المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإيضاح لمعنى التوبة والإصلاح - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٣

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌الإيضاح لمعنى التوبة والإصلاح

‌الإيضاح لمعنى التوبة والإصلاح

تأليف العلامة

محمد بن علي الشوكاني

حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه

محفوظة بنت علي شرف الدين

أم الحسن

ص: 1275

وصف المخطوط

1 -

عنوان الرسالة: (الإيضاح لمعنى التوبة والإصلاح).

2 -

موضوع الرسالة: تفسير آيات من سورة النور.

3 -

أول الرسالة.: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد النبيين، وعلى آله الأكرمين وصحبه الراشدين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال من الوالد العلامة المفضال لطف الله بن أحمد جحاف

4 -

آخر الرسالة:

وهو غير فاسق، وشهادته مقبولة. وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق.

حرره مؤلفه غفر الله له في نهار يوم السبت لعله حادي وعشرون شهر الحجة سنة 1224 هـ.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.

7 -

تاريخ النسخ: السبت/ 11/ الحجة سنة 1224هـ.

8 -

عدد أوراق الرسالة: (8) ورقات+ صفحة العنوان.

9 -

عدد الأسطر في الصفحة: (23 - 25) سطرا.

10 -

عدد الكلمات في السطر: 9 - 11 كلمة.

11 -

الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

ص: 1277

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد النبيين، وعلى آله الأكرمين

وصحبه الراشدين:

وبعد:

فإنه ورد هذا السؤال من الولد العلامة المفضال: لطف الله بن أحمد جحاف (1) - لا برح رافلا في حلل الألطاف-. وهذا نصه منظوما:

يا بدر أشرق منورا

وسما على كل الورى

إني أتيتك سائلا

لمهم أمر قد جرى

في فتية شهدوا

على زيد بفاحشة ترى

قالوا زنى لكنهم

دون النصاب وقد سرى

فأين لسائلك الذي

أضحى لفضلك مظهرا

بم توبة النفر الذين

رأوه يفعل منكرا؟ 11):

(1) هو أحد تلاميذ الشوكاني الأوفياء، وقد ترجم له في " البدر الطالع" (2/ 60 - 71) فقال: " ولد في نصف شعبان سنة (1189هـ) وأخذ العلم عن جماعة من علماء العصر، منهم شيخنا العلامة السيد على بن إبراهيم بن عامر، والسيد العلامة على بن عبد الله الجلال، وشيخنا العلامة القاسم بن يحيى الخولاني، والسيد العلامة إبراهيم بن عبد القادر، وغير هؤلاء من أعيان العلماء ولازمني دهرا طويلا فقرا علي في النحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان والأصول والحديث، وبرع في هذه المعارف كلها وصار من أعيان العصر وهو في سن الشباب، ودرس في فنون وصنف رسائل أفرد فيها مسائل ونظم الشعر الحسن، وغالبه في أعلى طبقات البلاغة، وباحث كثيرا من علماء العصر. بمباحث مفيدة يكتب فيها ما ظهر له، ثم يعرضها على مشايخه أو بعضهم.

وقد كتب إلي من دلك الكثير بحيث لو جمع هو ما أكتبه إليه من الجوابات لكان مجلدا، ولعل غالب ذلك محفوظ لديه وعندي منه القليل. وهو قوي الإدراك جيد الفهم، حسن الحفظ، مليح العبارة، فصيح اللفظ، بليغ النظم والنثر.

ويتقيد بالدليل الصحيح وإن خالفه من خالف .... وتوفي بصنعاء في سنة (1243هـ).

ص: 1281

أيكذبون نفوسهم

في الصدق أم ماذا ترى؟

فالكذب أخبث حلة

والصدق أظهر مخبرا

وأراه لا ينفك عن

إصراره من أبصرا

أقول: هذا السؤال الذي تضمنه هذا النظم المنسجم، في غاية الحسن، لكون الشهادة [للمحدودين](1) بسبب عدم كمال نصاب شهادة الزنا، [و](2) لم يتبين أفم كاذبون في الواقع. ولو كان الحد لكذب، بل لنقص نصاب الشهادة [1أ] وذلك لا يستلزم الكذب لا عقلا، ولا شرعا، ولا عادة.

إذا عرفت هذا، فاعلم أن تقرير الكلام على وجه يرتفع به الإشكال، وينتفع به ناظم السؤال، يتوقف على تحقيق مرجع هذا الاستثناء، بعد تحقيق ما اشتمل عليه المستثني منه في الجملة فأقول:

اعلم أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3).

قد اشتمل على ثلاثة أحكام متعلقة بالقاذف:

(الأول): جلده.

(الثاني): رد شهادته.

(الثالث): فسقه.

فالاستثناء المتعقب لما تضمن هذه الثلاثة الأحكام، [وهو] (4) قوله تعالى: & إِلَّا?

