الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط
1 -
عنوان الرسالة في المخطوط: "إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات".
2 -
موضوع الرسالة: في العقائد.
3 -
الرسالة من المجلد الرابع (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).
4 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. . .
5 -
آخر الرسالة:. . . كان الفراغ من تحرير هذا المختصر يوم الأربعاء لعله السابع والعشرون من شهر ربيع الآخر من شهور سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين والألف، بقلم مؤلفه المفتقر إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
6 -
نوع الخط: خط نسخي معتاد.
7 -
عدد الأوراق: (40).
8 -
المسطرة: الورقة (1): عنوان الرسالة.
الورقة (2): 24 سطرا.
الورقة (3): 28 سطرا.
الورقة (4 - 7): 29 سطرا.
الورقة (8): 32 سطرا.
الورقة (9 - 13): 31 سطرا.
الورقة (14 - 15): 30 سطرا.
الورقة (16): 28 سطرا.
الورقة (17 - 18): 32 سطرا.
الورقة (19): 31 سطرا.
الورقة (20): 32 سطرا.
الورقة (21 - 23): 31 سطرا.
الورقة (24): 6 سطرا.
الورقة (25): 31 سطرا.
الورقة (26): 32 سطرا.
الورقة (27): 31 سطرا.
الورقة (28): 33 سطرا.
الورقة (29 - 30): 35 سطرا.
الورقة (31 - 32): 34 سطرا.
الورقة (33): 36 سطرا.
الورقة (34): 35 سطرا.
الورقة (35): 34 سطرا.
الورقة (36): 37 سطرا.
الورقة (37): 38 سطرا.
الورقة (38): 34 سطرا.
الورقة (39): 35 سطرا.
الورقة (40): 28 سطرا.
9 -
عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة.
10 -
الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
اللهم لك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، ولك الشكر عدد كل شيء، وزنة كل شيء، وملء كل شيء، وعدد ما قد شكرك الشاكرون، وما سيشكرك الشاكرون.
اللهم وصل وسلم على رسولك المصطفى من خلقك (محمد) صلاة وسلاما يدومان بدوام المخلوقات، ويتجددان بتجدد الأوقات، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الأكرمين.
وبعد، فإن القرآن العظيم قد اشتمل على الكثير الطيب من مصالح المعاش والمعاد، وأحاط بمنافع الدنيا والدين، تارة إجمالا، وتارة تفصيلا، وتارة عموما، وتارة خصوصا، ولهذا يقول -سبحانه-:} ما فرطنا في الكتاب من شيء {(1). ويقول عز وجل:} وكل شيء أحصيناه في إمام مبين {(2). ويقول تبارك وتعالى:} [ونزلنا عليك الكتاب](3) تبيانا لكل شيء {(4)، ونحو ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.
وأما مقاصد القرآن الكريم التي يكررها، ويورد الأدلة الحسية والعقلية عليها، ويشير إليها في جميع سوره، وفي غالب قصصه وأمثاله، فهي ثلاثة مقاصد، يعرف ذلك من له كمال فهم، وحسن تدبر، وجودة تصور، وفضل تفكر.
المقصد الأول: إثبات التوحيد.
المقصد الثاني: إثبات المعاد.
(1)[الأنعام: 38].
(2)
[يس: 12].
(3)
غير موجود في المخطوط.
(4)
[النحل: 89].
المقصد الثالث: إثبات النبوات.
ولما كانت هذه الثلاثة المقاصد، مما اتفقت عليه الشرائع جميعا، كما حكى ذلك الكتاب العزيز في غير موضع أحببت أن أتكلم هاهنا على كل مقصد منها، بإيراد ما يوضح ذلك من الكتب السابقة، وعن الرسل المتقدمين، مما يدل على اتفاق أنبياء الله وكتبه على إثباتها، لما في ذلك من عظيم الفائدة، وجليل العائدة، فإن من آمن بها كما ينبغي، واطمأن إليها كما يجب، فقد فاز بخيري الدارين، وأخذ بالحظ الوافر من السعادة الآجلة والعاجلة، ودخل إلى الإيمان الخالص من الباب الذي أرشده إلينا نبينا صلى الله عليه وسلم في جواب من سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال في الإيمان:
"أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله [1]، والقدر خيره وشره". هكذا ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (1) من طرق كثيرة.
ولا ريب أن من آمن بالله، وبما جاءت به رسله، ونطقت به كتبه، فإن إيمانه هذه المقاصد الثلاثة، هو أهم ما يجب الإيمان به، وأقدم ما يتحتم عليه اعتقاده؛ لأن الكتب قد نطقت بها، والرسل قد اتفقت عليها اتفاقا يقطع كل ريب، وينفي كل شبهة، ويذهب كل شك.
وسميت هذا المختصر: (إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات). وبالله أستعين، وعليه أتوكل.
(1) يشير إلى حديث جبريل الطويل، أخرجه البخاري في صحيحه رقم (50 و4777) ومسلم في صحيحه رقم (9 و10) من حديث أبي هريرة.
* وأخرجه مسلم قي صحيحه رقم (2، 3/ 8) من حديث عمر بن الخطاب.
وأخرجه أبو داود في "السنن " رقم (4695) من حديث بريدة وهو حديث صحيح.
وهو حديث مشهور في كتب السنة وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم عليه "الدين" فقال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
وانظر الحديث تخريجا وتعليقا في "معارج القبول"(2/ 723 - وما بعدها) بتحقيقي.
واعلم أن إيراد الآيات القرآنية، على إثبات كل مقصد من هذه المقاصد، وإثبات اتفاق الشرائع عليها، لا يحتاج إليه من يقرأ القرآن العظيم.
فإنه إذا أخذ المصحف الكريم، وقف على ذلك في أي موضع شاء، ومن أي مكان أحب، وفي أي محل منه أراد، ووجده مشحونا به من فاتحته إلى خاتمته.
الفصل الأول
في بيان اتفاق الشرائع على التوحيد
اعلم أن قد روى جماعة من أكابر علماء الإسلام أن الشرائع كلها اتفقت على إثبات التوحيد على كثرة عدد الرسل المرسلين، وكثرة كتب الله عز وجل، المنزلة على أنبيائه.
فإنه أخرج ابن حبان (1) والبيهقي (2) بسندين حسنين من حديث أبي ذر: "أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وأن الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب".
فالتوحيد هو دين العالم أوله وآخره، وسابقه ولاحقه. ومن خالف في ذلك فجعل لله عز وجل شريكا، وعبد الأصنام، فإنه كما أرشد إليه القرآن حكاية عنهم بقوله:} ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى {(3) مقر بأنه إيمان، وإنما جعل الشريك وصلة إلى الرب - سبحانه-، ووسيلة إلى التقريب إليه. وما ثبت في الصحيح (4) أنهم
(1) في صحيحه (2/ 76 رقم 361) من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني قال حدثنا عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر به.
وإبراهيم بن هشام هذا قال عنه أبو حاتم في " الجرح والتعديل "(2/ 42 - 43): كذاب.
(2)
في "السنن الكبرى"(9/ 4).
قلت: وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(7/ 2699) وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 168) كلهم من طريق يحيى بن سعيد القرشي السعدي عن ابن جريج، عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبي ذر بطوله.
وفيه يحيى بن سعيد قال ابن حبان عنه في " المجروحين "(3/ 129): شيخ يروى عن ابن جريج المقلوبات، وعن غيره من الثقات الملزقات لا يحل الاحتجاج به إذا انفرد.
وخلاصة القول أن الحديث ضعيف جدا والله أعلم.
(3)
[الزمر: 13].
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (22/ 1185) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك. قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويلكم قد. قد" فيقولون: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالميت.
كانوا يقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ".
وها نحن نذكر لك ما كتب الله عز وجل من أدلة التوحيد، وهي وإن كان عددها ما تقدم لكنه لم يبق بأيدي أهل الملل منها فيما وجدناه عندهم بعد البحث عن ذلك، ومزيد الطلب له، إلا التوراة، والزبور، والإنجيل، وكتب نبوات أنبياء بني إسرائيل.
أما التوراة (1) فالنصوص فيها على ذلك كثيرة جدا، وقد اشتملت على ذكر ما كان
(1) التوراة: كلمة عبرية معناها الشريعة وتسمى القانون أي القانون كما تسمى أيضًا (البانتاتيك) وهي كلمة يونانية تعني الأسفار الخمسة وهي:
1 -
): سفر التكوين: يقع في (50) إصحاحا، وسمي بذلك لاشتماله على قصة خلق العالم، ثم قصص آدم وذريته ونوح وإبراهيم وذريته وينتهي هذا السفر باستقرار بني إسرائيل وموت يوسف عليه السلام.
2 -
): سفر الخروج: ويقع في (40) إصحاحا. وسمي بذلك نسبة إلى حادثة خروج بني إسرائيل من مصر إلى أرض سيناء بقيادة موسى عليه السلام، وفيه يذكر الحوادث التي جرت لبني إسرائيل في أرض التيه، والوصايا العشر والكثير من الأحكام والتشريعات.
3 -
): سفر اللاويين: ويقع في (27) إصحاحا، ويحتوي على شئون العبادات وخاصة القرابين والطقوس الكهنوتية وكانت الكهانة موكولة إلى سبط لاوي بن يعقوب فلذلك سمي السفر نسبة إليهم.
4 -
): سفر العدد: ويقع في (36) إصحاحا، وسمي بذلك لأنه حامل بالعد والإحصاء لأسباط بني إسرائيل ومما يمكن إحصاؤه من شؤونهم ويتحلل ذلك بعض الأحكام والتشريعات.
5 -
): سفر التثنية: ويقع في (34) وسمي بذلك لإعادة ذكر الوصايا العشر وتكرار الشريعة والتعاليم مرة ثانية على بني إسرائيل عند خروجهم من أرض سيناء.
وهذا السفر ينهي التوراة المنسوبة إلى موسى عليه السلام ورد في آخرها النص الآتي: "فمات هناك موسى، عبد الرب قي أرض مؤاب بأمر الرب وتم دفنه في الوادي في أرض مؤاب تجاه بيت فاعور، ولم يعرف إنسان قبره إلى اليوم وكان موسى ابن مائة وعشرين حين مات. . . وتذكر دائرة المعارف الفرنسية (معجم لاروس) تحت عنوان توراة: أن العلم العصري ولا سيما النقد الألماني قد أثبت بعد دراسات مستفيضة في الآثار القديمة والتاريخ وعلم اللغات أن التوراة لم يكتبها موسى وإنما كتبها أحبار لم يذكروا اسمهم عليها ألفوها على التعاقب معتمدين على روايات سماعية سمعوها قبل أسر بابل ا هـ.
وصرح بذلك أيضًا الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوز (ت 1677م) ذكر فيه كلام عالم يهودي شك في نسبة الأسفار الخمسة ونسبتها إلى موسى-في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة (ص 266 - 271) حيث ذكر ملاحظات ابن عزرا- وأضاف إليها ملاحظات شخصية فقال: يبدو واضحا وضوح النهار أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة بل كتبها شخص عاش بعد موسى بقرون عديدة.
وقد ذكر هذه النتيجة المؤرخ ول ديورانت في موسوعته قصة الحضارة (2/ 367).
* علما بأن التوراة تعتبر جزءا رئيسا من (الكتاب المقدس) عند اليهود- والذي يسميه النصارى بالعهد القديم وينقسم إلى التوراة، الأسفار التاريخية، أسفار الأناشيد، أسفار الأنبياء.
يقع من الخصومات لأهل الأصنام، وإيراد الحجج عليهم، ولا سيما بعد موت موسى، وقيام أنبياء بني إسرائيل، فإنها وقعت بينهم قصص يطول شرحها، وكانوا يقاتلون من عبد الأصنام، ويستحلون دماءهم ويحشدهم على ذلك اتباع موسى، وأخبار الملة اليهودية [2]، وكل نبي يبعثه الله من أنبياء بني إسرائيل، يوجب على بني إسرائيل قتال من يعبد الأصنام، وغزوهم إلى ديارهم، وقد اشتملت التوراة أيضًا على حكاية ما كان من أخبار الأنبياء قبل موسى، وما كان بينهم من الدعاء إلى التوحيد، والفرار من الشرك، والتنفير عنه.
ومن نصوص التوراة ما ذكر في (الفصل العشرين) منها من السفر الثاني (1).
ولفظه: "أنا الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك معبودا آخر من دوني، لا تصنع لك منحوتا، ولا شبها لما في السماء من العلو، وما في الأرض مثلا، وما تحت الأرض، لا تسجد لهم، ولا تعبدها، لأني الله ربك القادر الغيور" انتهى.
(1) أي سفر الخروج.
وكرر هذا في مواضع منها غير هذا الموضع، وفي الفصل السادس والعشرين من السفر (1) الثالث من التوراة، ما لفظه:"ولا تصنعوا لكم أوثانا، ومنحوتا ونصبا، ولا تصنعوا لكم حجرا من خزف، لا تصنعوا في بلدكم لتسجدوا له، أنا الله ربكم" انتهى. وفي التوراة من النصوص المفيدة لهذا المعنى، ما يصعب الإحاطة به، ويتعسر الذكر لجميعه.
وفي الفصل (الثالث والعشرين) من كتاب يوشع بن نون ما لفظه: "وباسم معبوداتهم، لا تذكروا، ولا تحلفوا، ولا تعبدوهم، ولا تسجدوا لهم، بل الله ربكم، وبه تتمسكون كما فعلتم إلى هذا اليوم"، وفي كتابة نصوص كثيرة قاضية بإثبات التوحيد.
وكذلك في كتب من بعده من أنبياء بني إسرائيل الذين لهم كتب مدونة وقفنا عليها، وهم: صمويل الصبي، ثم اليسع، ثم داود، ثم سليمان، ثم عزرا الكاتب، وهو المسمى في القرآن:(عزير)، ثم إيليا، ثم عوبد، ثم أيوب، ثم أشعيا بن أموص، [وهو المسمى في القرآن:(إلياس). وفي (السفر الثاني) من أسفار الملوك من التوراة، أن الله رفعه إلى السماء]، ثم أرميا، ثم حزقيال، ثم دانيال ثم هوشع، وهو المسمى في الكتاب يوشع، ثم يونان، وهو المسمى في القرآن يونس، والمسمى أيضًا بذي النون. ثم ميخا، ثم ناحوم، ثم حبقوق، ثم صفونيا، ثم حجي، ثم يوحنا، ويقال:(ملاحيا) وهو المسمى في القرآن (يحيى). ثم بعد هؤلاء بعث الله عز وجل المسيح ابن مريم عليهم وعلى نبينا صلاة الله وسلامه.
وفي الزبور بما فيه التصريح بإثبات التوحيد مواضع كثيرة، فمنها في المزمور (2) السابع
(1) أي سفر اللاوين
(2)
سفر المزامير: وهي مجموعة من الأشعار الملحنة وغرضها تمجيد الله وشكره وكانت ترنم على صورة المزمار وغيره من الآلات الموسيقية. وفي العبرانية يسمى (كتاب الحمد) وقد عرفت باسم (مزامير داود) بالنسبة لعدد المزامير التي نسبت إليه وبلغت (73) من (150) مزمورا وتنقسم هذه المزامير إلى خمسة أقسام، وتقرأ هذه المزامير في الكنيسة والعبادات الفردية والجماعية.
انظر: ترجمته في سفر صموئيل الأول وسفر الملوك الأول، " السنن القويم"(ج16)، " قاموس الكتاب (430، 361، 366).
عشر ما لفظه: " كلام الرب مختبر، وهو ناصر جميع المتوكلين عليه؛ لأن من الإله غير الرب، أو من الإله سوى إلهنا"؟ انتهى.
وفي المزمور الموفي ثمانين. ما لفظه [3]: "ولا يكن فيك إله جديد، ولا تسجد لإله غريب، لأنني أنا هو الرب إلهك" انتهى.
وفي المزمور الخامس والثمانين ما لفظه: "الذي هو وحده إله، وله وحده أيضًا يجب أن يسجد الجميع ويخدموا" انتهى. وفيه أيضًا ما لفظه: "أنت وحدك الإله العظيم" انتهى.
وفي المزمور الرابع والتسعين (1) ما لفظه: "بالمزمور يهلل له، لأن الرب إله عظيم، وملك كبير على جميع الآلهة" انتهى. وفي المزمور الخامس والتسعين (2) ما لفظه: "فإن الرب عظيم ومسبح جدا، مرهوب هو على كل الآلهة، لأن كل آلهة الأمم شياطين، فأما الرب فصنع السماوات" انتهى.
وفي المزمور السادس والتسعين ما لفظه: " يخزى جميع الذين يسجدون للمنحوتات المفتخرون بأصنامهم. اسجدوا له يا جميع ملائكته" انتهى. وفي المزمور الخامس (3) بعد المائة: "وعبدوا منحوتاتهم (4) فصار ذلك عثرة لهم" انتهى.
(1) بل هي في المزمور الخامس والتسعون مع اختلاف بسيط.
(2)
بل هي في المزمور السادس والتسعين مع تغير بسيط.
(3)
بل هي في المزمور السادس بعد المائة: (فصارت لهم شركاء).
(4)
وفي المزمور أصنامهم بدل (منحوتاتهم).
وفي المزمور الثالث عشر بعد المائة: " إلهنا في السماء وفي الأرض، وكلما شاء صنع. أوثان الأمم فضة وذهب، أعمال أيدي الناس لها أفواه، ولا تتكلم، لها أعين ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع، لها مناخر ولا تشم، لها أيادي ولا تلمس، لها أرجل ولا تمشط، ولا تصوت بحنجرتها" انتهى.
وفي المزمور الثالث والثلاثين بعد المائة، ما لفظه:"أوثان الأمم فضة وذهب، أعمال أيدي الناس، لهم أفواه ولا يتكلمون، ولهم أعين ولا يبصرون، ولهم آذان ولا يسمعون، وليس في أفواههم روح. مثلهم يصير الذين يصنعونهم، وجميع المتوكلين عليهم ". انتهى.
وأما إنجيل المسيح عليه السلام فهو مشحون بالتوحيد، وبذم المشركين والمنافقين والمرائين، ومن أراد استيفاء ذلك، فليراجع الأناجيل (1) الأربعة التي جمعها الأربعة من
(1) إن الأناجيل تمثل جزءا رئيسا من (الكتاب المقدس) عند النصارى، الذي ينقسم عندهم إلى قسمين رئيسين هما:
1 -
): العهد القديم: الذي يحتوي على أسفار الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح ومنها التوراة.
2 -
): العهد الجديد: ويحتوي على الأسفار التي تبدأ بظهور المسيح عليه السلام، وتنقسم بحسب محتوياتها إلى ثلاثة أقسام هي:
- قسم الأسفار التاريخية وتشمل الأناجيل الأربعة وسفر أعمال الرسل.
- قسم الأسفار التعليمية وتشمل رسائل الحواريين وتلاميذ المسيح.
- قسم رؤيا يوحنا اللاهوني.
