المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جواب سؤال في قوله تعالى {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٣

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌جواب سؤال في قوله تعالى {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه}

‌جواب سؤال في قوله تعالى {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه}

واقعة موقع الدليل

تأليف العلامة

محمد بن علي الشوكاني

حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه

محفوظة بنت علي شرف الدين

أم الحسن

ص: 1111

بسم الله الرحمن الرحيم

وبعد: فإنه وصل إلى من بعض العلماء في سنة 1207 هـ سؤال حاصله: أن الفاء في قوله تعالى: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} (1) واقعة في موقع الدليل، لوقوعها متعقبة، ولم يظهر فيها معنى الدليل؟ فأجبت. مما لفظه:

حمدا لك يا فاتح أقفال كل إشكال (2)، وشكرا لك يا مانح حل عقد حبال الأعضال (3)، وصلاة وسلاما على خير الخليقه، وعلى آله المطهرين حماة الحقيقة على الحقيقة، وبعد:

فإن هذا سؤال لا ينتجه إلا فكر يخترق طباق أستار خرائد (4) أبكار الأفكار، وفهم يجول ويصول في مدارج الإدراك إن هبت للمشكلات ريح ذات إعصار؟ فلله در منشيه، ولله در موشيه، ولا شك أن قول الله- عز وجل:{فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك} (5) إن جعل كما لاح للسائل- كثر الله من فوائده،

(1)[البقرة: 259]

(2)

أشكل الأمر: التبس، وأمور أشكال: ملتبسة. والأشكال الأمور والحوائج المختلفة فيما يتكلف منها ويهتم لها.

لسان العرب (7/ 176).

(3)

من عضل وأعضل بي: هو من العضال وهو الأمر الشديد الذي لا يقوم به صاحبه، أي ضاقت على الحيل في أمرهم وصعبت على مداراتهم ويقال أعضل الأمر فهو معضل.

لسان العرب (9/ 260).

(4)

من خرد، الخريدة والخريد والخرود من النساء البكر التي لم تمس قط وقيل هي الحبية الطويلة السكوت الخافضة الصوت الخفرة المتسترة قد جاوزت الإعصار ولم تعنس والجمع خرائد وخرد.

(5)

[البقرة: 259]

ص: 1113

ومد من موائد فرائده- دليلا على طول مد اللبث (1) كان مرتج الباب شديد الاحتجاب عن أرباب الألباب، والذي يلوح للنظر القاصر، ويتقدم في الخاطر الفاتر أنه لم يسق مساق (2) الدليل على طول تلك المدة، فإنه يهجر الاستدلال. ممثله على ذلك المدلول من له أن إلمام بعلم المعقول والمنقول، فكيف بمن له العلم الذي تقاصرت العقول بأسرها عن الإحاطة بكنهه ومقداره، وكان علم جميع الخلائق بالنسبة إليه كما يأخذه الطائر (3) من البحر الخضم بمنقاره. وأقول مسندا لهذا الكلام الذي هو في قوة المنع أن معرفة طول المدة أمر مكشوف يمكن الإطلاع عليه بأعمال الحواس في المحسوسات، والإذعان له. مما يطرأ على أحوال هذه الأجسام من التغيرات.

(1) قال الرازي في تفسيره (7/ 35):

(السؤال الأول): أنه تعالى لما قال: {بل لبثت مائة عام} ، كان من حقه أن يذكر عقبيه ما يدل على دلك وقوله:{فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهرا على ما قاله من أنه لبث يومأ أو بعض يوم.

(والجواب): أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة احمد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال: {بل لبثت مائة عام} ، قال:{فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} فإن هذا مما يؤكد قولك: {لبثت يوما أو بعض يوم} فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة، ثم قال بعده {وانظر إلى حمارك} ، فرأى الحمار صار رميما وعظاما نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما، والحمار ربما بقى دهرا طويلا وزمانا عظما، فرأى مالا يبقى باقيا، وهو الطعام والشراب، وما يبقى غير باق وهو العظام، فعظم تعجبه من قدرة الله سبحانه وتعالى وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه.

(2)

قال الرازي في تفسيره (7/ 35):

(السؤال الأول): أنه تعالى لما قال: {بل لبثت مائة عام} ، كان من حقه أن يذكر عقبيه ما يدل على دلك وقوله:{فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهرا على ما قاله من أنه لبث يومأ أو بعض يوم.

