الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النشر لفوائد سورة العصر
تأليف العلامة
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن
وصف المخطوط
1 -
عنوان الرسالة: (النشر لفوائد سورة العصر).
2 -
موضوع الرسالة: تفسير.
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا لا أحصى ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى وعلى آله ورضي الله عن صحبه والتابعين لهم بإحسان. وبعد: فلما كانت سورة العصر
…
4 -
آخر الرسالة:
وفي. هذا المقدار كفاية لمن له هداية. وحسبنا الله ونعم الوكيل. فرغ منه مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في نهار السبت
لعله سادس عشر شهر شوال سنة (1237هـ).
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
الناسخ: المؤلف رحمه الله. محمد بن علي الشوكاني.
7 -
تاريخ النسخ: السبت / شوال/ 1237 هـ.
8 -
عدد الأوراق: صفحة العنوان+ 14.5 ورقة.
9 -
عدد الأسطر في الصفحة: 26 - 30 سطرا.
10 -
عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
11 -
الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وعلى آله ورضي الله عن صحبه والتابعين لهم بإحسان.
وبعد:
فلما كانت سورة العصر على اختصارها، فإذا ليست إلا ثلاث آيات، ولم يكن في القرآن ما يشابهها من السور في الاختصار إلا سورة الكوثر، وسورة النصر، وكانت مشتملة على فوائد جليلة يستفيد ها المبتدئ والمنتهي، ويحتاج إليها المقصر والكامل، أفردتها هذا التفسير المختصر، ليستفيد المطلع عليه ما اشتمل عليه مما تمس الحاجة إليه وحميته: النشر لفوائد سورة العصر. ومن الله استمد الإعانة، وحسن الإثابة.
تفسير سورة العصر
هي ثلاث آيات، وقد وقع الخلاف هل هي مكية أو مدنية؟ فذهب الجمهور إلى أنها مكية (1)، وخالفهم قتادة (2) فقال: هي مدنية، والقول الأول أرجح لما أخرجه ابن مردويه (3) عن ابن عباس أنه قال: نزلت سورة العصر. بمكة، وأيضا المقام مرجعه الرواية لا الرأي، فنقل الأكثرين مرجح على انفراده على تقدير أن المخالف عدد دون عددهم،
(1) وهذا ما رجحه جماعة من المفسرين منهم:
- ابن كثير قي تفسيره (8/ 479).
- السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 391 - 392).
- الزمخشري في الكشاف (4/ 232)
(2)
قال الألوسي تفسيره (30/ 227): " سورة العصر مكية في قول ابن عباس وابن الزبير والجمهور، ومدنية في قول مجاهد وقتادة ومقاتل وأيها ثلاث بلا خلاف)
وانظر: زاد المسير (9/ 224).
(3)
عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور"(6/ 391 - 392)
فكيف وهو فرد! وهم الكل. وأيضا الغالب في هذه السور المختصرة كالسور التي هي قبل هذه السورة، والتي هي بعدها أنها مكية، والحمل على الغالب مرجح مستقل كما تقرر في الأصول. وقد كان لهذه السورة شأن عظيم عند السلف- رضي الله عنهم فأخرج الطبراني في الأوسط (1)، والبيهقي في الشعب (2) عن أبي مدينة الدارمي (3)، وكانت ما له صحبة قال: كان الرجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر قلت: ولعل الحامل لهم على ذلك ما اشتملت عليه من الموعظة الحسنة من التواصي بالحق والتواصي بالصبر [1أ] بعد الحكم على هذا النوع الإنساني حكما مؤكدا بأنه في خسر، فإن ذلك مما ترجف له القلوب، وتقشعر عنده الجلود، وتقف لديه الشعور، وكأن كل واحد من المتلاقين يقول لصاحبه: أنا وأنت وسائر أبناء جنسنا وأهل جلدتنا خاسر لا محالة إلا أن يتخلص عن هذه الرزية، وينجو بنفسه عن هذه البلية بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق وبالصبر، فيحمله الخوف الممزوج بالرجاء على فتح أسباب النجاء، وقرع أبواب الالتجاء، فإن قلت: كيف وقع منهم تخصيص هذه السورة هذه المزية دون غيرها من السور المختصرة؟ قلت: وجه ذلك ما قدمنا من اشتمالها على ما اشتملت عليه ترهيبا وترغيبا، وتحذيرا وتبصيرا، وإنذارا وإعذارا، بخلاف غيرها من السور، فإنك تجدها غير مشتملة على ما اشتملت عليه هذه. انظر إلى السورة التي قبلها (4) فإنها خاصة بالتهديد والتشديد على .... .... .... .... .... .... .... .....
(1)(5/ 215 رقم 5124) وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 233) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح.
(2)
رقم (9057) كلاهما عن أبي مدينة الدارمي.
وهو حديث صحيح.
(3)
وهو عبد الله بن مضر. انظر: تجريد أسماء الصحابة (2/ 200 رقم 2312)
(4)
سورة التكاثر
من ألهاهم (1) التكاثر، وانظر إلى السورة التي بعدها فإنها مختصة بالوعيد العظيم، والترهيب الأليم للهمزة (2) اللمزة، وهكذا سائر هذه الصور المختصرة مع قيام كل واحدة في بابها مقاما يعجز عنه البشر، غير أنها لم تكن كهذه السورة في ذلك الحكم العام بذلك الأمر الشديد المشتمل على أبلغ تهديد، مع أكمل توكيد، ثم تعليق النجاة منه بذلك الأمر الذي هو لب اللباب، وغاية طلبات أولي الألباب. وبالجملة فهو حكم بالهلاك على كل فرد من أفراد النوع إلا إذا لاحظه التوفيق بسلوك تلك الطريق، وسلم من آفات التعويق. وسيأتيك- إن شاء الله- من البيان لهذا الشأن ما هو أعظم برهان. فإن قلت: هل يحسن منا عند الالتقاء الإقتداء بذلك السلف الصالح؟ قلت نعم وإن لم يدل عليه دليل يخصه من المرفوع، لكن قد ورد في عمومات الكتاب والسنة ما يدل على أنه ينبغي لكل فرد من المسلمين أن يدعو أخاه إلى أسباب الهداية، ويزجره عن ذرائع الغواية، ويعظه
(1) والمراد بالتكاثر ثلاثة أقوال:
1/ التكاثر بالأموال والأولاد. قاله الحسن.
2/ التفاخر بالقبائل والعشائر. قاله قتادة.
3/ التشاغل بالمعاش والتجارة، قاله الضحاك.
وانظر تفسير السورة في زاد المسير لابن الجوزي (9/ 220 - 222).
وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/ 476)
(2)
قال ابن كثير في تفسيره (8/ 481): الهماز: بالقول، واللماز بالفعل يعني يزدري الناس وينتقص هم. قال ابن عباس " همزة لمزة: طعان معياب.
قال الربيع بن أنس: الهمزة يهمزه في وجهه واللمزة من خلفه.
وقال قتادة: يهمزه ويلمزه بلسانه وعينه، ويأكل لحوم الناس، ويطعن عليهم.1 هـ. .
قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قتات".
أخرجه البخاري رقم (6506) ومسلم رقم (105) من حديث حذيفة.
وعن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: " إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة."
أخرجه البخاري رقم (218) ومسلم رقم (292)
مواعظ الله- سبحانه-، فإن ذلك من النصحية التي يقول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فيها:" الدين (1) النصيحة" وقد تواترت الأدلة المرشدة إلى المناصحة (2)، وأيضا ذلك يندرج تحت عمادي هذا الدين اللذين تبنى عليهما قناطره، وترجع إليهما أوائله وأواخره، وهما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. إذا وجدنا [1ب] لذلك موضعا، ورأينا له قبولا. ولا أقول أنه يتعين على الأمر الناهي تلاوة هذه السورة، بل أقول أنها من أتم ما يحصل به هذا الغرض، ويتأذى عنده هذا المطلب، وأنت تعلم أن الله - سبحانه- إنما أنزل هذه السورة على عباده ليعملوا بها، ويقوموا. مما اشتملت عليه من
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (55) وأبو داود رقم (4944) والنسائي (7/ 156) والترمذي رقم (2007) من حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدين النصيحة " قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم " وهو حديث صحيح.
(2)
قال تعال عن نوح: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} الأعراف: 62.
وعن هود: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} الأعراف: 68.
وأخرج البخاري في صحيحة رقم (7204) ومسلم رقم (99/ 56) من حديث جرير قال بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني (فيما استطعت والنصح لكل مسلم).
النصيحة: كلمة جامعة، معناها حيازة الحظ للمنصوح له. قال: ويقال: هو من وجيز الأسماء، ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفي بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه. قال: وقيل: النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه. فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له، مما يسده من حلل الثوب. قال: وقيل: إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط.
قال: ومعنى الحديث: عماد الدين وقوامه النصيحة. كقوله: "الحج عرفة" أي عماده ومعظمه عرفة.
وقال ابن بطال رحمه الله في هذا الحديث: إن النصيحة تسمى دينا وإسلاما، وإن الدين يقع على العمل كما يقع على القول. قال: والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه، ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة." 1 هـ. "
فتح الباري" (13/ 197) و" المفهم" (1/ 243).
التواصي بالحق والصبر، وفي تلاوتها. عند تلاقيهم أعظم موعظة، وأتم موقظة.
(بسم الله الرحمن الرحيم)، قد وقع الاختلاف (1) بين أهل العلم في البسملة هل هي آية مستقلة في أول كل سورة كتبت في أولها، أو هي بعض آية من أول كل سورة، أو هي آية في الفاتحة فقط دون غيرها من السور، أو أنها (2) ليست بآية في الجميع، وإنما كتبت للفصل والتبرك؟ فذهب (3) الجمهور إلى الأول، ومن القراء قراء مكة والكوفة، ومنهم ابن كثير، وعاصم، والكسائي، وقالون، وهو الحق لأن إثباتا في الرسم بلا خلاف يدل عدى أن لها حكم سائر الآيات القرآنية. وإذ انضم إلى ذلك تلاوتها عند تلاوة القران من السلف والخلف، والقراء وغيرهم في أول كل سورة إلا في سورة التوبة، ولا يقدح في ذلك تكرارها في أول كل سورة، فإن تكرار الآيات بلفظها قد وقع في كثير من القران، ولم يستدل مستدل على أن ذلك المكرر آية واحدة وقد أبعد من لم يعدها آية لا من الفاتحة ولا من غيرها كأبي وأنس من الصحابة، ومالك، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي من الفقهاء، وكذلك قراء المدينة والبصرة والشام، وهكذا الأوجه لعدها بعض آية، لأن ذلك تحكم يرد عليه الرسم والتلاوة، وكذلك لأوجه لعدها آية واحدة، وكررت للفصل بين السور كما ذهب إليه أحمد بن حنبل، وداود، وبعض الحنفية، لأن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها، فإن استدلوا مما أخرجه أبو داود (4) بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى نزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرجه الحاكم في .... .... ..
(1) انظر تفصيل ذلك عمد الألوسي في تفسيره (1/ 39)
(2)
وهو قول الزمخشري في الكشاف (1/ 4)
(3)
ذكره الألوسي في تفسيره (1/ 41 - 42) حيث قال: والصحيح من مذهبنا أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة، وهي من القرآن وإن لم تكن من الفاتحة نفسها، وقد أوجب الكثير منا قراءتها في الصلاة ...... "
(4)
في السنن رقم (788) بسند صحيح
المستدرك (1) فلا دليل في ذلك، فإن دلالتها على الفصل لا يستلزم أنها ليست بآية، لا عقلا، ولا شرعا، ولا عادة. وهكذا لا وجه لعدها آية مستقلة في الفاتحة دون غيرها، لأنه إن استدل بالرسم فالرسم للبسملة في الفاتحة كالرسم لها في غيرها من السور، وإن استدل بغير ذلك فما هو؟ إذا عرفت هذا فقد وقع الاتفاق على أنها بعض آية في سورة النمل، والكلام على هذه [2أ] الأقوال استدلا وترجيحا وتصحيحا مدون في مواضع بسطه ومتعلق الباء محذوف (2)، وهو أقرأ، أو أتلو، أو نحو ذلك. مما يناسب ما جعلت التسمية مبدأ له، فمن قدره متقدما كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل، ومن قدره متأخرا كان غرضه الدلالة بتأخيره منع الاختصاص مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم، والإشارة إلى أن البداية به أهم لكون الترك حصل به، وهذا يظهر ترجيح تقدير الفعل متأخرا في مثل هذا المقام، ولا يعارضه قوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (3) لأن ذلك المقام مقام القراءة، وكان الأمر بها أهم. وقد اختلف أئمة النحو (4) في المقدر هو اسم (5) أو فعل (6)! ومن قدر الفعل نظر إلى كون الأصل في العمل، ومن قدر الاسم نظر إلى ما فيه من الدلالة على الدوام والثبات، والاسم أصله سمو حذفت لامه، ولما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في
(1)(1/ 232) وصححه.
(2)
قال صاحب "الفريد في إعراب القرار المجيد"(1/ 151): فإن قلت: بم تعلقت الباء قلت:. بمحذوف وفيه تقديران: أحدهما ابتدائي بسم الله، والتقدير ثابت أو مستقر بسم الله. فيكون موضعه رفعا والآخر- بدأت أو أبدأ، فيكون موضعه نصبا.
وقيل: هو أمر أي ابدأوا بسم الله، وإنما قدر الابتداء، لأن الحال تدل عليه.
(3)
[العلق: 1].
(4)
انظر " إعراب القرآن وبيانه" محيط الدين الدرويش (1/ 9)
(5)
وهو قول أهل البصرة أن المتعلق به اسم.