أما الإنجيل لغة: فهو كلمة مأخوذة من اللفظ اليوناني (إيفانجليون EVANGELION) ومعناه (الخير الطيب) أو البشارة.
واصطلاحا: يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام قد استعمل كلمة الإنجيل بمعنى (بشرى الخلاص من خطيئة آدم الأزلية) التي حملها إلى البشر، واستعملها تلاميذه من بعده بالمعنى نفسه، ثم استعملت هده الكلمة على الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى وهي سيرة المسيح عليه السلام وقد غلب استعمالها بهذا المعنى على إنجيل متى، إنجيل مرقص وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا.
انظر: كتاب "يسوع المسيح"(ص 14)، للأب بولس إلياس، "قاموس الكتاب"(ص 120 - 121)، "قصة الحضارة"(11/ 206) لويورانت، ومحتويات هذه الأناجيل فيمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات.
1 -
) القصص: وبشغل الحيز الأكبر منها تتحدث عن قصة المسيح عليه السلام بدءا بولادته ثم دعوته ثم موته على الصليب ودفنه ثم قيامه من القبر ثم صعوده إلى السماء -حسب زعمهم-.
2 -
) العقائد: وتتركز بشكل رئيسي حول ألوهية المسيح وبنوته لله وتقرير أسس العقيدة النصرانية المنحرفة وأكتر الأناجيل صراحة في تقرير ذلك إنجيل يوحنا.
3 -
) الشريعة: يفهم من الأناجيل أنها أقرت شريعة موسى عليه السلام إلا ما ورد عن المسيح بتعديله أو نسخه في أمور محدودة وهي: الطلاق وقصاص الجروح ورجم الزانية.
4 -
) الأخلاق: يفهم منها الغلو والإمعان في المثالية والتسامح والعفو ودفع السيئة بالحسنة (متى الإصحاح 5).
5 -
) الزواج وتكوين الأسرة: لم تهتم الأناجيل كثيرا. مسألة الزواج، ولكن يفهم منها عموما أن المتبتل الأعزب أقرب إلى الله من المتزوج الذي يعاشر النساء.
وقد اعتمدت هذه الأناجيل الأربعة عند النصارى مجمع نيقية عام 325 م.
الحواريين، ومن ذلك ما في الإنجيل الذي جمعه (القديس متى) في الفصل الخامس والخمسين منه ما لفظه:"إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه فيما بينك وبينه وحده، فإن سمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع منك، فخذ معك أيضًا واحدا أو اثنين لكي [تقوم كل كلمة] (1) على فم شاهدين أو ثلاثة، تثبت كل كلمة، وإن لم يسمع منهم، فقل للبيعة، وإن لم يسمع أيضًا من البيعة فيكون عندك كوثني وعشار" انتهى.
وهكذا الرسائل (2) التي صنفها جماعة من الحواريين، فإنا مشحونة بالتوحيد، ونفي
(1) زيادة يستلزمها السياق.
(2)
وهى رسائل الحواريين والتلاميذ - وتعتبر من الرسائل التعليمية لأنها توضح تعاليم النصرانية ومبادئها تشتمل على (21) رسالة موزعة كالآتي:
- (14) رسالة لبولس عدد إصحاحاتها (99) إصحاحا.
- رسالة واحدة ليعقوب عدد إصحاحاتها (5).
- رسالة واحدة ليهوذا مكونة من إصحاح واحد.
- رسالتان لبطرس عدد إصحاحاتها (8).
- رسائل يوحنا عدد إصحاحاتها (7).
- ومنها رسائل -رؤيا بوحنا- صاحب الإنجيل الرابع - وهو عبارة عن تنبؤات مستقبلية عدد إصحاحاتها 22 إصحاحا.
انظر: "تاريخ الكنيسة"(ص 152، 153) يوسابيوس القيصري ترجمة القمص مرقص داود، "كتاب الغفران بين الإسلام والمسيحية"(ص33 - 35) للأستاذ إبراهيم خليل -الذي كان قسيسا وأستاذ اللاهوت بكلية اللاهوت بأسيوط ثم هداه الله إلى الإسلام-.
الشرك، والذم لأهله، ومثل ذلك الكتاب المشتمل على سيرة أصحاب المسيح المسمى عندهم (إبراكسيس)(1).
وبالجملة فكتب الله عز وجل بأسرها، ورسله جميعا متفقون على التوحيد والدعاء إليه، ونفي الشرك بجميع أقسامه.
وأما دعاء الأنبياء المتقدمين على موسى إلى التوحيد فقد تضمنت التوراة حكاية ما كانوا عليه من التوحيد والدعاء إليه ونفي الشرك [4] فإنها قد حكت ما وقع منهم من عند أبينا آدم ومن بعده من الأنبياء، كنوع، وإبراهيم، ولوط، وإسحاق، وإسماعيل، ويعقوب ويوسف إلى عند قيام موسى- سلام الله عليهم أجمعين-.
(1) سفر أعمال الرسل ويسمى براكسيس: وهي كلمة يونانية تعني الأعمال- وينسب هذا السفر إلى لوقا- صاحب الإنجيل الثالث- وعدد إصحاحاته (28) إصحاحا يحتوي على سير الحواريين وتلاميذ المسيح وجهودهم في سبيل نشر تعاليم المسيح بعد رفعه عليه السلام -حسب زعمهم-.
وهذه الأنواع الثلاثة [براكسيس ورسائل الحواريين والتلاميذ، رؤيا يوحنا] رسائل يزعم النصارى أن تلاميذ المسيح قد كتبوها إلى كنائس معينة أو أشخاص أو النصارى عامة، تم اعتبرتها الكنيسة أسفارا قانونية وأنها كتبت بإلهام من الروح القدس لمؤلفيها. وكان اعتمادها على مراحل منها [انعقد مجمع بيقيه سنة 325م ومجمع لوريسيا سنة 364 م ومجمع قرطاج سنة 397 م ومجمع ترلو سنة 692 م، مجمع فلورنس سنة 1439م، مجمع ترنت سنة 1542 - 1563م. . ".
الفصل الثاني
في بيان اتفاق الشرائع على إثبات المعاد
اعلم أنه سبق لي تأليف رسالة في هذا سميتها: (المقالة الفاخرة في بيان اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة)(1)
ولما كان هذا هو أحد المقاصد الثلاثة التي جمعت لها هذا المختصر، فإن ذكر بعض ما في كتب الله عز وجل مما يتعلق به لازما.
ففي التوراة في أولها عند الكلام على ابتداء الخليقة التصريح باسم الجنة، ولفظه:"فغرس الله جنانا في عدن شرقيا (2)، وابقا، ثم آدم الذي خلق وأنبت الله"، ثم كل شجرة حسن منظرها، وطيب مأكلها، وشجرة الحياة في وسط الجنان، وشجرة معرفة الخير والشر، وكان نهر يخرج من عدن، ليسقي الجنان. ومن ثم يتفرق، ويصير أربعة رؤوس. اسم أحدهما النيل، وهو المحيط بجميع بلد زويلة الذي ثم الذهب، وذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلؤ، وحجارة البنور. واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة. واسم النهر الثالث الدجلة وهو السائر شرقي الموصل. والنهر الرابع، هو الفرات". انتهى.
وكما وقع التصريح في التوراة بالجنة كما ذكرنا، فقد وقع التصريح فيها باسم النار. ولفظها في التوراة (شول واش) قال علماء اليهود: ومعنى اللفظين (جهنم).
وفي موضع آخر في التوراة ما لفظه: "وإن الله خلق خلقا وتفتح الأرض فاها فينزلون إلى الثرى، هؤلاء القوم الذين عصوا الله. وقال: أحجب رحمتي عنهم، وأريهم عاقبتهم، وكما أنهم كادوني بغير إله، وأغضبوني بغروراتهم، كذلك إني أكيدهم؛ لأن النار تتقدح من غصبي، وتتوقد إلى أسفال الثرى، فتأكل الأرض ونباتها، حتى تستطلع
(1) سيأتي تحقيقها في القسم الأول هذا "الفتح الرباني" عقب هذه الرسالة. برقم (10).
(2)
في التوراة سفر التكوين الإصحاح الثاني.
أساسات الجبال، كذلك أزيد عليهما شرورا، وسهامي أفرقها فيهم" انتهى.
وفي الفصل الثاني عشر من السفر الثالث من التوراة ما لفظه: "واحفظوا رسومي وأحكامي؛ فإن جزاء من عمل بها، أن يحيا الحياة الدائمة" انتهى. ولا حياة دائمة في الدنيا، بل في الآخرة. وفي التوراة من النصوص على هذا المعنى كثير.
وفي الفصل السادس والعشرين من كتاب النبي أشعيا ما لفظه: "يقوم الموات، ويستيقظ [5] الذين في القبور" انتهى. وفي كتابه أيضًا ما لفظه: "مزكى الظالم لأجل الرشا، وزكاة الزكي يزيلونها عنه لذلك، كما تأكل القش لسان النار، والهشيم ما يخليه اللهيب عناصرهم تكون كالبرق، وفروعهم تصعد كالغبار، إن زهدوا في توراة رب الجيوش، وقول قدوس العالم رفضوا، آية أن الهاوية موعودة من أمس، وهي أيضًا أصلحت للملوك عمقها، فأوسعها نارا وحطبا كثيرا، وأمر الله كواد من كبريت مشتعل فيها، وقال: ويحرقون ينظرون إلى أجسام القوم الذين كفروا بي، إن دودهم لا تموت، ونارهم لا تطفأ، فيصيرون عبرة لباقي البشريين". انتهى.
وقال أيضًا في كتابه المذكور في حقيقة تلذذ أهل الجنة: "لا عين تقدر [أن] (1) إلا علم الله تعالى" انتهى.
وفي الفصل الثاني عشر من كتاب دانيال ما لفظه: "وكثير من الهاجعين في تراب الأرض يستيقظون: هؤلاء لحياة أبدية، وهؤلاء لتعيير وخزي أبدي" انتهى.
وفي زبور النبي داود- عليه السلام في المزمور السادس منه ما لفظه: "وأنت يا رب (فإلى متى توعد) يا رب، ونج نفسي وخلصني من أجل رحمتك، لأنه ليس في الموتى من ينكرك، ولا في الجحيم من يعترف لك". انتهى.
وفي المزمور التاسع منه ما لفظه: "انتشبت الأمم في الفساد الذي عملوه، وفي الفخ الذي أخفوه، تعلقت أرجلهم، يعرف الرب أنه صانع الأحكام، والخاطئ بعمل يديه
(1) زيادة يستلزمها السياق
يؤخذ، يرفع الخطاة إلى الجحيم". انتهى.
وفي المزمور الخامس عشر (1) منه: "فرح قلبي وتهلل لمساني، وجسدي أيضًا يسكن على الرجاء، لأنك لا تترك نفسي في الجحيم، ولا تدع ضيفك أن يرى فسادا". انتهى. وفي المزمور الرابع والخمسين (2) ما لفظه: "ليأت الموت عليهم، ولينحدروا إلى الجحيم أحياء، لأن الشرور في مساكنهم وفي وسطهم" انتهى.
وفي المزمور السابع والثمانين (3) ما لفظه: "يا رب، لأن نفسي قد امتلأت شرورا، وحياتي إلى الجحيم دنت، حسبت مع المنحدرين في الجب، صرت كإنسان فاقد المعونة بين الأموات، جرى كالمجرمين الراقدين في القبور، الذين يذكرهم أيضا، وهم أقصوا من يدك، وضعوني في جبّ أسفل السافلين في ظلمات وظلال الموت" انتهى.
وفي وصايا النبي سليمان- عليه السلام في الفصل الخامس منها ما لفظه: "لأن أرجل العبادة، تحذر الذين سيعلمونها، وتحطهم بعد الموت إلى الجحيم " انتهى.
وفي الإنجيل المسيحي في الفصل الخامس منه، من الإنجيل الذي جمعه متى ما لفظه [6]:"ومن قال لأخيه يا أحمق فقد وجبت عليه نار جهنم" انتهى. وفي هذا الفصل ما لفظه: "إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها، وألقها عنك، فإنه لخير لك أن تهلك أحد أعضائك من أن تهلك جسدك كله في جهنم، وإن شككتك يدك اليمنى فاقطعها وألقها عنك، فإنه لخير لك أن يهلك أحد أعصابك من أن يذهب جسدك كله في جهنم "انتهى.
وفي الفصل العاشر منه ما لفظه: "لا تخافوا ممن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس. خافوا ممن يقدر أن يهلك النفس والجسم جميعا في جهنم" انتهى.
(1) بل هو في المزمور السادس عشر.
(2)
بل هو في المزمور الخامس والخمسين.
(3)
هو في المزمور الثامن والثمانين.
وفي الفصل الثالث عشر منه: "إن الملائكة يجمعون كل أهل الشكوك، وفاعلي الإثم، فيلقونهم في أتون النار حيث البكاء وصرير الأسنان". انتهى.
ومنه أيضًا ما لفظه: "هكذا يكون في انقضاء هذا الزمان يخرج الملائكة، ويغرزون الأشرار من وسط الأخيار، ويلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" انتهى. وفي الفصل الخامس والعشرين منه ما لفظه: "حينئذ يقول الذين عن يساره: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدة لإبليس وجنوده" انتهى. وفيه أيضًا ما لفظه: "فيذهب هؤلاء إلى العذاب الدائم، والصديقون إلى الحياة المؤبدة" انتهى.
وفي الفصل التاسع من الإنجيل الذي جمعه مرقص ما لفظه: "فإن شككتك يدك فاقطعها، فخير لك أن تدخل الحياة وأنت أعسم من أن يكون لك يدان وتذهب إلى جهنم في النار، حيث دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ، وإن شككتك رجلك فاقطعها، فخير لك أن تدخل الحياة أعرج من أن يكون لك رجلان وتلقى في جهنم في النار، حيث دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ" انتهى.
وفي الفصل الثاني عشر منه، التصريح "بأن الزنادقة هم الذين يقولون: ليست تكون قيامة". انتهى. وفي الإنجيل الذي جمعه لوقا في الفصل السادس عشر منه ما لفظه: "ثم مات أيضًا ذلك الغبي وقُبر فرفع عينه، وهو يعذب في الجحيم" انتهى.
وفيه أيضًا ذكر الزنادقة، وهم الذين يقولون: ليست قيامة، هكذا في الفصل العشرين منه. وفيه أيضًا ما لفظه:"فأما أن الموتى يقومون فقد أنبأ بذلك موسى" انتهى. وفي الفصل الثالث والعشرين منه: إن المسيح قال للمصلوب الذي آمن به: "إنك تكون معي في الفردوس" انتهى.
وفي الإنجيل الذي جمعه يوحنا في الفصل الخامس منه ما لفظه: "فإنه ستأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرج الذين عملوا الحسنات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة" انتهى. وفي الفصل السادس عشر منه ما لفظه: "يكون له الحياة المؤبدة، وأنا أقيمه في اليوم الآخر".
وفي الفصل السابع عشر منه ما لفظه: "الحق والحق أقول لكم: إنه من يؤمن بحياة دائمة" انتهى.
إذا عرفت هذا المصرح به في الأناجيل، فهكذا صرح الحواريون من أصحاب المسيح في رسائلهم المعروفة (1).
والحاصل أن هذا أمر اتفقت عليه الشرائع، ونطقت به كتب الله عز وجل، سابقها، ولاحقها، وتطابقت عليه الرسل: أولهم وآخرهم، ولم يخالف فيه أحد منهم [7]، وهكذا اتفق على ذلك أتباع جميع الأنبياء من أهل الملل، ولم يسمع عن أحد منهم، أنه أنكر ذلك قط. ولكنه ظهر رجل من اليهود زنديق، يقال له موسى بن ميمون اليهودي (2) الأندلسي، فوقع منه كلام، في إنكار المعاد. واختلف كلامه في ذلك، فتارة يثبته، وتارة ينفيه، ثم هذا الزنديق، لم ينكر مطلق المعاد، إنما أنكر بعد تسليمه للمعاد أن يكون فيه لذات حسية جسمانية، بل لذات عقلية روحانية، ثم تلقى ذلك عنه من هو شبيه به من أهل الإسلام كابن سينا، فقلده ونقل عنه ما يفيد أنه لم يأت في الشرائع السابقة على الشريعة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) انظر: "رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس" الإصحاح الخامس عشر العهد الجديد.
(2)
موسى بن ميمون بن يوسف بن إسحاق، أبو عمران القرطبي: طبيب فيلسوف يهودي. ولد وتعلم في قرطبة -529 هـ- 601 هـ= 1135 - 1204 م، وتنقل مع أبيه في مدن الأندلس وتظاهر بالإسلام وقيل: أكره عليه فحفظ القرآن وتفقه المالكية فدخل مصر فعاد إلى يهوديته وأقام في القاهرة عاما كان فيها رئيسا روحيا لليهود كما كان طبيبا في تلك المدة قي البلاط الأيوبي. ومات بها ودفن في طبريا (بفلسطين).
له تصانيف كثيرة بالعربية والعبرية منها: دلالة الحائرين ثلاثة أجزاء بالعربية والحروف العبرية وهو كتاب فلسفته، قال ابن العبري: سماه الدلالة وبعضهم يستجيده وبعضهم يذمه ويسميه الضلالة. وله الفصول-فصول القرطبي.
انظر: "الأعلام" للزركلي (7/ 329 - 330).
المحمدية (1) إثبات المعاد، وتقليدا لذلك اليهودي الملعون الزنديق، مع أن اليهود قد أنكروا عليه هذه المقالة، ولعنوه، وسموه كافرا.
قال في تاريخ النصراني في ترجمة موسى بن ميمون المذكور (أنه صنف رسالة في إبطال المعاد الجسمي، وأنكر عليه مقدمو اليهود، فأخفاها إلا عمن يرى رأيه قال: ورأيت جماعة من يهود بلاد الإفرنج بأنطاكية وطرابلس يلعنونه، ويسمونه كافرا". انتهى.
فهذه رواية نصراني عن طائفة من اليهود، وأنهم كفروا ابن ميمون ولعنوه بسبب هذه المقالة على أن هذا الملعون الزنديق قد اعترف في كثير من كلامه بالمعاد فقال في تأليفه المسمى بالمشنا (2) في فقه اليهود:"إن هذا الموضوع الذي هو جن عيذا (3) هو موضوع خصيبة من كرة الأرض، كثير المياه والأثمار، وسيكشفه الله للناس في المستقبل، فيتنعمون به، ولعله يوجد فيه نبات غريب جدا، عظيم النفع، كثير اللذة غير هذه المشهورة عندنا، وهذا كله غير ممتنع ولا بعيد، بل قريب الإمكان بمشيئة الله تعالى"، ثم اعترف بذلك اعترافا آخر فقال في كتاب (اللغات) في حرف العين:"إن معنى هذا الاسم الذي هو "عيزا" التلذذ والتنعم، ومنه سميت لذات الآخرة، ونعيم أنفس الصالحين الكاملين (جن عيزا).