(1) في المخطوط (المحدودين) والصواب ما أثبتناه

(2)

زيادة يستلزمها السياق

(3)

[النور: 4]

(4)

في المخطوط (وهي) والصواب ما أثبتناه

ص: 1282

الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {(1).

قد اختلف أهل العلم في مرجعه، ماذا هو؟ هل هو جميع ما دل على تلك الثلاثة الأحكام من تلك الآية، أم بعضها؟.

فذهب جع جم، إلى أنه راجع إلى (2) جميعها. وقرروا ذلك. مما يطول، ولا يتسع المقام لبسطه، وقد جعل هذه الآية مثالا للاستثناء الواقع بعد جمل متعددة، جماعة من المصنفين في أصول الفقه (3).

(1)[النور: 5]

(2)

وهو قول الأئمة الثلاثة [أحمد، الشافعي، مالك] وأكثر أصحابهم. انظر: المحصول للرازي (3/ 43) والكوكب المنير (3/ 313)

(3)

قال صاحب الآيات البينات (3/ 54): قوله: أما قوله تعالى:} وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ {أقول: هذا الصنيع صريح في أن قوله تعالى:} وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا {[النور: 4] معطوف على جملة [فاجلدوهم]، عند الشافعي كغيره ففيه رد على من زعم أن الشافعي جعل جملة "ولا تقبلوا"، منقطعة عن جملة "فاجلدوهم" مع أن كونها معطوفة عليها أظهر من أن كفى. ومنشأ هذا الزعم أن الشافعي قبل شهادة المحدود في القذف بعد التوبة وحكم عليه بعدم الفسق ولم يسقط عنه الجلد فلزم من ذلك شهادة المحدود في القذف بعد التوبة وحكم عليه بعدم الفسق ولم يسقط عنه الجلد فلزم من ذلك تعلق الاستثناء بالأخيرتين وقطع "لا تقبلوا" عن "اجلدوا" إذ لو كان عطفا عليه لسقط الجلد عن التائب على ما هو الأصل عنده من صرف الاستثناء إلى الكل. قال في التلويح: وفيه بحث إذ لا نزاع لأحد في أن قوله أو لا تقبلوا، عطف على "فاجلدوا" إلا أن الشافعي لم يجعله من تمام الحد بناء على أنه لا يناسب الحد لأن الحد فعل يلزم على الإمام إقامته لا حرمة فعل، ولم يسقط الجلد بالتوبة لأنه حق العبد ولهذا أسقطه بعفو المقذوف، وصرف الاستثناء إلى الكل عنده ليس بقطع بل هو ظاهر يعدل عنه عند قيام الدليل وظهور المانع مع أن المستثني هو (الذين تابوا وأصلحوا) ومن جملة الإصلاح الاستحلال وطلب عفو المقذوف، وعند وقوع ذلك يسقط الجلد أيضًا فيصح صرف الاستثناء إلى الكل.

قال الزركشي في البحر المحيط (3/ 312 - 318): " واعلم أن القول بعوده إلى الجميع عندنا شروط:

1) أن تكون الجمل متعاطفة. فإن لم تكن عطف، فلا يعود إلى الجميع قطعا بل يختص بالأخيرة إذ لا ارتباط بين الجملتين ومن صرح إذا الشرط القاضي أبو بكر في التقريب، وابن السمعاني والآمدي.

2) أن يكون العطف بالواو. فإن كان بثم اختص بالجملة الأخيرة ذكره إمام الحرمين.

3) أن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل فإن تخلل اختص بالأخيرة. حكاه الرافعي عن إمام الحرمين.

4) أن تكون الجمل منقطعة بأن تنبئ كل واحدة عما لا تنبئ عنه أخواتها.

5) أن يكون بين الجمل تناسب.

6) أن يمكن عوده إلى كل واحدة على انفرادها فإن تعذر عاد ما أمكن أو اختص بالأخيرة.

7) أن يكون المعمول واحدا كقوله تعالى:} وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ &، فإن كان العامل واحدا والمعمول متعددا فلا خلاف في عوده إلى جميع.

8) أن يتحد العامل، فان اختلف خص الأخيرة.

9) أن يكون في الجمل. فإن كان في المفردات عاد للجميع اتفاقا.

10) أن يكون الاستثناء متأخرا على ظاهر عباراتهم بالتعقيب، لكن الصواب أن ذلك ليس بشرط والخلاف جار في الجميع كما صرح به الرافعي في كتاب (الإيمان).

انظر تفصيل ذلك. البحر المحيط (3/ 315 - 318) 0 الكوكب المنير (3/ 318)

ص: 1283

ولكنه يرد على هؤلاء القائلين بأنه راجع إلى جميع الجمل، أن توبة القاذف لا تسقط عنه حد القذف بالإجماع. فلو كان الاستثناء راجعا إلى جميع الجمل لزم سقوط الحد بوجود التوبة، واللازم باطل، فالملزوم مثله.

أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان اللازم فبالإجماع إلا ما يروى عن الشجي، وهو مدفوع بالنصوص، وبإجماع أهل العلم.

