الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إجابة السائل عن تفسير تقدير القمر منازل ويليه: إشكال السائل في الجواب عن تفسير تقدير القمر منازل
تأليف العلامة
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
أحمدك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك فإنها وردت إلى الحقير هذه، وبعد المباحثة الشريفة، والتدقيقات التي رياض تحقيقها، وريفة، وقصور مسائلها مشيدة منيفة من العلامة بلا ممار علي بن صالح العماري (1) - عمته مكارم الحليم الباري- ولفظها: حصل إشكال في تفسير الزمخشري (2) لقوله- عز وجل: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} (3)، ومحل الأشكال أولا في قوله: وقدره، أي: قدر القمر، أي: قدر مسيره منازل، أو قدره ذا منازل، لم عدل الزمخشري إلى هذين التقديرين في المفعول، وهلا حمله على نزع .... .... .....
(1) هو الوزير الكبير الشهير البارع البليغ الألمعي على بن صالح العماري الصنعاني مولده سنة 1149 هـ ونشأ لصنعاء فأحذ ها عن السيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمير، وقرأ على علماء عصره في كثير من الفنون وبرع في علوم الأدب وشارك ي التفسير والحديث مشاركة قوية وتفرد. بمعرفة فنون كعلم الهيئة والهندسة والنجوم وكتب الخط الفائق ونظم الشعر وقد ترجم الشوكاني له في المدر الطالع وأورد نبذة مفيدة من نظم المترجم له ونثره ومات بصنعاء سنة 1213.
قال الشوكايى ي البدر الطالع (447/ 1): " واجتمعت به في مقام مولانا الخليفة مرات عديدة،
وكان يذكر هنالك. بمسائل مفيدة، وسألي. بمسائل أجبت عليها برسائل هي موجودة في مجموع رسائل وآخر ما سألني عنه قبل موته، عن كلام المفترين في قوله تعالى: {والقمر قدرناه منازل " وأورد في السؤال اعتراضات على الزمخشري والسعد وأجبت عنهم لرسالة حميتها (جواب السائل عن تفسير تقدير القمر منازل) اهـ.
انظر: البدر الطالع (1/ 446 - 448)، نيل الوطر (2/ 136 - 139).
(2)
في الكشاف (3/ 115).
(3)
[يونس: 5]
الخافض (1) كقدرناه. بمنازل، أو في منازل، لأن هذين أظهر في معنى التعليل بعلم السنن والحساب! تأملوه، ثم إشكال ثان قال الزمخشري (2): الحساب حساب الأوقات في الأشهر والأيام والليالي، فأما حساب القمر، بل علاقتهما بالشمس. وقد فسر تقدير المنازل للقمر فقط، وكيف! فسر الحساب بغير حساب السنين، وهلا قال لتعلموا عدد السين والحساب، وهو حساب السنن في الأيام، والليالي، والأشهر، فإنه لم يظهر قوله أي: حساب الأوقات تأملوه. ثم أيضًا كلام السعد في هذا المحل أشد إشكالا عال: وقدره ضمير القمر إذ لا مذكور يصلح لذلك سواه، أي: لتقدير المنازل، وهذا مشكل، فإن الشممى صالحة لتقدير المنازل، وأظهر في حساب الأيام والليالي من القمر، وهلا جعل .... .... .... .... .... .... .... .... .... ....
(1){هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا} هو مبتدأ، والذي خبره وجملة جعل صلة وإن كان الجعل. بمعنى التصير كانت الشمس مفعولا أولا وضياء مفعولا ثانيا وإن كان الجعل. بمعنى الخلق كانت الشمس مفعولا به وضياء حال والقمر نورا عطف عليهما.
{وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} وقدره: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، ومنازل أي قي منازل فهو منصوب على الظردية ويحوز أن يكون التقدير ذا منازل، وقدر على هذا متعدية إلى مفعولين لأن معناه جعل وصير فيكود مفعولا ثانيا ويجوز أن يكود قدر: متعديا إلى واحد.
بمعنى خلق وهو الهاء ومنازل حال أي متنقلا.
وارتأى أبو البقاء: وجها طريفا لا يحلو من وجاهة وهو أن يكون الضمير منصوبا بنزع الخافض فحذف حرف الجر أي قدر له منازل ومنازل مفعول به واللام للتعليل وتعلموا منصوب بأن مضمرة وعدد مفعول به والسنين مضاف إليه والحساب معطوف على عدد سئل أبو عمرو عن الحساب أننصبه أم نجره فقال: ومن يدري عدد الحساب ومعنى جوابه أنه سئل هل نعطفه على عدد فننصبه أم على السنن فنجره، فكأنه قال: لا يمكن جره إذ يقتضى ذلك أن يعلم عدد الحساب ولا يقدر أحل أن يعلم عدده.