(6)
وهو قول أهل الكوفة أن المتعلق به فعل.
انظر: الدر المصون (1/ 22).
أوله الهمزة، إذا نطقوا به لئلا يقع الابتداء بالساكن على تقدير إمكان النطق، والاسم (1) هو اللفظ الدال على المسمى كما قاله الجمهور ومن زعم أن الاسم هو المسمى كما قاله أبو عبيدة (2)، وسيبويه، والباقلاني، وابن فورك، وحكاه الرازي (3) عن الحشوية (4) والكرامية (5) والأشعرية (6) فقد غلط وجاء. مما لا يعقل، ولا دل عليه نقل، وهو مدفوع بالعقل والنقل كما يقرر في مواطنه، والعلم الضروري حاصل لكل عاقل بأن الاسم الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة غير (7) المسمى الذي هو مدلوله. وقد ثبت في الصحيحين (8) وغيرهما (9) أن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة. وقال الله عز وجل:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (10) وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (11) والله علم (12) لذات
(1) انظر " الدر المصون "(1/ 23)
(2)
في مجاز القرآن (1/ 16)
(3)
في "شرح أسماء الله الحسنى"(ص 23)
(4)
تقدم التعريف بهذه الفرق في المجلد الأول من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني"- العقيدة-
(5)
تقدم التعريف بهذه الفرق في المجلد الأول من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني"- العقيدة-
(6)
تقدم التعريف بهذه الفرق في المجلد الأول من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني"- العقيدة-
(7)
انظر الدر المصون (1/ 17)
(8)
أخرجه البخاري رقم (2736) ومسلم رقم (2686)
(9)
كأحمد (2/ 267) والترمذي رقم (3507) وابن ماجه رقم (3860) والحاكم (1/ 16 - 17)
(10)
كأحمد (2/ 267) والترمذي رقم (3507) وابن ماجه رقم (3860) والحاكم (1/ 16 - 17)
(11)
الإسراء: 110
(12)
(الله) علم لا يطلق إلا على المعبود بحق خاص لا يشركه فيه غيره وهو مرتجل غير مشتق عند الأكثرين وإليه ذهب سيبويه في أحد قوليه، فلا يجوز حذف الألف واللام منه وقيل: هو مشتق وإليه ذهب سيبويه أيضًا ولهم في اشتقاقه قولان:-
1/ أن أصله إلاه على وزن فعال من قولهم: أله الرجل يأله إلاهة أي عبد عبادة ثم حذفوا الهمزة تخفيفا بكثرة وروده واستعماله ثم أدخلت الألف واللام للتعظيم ودفع الشيوع الذي ذهبوا إليه من تسمية أصنامهم وما يعبدونه آلهة من دون الله.
2/ أن أصله لاه ثم أدخلت الألف واللام عليه واشتقاقه من لاه يليه إذا تستر كأنه، سبحانه يسمى بذلك لاستتاره واحتجابه عن إدراك الأبصار. " "
إعراب القرآن الكريم " محي الدين الدرويش (1/ 8)
الواجب الوجود لم تطلق على غيرها، وأصله إلاه حذفت الهمزة وعوضت عنها أداه التعريف (1) فلزمت، وكان قبل الحذف من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق كالنجم، فإنه في الأصل لكل نجم في السماء، ثم غلب على الثريا، وكذلك الصعق فإنه في الأصل لكل من أصابته الصاعقة، ثم غلب على رجل معروف فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة، وبعد الحذف والتعويض من الأعلام المختصة [2ب]. والرحمن الرحيم (1) اسمان مشتقان من الرحمة على طريقة المبالغة، كما تدل عليه هاتان الصيغتان، ورحمان أشد مبالغة من رحيم، وفي كلام ابن جرير (2) ما يدل على أن هذا متفق عليه، ولذلك قالوا رحمان الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا. ويؤيد ذلك ما تقرر عند أهل الفن من أن زيادة البناء (3) تدل على زيادة المعنى، وهما عربيان عند جمهور أهل اللغة.
وقال ابن الأنباري (4) والزجاج (5) أن الرحمن عبراني والرحيم عربي، واتفقوا على أن الرحمن لم يستعمل في غير الله- سبحانه- فهو من الصفات الغالبة، والاعتبار. مما وقع من بني حنيفة من إطلاق الرحمن على مسيلمة (6) الكذاب. قال أبو علي الفارسي:
(1) ذكره الزمخشري في الكشاف (1/ 108 - 109)
(2)
في "جامع البيان"(1/ج 1/ 55)
(3)
ذكره الزمخشري في الكشاف (1/ 109)
(4)
عزاه إليه الزجاج في " اشتقاق أسماء الله الحسنى"(ص 42)
(5)
لم يذكر الزجاج ذلك في كتابه "بل جاء في المخصص (17/ 151) وروي عن أحمد بن يحيى أنه قال: هو عبراني، وهذا مرغوب عنه، ولم يحك هذا أبو إسحاق- يعني الزجاج- في كتابه ".
وفي المسائل والأجوبة (ص 118): " زعم ثعلب أن الرحمن أصله العبرانية "
(6)
تقدمت ترجمته في المجلد الأول.
قال الشرباصى في موسوعة له الأسماء الحسنى (1/ 28): وقد تبجح مسيلمة الكذاب فسمى نفسه" رحمن اليمامة "فما كاد يسمى بذلك حتى قرع مسامعه نعت "الكذاب" فألزمه الله تعالى هذا النعت، وإن كان كل كافر كاذبا
الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين. قال الله- سبحانه- وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (1) انتهى. ولا يخفاك أن هذا الدليل الذي أورده لا ينتهض للحجية، لأن كون رحيما بالمؤمنين لا يستلزم أن لا يكون رحيما بغيرهم، والظاهر أنه- سبحانه- رحيم بكل عباده، ولكل مخلوقاته، فهو الذي وسعت (2) رحمته كل شيء، وهو الذي سبقت رحمته (3) غضبه. وقد تقرر في علم الإعراب أن فعيلا من صيغ المبالغة فحق المبالغة أن تكون رحيما بكل شيء، ولكل شيء. واعلم أنه قد ورد في فضل البسملة أحاديث فمنها ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4)، والحاكم في المستدرك (5) وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان (6) عن ابن عباس " أن عثمان بن عفان سأل النبي صلى الله عليه واله وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال: هو اسم من أسماء الله، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب". وأخرج سعيد بن منصور. . . . . . . . . . . .
(1)[الأحزاب: 43]
(2)
لقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]. وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر: 7]
(3)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (7453) من حد شيء أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما قضى الله عز وجل الحلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي ".
وأخرجه البخاري رقم (7404) وأحمد (2/ 433) والترمذي رقم (3543) وابن ماجه رقم (189) وابن خزيمة في التوحيد ص 58. من طرق عن أبي هريرة.
(4)
(1/ 12 رقم 5)
(5)
(1/ 255) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي
(6)
رقم (2327)
في سننه (1)، وابن خزيمة (2) في كتاب البسملة، والبيهقي (3) عن ابن عباس " قال استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القران: بسم الله الرحمن الرحيم ". وأخرج الدارقطني (4) بسند ضعيف عن ابن عمر أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كان جبريل إذا جاء بالوحي أول ما يلقط علي بسم اله الرحمن الرحيم".
وفي الباب أحاديث منها ما هو موضوع، ومنها ما هو ضعيف شديد الضعف. وفي نزولها من عند رب العالمين إلى رسوله المصطفى على لسان أمينة جبريل في أول كل سورة ما يكفى في شرفها وفضلها، وأي شرف وفضل أجل وأعظم من هذا ومع هذا فقد ورد الشرع بالتعبد ها في مواطن كعند الذبيحة (5)، وعند الوضوء، وعند الأكل (6)، وكأني الجماع (7). بل ورد مشروعيتها عند كل [3أ] أمر يضرع فيه الإنسان {والعصر إن الإنسان لفي خسر} . اختلف المفسرون في العصر هذا الذي أقسم الله به، فقيل هو الدهر (8) لما فيه من العبر التي تظهر فيه على الليل والنهار، مع ما فيها من الدلالة البينة على الصانع- سبحانه-، وعلى توحيده والعرب تطلق على الليل والنهار
(1) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (1/ 20).
(2)
عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (1/ 20).
(3)
عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (1/ 20).
(4)
في السنن (1/ 305 رقم 13) بسند ضعيف.
(5)
(منها) ما أخرجه البخاري رقم (5543) ومسلم رقم (1168) عن رافع بن خديج قلت يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى. قال: " أعجل أو أرني. ما أفر الدم وذكر اسم الله فكل. ليس السن والظفر
…
".
(6)
منها ما أخرجه أبو داود رقم (3767) والترمذي رقم (1858) وقال: حديث حيث صحيح. وابن ماجه رقم (3264) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: بسم الله فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله في أوله وآخره " وهو حديث صحيح.
(7)
(منها) ما أخرجه البخاري رقم (5165) ومسلم رقم (1434) عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشين، وجنب الشيء ن ما رزقتنا فإن يقمر بينهما ولد في ذلك، لم يضره شيء "
(8)
وهو قول ابن عباس ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن (20/ 178).
أنها عصر، وعلى كل واحد منهما أنه عصر، ومنه قول حميد (1) بن ثور:
ولم ينته العصران: يوم وليلة
…
إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وأطلقوا على الغداة أنها عصر، وعلى العشي أنه عصر، ومنه قول الشاعر:
وأمطله العصرين حتى يملني
…
ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
وأطلقوا العصر أيضًا على العشي، وما بين زوال الشمس إلى غروها. ومنه قول الشاعر:
يروح بنا عمرو وقد قصر العصر
…
وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر
فالعصر يطلق على كل واحد من هذه والأوجه لمن ذهب إلى تخصيص واحد منها دون غيره، كما روي عن قتادة والحسن (2) أن المراد به في هذه الآية العشي. وروي عن قتادة (3) أنه آخر ساعة من ساعات النهار. والظاهر في هذه الآية أن المراد به الدهر لعدم التقييد. مما يشعر ببعض الأوقات دون بعض. وقد استبعد قوم وقوع الأقسام منه - سبحانه- بالعصر. مم الدهر فقال مقاتل (4): المراد به صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطي، فقدر مضافًا محذوفا، وقيل هو قسم بعصر النبي- صلى الله عليه واله وسلم- لكونه اشرف العصور، وأفضل أجزاء الدهر. وقال الزجاج (5): قال بعضهم: معناه ورب العصر. ولا يخفاك أنه لا وجه لشيء من هذه التقديرات، ولله سبحانه أن يقسم. مما شاء من مخلوقاته، ولا يحتاج مثل ذلك إلى التعليل يكون للمقسم به شرفا وفضلا، فالرب سبحانه لا يسأل عما يفعل. وقد أقسم بالعاديات وهي الخيل العادية في الغزو، وأقسم بالمرسلات وهي الرياح في قول جمهور المفسرين، وقيل هي الملائكة،
(1) ذكره القرطي في "الجامع لأحكام القرآن"(20/ 179).
(2)
دكره أبى جرير في " جامع البيان "(13/ج30/ 289) عن الحسن
(3)
ذكره القرطي في "الجامع لأحكام القرآن"(20/ 179).
(4)
عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 179).
(5)
في "معاني القرآن وإعرابه"(5/ 360).
وقيل الأنبياء، وقيل السحاب، والأول أولى. وأقسم أيضًا بالعاصفات وهي الرياح الشديدة، وأقسم أيضًا بالناشرات وهي الرياح أيضا. وأقسم أيضًا بالفارقات وهي [3ب] الرياح. وقيل الملائكة. وأقسم أيضًا بالملقيات ذكرا وهي الملائكة، وأقسم أيضًا بالنازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات سبحا. فالسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا وهي الملائكة. والعطف مع اتحاد الكل. فتنزيل التغاير الوصف منزلة التغاير الدالي كما في قول الشاعر: إلى الملك الصرم وابن الهمام (1). هكذا لمحال الجمهور من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم. وقال السدي (2): النازعات هي النفوس حين تغرق في الصدور. وقال مجاهد (3): هي الموت ينزع النفس. وقال قتادة (4): هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، وبه قال الأخفش، وأبو عبيدة، وابن كيسان. وقال عطاء وعكرمة: هي القسي تنزع [4] بالسهام، وإغراق النازع في القوس أن يمده غاية المد حتى تنتهي إلى النصل. وقيل أراد بالنازعات الغزاة الرماة. وأقسم- سبحانه- بالنجم، وأقسم- سبحانه- بالسماوات ذات البروج، وباليوم الموعود، وهو يوم القيامة في قول جميع المفسرين، وبالشاهد والمشهود، والمراد بالشاهد من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق التي تحضر فيه والمراد بالمشهود ما يشاهد قي ذلك اليوم من العجائب. وقيل: المراد بالشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة. قال الواحدي (5): وهذا قول الأكثر. وحكى القشيري (6) عن ابن عمر، وابن الزبر أن الشاهد يوم الأضحى. وقال سعيد ابن (7) جبير: الشاهد يوم التروية، والمشهود يوم عرفة.
وقال النخعي (8): الشاهد يوم
(1) النظر:"الجامع لأحكام القرآن"ا (9/ 190).
(2)
ذكره ابن جرير في "جامع البيان"(15/ ح 28/ 30).
(3)
ذكره أبى جرير في "جامع البيان"(15/ج30/ 28).
(4)
انظر جامع البيان (15/ ج 30/ 29).
(5)
لم أعثر عليه؟!
(6)
عزاه إليه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (19/ 284).
(7)
ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(19/ 284).
(8)
ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(19/ 284).