ومن القائلين برجوع الاستثناء الواقع بعد جمل إلى جميعها من غير نظر [1ب] إلى خصوص هذه الآية، مالك، والشافعي، وأصحابهما، وجمهور أهل الأصول وغيرهم (1).

= ومن القائلين برجوعه إلى الجملة الأخيرة، أبو حنيفة (2). وقد توقف بعض أهل العلم في ذلك (3). ووجه التوقف، أنه قد ورد في كتاب الله تعالى مع رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل، كما في قوله:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} (4) الآية.

فإن الاستثناء المتعقب لها، راجع إلى (5) الجميع باتفاق العلماء. وآية قتل المؤمن (6) خطأ، الاستثناء فيها راجع إلى الأخيرة (7) باتفاق العلماء. فهذا وجه التوقف في آية القذف، وسبب اضطراب المذاهب فيها.

وقد عرفت اتفاقهم على عدم رجوع الاستثناء فيها إلى الجلد، ولا اعتبار. بمخالفة

(1)

انظر: المحصول (3/ 43) البحر المحيط (3/ 315) والكوكب المنير (3/ 313) الآيات البينات (3/ 54)

(2)

قال صاحب الكوكب المنير (3/ 313): وعند أبي حنيفة وأصحابه والرازي والمجد يرجع- الاستثناء- إلى الجملة الأخيرة.

انظر: تيسير التحرير (1/ 302، 305)، نهاية السول (2/ 128)

(3)

وهو قول الأشعرية منهم الباقلاني والغزالي لتعارض الأدلة. انظر: المسودة ص 156، البرهان (1/ 359)

(4)

وتمام الآية: { ...... وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34].

(5)

وهو قول الشافعي كما قاله الماوردي والرويانى أنه يعود إلى جميعها .. البحر المحيط (3/ 307)، الكوكب المنير (3/ 319)

(6)

[النساء: 92]

(7)

قال القفال: وكذا قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [السماء: 92] فالاستثناء يرجع إلى الأخيرة، لأن الدية حق آدم فيسقط بالعفو، والرقبة حق الله. فلا يسقط بالعفو من الآدمي وكذا قال: الماوردي وغيره.

البحر المحيط (3/ 316)

ص: 1284

الشعبي.

واختلفوا في رجوعه إلى الحكم الثاني، وهو رد الشهادة المدلول عليه بقوله تعالى:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (1).

فقال شريح القاضي، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة: لا يرجع إليه، وجزموا بأنها لا تقبل شهادة القاذف أبدا (2) وإن تاب، ولا زال عنه اسم الفسق

(1)[النور:4]

(2)

وجادة: وهي وجادة صحيحة من أصح الوجادات وهي حجه.

وقد أخرج البيهقى في "المعرفة" من طريق أخرى، كما في "نصب الراية"(4/ 82).

وقال الألباني في الإرواء (8/ 242) عن هذه الطريق بأنها معضلة.

والخلاصة: أن الحديث صحيح. وقد صححه الألباني في الإرواء رقم (2619)

ص: 1286

بالتوبة.

وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الاستثناء يرجع إلى قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (1).

كما يرجع إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2).

ومن القائلين بعدم رجوع هذا الاستثناء إلى قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}

ابن عباس.

أخرج عنه أبو داود في ناسخه (3)، وابن المنذر (4)، أنه قال: في قوله:} وَالَّذِينَ [2أ] يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ {الآية. ثم استثنى فقال:} إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا. فتاب الله عليهم من الفسوق. أما الشهادة فلا تجوز. وأخرج ابن مردويه (5) عنه من وجه أخر نحوه.

وأخرج ابن جرير (6)، وابن المنذر (7)، والبيهقى في سننه (8)، عنه ما يخالف هذا. وهو أنه قال في تفسير هذه الآية:" فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل ".

(1)[النور: 4]

(2)

[النور: 4]

(3)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 131)

(4)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 131)

(5)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 131)

(6)

في "جامع البيان"(10/ج18/ 80)

(7)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 131)

(8)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 131)

ص: 1287

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه قد اختلف أهل العلم في كيفية التوبة التي يرتفع عنه بها الفسق عند الجميع، وتقبل بها شهادته عند الجمهور لا عند غيرهم كما سبق.

وهذا هو محل السؤال، ومكان الإشكال. فذهب جماعه إلى أن توبته، لا تكون إلا بإكذابه لنفسه تصريحا، ولا يكون تائبا. بمجرد الندم على ما فرط منه، والعزائم على عدم المعاودة لما اقترفه ومن القائلين هذا عمر ابن الخطاب.

فأخرج ابن مردويه (1) عنه، أنه قال في تفسيره الآية:" توبتهم إكذابهم أنفسهم، فإن أكذبوا أنفسهم، قبلت شهادتهم ".

وأخرج عبد بن حميد (2) عنه، أنه قال لأبي بكرة في قصة المغيرة المشهورة:"إن تكذب نفسك نجز شهادتك فأبى أن يكذب نفسه، ولم يكن عمر يجيز شهادته ".