انظر: إعراب القران وبيانه (4/ 208 - 209) محيى الدين الدرويش، البيان في إعراب القرآن (2/ 665) للعكبري (أبو البقاء).
(2)
في الكشاف (3/ 115).
الضمير (1) في وقدره على الجعل، أي: وقدر جعل الشمس ضياء ونورا منازل، إذا جعل. بمعنى الخلق، فيكون وقدر هذا الخلق الذي خلقه ضياء ونورا منازل إلخ. ثم قال السعد: والظاهر أن المراد بالمنازل البروج، وهو حمل على غير الظاهر، إذ البروج هي المنازل بعينها، فلم عدل إلى هذا؟ وقال: إن بها عدد السنين والحساب بقرانه مع الشمس، وظهوره بعدها. وظاهر القران يقتضى غير هذا، إذ لا دخل به في حساب القران الذي هو من علم المنجمين، فاعتبار الشرع برؤية الهلال لا بقران الشمس، فإنما اعتبار الأشهر عند المنجمين المسمى بالجدول. ثم قال السعد: وذلك لأن المغتبر في الضرع السنة القمرية والشهر الهلالي، فإن أرادهما بحساب المنجمين الذي فيه القران كما ذكره فباطل، وإن أراد الروية فقد صرح بأنه القران ، فحصلت هذه الإشكالات. أحسنوا بإمعان النظر والإفادة، جزاكم الله خيرا، انتهى منقولا من خطه- حفظه الله- وأقول: هذا الكلام قد اشتمل على أبحاث سبعة.
البحث الأول: في تقدير الزمخشري (2). بمضاف إلى المفعول الأول هو سير، أو بمضاف إلى المفعول الثاني هو لفظ ذا، والسؤال عن وجه اختياره لهذه دون تقدير النصب بنزع الخافض، والجواب أن الفعل ههنا وهو قدر يتعدى إلى مفعولين، يقول: قدرت الثوب قميصا، وقدر الأرض جريبا، وقدر المال ألفا، ونحو ذلك، ومفعوله
(1) قال الرازي في تفسيره (17، 35 - 36): الضمير في قوله (وقدره) فيه وجهان:
الأول: أنه لهما، وإنما وحد الضمير للإيجاز، وإلا فهو في معنى التثنية اكتفاء بالمعلوم، لأن عدد السنين والحساب إنما يعرب بسير الشمس والقمر، ونظيره قوله تعالى:{والله ورسوله أحق أن يرضوه} .
والثاني: أن يكون هذا الضمير راجعا إلى القمر وحده، لأن بسير القمر تعرف الشهور، وذلك لأن الشهور المعتبرة قي الشريعة مبنية على رؤية الأهلة، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية كما قال تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله} [التوبة: 36].
(2)
في الكشاف (3/ 115).
الأول ههنا الضمير المتصل به، والثاني منازل، ولكنه لما كان إيقاع التقدير على القمر غير صحيح باعتبار الحقيقة، لأن المقدر منازل ليس هو جرمه بل مسيره، كما هو المشاهد المحسوس كان التأويل الذي تتوقف صحة معنى الإيقاع عليه لازما، فجعله مضافًا محذوفا إلى الضمير المذكور، وهو المسير. وله أشباه ونظائر في القران وغيره لا يحيط بها الحصر. وهذا التأويل والتقدير هو في جانب المفعول الأول، ثم ذكر وجها آخر، وهو التأويل والتقدير في جانب المفعول الثاني فقال: أو قدره ذا منازل، وحاصله تجويز وقوع التقدير على القمر باعتبار كونه ذا منازل، لا باعتبار أنه منازل في نفسه، فيكون التقدير على هذا مضمنا معنى التصيير، وكلا الوجهين قد تضمنا أن المنازل المقدرة هي في أمر خارج عن جرم القمر، بل في عرض من أعراضه، وهو مسيره، فكان إيقاع التقدير المذكور على مسيره، أو عليه لا باعتبار ذاته، بل باعتبار أنه صار ذا منازل صحيحا، والكل من مجاز الحذف (1) إما من المسند إليه أو من المسند قبل دخول الفعل، أو من المفعول الأول أو الثاني بعد دخوله. والخلاف بين أهل البيان في هذا المجاز إنما هو باعتبار الاسم لا باعتبار الحقيقة.
إذا تقرر هذا فكلا التأويلين ليس فيه إخراج للفعل عن أصله المعتبر عند علماء النحو، وهو مباشرته لمفعوليه بدون واسطة، وتعديه إليهما بنفسه، بخلاف جعله متعديا إلى الثاني بواسطة الخافض المنزوع (2)، وهو الباء. أو في كما ذكره السائل- دامت إفادته- فهو وإن كان صحيحا مصححا للمعنى، مزيلا للإشكال ففيه إخراج للفعل المتعدي إلى مفعولين بنفسه عن كونه كذلك، وجعله قاصرا بدون ملجي، فمن هذه الحيثية اختالي العلامة الزنحشري (3) في الكشاف ما اختاره من تقدير حذف المضاف إلى
(1) انظر " معترك الأقران "(1/ 231 - 232).