عرفة، والمشهود يوم النحر. وقيل الشاهد هو الله- سبحانه-، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير لقوله:{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (1)، وقوله {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (2) وقيل الشاهد محمد- صلى الله عليه وآله وسلم لقوله:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (3) وقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (4) وقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (5) وقيل الشاهد جميع الأنبياء لقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} (6) وقيل هو عيسى بن مريم لقوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} (7) وقيل: الشاهد آدم، والمشهود ذريته. وقال محمد (8) بن كعب: الشاهد الإنسان كقوله: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (9) وقال مقاتل (10) أعضاؤه لقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النور:24 وقال الحسن (11) بن الفضل: الشاهد
(1) النساء79
(2)
الأنعام: 19
(3)
النساء:41
(4)
الأحزاب: 45
(5)
البقرة: 143
(6)
النساء:41
(7)
المائدة:117
(8)
ذكره القرطبى في " الجامع لأحكام القرآن "(19/ 285).
(9)
الإسراء: 14
(10)
ذكره القرطبى في "الجامع لأحكام القران"(19/ 285)
(11)
ذكره القرطبى في " الجامع لأحكام القرآن "(19/ 285).
هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم، لقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1) وقيل الشاهد الحفظة، والمشهود بنو آدم. وقيل الأيام والليالي. وقيل الشاهد الخلق يشهدون لله- عز وجل. ولا يخفاك أن إثبات الشهادة لشيء في الكتاب العزيز، أو في السنة المطهرة لا يدلا على أنه المراد في هذه الآية، فالأدلة التي ذكرها هؤلاء لا تصلح لما أرادوه (2). وقد ذكرت في فتح القدير (3) ما أورده هؤلاء المختلفون من الأدلة المروية. من طريق الصحابة عمن بصم، ثم تعقبت ذلك. مما تعقبته، ورجحت ما انهض دليله، فليرجع إليه، فليس هذا المقام مقام بسط الكلام على ذلك. وأقسم- سبحانه- بالسماء والطارق، ثم بين الطارق بقوله: وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب. وأقسم- سبحانه- بالفجر وهو الوقت المعروف. وقال قتادة (4): إنه فجر أول يوم من شهر محرم، لأنها تتفجر منه السنة، ولا وجه لهذا. وقال مجاهد (5): إنه يوم النحر. وقال الضحاك (6): فجر ذي الحجة، وقيل: المعنى وصلاة الفجر. وقيل: المعنى: ورب الفجر، ولا وجه لشيء من ذلك. والمراد القول الأول. وأقسم- سبحانه- بالليالي العشر، وهي عشر ذي الحجة في قول الجمهور وقال الضحاك (7): إنها العشر الأواخر من رمضان. وقيل: العشر الأول من المحرم، والراجح الأول. ولا وجه لشيء مما خالفه. وأقسم- سبحانه- بالشفع والوتر وهما كل شفع
(1) البقرة: 143
(2)
انظر جميع هذه الأقوال في الجامع لأحكام القرآن (19/ 284 - 286) و (15/ ج30/ 129 - 132)
(3)
(5/ 411)
(4)
عزاه إليه القرروني في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 38).
(5)
ذكره السيوطي في " الدر المنثور "(8/ 498).
(6)
عزاه إليه القرطبى في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 29).
(7)
عزاه إليه القرطبى في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 29).
من الأشياء المخلوقة، وكل وتر منها. وقال قتادة (1): الشفع والوتر شفع الصلاة ووترها. وقيل: الشفع يوم عرفة، ويوم النحر، والوتر ليلة يوم النحر. وقال مجاهد (2) وعطية العوفي: الشفع الخلق، والوتر الله- سبحانه-، وبه قال محمد بن سيرين (3)، ومسروق، وأبو صالح، وقتادة، وقال الربيع بن أنس (4)، وأبو العالية: هي صلاة المغرب، فيها ركعتان، والوتر الركعة. وقال الضحاك (5): الشفع عشر ذي الحجة، والوتر أيام منى الثلاثة، وبه قال عطاء. وقيل: هما آدم وحواء (6)، لأن آدم كان وترا فشفع بحواء. وقيل: الشفع درجات الجنة، وهي ثمان، والوتر درجات النار، وهي سبع، وبه قال الحسن بن الفضل وقيل: الشفع الصفا والمروة، والوتر الكعبة. وقال مقاتل: الشفع الأيام والليالي، [4ب] والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينة (7): الوتر هو الله- سبحانه-، وهو الشفع أيضًا لقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (8) الآية. وقال الحسن: المراد بالشفع والوتر العدد، لأن العدد لا يخلو عنهما. وقيل: الشفع مسجد مكة والمدينة، والوتر مسجد بيت المقدس. وقيل: الشفع حج القران، والوتر الأفراد. وقيل: الشفع الحيوان، لأنه ذكر وأنثى، والوتر الجماد. وقيل الشفع ما سمي، والوتر ما لم يسمم.
وقد تعقبت هذه الأقوال في فتح (9) القدير فقلت: ولا يخفاك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين، والضعف الظاهر، والاتكال في التعيين على مجرد الرأي الزائف، والخاطر
(1) عزاه إليه ابن جرير في " جامع البيان"(15/ ج 30/ 170)
(2)
عزاه إليه ابن جرير في "جامع البيان"(15/ ج30/ 171).
(3)
عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 40)
(4)
عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 40).
(5)
عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 40)
(6)
عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القران "(20/ 40) عن ابن عباس.
(7)
عزاه إليه القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 40)
(8)
المجادلة:70
(9)
(5/ 433)
الخاطئ. والذي ينبغي التعويل عليه ويتعين المصير إليه ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلام العرب، وهما معروفان واضحان، فالشفع عند العرب الزوج، والوتر الفرد، فالمراد بالآية إما نفس العدد، أو ما تصدق عليه من المعدودات بأنه شفع أو وتر. وإذا قام دليل يدلا على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية، فإن كان الدليل يدل على أنه المراد نفسه دون غيره فذاك، وإن كان الدليل يدل على أنه مما تناولته هذه الآية لم يكن ذلك مانعا من تناولها لغيره انتهى. وأقسم- سبحانه- في هذه السورة بالليل إذا أدبر، وأقسم- سبحانه- بالبلد بقوله:{لا أقسم بهذا البلد} (1)، فإن المعنى أقسم هذا البلد، لأن (لا) زائدة كما في قوله- سبحانه-:{لا أقسم يوم القيامة} (2) قال الواحدي: أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام، وهي مكة، وأقسم- سبحانه- بالوالد وما ولد، فقيل: الوالد آدم، وما ولد أي وما تناسل من ذريته. وقال أبو عمران (3) الجوني: الوالد إبراهيم، وما ولد ذريته. وقيل: الوالد إبراهيم، والولد إسماعيل ومحمد- صلى الله عليهما وسلم-. وقال عكرمة (4)، وسعيد بن جبير: ووالد يعني الذي يولد، وما ولد يعني العاقر الذي لا يولد له، وكأنما جعلا ما نافية، وهو بعيد، ولا يصح ذلك إلا بإهمال الموصول أي والذي وما ولد، ولا يجوز إضمار الموصول عند البصريين (5). وقال عطية العوني (6): هو عام في كلى والد ومولود من جميع الحيوانات، وهذا أقرب هذه الأقوال إلى الصواب، وقد اختاره ابن جرير (7). وأقسم- سبحانه صني سورة الشمس والشمس وضحاها، وبالقمر والنهار [5أ]،
(1) البلد: 1
(2)
القيامة:1
(3)
عزاه إليه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(20/ 61).
(4)
عزاه إليه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(20/ 61).
(5)
عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 62).
(6)
عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 62).
(7)
قي جامع البيان (15ج30/ 196)
والليل والسماء والأرض، والنفس وما سواها. وأقسم- سبحانه- في سورة الليل بالليل والنهار، والذكر والأنثى على قراءة ابن مسعود، فإنه قرأ والذكر والأنثى. وأقسم - سبحانه- في سورة الضحى بالضحى والليل. وأقسم- سبحانه- في سورة التين بالتين والزيتون. قال أكثر المفسرين (1): هو التين الذي يأكله الناس، والزيتون الذي يعصرون منه الزيت. وقال ابن زيد (2): التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس. وقال الضحاك (3): التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى. وقال قتادة (4): التين الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس. وقال عكرمة (5) وكعب (6) الأحبار: التين دمشق، والزيتون بيت المقدس. والمتعين الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا يفسر القران بغيره هو تفسير التين بالمعنى (7) العربي الواضح الجلي، وكذلك الزيتون، وهما معروفان في لغة العرب، لا يختلف في معناها. فالعدول عن هذا المعنى الظاهر الواضح بغير برهان ليس من دأب المشتغلين بتفسير كلام الله- سبحانه-. وقال محمد بن كعب (8): التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيليا. وقيل (9) أنه على حذف مضاف: أي ومنبات التين والزيتون. وأقسم- سبحانه- في هذه السورة بطور سينين، وهو الجبل الذي كفم الله عليه موسى.
(1) ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعى وعطاء، وجابر وزيد ومقاتل والكلبي. انظر:"جامع البيان "(15ج30/ 238)، " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 110).
(2)
عزاه إليه ابن جرير في "جامع البيان"(15/ج30/ 239).
(3)
عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 110).
(4)
عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 110).
(5)
عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 110).
(6)
عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 110).
(7)
قال ابن جرير في " جامع البيان "(5/ج30/ 245): والصواب من القول قي ذلك عندنا: التين: هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت لأن ذلك هو المعروف عند العرب
(8)
عزاه إليه القرطبي في "الجامع "(20/ 111).
(9)
عزاه إليه القرطبي في "الجامع "(20/ 111).
وقال مجاهد (1) والكلبي (2): سينين كل جبل فيه شجر مثمر. وقال الأخفش (3): طور جبل، وسينين شجر واحدته سينة.
إذا تقرر لك أنه- سبحانه- أقسم في كتابه العزيز هذه المخلوقات المتنوعة تقرر لك أن المراد بالعصر هو الدهر كما قررناه، ولا وجه لتقدير مضاف محذوف فيه، ولا في سائر ما أقسم الله- سبحانه- به من مخلوقاته، فإن الله- سبحانه- يقسم. مما شاء منها، ولم يأتنا دليل ولا شبهة دليل أنه لا يقسم إلا. ما له شرف وبما فيه فضيلة ممن حرف المعاني القرآنية الواردة على نمط لغة العرب، لأجل تحصيل شيء في المقسم به يصير به ذا شرف، فقد أخطأ خطأ بينا، وغلط غلطا واضحا، فإنه تلاعب بكتاب الله - سبحانه- لخيال مختل، وتعليل معتل، وتوهم فاسد، وفهم كاسد. فاعرف هذا، وليكن منك على ذكر، فكثيرا ما يقع لأهل العلم الوهم الباطل، ثم يبن عليه ما هو أبطل منه، وينقله عنه من يهاب الرد عليه، [5ب] فيحرر في كتب التفسير ونحوها من زائف الأقوال، وباطل الآراء ما يضحك منه تارة، ويبكى منه أخرى. والتقليد وإحسان الظن بالأموات هو السبب لكل غلط، والمنشأ لكل جهل، والحامل على ترويج كل باطل. فإن قلت: قد أخرج ابن جرير (4) عن ابن عباس أنه قال في تفسيره العصر المذكور في هذه السورة أنه ساعة من ساعات النهار. وأخرج ابن (5) المنذر عنه أيضًا أنه قال: إنه ما قبل مغيسب الشمس من العشي. قلت: قد أخرج (6) ابن المنذر عنه أيضًا أنه قال إنه الدهر فجمع اختلاف الرواية عنه يرجح ما وافق المعنى اللغوي، ويحمل ما خالفه على المجاز وقد كانت العرب تتجوز في لفظ العصر فيقولون مثلا: العصر الأول، والعصر
(1) انظر هذه الأقوال وغيرها في " الجامع لأحكام القرآن "
(2)
انظر هذه الأقوال وغيرها في " الجامع لأحكام القرآن "
(3)
انظر هذه الأقوال وغيرها في " الجامع لأحكام القرآن "
(4)
(15/ ج 30/ 289).
(5)
عزاه إليه السيوطي الدر المنثور (8/ 622)
(6)
عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور "(8/ 621).
الآخر، وعصر فلان، ولا مشاحة في ذلك. وقد اختلف القراء في قراءة هذه الكلمة فقرأ الجمهور (1): والعصر بسكون الصاد، وقرأ يحي بن سلام بكسر الصاد، وقرأ الجمهور (2) أيضًا خسر بضم الخاء وسكون السن، وقرأ الأعرج، وطلحة، وعيسى بضم الخاء والسين ورويت هذه القراءة عن عاصم (3). وأخرج الفريابي (4)، وأبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد (5)، وابن جرير (6)، وابن المنذر (7)، وابن الأنباري (8) في المصاحف عن على بن أبي طالب أنه كان يقرأ والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر. وأخرج عبد بن حميد (9) عن ابن مسعود أنه كان يقرأ والعصر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر.
إن الإنسان لفي خسر. هذا جواب القسم (10). والإنسان يعم كل فرد من أفراد هذا النوع، لتحليته باللام المفيدة لذلك، كما هو مقرر في علم المعاني والبيان، وهذا يندفع ما قيل أن المراد بالإنسان هنا الكافر، وما قيل أفم جماعة من الكفار، وهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، وإن كان هؤلاء وغيرهم من رؤساء الكفر، بل وسائر الكفار داخلون في عموم الإنسان دخولا أوليا، وكما يدل عموم الإنسان على الإحاطة واستغراق النوع، كذلك يدلا على ذلك الاستغناء معه. والمراد بالخسر هنا المعنى اللغوي. قال الأخفش (11): في خسر في ملكة .... ....
