عندهم توسل به، وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه، ويظنون أن الله يقضي حاجة هذا الذي توسل به، بزعمهم ولم يدع له الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقضي حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كلاهما متوسل به عندهم ويظنون أن كل من سأل الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى، وأن ما أمر به الأعمى مشروع لهم، وقول هؤلاء باطل شرعا وقدرا، فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله.
وللناس في معنى هذا قولان:
أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لما قال: كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسلك إليك بعم نبينا.
وهو في صحيح البخاري (1) وغيره، فقد ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون بالنبي-صلى الله عليه وآله وسلم[4] في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مثل هذا شافعا وداعيا لهم.
والقول الثاني: أن التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم يكون في حياته وبعد موته (2)، وفي حضرته ومغيبه. ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وثبت التوسل بغيره من الأحياء بعد موته بإجماع الصحابة سكوتيا لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه في توسله بالعباس رضي الله عنه.
وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما زعمه الشيخ عز (3) بن عبد السلام لأمرين:
(1) في صحيحه رقم (1010) وطرفه (3710).
(2)
قال ابن تيمية في قاعدة التوسل والوسيلة (ص 152): فلو كان التوسل به حيا وميتا سواء، والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول، لم يعدلوا عن التوسل به -وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليه وسيلة- إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله. وكذلك لو كان أعمى توسل به ولم يدعو له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى، لكان عميان الصحابة أو بعضهم مثل ما فعل الأعمى فعدولهم عن هذا إلى هذا- مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره. وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق ممكن - دليل على أن المشروع ما سألوه دون ما تركوه.
(3)
ذكره ابن تيمية في " الفتاوى "(1/ 347).
الأول: ما عرفناك به من إجماع الصحابة.
والثاني: أن التوسل إلى الله بأهل الفضل (1) والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة، ومزاياهم الفاضلة، إذ لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله. فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعا لم الفلاني فهو باعتبار ما قام به من العلم. وقد ثبت في الصحيحين (2) وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله، فارتفعت الصخرة فلو كان التوسل بالأعمال الفاضله غير جائز، أو كان شركا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام، ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة من الله لهم، ولا سكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم.
وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل إلى الله بالأنبياء [5] والصلحاء من نحو قوله تعالى:} ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى {(3)، ونحو قوله تعالى:
(1) والتوسل بأهل الفضل، والرجل الصالح مقيد بأمور منها:
أولاً: أن يكون المتوسل به حيا حاضرا وهو ما يوضحه توسل عمر بالعباس. قال ابن تيمية في قاعدة جليلة (ص80 - 81): وأما التوسل بدعائه وشفاعته -كما قال عمر- فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس ولو كان التوسل بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان والطاعة له فإنه مشروع دائما.
ثانيًا: أن المتوسل لا بد أن يقوم بعمل ما، وهذا ما يؤكد أن التوسل ليس بذاته وإنما هو بدعائه وتضرعه إلى الله تعالى وهو ما يوضحه قول النبي صلى الله عليه وسلم -عندما توسل الأعرابي بدعائه:" اللهم أغثنا اللهم أغثنا" تقدم تخريجه رافعا يديه.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2272) ومسلم في صحيحه رقم (100/ 2743). من حديث ابن عمر.
(3)
[الزمر:3].
} فلا تدعوا مع الله أحدا (1) ونحو قوله تعالى: {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} (2) ليس بوارد بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبى عنه؛ فإن قوله: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (3) مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك، وكذلك قوله:{فلا تدعوا مع الله أحدا} (4) فإنه نهي عن أن يدعى مع الله غيره، كأن يقول: بالله ويا فلان، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله وإنما وقع منه التوسل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله:{والذين يدعون من دونه} (5) الآية، فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم، ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه، ولا دعا غيره معه.
وإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع خروجا زائدا على ما ذكرناه، كاستدلالهم بقوله تعالى:{وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} (6)[6] فإن هذه الآية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المتفرد بالأمر في يوم الدين، وأنه ليس لغيره من الأمر شيء، ولا يملك لغيره من الأمر شيئا، والمتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله جل جلاله في أمر يوم الدين، ومن اعتقد هذا لعبد سواء كان نبيا أو غير نبي فهو في ضلال مبين.
(1)[الجن:18].
(2)
[الرعد:14].
(3)
[الزمر: 3].
(4)
[الجن:18].
(5)
[الرعد:14].
(6)
[الانفطار: 17 - 19] وانظر " الفتاوى" لابن تيمية (1/ 114 - 120).
وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله: {ليس لك من الأمر شيء (1)،} قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا {(2) فإن هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الله شيء، وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف يملكه لغيره وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء، أو الأولياء، أو العلماء.
وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى، وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه، وقاله له:" سل تعطه، واشفع تشفع "(3) وقيد ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه (4)، ولا تكون إلا لمن ارتضى. ولعله يأتي تحقيق هذا المقام إن شاء الله.
وهذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل قوله تعالى:} وأنذر عشيرتك الأقربين {(5)، " يا فلان ابن فلان لا أملك لك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك من الله شيئا، يا بني فلان لا أملك لكم [7] من الله شيئا"(6)، فإن هذا ليس فيه إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله ضره، ولا ضر من أراد الله نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلا عن غيرهم شيئا من الله، وهذا معلوم لكل مسلم، وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله فإن ذلك هو
(1)[آل عمران: 128].
(2)
[الأعراف:188].
(3)
تقدم تخريجه (ص311).
(4)
لقوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له)[سبأ: 23].
وقوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته وهم مشفقون)[الأنبياء:28].
(5)
[الشعراء:214].
(6)
أخرجه البخاري رقم (4771) ومسلم رقم (351/ 206) والترمذي رقم (3185) والنسائي (6/ 248) من حديث أبي هريرة.
طلب الأمر ممن له الأمر والنهي، وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبته ما يكون سببا للإجابة ممن هو المتفرد بالعطاء والمنع، وهو مالك يوم الدين.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الرزية كل الرزية، والبلية كل البلية أمر غير ما ذكرناه من التوسل المجرد، والتشفع ممن له الشفاعة، وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام، وبعض الخواص في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء من أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله ويفعلون بهم ما لا يفعله إلا الله عز وجل حتى نطقت ألسنتهم مما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله تعالى، وتارة استقلالا، ويصرحون بأسمائهم، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعا زائدا على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء.
وهذا إذا لم يكن شركا فلا ندري ما هو الشرك، وإذا لم يكن كفرا فليس في الدنيا كفر [8].
[الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم التمائم]
وها نحن نقص عليك أدلة في كتاب الله -سبحانه-، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيها المنع مما هو دون هذا بمراحل، وفي بعضها التصريح بأنه شرك، وهو بالنسبة إلى هذا الذي ذكرناه يسير حقير، وبعد ذلك نعود إلى الكلام على مسألة السؤال. فمن ذلك ما أخرجه أحمد في مسنده (1) بإسناد لا بأس به عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا بيده حلقة من صفر، فقال (ما هذه؟) قال: من الواهنة، قال: " انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، ولو مت وهي عليك ما
(1)(4/ 445).
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (3531) والحاكم (4/ 216) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وهو حديث ضعيف لأن الحسن لم يسمع من عمران بن الحصين كما في المراسيل (ص 40).
أفلحت ".
وأخرج (1) أيضًا عن عقبة بن عامر مرفوعا: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " وفي رواية (2): " من تعلق تميمة فقد أشرك "، ولابن أبي حاتم (3) عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط للحمى فقطعه، وتلا:} وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون {(4) وفي الصحيح (5) عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولا:" ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت "
…
وأخرج أحمد (6) وأبو داود (7) عن ابن
(1) أي أحمد في مسنده (4/ 154).
وأخرجه الحاكم (4/ 216) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
قلت: وليس كذلك لأن فيه خالد بن عبيد المعافري ليس من رجال الأمهات وهو مجهول روى عنه حيوة بن شريح فقط ولم يوثقه إلا ابن حبان.
وأورده الهيثمي في المجمع (5/ 103) وقال: " رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم ثقات " اهـ. وهو حديث ضعيف.
(2)
عند أحمد في المسند (4/ 156).
وأورده الهيثمي في المجمع (5/ 103) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات ". وهو حديث حسن.
(3)
في تفسيره (7/ 2208 رقم 12040).
وذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 512) روى حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه -أو انتزعه- ثم قال: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)[يوسف: 106].
(4)
[يوسف: 106].
(5)
أخرجه البخاري رقم (3005) ومسلم رقم (2115).
(6)
في المسند (1/ 381).
(7)
في السنن رقم (3883). وأخرجه ابن ماجه رقم (3530) والحاكم (4/ 317) والبغوي في شرح السنة (12/ 156 - 157) والطبراني في الكبير (10/ 262). وللحديث شواهد. فهو بها حسن. انظر " الصحيحة"(1/ 584 - 585).
مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة (1) شرك ". وأخرج أحمد (2) والترمذي (3) عن عبد الله بن حكيم مرفوعا: " من تعلق شيئا وكل إليه ". وأخرج أحمد (4) عن رويفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يا رويفع لعل الحياة ستطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة، أو عظم، فإن محمدا بريء منه".
فانظر كيف جعل الرقى والتمائم والتولة شركا وما ذلك إلا لكونها مظنة لأن يصحبها اعتقاد أن لغير الله تأثيرا في الشفاء من الداء، وفي المحبة والبغضاء، فكيف. بمن [9] نادى غير الله، وطلب منه ما لا يطلب إلا من الله، واعتقد استقلاله بالتأثير أو اشتراكه مع الله عز وجل.
ومن ذلك ما أخرجه الترمذي (5) وصححه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة
(1) في حاشية المخطوط: هي شيء يضعونه يزعمون أنه يجيب المرأة إلى زوجها والعكس. تمت منه.
(2)
في المسند (4/ 310 - 311).
(3)
في السنن رقم (2072). وهو حديث حسن لغيره.
(4)
في المسند (4/ 108 - 109). وأخرجه أبو داود رقم (36) والنسائي (8/ 135 - 136) وهو حديث صحيح.
(5)
في السنن رقم (2180) وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد (5/ 218) وعبد الرزاق (11/ 369) والحميدي في مسنده (2/ 375) والطيالسي (ص 191 رقم 1346) وابن أبي عاصم (1/ 37) والطبراني في الكبير (3/ 243 رقم 3290 - 3294). وهو حديث حسن.
فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل:} اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون {(1) لتركبن سنن من كان قبلكم ".
فهؤلاء إنما طلبوا أن يجعل لهم شجرة ينوطون بها أسلحتهم كما كانت الجاهلية تفعل ذلك، ولم يكن من قصدهم أن يعبدوا تلك الشجرة أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريون من أهل القبور، فأخبرهم صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك بمنزلة الشرك الصريح، وأنه بمنزلة طلب آلهة غير الله.
ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه (2) عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأربع كلمات: " لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض ". وأخرج أحمد (3) عن طارق بن شهاب أن رسول الله -صلى الله عليه وآله
(1)[الأعراف:138].
(2)
رقم (1978). وأخرجه أحمد (1/ 118؛ 252) وعبد الله في زوائد المسند (1/ 108) والنسائي (7/ 232) وأبو يعلى رقم (342/ 602) والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 99) والحاكم (4/ 153) والبخاري في الأدب المفرد رقم (17) والبغوي في شرح السنة رقم (2788) من طرق. وهو حديث صحيح.
(3)
في كتاب الزهد: (ص 32 - 33 رقم 84) وأبو نعيم في " الحلية "(1/ 203) عن طارق بن شهاب، عن سلمان الفارسي موقوفا بسند صحيح.
في كتاب الزهد حدث (خطأ) وهو سليمان بدل سلمان.
وطارق بن شهاب: هو البجلي الأحمسي، أبو عبد الله، رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل.
قال البغوي: نزل الكوفة. وقال أبو داود: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا.
قال الحافظ إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه. فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح، وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنة 83 هـ. "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد"(ص 159).
وسلم- قال: " دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب " قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئا، فقالوا لأحدهم: [10] قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب فقال: ما كنت أقرب لأحد دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة ".
فانظر لعنه صلى الله عليه وآله وسلم لمن ذبح لغير الله، وإخباره بدخول من قرب لغير الله النار، وليس في ذلك إلا مجرد كون ذلك مظنة للتعظيم الذي لا ينبغي إلا لله، فما ظنك بما كان شركا بحتا!.
قال بعض أهل العلم: إن إراقة دماء الأنعام عبادة لأنها إما هدي، أو أضحية، أو نسك، وكذلك ما يذبح للبيع لأنه مكسب حلال فهو عبادة
…
ويتحصل من ذلك شكل قطعي هو إراقة دماء الأنعام عبادة، وكل عبادة لا تكون إلا لله، فإراقة دماء الأنعام لا تكون إلا لله. ودليل الكبرى قوله تعالى:} اعبدوا الله ما لكم من إله غيره {(1)،} فإياي فاعبدون {(2)،} إياك نعبد {(3)،} وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه {(4)،} وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين {(5).
[الحلف بغير الله شرك]
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الحلف بغير الله وقال: " ومن
(1)[الأعراف:59].
(2)
[العنكبوت: 56].
(3)
[الفاتحة:4].
(4)
[الإسراء: 23].
(5)
[البينة:5].
حلف فليحلف بالله أو ليصمت" (1)، وقال: " من حلف بملة غير الإسلام لم يرجع إلى الإسلام سالما" (2)، أو كما قال: وسمع رجلا يحلف باللات والعزى فأمره أن يقول: لا إله إلا الله (3). وأخرج الترمذي (4) وحسنه، والحاكم (5) وصححه، من حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك ".
وهذه الأحاديث في دواوين الإسلام، وفيها أن الحلف بغير الله يخرج به الحالف عن الإسلام، وذلك لكون الحلف بشيء مظنة تعظيمه، فكيف بما كان شركا محضا يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق في طلب النفع، واستدفاع الضر، وقد يتضمن تعظيم المخلوق زيادة على تعظيم الخالق كما يفعله كثير من المخذولين، فإنهم يعتقدون أن لأهل القبور من جلب النفع، ودفع الضر ما ليس لله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-، فإن أنكرت هذا فانظر أحوال [11] كثير من هؤلاء المخذولين، فإنك تجدهم كما
(1) وهو جزء من حديث أخرجه البخاري رقم (6646) ومسلم رقم (3/ 1646). من حديث ابن عمر.
(2)
أخرجه أبو داود رقم (3258) والنسائي (7/ 6 رقم 3772) وابن ماجه رقم (2100) من حديث بريدة بن الحصيب. وهو حديث صحيح.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1607، 6301) ومسلم رقم (1647) والترمذي رقم (1545) والنسائي (7/ 7) وابن ماجه رقم (2096) والبيهقي (1/ 148 - 149) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
(4)
في السنن رقم (1535).
(5)
في المستدرك (4/ 297) و (1/ 18) وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في الموضعين. مع أن البخاري لم يخرج للحسن بن عبيد الله شيئا. وأخرجه أحمد (2/ 125) وأبو داود رقم (3251) والبيهقي (10/ 29) وأخرجه بنحوه الطيالسي رقم (1896) وعبد الرزاق رقم (15926) وأحمد (2/ 34). وهو حديث صحيح.
وصف الله -سبحانه-:} وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون {(1).
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين (2) عنه صلى الله عليه وآله وسلم عند موته أنه كان يقول: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا. وأخرج مسلم (3) عن جندب بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك ". وأخرج أحمد (4) بسند جيد، وأبو حاتم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا:" إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها التصريح بلعن من اتخذ القبور مساجد، مع أنه لا يعبد إلا الله، وذلك لقطع ذريعة التشريك، ودفع وسيلة التعظيم.
وورد ما يدل على أن عبادة الله عند القبور بمنزلة اتخاذها أوثان تعبد. أخرج مالك في الموطأ (5) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا
(1)[الزمر:45].