والقصة مشهورة مروية في السير (3)، وفي كتب الحديث (4)، ووافقه على ذلك عطاء. فأخرج عبد الرزاق (5)، وعبد بن حميد (6) عنه أنه قال:" إذا تاب القاذف وأكذب نفسه قبلت شهادته ". وبه قال الزهري، وطاووس، ومسروق، والشجي، روى عنهم عبد بن حميد (7) أنهم قالوا: توبته أن يكذب نفسه.

(1) ذكره السيوطى في الدر المنثور (6/ 131)

(2)

ذكره السيوطى في الدر المنثور (6/ 131)

(3)

انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 27)

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5/ 255) معلقا. في الشهادات. باب شهادة القاذف والسارق والزاني: " وجلد عمر أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة، ثم استتابهم، وقال: من تاب قبلت شهادته" ووصله الشافعي كما في ترتيب المسند (2/ 181 رقم 642) والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 152)

(5)

في المصنف (7/ 383 رقم 13561)

(6)

ذكره السيوطى في "الدر المنثور"(6/ 131)

(7)

انظر: فتح الباري (5/ 255 - 257)"المصنف"(7/ 383 - 388) و (8/ 361 - 364) والسنن الكبرى للبيهقي (10/ 152 - 153)

ص: 1288

وقد حكى هذا النحاس عن أهل المدينة، وبه قال الشافعي، فإنه صرح في كتبه (1) "باب توبة القاذف هي إكذابه نفسه " قال الإصطخري (2): وهو أن يقول: كذبت ولا أعود [2ب] إلى ذلك.

وقالت طائفة أخرى من أهل العلم: إن توبة القاذف، هي أن يصلح ويحسن حاله، ويندم، ويستغفر، ويعزم على أن لا يعود، ولا يشترط أن يكذب نفسه، لأنه شهد عن علم ويقين وإنما لم يكمل نصاب الشهادة، وهو الحق (3). ومن القائلين هذا ابن سيرين،

(1):. (2):. (3): قال النووي في "رياض الصالحين"(37 - 38) - تحقيق الألباني: قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط:

أحدها: أن يقلع عن المعصية.

الثاني: أن يندم على فعلها.

الثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدا.

فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته، وإن كانت المعصية تتعلق بآدم فشروطها أربعة: هذه الثلاثة.

وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه وإن كان حد قذف ونحو مكنه منه أو طلب عفوه. وإن كان غيبة استحله منها إذا لم يترتب على الاستحلال نفسه مفسدة أخرى- ويجب أن يتوب من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة. 1 هـ.

(1)

كالأم (7/ 94 - 95) وبدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن لأحمد عبد الرحمن البنا (2/ 147 - 148)

(2)

هو أبو سعيد الحسن بن أحمد ابن يزيد الإصطخري الشافع، فقيه العراق ورفيق ابن سريج.

قال أبو إسحاق المروزي: لما دخلت بغداد لم يكن بها يستحق أن يدرس عليه إلا ابن سريج، وأبو سعيد الإصطخري، وقال الخطيب: ولي قضاء قمر- مدينة قرب أصبهان- وولي حسبة بغداد، فأحرق مكان الملاهي.

مات الاصطخري في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة، وله نيف وثمانون سنة.

انظر: تاريخ بغداد (7/ 268 - 270) وشذرات الذهب (2/ 312)

ص: 1289

حكى عنه عبد بن حميد (1) أنه قال: " توبته فيما بينه وبين الله تعالى ". وبه قال سعيد بن جبير، حكاه عنه سعيد (2) بن منصور، وعبد بن حميد (3)، وابن المنذر (4)، وبه قال ابن سريج، حكاه عنه عبد الرزاق (5) وعبد بن حميد (6)، وابن المنذر (7). وبه قال إبراهيم النخعي، حكاه عنه عبد الرزاق (8)، وعبد بن حميد (9)، وابن المنذر (10)، وابن أبي حاتم (11). وبه قال مالك، حكاه عنه القرطبي (12)، قال: وهو قول ابن جرير (13).

فإن قلت: أي القولين أقرب إلى الصواب، وأولى بالقبول، وأحق بالترجيح؟

قلت: القول الثاني لوجوه:

الأول: أن الله- سبحانه-، لم يذكر في كتابه العزيز، إلا مجرد التوبة، وهي في اللغة: الرجوع من الذنب. قال في الصحاح (14): " التوبة: الرجوع من الذنب". وفي الحديث: (الندم توبة)(15). وكذلك التوب مثله. وقال الأخفش: التوب: جمع توبة مثل: عومة وعوم، وتاب إلى الله توبة، ومتابا. وقد تاب الله عليه: وفقه الله ". انتهى

(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132)

(2)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132)

(3)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132)

(4)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132)

(5)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132)

(6)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132)

(7)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132)

(8)

في المصنف (7/ 387 رقم 13573)

(9)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132)

(10)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132)

(11)

في تفسيره (8/ 2532 رقم 14177)

(12)

في "الجامع لأحكام القرآن"(12/ 179)

(13)

في "جامع البيان"(10 /ج 18/ 81)

(14)

(1/ 91 - 92)

(15)

أخرجه ابن ماجه رقم (4252) والحاكم (4/ 243)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 154) وأحمد (1/ 376، 433) والحميدي في مسنده (1/ 58 رقم 105) والبغوي في "شرح السنة "(5/ 91 رقم 1307) كلهم من حديث عبد الله بن مسعود.

قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 347 رقم 1521): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ..... "1هـ

وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه الألباني.

ص: 1290

كلام الصحاح.

وفيه أن مجرد الرجوع عن الذنب توبة، والمراد برجوعه عنه: اعترافه بأنه قد ظلم نفسه، وجلب عليها الإثم بسبب خروجه عن دائرة الحلال إلى دائرة الحرام، فإذا رجع من دائرة الحرام إلى دائرة الحلال نادما على فعله، عازما على أن لا يعود إليه، فذلك هو الرجوع. وانظر كيف ذكر صاحب الصحاح (1) عقب قوله: التوبة: الرجوع من الذنب، ما هو كالتصريح. بمعنى الرجوع، وكالدليل عليه حيث قال: وفي الحديث: (الندم توبة)(2).

وقال في القاموس (3): " تاب إلى الله توبا وتوبة ومتابا، وتابة، وتتوبة [3أ] رجع عن المعصية. وهو تائب، وتواب، وتاب الله عليه، وفقه للتوبة، أو رجع به من التشديد إلى التخفيف، أو رجع عليه بفضله وقبوله، وهو تواب على عباده " انتهى.

والكلام فيه كالكلام الذي قدمنا بعد كلام الصحاح.

(الوجه الثالث): أن التوبة (4) في لسان أهل الشرع واصطلاحهم؟ هي أن يجمع المذنب بين ندمه على الذنب، وعزمه على أن لا يعود. فمن جمع بين الأمرين، فهو تائب. ومن تاب، تاب الله عليه، والقاذف إذا ندم على قذفه، وعزم على أن لا يعود إلى شيء من ذلك، فهو تائب، ومن أوجب عليه أن يكذب نفسه، فقد أخذ في حد التوبة قيدا لم يعتبره الله في كتابه، ولا رسوله في سنته، ولا أهل اللغة العربية في لغتهم، ولا أهل الشرع في اصطلاحهم.

(1)(1/ 91)

(2)

مسبق تخريجه

(3)

(ص 79).

(4)

انظر مدارج السالكين لابن القيم (1/ 208 - 215)

ص: 1291

(الوجه الثالث): أن الأمة قد أجمعت على أن التوبة تمحو الكفر. فإذا تاب الكافر تاب الله عليه، وأجمعت على أن ذنب القذف دون ذنب الكفر. بمسافات لا تحصى. فيستفاد من هذين الإجماعين، أن ما يصدق عليه مسمى التوبة في حق القاذف يكون توبة مقبولة، سقط عنه ها إثم القذف. فاعتبار قيد زائد على مسمى التوبة في القذف، [وهو](1) دون الشرك مخالف لقواعد الشريعة، ولما عليه أهل الإسلام.

وليس القاذف بأشد جرما، ولا أكبر ذنبا من الكافر بالإجماع.

(الوجه الرابع): أن [الشهداء](2) الذين جلدوا بسبب كونهم دون النصاب، لم يكن جلدهم لكونهم كاذبين قي الواقع، بل لكونهم أقدموا على ما يخالف الشرع، وهو شهادتهم [3ب] وهم دون النصاب، ولم يبح الله لهم ذلك، ولا أجازه، فاستحقوا الجلد ورد الضهادة، وإطلاق اسم الفسق عليهم. فالتوبة: هي اعترافهم بأنهم خالفوا الشرع في هذا الإقدام على الشهادة، وسارعوا إلى هتك عرض المسلم المشهود عليه بدون حقه، واستعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، وندمهم على ما فرط منهم، وعزمهم على أن لا يعودوا إلى ذلك، فإيجاب تكذيبهم أنفسهم هو أمر أخر غير ما تابوا عنه.

(الوجه الخامس): أن ما أخبروا به هو عند سامعه في حيز الاحتمال لم يرد دليل صحيح من عقل، ولا نقل بأنه كذب، وجلدهم الذي أقيم عليهم، إنما هو رجوع إلى ظاهر الشرع، لا كونهم كاذبين، فإن هذا لم يتعبدنا الله به، فإلزامهم بأن يخبروا عن أنفسهم أنهم كاذبون، وجعل ذلك شرطا في توبتهم، لا تقبل بدونه، هو غير ما يعتقده من جمع الشهادة؟ لأنها عنده في حيز الاحتمال، وغير ما يعتقده الشاهد، لأنه عند نفسه على بصيرة لولا أنه وقع في الخطأ، بسبب إقدامه عليها مع عدم كمال النصاب.