…
(1) انظر "الجامع لأحكام القرآن"(20/ 180).
(2)
انظر "الجامع لأحكام القرآن"(20/ 180).
(3)
قاله أبو حيان في تفسيره (8/ 509).
(4)
عزاه إليه السيوطط في " الدر المنثور "(8/ 621)
(5)
عزاه إليه السيوطط في " الدر المنثور "(8/ 621)
(6)
في "جامع البيان"(15/ج30/ 290).
(7)
عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 621)
(8)
عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 621)
(9)
عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 622)
(10)
ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 179)
(11)
ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(20/ 179)
وقال الفراء (1): في عقوبة. وقال ابن زيد (2): في شر. والخسران [6أ] النقصان وذهاب رأس المال. قيل والمعنى أن كل إنسان في المتاجر والمساعي، وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق حتى يموت. وقال في الصحاح (3): خمس في البيع خسرا وخسرانا، وهو مثل الفرق والفرقان، وخسرت الشيء بالفتح، وأخسرته نقصته. وقوله تعالى:{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} (4) واحدهم الأخسر مثل الأكثر، والتخسير الإهلاك، والخناسر الهلاك لا واحد له. قال كعب بن زهير:
إذا ما نتجنا أربعا عام كفأة
…
بغاها خناسيرا فأهلك أربعا
وفي بغاها ضمير من الجد هو الفاعل. يقول: إنه شقي بالجد إذا أنتجت أربع من إبله أربعة أولاد هلكت من إبله الكبار أربع غير هذه، فيكون أكر مما أهاب، والخسار والخسارة، والخيسري الضلال والهلاك انتهى. وقال في القاموس (5): خسر كفرح وضرب خسرا وخسرا وخسرا وخسرانا وخسارة وخسارا ضل فهو خاسر وخسير وخيسري. والتاجر وضع في تجارته، أو غبن، والخسر النقص كالإخسار والخسران، {إذا كرة خاسرة} (6) غير نافعة، والخيسري الضلال والهلاك، والغدر واللؤم كالخسار والخسارة، والخناسر والخناسير والخسرواني نوع من الثياب، وخسرويه بلدة بوسط، وخسره تخسيرا أهلكه، والخناسرة الضعاف من الناس، وأهل الخيانة، والخنسائر اللئيم، والخنسر والخنسري من هو في موضع الخسران، والخناسير أبوال الوعول على الكلأ والشجر وسلم بن عمرو الخاسر، لأنه باع مصحفا واشترى
(1) قي "معاني القرآن"(3/ 289)
(2)
عزاه إليه القرطي في "الجامع"(20/ 180).
(3)
(2/ 645)
(4)
الكهف: 103
(5)
(ص 491 - 492).
(6)
النازعات:12
بثمنه ديوان شعر، أو لأنه حصلت له أموال فبذرها انتهى.
أقول: والمناسب للمقام أن يكون الخسر الهلاك للإنسان المذكور لعدم استقامته على الدين، وليس المراد الهلاك الدنيوي بالقتل أو نحوه، بل المراد الهلاك الديني الموجب لمصيره إلى النار، كما يفيد ذلك استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأيضا المقام مقام الترهيب للعصاة، والترغيب لأهل الإيمان والطاعات، ومجموع ذلك يفيد أن تفسير الخسر بذهاب الدين الموجب للشقاوة الأبدية، وهذا أولى من تفسير الخسر بالنقص، لأن مقام الترهيب والتشديد [6ب] والمبالغة في الوعيد يقتضي الخسران التام، وهو ذهاب الدين بالمرة، المستلزم لهلاك صاحبه، لا نقصه وذهاب بعضه، وبقاء بعض. ولا يخفى أن هذه الجملة القسمية قد اشتملت على مؤكدات منها القسم، ومنها تصوية جواب القسم بحرف التشبيه، وله مدخلية في تأكيد ما دخل عليه من الكلام، ثم المجيء بالجملة الأسمية، فإنها تدل على الدوام والثبات، ثم تحلية الإنسان باللام (1) الإستغراقية المفيدة للعموم، ثم اللام في قوله {لفي خسر} ، ثم أبرء في الدالة على أن الخسر قد صار ظرفا له فكأنه منغمس فيه، وهو مشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف، فقد اشتمل هذا الكلام على جميع المؤكدات التي ذكرها أهل البيان. وكل ذلك يفيد أن لزوم هذا الخسر للإنسان ثابت لا محالة، وأنه لا ينفك عنه بحال من الأحوال، ولا يفارقه بوجه من الوجوه إلا إذا تخلص عنه مما تضمنه الاستثناء (2)، فإنه يخرج به من الظلمة إلى النور، ومن الضيق إلى السعة، ومن الهلاك إلى السلامة، ومن العذاب إلى النعيم، ومن أفار إلى الجشة. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الموصول من صيغ (3) العموم كما
(1) انظر البحر الميحط (3/ 99).
(2)
انظر: إعراب القرآن وبيانه " محيى الدين الدرويش (10/ 572). الدر المصون (11/ 101)
(3)
تقدم ذكر ذلك
تقرر في علم البيان والأصول، فيشتمل كل من حصل له وصف الإيمان وقد اختلف الناس في تفسير الإيمان أصلا فأكثروا وأطالوا في ذلك، وتنوعت كلماتهم، واختلفت رسومهم. والذي ينبغي الاعتماد عليه، والمصير إليه هو ما ثبت عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه واله وسلم- في تفسيره وبيان معناه كما في الصحيحين (1) وغيرهما (2)، فإنه لما سأله السائل عن الإيمان قال:" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والقمر خيره وشره ".، وعند هذا البيان النبوي، والتفسير المصطفي يستغنى عن تلك الحدود التي، والرسوم التي اصطلحوا عليها. وإذا جاء فر الله بطل فر معقل. والمراد هنا هو الإيمان الشرعي، لأن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها كما تقرر في علم الأصول، وهو في الشرع التصديق عن كمال اعتقاد، بحيث لا يشوبه شك، ولا حتى شبهة. ولو لم يكن على هذه الصفة لم يكن تصديقا صحيحا، والمراد من التصديق بالله - سبحانه- أن تصدق بوجوده، وأنه الإله الخالق الرازق، المحيى المميت، الحط الدائم، الأحد الصمد، الذي يشاركه مشارك، بل هو المتفرد بالربوبية، والكل من هذا العالم عباده، وتحت حكمه، يصنع فيهم [7أ] ما يشاء، ويحكم ما يريد، ما شماء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وتصدق بوجود ملائكته على الصفة التي وردت في الكتاب والصنة، وتصدق بأن الله أنزل كتبه على رسله ليبينوا لهم ما شرعه لهم من الشرائع، وأن هذه الكتب التي جاء ها الرسل- صلوات الله عليهم وسلامه- هي من عند الله- عز وجل، وأنها كلها حق وصدق وشرع وإن خالف بعضها بعضا، فإن ذلك إنما هو لرعاية مصالح العباد بحسب اختلاف الأوقات والأحوال والأشخاص، وتصدق أيضًا بأن الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده هم رسله حقا، وأنه
(1) أخرجه البخاري رقم (4777) ومسلم رقم (8)
(2)
كأحمد (1/ 28،51،52) وأبو داود رقم (4695) وابن ماجه رقم (63) والنسائي (8/ 97 - 151) والترمذي رقم (2610). كلهم من حديث عمر رضي الله عنه
أمرهم بإرشاد العباد إلى ما شرعه لهم من الشرائع، وبينه لهم من المصالح الدينية والدنيوية، لطفا هم، وتوفيقا لهم، وإقامة للحجة عليهم، لئلا يقولوا ما جاءنا من رسول، ولله الحجة البالغة. وتصدق بالقدر خيره وشره، أي بأن ما كان أو سيكون من كبير وصغير، وجليل وحقير، وخير وشر، ونفع وضر هو بتقدير الله- سبحانه- وقضائه، ما شاء كان، وما لم يشاء لم يكن. ليس للعبد في ذلك عمل، ولا له تصرف في نفسه، ولا في غيره، ولا في جليل أموره، ولا في حقيرها، ولا في صغيرها، ولا في كبيرها. بل قدر الله وما شاء فعل.
واعلم أن الإيمان بالقدر هو العقبة الكون لم الصعب، فإنه إذا صح للعبد الإيمان به كما ينبغي لم يأسف على فائت كائنا ما كان، لأنه يعلم أن ذلك هو من جهة خالقة ورازقه، ومن هو أرأف به من أبويه، وأحنا عليه من نفسه. ولكن هذه النفوس البشرية المجبولة (1) على السرور بالخير، والنفور عن الشر، فإذا دهمها شيء مما تكره اضطرتجا له، ونفرت عنه، وضاو ذرعها به، وطال همها، وكثر غمها، وذلك جبفة خلقية-، وطبيعة بشرية، فيكون بذلك تكدر العيش، وضيق العطن، ولشوش الحال، ولكنه إذا راجع نفسه وتغفل ما أمر به من الإيمان بالقدر، وأن ذلك من عند الله- عز وجل هان الخطب، وقل الكرب، وذهب الغم، وارتفع الهم. وما أحسن ما قاله إبراهيم الحربي- رحمه الله: من لم يمش مع القدر (1) لم يتهن بعيشه، وهاهنا باب يدخل منه من كربه أمر، ومسه خطب يلجأ منه إلى حصن حصين ينجو به من كل شيء يخافه ويحذره، وهو الدعاء (2) فإنه الترياف النافع، والمرهم الشافي. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه .... .... .... .....
(1) تقدم ذلك في المجلد الأول. وانظر: " شرح العقيدة الطحاوبة "(2/ 358 - 360)
(2)
تقدم " فضل الدعاء " في المجلد الأول.
يرد القضاء (1)، وأنها يحتجان (2)[7ب]، وثبت في الأحاديث الصحيحة الاستعاذة من شر القضاء كما في صحيح مسلم (3) وغيره، وثبت في حديث الحسن (4) بن على رضي الله عنهما في القنوت الذي علمه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقني شر ما قضيت. واعلم أنه قد اشتغل كثير من الناس بالسؤال عن سر القدر، واستشكال مباحث من مباحثه، ولوازم من لوازمه، وهؤلاء مع كوهم قد خالفوا ما وردت به السنة المطهرة من النهى عن البحث عن سر القدر، والاشتغال. مما تخيله الأذهان، وتزيرلنه الأوهام لم يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمره الله- سبحانه- بأن يبين للناس ما نزل إليهم، فإنه- صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن ذلك طوى بساط التفصيل والتطويل، والإطناب والتعليل، واكتفى بقوله:" اعملوا وكل أمرء ميسر لما خلق له"(5).
(1) أخرجه الترمذي رقم (2139) والحاكم (1/ 493) والطبراني في الكبير قم (1442) من حديث سلمان مرفوعًا بلفظ:" لا يرد القضاء إلا الدعاء
…
".
وهو حديث حسن.
(2)
أخرج الطبراني قي الأوسط رقم (2418). وأورده الهيتمى في المجمع (146110) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والبزار بنحوه وفيه زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي حذر من قدر، والد على ينفع نزل و" لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتل عان إلى يوم القيامة. " وهو حديث ضعيف.
(3)
رقم (2707) من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشيء وسوء القضاء وشماتة الأعداء "
(4)
أخرجه أبو داود رقم (1425) والترمذي رقم (464) والنسائي (3/ 248).
وابن ماجه رقم (1095) وأحمد (1/ 199) والبيهقي (12 498) وهو حديث صحيح.
(5)
أخرجه البخاري رقم (1362) و (4945) و (4946) و (4947) ومسلم رقم (2647) وأبو داود رقم (4694) والترمذي رقم (2136 و3344) وغيرهم من حديث علي بن أبي طالب.
واعلم أن هذا الاستثناء (1) الواقع في الآية متصل عند كل من حمل المستثني منه على العموم، وهو الحق. وأما من قال أن المراد به جنس الكفار، أو كفار معينين فهو يجعله منقطعا، والتقدير: ولكن الذين ا منوا وعملوا الصالحات.
فإن قلت: ظاهر ما في هذه الآية من العموم شمولها لأهل الفترة الذين لم يبلغهم شيء من شرائع الله- سبحانه-، لأنهم ماتوا ولم يؤمنوا ولا عملوا الصالحات. قلت: هؤلاء وإن دخلوا في عموم الإنسان فقد خرجوا بالعفو عنهم لجهلهم بالشرائع، وعدم تمكنهم من طلبها، ولهذا يقول الله- سبحانه-:{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (2).
فإن قلت: الأنبياء- صلوات الله عليهم وسلامه- منزهون عن أن ينالهم خسر لما ثبت لهم من العصمة قبل النبوة وبعده. قلت: هم أعلى طبقات العالم، وأكرم جنى بني ادم، وقدوة أهل الإيمان، وأسوة الصالحين، فكما أن أهل الإيمان خارجون من الخسر بإيمانهم فأنبياء الله خارجون عنه باصطفاء الله لهم، مع كون أيمانهم أكمل أيمان، وإيقانهم أشرف إيقان، وإنما يرد هذا السؤال لو كان المستثنى داخلا فيما أسند إلى المستثنى منه، مشاركا له فيما نسب إليه، وليس الأمر كذلك، فإنه إنما شاركه في كونه من أفراده ومن جملة ما يصدق عليه باعتبار العموم لا باعتبار ما نسب إليه، ولهذا قدر الاستثناء أئمة النحو والأصول والبيان بأن معنى جاءني القوم إلا زيدا: القوم المخرج منهم زيد جاءني. وهكذا سائر التراكيب الاستثنائية، فالتقدير فيما نحن بصدده: الإنسان المخرج منه [8ب] الذين آمنوا وعملوا الصالحات في خسر.