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (435، 436) ومسلم في صحيحه رقم (22/ 531).
(3)
في صحيحه رقم (23/ 532).
(4)
في المسند (1/ 405؛ 435). وأخرجه ابن خزيمة رقم (789) والطبراني في الكبير رقم (10413) والبزار رقم (3420 - كشف) وعلقه البخاري في صحيحه رقم (7067) وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد "(2/ 27) وقال: رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن وأورده أيضًا (8/ 13) وقال رواه البزار بإسنادين في أحدهما عاصم بن بهدلة. وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح. وهو حديث حسن.
(5)
(1/ 172 رقم 85) مرسلا. وأخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 240 - 241) من طريق عطاء بن يسار مرسلا بسند صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(1/ 406 رقم 1587) عن زيد بن أسلم مرسلا. وأخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف "(3/ 345) عن زيد بن أسلم مرسلا بسند صحيح.
وأخرجه أحمد موصولا (2/ 246) والحميدي (2/ 445 رقم 1025) وأبو نعيم في " الحلية "(6/ 283) و (7/ 317) عن أبي هريرة بسند حسن بلفظ -المصنف-.
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف"(3/ 577 رقم 6726) وابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 345) عن ابن عجلان، عن سهل، عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه قال: ورأى رجلا وقف على البيت الذي فيه قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له ويصلي عليه فقال حسن للرجل: لا تفعل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا بيتي عيدا
…
" وهو مرسل، وسهل ذكره ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 249) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.
وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود رقم (2042) مرفوعًا " لا تتخذوا قبري عيدا
…
" وهو حديث حسن.
وله شاهد آخر أخرجه إسماعيل الجهضمي في " فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم " رقم (20) وأبو يعلى في " المسند "(1/ 361 رقم 209/ 469) والحديث بهذه الطرق صحيح والله أعلم.
يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وبالغ في ذلك حتى لعن زائرات القبور كما أخرجه أهل السنن (1) من حديث ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. ولعل وجه تخصيص النساء بذلك ما في طبائعهن من النقص المفضي إلى الاعتقاد والتعظيم بأدنى شبهة.
ولا شك أن علة النهي [12] عن جعل القبور مساجد، وعن تسريجها، وتجصيصها، ورفعها، وزخرفتها هي ما ينشأ عن ذلك من الاعتقادات الفاسدة، كما ثبت في
(1) أخرجه أبو داود رقم (3236) والترمذي رقم (320) وقال: حديث حسن. والنسائي (4/ 94 رقم 2043) وابن ماجه رقم (1575).
وهو حديث حسن بشواهده ما عدا لفظ " السرج". انظر: الإرواء (3/ 213) والضعيفة رقم (225).
الصحيح (1) عن عائشة: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله". ولابن خزيمة عن مجاهد (2):} أفرأيتم اللات والعزى {(3) قال كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره.
وكل عاقل يعلم أن لزيادة الزخرفة للقبور، وإسبال الستور الرائعة عليها، وتسريجها والتأنق في تحسينها تأثيرا في طبائع غالب العوام، ينشأ عنه التعظيم والاعتقادات الباطلة، وهكذا إذا استعظمت نفوسهم شيئا مما يتعلق بالأحياء وبهذا السبب اعتقدت كثيرا من الطوائف الألوهية في أشخاص كثيرة.
ورأيت في بعض كتب التاريخ أنه قدم رسول لبعض الملوك على بعض خلفاء بني العباس، فبالغ الخليفة في التهويل على ذلك الرسول، وما زال أعوانه ينقلونه من رتبة إلى رتبة حتى وصل إلى المجلس الذي يقعد الخليفة في برج من أبراجه، وقد جمل ذلك المنزل بأبهى الآلات، وقعد فيه أبناء الخلفاء، وأعيان الكبراء، وأشرف الخليفة من ذلك البرج وقد انخلع قلب ذلك الرسول مما رأى، فلما وقعت عينه على الخليفة قال لمن هو [13] قابض على يده من الأمراء: أهذا الله؟ فقال: ذلك الأمر، بل هذا خليفة الله. فانظر ما صنع ذلك التحسين بقلب هذا المسكين!.
وروي لنا أن بعض أهل جهة القبلة وصل إلى القبة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذيبين رحمه الله فرآها وهي مسرجة بالشمع، والبخور ينفخ في
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (427) ومسلم في صحيحه رقم (16/ 528) وأخرجه النسائي (2/ 41 رقم 704) وأبو عوانة (1/ 400 - 401) وابن سعد في الطبقات (2/ 239 - 240).
(2)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان (28/ 58) وسنده صحيح. وأخرجه البخاري عن ابن عباس موقوفا (8/ 611).
(3)
[النجم 19].
جوانبها، وعلى القبر الستور الفائقة فقال عند وصوله إلى باب: أمسيت بالخير يا أرحم الراحمين.
وفي الصحيح (1) عن ابن عباس في قوله تعالى:} لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا {(2)، قال: هذه أسماء رجال من قوم نوح، لما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم يعبدوا، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت. وقال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم (3).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 667) عن ابن عباس موقوفا.
(2)
[نوح: 23].
(3)
لذلك يجب مراعاة جانب المقاصد والنوايا عند زيارة القبور:
1 -
) أن يكون مقصده الأساسي طاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استحب للمسلمين زيارة القبور.
2 -
) أن يقصد الدعاء للميت والاستغفار له والسلام عليه، ولا يقصد دعاءه والاستغاثة به وطلب الحاجات منه فإنه في حاجة إلى من يدعو له لا إلى من يدعوه.
3 -
) أن يقصد تذكر الآخرة والألفاظ فيكون قيامه على مقابر الموتى حافزا له على الطاعات والإقلاع عن المعاصي.
4 -
) إذا شد رحله إلى مكة أو إلى المدينة أو إلى المسجد الأقصى وجب أن يكون مقصده الصلاة في هذه المساجد ثم إذا أراد أن يزور الموتى بمكة، أو قبور المدينة وفي مقدمتها قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أو قبور الأنبياء بالقدس فله ذلك كله شريطة أن يلتزم الاتباع لا الابتداع.
- وعليه مراعاة جانب الممارسات والتطبيقات العملية:
1 -
) فلا يشد رحلا لزيارة القبور بل تكفيه زيارة القبور القريبة من محلة إقامته وكذلك القبور البعيدة التي يجتازها من غير قصد.
انظر: " مجموع الفتاوى "(26/ 150).
2 -
) لا يدعو الموتى ولا يدعو بهم ولا يستغيث ولا يستعين بهم ولا يتحرى الصلاة عند قبورهم معتقدا أن ذلك أدعى للقبول.
3 -
) ولا يقول هجرا ولا ينطق بأي كلمة شركية أو موهمة للشرك مثل نداء الميت وطلب جواره وشفاعته منه ونحو ذلك مما يسخط الرب سبحانه وتعالى.
4 -
) ولا يتمسح بتراب القبر ولا بجدران الضريح إذا كان حوله جدران ولا يتبرك بشيء مما له صلة بالميت معتقدا أن ذلك ينفعه في دنياه أو في أخراه وليعلم أنه لا بركة ترجى إلا باتباع سيد المرسلين.
5 -
) وليحرص على الدعوات الواردة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها عند زيارة القبور ولا يشغل نفسه بتلاوة القرآن عند الزيارة لأن ذلك مما لا أصل له في السنة، ولو كانت مشروعة لفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعلمها لأصحابه.
انظر " مجموع الفتاوى "(26/ 150) و" أحكام الجنائز "(ص 191).
[العيافة والطرق والطيرة من الجبت]
ومن ذلك ما أخرجه أحمد (1) بإسناد جيد عن قبيصة عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت "، وأخرجه أبو داود (2)، والنسائي (3)، وابن حبان (4) أيضا.
وأخرج أبو داود (5) بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر ".
(1) في المسند (3/ 477) و (5/ 60).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3907) وعبد الرزاق (10/ 403 رقم 19502) والطحاوي في شرح المعاني (4/ 312 - 313) والبيهقي (8/ 139) والطبراني في الكبير (18\ رقم 941، 942، 943، 945) والدولابي في الكنى (1/ 86). وهو حديث ضعيف.
(2)
في السنن رقم (3907).
(3)
في السنن كما في تحفة الأشراف (8/ 275).
(4)
في صحيحه رقم (1426 - موارد). وهو حديث ضعيف.
(5)
في السنن رقم (3905). وأخرجه أحمد (1/ 227، 311) وابن ماجه رقم (3726) والطبراني في الكبير (11/ 135) والبيهقي (8/ 138) وقال الألباني في الصحيحة (2/ 435): وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات. وهو حديث حسن.
[تحريم إتيان الكاهن والعراف وتصديقه]
وأخرج النسائي (1) من حديث أبي هريرة: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه ".
وهذه الأمور إنما كانت من الجبت والشرك، لأنها مظنة للتعظيم الجالب للاعتقاد الفاسد.
ومن ذلك ما أخرجه أهل السنن (2). . .
(1) في السنن (7/ 112 رقم 4079) وهو حديث ضعيف.
(2)
أبو داود رقم (3904) والترمذي رقم (135) وابن ماجه رقم (639) والنسائي في " عشرة النساء " رقم (131). وأخرجه الدارمي (1/ 259) والبيهقي في " السنن الكبرى "(7/ 198) وأحمد في المسند (2/ 408،476) وابن الجارود رقم (107) من طرق عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة به.
قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة.
وقال البخاري في " التاريخ "(13/ 17) عقب الحديث: " هذا حديث لا يتابع عليه ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة في البصريين " اهـ.
وقال ابن عدي في " الكامل "(2/ 637): " وحكيم الأثرم يعرف بهذا الحديث وليس له غيره إلا اليسير " اهـ.
قلت: عللوا الحديث بأمرين:
الأول: ضعف حكيم بن الأثرم.
الثاني: الانقطاع بين أبي تميمة وأبي هريرة.
فالجواب عن الأول: أن حكيم وثقه ابن المدني، وأبو داود، وابن حبان، وقال النسائي:" لا بأس به " وقال الذهبي: " صدوق ".
انظر: " تهذيب التهذيب "(1/ 475 - 476)، و" الكاشف "(1/ 186).
أما الجواب عن الثاني: فأبو تميمة اسمه طريف بن مجالد، قد توفي سنة 97 هـ، وأبو هريرة توفي سنة 58 أو 59 هـ والمعاصرة تكفي كما عليه الجمهور إن كان ثقة غير مدلس، وأبو تميمة كذلك. وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة وشواهد انظر:" الإرواء "(7/ 69 - 70). وخلاصة القول أن الحديث صحيح.
والحاكم (1) وقال: صحيح على شرط الشيخين، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد " وأخرج أبو يعلى (2)[14] بسند جيد مرفوعا: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " وأخرج نحوه الطبراني من حديث ابن عباس بسند حسن.
والعلة الموجبة للحكم بالكفر ليست إلا اعتقاد أنه مشارك لله عز وجل في علم الغيب، مع أنه في الغالب يقع غير مصحوب بهذا الاعتقاد، ولكن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
ومن ذلك ما في الصحيحين (3) وغيرهما (4) عن زيد بن خالد قال: صلى بنا رسول الله
(1) في المستدرك (1/ 8). وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
(2)
في مسنده (9/ 280 رقم 442/ 5408) ورجاله ثقات، غير أن إبراهيم بن طهمان لم يذكر فيمن سمع من أبي إسحاق قديما، وهو موقوف على عبد الله بن مسعود. قاله الشيخ حسين سليم أسد. وأخرجه البزار (2/ 443 رقم 2067 - كشف).
وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد "(5/ 118) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، خلا هبيرة بن يريم وهو ثقة " وفاته أن ينسبه إلى أبي يعلى. وعزاه إلى أبي يعلى. ونقل الشيخ حبيب الرحمن عن البوصيري قوله: رواه الطيالسي بإسناد حسن.
وله شاهد من حديث صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " عند أحمد (4/ 68) و (5/ 380) ومسلم رقم (2230).
وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة عند أحمد (2/ 429). والخلاصة أن الحديث صحيح والله أعلم.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (846) و (1038) و (4147) و (7503) ومسلم رقم (71).
(4)
كأبي داود رقم (3906) والنسائي (3/ 165) ومالك في الموطأ (1/ 192) وأحمد (4/ 117) والبغوي في " شرح السنة " رقم (1169) وأبو عوانة (1/ 26) و (1/ 27) وابن منده رقم (503 و504 و505 و506) وعبد الرزاق (21003) والحميدي رقم (813) والطبراني في الكبير رقم (5213 و5214 و5215 و5216) من طرق.
-صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس بوجهه فقال:" هل تدرون ماذا قال ربكم " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:" أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي، مؤمن بالكواكب ".
ولا يخفى على عارف أن العلة في الحكم بالكفر هي ما في ذلك من إيهام المشاركة، وأين هذا ممن يصرح في دعائه عند أن يمسه الضر بقوله: يا الله، ويا فلان، وعلى الله، وعلى فلان فإن هذا يعبد ربين، ويدعو اثنين، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا فهو لم يقل أمطره ذلك النوء بل قال: أمطر به، وبين الأمرين فرق ظاهر.
ومن ذلك ما أخرجه مسلم (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه " وأخرج أحمد (2) عن أبي سعيد مرفوعا: "ألا
(1) في صحيحه رقم (46/ 2985).
(2)
في المسند (3/ 30). وأخرجه ابن ماجه رقم (4204) والحاكم (4/ 329) وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
قلت: وفي سنده " ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد " قال عنه البخاري: منكر الحديث- كما في العلل الكبير للترمذي رقم (18). وفيه دراج. قال الحافظ في "التقريب" رقم (1824): " صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعيف ". وفيه كثير بن زيد الأسلمي: قال الحافظ في " التقريب " رقم (5611): " صدوق يخطئ " فالحديث حقه الضعف، مع أن المحدث الألباني حسنه في صحيح الترغيب والترهيب رقم (30).
أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال؟ " قالوا: بلى، قال: " الشرك الخفي، يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل ".
ومن ذلك [15] قوله تعالى:} فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صلحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا {(1). فإذا كان مجرد الرياء الذي هو فعل الطاعة لله عز وجل مع محبة أن يطلع عليها غيره، أو يثني بها، أو يستحسنها فيه شركا، فكيف بما هو محض الشرك؟.
ومن ذلك ما أخرجه النسائي (2) أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنكم تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقولوا: " ورب الكعبة " وأن يقولوا: " ما شاء الله، ثم شئت " وأخرج النسائي (3) أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا أن رجلا قال: "ما شاء الله وشئت، قال:
(1)[الكهف: 110].
(2)
في السنن (7/ 6 رقم 3773) من حديث قتيلة. وأخرجه أحمد (6/ 371 - 372) والحاكم (4/ 297) وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي (3/ 216). وقال الحافظ في " الإصابة "(8/ 284 رقم 11643) عقبه: " أخرجه النسائي وسنده صحيح، وأخرجه ابن منده من طريق المسعودي، عن سعيد، عن ابن يسار عن قتيلة بن صيفي الجهنية " اهـ. والخلاصة أن الحديث صحيح والله أعلم.
(3)
في " عمل اليوم والليلة " رقم (988). وأخرجه ابن ماجه رقم (2217) والبخاري في الأدب المفرد رقم (783) وأحمد (1/ 214) وابن السني في " اليوم والليلة " رقم (672) والطبراني في الكبير (12/ 244 رقم 13005 و13006) وأبو نعيم في " الحلية "(4/ 99) والبيهقي (3/ 217) و (8/ 105) والخطيب في "التاريخ "(8/ 105) عن ابن عباس.
قلت: مدار الحديث على أجلح بن عبد الله الكندي وثقه بعضهم وضعفه آخرون وقال الحافظ في " التقريب " رقم (285): صدوق شيعي. والخلاصة أن الحديث حسن والله أعلم.
أجعلتني لله ندا!؟ ما شاء الله وحده ".
وأخرج ابن ماجه (1) عن الطفيل قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته، قال: فهل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " أما بعد: فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم
(1) في السنن رقم (2118).