ثم قال في هذا الكتاب في تفسير (جن عيزا): أي أن تلك هي جنات النعيم، وفردوس السعادة، وقد شرحوا معنى (جن عيزا) وماهية التلذذ فيها رجال من وصل
(1) سيأتي التعليق عليها.
(2)
قد سماه موسى بن ميمون في "دلالة الحائرين"(مشنة التوراة)(1/ 15) ويسميه البعض "تثنية التوراة". انظر موسى بن ميمون (حياته ومصنفاته) للدكتور إسرائيل ولفنسون. مطبعة لجنة التأليف 1936م.
(3)
وقد صرح أيضًا باسم (جنة عدن) في كتابة دلالة الحائرين قال مخاطبا أحد تلاميذه (. . . كنت أيها التلميذ العزيز الربي يوسف بن الربى يهودا سكنت نفسه جنة عدن)(1/ 7).
إليها، واستقر في ظل غروسها، وشرب عذوبة أنهارها، وأكل من لذيذ أثمارها، قالوا: والصالحون باقون فيها ليستلذوا من نور الله"، قال: "وقال النبي أشعيا في حقيقة التلذذ: لا عين [تقدر تراه](1) إلا علم الله تعالى". انتهى كلام موسى ابن ميمون المذكور.
ثم قال هذا اللعين في كتابه المسمى بالمشنا بعد اعترافه فيه كما حكيناه عنه هاهنا ما لفظه: "اعلم أنه كما لا يدري الأعمى الألوان، ولا يدري الأصم الأصوات، ولا العنين شهوة الجماع؟ كذلك لا تدري الأجسام اللذات النفسانية. وكما لا يعلم الحوت اصطقص النار لكونه في حده، كذلك لا يعلم في هذا العالم الجسماني بلذات العالم الروحاني، بل ليس عندنا توجد لذة غير لذات الأجسام، وإدراك الحواس من الطعام والشراب والنكاح، وما سمي غير ذلك فهو عندنا غير موجود، ولا نميزه، ولا ندركه على بادئ الرأي إلا بعد تحذق كثير.
وإنما وجب ذلك لكوننا في العالم الجسماني في لذات، فلا ندرك إلا لذته، فأما اللذات النفسانية فهي دائمة غير منقطعة، وليس بينها وبين هذه اللذة نسبة بوجه من الوجوه، ولا يصح لنا في الشرع، ولا عند الإلهيين من الفلاسفة أن نقول: إن الملائكة والكواكب والأفلاك ليس لها لذة، بل هي لذة عظيمة جدا لما عقلوه من الباري عز وجل، وهم بذلك في لذة غير منقطعة، ولا لذة جسمانية عندهم، ولا يدركونها؛ لأنه ليس لهم حواس مثلنا يدركون بها ما ندرك نحن، وكذلك نحن إذا تزكى منا من تزكى، وصار بتلك الدرجة بعد الموت، لا يدرك اللذات الجسمانية، ولا يريدها، كما لا يريد الملك عظيم الملك، أن ينخلع من ملكه ليرجع يلعب بالكرة في الأسواق، وقد كان في زمان ما بلا محالة يفضل اللعب بتلك الكرة على الملك، وذلك من حين صغر سنه عند جهله بالأمرين جميعا. كما نفضل نحن اليوم اللذة الجسمانية على النفسانية.
(1) صوابه اللغوي [تقدر أن تراه].
وإذا ما بلغت أمر هاتين اللذتين نجد حساسة اللذة الواحدة، ورفعة الثانية، ولو في هذا العالم، وذلك أن نجد أكثر الناس يحملون أنفسهم وأجسامهم من الشقاء والتعب، ما لا مزيد عليه، كي ينال رفعة أو يعظمه الناس، وهذه اللذة ليست لذة طعام أو شراب، وكذلك كثير من الناس، يؤثر الانتقام من عدوه على كثير من لذات الجسم، وكثير من الناس يتجنب أعظم ما يكون من اللذات الجسمانية، خشية أن يناله في ذلك جزاء أو حشمة من الناس.
فإذا كانت حالتنا في هذا العالم الجسماني هكذا، فناهيك بالعالم النفساني، وهو العالم المستقل الذي تعقل أنفسنا من الباري فيه مثل ما تعقل الأجرام العلوية، أو أكثر، فإن تلك اللذة لا تتجزأ، ولا تتصف، ولا يوجد مثل تمثل تلك اللذة، بل كما قال النبي داود متعجبا من عظمته: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك، وهكذا قال العلماء: العالم المستقبل ليس فيه لا أكل، ولا شرب، ولا غسل ولا دهن ولا نكاح، بل الصالحون باقون فيه، ويستلذون من نور الله تعالى، يريدون بذلك أن تلك الأنفس تستلذ بما تعقل من الباري بما تستلذ سائر طبقات الملائكة بما عقلوا من وجوده -سبحانه-.
فالسعادة والغاية القصوى هي الوصول إلى هذا الملأ الأعلى. والحصول في هذا الحد.
هو بقاء النفس كما وصفنا إلى ما لا نهاية له، ببقاء الباري -جل اسمه-، وهذا هو الخير العظيم الذي لا خير يقاس به، ولا لذة يمثل بها، وكيف [تمثل](1) الدائم بما لا نهاية له بالشيء المنقطع، وهو قوله تعالى في نص التوراة: "لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، ويطيل أيامك في العلم الذي كله طائل، والشقاوة الكاملة هو انقطاع النفس وأن لا تحصل باقية، وهو القطع المذكور (1)
في التوراة كما بين". وقال: "انقطاعا ينقطع من هذا العالم، وينقطع من العالم المستقبل.
(1) كذا في المخطوط والفصيح (يمثل) بالياء التحتية.
فكل من أخلد إلى اللذات الجسمانية، ونبذ الحق، وآثر الباطل انقطع من ذلك البقاء والعلو، وبقي مادة منقطعة فقط، وقد قال النبي أشعيا:"إن العالم المستقبل ليس يُدرك بالحواس. وهو قوله: لا عين تقدر أن تراه".
وأما الوعد والوعيد المذكور في التوراة في لذات هذا العالم فتأويله ما أصف لك، وذلك أنه يقول لك:"إن امتثلت هذه الشرائع، نعينك على امتثالها، والكمال فيها، ونقطع عنك العلائق كلها، لأن الإنسان لا يمكنه العبادة لا مريض، ولا جائع، ولا عاطش، ولا في فتنة فوعد بزوال هذه كلها، وإنهم يصحون، ويتذهنون حتى يكمل لهم المعرفة، ويلتحقون بالعالم المستقبل. فليس غاية التوراة إلا أن تخصب الأرض، وتطول الأعمار، وتصح الأجسام، وإنما يعان على امتثالها هذه الأشياء كلها، وكذلك إن تعدوا كان عقابهم أن تحدث عليهم تلك العوائق كلها، حتى لا يمكن أن يعملوا صالحة. فإذا تأملت هذا التأمل العجيب تجده كأنه يقول: إن فعلت بعض هذه الشرائع بمحبة وفرض نعينك عليها كلها، بأن نزيل عنك العوائق والموانع، وإن ضيعت منها بعضا استخفافا، نجلب عليك موانع تمنعك من جميعها حتى لا يحصل لك كلام ولا بقاء" انتهى.
فهذا خلاصة كلام ابن ميمون اليهودي زنديق اليهود في كتابه المذكور سابقا، وقد أوردنا لك كلامه هاهنا، لتعلم أنه لم يربطه شيء من كلام الله -سبحانه- يصلح دليلا عليه، بل هو مجرد زندقة، والتوراة والزبور والإنجيل، وكتب سائر الأنبياء منادية بخلاف ذلك، حسبما قدمنا لك. وها نحن نوضح لك فساد كلامه هذا فنقول:
أولاً: إن حصر هذه اللذات النفسانية التي ذكرها لا ينافي حصول اللذات الجسمانية التي وردت في كتب الله عز وجل.
وقوله: "وليست بلذة طعام أو شراب"، هذا مسلم، فإن اللذات النفسانية ليست بلذة طعام ولا شراب، ولكن من أين يلزم أنه لا لذة طعام وشراب ونحوهما في تلك الدار الآخرة؟
فإن كان بالشرع، فكتب الله -سبحانه- جميعها ناطقة بخلاف ذلك كما قدمنا ذلك
في كتب الله عز وجل المتقدمة، وكما في القرآن العظيم مما يكثر تعداده، ويطول إيراده، وهو لا يخفى مثله على أحد من المسلمين الذين يقرؤون القرآن لبلوغه في الكثرة إلى غاية يشترك في معرفتها المقصر والكامل.
وإن كان بالعقل فليس في العقل ما يقتضي إثبات اللذة النفسانية، ونفي اللذة الجسمانية، بل لا مدخل للعقل هاهنا، ولا يتعول عليه أصلا. وإن كان لا يعتبر عقل، ولا شرع، بل لمجرد الزندقة، والمروق من الأديان كلها، والمخالفة لما ورد في كتب الله -سبحانه-[10] فبطلان ذلك مستغن عن البيان.
وأما قوله: "كما قال النبي داود متعجبا من عظمتها: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك! "، فهذا عجب منه عليه السلام من كثرة خير الله -سبحانه-، وجزالة ما خبأه للصالحين (1) من عباده الطائعين لأمره في الدار الآخرة، وهو دليل على الملعون لا له، فإن كلامه هذا هو ككلام سائر أنبياء الله في استعظام ما أعده الله للصالحين من عباده، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم:"في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"(2). ومثله في القرآن الكريم في قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} (3).
وأما قوله: "وهكذا العلماء: العالم المستقبل، ليس فيه لا أكل، ولا شرب إلى آخره" فيقال له: إن أردت علماء الملة اليهودية، فهم الذين لعنوك وكفّروك بسبب هذه
(1) قال تعالى:} مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ {[محمد: 15].
وانظر الآيات: [البقرة: 25]، [الرعد: 35]، [إبراهيم: 23].
(2)
أخرجه البخاري رقم (8498) ومسلم في صحيحه رقم (2/ 2824) من حديث أبي هريرة.
(3)
[السجدة: 17]
المقالة كما قدمنا، وهم جميعا يخالفونك، ويثبتون المعاد الجسماني، واللذات الجسمانية، ويكفرون من لم يثبتها كما كفروك ويلعنونه كما يلعنوك. وإن أردت علماء الملة النصرانية، فهم متفقون بأسرهم على إثبات المعاد الجسماني، وإثبات اللذات الجسمانية والنفسانية فيه، وكيف يخالف منهم مخالف في ذلك، والإنجيل مصرح هذا الإثبات تصريحا، لا يبقى عنده ريب لمرتاب. وإن أردت علماء الملة الإسلامية فذلك كذب بحت، وزور محضر، فإنهم مجمعون على ذلك، لا يخالف منهم فيه مخالف. ونصوص القرآن من فاتحته إلى خاتمته مصرحة بإثبات المعاد الجسماني، وإثبات تنعم الأجسام فيه بالمطعم والمشرب والمنكح وغير ذلك، أو تعذيبها بما اشتمل عليه القرآن من تلك الأنواع المذكورة فيه، وهكذا النصوص النبوية المحمدية مصرحة بذلك تصريحا يفهمه كل عاقل، بحيث لو جمع ما ورد في ذلك منها لجاء مؤلفا بسيطا.
وأما استدلاله بقوله في التوراة: "لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، ويطيل أيامك في العالم الذي كله طائل" فهذا دليل على الملعون، فإن الخطاب في الدنيا لمجموع الشخص الذي هو الجسم والروح. وظاهره أنه يكون له هذا على الصفة التي خوطب وهو عليها، وأنه يحصل له جميع ما يتلذذ به من اللذات الجسمانية والنفسانية، ومن ادعى التخصيص ببعض الشخص، أو ببعض اللذات، فهو يدعي خلاف الظاهر. ولكن المحرف المتزندق لا مقصد له إلا التلبيس على أهل الأديان. وكذلك قوله:"وقد قال النبي أشعيا: إن العالم المستقبل ليس يُدرك بالحواس، وهو قوله: "لا عين تقدر أن تراه". فإن هذا هو مثل ما قدمنا من كلام الأنبياء في استعظام ما عند الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة. وهذا تعرف أنه لم يكن في كلام هذا الملعون الزنديق ما يتمسك به متمسك، أو يغتر به مغتر [11]، بل هو خلاف ما في كتب الله جميعا كما قدمنا، وخلاف ما عند علماء الملل، بل خلاف ما أقره به في كلامه السابق إقرار مكررا.
فيا عجبا لمن يتمسك بمثل هذا الكلام الذي لم يجر على نمط ملة من الملل، ولا وافق نصا من نصوص كتب الله -سبحانه-، ولا نصا من نصوص رسل الله جميعا!،
ويجعله نفس ما وردت به التوراة والإنجيل، ويجزم به ويحرره في كتبه مظهرا أن الشريعة المحمدية جاءت بما لم يكن في الشرائع السابقة، زاعما أن ذلك دليل على كمالها، مبطنا ما أبطنه هذا الزنديق ابن ميمون اليهودي، كما فعل ذلك ابن سينا (1)، وتبعه ابن أبي الحديد (2) في شرح (النهج)(3). بل جاوز ما قاله هذا إلى ما هو شر منه، فقال: إن التوراة لم يأت فيها وعد ووعيد يتعلق بما بعد الموت. وهذه فرية على التوراة، وجحد لما فيها، وتحريف لما صرحت به في غير موضح كما قدمنا بعض ذلك. وكذلك زعم أن المسيح وإن صرح بالقيامة فقد جعل العذاب روحانيا، وكذلك الثواب، وهذا أيضًا كذب محض. وقد قدمنا ما يفيدك ذلك، ويطلعك على كذبهما. والعجب أن ابن ميمون اليهودي لم يتجاسر على ما زعماه من أن التوراة لم يأت فيها وعد ووعيد يتعلق بما بعد الموت، بل أثبت ذلك، واستدل عليه بالتوراة كما عرفت من كلامه السابق المتضمن لاعترافه، ولمخالفته في إثبات اللذات الجسمانية. فإن قلت: قد جاء عن الصابئة، وعن جماعة من المتعلقين بمذاهب الحكماء ما يوافق كلام ابن ميمون المذكور. قلت: لسنا بصدد الرد على كل كافر ومتزندق، بل بصدد الكلام على ما جاءت به رسل الله،
(1) هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا، البلخي، ثم البخاري يلقب بالشيخ الرئيس، فيلسوف، طبيب، شاعر ولد سنة 370 هـ كان هو وأبوه من أهل دعوة الحاكم العبيدي من القرامطة الذين لا يؤمنون بمبدأ، ولا بمعاد، ولا رب، ولا رسول. من تصانيفه الإشارات، القانون في الطب وتقاسيم الحكمة.
انظر: شذرات الذهب (3/ 234)، معجم المؤلفين (4/ 20).
(2)
هو عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني كان فقيها أصوليا، وله في ذلك مصنفات معروفة مشهورة، وكان متكلما جدليا، اصطنع مذهب الاعتزال ولد بالمدائن في غرة ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة، ونشأ بها، نظم القصائد المعروفة بالعلويات السبع على طريقتهم، وفيها غالي وتشيع. من مصنفاته، الاعتبار، شرح نهج البلاغة.
انظر: البداية والنهاية (13/ 213) وفوات الوفيات (2/ 259) والوافي في الوفيات (18/ 76، 77).
(3)
لم أجد هذه العبارات في شرح النهج.
ونطقت به كتبه، واتفقت عليه الملل المنتسبة إلى الأنبياء المقتدية بكتب الله ورسله دفعا لما وقع من الكذب البحت، والزور المحض، ممن زعم المخالفة بينها وبين ما جاءت به الشريعة المحمدية، فأوضحنا أن ذلك مخالف للملة اليهودية، ولما جاءت به التوراة، وما قاله علماء اليهود. ومخالف لما جاءت به الملة النصرانية، ولما جاء به الإنجيل، وما قاله علماء النصارى. ومخالف أيضًا لما جاء به أنبياء بني إسرائيل، وما نطقت به كتبهم حسبما قدمنا. ومخالف لما كان من الأنبياء المتقدمين على بعثة موسى كما يحكي ذلك ما تضمنته التوراة من حكاية أحوالهم، وما كانوا عليه، وما كانوا يدينون به، وكما يحكي ذلك عنهم القرآن الكريم، فإن فيه ما يفيد ما كانوا عليه، وما كانوا يدينون به، وما قالوا لقومهم، وما وعدوهم به من خير وشر، [12] بل فيه ما يفيد ما كان عليه أهل الكتب المتأخرة من البعثة لموسى، ومن بعده، وما كانوا يدينون به كقوله _سبحانه- حاكيا عن اليهود:} وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى {، وقوله تعالى:} يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ {(1)، وقوله حاكيا عن موسى (2) إلى فرعون:} وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ {إلى قوله:} وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {إلى قوله:} فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ {(3)، وقوله:} إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ {(4).
(1)[المائدة: 72].
(2)
ليست عن موسى وإنما هي عن رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه كما في سورة غافر (28 - 32).
(3)
[غافر: 39 - 40].
(4)
[آل عمران: 55 - 57].
وقال:} بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى {(1).
ونصوص القرآن الحاكية عن اليهود والنصارى، وسائر الملل مثل هذا كثيرة جدا، ولا يتسع المقام لبسطها، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الملة اليهودية والنصرانية في أكثر بقاع الأرض، وبلغهم ما حكاه القرآن عن أنبيائهم من إثبات المعاد، وإثبات النعيم الجسماني والروحاني، ولم يسمع عن أحد منهم أنه أنكر ذلك، أو قال هو خلاف ما في التوراة والإنجيل. وقد نزل أكثر القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان اليهود متوافرين فيها وفيما حولها من القرى المتصلة بها، وكانوا يسمعون ما ينزل من القرآن، ولم يسمع أن قائلا منهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تحكي عن التوراة ما لم يكن فيها من البعثة، وما أعده الله في الدار الآخرة من النعيم للمطيعين، والعذاب للعاصين، وقد كانوا يودون أن يقدحوا في النبوة المحمدية بكل ممكن. بل كانوا في بعض الحالات ينكرون وجود ما هو موجود في التوراة كالرجم (2)، فكيف سكتوا عن هذا الأمر العظيم، وهل كانوا يعجزون أن يقولوا عند سماعهم لقوله تعالى:
(1)[الأعلى: 16 - 19].
(2)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6841) ومسلم رقم (26/ 1699) من حديث ابن عمر أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ "فقالوا: نفضحهم ويجلون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة".
} وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً {(1) ، ما قلنا هذا، ولا نعتقده، ولا جاءت يه شريعة موسى؟!.