فإن قلت: قد ذكرنا أن لله- سبحانه- أن يقسم. مما شاء من مخلوقاته، فهل ثم نكتة في تخصيص الأقسام بالعصر في هذه السورة؟ قلت: دكن أن تكون النكتة أن
(1) انظر " فتح القدير "(5/ 459 - 496).
(2)
الإسراء:15
العصر الذي هو الدهر لما كان كثير من الغافلين ينسبون ما ينابهم من السعادة والشقاوة إليه أقسم الله به بلزوم الخسر لهم، وأنهم في خسر لا يتخلصون عنه إلا. مما تضمنه الاستتناء، ومع ذلك فقد ثبت في الصحيح (1):" لا تسبوا الدهر؟ فإن الله هو الدهر ". وفي هذا مخصص للأقسام به ظاهر في فاتحة هذه السورة المشتملة على التهديد ومزيد الوعيد.
فإن قلت هل من نكتة في ذكر الإنسان في هذه الآية مع إمكان أن يؤتى مكانه بالناس أو ما يفيد مفاده؟ قلت يمكن أن يقال: إن هذا اللفظ- أعني الإنسان- خاص هذا النوع لا يتناول غيره، ولا يشاركه فيه سواه، بخلاف لفظ الناس، فإنه كما في كتب اللغة (2) يطلق على الجن كما يطلق على الإنس، وعلى ناس الإبل وهو ساقها.
فإن قلت: هل من نكتة في ذكر الخسر دون الهلاك، أو الشقاء، أو العذاب، أو ما يؤدي هذا المعنى؟ قلت: يمن أن يقال أن النكتة في ذكره دلالته على تلك المعاني المتنوعة من الهلاك والنقص، وسائر ما ذكرناه هنالك، فإن ذلك قد يكون أنصب بأحوال الأشخاص المختلفين في إهمال الشريعة بأسرها وهم الكفار، وفي النقص منها وهم العصاة من هذه الأمة، وهذا لا ينافي ما رجحناه فيما تقدم من حملة على الهلاك. فإن قلت: ما وجه المجيء بالموصول في قوله: {إلا الذين آمنوا} وهلا اكتفى. مما هو أخصر فقال: إلا المؤمنين؟ قلت: أبرء بالموصول فيه فوائد ذكرها أهل المعاني، ولو لم يكن منها إلا الدلالة على التعظيم لشأنه، وما أحق المؤمنين بذاك!. وقد دل العطف بقوله:{وعملوا الصالحات} على أول لا بد من .... .... .... .....
(1) أخرجه مسلم رقم (5/ 2246) وأحمد (4/ 496) من حديث أبي هريرة. وأورده الهيثمي في المجمع (8/ 71) وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وهو حديث صحيح.
(2)
لسان العرب (1/ 233).
الجمع (1) بين الإيمان وبين العمل، وأنه لا يكفي مجرد الإيمان. والمراد بالصالحات الأعمال الصالحة، وأهمها وأقدمها ما يجب على الإنسان القيام به، ومن ذلك أركان الإسلام الخمسة: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. ثم ترك ما حرمه الله عليه، فإن الكف! عن ذلك عمل صاع يمدح التارك له على تركه، ويذم الفاعل له على فعله. ثم يفعل من أعمال إني ما بلغت إليه قدرته على حسب الحال، ومن زاد الله في حسناته. والحاصل أن الإيمان بالواجبات واجتناب المحرمات متحتم على كل مكلف، فهو لا يخرج من الخسر المذكور قي الآية إلا. مجموع الإيمان، والقيام بذلك على التمام [8ب] وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي- صلى الله عليه واله وسلم- قال لمن سأله عن الإسلام: " أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة،
(1) قال ابن تيمية في كتاب الإيمان ص 213: قال خيثمة بن عبد الرحمن: الإيمان يسمن في الخصب، ويهزل في الجدب، فخصبه العمل الصالح، وجدبه الذنوب والمعاصي.
وقيل لبعض السلف: يزداد الإيمان وينقص؟ قال: نعم، يزداد حتى يصير أمثال الجبال، وينقص حتى يصير أمثال الهباء "
قال النووي في " شرحه لصحيح مسلم "(1/ 217): واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف، أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال، فإن كان سالما من المعاصي كالصغير والمجنون، والذي اتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي، إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذي لم يئل. معصيا أصلا، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أصلا، لكنهم يردوا، على الخلاف المعروف في الورود، والصحيح أن المراد به: المرور على الصراط، وهو منصوب على ظهر جهنم، أعاذنا الله منها، ومن سائر المكروه، وأما من كانت له معصية ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى. إن شاء تعالى عفا عنه، وأدخله الجنة أولا وجعله كالقسم الأول. وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى، ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما إنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل.
وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت" (1). وثبت في الكتاب (2) والسنة (3) الأمر لكل واحد من هذه الأركان على الخصوص، وثبت في الكتاب والسنة الأمر بواجبات، والنهى (4) البقرة:278 (5) عن محرمات، فلا ينجو من الخسر المذكور في الآية إلا من قام بذلك على الحد الذي أمره الله به، وفاه عنه. فهذه هي الصالحات التي أمر الله- سبحانه- بعملها، جعلها مجموع الإيمان. والعمل هذه الأمور هو الذي يخرج به الإنسان عن الخسر الذي هو ختم في رقاب العباد بالقسم الرباني والحكم الإلهي. فإن قلت: إن كان هذا التعريف (6) في الصالحات للاستغراق، والمراد أن كل فرد عمل كل الصالحات، فهذا مما
(1) أخرجه البخاري رقم (8) ومسلم رقم (16) من حديث ابن عمر.
(2)
قال سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} البقرة:283.
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} البقرة:183.
(3)
(منها) ما أخرجه البخاري رقم (2448) ومسلم رقم (19) من حديث ابن عباس أن معاذ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنك تأين قوما من أهل الكل ب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك. فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة بان هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ".
(4)
(منها) ما أخرجه البخاري رقم (6065) ومسلم رقم (2559) عن أنس رضي الله عنه قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا.
(منها) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}
(5)
(ومنها) ما أخرجه مسلم في صحيحة رقم (1597) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله ".
(6)
انظر: البحر المحيط (3/ 86 - 87).
لا يدخل تحت قدرة البشر، فإن الصالحات لا يمكن الإحاطة ها فضلا عن أن يمكن فعل كل واحدة منها. قلت: هذا التحريف (1) يمكن أن يراد به العهد (2)، فتكون الصالحات هي المعهود التي يتحتم القيام ها كما قدمنا، وقد قال المحقق الرضي في شرح الكافي: إن التعريف العهدي هو الأصل في أقسام التعريف المذكورة في علم النحو والمعاني، والحكم بأصالته يقتض تقديم الحمل عليه، ويمكن أن تكون للجن!، وذلك لا يستلزم الإحاطة بكل أفراد الصالحات، بل يدخل فيها ما يتحتم القيام به دخولا أوليا، ثم يكون ما عدا ذلك على حكمه الذي يتصف به من كونه مسنونا أو مندوبا أو نحو ذلك، فيفعل العبد منها ما يشاء أن يؤجر عليه، ويكثر به ثوابه وتتعاظم به حسناته.
واعلم أن هذا النظم القرآني قد دل أكمل دلالة على أن الإيمان الذي هو التصديق لابد أن ينضم إليه العمل كما هو المذهب الحق، وفيه أوضح رد، وأكمل فح لقول من يقول أنه لا يلزم ضم العمل إلي الإيمان كما يذهب إليه بعض المرجئة (3).
واعلم أنها تتفاوت أقدام المؤمنين في التصديق، فقد يكون إيمان الرجل ثابتا كالجبال الرواسي بحيث لا يتزلزل لشبهة، ولا يتقهقر لشك ولا تشكيك، وقد يكون دون ذلك. ولهذا قال الجمهور (4): إن الإيمان يزيد وينقص، وهو الحق، وذلك مما يعلمه كل عاقل، ولا سيما الإيمان بالقدر، فإن بعض أفراد العباد قد يمنحه الله- سبحانه-[9أ]
(1) سبق التعليق عليها
(2)
انظر تفصيل دلك في البحر المحيط (3/ 89).
(3)
تقدم التعريف بها
(4)
انظر الفتح (1/ 40)
من الإيمان بقدره ما يثلج به قلبه، وتقر به عينه، ويطمئن إليه خاطره، فيخرج عن مضيق الهموم والغموم والحسرات والكربات إلى متسع التسليم والرضا. مما يجري به القضاء. اللهم ارزقنا الإيمان بقدرك على الوجه الذي تريده منا مع حلول ألطافك الخفية علينا، ووصول توفيقاتك المباركة إلينا. يا من بيده في كله، دقه وجله، وكما تختلف أحوال الإيمان باختلاف الأحوال والأشخاص كذلك يختلف عمل الصالحات باختلاف الأحوال والأشخاص، فالعمل مع الخلوص والتينزه عن شوائب الرياء، والبعد من آفات الغفلة يتضاعف ويكثر ثوابه، ويعظم أجره بخلاف ما لم يكن على هذه الصفة. والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية منادية بذلك بأعلى صوت، ففي بعضها التصريح بأن فاعل ذلك العمل يوفي أجره بغير حساب (1)، وفي بعضها إلى سبع مائه ضعف (2)، وفي بعضها إلى أكثر من ذلك (3)، وفي بعضها أن الحسنة بعشرة أمثالها (4)، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فإن قلت: قوله: {وعملوا} يدل على أنه يوفى عمل الصالحات مرة واحدة، لأن الفعل من باب المطلق، فيصدق معناه بالمرة الواحدة، وليس في الصنعة ما يدل على التكرار، وأكثر الأعمال الصالحة التي تحتم على الإنسان واجبة على جهة التكرار، بحيث
(1) سها قوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} الزمر:10.
(2)
للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثاها إلى سبعمائة ضعف "
(3)
أخرج البخاري في صحيحة رقم (1904) ومسلم رقم (163/ 1151) وأبو داود رقم (2363) والترمذي رقم (764) والنسائي (4/ 162 - 163) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به ".
(4)
أخرج الترمذي في السنن رقم (2912) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: (ألم) حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف
إنه إذا أخل بشيء منها لم يخرج من الخسران. قلت: الأمر كما ذكرت، ولكن الأدلة من الكتاب والسنة قد دلت على وجوب تكرار ما هو متكرر، والإجماع قائم على ذلك. وهكذا قوله:{الذين آمنوا} فإنه إنما يدل على مجرد وقوع الإيمان، وهو التصديق، وليس فيه ما يدل على وجوب الثبوت عليه، والاستمرار على معناه. ولكن الأدلة الصحيحة قد دلت على ذلك دلالة واضحة ظاهرة، فلا يكون مؤمنا إلا إذا دام على التصديق بتلك الأمور حتى يتوفاه الله (1) عز وجل.
(1) وهو رد على الذين يقولون بأن الإسلام فترة زمنية محددة.
وانتهت بنهاية الجيل الأول الذي طلبت منه هذه التكاليف الربانية ولذا فنحن لسنا ملزمين هذا المنهج قي كل زمان ومكان.
وهذا الكلام من تضليل المضللين، والمحاربين لهذا الدين والحاقدين على هذه الشريحة الربانية تحت شعارات: الحضارة والتقدم، والمعاصرة، والارتقاء والتطور، ومعايشة المستجدات وما إلى ذلك من الكلام الحق الذي يراد به باطل. وللرد عليهم نقول:
1/ إن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية أنواع، ففيها المطلق وفيها المقيد والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول، فهي ليست على سوية واحدة في معرفة الحكم الشرعي.
2/أجمع العلماء على وجوب تكرار ما هو متكرر في كل زمان ومكان، من يوم ما أوص ها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
…
فالصلاة مطلوب تكرارها، ولا يقول إلا جاهل هذه الشريعة ونصوصها بأنها واجبة مرة واحدة، أو كانت واجبة على الجيل الأول فقط .. وقل مثل ذلك على سائر الواجبات والأوامر والنواهي رما إلى ذلك. والمسلمون في كل زمان ومكان على هذه العقيدة يخالف أحد منهم ولو على سبيل الشذوذ.
3/ لذلك فإن علماء الأصول أصلوا وفرعوا في هذه المسائل، حتى يكون الناس على بينة في هذا الأمر، فقالوا مثلا: الواجب هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا لازما، بأن اقترن طلبه. مما يدل على لزوم فعله، أر وهو ما طلب الشارع فعله على وجه الإلزام، سواء أكان ذلك مستفادا من صيغة الطلب نفسها أم من قرينة خارجية.
وقسموا الواجب من جهة وقت أدائه إلى: واجب مطلق، واجب مؤقت وقسموه من جهة المطالبة بأدائه إلى: واجب عين، واجب كفائي
كما قسموا الواجب من جهة المقدار المطلوب إلى: واجب محدد، واجب غير محدد.
كما قسموا الواجب من جهة تعيين المطلوب إلى: واجب معين، واجب غير معين.
وقل مثل ذلك في سائر الأحكام.
إذن المسألة ليست لعبا ولا عبثا، ولا جاءت من هوى بعض الناس، أو رغبات وشهوات بعض الفلاسفة أو المنكرين، إنما المسألة هنا مسألة وحى والتزام بأوامر الله وإتباع لمنهجه القويم.
انظر: مدخل إرشاد الأمة إلى فقه الكتاب والسنة " (ص 241) 0 المسألة: الحكم التكليف وأقسامه. تأليف: محمد صبحي حسن حلاق.