(1) زيادة يستلزمها السياق

(2)

في المخطوط: الشهادة والصواب ما أثبتناه

ص: 1292

ومع كونه غير ما يعتقده سامع الشهادة، وغير ما يعتقده الشاهد، هو أيضًا خلاف ما في الكتاب والسنة ولغة العرب.

(الوجه السادس)[4أ]: أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه، وهو في اشتراطه لهذا الشرط في توبة الشهود، مخالف لما كان يتكلم به عند أن يلقى المغيرة بن شعبة وينظر إليه، فإنه كان يقول في غير مرة:"ما ذكرت قصتك إلا خشيت أن ارجم بحجارة من السماء".

فهذا منه دليل، وأصعب دليل على أنه لم يقطع بكذب أولئك الثلاثة الذين شهدوا عليه، بل كان الأمر في نفسه محتملا، إن لم يكن عنده احتمال صدقهم أولى، كما يفيده هذا، ولكنه- رضي الله عنه رجع إلى ظاهر الشرع، وهو الواجب عليه، وعلى كل مسلم، وهو المتقرر، في هذه الشريعة الغراء.

وأما خشيته بأن يرجم بحجارة من السماء، فليس ذلك لكونه خطأ في الحكم الواقع منه بجلد الشهود الثلاثة، فإنه لم يخطئ بلا خلاف.

ولكنه كان يقول هذه المقالة إن صحت عنه تقريعا للمغيرة وتوبيخا. وربما كان سبب قوله لها: إن المغيرة كان مشهورا. بمقارفته هذه المعصية، ولهذا كان يقال له: الأعور الزناء. ومن كان هذه المنزلة من الشهرة. بمقارفته لهذه المعصية، فهو غير عفيف. ولا جلد على القاذف بغير العفيف في الظاهر. فكان عمر- رضي الله عنه يذكر هذا تندما، وتأسفا، حيث لم يدرأ [4ب] عن الشهود الذين شهدوا عليه حد القذف ثم هذه الشبهة، وفي الأمر سعة. فيمكن [أن يقال] (1): إنه لم يبلغه ما يقال: من عدم عفة المغيرة إلا من بعد الجلد، ويمكن أنه لم يقطع بتلك الشهرة، ولا سيما والذين اشتهرت بينهم هذه المقالة هم أهل ولاية المغيرة، ومن كان كذلك فقد يفتري على أميره الكذب، ويقول الباطل. وعلى كل حال فالأمر في حين الاحتمال، فقد أصاب عمر- أصاب الله

(1) زيادة يستلزمها السياق.

ص: 1293

به- في إقامة الحد على الشهود، ولكنه لم يصب عندي، هو ولا من تابعه من أهل العلم في اشتراطهم في صحة التوبة إكذاب الشاهد لنفسه.

(الوجه السابع): أن لا خلاف بين أهل العلم أن من شتم مسلما بأي نوع من أنواع الشتم الذي ليس بقذف: فإن توبته من ذلك لا يشترط فيها إكذابه لنفسه. بل يكفر في ذلك الندم، والعزم على عدم المعاودة، ومن زاد على هذا، قال: وطلب العفو من المشتوم.

ومن المعلوم أنه يشتمل الجميع جنس الشتم، فلا وجه لتخصيص بعضه بقيد في صحة التوبة منه دون الآخر.

(الوجه الثامن): أخرج عبد الرزاق (1) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم-: " قضى الله [5أ] ورسوله أن لا تقبل شهادة ثلاثة، ولا اثنين، ولا واحد على الزنا. ويجلدون ثمانين ثمانين، ولا تقبل لهم شهادة أبدا، حتى يتبين للمسلمين منهم توبة نصوح وإصلاح".

فلم يعتبر النبي- صلى الله عليه واله وسلم- في هذه التوبة زيادة على ما يصدق عليه هذا المفهوم من إكذاب الشاهد لنفسه، بل هي توبة كسائر التوبات من الذنوب.

(الوجه التاسع): أن الكذب ذنب من الذنوب، وكبيرة من الكبائر (2)، وقد

(1) في "المصنف"(7/ 387 رقم 13571)

(2)

قال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10].

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28].

وقال تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} آل عمران: 61. للحديث الذي أخرجه البخاري رقم (33) ومسلم رقم (59) عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".

وللحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6094) ومسلم رقم (102/ 2606) عن عبد الله بن مسعود قال: إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة. وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حيت يكتب عند الله كذابا

ص: 1294

اتفقت الشرائع على هذا، ولم تختص به الشريعة الإسلامية وحدها، وإذا كان الكذب ذنبا يوجب العقوبة، فكيف يشترط في توبة الشاهد الذي شهد. مما رأته عينه، ووقع عليه بصره إذ يكذب نفسه فيدخل في ذنب. بمجرد طلبه للخروج من ذنب، والتوبة عنه؟.