وهكذا عند سماعهم لقوله تعالى:} وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى {(2). وقد كان أمر المعاد مشتهرا في أهل الكتاب، وكانوا يتحدثون به، واستمر ذلك فيهم استمرارا ظاهرا، وعلم به غيرهم من أهل الأوثان لما كانوا يسمعون منهم. ومن ذلك ما أخرجه ابن إسحاق (3) قال: حدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد (4)، عن سلمة بن سلامة بن وقش قال: كان بين أبياتنا يهودي، فخرج على نادي قومه (5) بني عبد الأشهل ذات غداة، فذكر البعث والقيامة، والجنة والنار [13]، والحساب والميزان، فقال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت. وذلك قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ويحك يا فلان، أو ويلك، وهذا كائن أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون من أعمالهم؟!. قال: نعم، والذي يحلف، به لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم، فتحمونه، ثم تقذفوني فيه، ثم تطينون علي، وأني أنجو من تلك النار غدا. فقيل: يا فلان، فما علامة ذلك؟ فقال: نبي يبعث من ناحية هذه البلاد، وأشار إلى مكة واليمن بيده، قالوا: فمن نراه؟ فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي، وأنا أحدث القوم، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. . . إلى آخر الحديث (6).
(1)[البقرة: 80].
(2)
[البقرة: 111].
(3)
في السيرة النبوية (1/ 270 - 272).
(4)
في السيرة زيادة [أخي بني عبد الأشهل].
(5)
عبارة الشوكاني تشعر بأن هذا اليهودي من بني عبد الأشهل نسبا وصوابه كما في السيرة (1/ 271): "فخرج علينا من بيته، حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنا. . . ".
(6)
أخرجه أحمد في مسنده (3/ 467) والبخاري في التاريخ الكبير (2/ 2\ 68) وأبو نعيم دلائل النبوة (1/ 74 - 75) والبيهقي في الدلائل أيضًا (2/ 78 - 79) والطبراني في الكبير (7/ 41 - 42) رقم 6327) والحاكم (3/ 417 - 418) وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي.
وأورده الهيثمي في المجمع (8/ 230) وقال: رجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.
والخلاصة أن الحديث صحيح. والله أعلم.
وأهل الكتاب إلى عصرنا هذا يقرون بالمعاد، والجنة والنار، والحساب والعقاب، والنعيم والثواب، ولا ينكر ذلك منهم منكر، ولا يخالف فيه مخالف.
وإذا قيل لهم: قد قال قائل: إنكم لا تثبتون ذلك، أنكروا أشد الإنكار. فمن روى عنهم ما يخالف ذلك، فقد افترى، وجاء مما ترده الأحياء منهم والأموات، وبما تبطله الرسل المرسلة إليهم، والكتب النازلة عليهم، حسبما قد حكينا لك في هذا المختصر.
الفصل الثالث
في إثبات النبوات
[1 - تمهيد]:
اعلم أن الأنبياء عليهم السلام على كثرة عددهم، واختلاف أعمارهم، وتباين أنسابهم، وتباعد مساكنهم، قد اتفقوا جميعا على الدعاء إلى الله- عز وجل وصار الآخر منهم يقر بنبوة من تقدمه، وبصحة ما جاء به. وإذا خالفه في تحليل بعض ما حرمه الله على لسان الأول، أو تحريم ما أحله الله له ولأمته فهو مقر بأن الحكم الأول تحليلا أو تحريما هو حق، وهو حكم الله عز وجل وأنه الذي تعبد الله به أهل تلك الملة السابقة، واختاره لهم، كما اختار للملة اللاحقة ما يخالفه. والكل من عند الله عز وجل وذلك جائز عقلا وشرعا في ملة واحدة، فضلا عن الملل المختلفة.
وما روي في بعض كتب أصول الفقه من أن اليهود ينكرون النسخ، فتلك رواية غير صحيحة، وقد نسبها من نسبها إلى طائفة (1) قليلة منهم، وما أظنه يصح عنهم ذلك؛ فإن التوراة مصرحة بنسخ كثير من الأحكام التي تعبدهم الله بها، تارة تخفيفا، وتارة تغليظا، وتارة إيجابا، وتارة تحريما.
وبالجملة فلا شك، ولا ريب أن الأنبياء متفقون على تصديق بعضهم بعضا، وأن ما جاء به كل واحد منهم فهو من عند الله- عز وجل[14] وقد عرفناك فيما سبق أن
(1) قال صاحب الكواكب (3/ 533).
يجوز النسخ عقلا باتفاق أهل الشرائع سوى الشمعونية- ينتسبون إلى شمعون بن يعقوب.
وكذلك يجوز النسخ سمعا باتفاق أهل الشرائع سوى العنانية من اليهود فإنهم يجوزونه عقلا لا سمعا.
العنانيه: فرقة من اليهود ينتسبون إلى عنان بن داود وهم يخالفون اليهود في سائر السبت والأعياد وينهون عن أكل الطير والظباء والسمك والجراد. . . ".
الإرشاد (ص 185). نهاية السول (2/ 167). الملل والنحل (1/ 315).
عددهم بلغ إلى مائة (1) ألف وأربعة وعشرين ألفا، ولا خلاف بين أهل النظر أن اتفاق مثل هذا العدد يفيد العلم الضروري بصدق ما اتفقوا عليه، بل اتفاق عشر هذا العدد، بل اتفاق عشر عشره يفيد ذلك. ومن ينكر في هذا الاتفاق فعليه بمطالعة التوراة، فإنها قد اشتملت على حكاية حال الأنبياء من لدن آدم إلى بعثة موسى، وفيها التصريح بتصديق بعضهم بعضا، ولم يقع من واحد منهم الإنكار لنبوة أحد ممن تقدمه. ثم جاء من بعد موسى وهارون أنبياء بني إسرائيل، وكل واحد منهم يقر بمن تقدمه، ويثبت نبوته، كما اشتمل على ذلك كتب نبواتهم، وكثير منهم كان يجاهد من يعبد الأصنام من بني إسرائيل وغيرهم. وقد وقعت لهم قصص وحروب مع من كان يعبد الصنم المعروف (ببعل) الذي ذكره الله -سبحانه- في القرآن (2). وكذلك كان لهم قصص وحروب مع من كان يعبد غيره من الأصنام. وهكذا داود وسليمان، وهما من أنبياء بني إسرائيل، وممن يدين بالتوراة، ما زالا في حرب مع عباد الأصنام كما يحكي ذلك الزبور، وكتاب داود، وكما تحكيه وصايا سليمان، وهى كتاب مستقل.
وهكذا الإنجيل، فإن المسيح عليه السلام كان يحتج على المخالفين له من اليهود بنص التوراة في غالب فصوله المشتملة على حكاية المسائل التي أنكرها عليه اليهود. ومع هذا فلم يقع اختلاف بينهم قط في الدعاء إلى توحيد الله، وإثبات المعاد، وصحة نبوة كل واحد منهم وصدقه، فيما جاء به من الشرع، وفيما حكاه عن الله - سبحانه-. وهذه هي الثلاثة المقاصد التي جمعنا هذا المختصر لتقرير اتفاقهم عليها، وإثباتهم لها، وكثيرا ما كان يقع التبشير من السابق منهم باللاحق، كما هو مصرح به في التوراة من تبشير موسى بيوشع بن نون، وكما هو مصرح به في الزبور من تبشير داود بعيسى، وهو الرابع عشر من أولاده، فإن بين داود والمسيح أربعة عشر أبا. وقيل أكثر من
(1) تقدم تخريجه (ص484) وهو حديث ضعيف.
(2)
قال تعالى: (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين)[الصافات: 125].
ذلك، حسبما يحكيه ما وقع في بعض نسخ الإنجيل، وكما وقع من يحيى بن زكريا المسمى عندهم يوحنا، فإنه بشر بالمسيح مع اتصال عصره بعصره، فإن يحيى بن زكريا إنما قتل بعد أن بعث الله المسيح كما يحكي ذلك الإنجيل.
[2 - تبشير التوراة بمحمد- صلى الله عليه وسلم:]
والكلام في تبشير بعض الأنبياء ببعض يطول، وها نحن نذكر لك هاهنا ما وقع من التبشبر بنبينا محمد-صلى الله عليه وسلم ممن تقدمه من الأنبياء، حتى يتضح لك أن هذه سنة الله- عز وجل في أنبيائه- عليهم السلام.
فمن ذلك ما ثبت في التوراة في الفصل السابع عشر من السفر الأول منها: " قال الله سبحانه لإبراهيم، وقد سمعت قولك في إسماعيل، وها أنا مبارك فيه، وأثمره، وأكثره بمأذ مأذ"(1) انتهى قوله: "بمأذ مأذ"(2) هو اسم محمد بالعبرانية، وهذا صريح في البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. [15]
وفي الفصل الثالث (3) والثلاثين من السفر (4) الخامس من التوراة، ما لفظه:"يا الله الذي تجلى نوره من طور سينا، وأشرق نوره من جبل سيعير، ولوح به من جبل فاران، وأتى ربوة القدس بشريعة نور من يمينه لهم" انتهى.
هذا نص التوراة المعربة تعريبا صحيحا، وقد حكى هذا اللفظ من نقل عن التوراة بمخالفة لما هنا بسيرة:"هكذا جاء الله من طور سيناء، وأشرق من (ساعير) واستعلن من جبال فاران، وفي لفظ: "تجلى الله من طور سيناء إلخ".
قال جماعة من العلماء: إن معنى تجلى نور الله -سبحانه- من طور سيناء، أو مجيئه
(1) لا توجد هذه الكلمة في العهد القديم ويوجد بدلها " كثيرا جدا ".
(2)
لا توجد هذه الكلمة في العهد القديم ويوجد بدلها " كثيرا جدا ".
(3)
انظر العهد القديم (ص 234). ط: القاهرة.
(4)
أي سفر التثنية وقد تقدم.
من طور سيناء، هو إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، ومعنى إشراقه من جبل (سيعير)، إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من (سيعير)، أو (ساعير)(1) ، وهي أرض الخليل من قرية منها تدعى (ناصرة) وباسمها سمى أتباعه نصارى، ومعنى لوح به من جبل فاران (2)، أو استعلن من جبل فاران، إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وجبال فاران هي جبال مكة بلا خلاف بين المسلمين، وأهل الكتاب. ومما يؤيد هذا ما في التوراة في السفر (3) الأول منها ما لفظه:"وغدا إبراهيم فأخذ الغلام يعني إسماعيل، وأخذ خبزا وسقاء من ماء، ودفعه إلى هاجر، وحمله عليها، وقال لها: اذهبي، فانطلقت هاجر، فظلت سبعا، ونفذ الماء الذي كان معها، فطرحت الغلام تحت شجرة، وجلست مقابلته على مقدار رمية سهم، لئلا تبصر الغلام حين يموت، ورفعت صوتها بالبكاء، وسمع الله صوت الغلام، فدعا ملك الله هاجر وقال لها: ما لك يا هاجر لا تخشي، فإن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو، فقومي فاحملي الغلام، وشدي يديك به، فإني جاعله لأمة عظيمة، وفتح الله عينيها فبصرت بئر ماء، فسقت الغلام، وملأت سقاها، وكان الله مع الغلام فربى وسكن في برية فاران" انتهى.
ولا خلاف أن إسماعيل سكن أرض مكة فعلم أنها فاران، وقد حكى الله -سبحانه- في القرآن الكريم ما يفيد هذا، فقال حاكيا عن إبراهيم:} رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ {(4).
(1) في التوراة اسم لجبال فلسطين وهو من حدود الروم وهو قرية من الناصرة بين طبرية وعكا. معجم البلدان (3/ 171).
(2)
كلمة عبرانية معربة: وهو اسم لجبال مكة. انظر معجم البلدان (4/ 225).
(3)
أي سفر التكوين. الإصحاح الحادي والعشرون. انظر العهد القديم (29).
(4)
[إبراهيم: 37]
ولا خلاف في أن المراد بهذا الوادي أرض مكة، وفي الأحاديث الصحيحة (1)
الحاكية لقصة إبراهيم مع هاجر وولدها إسماعيل ما يفيد هذا ويوضحه.
ومما يؤيد هذه البشارة، المذكور في التوراة البشارة المذكورة في كتاب نبوة النبي شمعون (2) ولفظه:"جاء الله من جبال فاران، وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه، وتسبيح أمته".
ومثل ذلك البشارة المذكورة في نبوة النبي حبقوق (3) ولفظه: " جاء الله من التيمن (4)، وظهر القدس على جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، وملك يمينه رفات الأمم، وأنارت الأرض لنوره، وحملت خيله في البحر"(5) انتهى.
وفي هذا التصريح بحبال فاران مع التصريح باسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم[16] بقوله: وامتلأت الأرض من تحميد أحمد تصريح لا يبقى بعده ريب لمرتاب.
ومن البشارات بنبينا - محمد صلى الله عليه وسلم في الزبور (6) لداود عليه السلام ما لفظه:
(1) انظر: فتح الباري (6/ 386 - 395).
البداية والنهاية (1/ 150 - 155).
(2)
ونص الترجمة الحالية: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران، سلاه جلاله غطى السماوات والأرض، امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور له من يده شعاع. وهناك استثار قدرته".
سفر حبقوق، الإصحاح الثالث، العهد القديم 1046.
(3)
اسم عبري معناه (يعانق) أو ربما اسم نبات حديقة وهو نبي يهوذا ويستفاد من المزمور المنسوب إليه أنه كان من سبط لاوي وأنه أحد المفتين في الهيكل وهو عند أهل الكتاب ثامن الأنبياء الصغار الذين ظهروا في مملكة يهوذا.
قاموس الكتاب المقدس (ص 287 - 288).
(4)
اسم عبري معناه اليمنين أو الجنوبي أو الصحراء الجنوبية.
قاموس الكتاب المقدس (ص 288).
(5)
سفر حبقوق الإصحاح الثالث.
(6)
نص الترجمة الحالية: "رنموا للرب، باركوا اسمه، بشروا من يوم إلى يوم بخلاصة، حدثوا بين الأمم بمجده، بين جميع الشعوب بعجائبه؛ لأن الرب عظيم وحميد جدا".
سفر المزامير، المزمور السادس والتسعون العهد القديم 704.
"إن ربنا عظيم، محمود جدا، ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا" انتهى.
ففي هذا التصريح باسمه صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك قوله فيه "بارك عليك إلى الأبد. ويقلد أبونا الجبار السيف؛ لأن البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك، اركب كلمة الحق، وسمت التأله، فإن ناموسك وشرائعك معروفة هيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يخرون تحتك"(1) انتهى. وهذه صفات نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه لم يبعث نبي هذه صفته بعد داود سواه. ومثل هذا قوله في موضع آخر: "ويجوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وتخذى أهل الجزائر بين يديه، ويلحس أعداؤه التراب، ويسجد له ملوك الفرس، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، ويخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالمساكين والضعفاء، ويصفى عليه ويبارك في كل حين"(2) انتهى. وهذه الصفات أيضًا ليست لأحد من الأنبياء غيره. فإنه لم يملك أحد
(1) نص الترجمة الحالية: " فاض قلبي بكلام صالح، متكلم أنا بإنشائي للملك لساني قلم كاتب ماهر، أنت أبرع جمالا من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد، تقلد سيفك على فخذك - أيها الجبار- جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم، أركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك عينيك مخاوف، نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوب تحتك يسقطون".
سفر المزامير، المزمور الخامس والأربعون العهد القديم 672.
(2)
نص الترجمة الحالية: "ويملك من البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض أمامه تجثو أهل البرية وأعداؤه يلحسون التراب، ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمه. ملوك شيا وسبأ يقدمون هدية ويسجد له كل الملوك. كان كل الأمم تتعبد له لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين، إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبأس ويخلص أنفس الفقر من الظلم والخطف، يفدي أنفسهم ويكرم دمهم في عينيه، ويعيش ويعطيه من ذهب شبا يصلي لأجله دائما اليوم كله يباركه".
سفر المزامير، المزمور الثاني والسبعون. العهد القديم 688.
وقوله من البحر إلى البحر: لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته حاز من البحر الرومي إلى البحر الفارسي ومن لدن الأنهار سيحون وجيحون إلى منقطع الأرض بالمغرب.
* والجزائر: أهل جزيرة العرب الجزيرة بين الفرات ودجلة، جزيرة قبرص وأهل جزيرة الأندلس.
* قال صلى الله عليه وسلم: "زويت لي الأرض، مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها".
أخرجه ابن ماجه في السنن رقم (4000) من حديث ثوبان، وله ألفاظ عند مسلم رقم (2889)
وأبو داود رقم (4252) والترمذي في السنن رقم (2176) وهو حديث صحيح.
منهم من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، كما ذلك معلوم لكل أحد، بل الذي انتشرت شريعته، وبلغت سيوف أمته إلى هذا المقدار هو نبينا صلى الله عليه وسلم. وهكذا قوله: ويسجد له ملوك الفرس، فإنه لم يفتح الفرس، ويستعبد أهلها، ويضرب عليهم الجزية إلا أمة نبينا صلى الله عليه وسلم. وهكذا قوله:"وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد" فإنها لم تدن الأمم كلها لغيره. وهكذا قوله: "ويصلي عليه ويبارك (1) في كل حين" فإن هذا يختص بنبينا صلى الله عليه وسلم لاستمرار ذلك له في كل وقت، ووقوع الأمر القرآني به، ولم يكن ذلك لغيره من الأنبياء. ومن البشارات، ما ذكره أشعيا (2) في كتاب نبوته من التبشير براكب الحمار، وراكب الجمل، ولا شك أن راكب الحمار، هو المسيح، وراكب الجمل هو نبينا صلى الله عليه وسلم.
وفي نبوة أشعيا أيضًا قوله: "إني جعلت أمرك يا محمد، يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد"(3). انتهى.
(1) وقوله: "يصلى عليه ويبارك في كل حين": في كل صلاة والصلوات الخمس وغيرها اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد. . . . . . ".
(2)
نص الترجمة الحالية: لأنه هكذا قال لي السيد: اذهب أقم الحارس ليخبر بما يرى، فرأى ركابا أزواجا من الفرسان. ركاب حمير، ركاب جمال فأصفي إصفاء شديدا، ثم صرح كأسد: أيها السيد أنا قائم على المرصد دائما في النهار، وأنا واقف على المحرس كل الليالي، وهوذا ركاب من الرجال، أزواج من الفرسان فأجاب وقال: سقطت بابل، وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة، كسرها إلى الأرض".
سفر أشعياء، الإصحاح الحادي والعشرون العهد القديم 801.
* وبمحمد صلى الله عليه وسلم سقطت أصنام بابل.
(3)
لم أقف عليه.
وهذا تصريح باسم نبينا صلى الله عليه وسلم على وجه ينفي كل شك ويقطع كل ريبة، وكذلك قوله في موضع آخر (1) من كتاب نبوته حاكيا عن الله سبحانه أشكر حبيبي أحمد فإن هذا التصريح باسم نبينا صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا قول حبقوق (2) النبي في كتاب نبوته:"أضاءت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من شعاع منظره"(3) وكذا قوله في موضع آخر (4) من كتاب نبوته: "وتنزع في مشيك إعراقا ونزعا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء- فإن هذا تصريح أوضح من الشمس ومن البشارات قول حزقيال (5) النبي في كتاب نبوته مهددا لليهود:- وأن الله يظهرهم عليكم، وباعث فيهم نبيا، وينزل عليهم كتابا، ويملكهم رقابكم، فيقهرونكم،. . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) لم أقف عليه.