(والجواب): أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة احمد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال: {بل لبثت مائة عام} ، قال:{فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} فإن هذا مما يؤكد قولك: {لبثت يوما أو بعض يوم} فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة، ثم قال بعده {وانظر إلى حمارك} ، فرأى الحمار صار رميما وعظاما نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما، والحمار ربما بقى دهرا طويلا وزمانا عظما، فرأى مالا يبقى باقيا، وهو الطعام والشراب، وما يبقى غير باق وهو العظام، فعظم تعجبه من قدرة الله سبحانه وتعالى وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه.

(3)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (122) ومسلم رقم (2380). وهو حديث طويل عن ابن عباس قال حدثنا أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ..... فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر ".

ص: 1114

ألا ترى ذلك لمار كيف نظر إلى أولاده بعد أن بعثه الله تعالى فوجدهم شيوخا بعد أن كانوا قبل تلك الإماتة صبيانا وفتيانا، وكان إذا حدثهم بحديث قالوا: هذا حديث مائة سنة كما ذكره أئمة التفسير (1)، فالظاهر أن قوله تعالى:{فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك} (2) دليل على كمال القدرة الباهرة التي لا يستبعد من مثلها صدور ما استبعده ذلك المار، فيكون ذلك من إرداف دليل بدليل، وتعقيب آلة بآية، ولكنه لما كان مرتبطا بالدليل الأول أعني قوله:{فأماته الله مائة عام ثم بعثه} من جهة أن كونه آية عظمى، وأمرا عجيبا، إنما كان باعتبار ملاحظته جاء معنونا بالفاء المفيدة لتقدير محذوف يتوقف عليه كمال حسنها وفصاحتها كما صرح بذاك أئمة النحو والبيان، فكأنه- جل جلاله قال للمار: إذا عرفت أيها المستبعد لإحياء القرية كمال القدرة على ذلك. مما وقع عليك من الإماتة هذه المدة (3) المتطاولة،

(1) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن "(3/ 294 - 295). وابن كثير في تفسيره (1/ 688).

أخرج ابن كثير في تفسيره (1/ 687) عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو عزير أي الذي مر بالقرية. وقال: رواه ابن جرير عن ناجية وابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس والحسن، وقتادة والسدي، وسليمان بن بريدة وهذا القول المشهور أ أن المار هو عزير أ والله أعلم.

(2)

[البقرة: 259]

(3)

قال الألوسى في تفسيره " روح المعاني "(3/ 22): {قال بل لبثت مائة عام} عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر- يوما أو بعض يوم- بل هذا المقدار {فانظر إلى طعامك وشرابك} قيل كان طعامه عنبا أو تينا وشرابه عصيرا أو لبنا {لم يتسنه} أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة واشتقاقه من- السنة- وفي لامها اختلاف فقيل هاء بدليل ما فت فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء، وقيل: واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء، وقيل: واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفي الوصل لإجرائه مجراه، ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن معنى السنين كما هو الأصل ويكون عدم التسنه كناية عن بقائه على حاله غضا طريا غير متكرج. وقيل أصله لم يتسمن ومنه الحمأ المسنون- أي الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدهما حرف علة كما قالوا: في تظننت. تظنيت.

وانظر: التفسير الكبير للرازي (7/ 34).

ص: 1115

وتحقق لديك ذلك بالنظر في الآثار القاضية به فههنا آية أخرى هي أجل موقعا من تدك، وأقطع لعرف الشك، وأحسم لجرح الحيرة، وأدفع لمنشأ الاستبعاد، وهي عدم تغير طعامك وشرابك مع مرور أزمان العشر من معشار عشيرها يكون في مثله التغير والفساد، وبقاء حمارك حيا سويا بلا علف (1)، ولا ماء دهرا لا يستمسك في مثل أقل قليلة الأرواح بلا قوام.

وقد لوح جار الله (2) رحمه الله في كشافه (3) إلى أن هذه آية مستقلة لا دليل على طول المدة فقال، وانظر إلى حمارك سالما في مكانه كما ربطته، وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه الله مائة عام من غير علف، ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير انتهى.

وهذا على تقدير أن الحمار كان عند بعث ذلك المار حيا كما ذهب إليه بعض أئمة (4) التفسير، وعلى تقدير أن عظامه عند ذلك قد تفرقت ونخرت، كما ذهب إليه البعض (5)

(1) ذكره الألوسى في تفسيره (7/ 23).