وهل يحل إلزامه الدخول في ذنب متفق عليه، ومعصية لا خلاف فيها!؟ وهل هذا إلا رأي بعيد عن الصواب، واجتهاد ناء عن الحق!؟.

فإن قلت: قد تبين. مما ذكرته ما هو الحق في كيفية هذه التوبة من القذف، وأنه لا يشترط فيها، ما اشترطه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه ولا ما اشترطه من تبعه من السلف ومن بعدهم حسبما تقدم تقريره، وبقي أمران:

(أحدهما): التصريح. مما هو الراجح لديك في المذاهب السابقة في رجوع الاستثناء [5ب] إلى جميع تلك الجمل المذكورة في الآية، أو إلى بعضها.

(والثاني): أن الله ضم إلى ما ذكره من اشتراط التوبة الإصلاح، فما هو؟

قلت: أما ما أذهب إليه في الاستثناء في هذه الآية وغيرها، فهو رجوعه إلى جميع الجمل السابقة التي لم يتعقب بعضها قبل ورود الاستثناء، أو نحوه من القيود ما يدل على تخصيصه. مما يخالف القيد الآخر. أو يخصص الدليل بعض القيود دون بعض، كما وقع في آية القذف، فإن الاستثناء لا يرجع إلى الجلد، بل يجلد القاذف بعد طلب المقذوف، ومرافعته له إلى الإمام أو الحاكم، وإن تاب.

ووجه عدم رجوعه إليها، الدليل في غير قضية من الحدود، فإن المحدودين كانوا يأتون إلى النبي- صلى الله عليه واله وسلم- تائبين عن الذنب الذي قارفوه، في يقيم عليهم الحد حتى قال في المرأة التي رجمها: " لقد تابت توبة، لو تابها صاحب ....

ص: 1295

مكس (1) لغفر الله له" (2).

وانضم إلى هذا الدليل إجماع المسلمين قرنا بعد قرن، وعصرا بعد عصر أن التوبة لا تسقط الحد، ولم يرو عن أحد ما يخالف ذلك، إلا ما قدمناه عن الشعبي، وهو مع مخالفته للإجماع مخالف للدليل.

وهكذا القول في آية القتل (3) خطأ، وتخصيص القيد ببعض الجمل المذكورة [6أ] فيها، هو بدليل دل على ذلك.

وأما آية (4) المحارب، فلما لم يوجد ما يدل على تخصيص بعض جملها بقيد يخالف

(1) المكس: هو الجباية. وعلب استعماله فيما يأخذه أعوان الظلمة عند البيع والشراء.

قال الشاعر:

وفي كل أسواق العراق إتاوة

وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

والمكاس: صاحب المكس. وهو داخل في قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الشورى: 42.

والمكاس فيه شبه من قاطع الطريق، وهو شر من اللص، فإن من عسف الناس وجدد عليهم ضرائب، فهو أظلم وأغشم ممن أنصف في مكسه ورفق برعيته، وجابي المكس وكاتبه. وأخذه من جندي وصحيح وصاحب زاوية شركاء في الوزر، أكالون للسحت.

انظر: "الكبائر" للذهبي (ص 149 - 151) الكبيرة السابعة والعشرون.

(2)

أخرجه مسلم رقم (23/ 1695) وأبو داود رقم (4442) من حديث بريدة في حديث- المرأة الغامدية التي زنت وهو حديث صحيح

(3)

[النساء: 92]{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} .

تقدم التعليق على ذلك.

(4)

[المائدة: 33 - 34]{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

ص: 1296

الاستثناء، رجع الاستثناء (1) إلى الجميع، وهذا يعرف ضعف مذهب من قال بالوقف لاختلاف هذه الآيات في رجوع الاستثناء إلى البعض تارة، وإلى الكل أخرى، فإن ذلك لم يكن لأمر يوجب الوقف بل لدليل دل على التخصيص.

ومحل النزاع هو حيث لم يدل الدليل على تخصيص بعض الجمل بحكم دون غيره، وكان العطف بالواو، وكان التعاطف بين جمل لا يين مفردات.

وقد ذهب إلى الوقف (2) القاضي أبو بكر الباقلاني (3)، والغزالي (4)، وجماعة من المتأخرين، ورجحه غير واحد من المتكلمين في الأصول، وأوردوا من الأدلة على ذلك ما هو خارج عن محل النزاع، غير موجب للتوقف.

وقد ذهب القاضي عبد الجبار (5)، وأبو الحسين البصري (6) إلى أنه إن ظهر الإضراب عن الجمل الأولى، فهو للأخيرة، وإلا كان للجميع. وهذا أيضًا مذهب ساقط، فإن محل النزاع، وموطن الخلاف، هو حيث لم يرد ما يدل على ما يخالف رجوع القيد إلى الجميع، وهاهنا، الإضراب عن الجمل الأولى هو دليل تعين الأخيرة للقيد المذكور بعدها.