* وإنما قال أشعياء "إنما سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد".
سفر أشعياء. الإصحاح السادس والستون العهد القديم 846.
(2)
انظر: سفر حبقوق الإصحاح الثالث العهد القديم (1046).
* أشعيا بن آموص، ومعنى اسمه (الرب يخلص) ويعتبره النصارى من أعظم أنبياء العهد القديم ويلقبونه (بالنبي الإنجيلي) لكثرة نبواته عن المسيح ويغلب على ظن المؤرخين بأن أشعياء قد مات مقتولا في اضطهاد الملك منسي الإسرائيلي.
وينسب إلى أشعياء سفر باسمه عدد إصحاحاته (66) إصحاحا ويعتبر ضمن أسفار الأنبياء المتأخرين.
قاموس الكتاب المقدس ص 81 - 85.
(3)
وتمامه: مثل النور يحوط بلاده بعزة تسير المنايا أمامه، وتصحب سباع الطير أجناده، قام فمسح الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة وانخفضت الروابي، وتزعزعت ستور أهل مدين".
(4)
انظر: سفر حبقوق الإصحاح الثالث، والعهد القديم 1046.
(5)
حزقيال: معناه (الله يقوي) وهو ابن بوزي من عشيرة كهنوتيه ويعتبرونه أحد الأنبياء الكبار وقد نشأ في فلسطين زمن النبي أرميا ثم حمل مسبيا مع ملك يهوذا (يهوياكين) إلى أرض بابل أثناء الغزو البابلي، ولا يعرف وقت ومكان موته.
ينسب إليه (سفر حزقيال) عدد إصحاحاته (48) إصحاحا.
القاموس (الكتاب المقدس)(301 - 304).
ويذلونكم (1) بالحق [17]، ويخرج رجال (بني قيذار)(2) في جماعات الشعوب، معهم ملائكة على خيل بيض" (3) انتهى.
ففي هذا التصريح ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم وقهر أمته للأمم، فإن (قيدار) هو ابن إسماعيل بن إبراهيم بلا خلاف، ولم يبعث الله فيهم نبيا إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وهذا معلوم لكل أحد، لا يخالف فيه مخالف، ولا ينكره منكر.
ومن البشارات ما في كتاب نبوة دانيال النبي، فإنه صرح فيها باسم النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما تقدم في نبوة حبقوق فقال:"ستنزع في مشيك إعراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء"(4) انتهى.
وفي موضع آخر من كتابه هذا التصريح ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم فقال بعد ذكر التبشير بالمسيح ما لفظه: "حتى أبعث بي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملائكة فبشروها، فأوحي إلى ذلك النبي وأعلمه السماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البر شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها، أسري به إلي، وأرقيه من سماء إلى سماء حتى يعلو، فأدنيه، وأسلم عليه، وأوحي إليه، ثم أرده إلى
(1) في المخطوط مكرر قوله: "ويملكهم رقابكم فيقهرونكم ويذلونكم ".
(2)
رجال بني قيدار هم ربيعة ومضر أبناء عدنان وهما جميعا من ولد قيدار بن إسماعيل والعرب كلهم من بني عدنان وبني قحطان، فعدنان -أبو ربيعة- ومضر وأنمار من ولد إسماعيل باتفاق الناس وأما قحطان فقيل: هم من ولد إسماعيل. . . ..
البداية والنهاية (2/ 156) واللباب في معرفة الأنساب (3/ 222).
(3)
انظر: سفر حزقيال الإصحاح العشرين والعهد القديم 949.
(4)
النص الذي وجدته: "كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه، فأعطي سلطانا ومجدا وملكوتا، لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض".
سفر دانيال. الإصحاح السابع، العهد القديم 1000.
عبادي بالسرور والغبطة حافظا لما استودع، صادعا بما أمر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول، والموعظة الحسنة، لا فظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيم بمن آمن به حتى على من عاداه" (1). انتهى، ولا ريب أن هذه صفات نبينا صلى الله عليه وسلم وأنه لم يبعث الله نبيا من بني إسماعيل سواه. ومثل هذه الصفات، ما في حديث عبد الله بن عمرو وعند البخاري (2) وغيره أنه قيل له: أخبرنا ببعض صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال (إنه لموصوف في التوراة (3) ببعض صفته في القرآن (4):} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {(5) وحرزا للأميين. أنت عبدي ورسولي، حميتك المتوكل، لست بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينا عمياء، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، بأن يقولوا لا إله إلا الله). قيل: قد يراد بلفظ التوراة جنس الكتب المتقدمة من التوراة والزبور والإنجيل، وسائر كتب أنبياء بني إسرائيل. فعلى هذا، يكون المراد بقول عبد الله بن عمرو: "إنه لموصوف في التوراة " هذه الصفات المذكورة في نبوة دانيال، ولا مانع من أن تكون هذه الصفات كانت موجودة في التوراة فحذفتها اليهود، فما ذلك بأول تحريف وتبديل وتغيير
(1) انظر: سفر دانيال الإصحاح التاسع بكامله، والعهد القديم (1003 - 1004).
* ودانيال: معناه (الله قضى) عاش في فترة السبي البابلي، ونال مكانة عالية عند نبوخذ نصر بعد أن فسر له دانيال حلما قد أزعجه وتوفي في عهد الملك كورش ملك الفرس وينسب إليه سفر باسمه عدد إصحاحاته (12) إصحاحا ويحتوي على تاريخ بني إسرائيل في فترة السبي وعلى تنبؤات مستقبلة.
قاموس الكتاب المقدس (357 - 360).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2125) و (4838).
(3)
لفظ التوراة يقصدون به جنس الكتب التي عند أهل الكتاب، ولا يخصون بذلك كتاب موسى.
(4)
انظر: سفر أشعياء الإصحاح الثاني والأربعون (1/ 20) والعهد القديم (822).
(5)
[الأحزاب: 45].
منهم.
[تبشير الإنجيل بمحمد صلى الله عليه وسلم:]
ومن البشارات به في الإنجيل، ما في الفصل الخامس عشر من الإنجيل الذي جمعه يوحنا (أن الفار قليط روح الحق الذي يرسله الله هو [يعلم] (1) كل شيء) (2).انتهى. وفي موضع آخر منه:(والفار قليط روح القدس الذي يرسله [18] الله هو [يعلم] (3) كل شيء وهو يذكركم ما قلت لكم). وفي موضع آخر منه: (إذا جاء الفار قليط الذي أرسله الله روح الحق الذي هو يشهد لي، قلت لكم هذا، حتى إذا كان يؤمنون به، ولا يشكون فيه)(4). وفي الفصل السادس عشر منه: (لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفار قليط، فإذا انطلقت أرسلته إليكم فهو يوبخ العالم على الخطيئة، وعلى البر، وعلى الحكم. أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على البر فإني منطلق ولستم تروني، وأما على الحكم فإن رئيس هذا العالم يدان، وأن لي كلاما كثيرا لستم تطيقون كله الآن. لكن إذا جاء روح الحق ذاك، فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي) انتهى.
وقد تكرر ذكر (الفار قليط)(5) في الإنجيل، وأنذر به المسيح وبشر به قومه في غير موضع منه. وقد اختلفوا في المراد، (فالفار قليط) في لغتهم على أقوال. وذهب الأكثر
(1) كذا في المخطوط وصوابه. (يعلمكم).
(2)
إنجيل يوحنا (14/ 26).
(3)
كذا في المخطوط وصوابه. (يعلمكم).
(4)
يوحنا (15/ 26).
(5)
الفار قليط: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله بعد المسيح.
من النصارى إنه المخلص (1)، وقالوا هو مشتق من (فاروق) (2) أو من (فارق) قالوا: ومعنى (ليط)(3) كلمة تزاد كما يقال في العربية: رجل هو، وحجر هو، وعالم هو، وجاهل هو.
وقد تقرر أنه لا نبي بعد المسيح غير نبينا صلى الله عليه وسلم. وهذه البشارات قد تضمنت أنه سيأتي بعد المسيح نبي يخلص تلك الأمم مما هم فيه، ويوبخهم على الخطية، ويتكلم بما يسمع، ويخبر بكل ما يأتي، ولم يكن هذا لأحد بعد المسيح غير نبينا صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على أن المراد بالفار قليط هو نبينا صلى الله عليه وسلم أنه وقع الحذف هذا اللفظ من بعض نسخ الإنجيل مع ثبوته في غالبها. وليس ذلك إلا تغييرا وتبديلا من النصارى، لما يعلمونه من أن المراد هذا اللفظ هو التبشير بنبي يأتي بعد المسيح:
(1) انظر: تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/ 702)
وقيل: إنه (الحماد) وقيل (الحامد) وقيل: (المعز)، وأكثر النصارى على أنه المخلص.
* "إن الطبعات الحديثة للأناجيل لا توجد فيه لفظة (فار قليط) وأبدلت بألفاظ أخرى مثل (المعزي، المحامي، المعين، المخلص، الوكيل، الشافع) علما بأن كلمة (الفار قليط) كانت موجودة في الترجمة العربية للأناجيل المطبوعة في لندن سنة 1821 م، 1831 م، 1844 م، وقد وقفت على مخطوطة لترجمة التوراة والزبور والإنجيل في إسطنبول بمكتبة عاطف أفندي تحت رقم (7) وفيها ذكرت لفظة (الفار قليط).
ومعلوم لدينا أن اليهود والنصارى يسعون إلى إخفاء البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم من كتبهم المقدمة لديهم أو تحريف معناها وذلك مما أخبرنا الله عز وجل عنهم فقال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وإن فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[البقرة: 146].
فما معنى كلمة (فار قليط) التي اختلف النصارى في معناها؟ إن (فار قليط) معربة من كلمة (بيركليتوس) اليونانية ( perialytos) التي تعني اسم: أحمد صيغة المبالغة من الحمد" ا هـ.
حاشية. "تخجيل من حرف التوراة والإنجيل"(2/ 703).
(2)
قال ابن القيم في "هداية الحيارى" ص 56: وهو بالسريانية فاروق وقالوا معنى (ليط) في السريانية أيضا.
(3)
قال ابن القيم في "هداية الحيارى" ص 56: وهو بالسريانية فاروق وقالوا معنى (ليط) في السريانية أيضا.
وأنها ستقوم عليهم بذلك الحجة فحذفوا هذا اللفظ لهذه العلة (1).
وقد حكى الله - سبحانه- في القرآن العظيم أن المسيح بشر بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال:} وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ {(2).
وفي الإنجيل أيضًا الذي جمعه يوحنا أن المسيح قال: "أركون العالم سيأتي، وليس لي شيء"(3). وهذا اللفظ فيه أعظم بشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الأركون في لغة النصارى العظيم القدر، ولم يأت بعد المسيح من هو هذه الصفة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه جعله أركون العالم، وقال عن نفسه: ليس له من الأمر (4) شيء، فدل هذا على أنه سيأتي بعده عظيم من عظماء العالم يكون منه الإصدار والإيراد، والحل والعقد في الدين، وإثبات الشرائع، وأن المسيح بالنسبة إليه كمن ليس له شيء.
وهذا إنما يكون تبشيرا بمن هو أعظم من المبشر به [19]، أعني المسيح عليه السلام ولا يصح حمله على رجل عظيم القدر في الدنيا، أو في الملك، أو غير ذلك؛ لأن الأنبياء لا يبشرون بمن هو كذلك، ويجعلونه أركون العالم، ويجعلون الأمر إليه، وينفون الأمر عن أنفسهم، فإن هذا لا يكون أبدا من الأنبياء، ولا يصح نسبته إليهم، ولا صدوره منهم قط، بلا خوف بين أهل الملل.
ولا يمكن أن يدعي مدع أنه جاء بعد المسيح من هو هذه الصفة غير نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإن الحواريين إنما دانوا بدينه، ودعوا الناس إلى شريعته، ولم يستقل أحد منهم بشيء من جهة نفسه قط. ومن جاء بعدهم من أتباع المسيح فهو دونهم بمراحل.
(1)[انظر التعليقة السابقة].
(2)
[الصف: 6].
(3)
ورد النص في إنجيل يوحنا (14/ 30)"لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء".
(4)
قال ابن قيم الجوزية في "هداية الحيارى "(ص 65): تضمنت هذه البشارة أصلي الدين: إثبات التوحيد، وإثبات النبوة. . . ".
[4 - إشارة القرآن والسنة إلى بشارات الكتب السابقة]
وقد حكى الله - سبحانه- في القرآن الكريم ما تتضمنه الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، من التبشير بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما يغني عن جميع ما ذكرناه من نصوص تلك الكتب، وإنما أردنا بالنقل منها إلزام الحجة، وتكميل الفائدة لمن كان في قلبه ريب، وفي صدره حرج.
فمن ذلك قوله -سبحانه-:} الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ {(1)، وقال عز وجل:} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ {(2)، وقال تعالى:} وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ {(3)، وقال سبحانه:} وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ {(4)، وقال سبحانه:} وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {(5)، وقال سبحانه:} قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ {(6)، وقال:} أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ {(7).
(1)[الأعراف: 157].
(2)
[البقرة: 146].
(3)
[البقرة: 144].
(4)
[البقرة: 89].
(5)
[الأنعام: 114].
(6)
[الرعد: 43].
(7)
[الشعراء: 197].
وقال سبحانه:} وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {(1). وقال تعالى:} إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا {(2)، وقال سبحانه:} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ {(3). وقال سبحانه:} فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ {(4). وهذا بعض ما اشتمل عليه الكتاب العزيز، وفي الأحاديث ما يؤيده ذلك ويؤكده.
فمن ذلك ما رواه ابن إسحاق (5) قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور، وداود بن سلم: يا معشر اليهود [20] اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل الشرك، وتخبرونا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير:
(1)[المائدة: 83].
(2)
[الإسراء: 107 - 109].
(3)
[القصص: 52 - 53].
(4)
[يونس: 94].
(5)
كما في السيرة النبوية (2/ 224).
ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم. فأنزل الله عز وجل:} فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ {(1).
وروى ابن إسحاق (2) نحو هذه القصة التي هي سبب نزول هذه الآية من طرق، ومنها: أنه قال: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد، حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصاري قال: حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت الأنصاري قال: "والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثماني سنين أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يقول على أطم (3) يثرب، فصرخ: يا معشر اليهود، فلما اجتمعوا عليه، قالوا: ما لك وتلك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي يبعث الليلة ".
ومن ذلك، ما كان من خروج زيد بن عمرو بن نفيل، وسؤاله لأهل الكتاب، وإخبارهم عن أن نبينا يبعث في العرب، فرجع، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، ومات قبل البعثة. وهذا الحديث في البخاري (4) وغيره.
وأخرج البيهقي (5) بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا يهودي! أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة صفتي؟ ومخرجي؟ قال: لا. قال الفتى: بلى والله يا رسول
(1)[البقرة: 89].
(2)
كما في "السيرة" لابن هشام (1/ 168).
(3)
الأطم: القصر، وكل حصن مبني بالحجارة، وكل بيت مربع مسطح. وجمعه آطام، وأطوم. "القاموس المحيط" ص 1390.
(4)
في صحيحه رقم (3827).
(5)
في "دلائل النبوة"(6/ 272) وأطرافه [51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196، 7541].
الله، إنا نجد في التوراة نعتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم:" أقيموا هذا من عند رأسه ولوا أخاكم ".
وثبت في البخاري (1) ومسلم (2) وغيرهما من حديث ابن عباس، عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل ملك الروم عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:"إن يكن ما تقوله حقا إنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحسنت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه".
وفي البخاري (3) حكاية عن هرقل هذا: "إنه كان حزاء ينظر في النجوم، فنظر فقال: إن ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: يختن اليهود، فلا يصمك شأنهم، وابعث إلى من كان في مملكتك من اليهود فيقتلونهم، ثم وجد إنسانا من العرب فقال: انظروا أمختتن هو؟ فنظروا فإذا هو مختتن، وسأله عن العرب فقال يختتنون".
وفيه (4) أيضا: وكان (برومية) صاحب لهرقل. كان هرقل نظيره في العلم، فأرسل إليه وسار إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتى كتاب من صاحبه يوافق رأيه على خروج النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا، ما ثبت في كتب السير (5) والحديث من إسلام النجاشي وتصديقه بالنبي صلى الله عليه وسلم[21] وهو في الحبشة لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما وصل إليه بعض أصحابه وسمع ما تلوه عليه من القرآن، فآمن وصدق.
(1) في صحيحه رقم (7).
(2)
في صحيحه رقم (1773).
(3)
في صحيحه رقم (7).
(4)
أي صحيح البخاري رقم (7).
(5)
انظر: "السيرة النبوية"(1/ 414 - 418).
وثبت في الصحيح (1) أن ورقة بن نوفل الذي دار في طلب الدين، وسأل طوائف أهل الكتاب، لما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى من نزول جبريل عليه في غار حراء، وما قال له، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، ليتني كنت جذعا أدرك إذ يخرجك قومك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أومخرجي هم؟! " فقال ورقة: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي.
ومن هذا ما رواه ابن إسحاق (2)، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: "هل تدري عما كان إسلام أسيد وثعلبة ابني سعية، وأسد بن عبيد نفر من هذيل لم يكونوا من بني قريظة، ولا النضير. كانوا فوق ذلك. فقلت: لا. قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له: ابن الهيبان، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسنين، وكنا إذا قحطنا، أو قل علينا المطر نقول: يا ابن الهيبان، اخرج فاستق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول: كم؟ فيقول: صاع من تمر، أو مدين من شعير، فنخرجه. ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه فيستقي، فوالله ما نقوم من مجلسه حتى تمر السحاب.
وقد فعل ذلك غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة، فاجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم. قال: فإنه إنما أخرجني أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه. هذه البلاد مهاجره فاتبعوه، ولا تُسبقن إليه إذا خرج، يا معشر يهود، فإنه يبعث
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3) ومسلم في صحيحه رقم (160) من حديث عائشة.
(2)
كما في "السيرة النبوية"(3/ 272 - 273).
قلت: وأخرجه أبو نعيم في "الدلائل"(1/ 23 - 24) والبيهقى في "الدلائل"(2/ 80 - 81) بسند منقطع لجهالة الشيخ من بني قريظة. وهو حديث ضعيف.
بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء، ممن يخالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. ثم مات. فلما كان الليلة التي فتحت فيها قريظة قال أولئك الثلاثة الفتية، وكانوا شبانا أحداثا: يا معشر يهود! والله إنه الذي ذكر لكم ابن الهيبان. فقالوا: ما هو به. قالوا: بلى. والله إنه بصفته، ثم نزلوا فأسلموا وخلوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم، فلما فتح الحصن رد ذلك عليهم.