(2)

أي الزمخشري.

(3)

(1/ 157)

(4)

أخرج ابن جرير في جامع البيان (3/ ج 3/ 41) عن الضحاك في قوله {فأماته الله مائة عام ثم بعثه} فنظر إلى حماره قائما وإلى طعامه وشرابه لم يتسنه .... ..... "

وأخرجه أيضًا عن الربيع، وابن زيد. ووهب بن منبه.

(5)

انظر روح المعاني للألوسي

(3/ 23). وأخرجه الطبري في جامع البيان (3/ ج 3/ 40 - 41) عن السدي قال: ثم إن الله أحيا عزيرا، فقال كم لبثت؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم، قال: بل لبتت مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك قد هلك، وبليت عظامه وانظر إلى عظامه كيف ننشزها، ثم نكسوها لحما، فبعث الله ريحا، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع، فاجتمعت فركب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حمارا

".

وكذلك أخرجه ابن جرير في جامع البيان (3 ج 3/ 40) عن ابن جريج ومجاهد.

قال ابن جرير الطبري في " جامع البيان "(3/ ج 3/ 42): وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قول من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائل {أنى يحيى هذه الله بعد موتها} من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مر بها بعد مماتها عيانا من نفسه وطعامه وحماره فجعل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مر ها خاوية على عروشها، وجعل ما أراه من العبرة في طعامه وشرابه عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجناها، وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل.

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن قوله {وانظر إلى العظام} إنما هو. بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعا نظير الذي لحق عظام من خوطب هذا الخطاب، لفم يمكن صرف قوله {وانظر إلى العظام} إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام نفسه عون عظام الحمار.

وإذا كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمر بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه لأن الله تعالى ذكره وجعل جميع دلك عليه حجة وله برة وعظة.

ص: 1116

الآخر لكون قول الله تعالى: {وانظر إلى حمارك} سوقا للتعجيب من تماسك جسم المار وحفظه عن التفرق في تلك المدة مع مصير ما ينتظم معه في جنس الحيوانية، فهي فيها رمة بالية نخرة، وحفظ طعامه وشرابه عن التسنه بعد مضي مدة صار فيها الحمار إلى تلك الصفة، ويمكن أن يقال على هذا التقدير أن أمر المار بالنظر إلى رمة الحمار لما سيحدثه الله تعالى من إنشارها وإعادة ما كان على تلك الصفة حيا سويا، ليكون ذلك من الاستدلال إلى موضع الاستبعاد. مما يماثله، ويكون قوله:{وانظر إلى العظام كيف ننشزها} (1) مقررا لقوله: {وانظر إلى حمارك} ، ولكن الوجه هو التقرير

(1) أخرج الن جرير في " جامع البيان "(3/ ح 3/ 43): عن أبي عباس في قوله {كيف ننشزها} كيف نخرجها. وأخرج عن السدي {كيف ننشزها} قال: تحركها.

ثم قال ابن جرير: وقرأ ذلك آخرون: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} بضم النون، قالوا من قول القائل: أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشارا. وذلك قراءة عامة قراء أهل المدينة،. بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحيها ثم نكسوها لحما.

وأخرج ابن جرير في " جامع البيان "(3 ج 3/ 44) عن مجاهد (محيص ننشزها) قال: نظر إليها حين يحييها الله. .

قال ابن جرير في جامع البيان (3 ج 3/ 44): والقول في ذلك عندي أن معنى الإنشار، ومعنى الإنشاز، متقاربان، لأن معنى الإنشاز: التركيب والإثبات، ورد العظام من العظام، وإعادتها لا شك أنه ردها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها، مهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا الم! ت، وقد جاءت بالقراءة هما الأمة مجيئا يقطع العذر ويوجب الحجة فبأيهما قرأ القارئ فمصيب لانقياد معنييهما، ولا حجة توجب لأحدهما من القضاء بالصواب على الأخرى. .

وإن ظن ظان أن الإنشار إدا كان إحياء فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر إنما أمر به ليرى عيانا ما أنكره بقوله {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع إنما عني به ردها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يحيا، لا إعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات، والذي يدل على ذلك قوله {ثم نكسوها لحما} ولا شك أن الروح إنما نفخت قي العظام التي أنشرت بعد أن كسبت اللحم. وإذا كان دلك كذلك، وكان معنى الإنشاز تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى الانشار، كان معلوما استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه.