قلت: وأخرجه أحمد (5/ 393) كليهما من طريق سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان.
وقد اختلف فيه على ابن عمير، فرواه سفيان عنه هكذا.
وقال معمر عنه عن جابر بن سمرة قال: " رأى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في النوم
…
" الحديث نحوه. أخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " رقم (237).
وقال شعبة عنه عن ربعي عن الطفيل أخي عائشة؛ قال: قال رجل من المشركين لرجل من المسلمين: نعم القوم
…
" الحديث. أخرجه الدارمي (2/ 295).
وتابعه أبو عوانة عن عبد الملك به. أخرجه ابن ماجه (2118/ 2).
وتابعه حماد بن سلمة عنه به عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها: بلفظ " إن طفيلا رأى رؤيا، فأخبر بها من أخبر منكم، وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها؟ قال: لا تقولوا: ما شاء الله وما شاء محمد ". أخرجه أحمد (5/ 72).
وهذا هو الصواب عن ربعي عن الطفيل، ليس عن حذيفة، لاتفاق هؤلاء الثلاثة:- حماد بن سلمة، وأبو عوانة، وشعبة- عليه. فهو شاهد صحيح لحديث حذيفة. والخلاصة فحديث حذيفة صحيح لغيره -وحديث الطفيل صحيح لذاته والله أعلم.
كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده ".
والوارد في هذا الباب كثير، وفيه أن التشريك في المشيئة بين الله ورسوله، أو غيره من عبيده فيه نوع من الشرك. ولهذا جعل ذلك في هذا المقام الصالح كشرك اليهود والنصارى بإثبات ابن لله عز وجل[16]، وفي تلك الرواية السابقة أنه إثبات ند لله عز وجل، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، " بئس خطيب القوم أنت "، وهو في الصحيح (1).
وأخرج ابن أبي حاتم (2) عن ابن عباس في تفسيره قوله تعالى:} فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون {(3) أنه قال: الأنداد أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي. وتقول: لولا كلبه هذا لأتانا، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. هذا كله شرك. انتهى.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح (4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وأرض ربك، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي ". ووجه هذا النهي ما يفهم من مخاطبة السيد بمخاطبة العبد لربه، والرب لعبده، وإن لم يكن ذلك مقصودا مرادا
…
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (48/ 870) من حديث عدي بن حاتم.
(2)
في تفسيره (1/ 62 رقم 229).
(3)
[البقرة:22].
(4)
أخرجه البخاري رقم (2552) ومسلم رقم (2249).
[النهي عن التصوير]
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين (1) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة شعير "
…
ولهما (2) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون خلق الله ". ولهما (3) عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسا يعذب بها [17] في جهنم ".
ولهما (4) عنه مرفوعا: " من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ "
…
وأخرج مسلم (5) عن أبي الهياج قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته.
فانظر إلى ما في هذه الأحاديث من الوعيد الشديد للمصورين، لكونهم فعلوا فعلا يشبه فعل الخالق، وإن لم يكن ذلك مقصودا لهم، وهؤلاء القبوريون قد جعلوا بعض خلق الله شريكا له ومثلا وندا، فاستغاثوا به فيما لا يستغاث فيه إلا بالله، وطلبوا منه ما لا يطلب إلا من الله مع القصد والإرادة.
ومن ذلك ما أخرجه النسائي (6) بسند جيد عن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7559) ومسلم في صحيحه رقم (101/ 2111).
(2)
أي للبخاري في صحيحه رقم (5954) ومسلم في صحيحه رقم (92/ 2107).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2225) ومسلم في صحيحه رقم (99/ 2110).
(4)
أخرجه البخاري رقم (5963) ومسلم رقم (100/ 2110).
(5)
في صحيحه رقم (93/ 969).
(6)
في عمل اليوم والليلة رقم (245 و247) قلت: وأخرجه أحمد (4/ 24 - 25) والبخاري في الأدب المفرد رقم (211) وأبو داود رقم (4806) وابن السني رقم (389) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 22). وهو حديث صحيح.
وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: أنت سيدنا فقال: " السيد الله تبارك وتعالى "، قلنا: وأفضلنا وأعظمنا طولا قال: " قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرنكم الشيطان ". وفي رواية: " ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلي الله عز وجل
…
".
وبالجملة فالوارد عن الشارع من الأدلة الدالة على قطع ذرائع الشرك، وهدم كل شيء يوصل إليه في غاية الكثرة، ولو رمت حصر ذلك على التمام لجاء في مؤلف بسيط، فلنقتصر على هذا المقدار، ونتكلم على حكم ما يفعله القبوريون من الاستغاثة بالأموات، ومناداتهم لقضاء الحاجات، وتشريكهم مع الله في بعض الحالات، وإفرادهم بذلك في بعضها.
[بعث الله الرسل لإخلاص توحيده]
فنقول: اعلم أن الله لم يبعث [18] رسله، وينزل كتبه لتعريف خلقه بأنه الخالق لهم، والرازق، ونحو ذلك، فإن هذا يقر به كل مشرك قبل بعثة الرسل،} ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله {(1)،} ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم {(2)،} قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون {(3)،
(1)[الزخرف: 87].
(2)
[الزخرف:9].
(3)
[يونس:31].
} قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون {(1).
ولهذا تجد كل ما ورد في الكتاب العزيز في شأن خالق الخلق ونحوه في مخاطبة الكفار معنونا باستفهام التقرير:} هل من خالق غير الله {(2)،} أفي الله شك فاطر السماوات والأرض {(3)،} أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض {(4)،} فأروني ماذا خلق الذين من دونه {(5).
بل بعث الله رسله، وأنزل كتبه لإخلاص توحيده، وإفراده بالعبادة} يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره {(6)،} ألا تعبدوا إلا الله {(7)،} أن اعبدوا الله واتقوه {(8)} قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آبآؤنا {(9)،} اعبدوا الله ما لكم من إله غيره (10)، {فإياي فاعبدون} (11).
(1)[المؤمنون:84 - 89].
(2)
[فاطر: 3].
(3)
[إبراهيم: 10].
(4)
[الأنعام:14].
(5)
[لقمان:11].
(6)
[الأعراف:59].
(7)
[فصلت:14].
(8)
[نوح: 3].
(9)
[الأعراف].
(10)
[المؤمنون:32].
(11)
[العنكبوت:56].
وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء، والاستغاثة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه لا لغيره ولا من غيره {فلا تدعوا مع الله أحدا} (1)، {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} (2)، {وعلى الله [19] فليتوكل المؤمنون} (3)، {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (4).
وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله إليهم خاتم رسله لم يكن إلا باعتقادهم أن الأنداد التي اتخذوها تنفعهم وتضرهم وتقربهم إلى الله، وتشفع لهم عنده، مع اعترافهم بأن الله سبحانه وتعالى هو خالقها وخالقهم، ورازقها ورازقهم، ومحييها ومحييهم، ومميتها ومميتهم، {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (5)، {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (6)، {إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين} (7)، {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} (8)، {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (9). وكانوا يقولون (10) في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا
(1)[الجن:18].
(2)
[الرعد:14].
(3)
[التوبة:51].
(4)
[المائدة:23].
(5)
[الزمر:3].
(6)
[البقرة:22].
(7)
[الشعراء:97 - 98].
(8)
[يوسف:106].
(9)
[يونس:8].
(10)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1185) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ويلكم قد، قد) فيقولون: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت " وانظر " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (1/ 156).
هو لك، تملكه وما ملك.
[شرك القبوريين والوثنيين واحد]
وإذا تقرر هذا فلا شك أن من اعتقد في ميت من الأموات، أو حي من الأحياء أنه يضره أو ينفعه، إما استقلالا أو مع الله تعالى، وناداه أو توجه إليه أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق، فلم يخلص التوحيد لله، ولا أفرده بالعبادة؛ إذ الدعاء بطلب وصول الخير إليه، ودفع الضر عنه هو نوع من أنواع العبادة. ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله، أو معه حجرا، أو شجرا، أو ملكا، أو شيطانا كما كانت تفعل ذلك الجاهلية، وبين أن يكون إنسانا من الأحياء، أو الأموات كما يفعله الآن كثير من المسلمين. وكل عالم يعلم هذا ويقر به فإن العلة واحدة، وعبادة غير الله وتشريك غيره معه تكون للحيوان كما تكون للجماد وللحي كما تكون للميت
…
فمن زعم أن ثم فرقا بين من اعتقد في وثن من الأوثان أنه يضر وينفع، [20] وبين من اعتقد من ميت من بني آدم، أو حي منهم أنه يضر أو ينفع أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلا الله فقد غلط غلطا بينا، وأقر على نفسه بجهل كبير؛ فإن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه.
ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكا بالصنم والوثن والإله، ليس فيه زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد، كما يفعله كثير من المسلمين، بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن؛ إذ ليس الشرك هو بمجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئا يختص به -سبحانه [وتعالى]،- سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه
الجاهلية، أو أطلق عليه اسما آخر فلا اعتبار بالاسم قط. ومن لم يعرف هذا فهو جاهل لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به أهل العلم (1).
وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار (2) للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها، واعتقاد أنها تضر وتنفع الاستغاثة بها عند الحاجة، والتقريب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور، فإنهم قد عظموها إلى حد لا يكون إلا لله -سبحانه-، بل ربما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد من يعتقده أو قريبا منه، مخافة تعجيل العقوبة من ذلك الميت، وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله [21]، أو في مسجد من المساجد، أو قريبا من ذلك. وربما حلف بعض غلاتهم بالله كاذبا، ولم يحلف بالميت الذي يعتقده، وأما اعتقادهم أنها تضر وتنفع فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدع أحد منهم ميتا أو حيا عند استجلابه لنفع، أو استدفاعه لضر قائلا: يا فلان افعل لي كذا أو كذا، وعلى الله وعليك، وأنا بالله وبك، وأما التقريب للأموات (3) فانظر ما يجعلونه من النذور لهم، وعلى قبورهم في كثير من
(1) انظر " مجموع فتاوى "(1/ 125 - 130) لابن تيمية.
(2)
انظر " مجموع فتاوى "(1/ 156 - 158) لابن تيمية.
(3)
اعلم أن هذه النذور التي يقدمها المتصوفة والقبوريون لأوليائهم تتضمن من العقائد ما هو أخطر من مجرد الذبح لغير الله، وهو اعتقادهم أن الحياة والموت بيد المنذور له وهو شرك في الربوبية.
أن المسائل العقدية ليست مجالا للمجاملات -فالأمر بالمعروف وفي مقدمته الأمر بإخلاص العبادة لله- والنهي عن المنكر، وفي مقدمته النهي عن الشرك بالله- يقتضيان من المسلم الواعي أن يقدم النصح الخالص لكل متلبس بالشرك، خصوصا الأقارب وليعد ذلك أكبر مظهر من مظاهر صلة الرحم.
أن عقيدتهم في تقديم النذور لأهل القبور -رغم ما فيها من مخاطر على دين المرء- تتضمن أيضًا المنع من الأخذ بالأسباب الشرعية في معالجة الأمراض البدنية- ليس عن طريق إساءة فهم التوكل كما قد يقع للبعض- ولكن عن طريق المعالجة بمن لم يجعل الله الشفاء في يده، بل نهى عن قصدهم فتراهم يذبحون للضريح الفلاني وينذرون لقبر الولي الفلاني، كما يتقربون إلى شياطين الجن والأنس، وآخر ما يفكرون فيه هو الابتهال إلى الله واللجوء إلى الطب الشرعي وفي هذا خطر كبير على صحة الإنسان.
أن القبوريين الذين صرفوا أنواع النذور من القرابين والأموال والستور والشموع والسرج للأضرحة داخلون تحت لعن الله وأفعالهم مشابهة لأفعال عباد الكنائس وبيوت الأصنام.
أكل تلك الأموال حرام على سدنة القبور.
النذر للأضرحة إضاعة للمال ووضع له في غير موضعه وهو وجه من أوجه التحريم.
أن قبول سدنة القبور لنذور الناذرين يتضمن تدليسا قبيحا وقلبا لموازين الحق، لأن فيه تقريرا للناذر على شركة، ورضي بذلك الشرك وفيه إيهام له بأن المنذور له ينفعه أو يضره، خاصة إذا كان السادن من المتظاهرين بالزهد والورع.
انظر: عقيدة المسلم (ص 77) و" مصرع الشرك والخرافة "(ص 219 - 221).
المحلات، ولو طلب الواحد منهم أن يسمح بجزء من ذلك لله عز وجل لم يفعل، وهذا معلوم يعرفه من عرف أحوال هؤلاء.
[اعتقاد القبوريين في الأموات]
فإن قلت: إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله هو الضار النافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات قصدا لإنجاز ما يطلبونه من الله -سبحانه [وتعالى]-.
قلت: وهكذا كانت الجاهلية، فإنهم يعلمون أن الله هو الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز.
نعم إذا لم يحصل من المسلمين إلا مجرد التوسل الذي قدمنا تحقيقه فهو كما ذكرناه سابقا، ولكن من زعم أنه لم يقع منه إلا مجرد التوسل وهو يعتقد من تعظيم ذلك الميت ما لا يجوز اعتقاده في أحد من المخلوقين، وزاد على مجرد الاعتقاد فتقرب إلى الأموات بالذبائح والنذور، وناداهم مستغيثا بهم عند الحاجة، فهذا كاذب في دعواه أنه متوسل فقط، فلو كان الأمر كما زعمه لم يقع منه شيء من [22] ذلك، إذ المتوسل به
لا يحتاج إلى رشوة بنذر، أو ذبح، ولا تعظيم، ولا اعتقاد، لأن المدعو هو الله -سبحانه-، وهو أيضًا المجيب. ولا تأثير لمن وقع به التوسل قط، بل هو بمنزلة التوسل بالعمل الصالح، فأي جدوى في رشوة من قد صار تحت أطباق الثرى بشيء من ذلك! وهل هذا إلا فعل من يعتقد التأثير اشتراكا أو استقلالا ولا أعدل من شهادة أفعال جوارح الإنسان على بطلان ما ينطق به لسانه من الدعاوى الباطلة العاطلة، بل من زعم أنه لم يحصل منه إلا مجرد التوسل وهو يقول بلسانه: يا فلان، مناديا لمن يعتقده من الأموات فهو كاذب على نفسه (1).
ومن أنكر حصول النداء (2) للأموات والاستغاثة بهم استقلالا فليخبرنا ما معنى ما يسمعه في الأقطار اليمنية من قولهم: يا ابن العجيل، يازيلعي، يا ابن علوان، يا فلان يا فلان، وهل ينكر هذا منكر، أو يشك فيه شاك، وما عدى ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم؛ ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه، وفي كل مدينة جماعة منهم، حتى إنهم في حرم الله ينادونه يا ابن عباس، يا محجوب، فما ظنك بغير ذلك! فلقد تلطف إبليس وجنوده -أخزاهم الله- لغالب أهل الملة الإسلامية بلطيفة تزلزل الأقدام عن الإسلام. فإنا لله وإنا إليه راجعون (3).
(1) يقول الغزالي: " أليس من المضحك أن نستنجد بقوم يطلبون لأنفسهم النجدة وأن نتوسل بمن يطلب هو كل وسيلة ليستفيد خيرا أو ليدفع شرا؟ "{أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء: 157]. عقيدة المسلم (ص 77).
(2)
انظر: " مصرع الشرك والخرافة "(ص 217 - 225). رسالة " كنت قبوريا "(ص 15 - 28).