(2)
تقدم آنفا.
(3)
في الكشاف (3/ 115).
المفعول الأول، أو المضاف إلى المفعول الثاني. وقد وافق على ذلك جماعة من المفسرين المحققين، منهم البيضاوي (1)، ومحمد بن جزئ الكلبي الأندلسي في تفسيره المسمى: كتاب التسهيل (2) لعلوم التنزيل، والحافظ أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمد النسفي في تفسيره المسمى: مدارك التنزيل (3) وحقائق التأويل، والقاضي أبو السعود في تفسيره المسمى: إرشاد العقل (4) السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، والمحقق النيسابوري في تفسيره (5) المشهور، وغير هؤلاء. ولكنه زاد أبو السعود (4) وجها فقال: وقدره أي قدر له، وهيأ منازل، وهذا يفيد أن التقدير واقع على المنازل على كل حال، وأن القمر مقدر له لا مقدر باعتبار ذاته ولا سيره، ولا عرض من أعراضه، وفيه ما قدمنا من أن الفعل يتعدى بنفسه إلى المفعولين. ثم قال أبو السعود: وقدر مسيره منازل، أو قدره ذا منازل على تضمين التقدير معنى التصيير انتهى، وأما ما ذكره السائل - كثر الله فوائده- من أن الحمل على نصب المفعول الثاني بنزع الخافض (6) أظهر في معنى التعليل، ففيه شيء، لأن تقدير مسير القمر منازل (7) ليقع العلم بعدد السنن
(1) في تفسير " أنوار التنزيل وأسرار التأويل "(3/ 86 - 87) (وقدره منازل، الضمير لكل واحد أي قدر مسير كل واحد منهما منازل أو قدره ذا منازل أو للقمر وتخصيصه بالذكر لسرعة سيره ومعاينة منازله وإناطة أحكام الشرع به ولذلك علله بقوله:{لتعلموا عدد السنين والحساب} ، حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم.
(2)
(2/ 89)
(3)
(2/ 7)
(4)
(2/ 621) بتحقيقنا.
(5)
" غرائب القرآن ورغائب الفرقان " لنظام الدين الحسن بن محمد بن الحسين القمي النيسابوري (11/ 56).
(6)
تقدم ذكر ذلك.
(7)
قال الألوسي في تفسيره (11/ 69): {وقدره} أي قدر له وهيأ (منازل) أو قدر مسيره في منازل على الأول مفعول به وعلى الثاني نصب على الظرفية، وجوز أن يكون قدر. بمعنى جعل المتعدي لواحد و (منازل) حال من مفعول له أي جعله وحلقه متنقلا وإن يكون.
بمعنى جعل المتعدي
لاثنين أي صيره ذا منازل، وإيا ما كان فالضمير للقمر وتخصيصه إذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس ولأن منازله معلومة محسوسة ولكونه عمدة في تواريخ العرب ولأن أحكام الشرع منوطة له في الأكثر، وجوز أد يكون الضمير له وللشمس بتأويل كل منهما، والمنازل بثمانية وعشرون وهما الشرطان والبطن والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك الأعزل والعفرة والزباني والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذالح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرع الدلو المقدم والفرغ المؤخر وبطن الحوت، وهي مقسمة على البروج الإثنى عشر المشهورة فيكون لكل برج منزلان وثلث، والبرج عندهم ثلاثون درجة حاصلة من قسمة ثلاثمائة وستين، جزاء دائرة البروج على اثني عشر، والدرجة منقسمة عندهم بستين دقيقة وهي منقسمة بستين ثانية وهى منقسمة بستين ثالثة .... ".
والحساب لا فرق بينه وبن تقديره. بمنازل، أو في منازل، ليقع العلم بذلك، بل الأول أظهر، لأن ذلك العمل يحصل بالتقدير الواقع على مسيره، لا بالتقدير الواقع عليه كما يشعر به قدره. بمنازل، أو في منازل، فإن كلا التقديرين واقع على جرم القمر بالمنازل أو فيها، فلا يتضح المعنى كلية الاتضاح إلا بتقدير المسير وإيقاع الفعل عليه فيقال قدر مسيره. بمنازل، أو فيها. ومع تقدير المسير لا يبقى حاجة لتقدير الخافض، لأن المسير نفسه هو مقدر. بمنازل، ولهذا قدم العلامة تقدير المسير على التقدير الذي ذكره في المفعول الثاني. والبحث الثاني: يتضمن استشكال ما قاله الزمخشري (1) من أن الحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي؟ إذ لا علاقة لهما بحساب القمر، بل علاقتهما بحساب الشمس.