وأخرج البخاري في تاريخه (1)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (2) عن محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت أبي جبير يقول: لما بعث الله نبيه، وظهر أمره بمكة خرجت إلى الشام، فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرم أنت؟ قلت: نعم، قالوا: تعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟ قلت: نعم، قال: فأخذوا بيدي، فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل [22] وصور. قالوا لي: انظر هل ترى صورة هذا الذي بعث فيكم؟ فنظرت فلم أر صورته. قلت: لا أرى صورته. فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير فيه صور أكثر مما في ذلك الدير، فقالوا لي: انظر هل ترى صورته؟ فنظرت، فإذا أنا بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصورته، وإذا أنه بصفة أبي بكر وصورته وهو آخذ بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا لي: انظر هل ترى صورته؟ قلت: نعم. قالوا: هو هذا [23] وأشاروا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: اللهم نعم أشهد أنه هو. قالوا: أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه؟ قلت: نعم. قالوا: تشهد أن هذا هو صاحبكم، وأن هذا الخليفة من بعده.
وقريب من هذه القصة (3) ما رواه موسى بن عقبة بن هشام بن العاص، ونعيم بن عبد الله، ورجل آخر قد سماه، بعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر قال: فدخلنا على جبلة بن
(1)(1/ 179).
(2)
(1/ 384 - 385).
(3)
انظر "دلائل النبوة" للبيهقي (6/ 386).
الأيهم وهو بالغوطة. . . فذكر الحديث. وأنه انطلق بهم إلى الملك، وأنهم وجدوا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة، وإذا فيها أبواب صغار ففتح بابا، فاستخرج منه حريرة، وفيها صورة نوح، ثم إبراهيم، ثم أراهم حريرة فيها صورة محمد صلى الله عليه وسلم وقال: هذا آخر الأبواب، ولكني عجلته لأنظر ما عندكم.
وأمثال هذا كثيرة جدا يطول المقام ببسط بعضها، فضلا عن كلها، وفي القرآن الكريم من دلائل إثبات النبوات على العموم، وإثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم على الخصوص ما لا يخفى على من يعرف القرآن، ويفهم كلام العرب، فإنه مصرح بثبوت نبوة جميع الأنبياء من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه ذكر كل واحد منهم بصفته، وإلى من أُرسل، وفي أي زمان كان، مع تقديم المتقدم، وتأخير المتأخر، وذكر ما وقع لكل واحد منهم من إجابة قومه له، وامتناعهم عليه، وردهم لما جاء به، وما وقع بينه وبينهم من المقاولة والمحاولة والمقاتلة.
ومن نظر في التوراة وما اشتملت عليه من حكاية حال الأنبياء من لدن آدم إلى موسى، وجد القرآن موافقا لما فيها غير مخالف لها.
وهكذا ما اشتملت عليه التوراة، مما اتفق لموسى وبني إسرائيل في مصر مع فرعون، وما كان من تلك الحوادث من الآيات البينات التي جاء بها، ومن تلك العقوبات التي عوقب بها فرعون وقومه، ثم ما كان من بني إسرائيل مع موسى من بعد خروجهم من مصر إلى عند موت موسى، مع طول تلك المدة، وكثرة تلك الحوادث.
فإن القرآن حكى ذلك كما هو، وذكره بصفته من غير مخالفة، ثم ما كان من الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى إلى عند قيام المسيح. فإن القرآن الكريم حكى قصصهم، وما جرى لهم، وما قالوه لقومهم، وما قاله قومهم لهم، وما وقع بينهم من الحوادث، وكان ما حكاه القرآن موافقا لما في كتب نبوة أولئك الأنبياء من غير مخالفة.
ثم هكذا ما حكاه القرآن عن نبوة المسيح، وما جرى له وأحواله، وحوادثه، فإنه موافق لما اشتمل عليه الإنجيل من غير مخالفة.
ومعلوم لكل عاقل يعرف أحوال نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان أميا لا يقرأ، ولا يكتب، وكان منذ ولد إلى أن بعثه الله عز وجل بين قومه، وهم قوم مشركون، لا يعرفون شيئا من أحوال الأنبياء، ولا يدرون بشيء من الشرائع، ولا يخالطون أحدا [24] من اليهود والنصارى، ولا يعرفون شيئا من شرائعهم، وإن عرفوا فردا منها، فليس ذلك إلا في مثل ما هو متقرر بينهم يعملون به في عباداتهم ومعاملاتهم باعتبار ما يشتهر عنهم في ذلك، كما يبلغ بعض أنواع العالم عن البعض الآخر. فإنه قد يبلغهم بعض ما يتمسكون به في دينهم باعتبار اشتهار ذلك عنهم.
وأما العلم بأحوال الأنبياء، وما جاءوا به، وإلى من بعثهم الله، وما قالوا لقومهم، وما أجابوهم به، وما جرى بينهم من الحوادث كلياتها وجزئياتها، وفي أي عصر كان كل واحد منهم، وإلى من بعثه الله، وكون هذا النبي كان متقدما على هذا، وهذا متأخرا عن هذا، من كثرة عددهم، وطول مددهم، واختلاف أنواع قومهم واختلاف ألسنتهم وتباين لغاتهم، فهذا أمر لا يحيط بعلمه إلا الله عز وجل.
ولولا اشتمال التوراة على حكاية أحوال من قبل موسى من الأنبياء لانقطع علم ذلك عن البشر، ولم يبق لأحد منهم طريق إليه ألبتة، فلما جاءنا هذا النبي العربي الأمي المبعوث من بين طائفة مشركة تعبد الأوثان، وتكفر بجميع الأديان، قد دبروا دنياهم بأمور جاهلية، "تلقاها الآخر عن الأول، وسمعها اللاحق من السابق، لا يرجع شيء منها إلى ملة، من الملل الدينية، ولا إلى كتاب من الكتب المنزلة، ولا إلى رسول الأنبياء المرسلة، بل غاية علمهم، ونهاية ما لديهم ما يجري بين أسلافهم من المقاولة والمقاتلة، وما يحفظونه من شعر شعرائهم، وخطب خطبائهم، وبلاغات بلغائهم، وجود أجوادهم وإقدام أهل الجرأة والجسارة منهم، لا يلتفتون مع ذلك إلى دين، ولا يقبلون على شيء من أعمال الآخرة، ولا يشتغلون بأمر من الأمور التي يشتغل بها أهل الملل، فإن راموا مطلبا من مطالب الدنيا، ورغبوا في أمر من أمورها، قصدوا أصنامهم، وطلبوا حصولها منها، وقربوا إليها بعض أموالهم، ليبلغوا بذلك إلى مقاصدهم ومطالبهم.
وكان هذا النبي العربي الأمي لا يعلم إلا بما يعلمون، ولا يدري إلا بما يدرون. بل قد يعلم الواحد منهم المتمكن من قراءة المكتوب، وكتابة المقروء بغير ما يعلمه هذا النبي. فبينما هو على هذه الصفة بين هؤلاء القوم البالغين في الجهالة إلى هذا الحد جاءنا هذا الكتاب العظيم، الحاكي لما ذكرناه من تفاصيل أحوال الأنبياء وقصصهم، وما جرى لهم مع قومهم على أكمل حال، وأتم وجه. ووجدناه موافقا لما في تلك الكتب، غير مخالف لشيء منها. كان هذا من أعظم الأدلة الدالة على ثبوت نبوته على الخصوص، وثبوت نبوة من قبله من الأنبياء على العموم.
ومثل دلالة هذا الدليل لا يتيسر لجاحد، ولا لمكابر، ولا لزنديق مارق أن يقدح فيها بقادح، أو يعارضها بشبهة من الشبه كائنة ما كانت إن كان ممن يعقل ويفهم [25]، ويدري بما يوجبه العقل من قبول الأدلة الصحيحة التي لا تقابل بالرد، ولا تدفع بالمعارضة، ولا تقبل التشكيك، ولا تحتمل الشبهة.
ومع هذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي المبعوث بين هؤلاء يصرح بين ظهرانيهم ببطلان ما هم عليه، ويزيف ما هم فيه أبلغ تزييف، ويقدح فيه أعظم قدح، ويبين لهم أنهم أعداء الله، وأنهم مستحقون لغضبه وسخطه وعقوبته، وأنهم ليسوا على شيء. فبهذا السبب صاروا جميعا أعداء له، يطعنون عليه بالمطاعن التي يعلمون أنه منزه عنها، مبرأ منها كقولهم: إنه كذاب، وإنه مجنون، وإنه ساحر.
فلو علموا أنه تعلم من أحد من أهل الكتاب. أو أخذ عن فرد من أفرادها، لجاءوا بهذا المطعن بادئ بدء، وجعلوه عنوانا لتلك المطاعن الكاذبة، بل لو وجدوا إلى ذلك سبيلا لعولوا عليه، ولم يحتاجوا إلى غيره. فلما لم يأتوا بذلك، ولا تكلموا به، ولا وجدوا إليه سبيلا، علم كل عاقل أنه لم يتعلم من أحد من اليهود، ولا من النصارى، ولا من غير هاتين الطائفتين.
إذا لم يطعن عليه بذلك هؤلاء الذين هم قومه وقد ولد بينهم، وعاش في ديارهم، يخالطهم، ويخالطونه، ويواصلهم ويواصلونه، ويعرفون جميع أحواله، ولا سيما من كان
من قرابته منهم الذين صاروا له بعد البعثة أشد الأعداء، وأعظم الخصوم، كأبي لهب، وأمثاله، فإنه لا شك، ولا ريب أنه لا يخفى عليهم، ما هو دون هذا من أحواله.
وأيضا لو كان قد تعلم من أحد من أهل الكتاب، لم يخف ذلك على أهل الكتاب الذين صرح لهم بأنهم إن لم يؤمنوا به فهم من أعداء الله، ومن المستحقين لسخطه، وعقوبته، وأنهم على ضلالة، وأنهم قد غيروا كتابهم، وحرفوه، وبدلوه، وأنهم أحقاء بلعنة الله وغضبه.
فلو كان له معلم منهم، أو من أمثالهم من أهل الكتاب، لجعلوا هذا المطعن عليه مقدما على كل مطعن يطعنونه به من تلك المطاعن الكاذبة، بل كان هذا المطعن مستغنيا عن كل ما طعنوا به عليه؛ لأن مسافته قريبة، وتأثره ظاهر، وقبول عقول العامة له من أهل الكتاب، ومن المشركين أيسر من قبولها لتلك المطاعن الكاذبة التي جاءوا بها. هذا معلوم لكل عاقل، لا يشك فيه شاك، ولا يتلعثم عنده متلعثم، ولا يكابره فيه مكابر. فلما لم يطعن عليه أحد منهم بشيء من ذلك علمنا علما يقينا انتفاء ذلك، وأنه لم يتعلم من أحد منهم.
وإذا تقرر هذا البرهان الذي هو أوضح من شمس النهار أنه لم يكن له معلم من اليهود، ولا من النصارى، ولا من غيرهم، ممن له علم بأحوال الأنبياء، فلم يبق إلا أن يكون اطلع بنفسه منفردا عن الناس على مثل التوراة والزبور والإنجيل. ونحو ذلك من كتب الأنبياء.
وقد علمنا علما يقينا بأنه كان أميا [26] لا يقرأ المكتوب، ولا يكتب المقروء. ثبت هذا بالنقل المتواتر عن أصحابه، مع عدم مخالفة المخالفين له في ذلك، فإنه لم يسمع عن واحد منهم أنه نسب إليه أنه يقدر على قراءة المكتوب، أو كتابة المقروء، وحينئذ انتفت هذه الطريقة أعني كونه اطلع على الكتب المتقدمة بنفسه منفردا عن الناس، وإنما قلنا منفردا عن الناس لأنا لو فرضنا قدرته على ذلك في محضر أحد من الناس لم يخف ذلك على أتباعه، ولا على أعدائه.
فإذا انتفت قدرته على قراءة المكتوب من حيث كونه أميا، وانتفى اطلاع أحد من الناس على شيء من ذلك علمنا أنه لم يأخذ شيئا من ذلك لا بطريق التعليم، ولا بطريق المباشرة منه لتلك الكتب، ولم يسمع عن أحد، لا من أتباعه، ولا من أعدائه، أنه كان بمكة من يعرف أحوال الأنبياء وقصصهم، وما جاءوا به من الشرائع، ولا كان بمكة من كتب الله -سبحانه- المنزلة على رسله شيء، ولا كانت قريش ممن يرغب إلى ذلك أو يطلبه، أو يحرص على معرفته، ومع هذا فقد كان أعداؤه من كفار قريش يعترفون بصدقه، ويقرون بأنهم لم يجربوا عليه كذبا، وفي حديث ابن عباس في الصحيحين (1) وغيرهما في قصة سؤال هرقل لأبي سفيان أنه قال له: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا.
وفي الصحيحين (2) وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود أن سعد بن معاذ لما قال لأمية بن خلف أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه سيقتل فقال ذلك لامرأته. فقالت والله ما يكذب محمد، وفي رواية أخرى أن أمية قال أيضا: والله ما يكذب محمد، وعزم على ألا يخرج خوفا من هذا.
وأخرج البخاري في صحيحه (3) من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقريش: "لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا.
وأخرج البخاري في تاريخه (4)، وأبو زرعة في دلائله، وابن إسحاق (5) أن أبا طالب لما
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7) ومسلم في صحيحه رقم (1773) وقد تقدم.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3632).
(3)
رقم (4770) وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (208).
(4)
(4/ 1\ 50 - 51 رقم 230) من حديث عقيل بن أبي طالب.
(5)
أورده الهيثمى في "مجمع الزوائد"(6/ 15): وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" إلا أنه قال من جلس بدل مكان (كبس) وأبو يعلى باختصار في أوله. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. ا هـ.
قال للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكف عن قريش، فقال: والله ما أقدر على أن أدع ما بعثت به، فقال أبو طالب لقريش:" والله ما كذب قط فارجعوا راشدين ".
وأخرج ابن مردويه في كتاب التفسير، وأبو يعلى الموصلي في مسنده، وعبد ابن حميد، أن عتبة بن ربيعة قال لقريش:" وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ".
[5 - إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات من دلائل النبوة]
ومن أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم التي يجد الجاحدون إلى جحدها سبيلا، ولا يمكن إسنادها إلى تعليم بشر، ولا نسبتها إلى سحر أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن أمور ماضية يتعنته بها أهل الكتاب والمشركون ن فينزل جبريل في تلك الحالة فيخبره بها في الموضع الذي سألوه فيه، من غير أن يفارقه أو يذهب إلى أحد من الناس يستعلم.
وذلك كسؤالهم له عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، ونحو ذلك من الأمور التي غالبها غير مذكور في التوراة ونحوها، بل قد يخبرهم ابتداء بشيء من أحوال الأنبياء، لم يكن في التوراة التي هي مرجع أهل الملل في تعرف أحوال الأنبياء من لدن آدم إلى موسى. وذلك كقصة هود، وصالح، وشعيب، وكثير من أحوال إبراهيم، وإسحاق، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف، ومثل قصة الخضر مع موسر، ومثل أحوال سليمان كقصة البساط، وقصة العفريت، وقصة الهدهد، ف'ن هذه لم تكن في التوراة، ولم يسمع عن أحد من أهل الكتاب أنه رد ذلك، أو كذبه، بل انبهروا، وأعجبوا منه.
وفي صحيح البخاري (1) من حديث أنس قال: جاء عبد الله بن سلام [27] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم[بعد] مقدمه المدينة، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ والولد ينزع إلى أمه أو إلى أبيه؟
قال: أخبرني جبريل آنفا، قال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة.
(1) في صحيحه رقم (3911).
أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب.
وأما أول طعام يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد الحوت.
وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه. فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
وفي صحيح مسلم (1) من حديث ثوبان قال: كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود، وقال: السلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ قال: قلت: ألا تقول: يا رسول الله، قال إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينفعك شيء إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني فنكث بعود معه، فقال له: سل.
فقال اليهودي: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الظلمة دون الحشر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: "فقراء المهاجرين". فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون؟ قال: زيادة كبد نون. قال: وما غذاؤهم على أثره؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها. قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلا. قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي، أو رجل أو رجلان. قال ينفعك إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد. قال: ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا. فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله.
فقال اليهودي: صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه سألني هذا الذي سألني عنه، وما أعلم شيئا منه، حتى أتاني به الله تعالى.
(1)(1/ 252 رقم 315).
وأخرج أبو داود الطيالسي (1) عن ابن عباس، قال: حضرت عصابة من اليهود يوما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، حدثنا عن خلال نسألك عنها، لا يعلمها إلا نبي، فقال: سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على نبيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا، لتتابعوني على الإسلام. قالوا: لك ذلك. قال: فسلوني عما شئتم. قالوا: أخبرنا عن أربع خلال:
أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة.
وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا، وكيف تكون الأنثى منه حتى تكون أنثى.
وأخبرنا كيف هذا النبي في النوم؟ ومن وليك من الملائكة؟ فقال: عليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا أحدثكم لتتابعوني؟ فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل -يعقوب- مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه، فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرم من أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه؟، وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل، وأحب الطعام إليه لحوم الإبل. فقالوا: اللهم نعم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد عليهم. قال: فأنشدكم الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ وأبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الولد والشبه له بإذن الله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد. قال: أنشدكم بالله [28]، الذي لا إله إلا هو، وأنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه، ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد. قالوا: أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة؟ فعندها نجامعك أو نفارقك.
(1) في مسنده (356 - 357 رقم 2731).
قال: وليي جبريل عليه السلام، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك، لو كان غيره لاتبعناك وصدقناك قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا من الملائكة، فأنزل الله:} قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ {(1). ففي هذه الأحاديث اعتراف هؤلاء السائلين من اليهود أن تلك المسائل التي سألوه عنها لا يعلمها إلا نبي، وقد أخبرهم بما سألوه وصدقوا في جميع ذلك، فاندفع بذلك شك كل جاحد، وبطل عنده ريب كل ملحد.
6 -
القرآن معجزة الرسول الخالدة:
واعلم أن دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم يطول تعدادها، ويتعسر ذكرها. وقد صنف أهل العلم في ذلك مصنفات مبسوطة مشتملة على كثير منها. ولو لم يكن منها، إلا هذا الكتاب العزيز الذي جاء به من عند الله - سبحانه- مشتملا على مصالح المعاش والمعاد، وتحدى به فرسان الكلام، وأبطال البلاغة، وأفراد الدهر في العلم هذه اللغة العربية، وقال لهم: ليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.