(3)
وليس الأقطار اليمنية فقط وليس ضريح السيد البدوي هو وحده يستقبل الملايين سنويا في مصر، فهناك ضريح الشبلي يستقبل جمهورا غفيرا من الحجاج، وهذا ما سجله الكاتب السيد محمد فريد حيث كتب يقول:" قصة واقعية من قلب مملكه الدراويش ومن الواقع الأليم الذي تعيشه أمة المجانين حيث تقع قرية الشيخ شبل مركز المراغة محافظة سوهاج، ماذا حدث في هذه القرية؟ هناك من يعبد من دون الله وتقدم إليه القرابين كل عام وله سادن يقوم على خدمته وهو المدعو " أبو النعمان الشبلي " وذات يوم ترك السادن الشمعة على جسم الوثن الخشبي فتسللت النيران إلى الخشب وأصبح الإله كتلة فحم وراح الناس يشكون ويبكون ويقولون: من فعل هذه بآلهتنا؟ ونقول لهم اسألوهم إن كانوا ينطقون .. وماذا يصنع القوم؟ قاموا على الفور وأحضروا نجارا مازقا وصنعوا على الفور صنما " بدل تالف " وانطبق على أهالي قرية الشيخ شبل قول المولى عز وجل: {أتعبدون ما تنحتون} [الصافات: 95]." مجلة التوحيد " العدد (12) ذو الحجة (1411هـ)(ص 47).
أين من يعقل معنى: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} (1){فلا تدعوا مع الله أحدا} (2)، {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} (3). وقد أخبرنا الله -سبحانه- أن الدعاء عبادة في محكم كتابه بقوله تعالى:{ادعوني أستجب لكم [23] إن الذين يستكبرون عن عبادتي} (4).
وأخرج أبو داود (5)، والترمذي (6) وقال: حسن صحيح من حديث النعمان بن بشير
(1)[الأعراف:194].
(2)
[الجن:18].
(3)
[الرعد:14].
(4)
[غافر:60].
(5)
في السنن رقم (1479).
(6)
في السنن (3247) و (3372).
وأخرجه أحمد (4/ 267) والبخاري في الأدب المفرد (714) والطيالسي كما في منحة المعبود رقم (1252) وابن ماجه رقم (3828) والطبراني في الصغير (2/ 97) والحاكم (1/ 490 - 491) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وأبو نعيم في الحلية (8/ 120) والبغوي في شرح السنة (5/ 184 - 185 رقم 1384) والنسائي في السنن الكبرى (3519) كما في تحفة الأشراف وابن حبان رقم (2396 - موارد) من طرق. وهو حديث صحيح.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الدعاء هو العبادة "، وفي رواية (1):" مخ العبادة ". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآية المذكورة.
وأخرجه أيضًا النسائي (2)، وابن ماجه (3)، والحاكم (4)، وأحمد (5)، وابن أبي شيبة (6) باللفظ المذكور.
وكذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم.
كما أن النحر للنسك، وإخراج صدقة المال، والخضوع، والاستكانة عبادة لله عز وجل بلا خلاف. ومن زعم أن ثم فرقا بين الأمرين فليهده إلينا، ومن قال إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم، والنذر عليهم عبادتهم فقل له: فلأي مقتض صنعت هذا الصنع؟ فإن دعائك للميت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله وتنذر لله فلأي معنى جعلت ذلك
(1) أخرجه الترمذي في السنن رقم (3371) من حديث أنس وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة " اهـ. وهو حديث ضعيف.
(2)
لم أجده؟.
(3)
في السنن رقم (3829).
(4)
في المستدرك (1/ 490).
(5)
في المسند (2/ 362).
(6)
لم أعثر عليه في المصنف. قلت: وأخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (712) وابن حبان في صحيحه رقم (870) والطيالسي رقم (2585) والترمذي رقم (3370). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث حسن.
للميت، وحملته إلى قبره؟ فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض، وفعلك وأنها عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته، وأمر قد أردته، وإلا فأنت مجنون قد رفع عنك القلم، ولا نوافقك على دعوى الجنون إلا بعد صدور أفعالك وأقوالك في غير هذا على نمط أفعال المجانين، فإن كنت تصدرها مصدر أفعال العقلاء فأنت تكذب على نفسك في دعواك الجنون في هذا الفعل بخصوصه، فرارا عن أن يلزمك ما لزم عباد الأوثان الذين حكى الله عنهم في كتابه العزيز ما حكاه بقوله:{وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} (1)، وبقوله:{ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون} (2)[24].
[كلمة التوحيد لا تكفي مجردة عن العمل]
فإن قلت: إن المشركين كانوا لا يقرون بكلمة التوحيد، وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرون بها.
قلت: هؤلاء إنما قالوها بألسنتهم، وخالفوها بأفعالهم، فإن من استغاث بالأموات، أو طلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله - سبحانه-، أو عظمهم، أو نذر عليهم بجزء من ماله، أو نحر لهم فقد نزلهم منزلة الآلهة التي كان المشركون يفعلون لها هذه الأفعال، فهو يعتقد معنى لا إله إلا الله، ولا عمل بها، بل خالفها اعتقادا وعملا، فهو في قوله: لا إله إلا الله كاذب على نفسه، فإنه قد جعل لها إلها غير الله يعتقد أنه يضر وينفع، وعبده بدعائه عند الشدائد، والاستغاثة به عند الحاجة، وبخضوعه له وتعظيمه إياه، ونحر له النحائر، وقرب إليه نفائس الأموال. وليس مجرد قول لا إله إلا الله من دون عمل بمعناها مثبتا للإسلام، فإنه لو قالها أحد من أهل الجاهلية، وعكف على صنمه يعبده لم يكن
(1)[الأنعام: 136].
(2)
[النحل:56].
ذلك إسلاما.
فإن قلت: قد أخرج أحمد بن حنبل (1)، والشافعي (2) في مسنديهما من حديث عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلا من الأنصار حدثه أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مجلسه فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:" أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له. قال:" أليس يشهد أن محمدا رسول الله "؟ قال: بلى ولكن لا شهادة له، قل:" أليس يصلي؟ " قال بلى، ولا صلاة له قال:" أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ".
وفي الصحيحين (3) من حديث أبي سعيد في قصة الرجل الذي قال: يا رسول الله، اتق الله. وفيه قال [25] خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال:" لا لعله أن يكون يصلي "، فقال خالد: كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق قلوبهم ". ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأسامة بن زيد لما قتل رجلا من الكفار بعد أن قال لا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:" فما تصنع بلا إله إلا الله؟ " فقال: يا رسول الله، إنما قالها تقية، فقال:" هل شققت عن قلبه؟ " هذا معنى الحديث، وهو في الصحيح (4).
(1) في المسند (5/ 432).
(2)
في المسند (1/ 63 - 64). قلت: عبيد الله بن عدي بن الخيار يعد من الصحابة، ولكن لم يثبت له سماع. ولكن للحديث طريق موصولة أخرجها أحمد في المسند (5/ 433) عن عبد الله بن عدي الأنصاري بسند صحيح. وانظر: الإصابة (4/ 152 رقم 4841).
(3)
أخرجه البخاري رقم (4351) ومسلم رقم (144/ 1064).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (160/ 97).
قلت لا شك أن من قال لا إله إلا الله، ولم يتبين من أفعاله ما يخالف معنى التوحيد فهو مسلم محقون الدم، والمال إذا جاء بأركان الإسلام المذكورة في حديث:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان"(1)
(1) وهو حديث متواتر له طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ".
1 -
) سعيد بن المسيب عنه:
أخرجه مسلم رقم (33/ 21) والنسائي (6/ 4 - 5،6،7) وابن حبان رقم (218) والطبراني في الأوسط (2/ 158 رقم 1294) والطحاوي في شرح المعاني (3/ 213)، وابن منده في الإيمان (1/ 162 رقم 23) و (1/ 359 رقم 199) و (1/ 360 رقم 200) من طريق الزهري به.
2 -
) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنه.
أخرجه البخاري رقم (1399) ورقم (6924) ورقم (7282 و7285) ومسلم رقم (32/ 20) وأبو داود رقم (1556) والنسائي (5/ 14 - 15) و (5/ 6) والترمذي رقم (2607) وقال حديث حسن صحيح.
وأحمد (2/ 423، 528) وأبو عبيد في الأموال (ص 23 رقم 4644) والطبراني في الأوسط (1/ 512 رقم 954) وابن منده في الإيمان (1/ 64 رقم 24) و (1/ 380 رقم 215) و (382 رقم 216). من طريق الزهري، عنه قال ابن منده (1/ 165):" هذا إسناد مجمع على صحته، من حديث الزهري، وعنه مشهور ".
3 -
) أبو صالح، عنه:
أخرجه مسلم رقم (35/ 21) وأبو داود رقم (2640) والترمذي رقم (2606) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (3927) وأحمد (2/ 377) والطحاوي في شرح المعاني (3/ 213) وابن منده (1/ 166 رقم 26) و (1/ 168 رقم 28).
4 -
) أبو صالح مولى التوأمة، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 475) من طريق سفيان عنه، وسنده حسن في المتابعات.
5 -
) الأعرج، عنه: أخرجه الطحاوي (3/ 213) عن أبي الزناد، عنه.
6 -
) أبو سلمة، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 502) والشافعي في السنن المأثورة (ص 432 رقم 643) وأبو عبيد في الأحوال (ص 23 رقم 43) والطحاوي (3/ 213) والبغوي (1/ 65 - 66) من طريق محمد بن عمرو، عنه: وسنده حسن.
7 -
) عبد الرحمن بن يعقوب، عنه:
أخرجه مسلم رقم (34/ 21) وابن حبان رقم (174) ورقم (220) وابن منده (1/ 358 رقم 196، 197، 198) والدارقطني (2/ 89 رقم 4).
8 -
) أبو حازم، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 527) من طريق يزيد بن كيسان، عنه، وسنده صحيح.
9 -
) همام بن منبه، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 314) وابن منده في الإيمان (1/ 167 رقم 27) والبغوي (1/ 65).
10 -
) عبد الرحمن بن أبي عمرة، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 482) من طريق هلال بن علي، عنه:
11 -
) مجاهد بن جبر، عنه:
أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 306) من طريق ليث بن أبي سليم عنه وقال: " هذا حديث صحيح غريب ثابت من طرق كثيرة. وحديث مجاهد عن أبي هريرة غريب من حديث ليث لم نكتبه إلا من هذا الوجه" اهـ.
قلت: وليث بن أبي سليم ضعيف، الميزان (3/ 420) والمجروحين (2/ 231 - 234) والجرح والتعديل (7/ 177 - 179).
12 -
) كثير بن عبيد، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 345) وابن خزيمة (4/ 8 رقم 2248). والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 36) والدارقطني (1/ 231 رقم 1) و (2/ 89 رقم 3) والحاكم (1/ 387) من طريق سعيد بن كثير، عن أبيه. وسنده حسن في المتابعات، وسعيد بن كثير متكلم فيه، ولكن تابعه عبد الله بن دكين، عن كثير بن عبيد.
أخرجه ابن عدي في الكامل (4/ 1542) وعبد الله بن دكين، وثقه أحمد وقال ابن معين:" لا بأس به " وضعفه في رواية، وكذا أبو زرعة الرازي في الميزان (2/ 417 رقم 4296) فالسند صحيح بمجموع الطريقين.
13 -
) ابن الحنفية، عنه:
أخرجه الخطيب في التاريخ (12/ 201) من طريق منذر الثوري، عنه وسنده تالف. وفيه: عمرو بن عبد الغفار الفقيمي، قال أبو حاتم: متروك الحديث وقال ابن عدي، اتهم بوضع الحديث " الميزان "(3/ 272 رقم 6403).
14 -
) الحسن البصري، عنه:
أخرجه الدارقطني (2/ 89 رقم 20) وأبو نعيم في الحلية (2/ 159) و (3/ 25) وسنده ضعيف.
15 -
) زياد بن الحارث، عنه:
أخرجه البخاري التاريخ (3/ 367) من طريق ليث بن أبي سليم وهو ضعيف - عنه. وقد اختلف في زياد هذا.
16 -
) عجلان المدني، عنه:
أخرجه الطحاوي (3/ 213) من طريق محمد بن عحلان، عنه، وسنده صحيح.
قلت: وللحديث شواهد كثيرة -فهو متواتر- عن جماعة من الصحابة كأنس وابن عمر، وجابر، وأوس بن أبي أوس، وجرير بن عبد الله، وأبي بكرة، والنعمان بن بشير، وابن عباس، وأبي مالك الأشجعي، وسهل بن سعد.
وانظر: " قطف الأزهار المتناثرة " للسيوطي ص 34 - 35، و" نظم المتناثر من الحديث المتواتر " للكتاني ص 29 رقم 9.
وهكذا من قال لا إله إلا الله متشهدا بها شهادة الإسلام، ولم يكن قد مضى عليه من الوقت ما يجب فيه شيء من أركان الإسلام، فالواجب حمله على الإسلام، عملا بما أقر به بلسانه، وأخبر به من أراد قتاله؛ ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم لأسامة بن زيد ما قال.
وأما من تكلم بكلمة التوحيد، وفعل أفعالا تخالف التوحيد، كاعتقاد هؤلاء المعتقدين في الأموات، فلا ريب أنه قد تبين من حالهم خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم
بالتوحيد، ولو كان مجرد التكلم بكلمة التوحيد موجبا للدخول في الإسلام، والخروج من الكفر، سواء فعل المتكلم بها ما يطابق التوحيد أو يخالفه لكانت نافعة لليهود، مع أنهم [26] يقولون: عزير ابن الله، وللنصارى مع أنهم يقولون: المسيح ابن الله، وللمنافقين مع أنهم يكذبون بالدين، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وجميع هذه الطوائف الثلاث يتكلمون بكلمة التوحيد، بل لم تنفع الخوارج (1) فإنهم من أكمل الناس توحيدا، وأكثرهم عبادة، وهم كلاب النار.
وقد أمرنا (2) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتلهم مع أنهم لم يشركوا بالله، ولا خالفوا معنى لا إله إلا الله، بل وحدوا الله حق توحيده، وكذلك المانعون للزكاة هم موحدون لم يشركوا، ولكنهم تركوا ركنا من أركان الإسلام، ولهذا أجمعت الصحابة على قتالهم، بل دل الدليل الصحيح المتواتر (3) على ذلك، وهو الأحاديث الواردة بألفاظ منها:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " فمن ترك أحد هذه الخمس فلم يكن معصوم الدم ولا المال، وأعظم من ذلك تارك معنى التوحيد، أو المخالف له بما يأتي به من الأفعال.
فإن قلت: هؤلاء المعتقدون في الأموات لا يعلمون بأن ما يفعلونه شرك، بل لو عرض أحدهم على السيف لم يقر بأنه مشرك بالله، ولا فاعل لما هو شرك، ولو علم أدنى علم أن ذلك شرك لم يفعله.
قلت: الأمر كما قلت، ولكن لا يخفى عليك ما تقرر في أسباب الردة أنه لا
(1) تقدم التعريف بهم.
(2)
أخرج البخاري رقم (4351) ومسلم رقم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري وفيه " .. إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية - وأظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود ".
(3)
تقدم تخريجه مع بيان طرقه (ص 347 - 349).
يعتبر في ثبوتها العلم بمعنى ما قاله من جاء بلفظ كفري، أو فعل فعلا كفريا.
وعلى كل حال [27] فالواجب على كل من اطلع على شيء من هذه الأقوال والأفعال التي اتصف بها المعتقدون في الأموات أن يبلغهم الحجة الشرعية، ويبين لهم ما أمره الله ببيانه، وأخذ عليهم الميثاق أن لا يكتمه، كما حكى ذلك لنا في كتابه العزيز، فيقول لمن صار يدعو الأموات عند الحاجات، ويستغيث هم عند حلول المصيبات، وينذر لهم النذور، وينحر لهم النحائر، ويعظمهم تعظيم الرب -سبحانه- أن هذا الذي تفعلونه هو الشرك الذي كانت عليه الجاهلية، وهو الذي بعث الله رسله هدمه، وأنزل كتبه في ذمه، وأخذ على النبيين أن يبلغوه عبادة أنهم لا يؤمنون حتى يخلصوا له التوحيد، ويعبدوه وحده، فإذا علموا هذا علما لا يبقى معه شك ولا شبهة، ثم أصروا على ما هم فيه من الطغيان والكفر بالرحمن وجب عليه أن يخبرهم بأنهم إذا لم يقلعوا عن هذه الغواية، ويعودوا إلى ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الهداية فقد حلت دماؤهم وأموالهم، فإن رجعوا وإلا فالسيف هو الحكم العدل كما نطق به الكتاب المبين، وسنة سيد المرسلين في إخوانهم من المشركين.