فإن قلت: هل بين هذا التركيب المذكور في هذه الآية وبن قوله- سبحانه- في سورة التين {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (1) تقارب ولو من بعض الوجوه؟ قلت: نعم، ولكن على أحد التفسيرين، وهو أن المراد بقوله:{رددناه أسفل سافلين} أنه رد الإنسان إلى أسفل دركات النار (2){إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [9ب] ناجون من ذلك، فائزون بأجر غير ممنون. ولا ينافي كون جنس العصاة من الكفار وغيرهم أسفل سافلين ما ورد في المنافقين بأنهم في الدرك الأسفل من النار، فلا مانع من كون الكفار والمنافقين والعصاة مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل، ويكون قوله:{أسفل سافلين} إما حال المفعول (3) أي رددناه حال كونه أسفل سافلين، أو صفة لمقدر محذوف أي مكانا أسفل سافلين، ويكون في سورة التين زيادة ليست في سورة العصر، وهي أن لهم أجرا غير ممضون، وفي سورة العصر زيادة ليست في سورة التين، وهى التواصي بالحق والتواصي بالصبر. وقد روي مثل هذا. . . . . .
(1) التين:5 - 6.
(2)
عزاه ابن جرير في " جامع البيان "(15/ ج30/ 245) لمجاهد وقتادة وابن زيد.
(3)
انظر " الدر المصون في علوم الكتاب المكنون "(11/ 52).
التفسير (1) عن مجاهد، وأبي العالية، والحسن، بل روى ما يفيد ذلك الخطيب (2)، وابن عساكر (3) عن الزهري، عن أنس عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أن المراد بقوله
(1) قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "
(20/ 113 - 115): قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} وفيه مسألتان:
الأولى: وقد ذكرها الشوكاني آنفا.
أما الثانية: قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ، أي إلى أرذل العمر وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، حتى يصير كالصبي في الحال الأول. قاله الضحاك والكلبي وغيرهما.
وروى أبي نجيح عن مجاهد: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إلى النار، يعني الكافر وقاله أبو العالية.
وقيل: لما وصفه الله بتلك الصفات الجليلة التي ربما الإنسان عليها، طفي وعلا حتى قال:{أنا ربكم الأعلى} وحين علم الله هذا من عبده، وقضاؤه صادر من عنده. رده أسفل سافلين، بأن جعله مملوعا قذرا، مشحونا نجاسة وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا، على وجه الاختيار تارة، وعلى رجه الغلبة أخرى، حتى إذا شاهد ذلك من أمره رجع إلى قدره.
وقرأ عبد الله بن مسعود {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} وقال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} على الجمع، لأن الإنسان في معنى جمع، ولو قال: أسفل سافل جاز، لأن لفظ الإنسان واحد. وتقول: هذا أفضل قائم. ولا تقول أفضل قائمين، لأنك تضمر لواحد، فإن كاد الواحد غير مضمر له، رجع احمه بالتوحيد والجمع، كقوله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]
وقوله تعالى: {إِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 48] وقد قيل: إن معنى {رددنه أسفل سافلين} ، أي رددناه إلى الضلال، كما قال تعالى:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي إلا هؤلاء فلا يردون إلى ذلك. والاستثناء على قول من قال {أسفل سافلين} ، النار، متصل ومن قال: إنه الهرم فهو نقطع.
(2)
ذكره السيوطي في " الدر المنثور
(3)
ذكره السيوطي في " الدر المنثور
{ثم رددنه أسفل سافلين} عبدة الأوثان من اللات والعزى، والمراد بقوله:{إلا الذين آمنوا} أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. ولكن في إسناد هذا الحديث مجهول، فلا تقوم به حجة. وأما على تفسير الجمهور فلا، وهو الظاهر الذي يدلا عليه قوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أي في أحسن شكل وتعديل {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي إلى أرذل العمر وهو الهرم (1) والضعف بعد الشباب والقوة. ولابد على هذا التفسير من حمل الاستثناء على الانقطاع، أي لكن الذين امنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون، ووجه ذلك أن الهرم والرد إلى أرذل العمر يصاب به المؤمن كما يصاب به الكافر، فلا يكون الاستثناء متصلا، ففي التفسير الأول مرجح، وهو حمل الاستثناء على الاتصال الذي هو أصله، وللتفسير الثاني الذي هو تفسير الجمهور مرجح وهو قوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فإن قلت: هل يمكن حمل الاستثناء على الاتصال على ما يطابق تفسير الجمهور؟ قلت: يمكن أن يقال أن الرد إلى أسفل سافلين هو الرد إلى حال ذهاب العقل وسقوط القوى، وذهاب الحواس على وجه شديد بالغ إلى الغاية، والغالب صيانة صالح العباد عن مثل ذلك، واللطف هم عن البلوغ إلى هذه الغاية، فيكون الاستثناء على هذا متصلا، ويكون باعتبار الغالب، وذلك مشاهد محسوس عناية من الله- عز وجل بأهل الصلاح التام، والهدى القويم. وقد ورد ما يدل على أن المراد في هذه الآية هو التفسير الذي ذهب إليه الجمهور، فأخرج ابن جرير (2)، وابن أبي حاتم (3)، وابن مردويه (4) عن ابن عباس في قوله:{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} يقول: يرد
(1) عزاه ابن جريري "جامع البيان"(15/ ج30/ 244).
(2)
في جامع البيان (15/ ج30/ 244).
(3)
في تفسيره (10/ 3448 رقم 19409).
(4)
عزاه إليه السيوطى في " الدر المنثور "(8/ 558).
إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله هم نفر كانوا على عهد رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم- حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم. وأخرج سعيد بن منصور (1)، وعبد بن حميد (2)، وابن جرير (3)، وابن المنذر (4)، وابن أبي حاتم (5) قال: في أعدل خلق، ثم رددناه أسفل سافلين يقول: إلى أرذل العمر إلا الذين امنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون، يعني غير منقوص. يقول: إذا بلغ المؤمن أرذل العمر، وكان يعمل في شبابه عملا صالحا كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه، ولم يضره ما عمل في كبره، ولم تكتب عليه الخطايا التي تعمل بعدما يبلغ أرذل العمر. وأخرج أحمد (6)، والبخاري (7)، وغيرهما عن أبي موسى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا مرر العبد أو سافر كتب اله له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحا مقيما ".
ويدل على التفسير الذي ذكرناه وجعلناه ثالثا للتفسيرين ما أخرجه الحاكم (8) وصححه، والبيهقي في الشعب (9) عن ابن عباس قال:" من قرأ القران لم يرد إلى أرذل العمر، وذلك قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: " لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئا ".
(1) عزاه إلي السيوطي في " الدر المنثور "(8/ 556).
(2)
عزاه إلي السيوطي في " الدر المنثور "(8/ 556).
(3)
في "جامع البيان"(115 ج 3/ 246).
(4)
عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور "(8/ 556).
(5)
عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور "(8/ 556).
(6)
في المسند (4/ 410).
(7)
في صحيحة رقم (2996)
(8)
قي المستدرك (2/ 528 - 529) وصححه ووافقه الذهبي
(9)
في الشعب رقم (2076).
فإن قلت: قد تكلمت على مفردات هذه الآية، أعني قوله- سبحانه- {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ولم تتكلم على مجموعها من حيث محلها، والعرض الذي سيقت له؟ قلت: هي مبتدأة قسمية إنشائية لا محل لها (1) من الإعراب.
وأما العرض الذي سيقت له فهو ترهيب عباد الله- سبحانه- عن معاصيه، وإهمال م! ا أوجبه على عباده من الإيمان، والعمل، وترغيبهم بالإيمان وعمل الصالحات، وإن ذلك هو الذي يكون به خروجهم من ظلمات الخسر إلى أنوار الإيمان والطاعة، فمن ألقى السمع وهو شهيد [10ب] إلى هذا الوعد والوعيد، والترغيب والتهديد جذبه ذلك إلى خير البداية والنهاية، ونعم الدنيا والآخرة، ونجا من دركات الخسران، ووصل إلى درجات الجنان. ومعلوم أن العقلاء من هذا النوع الإنساني يطلبون الوصول إلى النعيم الأبدي، والعيش الذي لا ينقطع ولا يغني، لأن نعيم الدنيا وإن بلغ في الحسن والرفاهة إلى أرفع الرتب، وأعلى المنازل فهو مكدر بأنه زائل ذاهب، والانتقال عنه قريب وإن ظنه من طاوع كواذب الآمال بعيدا، وكل عاقل يعلم أن كل نعيم يزول، وكل نعمة تذهب، فيكون حزنها أكثر من سرورها، وغمها أعظم من الفرح لها. وقد أحسن المتنبي (2) حيث يقول:
أشد الغم عندي في سرور
…
تيقن عنه صاحبه انتقالا
(1) الواو حرف قسم وجر، والعصر مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وجملة إن الإنسان .... جواب القسم لا محل لها، وإن واحمها واللام المزحلقة وقي خمس خبر إن.
وانظر: إعراب القرآن الكريم وبيانه محي الدين الدرويش (10/ 572 - 573).
(2)
في ديوانه (3/ 224).
وقال أبو البقاء: المعنى يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورا ومكانة، لعلمه أنه زائل عنها.
يقول: السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه هو أشد الغم، لأنه يراعي وقت زواله، ولا يطيب له ذلك السرور.
والآمال بأسرها وإن طالت ذيولها، وبعدت مراميها فآخرها التقضي والذهاب، ولهذا أقول:
لا يغرنك طول عمر فإن الحبل
…
يطوى من ساعة الميلاد
لوله: وتواصوا بالحق. يقال: أوصاه ووصاه بوصية عهد إليه. ومعنى التواصي أنه أوصى به أولهم آخرهم، وهذا ذاك، وذاك هذا. هذا هو المعنى اللغوي. والصيغة تدل على الاشتراك في أصل الفعل كما هو مقرر في علوم اللغة العربية، والحق في الشرع واللغة ضد الباطل، وأصله الثبوت من حق الشيء إذا ثبت، والمحق- المبطل، والمراد هنا أنه وصى بعضهم بعضا. مما يحق القيام به، فيدخل التواصي بالإيمان وبالقيام بأركان الإسلام دخولا أوليا. ومن أهم أنواع التواصي بالحق أن يتواصوا بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ومن أهمها أيضًا أن يتواصوا ببيان ما يعرف بعضهم من بعض أنه مرتكب له واقع فيه من المعاصي والمكروهات، وما يخالف ما يرضاه الله- سبحانه- ويحبه من الأخلاق الصالحة والشمائل المرضية فيما بينهم وبين ربهم، وفيما بينهم أنفسهم. ومن أعظم ما ينبغي [11أ] التواصي به حفظ اللسان من الغيبة والنميمة والسخرية والتينابز بالألقاب، فإن هذه أمور في عنها الكتاب العزيز {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} (1) إلى آخر الآية {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (2){وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} (3) الخ. {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (4){لا يسخر قوم من قوم} (5) الآية. {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} (6)
(1) الحجرات:12
(2)
القلم:11
(3)
الحجرات:11
(4)
الهمزة:1
(5)
الحجرات:11
(6)
الحجرات:11
وفي السنة المطهرة (1) من النهي عن هذه الأمور، والنعي على فاعلها، والذم له ما يزجر من له شيء إيمان بعضه فضلا عن كله. وإنما يكب الناس على مناخرهم في جهنم حصائد ألسنتهم كما ثبت (2) ذلك عنه صلى الله عليه وسلم. ومثل ذلك الكذب بل هو أقبح من كل ذنب، وأشنع من كل معصية. وقد ذم الله مرتكبه. مما هو معروف، ونفى عن فاعله الإيمان فقال:{إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله} (3) الآية. وورد في السنة المطهرة من ذم الكذب (4)، والتينفير عنه ما هو معروف ذلك لك.'
(1)(منها) ما أخرجه البخاري رقم (6018) ومسلم رقم (47) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل في أو ليصمت ".
(ومنها) ما أخرجه البخاري رقم (11) ومسلم رقم (42) عن أبي موسى رضي الله عنه قلت يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال:" من سلم المسلمون من لسانه ويده ".
(ومنها) ما أحرجه مسلم رقم (2589) وأبو داود رقم (4874) والترمذي رقم (1635) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أتدرون ما الغيبة؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: " ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن يكن فيه ما تقول فقد بهته".
(ومنها) ما أخرجه البخاري رقم (4406) ومسلم رقم (1679) عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر. ممن في حجة الوداع: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراف! كم، حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت؟ "
(2)
أخرجه الترمذي رقم (9 261) وأحمد (15 231) وابن ماجه رقم (3973) من حديث معاذ بن جبل وهو حديث صحيح بطرقه.
(3)
النحل:105
(4)
الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6094) ومسلم رقم (2607) وقد تقدم نصه.
(ومنها) ما أخرجه البخاري رقم (34) ومسلم رقم (58) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه كان منافقا خالص، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النطق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا
وورد في ذمه من كلام الحكماء، ومواعظ الفصحاء ما يتعظ به كل ذي عقل، ويزجر به كل من له فهم لما ينشأ عن هذه الخصلة السيئة القبيحة من مفاسد الدين والدنيا. والحاصل أن قبحه مما اتفقت عليه الشرائع، وتطابقت على ذمة كتب الله المنزلة على أنبيائه، واتحدت كلمة رسل الله- سبحانه- على قبحه وقبح فاعله. واعلم أن لكل مقام مقالا، فينبغي للإنسان عند ملاقاة من له اشتغال بعمل من الأعمال أن يأخذ في توصيته، مما ينتفع به فيما هو بصدده لمن كان مشتغلا مثلا بالعلم، أن يوصيه بحسن النية أولا، ثم بالاشتغال. مما يعود نفعه عليه من الكتاب والسنة، وما يتوصل به إليهما، ويعن على فهمهما، وكيفية العمل هما ثانيا، ثم الإنصاف وعدم التعصب لمذهب من المذاهب ثالثا، ثم الإرشاد إلى الرد إلى كتاب الله- سبحانه- وسنة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم عند الاختلاف رابعا. ثم هكذا يأخذ مع أهل كل صناعة بتوصيتهم. مما ينتفعون به في صناعتهم، ويحفظون به دينهم في مباشراتهم. فلا نطيل الكلام في تعداد أهل الحرف، وأنواع أهل الأعمال، [11ب] فإنه لا يخفى على الذكي الممارس للباس العارف بقواعد الشرع ما يتعلق به النفع أو الضر لكل طائفة من هذه الطوائف، فيأخذ مع كل طائفة فيما يهمها ويخشى منه ضررها، ويرجو فيه نفعها.