ثم قال لهم:} فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {(2) ثم قال لهم:} فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ {(3). فلم يقدروا على ذلك، وكاعوا عنه، وعجزوا على رؤوس الأشهاد، وكان أكابر بلغائهم، وأعاظم فصحائهم، إذا سمعوا القرآن، اعترفوا بأنه لا يشبه نظمهم، ولا نثرهم، وأقروا
(1)[97 - 98].
(2)
[هود: 13].
(3)
[البقرة: 23].
ببلاغته كما قال الوليد بن المغيرة لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ:} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {. (1) فقال: أعد، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر"(2). وروى ابن إسحاق (3) من حديث ابن عباس قال: قام النضر بن الحارث فقال: يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله. لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر!! لا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وسمعنا سمعهم. وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها بهزجه ورجزه وقريضه.
وقلتم مجنون. لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون. فما هو بخنقه، ولا تخليطه.
يا معشر قريش. انظروا في شأنكم؛ فإنه- والله- قد نزل بكم أمر عظيم (4).
وروي عن الوليد بن المغيرة (5) نحو هذا، وروى ابن إسحاق أيضًا أن أبا جهل (6) قال: إني لأعلم أن ما يقول محمد حق. ولكن بني قصي قالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، فينا الحجابة فقلنا: نعم. فينا السقاية: فقلنا نعم. وفي لفظ: "تنازعنا نحن وبنو عبد
(1)[النحل: 90]
(2)
أخرجه ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية"(1/ 334 - 336) معلقا، وانظر "الدر المنثور"(7/ 329 - 331).
(3)
كما في "السيرة النبوية"(1/ 369 - 370) معلقا.
(4)
كما في "السيرة النبوية"(1/ 362 - 364).
(5)
كما في "السيرة النبوية"(1/ 369 - 370) معلقا.
(6)
أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة "(2/ 207).
مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، ثم إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به، ولا نصدقه أبدا.
دع عنك ما حصل للإنس من استعظام أمر القرآن، والتعجب منه وتصديقه!! هؤلاء الجن قد وقع منهم ذلك كما حكاه الله -سبحانه- عنهم في كتابه [29].
وفي الصحيحين (1) من حديث ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقيل: حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبن خبر السماء وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من نبأ حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا:} إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا {(2). فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم:} قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ {(3). والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
واعلم أنه قد صنف جماعة من الحفاظ في دلائل النبوة مصنفات اشتملت على أنواع مما فيه الدلالة على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم بعضه يحصل عنده العلم الضروري، فضلا عن كلها. فمن المصنفين في ذلك، الإمام أبو بكر بن عبد الله بن أبي الدنيا، والإمام أبو إسحاق الحربي، والإمام أبو جعفر الفريابي، والإمام أبو زرعة الرازي، والإمام أبو
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4921) ومسلم في صحيحه رقم (149/ 449).
(2)
[الجن: 1، 2].
(3)
[الجن: 1].
القاسم الطبراني، والإمام أبو الشيخ الأصبهاني، والإمام أبو نعيم الأصبهاني، والإمام أبو بكر البيهقي والإمام أبو الفرج ابن الجوزي، والإمام أبو عبد الله المقدسي وغير هؤلاء.
[7 - عود إلى الإخبار بالغيبيات كدلائل على نبوته صلى الله عليه وسلم]
ولو لم يكن من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم إلا ما وقع من الإخبار بالأمور الغيبية التي وقعت كما أخبر به، ولم يتخلف شيء منها، وهي كثيرة جدا وقد اشتمل القرآن الكريم على شيء من ذلك كقوله عز وجل:} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {(1). فوقع صدق هذا الخبر، وأظهر الله- سبحانه- دين الإسلام على جميع الأديان.
وكذا قوله:} غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ {(2). فوقع ما أخبر به القرآن بعد المدة التي ذكرها، وذلك معلوم لا يختلف فيه الناس.
وكذا قوله -سبحانه- في شأن اليهود:} ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ {(3) وقد كان هذا كما أخبر به القرآن، فإنهم ما زالوا تحت الذلة والمسكنة في جميع أقطار الأرض، لم يجتمع لهم جيش، ولا انتصروا في موطن من المواطن، ولا ثبتت لهم دولة قط، بل كل طائفة منهم في جميع بقاع الدنيا مضطهدون
(1)[الفتح: 28].
(2)
[الروم: 1 - 4].
(3)
[آل عمران: 112].
متمسكنون، يسلمون الجزية إلى غيرهم، ويذلون لمن جاورهم. وكذلك قوله -سبحانه-} قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ {(1).
وقوله:} وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ {. (2) وقد كان هذا، فإنه لم يعارض القرآن معارض، ولا جاء بمثله ولا بمثل بعضه أحد، لا من مسلم، ولا كافر، ولا من إنس، ولا جن [30]، وقد نفى -سبحانه- أن يفعلوا ذلك كما قال:} فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ {(3). فأخبر سبحانه، أنهم لن يفعلوا، ولم يقع ما يخالف هذا النفي المؤكد ألبتة. وقال -سبحانه-:} قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {(4). وقال مخاطبا لليهود:} قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {(5) وقد كان هذا، فإنه لم يسمع أن يهوديا تمنى الموت إلى هذه الغاية، فإن اليهود الموجودين على ظهر البسيطة إذا قال لهم قائل: تمنوا الموت لم يتمنوه أبدا، ولا يساعد على ذلك واحد منهم قط.
وقال سبحانه:} لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا {(6).
(1)[الإسراء: 98].
(2)
[البقرة: 23].
(3)
[البقرة: 24].
(4)
[الجمعة: 6].
(5)
[البقرة: 94 - 95].
(6)
[الفتح: 27].
ووقع هذا كما أخبر به -سبحانه- فدخلوا المسجد آمنين محلقين ومقصرين، كما وعدهم. وهكذا قوله:} إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا {(1) وقد دخل الناس في دين الله أفواجا. وما قبض صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن دخل جميع العرب في دين الله، ولم يبق أحد منهم على الكفر. ومن ذلك ما وقع من إخباره- سبحانه- عن أمور مستقبلة، وكانت كما أخبر به، وذلك كثير جدا، كإخباره عن بعض الكفار بأنه لا يؤمن، وأنه من أهل النار كأبي لهب، فإنه قال فيه:} سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ {(2) فمات على الكفر. وقال في الوليد:} سَأُصْلِيهِ سَقَرَ {(3)، فمات على الكفر.
وقد ثبت في الصحيحين (4) وغيرهما (5) من حديث حذيفة. أنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه. وناهيك هذا، فإن الأخبار بجميع الحوادث المستقبلة إلى قيام الساعة أمر عظيم. وقد كان حذيفة راوي هذا الحديث مرجعا للصحابة في معرفة أحوال الفتن، ومعرفة أهل
(1)[النصر: 1 - 3]
(2)
[المسد: 3]
(3)
[المدثر: 26]
(4)
: أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6604) ومسلم في صحيحه رقم (2891).
(5)
كأبي داود في السنن رقم (4240).
النفاق، وتمييز أهل الحق من أهل الباطل، لما حفظ في هذا المقام الذي قامه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك سؤال عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم له عن الفتن فقال: إن بينك وبينها بابا، فقال هل يفتح، أو يكسر؟ فقال: بل يكسر، فعرف عمر أنه الباب، وأنه يقتل. كما أخبر حذيفة من سأله عن ذلك هل علم عمر ذلك؟ فقال: نعم كما يعلم أن دون غد الليلة، فإني حدثته بحديث ليس بالأغاليط، وهذا ثابت في الصحيح (1).
ومن ذلك ما ثبت في البخاري (2) أنه صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: "لئن طالت لك حياة لتفتحن كنوز كسرى، فقال عدي: كسرى بن هرمز؟! فقال صلى الله عليه وسلم: كسرى بن هرمز".
وقد كان هذا كما أخبر به صلى الله عليه وسلم ففتح المسلمون مملكة كسرى بن هرمز، وأخذوا كنوزه، واستولوا على بلاده، وضربوا على رعيته الخراج والجزية. قال عدي: وكنت فيمن أتته كنوز كسرى ابن هرمز وقال له أيضًا كما في البخاري: "ولئن طالت" لك حياة لترين الظعينة، ترحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف أحدا [31] إلا الله قال: قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين ذعار طيء الذين قد سعروا البلاد؟ ثم قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله".
وفي صحيح مسلم (3) من حديث نافع بن عتبة قال: حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم أربع كلمات، أعدهن في يدي:"تغزون جزيرة العرب، يفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله".
وقد وقعت الثلاث الكلمات الأول. وستقع الرابعة إن شاء الله.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (525) ومسلم في صحيحه رقم (144).
(2)
في صحيحه رقم (3595).
(3)
في صحيحه رقم (38/ 2900).
وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تضيء لها أعناق الإبل ببصرى"، قلت: وقد خرجت هذه النار في الحجاز في بضع وخمسين وستمائة. وأضاءت لها أعناق الإبل ببصرى.
وفي صحيح البخاري (2) من حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن بن علي- رضي الله عنه: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح به الله بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، قلت: وقد كان هذا، فإن الحسن أصلح بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، وهما جيش العراق الذين كانوا معه، وجيش الشام الذين كانوا مع معاوية. وفي الصحيحين (3) وغيرهما من حديث أبي سعيد، وأسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمار بن ياسر:"تقتله الفئة الباغية"، قلت: وقد قتلته الفئة الباغية أهل الشام.
وفي الصحيحين (4) وغيرهما عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: إن جئت فلم أجدك يا رسول الله، قال جبير بن مطعم: كأنها تعني الموت، قال: إن لم تجديني، فأتي أبا بكر. قلت: وقد كان ذلك، فإنه ولي أمر المسلمين أبا بكر رضي الله عنه بعد موته صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين (5) وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها". قلت: وقد كان ذلك ولله الحمد.
وفي صحيح (6) مسلم، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ستفتح مصر،
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7118) ومسلم في صحيحه رقم (2902).
(2)
في صحيحه رقم (2704) وأطرافه [3629، 3746، 7109].
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (447) ومسلم في صحيحه رقم (2916).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3659) ومسلم في صحيحه رقم (2386).
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (19/ 2889) من حديث ثوبان.
(6)
(4/ 197 رقم 226/ 2543).
وهي أرض يسمى فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا". قلت: وقد فتحت ولله الحمد في أيام الصحابة.
وفي صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين، فيحملون بعضهم على رقاب بعض". قلت: وقد كان هذا، فإنهم فتحوا فارس والروم، ثم وقع منهم ما ذكره صلى الله عليه وسلم في آخر أيام عثمان رضي الله عنه ثم عند قتله، ثم فيما بعد ذلك كما هو معلوم لكل عارف. وفي صحيح البخاري (2) من حديث سليمان بن صرد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه "الآن نغزوهم، ولا يغزونا". قلت: وقد كان ذلك، فإن كفار قريش لم يغزوا النبي صلى الله عليه وسلم بعدها، ثم غزاهم غزوة الفتح.
وثبت في الصحيحين (3) وغيرهما من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لذي الخويصرة: "إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوام. . يحقر أحدكم صلاته مع صلاته "، الحديث، على اختلاف ألفاظه.
وقد خرج بعد ذلك الخوارج في خلافه علي رضي الله عنه ثم ما زالت تخرج منهم على المسلمين طائفة بعد طائفة، ومنهم شرذمة باقية إلى الآن، يقال لهم الإباضية بأطراف الهند، لا يزالون يخرجون على المسلمين في برهم وبحرهم.
وفي الصحيحين (4) وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سارر فاطمة ابنته رضي الله عنها
(1)(4/ 2274 - 2275 رقم 7/ 2962).
(2)
رقم (4110).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4351) ومسلم في صحيحه رقم (1064) وقد تقدم.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3623، 3625) ومسلم في صحيحه رقم (2450).
[32]
في مرض موته أنه سيموت في ذلك المرض، ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقا به.
قلت: وقد مات صلى الله عليه وسلم في ذلك المرض، وماتت فاطمة رضي الله عنها بعده بستة أشهر.
وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث أنس: "أن أم حرام بنت ملحان طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها أن تكون ممن يركب البحر فدعا لها ". قلت: وقد ركبت البحر في زمن معاوية، فلما خرجت منه صرعت عن دابتها فماتت.
وفي الصحيحين (2) وغيرهما من حديث أبي هريرة: أنه قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم يوما: "أيكم بسط ثوبه، فيأخذ من حديثي فيجمعه إلى صدره، فإنه لن ينسى شيئا سمعه؟ فبسطت بردة علي حتى فرغ من حديثه ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا سمعته منه " قلت: وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ الصحابة لما يرويه، وأتقنهم لما سمعه.
وفي صحيح مسلم (3) عن أسماء بنت أي بكر رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في ثقيف كذاب ومبير" قلت: وقد كان ذلك، فالكذاب المختار بن أبي عبيد الثقفي، والمبير الحجاج بن يوسف.
وفي الصحيحين (4) وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه" قلت: وقد فتح الله خيبر على يدي من أعطاه تلك الراية وهو علي رضي الله عنه.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2789) ومسلم في صحيحه رقم (1912).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (119) ومسلم في صحيحه رقم (2492).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2545) ولفظه "أن في ثقيف كذابا ومبيرا".
* المبر: المهلك، الذي يسرف في إهلاك الناس.
لسان العرب (4/ 86).
(4)
أخرجه البخاري رقم (3701) ومسلم في صحيحه (2406).
وفي الصحيحين (1) من حديث أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: "هذا من أهل النار" فلما حضر القتال، قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار، قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينا هم على ذلك. إذ قيل فإنه لم يمت، ولكن به جرح شديد، فلما كان الليل لم يصبر على الجرح، فقتل نفسه، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ". ولهذا الحديث (2) ألفاظ هذا حاصلها.
وفي رواية "أن بعض الصحابة ما زال يرصده بعد أن سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار حتى قتل نفسه ".
وثبت في الصحيحين (3) وغيرهما من حديث علي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره وأمر الزبير بن العوام، وأبا مرثد الغنوي، أن ينطلقوا حتى يأتوا (روضة خاخ) فإن بها امرأة معها كتاب إلى مشركي قريش، فوجدوها ووجدوا ذلك الكتاب، من حاطب بن أبي بلتعة " قلت: والقصة مشهورة، وفيها اعتذار حاطب، ونزول قوله -سبحانه-:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ {(4) الآية.
وفي الصحيحين (5) وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج إلى المصلى وكبر عليه أربع تكبيرات. قلت: وكان الأمر كذلك، فإنه جاء الخبر بموت النجاشي في ذلك اليوم الذي أخبرهم فيه
(1) أخرجه البخاري رقم (3062) ومسلم في (111).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2402) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3007 و3983) ومسلم في صحيحه رقم (2494).
(4)
[الممتحنة: 1]
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1245) ومسلم في صحيحه رقم (951).
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين (1) من حديث حميد الساعدي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم فيها أحد منكم، فمن كان له بعير، فليشد عقله فهب ريح شديد، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء".
وفي صحيح البخاري (2) أنه أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الجيش في غزوة مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة، وقال:"إن قتل فجعفر، وإن قتل فعبد الله بن رواحة، فقتلوا". وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي قتلوا فيه [33].
وفي صحيح البخاري (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم "أخبر بقتل القراء في بئر معونة، لما أخبره جبريل أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم، وأرضاهم" قلت: وقد كان ذلك قرآنا يتلى، حتى نسخ لفظه.
فهذه شعبة يسيرة، من إخباره صلى الله عليه وسلم بالأمور الغيبية التي وقعت كما أخبر به، وقد اقتصرنا من ذلك على ما في الصحيحين، وفيهما غير ذلك مما يطول بسطه، ويتسع استيفاؤه. وأما ما كان في غير الصحيحين من كتب الحديث والسير، فلا يتسع لذلك إلا مؤلف بسيط.
[من الآيات والدلائل على نبوته صلى الله عليه وسلم:]
ومن دلائل نبوته وبراهين رسالته، ما وقع له من الآيات البينات، والبراهين المعجزات، فمن ذلك: انشقاق القمر، وقد نطق بذلك الكتاب العزيز، قال الله عز وجل:} اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ {(4).
(1) أخرجه البخاري رقم (1481) ومسلم في صحيحه رقم (1392).
(2)
في صحيحه رقم (4261)
(3)
في صحيحه رقم (4093)
(4)
[القمر: 1 - 2]
وفي الصحيحين (1) عن أنس " أن أهل مكة سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين". ومثله في الصحيحين (2) أيضًا عن ابن مسعود. وفي الصحيحين (3) أيضًا أن ابن مسعود قال "رأيت القمر منشقا شقين بمكة. قيل فخرج النبي- صلى الله عليه وسلم شقة على جبل أبي قبيس، وشقة على السويداء (4)، فقال كفار قريش [يا] أهل مكة، هذا سحركم ابن أبي كبشة (5) 0 انظروا السفار، فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، وإن لم يكونوا رأوا مثل ما رأيتم فهو سحر، قال فسئل السفار وقدموا من كل وجه، فقالوا رأينا".
وفي صحيح البخاري (6) عن ابن عباس أنه قال: " انشق القمر على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم (7) عن ابن عمر في قوله تعالى:} اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ {قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم انشق القمر فلقتين، فلقة
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2802) لم يخرجه البخاري هذا اللفظ
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3868) بنحوه ومسلم رقم (2802)
(3)
لم أجده هذا اللفظ قي الصحيحين.
بل أخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 265، 266 - 267) وأبو داود الطيالسي في مسنده (ص 38 رقم 295) وابن جرير في جامع البيان (13\ج27/ 85).
(4)
السويداء: موضع بالحجاز لسان العرب (3/ 231).
وقال ابن حجر في الفتح (7/ 184) السويداء: ناحية خارج مكة عندها جبل
(5)
يقصد النبي صلى الله عليه وسلم لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض
…
انظر الفتح (1/ 40)
(6)
رقم (4866)
(7)
رقم (2801)
من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:" اللهم اشهد ". قلت: وقد روي في غير (1) الصحيحين من غير طريق هؤلاء المذكورين.
ومن دلائل نبوته- صلى الله عليه وسلم صعوده (2) ليلة المعراج إلى ما فوق السماوات، وقد نطق بهذا الكتاب العزيز، وتواترت به الأحاديث تواترا لا يشك من له أدنى إلمام بعلم السنة، ولا ينكر ذلك إلا متزندق، وليس بيده إلا مجرد الاستبعاد، وليس ذلك مما تدفع به الأدلة، ويبطل به الضروريات وإلا لكان مجرد إنكار وقوع الشيء المبرهن على وقوعه كافيا في دفعه، وذلك خلاف العقل والنقل. وقد رفع الله- سبحانه- إلى السماء إدريس- عليه السلام. وثبت في السفر الثاني من أسفار الملوك في التوراة، أن إيليا رفع إلى السماء، وبعض تلامذته ينظر إليه. وشاع ذلك، ولم يخالف فيه أحد من اليهود، وهذا إيليا هو المسمى في القرآن إلياس. وهكذا ثبت في الأناجيل كلها أن الله - سبحانه- رفع عيسى- عليه السلام بعد الصلب في زعمهم كما هو محرر هنالك، ولا يخالف في ذلك أحد من النصارى. وقد نطق القرآن (3) الكريم بأنه رفعه إليه، ولم يصلب. وإلى ذلك ذهب بعض طوائف النصارى.