[طلب دعاء الأحياء والاستشفاع بهم ليس شركا]
فإن قلت: قد ورد الحديث الصحيح (1) بأن الخلائق يوم القيامة يأتون آدم فيدعونه ويستغيثون به، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمدا -صلى الله عليه وعليهم-.
قلت: أهل المحشر إنما يأتون [28] هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله -سبحانه-، ويدعوا لهم بفصل الحساب والإراحة من ذلك الموقف، وهذا جائز، فإنه من طلب الشفاعة والدعاء المأذون فيهما، وقد كان الصحابة يطلبون من رسول الله
(1) تقدم تخريجه (ص 311).
-صلى الله عليه وآله وسلم في حياته أن يدعو لهم كما في حديث: " يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم " لما أخبرهم بأنه يدخل الجنة سبعون ألفا، وحديث (1):"سبقك بها عكاشة "، وقول أم سليم (2): يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له. وقول المرأة (3) التي كانت تصرع: يا رسول الله، ادع الله لي، وآخر الأمر سألته الدعاء بأن لا تنكشف عند الصرع، فدعا لها.
ومنه إرشاده صلى الله عليه وآله وسلم لجماعة من الصحابة بأن يطلبوا من أويس القرني (4) الدعاء إذا أدركوه، ومنه ما ورد في دعاء المؤمن لأخيه بظهر
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6541) من حديث ابن عباس. وأخرجه البخاري أيضًا في صحيحه رقم (6542) ورقم (5811).
ومسلم في صحيحه رقم (367) و (369/ 216) من حديث أبي هريرة. وأخرجه مسلم أيضًا في صحيحه رقم (371/ 218) من حديث عمران بن حصين.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6334 و6344 و6378 و6379) من حديث أنس.
(3)
أخرجه البخاري رقم (5652) ومسلم رقم (54/ 2576) من حديث ابن عباس.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2542): عن أسير بن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب، إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس. فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرئت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر. لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " فاستغفر لي، فاستغفر له.
فائدة: أن الرحل الصالح الذي يطلب منه الدعاء لا يشترط أن يكون أفضل عند الله ممن يطلب منه الدعاء بل يكفي أن يكون من أهل الصلاح والتقوى حسب ما يظهر للناس.
ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من عمر أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، وعمر أفضل منه، لكنه كان صالحا بارا بأمه، بل وطلب عليه الصلاة والسلام من أمته أن يسألوا له الوسيلة بقوله:" إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعة" أخرجه مسلم في صحيحه رقم (288) و (384).
الغيب (1) وغير ذلك مما لا يحصر، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر لما خرج معتمرا: لا تنسنا يا أخي من دعائك (2).
فمن جاء إلى رجل صالح، واستمد منه أن يدعو له، فهذا ليس من ذلك الذي يفعله المعتقدون في الأموات، بل هو سنة حسنة، وشريعة ثابتة، وهكذا طلب الشفاعة ممن جاءت الشريعة المطهرة بأنه من أهلها كالأنبياء، ولهذا يقول الله لرسوله يوم القيامة:"سل تعطه، واشفع تشفع"(3) وذلك هو المقام المحمود الذي وعده الله به في كتابه العزيز.
والحاصل [29] أن طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون عليها. ومن ذلك الدعاء فإنه يجوز استمداده من كل مسلم، بل يحسن ذلك.
وكذلك الشفاعة من أهلها الذين ورد الشرع بأنهم يشفعون ولكن ينبغي أن يعلم أن دعاء من يدعو له لا ينفع إلا بإذن الله وإرادته ومشيئته، وكذلك شفاعة من يشفع لا تكون إلا بإذن الله، كما ورد بذلك القرآن (4) الكريم، فهذا تقييد للمطلق لا ينبغي
(1)(منها): ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2733) عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل ".
(2)
أخرجه أحمد (1/ 29، 2/ 59) وأبو داود رقم (1498) والترمذي رقم (3562) وقال: حديث حسن صحيح. وابن حبان في المجروحين (2/ 128) وابن السني في عمل اليوم والليلة رقم (387) من حديث عمر. وهو حديث ضعيف.
(3)
تقدم تخريجه (ص 311).
(4)
منها قوله تعالى: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه)، [يونس: 3].
وقوله تعالى: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا)[مريم: 87] وقوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا)[طه: 109].
العدول عنه بحال.
واعلم أن من الشبه الباطلة التي يوردها المعتقدون في الأموات أنهم ليسوا كالمشركين من أهل الجاهلية، لأنهم إنما اعتقدوا في الأولياء والصالحين، وأولئك اعتقدوا في الأوثان والشياطين.
وهذه الشبهة داحضة تنادي على صاحبها بالجهل، فإن الله -سبحانه- لم يعذر من اعتقد في عيسى عليه السلام وهو نبي من الأنبياء، بل خاطب النصارى بتلك الخطابات القرآنية، ومنها:{يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله} (1) وقال لمن كان يعبد الملائكة: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم} (2).
ولا شك أن عيسى والملائكة أفضل من هؤلاء الأولياء والصالحين الذين صار هؤلاء القبوريون يعتقدونهم، ويغلون في شأنهم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أكرم الخلق على الله [30]؛ وسيد ولد آدم قد نهى أمته أن (3) تغلو فيه كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام، ولم يمتثلوا أمره، ولا امتثلوا ما ذكره الله
(1)[النساء:171].
(2)
[سبأ].
(3)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (3445) عن ابن عباس أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله ".
-سبحانه- في كتابه العزيز من قوله: {ليس لك من الأمر شيء (1)، ومن قوله:} وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله {(2)، وما حكاه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقرابته الذين أمره الله بإنذارهم بقوله:} وأنذر عشيرتك الأقربين {فقام داعيا لهم، ومخاطبا لكل واحد منهم قائلا:" يا فلان بن فلان لا أغني عنك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان لا أغني عنك من الله شيئا، يا بني فلان لا أغني عنكم من الله شيئا"(3).
فانظر- رحمك الله- ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهي عنه، المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما يقول صاحب البردة (4)
(1)[آل عمران:128].
(2)
[الانفطار: 17 - 19].
(3)
تقدم تخريجه (ص 317).
(4)
هو محمد بن سعيد البوصيري، صوفي ناظم، توفي بالإسكندرية سنة 694 هـ له " الكواكب الدرية في مدح خير البرية " المعروفة بالبردة.
انظر " معجم المؤلفين "(1/ 28).
وفي هذه القصيدة مخالفات شرعية ضللت الكثير من أدعياء العلم الذين ينشدونها في مجالسهم.
والعجيب أن يزعم الزاعمون ويكذب الكاذبون أن البوصيري كان أصيب بفالج -ليته لم يشف منه وقضى نحبه وأنقذ المسلمين مما في البردة من شركيات وأكاذيب- فأنشد قصيدة البردة في المنام للرسول صلى الله عليه وسلم فأعجب بها، فألبسه جبته وشفي للحال: وهذا مما زاد تعلق الحمقى والمغفلين بها وغدت تقرأ كالقرآن أو أكثر حتى في مجالس بعض الشيوخ المخرفين الذين يتمايلون على أنغامها وهي تفوح منها رائحة الكفر والإلحاد:
1 -
) القسم، بمخلوقات الله كالقمر.
2 -
) إرهاصات وخوارق عجيبة حصلت يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم وهي باطلة.
3 -
) الإخلال بتوحيد الربوبية.
لمزيد من المعرفة للوقاية والحذر انظر " كتب ليست من الإسلام " محمود مهدي الاستانبولي ص 11 - 26.
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وغفل عن ربه، ورب رسول الله -إنا لله وإنا إليه راجعون- وهذا باب واسع قد تلاعب الشيطان بجماعة من أهل الإسلام حتى ترقوا إلى خطاب غير الأنبياء بمثل هذا الخطاب، ودخلوا من الشرك في أبواب بكثير من الأسباب [31]. ومن ذلك قول من يقول مخاطبا لابن العجيل:
هات لي منك يا ابن موسى إغاثة
…
عاجلا في مسيرها حثاثة
فهذا محض الاستغاثة التي لا تصلح لغير الله بميت من الأموات، قد صار تحت أطباق الثرى منذ مئين من السنين، ويغلب على الظن أن مثل هذا البيت والبيت الذي قبله إنما وقعا من قائليهما لغفلة، وعدم تيقظ، ولا مقصد لهما إلا تعظيم جانب النبوة والولاية، ولو نبها لتنبها ورجعا، وأقرا بالخطأ. وكثيرا ما يعرض ذلك لأهل العلم والأدب والفطنة. وقد سمعنا ورأينا.
فمن وقف على شيء من هذا الجنس لحي من الأحياء فعليه إيقاظه بالحجج الشرعية، فإن رجع وإلا كان الأمر فيه كما أسلفنا. وأما إذا كان القائل قد صار تحت أطباق الثرى فينبغي إرشاد الأحياء إلى ما في ذلك الكلام من الخلل. وقد وقع في البردة والهمزية شيء كثير من هذا الجنس، ووقع أيضًا لمن تصدى لمدح نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ولمدح الصالحين والأئمة الهادين ما لا يأتي عليه الحصر، ولا يتعلق بالاستكثار منه فائدة، فليسر المراد إلا التنبيه والتحذير:{لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (1)،
(1)[ق: 37].
} وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين {(1)،} ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب {(2)[32].
واعلم أن ما حررناه وقررناه من أن كثيرا مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركا قد يخفى على كثير من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفيا في نفسه، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر، وكونه قد شاب عليه الكبير، وشب عليه الصغير، وهو يرى ذلك ويسمعه، ولا يرى ولا يسمع من ينكره، بل ربما يسمع من يرغب فيه، ويندب الناس إليه، وينضم إلى ذلك ما يظهره الشيطان للناس من قضاء حوائج من قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة، وللعامة فيهم اعتقاد. وربما يقف جماعة من المحتالين على قبره، ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت، ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا الأرزاق، ويقتنصوا النحائر، ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم، وعلى من يعولونهم ويجعلوا ذلك مكسبا ومعاشا.
وربما يهولون على الزائر لذلك الميت بتهويلات، ويجملون قبره مما يعظم في عين الواصل إليه، ويوقدون في مشهده الشموع، ويوقدون فيه الأطياب، ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة يجتمع فيها الجمع الجم، فينبهر الزائر، ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق، وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت والتمسح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به، والالتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات ونجاح الطلبات، مع خضوعهم واستكانتهم، وتقريبهم له نفائس الأموال ونحرهم أصناف النحائر (3).
فبمجموع هذه الأمور مع تطاول الأزمنة، وانقراض القرن بعد القرن يظن الإنسان في بادئ عمره وأوائل أيامه أن ذلك [33] من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ثم لا
(1)[الذاريات:55].
(2)
[آل عمران: 8].
(3)
انظر: " الإبداع في مضار الابتداع " للشيخ علي محفوظ ص 141 "الفتاوى المصرية" لابن تيمية (1/ 312)."اقتضاء الصراط المستقيم" ابن تيمية (2/ 651).
ينفعه ما تعلمه من العلم بعد ذلك بل يذهل عن كل حجة شرعية تدل على أن هذا هو الشرك بعينه، وإذا سمع من يقول أنكره ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه، لأنه يبعد كل البعد أن ينتقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطاعات إلى كونه من أقبح المقبحات، وأكبر المحرمات، مع كونه قد درج عليه الأسلاف، ودب فيه الأخلاف، وتعاورته العصور، وتناوبته الدهور. وهكذا كل شيء يقلد الناس فيه أسلافهم، ويحكمون العادات المستمرة.
وبهذه الذريعة الشيطانية، والوسيلة الطاغوتية بقي المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، وتبدلت الأمة بمثير من المسائل الشرعية غيرها، وألفوا ذلك، ومرنت عليه نفوسهم وقبلته قلوبهم، وأنسوا إليه، حتى لو أراد من يتصدى للإرشاد أن يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء النقية التي تبدلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك، ولم تقبله طبائعهم، ونالوا ذلك المرشد بكل مكروه، ومزقوا عرضه بكل لسان، وهذا كثير موجود في كل فرقة من الفرق لا ينكره إلا من هو متهم في عقله.
وانظر إن كنت ممن يعتبر ما ابتليت به هذه الأمة من التقليد للأموات في دين الله، حتى صارت كل طائفة تعمل في جميع مسائل الدين بقول عالم من علماء المسلمين، ولا تقبل قول غيره، ولا ترضى به، وليتها وقفت عند عدم القبول والرضا، لكنها تجاوزت ذلك إلى الحط على سائر علماء المسلمين، والوضع من شأنهم، وتضليلهم، وتبديعهم [34]، والتنفير عنهم، ثم تجاوزا ذلك إلى التفسيق والتكفير، ثم زاد الشر حتى صار أهل كل مذهب كأهل ملة مستقلة، لهم نبي مستقل، وهو ذلك العالم الذي قلدوه، فليس الشرع إلا ما قال به دون غيره، وبالغوا وغلوا فجعلوا قوله مقدما على قول الله ورسوله. وهل بعد هذه الفتنة والمحنة شيء من الفتن والمحن!.
فإن أنكرت هذا فهؤلاء المقلدون على ظهر البسيطة قد ملئوا الأقطار الإسلامية فاعمد إلى أهل كل مذهب، وانظر إلى مسألة من مسائل مذهبهم هل هي مخالفة لكتاب الله، أو
لسنة رسول الله، ثم أرشدهم إلى الرجوع عنها إلى ما قاله الله أو رسوله (1) وانظر بماذا
(1) واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضيلة من فضائل هذه الأمة. قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)[آل عمران:110]. وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)[التوبة: 71]. وهذه المسئولية تتأكد على كل من العلماء والحكام بشكل خاص وعلى الآحاد من المسلمين بشكل عام.
1 -
) العلماء فلأنهم يعرفون من شرع الله ما لا يعرفه غيرهم من الأمة ولما لهم من هيبة في النفوس واحترام في القلوب مما جعل أمرهم ونهيهم أقرب إلى الامتثال وأدعى إلى القبول.
2 -
) الأمراء والحكام فإن مسئوليتهم أعظم وأخطر لأن لهم الولاية والسلطان ولديهم القدرة على تنفيذ ما يأمرون به وينهون عنه وحمل الناس على الامتثال ولا يخشى من إنكارهم مفسدة لأن القوة والسلاح في أيديهم.
مخاطر تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)[المائدة: 78 - 79].
قال صلى الله عليه وسلم: " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ".
ثم قال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم).
ثم قال: "والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا" من حديث ابن مسعود.
أخرجه أبو داود رقم (4336) والترمذي رقم (47 30) وابن ماجه رقم (4006) وهو حديث حسن بشواهده.
وقال صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم في صحيحه رقم (49) والترمذي رقم (2172).
وقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ". من حديث حذيفة. أخرجه الترمذي رقم (2169) وهو حديث حسن بشواهده.
يجيبونك فما أظنك تنجو من شرهم، ولا تأمن من معرتهم، وقد يستحلون بذلك دمك ومالك، وأورعهم يستحل عرضك وعقوبتك، وهذا يكفيك إن كان لك فطرة سليمة، وفكرة مستقيمة.
ثم انظر كيف خصوا بعض علماء المسلمين، واقتدوا بهم في مسائل الدين، ورفضوا الباقين، بل جاوزوا هذا إلى أن الإجماع ينعقد بأربعة من علماء هذه الأمة، وأن الحجة قائمة بهم، مع أن في عصر كل واحد منهم من هو أكثر علما منه، فضلا عن العصر المتقدم على عصره، والعصر المتأخر عن عصره. وهذا يعرفه كل من يعرف أحوال الناس، ثم تجاوزوا ذلك إلى أنه لا اجتهاد لغيرهم، بل هو مقصور عليهم، فكأن هذه الشريعة كانت لهم لا حظ لغيرهم فيها، ولم يتفضل الله على عباده بما تفضل عليهم.