وبالجملة، فكل الحجج التي احتج بها من قال: إنه يعود الاستثناء إلى الأخيرة أو إلى البعض تارة، وإلى الكل أخرى، هي حجج خارجة عن محل النزاع، لا ترد على من قال بأنه يرجع إلى الجميع كما هو مذهب الجمهور، وهو الحق الذي لا شك فيه، ولا

(1) انظر البحر المحيط (3/ 307) وقد تقدم

(2)

انظر الكوكب المنير (3/ 314). المسودة (ص156)، التبصرة (ص 173). وقد تقدم ذكر ذلك في أول الرسالة

(3)

ذكره الآمدي في "الإحكام"(2/ 323)

(4)

في المنخول (ص 161)

(5)

ذكره الآمدي في "الإحكام"(2/ 323)

(6)

في المعتمد (1/ 265)

ص: 1297

شبهة، والمقام [6ب] يحتاج إلى بسط طويل إذا أردنا إيراد كل حجة، وتعقبناها. مما يدفعها، ففي هذا الأحمال ما يغني عن التفصيل، وفي هذا الاختصار، ما يكفي عن التطويل.

وأما الجواب عن الأمر الثاني، وهو معنى الإصلاح الذي ضمه الله- سبحانه- إلى التوبة، فقد قال جماعة من أصحاب الشافعي وغيرهم: إنه لابد من مضي مدة بعد التوبة، يتبين فيها صدق توبته، وحسن رجوعه. مما يعلمه من الأعمال الصالحة، التي تطابق العدالة، وتوافق التقوى، وقدروا هذه المدة بسنة، لاشتمالها على الفصول الأربعة، التي تؤثر في اختلاف الطبائع كما قالوا في العنين (1)، إنه يؤجل سنة لمده العفة. ولا يخفى أن هذا التأجيل والتقدير بالمدة رأي محض، لم يدل عليه دليل.

وقيل المراد بالإصلاح إصلاح التوبة نفسها، بأن يصدرها على وجه حسن غير مشوب بشائبة تخالف الصواب، وهذا مدفوع بعطف الإصلاح على التوبة، فإن ذلك مشعر بأنه مغاير إلا، وأيضا يكون ذكر الإصلاح غير مفيد لفائدة مقبولة، لأن مسمى التوبة. لا يكون إلا بعد كونها صالحة صادرة عن وجه خالص عن الشوائب المخالفة للصواب.

وإذا كان معنى التوبة لا يتم إلا إذا، فتفسير الإصلاح. مما هو داخل في معنى التوبة، وتمام مفهوميتها، وصدق اسمها، تفسير خال عن الفائدة، وتكرار عاطل [7أ] عن ا لجدوى.

فالحق أن الإصلاح المدلول عليه بقوله تعالى: {وأصلحوا} : هو صدور ما يسمى إصلاحا من أعمال في الصادرة عن التائبين، لأنه يتبين بذلك أن توبته صادرة عن عزم

(1) العنين: العاجز عن الجماع لمرض شرعا: من لا يقدر على جماع فرج زوجته لمانع منه، ككبر سن أو سحر. ا لقاموس المقهى (ص263)

ص: 1298

صحيح، وندم قد تطابق عليه الظاهر والباطن.

وفائدته، أن هذا التائب، لو أظهر بلسانه (1) العزم على عدم المعاودة للقذف. والندم على ما فرط منه، وأفعاله تدل على ما يخالف ذلك، كأن يتوب من قذفه لشخص، واشتغل بالقذف لآخر، أو يقارف أعمالا لا يقارفها من يتوب ويخاف العقوبة، فإن هذا، وإن كان قد جاء. مما يطلق عليه اسم التوبة، ويتسم به مفهومها، باعتبار عبارات لسانه، لكن قد تبين لنا. مما يعقبها من الأعمال التي هي من الإفساد، لا من الإصلاح، أنه كاذب فيها.

فإن قلت: إذا ظهر لنا عند صدور التوبة (2) منه ما يدل على الإصلاح من الأعمال والأقوال، ثم أعرض عن ذلك، وعافى إلى الأعمال التي هي مجانبة للصلاح؟

قلت: قد فعل ما شرطه الله- سبحانه- من التوبة والإصلاح، فذهب عنه اسم الفسق، وزال المانع من قبول الشهادة [7ب] وهذه الأعمال التي عملها من بعد، وهي مخالفة للصلاح، يلزمه حكمها. فإن كانت موجبة للفسق، ومانعة من قبول الشهادة، كان هذا سببا من أسباب الفسق آخر، ومانعا من الموانع لقبول الشهادة غير المانع الأول.

وإن كان غير موجبة لذلك، ولكنها من جملة ما يصدق عليه اسم المعصية فهو عاص بها، وهو غير فاسق، وشهادته مقبولة.

وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق.

حرره مؤلفه- غفر الله له- في نهار يوم السبت لعله حادي وعشرون شهر الحجة سنة 1224.

(1) انظر تفصيل ذلك في مدارج السالكين (1/ 405 - 407)

(2)

انظر مدارج السالكين لابن القيم (1/ 330 وما بعدها)

ص: 1299