وبالجملة فهذه الآية كما تدل على ما ذكرنا فقد دل على ذلك الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف (1) والنهي عن المنكر، ودل على ذلك أيضًا قوله تعالى:
(1) قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ ِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران:104
وقال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} آل عمران:110
وقال سبحانه وتعالى {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} المائدة:78 - 79
أخرج مسلم في صحيحة رقم (49) وأبو داود رقم (1140) و (4340) والترمذي رقم (2173) والنسائي (8/ 111) وابن ماجه رقم (4013) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عن رسول صلى الله عليه وسلم يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن يستطع فبلسانه، فإن أ يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وهو حديث صحيح.
أخرج البخاري في صحيحة رقم (2493) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قال: " مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم. استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أ، لا
خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجو ونجوا جميعا " وهو حديث صحيح.
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وما ورد في هذا المعنى من الآيات والأحاديث، وهو الكثير الطيب. وقد ثبت في الصحيح (2) عنه- صدى الله عديه وآله وسلم- أنه قال:" لا يؤمن أحدكم حتى يدبره لأخيه ما يحب لنفسه " فمن فهم هذا الحديث حق الفهم، وتدبره كلية التدبر عرف ما يجب على أهل الأخوة الدينية لبعضهم بعضا، فمعلوم لكل عاقل أن الإنسان يحب لنفسه أن يكون في أعلى منازل الدين، وأرفع منازل الدنيا التي لم تشب. مما يكدرها من الإثم وسوء التبعة، وخطر العاقبة، فإن وجد نفسه أنه يحب لكل فرد من أفراد من جمعته وإياه الأخوة الدينية أن يكون هكذا، فليفرج روعه، ولتقر عينه، ويطمئن قلبه، وينثلج صدره، وإن لم يجد من نفسه محبة ذلك لأخيه فليعلم أنه مفرط في الأخوة الدينية، مفرط في إيمانه الذي لا يتم إلا بذلك، بل لا يثبت من الأصل إلا به، كما تدل عليه تلك العبارة التي تكلم ها الصادق المصدوق- صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قلت: ما تقول في تفسير .... .... .....
(1) المائدة:2
(2)
عند مسلم قي صحيحة رقم (72/ 45) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
قتاده (1) لهذه الآية بأن المراد بالحق القرآن؟ قلت: أقول إنه قد اقتصر على رأس الحق وأساسه وأكمله وأجله وأجمله، ولكن من الحق أيضًا سنة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ومن الحق ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين من الهدى القويم، والخلق المبارك فيما يتعلق بأمر معاشهم ومعادهم، وتعاملهم، وإن كان غالب ذلك من في الكتاب والسنة، فإنهم متخلقون هما، متقيدون. مما فيهما. ولهذا قالت (2) عائشة رضي الله عنها في وصفها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان خلقه القران، مع قوله- عز وجل:{وإنك لعلى خلق عظيم} (3).
فإن قلت: فما تقول فيما ذهب إليه بعض المفسرين أن المراد بالحق المذكور في هذه الآية هو التوحيد (4)؟ قلت: أقول إن التوحيد هو الباب الذي [12أ] لا يدخل إلى نور الإسلام والإيمان إلا منه، ولا يخرج من ظلمات الكفر والضلال إلا به، وهو الفرقان بين أهل الإيمان، وأهل الكفران، وهو المقدم من أركان الإسلام، ولكنه لا يتم الإسلام به وحده. ولهذا يقول صلى الله عليه واله وسلم في الأحاديث الصحيحة (5) الثابتة من طرق كثيرة في جواب من سأله عن الإسلام: هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، فإذا كان الإسلام لا يتم به على انفراده، فكيف يتم به الإيمان وعمل الصالحات.
فإن قلت: هاهنا شيء يقوي تفسير هذا القائل، وهو أن قال أن الإيمان لما كان
(1) أخرجه ابن جرير يما "جامع البيان"(15/ ج.3/ 290).
(2)
أخرجه مسلم رقم (746) وأحمد (6/ 54، 11، 163) وأبو داود رقم (1342) والنسائي (3/ 199 - 200) والدارمي (1/ 344 - 345) وهو جزء من حديث طويل. وهو حديث صحيح.
(3)
[ن:14]
(4)
ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(20/ 181) عن ابن عباس.
(5)
تقدم تخرج هذه الأحاديث
مذكورا في هذه السورة قبل التواصي بالحق، وكذلك لما كان عمل الصالحات مذكورا قبله كان حمله على التوحيد سائغا مقبولا؟ قلت: إذا كان عمل الصالحات مما تدخل فيه أركان الإسلام دخولا أوليا فقد دخل التوحيد فيها من هذه الحيثية، بل دخوله فيما مقدم على دخول سائر أركان الإسلام، لأنه بأنها الذي يدخل منه إليها، ومفتاحها الذي لا يتيسر لأحد الوصول إليها بدونه، فالتفسير للحق به لم يأت بفائدة لم يتقدم في هذه السورة ما يفيدها.
فإن قلت: هذا الإلزام مشترك بينك وبين هذا القائل، فإن عمل الصالحات قد اشتمل على التواصي بالحق على الصورة التي فسرت الآية ها، لأنه من عمل الصالحات. قلت: نعم هو من جملة عمل الصالحات، وكذلك التواصي بالصبر، ولكنهما لما كان يكثر الانتفاع هما، ويتعاظم الأثر الحاصل عنهما كان ذلك وجها لافرادهما بالذكر، وذلك نكتة مسوغة لمثل هذا كما صرح به أرباب المعاني والبيان.
فإن قلت: لهذا القائل أن يسلك هذا المسلك الذي سلكته، ويقول أن التواصي بالتوحيد لما كان بالمنزلة التي هو ها حسبما قدمت ذكره صالح لإخراجه من عموم الصالحات؟ قلت: هو وإن تم له هذا فقد ارتكب خلاف ما يدل عليه اللفظ، فإن قصر الحق على التوحيد لم يدل عليه هذا اللفظ القرآني بوجه من الوجوه المعتبرة، فالأولى ما قدمنا ذكره من دخول التوحيد تحت الأعمال الصالحة دخولا أوليا، وحمل التواصي بالحق على ما ذكرنا، فإن ذلك هو الذي يفيده المعنى الذي يجب علينا تفسير كتاب الله- سبحانه- به. فإن قلت: هاهنا إشكال آخر، وهو أنه إن حمل التواصي بالحق على العموم لم يكن في قدرة أحد من العباد ذلك، وإن حمل على الإطلاق الصادق على البعض فما هو؟ قلت: هو محمول على البعض الذي يحق التواصي به كما قدمنا بيانه فلا إشكال.
قوله: {وتواصوا بالصبر} الصبر ضد الجزع، والمراد به هنا الصبر على المكاره (1) البقرة:
155 -
157 (2) التي تعرض للعبد في بدنه أو أهله أو ماله، فإن من صبر على ذلك لكونه من قدر الله، وما قضى به عليه كأن ذلك صبرا محمودا، ومنه الصبر عن معاصي الله- عز وجل، والصبر على ما يقوم به من فرائضه من المداومة عليها وإيقاعها على الوجه المأمور به، ولاسيما ما كان يحتاج العالم به إلى مشقة كالجهاد، والحج، وبعض أنواع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فإن قلت: ما وجه تخصيص التواصي بالصبر بالذكر مع دخوله تحت التواصي بالحق بعد دخوله تحت عمل الصالحات؟ قلت: وجه ذلك أنه لما كان الصبر. منزلة عظيمة، ورتبه فخيمة كما يفيد ذلك قوله- سبحانه- {إن الله مع الصابرين} (3)، {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (4) كان إفراده بالذكر بعد قوله تحت ما قبله دليلا على ارتفاع درجته، ومزيد شرفه، كما هو النكتة لذكر الخاص بعد اندراجه تحص عموم متقدم عليه، أو متأخر عنه.
(2)
وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35.].
وقال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]
وقال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} لقمان: [17].
قال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} الرعد: [22].
(3)
الأنفال:46
(4)
الزمر:10
فإن قلت: قد ثبت في الكتاب العزيز قوله- عز وجل {وهو معكم أين ما كنتم} (1) وهذا يفيد أنه جميع عباده؟ لمحلت: هذه معية عامة، والتي مع الصابرين معية خاصة دالة على أناقة هذه الخصلة على كل الخصال. وأي فضيلة تداني فضيلة من كان الله معه! وأي مزية توازي مزية من هو من أهل هذه الطبقة الشريفة، والمنزلة السامية ومثل هذه المعية الخاصة قوله عز وجل:{إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (2) فمن جمع بين التقوى والإحسان استحق هذه المعيه الفاضلة، والمنقبة العالية [13أ]. وقد ورد في شرف (3) الصبر ومزيد فضله من الآيات القرآنية،
(1) الحديد:4
(2)
النحل:128
(3)
قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة:
[153]
. وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} الشورى:
[43]
. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} محمد:
[31]
. أخرج البخاري في صحيحة رقم (6424) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله
تعال: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنة.
وأخرج مسلم في صحيحة رقم (2999) عن أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كفه له يخر وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان يضرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان ضرا له.
واخرج مسلم في صحيحة رقم (223) عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن- أو تملأ- ما بين السماوات والأرض. والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ".
وأخرج البخاري في صحيحة رقم (5653) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن الله عز وبئ قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منهما الجنة ".
وأحرج البخاري في صحيحة رقم (5641) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله ها من خطايا، ".
وانظر: الصبر في القرآن. للقرضاوي
والأحاديث النبوية ما لو جمع لكان مؤلفا مستقلا.
فإن قلت: من يحق التواصي بالصبر (1)؟ قلت: يحق إذا رأى الإنسان من أخيه جزعا من أمر قد أصابه، أو من حاجة قد نزلت به، أو من قريب قد فارقه أو في فراقه، أو من عدو قد جاهره بالعداوة، أو نحو ذلك، فيذكر له أن هذا الجزع لا يفيد شيئا، ولا يدفع مكروها، ولا لرد فائتا، وليس له فائدة إلا مجرد فوت نواب المصيبة مع ضم مصيب الجزع إلى مصيبة ما وقع الجزع لأجله، ويبين له أن تعذيب الإنسان نفسه بالهم والغم فيما لا يمكن دفعه، ولا يقدر العبد على استدراكه شعبة من الجنون، وما أحسن قول الشاعر:
أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب
…
كيف إذا ما لم يكن عنه مذهب
هناك يحق الصبر والصبر واجب
…
وما كان منه للضرواة أو جب
وقد اتفق العقلاء جميعا مسلمهم وكافرهم على أن الجزع لأجل أمر قد فات وتعذر استدراكه قبيح عند جميع العقلاء، لأنه تعذيب للنفس فيما لا يمكن رجوعه، ولا يرجى إدراكه فهو مفسدة خالصة خالية عن النفع بوجه من الوجوه، فلا فرق بينه وبن من يضرب نفسه بشيء يؤلمه، لا لسبب يقتضى ذلك، ولا لعلة توجبه، بل عبثا ولعبا، بل
(1) قال ابن قيم الجوزية في " مدارج السالكين "(2/ 178): والصبر في اللغة الحبس والكف. ومنه قتل فلان صبرا، إذا امسك وحبس.
ومنه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الكهف: [28] أي احبس نفسك معهم.
فالصبر: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش
ضرر الجزع أشد، فإن أهل الطب اتفقوا على أنه يضر بالأبدان ضررا شديدا، وتتولد بسببه العلل الصعبة الشديدة التي يصعب الخلوص عنها بالأدوية. وما أحسن قول القائل:
ولا يرد عليك الفائت الحزن
فإن قلت: قد دل ذلك النظم القرآني على أنه لا نحرج من الخسر اللازم لكل إنسان إلا. مما ذكر بعد حرف الاستثناء من الإيمان، وما عطف عليه من عمل الصالحات ومن التواصي بالحق والتواصي بالصبر (1)، مع أن مثل التواصي بالصبر على الصفة إلى ذكرناها لي بواجب، وغاشه أنه من احمد المندوبات، ومن أفضل ما يؤجر عليه الإنسان من الصالحات، ولكنه لا يوجب تركه البقاء ني الخسر، ولو أوجب ذلك لكان واجبا لا مندوبا، ولم يقل أحد من أهل العلم [13ب] بأنه واجب على ثلث الصفة، بل من الموعظة الحسنة والدعاء إلى في الخالص؟ قلت: لا شك أن بعض التواصي بالصبر واجب، وذلك حيث يكون الصبر واجبا متحتما على صاحبه، والجزع حرام عليه، وذلك كالصبر عن معاصي الله- سبحانه-، والصبر على طاعاته الواجبة، فإنه يجب على كل مسلم (2) الصبر على ذلك، وعدم الوقوع فيما يؤدي إليه ترك الصبر من الإقدام
(1) قال ابن القيم في مدارج السالكين (2/ 188 - 190): الصبر ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الصبر على المعصية،. مطالعة الوعيد، وإبقاء على الإيمان وحذرا من الحرام، وأحسن منها:" الصبر على المعصية حياء "
الدرجلي النية: الصبر على الطاعة، بالمحافظة عليها درما، وبرعايتها إخلاصا وبتحسينها علما.