وكل عاقل يعلم أن هذه المزايا التي جعلوها لهؤلاء الأئمة رحمهم الله إن كانت باعتبار كثرة علمهم، وزيادته على علم غيرهم، فهذا مدفوع عند كل من له اطلاع على أحوالهم، وأحوال غيرهم؛ فإن في أتباع كل واحد منهم من هو أعلم منه لا ينكر هذا إلا مكابر أو جاهل، فكيف بمن لم يكن من أتباعهم [35] من المعاصرين لهم، والمتقدمين عليهم، والمتأخرين عنهم! وإن كانت تلك المزايا بكثرة الورع والعبادة فالأمر كما تقدم، فإن في معاصريهم والمتقدمين عليهم والمتأخرين عنهم من هو أكثر عبادة وورعا منهم، لا ينكر هذا إلا من لا يعرف تراجم الناس، وكتب التواريخ، وإن كانت تلك المزايا بتقدم عصورهم، فالصحابة والتابعون أقدم منهم عصرا بلا خلاف، وهم أحق هذه المزايا ممن بعدهم لحديث: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
يلونهم (1). وإن كانت تلك المزايا لأمر عقلي فما هو؟ أو لأمر شرعي فأين هو؟.
ولا ننكر أن الله قد جعلهم بمحل من العلم والورع، وصلابة الدين، وأنهم من أهل السبق في كل الفضائل والفواضل، وعن الشأن في المتعصب لهم من أتباعهم، القائل أنه لا يجوز تقليد غيرهم، ولا يعتد بخلافه إن خالف، ولا يجوز لأحد من علماء المسلمين أن يخرج عن تقليدهم وإن كان عارفا بكتاب الله، وسنة رسوله، قادرا على العمل بما فيهما، متمكنا من استخراج المسائل الشرعية منهما، فلم يكن مقصودنا إلا التعجيب لمن كان له عقل صحيح، وفكر رجيح، وتهوين الأمر عليه فيما نحن بصدده من الكلام على ما يفعله المعتقدون للأموات، وأنه لا يغتر العاقل بالكثرة وطول المهلة مع الغفلة؛ فإن ذلك لو كان دليلا على الحق لكان ما زعمه المقلدون المذكورون حقا، ولكان ما يفعله المعتقدون للأموات حقا.
وهذا عارض من القول أوردناه للتمثيل، ولم يكن من مقصودنا، والذي نحن بصدده هو أنه إذا خفي على بعض أهل العلم ما ذكرناه وقررناه في حكم المعتقدين [36] للأموات لسبب من أسباب الخفاء التي قدمنا ذكرها، ولم يتعقل ما سقناه من الحجج البرهانية القرآنية والعقلية فينبغي أن تسأله: ما هو الشرك؟ فإن قال: هو أن تتخذ مع الله إلها آخر كما كانت الجاهلية تتخذ الأصنام آلهة مع الله -سبحانه- فقل له: وماذا كانت الجاهلية تصنعه لهذه الأصنام التي اتخذوها حتى صاروا مشركين؟ فإن قال: كانوا يعظمونها ويقربون لها، ويستغيثون بها، وينادونها عند الحاجات، وينحرون لها النحائر، ونحو ذلك من الأفعال الداخلة في مسمى العبادة فقل له: لأي شيء كانوا يفعلون لها ذلك؟ فإن قال: لكونها الخالقة، أو الرازقة، أو المحيية، أو المميتة فاقرأ عليه ما قدمنا لك من البراهين القرآنية المصرحة بأنهم مقرون بأن الله الخالق الرازق المحيي المميت، وأنهم إنما عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى، وقالوا: هم شفعاؤهم عند الله، ولم يعبدوها
(1) تقدم تخريجه في رسالة "التحف في مذاهب السلف"(ص255).
لغير ذلك؛ فإنه سيوافقك ولا محالة إن كان يعتقد أن كلام الله حق، وبعد أن يوافقك أوضح له أن المعتقدين في القبور قد فعلوا هذه الأفعال أو بعضها على الصفة التي قررناها وكررناها في هذه الرسالة، فإنه إن بقي فيه بقية من إنصاف، وبارقة من علم، وحصة من عقل فهو لا محالة يوافقك وتنجلي عنه الغمرة، وتنقشع عن قلبه سحائب الغفلة، ويعترف بأنه كان في حجاب عن معنى التوحيد الذي جاءت به السنة والكتاب، فإن زاغ عن الحق، وكابر وجادل، فإن جاءك في مكابرته ومجادلته بشيء من الشبهة فادفعه بالدفع الذي قد ذكرناه فيما سبق، فإنا لم ندع شبهة يمكن أن يدعيها مدع إلا وقد أوضحنا أمرها، وإن لم يأت بشيء في جداله، بل اقتصر على مجرد الخصام والدفع المجرد لما أوردته عليه من الكلام [37] فاعدل معه عن حجة اللسان بالبرهان والقرآن إلى محجة السيف والسنان، فآخر الدواء الكي. هذا إذا لم يكن دفعه بما هو دون ذلك من الضرب والحبس والتعزير؛ فإن أمكن وجب تقديم الأخف على الأغلظ عملا بقوله تعالى:} فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى {(1)، وبقوله:} ادفع بالتي هي أحسن {(2).
ومن جملة الشبه التي عرضت لبعض أهل العلم ما جزم به السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير (3) رحمه الله في شرحه لأبياته (4) التي يقول في أولها:
(1)[طه:4].
(2)
[فصلت:34].
(3)
محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الصنعاني المنشأ، الكحلاني المولد سنة 1099 هـ، محدث فقيه، أصولي، من أئمة اليمن المشاهير.
من تصانيفه: " سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام "، " توضيح الأفكار في شرح تنقيح الأنظار "، " منحة الغفار على ضوء النهار ". وغيرها. انظر البدر الطالع (2/ 133 - 139).
(4)
انظر " ديوان الصنعاني "(ص 173).
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي (1). . . . . . . . . . . . .
فإنه قال: إن كفر هؤلاء المعتقدين للأموات هو من الكفر العملي، لا الكفر الجحودي، ونقل ما ورد في كفر تارك الصلاة كما ورد في الأحاديث (2) الصحيحة، وكفر تارك الحج في قوله تعالى:} ومن كفر فإن الله غني عن العالمين {(3)، وكفر من لم يحكم بما أنزل الله كما في قوله تعالى:} ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون {(4)، ونحو ذلك من الأدلة الواردة فيمن زنى، ومن سرق، ومن أتى امرأة حائضا، أو امرأة في دبرها، أو أتى كاهنا، أو عرافا، أو قال لأخيه: يا كافر.
قال: فهذه الأنواع من الكفر وإن أطلقها الشارع على فاعل هذه الكبائر فإنه لا يخرج به العبد عن الإيمان، ويفارق به الملة، ويباح به دمه وماله وأهله كما ظنه من لم
(1) وتمامه:
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي
…
فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي
اعلم أن هذه القصيدة لم تكن من نظم الأمير محمد بن إسماعيل لأنها تخالف ما ذكره في كتبه الدالة على حسن اعتقاده مثل " تطهير الاعتقاد عن درن الإلحاد " وقد رد الشيخ سليمان بن سمحان هذه المنظومة بكتابه المعروف تبرئة الشيخين وهو مطبوع.
(2)
منها: ما أخرجه أحمد (5/ 346) والترمذي رقم (2621) والنسائي (1/ 231) وابن ماجه رقم (1079) والحاكم (1/ 6 - 7) وصححه ووافقه الذهبي.
من حديث بريدة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ". وهو حديث صحيح.
(ومنها): ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (134/ 82) وأبو داود رقم (4678) والترمذي رقم (2620) وابن ماجه رقم (1578) وأحمد (3/ 370، 389) من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم" ليس بين العبد وبين الكفر -أو قال الشرك- إلا ترك الصلاة". وهو حديث صحيح.
(3)
[آل عمران:97].
(4)
[المائدة:44].
يفرق بين الكفرين، ولم يميز بين الأمرين، وذكر ما عقده البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان في كفر دون كفر، وما قاله العلامة ابن القيم: إن الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة من الكفر العملي، تحقيقه أن الكفر كفر عمل وكفر جحود وعناد، فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا، فهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه، وأما كفر العمل فهو نوعان: نوع يضاد الإيمان، ونوع لا يضاده.
ثم نقل عن ابن القيم كلاما في هذا المعنى. ثم قال السيد المذكور: قلت: ومن هذا -يعني الكفر العملي- من يدعو الأولياء [38] ويهتف هم عند الشدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبل جدرانها، وينذر لها بشيء من ماله؛ فإنه كفر عملي لا اعتقادي، فإنه مؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وباليوم الآخر، لكن زين له الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحون ينفعون، ويشفعون، ويضرون، فاعتقدوا ذلك جهلا كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام، لكن هؤلاء مثبتون التوحيد لله لا يجعلون الأولياء آلهة كما قاله الكفار إنكارا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دعاهم إلى كلمة التوحيد:} أجعل الآلهة إلها وحدا {(1)، فهؤلاء جعلوا لله شركاء حقيقة، وقالوا في التلبية:" لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك"(2) فأثبتوا للأصنام شركة مع رب الأنام وإن كانت عباراتهم الضالة قد أفادت أنه لا شريك له، لأنه إذا كان يملكه وما ملك فليس بشريك له تعالى، بل مملوك، فعباد الأصنام جعلوا لله أندادا، واتخذوا من دونه شركاء، وتارة يقولون: شفعاء يقربونهم إلى الله زلفى، بخلاف جهلة المسلمين الذين اعتقدوا في أوليائهم النفع والضر؛ فإنهم مقرون لله بالوحدانية، وإفراده بالإلهية، وصدقوا رسله، فالذي أتوه من تعظيم الأولياء كفر عمل لا اعتقاد.
(1)[ص:5].
(2)
تقدم تخريجه (ص338).
فالواجب هو وعظهم وتعريفهم جهلهم، وزجرهم ولو بالتعزير كما أمرنا بحد الزاني، والشارب، والسارق من أهل الكفر العملي إلى أن قال: فهذه كلها قبائح محرمة من أعمال الجاهلية، فهو من الكفر العملي.
وقد ثبت أن هذه الأمة تفعل أمورا من أمور الجاهلية هي من الكفر العملي كحديث: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ".
أخرجه مسلم في صحيحه (1) من حديث أبي مالك الأشعري. فهذه من الكفر العملي، لا تخرج بها الأمة عن الملة، بل هم مع إتيانهم [39] بهذه الخصلة الجاهلية أضافهم إلى نفسه فقال: من أمتي. فإن قلت: الجاهلية تقول في أصنامها أنهم يقربوهم إلى الله زلفى كما يقوله القبوريون، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما يقوله القبوريون أيضا، قلت: لا سوى فإن القبوريين مثبتون لتوحيد الله، قائلون أنه لا إله إلا هو، ولو ضربت عنقه على أن يقول: إن الولي إله مع الله لما قالها، بل عنده اعتقاد جهل أن الولي لما أطاع الله كان له بطاعته عنده تعالى جاه، به تقبل شفاعته، ويرجى نفعه، لا أنه إله مع الله، بخلاف الوثني فإنه امتنع عن قول لا إله إلا الله حتى ضربت عنقه زاعما أن وثنه إله مع الله، ويسميه ربا وإلها.
قال يوسف عليه السلام:} أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار {(2) سماهم أربابا لأنهم كانوا يسمونهم بذلك، كما قال الخليل:} هذا ربي {(3) في الثلاث الآيات مستفهما لهم مبكتا متكلما على خطابهم، حيث يسمون الكواكب أربابا. وقالوا:} أجعل الآلهة إلها واحدا {(4)، وقال قوم إبراهيم:
(1) رقم (29/ 934).
(2)
[يوسف:39].
(3)
[الأنعام:77، 78].
(4)
[ص:5].
} من فعل هذا بآلهتنا {(1)} أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم {(2). وقال إبراهيم:} أإفكا آلهة دون الله تريدون {(3).
ومن هنا تعلم أن الكفار غير مقرين بتوحيد الإلهية والربوبية كما توهمه من توهم من قوله:} ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله {(4)،} من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم {(5)،} قل من يرزقكم من السماء والأرض {إلى قوله:} فسيقولون الله {(6).
فهذا إقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما [40]، لا أنه إقرار بتوحيد الإلهية، لأنهم يجعلون أوثانهم أربابا كما عرفت، فهذا الكفر الجاهلي كفر اعتقاد، ومن لازمه كفر العمل بخلاف من اعتقد في الأولياء النفع والضر مع توحيد الله، والإيمان به، وبرسله، وباليوم الآخر، فإنه كفر عمل، فهذا تحقيق بالغ، وإيضاح لما هو الحق من غير إفراط ولا تفريط
…
انتهى كلام السيد المذكور رحمه الله.
وأقول: هذا الكلام في التحقيق ليس بتحقيق بالغ، بل كلام متناقض، متدافع، وبيانه أنه لا شك أن الكفر ينقسم إلى كفر اعتقاد، وكفر عمل، لكن دعوى أن ما يفعله المعتقدون في الأموات من كفر العمل في غاية الفساد فإنه قد ذكر في هذا البحث أن كفر من اعتقد في الأولياء كفر عملي، وهذا عجيب، كيف يقول كفر من يعتقد في الأولياء، وسمى ذلك اعتقادا، ثم يقول: إنه من الكفر العملي. وهل هذا إلا التناقض
(1)[الأنبياء:59].
(2)
[الأنبياء:62].
(3)
[الصافات:86].
(4)
[الزخرف:87].
(5)
[الزخرف:9].
(6)
[يونس].
البحث، والتدافع الخالص!.
انظر كيف ذكر في أول البحث أن كفر من يدعو الأولياء، ويهتف بهم عند الشدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبل جدراتها، وينذر لها بشيء من ماله هو كفر عملي!.
فليت شعري ما هو الحامل له على الدعاء والاستغاثة، وتقبيل الجدران، ونذر النذورات! هل هو مجرد اللعب والعبث من دون اعتقاد، فهذا لا يفعله إلا مجنون، أم الباعث عليه الاعتقاد في الميت، فكيف لا يكون هذا من كفر الاعتقاد الذي لولاه لم يصدر فعل من تلك الأفعال!.
ثم انظر كيف اعترف بعد أن حكم على هذا الكفر بأنه كفر عمل، لا كفر اعتقاد بقوله: لكن زين له الشيطان [41] أن هؤلاء عباد الله الصالحين، ينفعون، ويشفعون، ويضرون! فاعتقد ذلك جهلا كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام.
فتأمل كيف حكم بأن هذا كفر اعتقاد ككفر أهل الجاهلية، وأثبت الاعتقاد واعتذر عنهم بأنه اعتقاد جهل. وليت شعري أي فائدة لكونه اعتقاد جهل! فإن طوائف الكفر بأسرها، وأهل الشرك قاطبة إنما حملهم على الكفر ودفع الحق، والبقاء على الباطل الاعتقاد جهلا. وهل يقول قائل: إن اعتقادهم اعتقاد علم حتى يكون اعتقاد الجهل عذرا لإخوانهم المعتقدين في الأموات!.
ثم تمم الاعتذار بقوله: لكن هؤلاء مثبتون للتوحيد إلى آخر ما ذكره.
ولا يخفاك أن هذا عذر باطل، فإن إثباتهم للتوحيد إن كان بألسنتهم فقط فهم مشتركون في ذلك هم واليهود والنصارى والمشركون والمنافقون، وإن كان بأفعالهم فقد اعتقدوا في الأموات ما اعتقده أهل الأصنام في أصنامهم.