وأما القراءة الثالثة فغير جائزة القراءة بها عندي وهى قراءة من قرأ {كيف ننشزها} بفتح النون وبالراء لشذوذها عن قراءة المسلمين وخروجها عن الصحيح من كلام العرب.

ص: 1117

الأول أعني أن الحمار كان حيا عند البعث، ويكون المراد بالعظام في قوله:{وانظر إلى العظام} (1) عظام الموتى الذين استبعد ذلك المار إحياءهم، لاشتماله على تعدد الآيات الباهرة للعقول، ولكثرة البراهين التي لا يسع شاهدها غير التسليم والقبول، ولما يقضي به الفصل بقوله تعالى: ......................

(1) تقدم آنفا

ص: 1118

{ولنجعلك آية للناس} (1) من تبعيد التأكيد، ولما تقرر من أن ترجيح (2) التأسيس

(1) قال الرازي في تفسيره (7/ 35 - 36): أما قوله تعالى: {ولنجعلك آية للناس} فقد بيما أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا، وذلك لا يليق. كلن مات على الكفر الشك في قدرة الله تعالى.

فإن قيل: ما فائدة الواوي قوله {ولنجعلك} قلنا: قال الفراء- في معاني القرآن (1/ 173)

- دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر، لأنه لو قال:{وانظر إلى حمارك لنجعلك آية} كان النظر إلى الحمار شرطا، وجعله آية جزاء وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام، أما المال قال:{ولنجعلك آية} كان المعنى، ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ومثله قوله تعالى: {وكذالك نصرف الآيات وليقولوا درست، والمعنى: وليقولوا درست صرفنا الآيات. .

وقال ابن جرير في " جامع البيان "(3/ ج 42/ 3 - 43):} ولنجعلك آية للناس {، أمتناك مائة عام ثم بعثناك، وإنما أدخلت الواو مع اللام التي في قوله:} ولنجعلك آية للناس {، وهو. بمعنى كي، لأن في دخولها في كي وأخواتها دلالة على أنها شرط لفعل بعدها،. بمعنى: ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك، ولو لم تكن قبل اللام أعني لام كي واو كانت اللام شرطا للفعل الذي قبلها، وكان يكون معناه: وانظر إلى حمارك، لنجعلك آية للناس وإنما عني بقوله} ولنجعلك آية " ولنجعله حجة على من جهل قدرتي وشك في عظمتي، وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإفناء وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء بيدي ذلك كله لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري.

وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده شابا وهم شيوخ.

قال ابن جرير: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن يقال: إن الله تعالى ذكره. أخبر أنه جعل الذي وصف صفته في هذه الآية حجة للناس، فكان ذلك حجة على من عرفه من ولده وقومه ممن علم موته، وإحياء الله إياه بعد مماته، وعلى من بعث إليه منهم.

وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 688): {ولنجعلك آية للناس} ، أي: دليلا على المعاد.

(2)

قال صاحب الكوكب المنير (1/ 297): " إذا دار اللفظ بين أن بكون مؤكدا أو مؤسسا، فإنه يحمل على (تأسيسه) نحو قوله تعالى:{فبأي آلاء ربكما تكذبان} ، من أول سورة الرحمن إلى آخرها. فإن جعل تأكيدا، لزم تكرار التأكيد أكثر من ثلاث مرات. والعرب لا تزيد في التأكيد على ثلاث، فيحمل في كل محل على ما تقدم ذلك التكذيب- أي على ما تقدم قبل لفظ التكذيب، ويكون التكذيب ذكر باعتبار ما قبل ذلك اللفظ خاصة، فلا يتكرر منها لفظ، ولا يكون كيد البتة في السورة كلها فقوله تعالى:{يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان} ، المراد آلاء خروج اللؤلؤ والمرجان خاصة. وكذلك الأمر في جميع السورة.

انظر: شرح تنقيح الفصول ص 113.

ص: 1119

على التأكيد مهيع (1)، مسلوك، ولأمر ما جعل الله- جل جلاله قصة الحمار آية للناس، واختصها بالتنبيه على هذه المزية.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي الأمارة.

انتهى.

(1) مهيع: من هاع الشيء يهيع هياعا: اتسع وانتشر. وطريق مهيع: واضح واسع بين وجمعه مهايع وأنشد: بالفور يهديها طريق مهيع.

لسان العرب (15/ 180).

ص: 1120