الدرجة الثالثة: الصبر على البلاء،. ملاحظة حسن الجزاء، وانتظار روح الفرج وقوين البلية بعد أيادي المنن، وبذكر سوالف النعم.
(2)
من الأمور التي تعين على الصبر، وتهونه على النفس:- أ/ المعرفة طبيعة الحياة الدنيا: بأنها دار ابتلاء وتكليف، لا دار جنة ونعيم، وهذه الحياة الدنيا خلقها الله تعالى مخلوطة فيها اللذائذ بالآلام، وقيل لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه: صف لنا الدنيا؟ فقال: ماذا أصف لك من دار أولها بكاء وأوسطها عناء، وآخرها فناء؟!
ب/ معرفة الإنسان نفسه، بأنه ملك لله تعالى أولا وآخرا، ولذلك فإن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولابد أن يخلف الدنيا وراء ظهره وقديما قال لبيد الشاعر:
وما المال والأهلون إلا ودائع
…
ولابد يوما أن ترد الودائع
ج/ اليقين بحسن الجزاء عند الله: كما قال تعالى في "سورة النحل:96: أ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
د/ اليقين بالفرج: وذلك بأن يوقن بأن نصر الله قريب وأن فرجه آت لا ريب فيه، وأن بعد الضيق سعة، وأن بعد العسر يسرا قال تعالى: في "سورة الشرح:5 - 6: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
5/ الاستعانة بالله: ومما يعين المبتلى على الصبر أن يستعين بالله تعالى ويلجأ إلى حماه، فيشعر. بمعيته سبحانه، وأنه في حمايته ورعايته، ومن كان في حمى ربه فلن يصام قال تعالى في "سورة الطور الآية: 48" مخاطبا رسوله: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} .
و/ الإقتداء بأهل الصبر والعزائم: قال تعالى في "سورة الأحقاف الآية: 35": فاصبر كما {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} وقال تعالى في "سورة الأنعام الآية: 90"{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}
ز/ الإيمان بقدر الله وسننه: وذلك بأن يؤمن بأن قدر الله نافذ لا محالة، وأن ما أصابه لم يكن ليخطه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. جفت الأقلام، وطويت الصحف قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}
ح/ الحذر من الآفات العائقة عن الصبر: ولا بد للإنسان عامة، وللمؤمنين خاصة، وحملة الدعوات على وجه أخص، إدا أرادوا أن يعتصموا بالصبر أن يحذروا من الآفات النفسية التي تعوقه وتعترض طريقه، من هذه الآفات التي أشار إليها القرآن:-
(1)
: الاستعجال: قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]
(2)
: الغضب: قال تعالى في "سورة القلم الآية: 48: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم}
على معاصي الله، والوقوع في المحرمات، وما يؤدي إليه ترك الصبر على فرائض الله من الوقوع في الإخلال ها، والإهمال لما تحتم عليه القيام به منها، فإنه إذا كان الأمر هكذا وجب على من علم ذلك الأمر له بالصبر من باب وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهما واجبان عند وجود سببهما المفضي إلى ترك ما يجب، وفعل ما يحرم. ولا إشكال في مثل هذا. وهكذا التواصي بالحق يحمل على النوع الذي يجب منه. وذلك إذا كان قد وقع الإخلال. مما يجب التمسك به من الحق الذي يحق على كل مسلم القيام به، فإنه حينئذ يكون التواصي بلزومه والتمسك به واجبا على كل مسلم، لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان عند عروض سببهما المفضي إلى ترك ما يجب، وفعل ما يحرم كما قدمنا. وهكذا عمل الصالحات، فإنه يحمل على ما يجب فعله منها، أو يستلزم تركها الوقوع في محرم من المحرمات. هكذا يجاب عن ذلك الإشكال، وإن كان التواصي بالحق والتواصي بالصبر مشروعين لكل مسلم في كل حال، وعلى كل وجه، وفاء بحق العموم الذي أرشد إليه الكتاب العزيز، وجاءت به السنة المطهرة. فالحاصل أنه يخرج العبد عن الخسر بالقيام. مما يجب عليه من عمل الصالحات، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. ويحسن منه ويندب له أن يقوم بإرشاد أخيه إلى الحق والصبر
في كل موطن من المواطن التي يكون الإرشاد إليها حسن جميل، فإن ذلك من باب النصيحة التي يقول فيها الصادق المصدوق- صلى الله عليه وآله وسلم:" الدين النصيحة"(1). وأنت خبير. مما يفيده هذا التركيب المصطفوي من الحصر الدال على المبالغة في شأنها [14أ]، وأنها هي الفرد الكامل من أفراد الدين، بل قد جعلها الشارع من حق المسلم على المسلم، كما ثبت في الصحيحين (2) وغيرهما:" أن حق المسلم على المسلم إذا لقيه أن يسلم عليه، وإذا عطس أن يشمته، وإذا دعاه أن يجيبه، وإذا مرض أن يعوده، وإذا مات أن يتبعه، وإذا استنصحه أن ينصحه ". فالتواصي بالحق والتواصي بالصبر شعبة من شعب النصيحة، ونوع من أنواعها، وكما يكون فيهما ما هو واجب كذلك يكون في أفراد النصيحة ما هو واجب، فإن قال من يتقيد بعلم الأصول، ويمشى على طرائقه- أن هذا من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو لا يجوز. قلنا له: نحن نمنع أن يكون هذا من الجمع، بل هو من العمل. مما يفيده اللفظ، وتقتضيه الصيغة. والاقتصار على البعض لدليل اقتضى ذلك، ولو سلمنا فنحن نمنع معه أيضًا عدم الجواز فيما نحن بصدده، فإنه يمكن أن يراد معنى يشملها ويعبر به عنهما، فيكون ما ذكرناه من عموم المجاز لا من الجمع بين الحقيقة والمجاز، على أنه يمكن أن يقال: إن ذلك من الجمع بين معنيين المشترك، وهو سائغ مقبول على ما هو المذهب الحق من تلك المذاهب المدونة في الجمع بين معنيي المشترك. وهكذا يقال في قوله:{وعملوا الصالحات} ، وهكذا يقال في النصيحة.
فإن قلت: هذا التواصي بالحق، والتواصي بالصبر إذا كان مع من يقبل ذلك،
(1) تقدم تخريجه
(2)
أخرجه البخاري رقم (1240) ومسلم رقم (2162) عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله كل قال: " حق المسلم على المسلم خمس، رد السلام وعيادة المريض وإتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس "
وينعمل له فهو شأن المؤمنين مع بعضهم البعض، وديدنهم وهجيراهم، وربما كان بعضهم لا يقبل ذلك، ولا ينعمل له، ولا ينقاد لمن وصاه بالحق، ووصاه بالصبر؟ قلت: الكلام هنا مع أهل الإيمان، ولهذا عطف على الذين امنوا وعملوا الصالحات بالحرف المقتضي للجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، وشأن أهل الإيمان قبول ذلك، والإنعمال له، والانقياد لقائله، وشكره على ذلك، والدعاء له، وأما ما ذكرت فهو من أخلاق الجبابرة، وجفاه المنتسبين إلى الإسلام فلسنا بصدد الكلام معهم، لكن إذا كان التواصي بالحق والتواصي بالصبر (1) واجبا على الصفة التي قدمنا فقد عرفناك أنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، [41أ] وهو واجب على كل مسلم لكل من ارتكب محرما، أو ترك واجبا فعلية أن يقوم بعرضه، ويصك به وجه من استحقه، ورغم به أنفه، فإن قدر على أن يحمله على ذلك شاء أم أبى فهو الواجب على من وجد من نفسه قوة على ذلك، وإن عجز عن ذلك فلا أقل من أن ينكره بلسانه، وإن بلغ في الضعف إلى حد يعجز عن الإنكار باللسان، أو يخشى على نفسه مالا يستطيع دفعه عن نفسه ففي الإنكار بالقلب رخصة له، لما ثبت (2) عنه صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: " من رأى
(1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (2312): ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يحبط عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
وقال العلماء: " ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين.
وقال الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان في " أصول الدعوة "(ص 267) إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب الأمة جمعاء فكل مسلم علم بالمنكر وقدر على إنكاره وجب عليه دلك لا فرق في دلك بين حاكم ومحكوم أو عالم أو عامي قال تعالى: & كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله "آل عمران:110".
والحطاب للأمة عامة وكذلك أكتر نصوص الخطاب فيها عام لجميع أفراد الأمة ولكن المسؤولية تتأكد على صنفين من الناس وهما العلماء والأمراء
(2)
تقدم تخريجه.
منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ". وقد كان السلف الصاع من الصحابة والتابعين وتابعيهم ينكرون ما علموه منكرا بأفعالهم وأقوالهم، ويكافحون بذلك الملوك والأمراء اللهم غفرا، اللهم غفرا، اللهم غفرا للمقصرين من عبادك في القيام هذه الخصلة التي هي أبين دين الإسلام، ورأس قواعده، وأعظم ما يحفظ به هذه الشريعة المطهره عن انتهاك العصاة، وتلاعب المتمردين.
وهاهنا مفسدة عظيمة ترك ها كثير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصارت ذريعة شيطانية للمداهنن في دين الله، وهي ما وقع في بعض كتب الفروع من جعل ظن التأثير شرطا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا شرط لم يدل عليه كتاب الله، ولا سنة رسوله، فهو تسمك بالهباء، وتعلل. مما هو على شفا جرف هار. ومع هذا فإنهم يجعلون ذلك تعفة لهم وعذرا، وهم يعلمون أن التكلم بالحق، مما أمر الله به، وأرشد عباده إليه لا يستطيع أحد رده كائنا من كان، وإن بلغ في التمرد عن الحق، والتجبر في الدين إلى يقصر عنه الوصف، فإنه إذا عذلك فغايته أن يذكر لنفسه المعاذير والعلل المعتلة. وقد وقع في قلبه ما وقع، واستحى من الناس أن يتظهر بذلك أو يتجاهر به، وهذا أقل ما يحصل معه، فما ذكره من يحق عليه القيام بذلك أنه ظن عدم التأثير فهو كاذب على نفسه، كاذب على ربه، كاذب على عباد الله الصالحين. فمالك لا كثر الله في عباده من أمثالك، وللاستدلال لما أنت فيه من الدهان، والسكوت على المتجرين على معاصي الله، المنتهكين لحرماته، المتعدين لحدوده هذا الدليل الباطل من وجهه الأول [15أ] أنه غلط من قائله، باطل من أصله.
الثاني أن ما تزعمه من الظن الحاصل لك هو من بناء الباطل على الباطل، وترتيب المختل على المختل، فإن كنت لا تعلم بالوجه الأول فاعلمه الآن، فإن تقصيرك في علم الشرع أوقعك في تقليد من قال بالباطل. وأما الثاني فأسا تعلمه من نفسك، فإن شككت في ذلك فافعل ما أمرك الله به من الأمر بالمعروف عند عروض ذلك الظن الشيطاني لك، حتى تعلم فساده، وتتيقن بطلانه، ويصفر صبح هدايتك، ويطلع بدر
رشادك. ولكن عليك قبل ذلك. ممرهم نافع، وترياق شاف، وهو أن تحسن النية، وتوطن نفسك على أنك لم تفعل ذلك إلا للوفاء. مما أوجبه الله عليك، وأخذه على أمثالك، واغسل عن قلبك محبة أن يقال قال فلان بالحق، تكلم بالصواب، أنكر المنكر قام. مما أمره الله به، فإن هذه الوساوس الشيطانية، والخواطر الخذلانية تكون سببا لعدم تأثير ما جئت به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد تظن عدم تأثير ما جئت به لا لهذا السبب فتقول بعد ذلك: لا أظن التأثير. وإذا عرفت العلة علمت أن للتكلم بالحق تأثيرا في كل العباد، وعلى كل معاند ومتمرد كائنا من كان، وسأقص عليك واقعة صحيحة اشتملت عليها كتب التاريخ المعتبرة، وهى أن بعض صلحاء العباد القائمين. مما أوجب الله عليهم من هذا التكليف رأى عشرة آنية مملوءة خمرا مع بعض خدم الملوك، يريد أن يوصل ذلك إلى الملك، وعد سافر به من أرض بعيدة، فأخذ عصاه، ثم ما زال يضرب تلك النية ها حتى كسر تسعة منها، ثم وقف على العاشر فأمسك العصا ولم يكسره فبمجرد ما فعل ذلك ذهبوا به إلى الملك، وقالوا: فعل وفعل، وقد ظنوا وظن من هو مشاهد لذلك أنه سيقتل، فأوصلوه إلى الملك فارتجف لعصاته، واضطرب حاله، وعراه من الهيبة ما لا يقدر قدره، وغاية ما وقع منه أنه قال له: فعلت هكذا؟ قال: لأن الله- سبحانه- حرم ذلك، وأوجب على عباده إنكاره وتغييره، فقال له، فلأي سبب تركت واحدا منها؟ قال لما كسرت اقصر. في نفسي شيئا من المجاب فتركت ذلك لئلا أكسره وقد انضم إلى تلك النية هذا الخاطر القبيح، فلم يقل له شيئا، وخرج سالما، وقام. مما أمره الله- سبحانه- به. وكم وقع من التأييد الرباني، والنصر الإلهي لكثير من القائمين هذا الواجب العظيم، وقد اشتملت عليه كتب التاريخ. فمن كان له نظر فيها فهو بذلك غير محتاج إلى التنبيه عليه. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فرغ منه مؤلفه محمد بن على الشوكاني غفر لله لهما في فار السبت لعله سادس عشر شهر شوال سنة 1237 هـ.