ثم كرر هذه المعنى في كلامه، وجعله السبب في رفع السيف عنهم، وهو باطل فما ترتب عليه مثله باطل، فلا نطول برده، بل هؤلاء القبوريون قد وصلوا إلى حد في اعتقادهم في الأموات لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم، وهو أن الجاهلية كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله وحده، وإنما يدعون أصنامهم مع عدم نزول الشدائد من
الأمور كما حكى الله عنهم بقوله:} وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا {(1)، وبقوله تعالى:} قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين {(2)، وبقوله تعالى:} وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خولناه نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل {(3)، وبقوله تعالى:} وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين {(4)، بخلاف المعتقدين في الأموات؛ فإنها إذا دهمتهم الشدائد استغاثوا بالأموات، ونذروا لهم النذور، وقل من يستغيث بالله -سبحانه- في تلك الحال، وهذا يعلمه كل من له بحث عن أحوالهم.
ولقد أخبرني بعض من ركب البحر للحج أنه اضطرب اضطرابا شديدا، فسمع من في السفينة من الملاحين، وغالب الراكبين معهم ينادون الأموات، ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط. قال: ولقد خشيت في تلك الحالة الغرق لما شاهدته من الشرك بالله.
وقد سمعنا عن جماعة من أهل البادية أن كثيرا منهم إذا حدث له ولد جعل قسطا من ماله لبعض الأموات المعتقدين، ويقول: إنه قد اشترى ولده ذلك من الميت الفلاني بكذا، فإذا عاش حتى يبلغ سن الاستقلال دفع ذلك الجعل لمن يعتكف على قبر ذلك الميت من المحتالين لكسب الأموال (5).
(1)[الإسراء:67].
(2)
[الأنعام:40].
(3)
[الزمر:8].
(4)
[لقمان:32].
(5)
في هامش المخطوط ما نصه: " أما من بلغ به الحال إلى أنه يعتقد في الميت أنه يحيي ويميت، وما أشبه ذلك من الاعتقادات فلعل السيد محمد وغيره لا ينازعون في كفره، وأما جعل الحكم بالشرك كليا على كل من اعتقد في الأموات وأنه يستباح دمه وماله فهو من المختارات (تمت كاتبه).
وبالجملة فالسيد المذكور رحمه الله قد جرد النظر في بحثه السابق إلى الإقرار بالتوحيد الظاهري، واعتبر مجرد التكلم بكلمة التوحيد فقط من دون نظر إلى ما ينافي ذلك من أفعال المتكلم بكلمة التوحيد ويخالفه في اعتقاده الذي صدرت عنه تلك الأفعال المتعلقة بالأموات [43]، وهذا الاعتبار لا ينبغي التعويل عليه، ولا الاشتغال به، فالله -سبحانه- إنما ينظر إلى القلوب، وما صدر من الأفعال عن اعتقاد لا إلى مجرد الألفاظ، وإلا لما كان فرق بين المؤمن والمنافق. وأما ما نقله السيد (1) المذكور رحمه الله عن ابن القيم في أول كلامه من تقسيم الكفر إلى عملي واعتقادي، فهو كلام صحيح، وعليه جمهور المحققين، ولكن لا يقول ابن القيم ولا غيره أن الاعتقاد في الأموات على الصفة التي ذكرها هو من الكفر العملي. وسننقل هاهنا كلام ابن القيم في أن ما يفعله المعتقدون في الأموات من الشرك الأكبر كما نقل عنه السيد رحمه الله في كلامه السابق، ثم نتبع ذلك بالنقل عن بعض أهل العلم، فإن السائل -كثر الله فوائده- قد طلب ذلك في سؤاله.
[أنواع الشرك]
فنقول: قال ابن القيم في شرح المنازل (2) في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر، وأصغر:
فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله. أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشائخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وقد شاهدنا هذا -نحن وغيرنا- منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه إن قام وإن قعد وإن عثر، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده. وهكذا كان عباد الأصنام،
(1) محمد بن إسماعيل الأمير.
(2)
أي "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"(1/ 379 - 0 38).
سواء وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجز، وغيرهم اتخذها من البشر. قال الله حاكيا عن أسلاف هؤلاء [44]:} والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار {(1). وهكذا حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى. وما أعز من تخلص من هذا بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله ذلك في كتابه، وأبطله. وأخبر أن الشفاعة كلها له. ثم ذكر الآية التي بسورة سبأ (2)، وهي قوله تعالى:} قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض {. وتكلم (3) عليها ثم قال (4): والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وهذا لأنه إذا يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا
(1)[الزمر:3].
(2)
(وما لهم فيهما من شرك وما لهم منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له)[سبأ: 22 - 23].
(3)
في كتابه " مدارج السالكين "(1/ 383).
فقال: فنفى -سبحانه- المراتب الأربع نفيا مرتبا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه.
فكفى بهذه الآية نورا، وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها.
(4)
ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 383).
يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والمسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي سليم يرى ذلك عيانا. والله المستعان.
ثم قال في ذلك الكتاب (1): (وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك بالله " (2)، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده.
ثم قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في ذلك الكتاب (3) بعد فراغه من ذكر الشرك الأكبر والأصغر، والتعريف لهما: ومن أنواع الشرك سجود المريد للشيخ (4)، ومن
(1) أي مدارج السالكين (1/ 384).
(2)
تقدم تخريجه (ص 323).
(3)
مدارج السالكين (1/ 385).
(4)
انظر: "رماح حزب الرحيم" لعلي حرازم (1/ 133). "قلادة الجواهر" للصيادي ص 378.
ومن هذه الضلالات آداب يجب أن يتحلى بها المريد مع شيخه:-
1 -
\ يستحضر شخص شيخه في قلبه أثناء الذكر ويجعله بين عينيه قبل الذكر فإن شيخه هو باب الدخول على الله ومنه يستمد الهمة ويكون الشيخ عنده كالقبلة فبذلك يمد له نور من قبر الشيخ الرفاعي.
2 -
\ مراقبة الشيخ دائما في كل الشئون وهذا شرك بالله لأنه فيه رفع الشيخ إلى مرتبة الربوبية والألوهية.
3 -
\ عدم الاعتراض على الشيخ وعدم الإنكار عليه حتى ولو رأى المريد شيخه يفعل شيئا محرما وهذه دعوى لتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4 -
\ لا يلتجئ لغيره من الصالحين.
أنواعه التوبة للشيخ، فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غير الله، وإضافة نعمه إلى غيره. ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به، أو سأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل استعانته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذا حال كل مشرك. والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه، ويستغفر له كما أوصانا (1) النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا، وزارهم زيارة العبادة في قضاء الحوائج والاستعانة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا، واتخذوا عندها الوقفة، وحلق الرءوس، فجعلوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياء الموحدين المخلصين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص؛ إذ ظنوا [46] أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم. ولله در خليله إبراهيم حيث يقول:} واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس {(2)
(1)(منها) ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (104/ 975) والنسائي رقم (2040) وابن ماجه رقم (1547) والبغوي في " شرح السنة " رقم (1555) وأحمد (5/ 353، 360) من حديث بريدة، رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية" وهو حديث صحيح.
(2)
[إبراهيم:35 - 36].
وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله
…
انتهى كلام ابن القيم (1).
فانظر كيف صرح بأن ما يفعله هؤلاء المعتقدون في الأموات هو شرك أكبر، بل أصل شرك العالم، وما ذكره من المعاداة لهم، فهو صحيح:} لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله {(2). قال الله تعالى:} يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء {إلى قوله [تعالى]:} كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده {(3).
وقال شيخ الإسلام تقي الدين في الإقناع: إن من دعا ميتا، وإن كان من الخلفاء الراشدين فهو كافر، وإن من شك في كفره فهو كافر.
وقال أبو الوفاء ابن عقيل (4) في الفنون: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى
(1)"مدارج السالكين"(1/ 387).
(2)
[المجادلة: 22].
(3)
[الممتحنة: 1 - 4].
(4)
علي بن عقيل بن محمد البغدادي الظفري الحنبلي، فقيه، أصولي ولد ببغداد سنة 431 هـ وتوفي سنة 513 هـ.
من تصانيفه: " تفضيل العبادات على نعيم الجنات "، "الانتصار لأهل الحديث"، "الواضح في أصول الفقه".
انظر: شذرات الذهب (4/ 35 - 40) ولسان الميزان (4/ 243 - 244).
بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر إقتداء بمن عبد اللات والعزى
…
انتهى.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1) في إنكار تعظيم القبور: وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم كتابا سماه: مناسك المشاهد (2). ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام
…
انتهى. وهذا [47] الذي أشار إليه هو ابن المفيد. وقال في النهر الفائق: اعلم أن الشيخ قاسم قال في شرح درر البحار: إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان إن رد غائبي، أو عوفي مريضي فلك من الذهب، أو الفضة، أو الشمع، أو الزيت كذا. باطل إجماعا لوجوه إلى أن قال: ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر
…
انتهى.
وهذا القائل هو من أئمة الحنفية.
وتأمل ما أفاده من حكاية الإجماع على بطلان النذر المذكور، وأنه كفر عنده مع ذلك الاعتقاد.
وقال صاحب الروض: إن المسلم إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كفر
…
انتهى. وهذا القائل من الشافعية.
وإذا كان الذبح لسيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم كفرا عنده، فكيف بالذبح لسائر الأموات (3).
(1)(1/ 288).
(2)
ألفه ابن المفيد الشيعي الغالي، من أعيان الشيعة في القرن الخامس الهجري.
(3)
فليعلم أن النذر لغير الله مع ما فيه من الشرك بالله هو مسخ للدماغ وإهانة للعقل البشري، وذلك بسبب الاعتقاد بأن الميت الذي لا يستطيع أن ينفع نفسه يلجأ إلى المخدوعين وضعاف العقول، من الدراويش. ومن حذا حذوهم من المبتدعة المحسوبين على أمة الإسلام. فيطلبون من ذلك المقبور الشفاء وقضاء الحاجات ورد الغائب وما شاكل ذلك من أنواع العبادات التي لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ومن صرفها لأحد من البشر أو الملائكة أو الأنبياء كائنا من كان فقد أشرك بالله فضلا عن كون هؤلاء مجتمعين لا يقدرون على قضائها أو تحقيقها لطالبيها، لأنها من خصائص الألوهية المحضة.
" مصرع الشرك والخرافة "(ص 220).
وقال ابن حجر في شرح الأربعين له: من دعا غير الله فهو كافر
…
انتهى.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله في الرسالة السنية: إن كل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبده وحده لا يجعل معه إلها آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم [48] ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى:} قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب {(1) الآية. قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، ثم قال في ذلك الكتاب: وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل الله به الكتب. قال الله تعالى:} ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت {(2)، وقال تعالى:} وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون {(3)
(1)[الإسراء:56 - 57].
(2)
[النحل:36].
(3)
[الأنبياء:25].
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته حتى قال رجل: ما شاء الله وشئت. قال: " أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده "(1). ونهى عن الحلف بغير الله وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك"(2). وقال صلى الله عليه وآله وسلم في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "(3) يحذر ما فعلوا. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"(4)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:" لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني"(5). ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قبره أنه لا يتمرغ بحجرته، ولا يقبلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال الله تعالى:} إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما {(6) ولهذا كانت كلمه التوحيد أفضل الكلام، وأعظمه آية الكرسي:} الله لا إله إلا هو الحي القيوم {(7). وقال
(1) تقدم تخريجه (ص 332 - 333).
(2)
تقدم تخريجه (ص 323).
(3)
تقدم تخريجه (ص 324).
(4)
تقدم تخريجه (ص 325).
(5)
أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود رقم (2042) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث حسن.
(6)
[النساء: 48].
(7)
[البقرة: 255].
-صلى الله عليه وآله وسلم: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة "(1)، والإله هو الذي يأله القلب عبادة له، واستغاثة به، ورجاء له خشية وإجلالا
…
اهـ.
وقال أيضًا شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في كتابه: اقتضاء (2) الصراط المستقيم في الكلام على قوله تعالى:} وما أهل به لغير الله {(3) أن الظاهر أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه بسم الله؛ فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه: بسم الله كما قد تفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعات، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح.
ثم قال في موضع آخر من هذا الكتاب (4): إن العلة في النهي عن الصلاة عند القبور ما يفضي إليه ذلك من الشرك. ذكر ذلك الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- وغيره، وكذلك الأئمة من أصحاب أحمد ومالك، وكأبي بكر الأثرم علله بهذه العلة .. اهـ، وكلامه في هذا الباب واسع جدا، وكذلك كلام غيره من أهل العلم.
وقد تكلم جماعة من أئمة أهل البيت -رضوان الله عليهم- ومن أتباعهم رحمهم الله في هذه المسألة بما يشفي ويكفي، ولا يتسع المقام لبسطه، وآخر من كان منهم نكالا عن القبوريين وعلى القبور الموضوعة على غير الصفة الشرعية مولانا الإمام المهدي
(1) أخرجه أبو داود (3116) والحاكم (1/ 351) وقال: صحيح الإسناد. وأحمد (5/ 233). وهو حديث حسن.
(2)
(2/ 565).
(3)
[البقرة:173].
(4)
اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/ 776).
العباس (1) بن الحسين بن القاسم رحمه الله، فإنه بالغ في هدم المشاهد التي كانت فتنة للناس، وسببا لضلالهم، وأتى على غالبها، ونهى الناس عن قصدها والعكوف عليها فهدمها، وكان في عصره جماعة من أكابر العلماء أرسلوا إليه برسائل، وكان ذلك هو الحامل له على نصرة الدين بهدم طواغيت القبوريين.
وبالجملة فقد سردنا من أدلة الكتاب والسنة فيما سيق ما لا يحتاج معه الاعتضاد بقول أحد من أهل العلم، ولكن ذكرنا ما حررناه من أقوال أهل العلم، مطابقة لما طلبه السائل -كثر الله فوائده-.
[إخلاص التوحيد في كتاب الله]
وبالجملة فإخلاص التوحيد، والأمر الذي بعث الله لأجله رسله، ونزل به كتبه. وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل، ولو أراد رجل أن يجمع ما ورد في هذا المعنى من الكتاب والسنة لكان مجلدا ضخما، فانظر فاتحة الكتاب التي تكرر في كل صلاة مرات من كل فرد من الأفراد، ويفتتح بها التالي لكتاب الله، والمتعلم له، فإن فيها الإرشاد إلى إخلاص التوحيد في مواضع، فمن ذلك} بسم الله الرحمن الرحيم {؛ فإن علماء المعاني والبيان ذكروا أنه يقدر المتعلق متأخرا ليفيد اختصاص البداية باسمه تعالى، لا باسم غيره. وفي هذا ما لا يخفى من إخلاص التوحيد، ومنها في قوله:} الحمد لله رب العالمين {(2)، فإن التعريف يفيد أن الحمد مقصور على الله، واللام في} الله {تفيد اختصاص الحمد به، ومقتضى هذا أنه لا حمد لغيره أصلا وما وقع منه لغيره فهو في
(1) هو الإمام المهدي لدين الله العباس ابن الإمام المنصور بالله الحسين ابن الإمام المتوكل القاسم بن الحسين ولد سنة 1131 هـ. له اطلاع كلي على علم التاريخ والأدب ومعرفة بفنون من العلم. انظر "البدر الطالع"(1/ 310).
(2)
[الفاتحة:2].
حكم العدم. وقد تقرر أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري لقصد التعظيم، فلا ثناء إلا عليه، ولا جميل إلا منه، ولا تعظيم إلا له، وفي هذا من إخلاص التوحيد ما ليس عليه مزيد. ومن ذلك قوله:} مالك يوم الدين {(1) أو (ملك يوم الدين) على القراءتين السبعيتين (2)، فإن كونه المالك ليوم الدين يفيد أنه لا ملك لغيره فلا ينفذ إلا تصرفه لا تصرف أحد من خلقه من غير فرق بين نبي مرسل، وملك مقرب، وعبد صالح [52]، وهكذا معنى كونه} ملك يوم الدين {، فإنه يفيد أن الأمر أمره، والحكم حكمه ليس لغيره معه أمر ولا حكم، كما أنه ليس لغير ملوك الأرض معهم أمر ولا حكم، ولله المثل الأعلى. وقد فسر الله هذا المعنى الإضافي المذكور في فاتحة الكتاب في موضع آخر من كتابه العزيز فقال:} وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله {(3) ومن كان يفهم كلام العرب ونكتة وأسراره كفته هذه الآية عن غيرها من الأدلة، واندفعت لديه كل شبهة، ومن ذلك قوله:} إياك نعبد {(4) فإن تقدم الضمير قد صرح به أئمة المعاني والبيان، وأئمة التفسير أنه يفيد الاختصاص، فالعبادة لله -سبحانه- لا يشاركه فيها غيره، ولا يستحقها سواه، وقد عرفت أن الاستغاثة، والدعاء،
(1)[الفاتحة:4].