والحاصل أن رفعه إلى السماء متفق عليه بين جميع المسلمين، وجميع النصارى، ولم يقع الخلاف بينهم إلا في كونه رفع قبل الصلب، أو بعده.
ومن دلائل نبوته- صلى الله عليه وسلم ما في الصحيحين (4) وغيرهما: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة- والنبي- صلى الله عليه وسلم قائم يخطب- فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال،
(1) أخرجه الترمذي في السنن رقم (3289) من حديث جبير بن مطعم.
(2)
انظر صحيح البخاري رقم (4716) وانظر: تفسير ابن كثير (7/ 429).
(3)
قال تعالى: (إِنِّي مُتَوَفيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)[آل عمران: 55].
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (933) ومسلم في صحيحه رقم (8/ 897) من حديث أنسى بن مالك رضي الله عنه.
وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، [34] فرفع رسول الله-صلى الله عليه وسلم يده ثم قال:"اللهم أغثنا، اللهم أغثنا". قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب، وإن السماء لمثل الزجاجة، فوالذي نفسي بيده ما وضع يديه، حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة -ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب- فقال يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم يده ثم قال:"اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الآكام، والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر". فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة، وسال (وادي قناة) شهرا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا أخبر بجود.
ومن دلائل نبوته- صلى الله عليه وسلم ما تبت في البخاري (1) وغيره في قصة أبي رافع اليهودي، وأن عبد الله بن عتيك لما فرغ من قتله، انكسرت ساقه، فوصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ابسط رجلك فمسحها. قال: وكأنما لم أشكها قط، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير.
ومن دلائل نبوته- صلى الله عليه وسلم ما في البخاري (2) وغيره (3): " أنها أصابت سلمة بن الأكوع يوم خيبر ضربة في ساقه، فنفث فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم ثلاث نفثات قال: فما اشتكيت منها حتى الساعة".
ومن دلائل نبوته- صلى الله عليه وسلم ما ثبت في الصحيحين (4) وغيرهما (5) من حديث جابر قال:
(1) في صحيحه رقم (4039)
(2)
في صحيحه رقم (4206)
(3)
كأبي داود رقم (3894). كلاهما حديث يزبد ابن أبي عبيد
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3585)، ولم يخرجه مسلم
(5)
كالنسائي في السنن (3/ 102)
"كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع من جذوع النخل، فلما صنع المنبر وقام عليه، سمعوا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها، فسكنت". ولهذا الحديث طرق، وألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما.
ومن دلائل نبوته- صلى الله عليه وسلم تكليم الشجر له.
ومن ذلك ما في الصحيحين (1) وغيرهما عن معن بن عبد الرحمن قال: " سمعت أبي يقول: سألت مسروقا: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ قال: حدثني أبوك، يعني عبد الله بن مسعود أنه قال: آذنته (2) بهم شجرة".
ومن دلائل نبوته- صلى الله عليه وسلم ما في الصحيحين (3) وغيرهما عن أنس "أن النبي- صلى الله عليه وسلم دعا بماء، فأتى بقدح رحراح (4)، فجعل القوم يتوضئون".
وفي لفظ (5): "فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح فيه ماء يسير"، وفي لفظ (6) لهما:"فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه- صلى الله عليه وسلم"، وفي لفظ لهما:"فتوضأ الناس وشربوا"، وفي لفظ البخاري (7):" فشربنا، وتوضأنا، قلت كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة ". وفي لفظ للبخاري (8) أيضا: " كنا ألفا وأربعمائة أو أكثر من ذلك" وكذا لفظ مسلم (9)، وللحديث طرق وألفاظ في
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3859) ومسلم في صحيحه رقم (450)
(2)
آذنته: آذن بالمد: أعلم. مختار الصحاح ص 12
(3)
أخرجه البخاري رقم (200) ومسلم رقم (2279).
* رحراح: الواسع القصير الجدار
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3574).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3574)
(6)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3573) ومسلم في صحيحه رقم (2279)
(7)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4152)
(8)
في صحيحه رقم (5639)
(9)
في صحيحه رقم (1856)
الصحيحين وغيرهما حاصلها أنهم شربوا وتوضئوا، وهم هذا العدد.
ومن ذلك ما في الصحيحين (1) وغيرهما من حديث المرأة التي وجدوها ومعها مزادتان من ماء، فانطلقوا بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فشربوا منها وهم أربعون، قد أصابهم الجهد من العطش، وملأ كل واحد منهم قربته، ولم يظهر في المزادتين نقص، فلما رجعت المرأة إلى قومها، قالت: لقد لقيت أسحر الناس. أو أنه بي كما زعم، كان من أمره (ذيت (2)، وذيت) فهدى الله- عز وجل ذلك القوم بتلك المرأة فأسلمت وأسلموا.
ومن دلائل نبوته-صلى الله عليه وسلم ما في الصحيحين (3) وغيرهما من حديث جابر: "أن شاته التي ذبحها لرسول الله- صلى الله عليه وسلم مع صاع من شعير أكل منها من كان يحفر الخندق مع رسول اله- صلى الله عليه وسلم وهم ألف، وذلك لأن رسول الله بصق في البرمة، وبصق في العجين، وبارك في ذلك. قال جابر: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه، وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو".
ومن هذا في الصحيحين (4) وغيرهما من حديث أنس [35] في قصة أبي طلحة وامرأته أم سليم أنها أخرجت أقراصا من شعير، وعصرت عليه عكة لها، فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم كذلك حتى أكل القوم كلهم، وهم سبعون رجلا، أو ثمانون رجلا، ثم أكل رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة وأم سليم وأنس قال: وفضل فضلة فأهديناها لجيراننا".
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3571) ومسلم في صحيحه رقم (688) واللفظ لمسلم
(2)
ذيت وذيت. بمعنى: كيت وكيت وكذا وكذا
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4102) ومسلم رقم (39 30) لتغط: تغطي وتفور. انظر الفتح (7/ 299)
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5381) ومسلم في صحيحه رقم (2040)
ومن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة (1)، وأبي سعيد، وسلمة بن الأكوع قالوا:"كنا في مسير لنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفدت أزواد القوم، حتى هموا بنحر بعض حمائلهم، فقال عمر: يا رسول الله، لو جمعت ما بقي من أزواد القوم، فدعوت الله عليها! قال: ففعل، فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره، وذو النوى بنواه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ثم قال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في المعسكر وعاء إلا ملئوه، فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة".
وفي صحيح مسلم (2) من حديث سلمة في غزوة خيبر قال: "أمرنا أن نجمع ما في أزوادنا (يعني من التمر) فبسط نطعا فنثرنا عليه أزوادنا، قال: فتطاولت، فنظرت فحرزته كربضة شاة، ونحن أربع عشرة مائة، فأكلنا، ثم تطاولت فحرزته كربضة الشاة".
وفي البخاري (3)، قال:" فتطاولت لأحزره كم هو، فحرزته كربضة المعز، ونحن أربع عشرة مائة، فأكلنا حتى شبعنا جميعا، ثم حشونا جريبنا".
ومن ذلك ما في صحيح مسلم (4) من حديت جابر، قال:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه، وامرأته وضيفهما، حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم".
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2484) ومسلم في صحيحه رقم (27) من حديث أبي هريرة.
(2)
رقم (1729)
(3)
في صحيحه رقم (2484) بنحوه مختصرا
(4)
في صحيحه رقم (2281)
وفي صحيح مسلم (1) أيضًا من حديث جابر "أن أم مالك كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في (عكة) لها سمنا، فيأتي بنوها، فيسألون الأدم، وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم فتجد فيها سمنا، فما زال يقيم لها أدم بنيها حتى عصرته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عصرتيها؟ قالت: نعم. قال: لو تركتيها ما زال قائما ".
ومن ذلك ما في الصحيحين (2) وغيرهما من حديث أنس قال: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب، فدخل بأهله، قال: فصنعت أمي أم سليم حيسا فجعلته في تور من حجارة، فقالت: يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فادع فلانا، وفلانا، وفلانا، ومن لقيت، وسمى رجالا، قال: فدعوت من سمى، ومن لقيت، قال الجعد، وهو الراوي عن أنس عددكم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس، هات (التور) قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، قال فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى أكلوا كلهم، يا أنس: ارفع فرفعت. فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت" الحديث.
ومن ذلك ما في البخاري (3) من حديث أبي هريرة "أنه أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قدح لبن، فدعا أصحاب الصفة، فشرب كل واحد منهم منه حتى روي، ثم شرب أبو هريرة حتى روي، ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم".
(1) في صحيحه رقم (2280)
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5163) ومسلم في صحيحه رقم (1428).
(3)
في صحيحه رقم (6452).
وأخرجه الترمذي في السنن رقم (2477) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ومن ذلك ما في الصحيحين (1) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، قال:"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فأشترى النبي صلى الله عليه وسلم شاة وذبحها لهم، وأمر بسوار البطن أن يشوي. قال: وأيم الله ما في الثلاثين والمائة إلا من قد حز له النبي صلى الله عليه وسلم حزة من سوار بطنها، إن كان شاهدا أعطاه، وإن كان غائبا خبأ له، فجعل منها قصعة، وأكلوا [36] أجمعون، فشبعنا "وذكر أنهم حملوا الفضلة على البعير.
ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ما في صحيح البخاري (2) من حديث جابر، أن والده استشهد وترك دينا، وترك ست بنات، فلما حضر جداد النخل، قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قد علمت أن والدي قد استشهد يوم أحد، وترك دينا كثيرا، وإني أحب أن يراك الغرماء، قال: اذهب فبيدر كل ثمر عدى ناحية، ففعلت، ثم دعوته صلى الله عليه وسلم فلما نظروا إليه، كأنهم أغروا بي تلك الساعة. فلما رأى ما يصنعون، أطاف حول أعظمها بيدرا ثلاث مرات، ثم جلس عليه، ثم قال: ادع لي أصحابك، فما زال يكيل لهم حتى أدى إليهم عن والدي أمانته، وأنا أرضى أن يؤدي إليهم عن والدي أمانته، ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم الله البيادر كلها حتى إني لأنظر إلى البيدر الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم كأنها لم تنقص تمرة واحدة.
وفي رواية (3) أن جابر قد كان عرض على أهل الدين أن يأخذوا التمر كله فأبوا.
ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ما في الصحيحين (4) وغيرهما عن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لا
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2618) ومسلم في صحيحه رقم (2056).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2396).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2395).
(4)
لم يخرجه البخاري وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2277)، وأخرجه الترمذي رقم (3624). وقال: هذا حديث حسن غريب. قلت: وهو حديث صحيح.
أعرفه الآن".
وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث أنس قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر وعمر عثمان، فرجف بهم الجبل، فقال:"اسكن وضربه برجله، فليس عليك إلا نبى، وصديق، وشهيدان ".
وفي صحيح مسلم (2) من حديث سلمة بن الأكوع: أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين قبض قبضة من الأرض، واستقبل به وجوههم فقال: شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله.
وفي صحيح مسلم (3) أيضًا من حديث العباس بن عبد المطلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حصيات فرمى بها وجوه الكفار، ثم قال:"انهزموا ورب الكعبة".
ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ما نطق به القرآن الكريم من تأييد الله -سبحانه- له بالملائكة، كقوله:} أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ {(4)، وقوله:} أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ {(5)، وقوله:} فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا {(6)، وقوله} وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا (7). ونحو ذلك من الآيات. وقد شوهدت الملائكة
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3675) ورقم (3686 و3697).
(2)
رقم (1777).
(3)
رقم (1775).
(4)
[الأنفال: 9]
(5)
[آل عمران: 124 - 125]
(6)
[الأحزاب: 9]
(7)
[التوبة: 26]
في بعض حروبه _ صلى الله عليه وسلم _.
ففي الصحيحين (1) عن ابن عباس قال: "بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة سوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه، فإذا قد حطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فأحضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة"، وذلك يوم بدر.
وفي الصحيحين (2) وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم، ولا بعده، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام.
وفي البخاري (3) عن أنس قال: "كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل- عليه السلام حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة [37].
ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ما في الصحيحين (4) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: "قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قيل نعم؟ قال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، فما جاءهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له ما لك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا، وأجنحة".
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3992 - 3995) مختصرا.
ومسلم في صحيحه رقم (1763).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4054) مختصرا.
ومسلم في صحيحه رقم (2306).
(3)
في صحيحه رقم (4118).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (4958) مختصرا ومسلم في صحيحه رقم (2797).
وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث البراء بن عازب وقصة هجرته صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر قال: "واتبعنا سراقة بن مالك بن جعشم، ونحن في جدد من الأرض، فقلت: يا رسول الله، آتينا، فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتطمت فرسه إلى بطنها فقال: "علمت أنكما دعوتما علي، فادعوا لي، ولكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا الله فنجا" الحديث.
وفي الصحيحين (2) وغيرهما من حديث سراقة نفسه قال: "ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان" الحديث. ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ما في الصحيحين (3)، وغيرهما عن جابر قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة قبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القائلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن رجلا أتاني، وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، والسيف صلتا في يده، فقال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فشام السيف (4) فها هو ذا جالس، ثم لم يعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ملك قومه، فانصرف حين عفا عنه، فقال: لا أكون في قوم هم حرب لك".
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3615) بنحوه. ومسلم في صحيحه رقم (3009).
* جدد من الأرض: هو المستوي من الأرض وعند مسلم (جلد) وهما روايتان.
* صحيح مسلم (18/ 150 نووي).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3906) معلقا.
قلت: وأخرجه البيهقي في "الدلائل"(2/ 485 - 489) موصولا.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2913) بنحوه، ومسلم في صحيحه رقم (843) واللفظ له.
(4)
شام السيف: أي أغمده. والشيم من الأضداد، يكون سلا وإغمادا.
وفي الصحيحين (1) وغيرهما عن أنس قال: كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي _ صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا، فكان يقول: ما يدري محمد، إلا ما كتبت له، فقال رسول الله: اللهم اجعله آية، فأماته الله، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذه فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له، وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فقالوا: مثل الأول، فحفروا له، فأعمقوا، فلفظته الثالثة، فعلموا أنه ليس من فعل الناس فتركوه منبوذا".
وفي الصحيحين (2) وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعقبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن ربيعة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط " قال ابن مسعود: فوالذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذي سمى صرعى يوم بدر سحبوا إلى القليب، قليب بدر، وكان هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم عليهم لما وضعوا عليه صلى الله عليه وسلم سلا الجزور.
ومن إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم ما ثبت في الصحيحين (3) وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأنس بن مالك فقال: " اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته " فكان من أكثر الأنصار مالا وولدا، حتى روي عنه أنه دفن لصلبه إلى عند مقدم الحجاج بن يوسف بضعا وعشرين ومائة.
وفي الصحيحين (4) وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن عوف: " بارك الله لك، أولم ولو بشاة " فبلغ مال عبد الرحمن مبلغا عظيما، قال الزهري: إنه تصدق بأربع مائة ألف دينار، وحمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، خمسمائة بعير في سبيل الله، وكان عامة ماله في التجارة.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3617) ومسلم في صحيحه رقم (2781).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (240) بنحوه. ومسلم في صحيحه رقم (1794).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6344) ومسلم في صحيحه رقم (2480).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3780).
وفي الصحيحين (1) وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"، فكان له من العلم والدراية بالتفسير [38] ما هو معلوم عند كل عارف، حتى كانوا يسمونه البحر.
وفي صحيح البخاري (2) أن عبد الله بن هشام كان يخرج إلى السوق فيتلقاه ابن الزبير، وابن عمر فيقولان: أشركنا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا لك بالبركة فيشركهم، فربما أصاب الراحلة كما هي، فيبعث بها إلى المنزل.
وفي صحيح مسلم (3) من حديث سلمة: "أن رجلا، أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال له: كل بيمينك، فقال: لا أستطيع، قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر قال: فما رفعها إلى فيه".
واعلم -أرشدني الله وإياك- أن دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يحيط بها القلم، وإن طال شوطه، وقد صنف أهل العلم في ذلك مؤلفات مبسوطة مطولة كما عرفناك سابقا، وأرشدناك إلى مصنفات بعض المصنفين في هذا الشأن، ولم نذكرها هنا إلا نزرا يسيرا، وقدرا حقيرا مما في الصحيحين أو أحدهما، وقد بقي فيها غير ما ذكرنا كمالا يخفى على العارف بها، ولو ذكرنا جميع ما فيها وما في بقية الأمهات الست، وما في سائر كتب الحديث والسير لجاء من ذلك كتابا مطولا، ومؤلفا حافلا.
ولكن لما كان الغرض هاهنا هو التنبيه على اتفاق جميع الشرائع على إثبات الثلاثة المقاصد التي جمعنا هذا المختصر لها كان فيما ذكرنا ما يفيد ذلك، ولو كتبنا هاهنا الآيات القرآنية الدالة على كل مقصد من هذه المقاصد لأتينا على غالب الآيات القرآنية، وعلى كثير من الأحاديث الصحيحة.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (75). ومسلم في صحيحه رقم (2477).
(2)
رقم (2501 و2502).
(3)
في صحيحه رقم (2021).
ثم اعلم ثانيا أن دلائل نبوة سائر الأنبياء قد اشتمل على كثير منها القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وكذلك التوراة والزبور، وسائر كتب أنبياء بني إسرائيل، والإنجيل، وإنما اقتصرنا على ذكر بعض دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم لأن ثبوته بهذه الدلائل وأمثالها تستلزم ثبوت نبوة جميع الأنبياء- عليهم السلام لأنه صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأنهم أنبياء الله -سبحانه- كما اشتمل على ذلك القرآن الكريم، والسنة المطهرة.
فثبوت نبوته يستلزم ثبوت نبوة سائر الأنبياء.
ووجه ذلك أن ثبوت نبوته يستلزم ثبوت جميع ما أخبر به وصحته.
ومما أخبر به ثبوت نبوة جميع الأنبياء، فكان في ذكر دلائل نبوته ما يغني عن ذكر دلائل نبوة سائر الأنبياء، ولهذا اقتصرنا على ذلك.
وبمجموع ما ذكرناه تقرر اتفاق الشرائع جميعها على إثبات تلك المقاصد الثلاثة وهو المطلوب.
والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه.
كان الفراغ من تحرير هذا المختصر يوم الأربعاء ليلة السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر من شهور سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين والألف.
بقلم مؤلفه المفتقر إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما-.