(2)
قرأ عاصم والكسائي بالألف أي (مالك يوم الدين) وقرأ الباقون بغير الألف (ملك يوم الدين) وذكر الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي وهو من جلة أصحاب الكسائي عن الكسائي أنه خير في ذلك.
الكشف عن وجوه القراءات السبع (1/ 25) مكي بن أبي طالب القيسي، وانظر زاد المسير (1/ 10 - 15).
(3)
[الانفطار:17 - 19].
(4)
[الفاتحة:5].
والتعظيم، والذبح، والتقرب من أنواع العبادة. ومن ذلك قوله:} وإياك نستعين {(1) فإن تقدم الضمير هاهنا يفيد الاختصاص كما تقدم، وهو يقتضي أنه لا يشاركه غيره في الاستعانة به في الأمور التي لا يقدر عليها غيره.
فهذه خمسة مواضع في فاتحة الكتاب يفيد كل واحد منها إخلاص التوحيد، مع أن فاتحة [53] الكتاب ليست إلا سبع آيات، فما ظنك بما في سائر الكتاب العزيز!، فذكرنا لهذه الخمسة المواضع في فاتحة الكتاب كالبرهان على ما ذكرناه من أن في الكتاب العزيز من ذلك ما يطول تعداده، وتتعسر الإحاطة به. ومما يصلح أن يكون موضعا سادسا لتلك المواضع الخمسة في فاتحة الكتاب قوله تعالى:} رب العالمين {. وقد تقرر لغة وشرعا أن العالم لمن سوى الله -سبحانه-.
وصيغ الحصر إذا تتبعتها من كتب (2) المعاني والبيان والتفسير والأصول بلغت ثلاث عشرة (3) صيغة فصاعدا، ومن شك في هذا فليتتبع كشاف الزمخشري، فإنه سيجد فيه
(1)[الفاتحة:5].
(2)
انظر الكوكب النير (3/ 515) ومعترك الأقران في إعجاز القران (1/ 136).
(3)
الحصر: وجه من وجوه إعجاز القرآن. وهو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص، ويقال أيضًا إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
ينقسم إلى قصد الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف، وكل منهما إما حقيقي وإما مجازي، مثال قصر الموصوف على الصفة حقيقيا نحو ما زيد إلا كاتب، أي لا صفة له غيرها، وهو عزيز لا يكاد يوجد. لتعذر الإحاطة بصفات الشيء، حتى يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداها بالكلية وعلى عدم تعذرها يبعد أن يكون للذات صفة واحدة ليس لها غيرها، ولذا لم يقع في التنزيل.
ومثاله مجازيا: (وما محمد إلا رسول)[آل عمران: 144]، أي مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الموت الذي استعظموا، إنه شأن الإله. ومثال قصر الصفة على الموصوف حقيقيا: لا إله إلا الله. ومثاله مجازيا: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة)[الأنعام:145].
وينقسم الحصر باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام:
1 -
\ قصر إفراد: يخاطب به من يعتقد الشركة، نحو:(إنما الله إله واحد)، [النساء: 171].
2 -
\ قصر قلب: يخاطب به من يعتقد إثبات الحكم لغير من أثبته المتكلم له. نحو (ربي الذي يحيي ويميت)[البقرة: 258]، خوطب به نمرود الذي اعتقد أنه المحيي والمميت دون الله.
3 -
\ قصر تعيين: يخاطب به من تساوى عنده الأمران فلم يحكم بإثبات الصفة لواحد بعينه ولا لواحد بإحدى الصفتين بعينها.
وطرق الحصر كثرة:
1 -
\ النفي والاستثناء سواء كان النفي بلا أو ما أو غيرهما. والاستثناء بإلا أو غير نحو: لا إله إلا الله، وما من إله إلا الله. (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) [المائدة: 117].
2 -
\ (إنما) عند الجمهور أنها للحصر (إنما حرم عليكم الميتة)[النحل: 115]. وقال لا يجتمع حرفا تأكيد متواليان إلا للحصر. (قال إنما العلم عند الله)[الأحقاف: 23]. (قل إنما علمها عند ربي)[الأعراف: 187].
3 -
\ (أنما) بالفتح: عدها من طرق الحصر الزمخشري والبيضاوي. قال تعالى: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)[الأنبياء: 108]. وقد اجتمع الأمران في هذه الآية (إنما، أنما) وفيه الدلالة على أن الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية.
4 -
\ العطف بلا أو بل، ذكره أهل البيان - زيد شاعر لا كاتب.
5 -
\ تقدم المعمول نحو:} إياك نعبد {[الفاتحة:5].
6 -
\ ضمير الفصل نحو: (فالله هو الولي)، [الشورى: 9]. (وأولئك هم المفلحون)[لقمان: 5].
7 -
\ تقديم المسند إليه -يكود معرفة ومثبتا-. قال تعالى: (بل أنتم بهديتكم تفرحون)[النمل: 36]. وقال تعالى: (لا تعلمهم نحن نعلمهم)[التوبة: 101] أي لا يعلمهم إلا نحن.
- المسند منفيا: (فهم لا يتساءلون)[القصص: 66].
- المسند نكرة: لا امرأة، للجنس، وللوحدة لا رجلان.
- أن يلي المسند إليه حرف النفي فيفيده نحو: ما أنا قلت هذا. قال تعالى: (وما أنت علينا بعزيز)[هود: 91]. وقال تعالى: (أرهطي أعز عليكم من الله)[هود: 92].
8 -
\ تقديم المسند، ذكر ابن الأثير وابن النفيس وغيرهما أن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الاختصاص.
9 -
\ ذكر المسند إليه، صرح بذلك الزمخشري. قال تعالى:(الله يبسط الرزق)[الرعد: 26]. قال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث)[الزمر: 23].
10 -
\ تعريف الجزأين: ذكره فخر الدين الرازي في "نهاية الإيجاز".
مثال الحمد لله يفيد الحصر كما في (إياك نعبد). أي أن الحمد لله لا لغيره.
11 -
\ نحو: جاء زيد نفسه. نقله شراح التلخيص أنه يفيد الحصر.
12 -
\ نحو: إن زيد القائم.
13 -
\ نحو: قائم - في جواب زيد إما قائم أو قاعد. ذكره الطيبي في شرح البيان.
انظر: معترك الأقران في إعجاز القرآن (1/ 136 - 142).
ما ليس له ذكر في كتب المعاني والبيان، كالقلب، فإنه جعله من مقتضيات الحصر، ولعله ذكر ذلك عند تفسيره (1) للطاغوت، وغير ذلك مما لا يقتضي المقام بسطه ومع
(1) أي الكشاف: (5/ 296 - 297). قال تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها)[الزمر: 17].
قال -أي الزمخشري- القلب للاختصاص بالنسبة إلى الطاغوت، لأن وزنه على فعلوت، من الطغيان، كملكوت ورحموت. قلب بتقديم اللام على العين، فوزنه فلعوت، ففيه مبالغات: التسمية بالمصدر والبناء بناء مبالغة، والقلب، وهو للاختصاص، إذ لا يطلق على غير الشيطان.
وفي موطن آخر من تفسير الكشاف (6/ 130): حيث قال: قدم الظرفان -في قوله تعالى- (له الملك وله الحمد)[التغابن:1] ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص لأنه مبتدئ كل شيء ومبدعه والقائم به والمهيمن عليه، وكذلك، لأن أصول النعم وفروعها منه.
الإحاطة بصيغ الحصر المذكورة تكثر الأدلة الدالة على إخلاص التوحيد، وإبطال الشرك بجميع أقسامه.
واعلم أن السائل -كثر الله فوائده- ذكر في جملة ما سأل عنه أنه لو قصد الإنسان قبر رجل من المسلمين، مشهور بالصلاح، ووقف لديه وأدى الزيارة، وسأل الله بأسمائه الحسنى، وبما لهذا الميت لديه من المنزلة، هل تكون هذه البدعة عبادة لهذا الميت، ويصدق [54] عليه أنه قد دعا غير الله، وأنه قد عبد غير الرحمن، ويسلب عنه اسم الإيمان، ويصدق على هذا القبر أنه وثن من الأوثان، ويحكم بردة ذلك الداعي، والتفريق بينه وبين نسائه، واستباحة أمواله، ويعامل معاملة المرتدين، أو يكون فاعل معصية كبيرة أو مكروه؟.
وأقول: قد قدمنا في أوائل هذا الجواب أنه لا بأس بالتوسل بنبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، أو عالم من العلماء. وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه، فهذا الذي جاء إلى القبر زائرا، ودعا الله وحده، وتوسل بذلك الميت، كأن يقول: اللهم إني أسألك أن تشفيني من كذا، وأتوسل إليك بما لهذا العبد الصالح من العبادة لك، أو المجاهدة فيك، أو التعلم والتعليم، خالصا لك، فهذا لا أتردد في جوازه.
لكن لأي معنى قام يمشي إلى القبر؟، فإن كان لمحض الزيارة ولم يعزم على الدعاء والتوسل إلا بعد تجريد القصد إلى الزيارة، فهذا ليس بممنوع، فإنه إنما جاء ليزور. وقد أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزيارة القبور بحديث:" كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " وهو في الصحيح (1). وخرج لزيارة الموتى، ودعا لهم،
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (977) وأبو داود رقم (3235) والنسائي (4/ 89) والترمذي رقم (1054) وزاد: " فإنها تذكر الآخرة " كلهم من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي.
وعلمنا كيف نقول إذا نحن زرناهم. وكان يقول: " السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، [55] وإنا بكم -إن شاء الله- لاحقون، وأتاكم ما توعدون، نسأل الله لنا ولكم العافية (1)، وهو أيضًا في الصحيح بألفاظ، وطرق، فلم يفعل هذا الزائر إلا ما هو مأذون له به، ومشروع، لكن بشرط أن لا يشد راحلة، ولا يعزم على سفر، ولا يرحل كما ورد تقييد الإذن بالزيارة للقبور بحديث: " لا تشد الرحال إلا لثلاث
…
" (2) وهو مقيد لمطلق الزيارة. وقد خصص بمخصصات منها زيارة القبر الشريف النبوي المحمدي على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم وفي ذلك خلاف بين العلماء، وهي مسألة من المسائل التي طالت ذيولها، واشتهرت أصولها، وامتحن بسببها من امتحن، وليس ذكر ذلك هاهنا من مقصودنا.
[حكم المشي إلى القبر ليشير إليه عند التوسل]
وأما إذا لم يقصد مجرد الزيارة، بل قصد المشي إلى القبر ليفعل الدعاء عنده فقط، وجعل الزيارة تابعة لذلك، أو مشى لمجموع الزيارة والدعاء فقد كان يغنيه أن يتوسل إلى الله بما لذلك الميت من الأعمال الصالحة من دون أن يمشي إلى قبره.
فإن قال: إنما مشيت إلى قبره لأشير إليه عند التوسل به، فيقال له إن الذي يعلم السر وأخفى، ويحول بين المرء وقلبه [56]، ويطلع على خفيات الضمائر، وتنكشف لديه مكنونات السرائر لا يحتاج منك إلى هذه الإشارة التي زعمت أنها الحاملة لك على قصد القبر، والمشي إليه. وقد كان يغنيك أن تذكر ذلك الميت باسمه العلم، أو بما يتميز به عن غيره، فما أراك مشيت لهذه الإشارة، فإن الذي تدعوه في كل مكان، ومع كل إنسان، بل مشيت لتسمع الميت توسلك به، وتعطف قلبه عليك، وتتخذ عنده ندا
(1) تقدم تخريجه آنفا (ص 372).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1189) ومسلم رقم (1397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
بقصده وزيارته، والدعاء عنده، والتوسل به، وأنت إن رجعت إلى نفسك وسألتها عن هذا المعنى فربما تقر لك به وتصدقك الخبر، فإن وجدت عندها هذا المعنى الدقيق الذي هو بالقبول منك حقيق فاعلم أنه قد علق بقلبك ما علق بقلوب عباد القبور، ولكنك قهرت هذه النفس الخبيثة عن أن تترجم بلسانك عنها، وتنشر ما انطوت عليه من محبة ذلك القبر، والاعتقاد فيه، والتعظيم له، والاستغاثة به، فأنت مالك لها من هذه الحيثية، مملوك لها من الحيثية التي أقامتك من مقامك، ومشت بك إلى فوق القبر، فإن تداركت نفسك بعد هذه وإلا كانت المسئولة عليك المتصرفة فيك المتلاعبة بك [57] في جميع ما تهوى مما ما قد وسوس به لها الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.
فإن قلت: رجعت إلى نفسي فلم أجد عندها شيئا من هذا، وفتشتها فوجدتها صافية من ذلك الكدر. فما أظن الحامل لك على المشي إلى القبر إلا أنك سمعت الناس يفعلون شيئا ففعلته، ويقولون شيئا فقلته. فاعلم أن هذه أول عقدة من عقد توحيدك، وأول محنة من محن تقليدك، فارجع تؤجر، ولا تتقدم تنحر، فإن هذا التقليد الذي حملك على هذه المشية الفارغة العاطلة الباطلة سيحملك على أخواتها فتقف على باب الشرك أولا، ثم تدخل منه ثانيا، ثم تسكن فيه وإليه ثالثا. وأنت في ذلك كله تقول: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، ورأيتهم يفعلون أمرا ففعلته.
[أحوال الذي يقصد القبر ليدعو عنده]
وإن قلت: إنك على بصيرة في عملك وعلمك، ولست ممن ينقاد لهوى نفسه كالأول، ولا ممن يقهرها، ولكنه يقلد الناس كالثاني، بل أنت صافي السر، نقي الضمير، خالص الاعتقاد، قوي اليقين، صحيح التوحيد، جيد التمييز، كامل العرفان، عالم بالسنة والقرآن، فلا لمراد نفسك اتبعت، ولا في هوة التقليد وقعت،
فقل لي بالله ما الحامل لك على التشبه بعباد القبور، والتعزير على من كان في عداد سليمي الصدور، فإنه يراك الجاهل [58] والخامل، ومن هو عن علمك وتمييزك عاطل، فيفعل كفعلك، ويقتدي بك، وليس له بصيرة مثل بصيرتك، ولا قوة في الدين مثل قوتك، فيحكي فعلك صوره، ويخالفه حقيقة، ويعتقد أنك لم تقصد هذا القبر إلا لأمر، ويغتنم إبليس اللعين غربة هذا المسكين الذي اقتدى بك، واستن بسنتك، فيستدرجه حتى يبلغ به إلى حيث يريد، فرحم الله امرأ هرب بنفسه عن غوائل التقليد، وأخلص عبادته للحميد المجيد.
وقد ظهر بمجموع هذا التقسيم أن من يقصد القبر ليدعو عنده هو أحد ثلاثة: إن مشى لقصد الزيارة فقط، وعرض له الدعاء، ولم يحصل بدعائه تغرير على الغير فذلك جائز، وإن مشى لقصد الدعاء فقط، أو له مع الزيارة، وكان له من الاعتقاد ما قدمنا فهو على خطر الوقوع في الشرك، فضلا عن كونه عاصيا، وإذا لم يكن له اعتقاد في الميت على الصفة التي ذكرنا فهو عاص آثم، هذا أقل أحواله، وأحقر ما يربحه في رأس ماله.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق
…
انتهى.
تحريره بقلم مؤلفه في ليلة الأحد لسبع مضت من شهر رجب سنة 1213هـ. حامدا الله، ومصليا مسلما على رسوله وآله.