والجواب أنه يمكن أن نجعل من في قوله من الأشهر بيانية، فيكون المعنى حساب الأوقات التي هي الأشهر والأيام والليالي، وهذا صحيح، لأنه يستدل. بمسير القمر الكائن من أول الشهر إلى أخره على أن ذلك الشهر جزء من أجزاء السنة، مثلا سير القمر في شهر محرم يدل على انقضاء الشهر بأنه قد مضى من السنة نصف سدسها، وهو وقت
(1) في الكشاف (3/ 115).
من أوقاتها، ثم يستدل بسيره في كل ليلة من ليالي الشهر بأن تلك الليلة أول ليلة من الشهر، أو الثانية، أو الثالثة. وذلك يستلزم تقدير اليوم (1) تبعا لليلة فيقال هو اليوم الأول، أو الثاني، أو الثالث. وكذلك فيكون المراد بذكر الأشهر والأيام والليالي على هذا الوجه مجموع كل يوم واحد من الثلاثة، أي أن هذا الشهر جميعه وقت من أوقات السنة، لهما نسبة إلى جمع عدد أيامها، وليس المراد بذكر الشهر معرفة أجزائه، ولا بذكر اليوم والليلة معرفة أجزائهما. ويؤيد هذا أنه لو كان المراد معرفة أجزاء كل واحد من الشهر واليوم والليلة لم يكن لذكر الأيام والليالي بعد ذكر الشهر كثير معنى، لأنهما من أجزائه، وأجزاؤهما أيضًا من أجزائه لأن الجزء جزء، فكل جزء تقدره لهما هو جزء للشهر، وهذا فيه دفة فتأمله. وقد وافق الزمخشري (2) على العبارة التي استشكلها السائل - عاداه الله- جماعة من المفسرين، منهم محمد بن (3) جزئ الكلبي، وأبو السعود (4). ويدل على أن المراد ما ذكرناه في تفسير عبارة الزمخشرى (5) ما قاله الحافظ أبو البركات في تفسيره (6)، فإنه قال: حساب الآجال والمواقيت المقدرة بالسنين والشهور انتهى، فهذا يدل على أن مراد الزمخشري (7) بذكر الشهر واليوم والليلة أن كل واحد منها وقت، وأنص جزء لغيره، لا أن المراد أجزاء كل منهما حتى يرد ما أورده السائل من أن أجزاء اليوم والليلة لا يعرفان (8). بمسير القمر. ويدل أيضًا على ما ذكرناه ما ذكره النيسابوري في
(1) يقطع القمر بحركته الخاصة في كل يوم بليلته ثلاث عشرة درجة وثلاث دقائق وثلاثا وخمسين ثانية وستا وخمسين ثالثة. " روح المعاني "(11/ 71).
(2)
في الكشاف (3/ 115).
(3)
في تفسيره " التسهيل لعلوم التنزيل "(2/ 89).
(4)
في تفسيره "إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم "(2/ 629).
(5)
في الكشاف (3/ 115).
(6)
في تفسيره " مدارك التنزيل وحقائق التأويل (2/ 7).
(7)
في الكشاف (3/ 115).
(8)
انظر كلام الرازي في تفسيره (17/ 35) وقد تقدم.
تفسيره (1)، فإنه قال في تفسير الحساب أنه حساب الأوقات والأيام والليالي انتهى. وظاهر هذا أن المراد معرفة نفس الأيام والليالي، وأنها جزء من أجزاء الوقت معين لا حساب أجزائها. وقد صرح أبو السعود (2) هذا. وسيأتي كلامه قريبا.
البحث الثالث: استشكال تفسير الزمخشري (3) للحساب بغير حساب السنن، وكيف لم يقل لتعلموا عدد السنين والحساب، وهو حساب السنن من الأيام والليالي والأشهر، فإنه لم يظهر معنى قوله، أي: حساب الأوقات.
والجواب عن هذا قد استوفاه أبو السعود في تفسيره (4) فقال: يخصص العدد بالسنين والحساب والأوقات، لأنه لم يعتبر في السنين المعهود معنى مغايرا لمراتب كما اعتبر في الأوقات المحسوبة. وتحقيقه أن الحساب أحصى ماله كمية انفصالية بتكرير أمثاله بحيث يتحصل لطائف! معينة منها عدد معين، له اسم خاص، وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من اثني عشر شهرا. وقد يحصل كل شهر من ثلاثين يوما وليلة قد يحصل كل واحد من ذلك من أربعة وعشرين ساعة مثلا، والعدد مجرد إحصائية بتكرير أمثاله من غير اعتبار أن يتحصل بذلك شيء كذلك، وإنما لم يعتبر في السنين المعدودة تحصل حد معين له اسم خاص غير أسامي مراتب الأعداد، وحكم مستقل أضيف إليها العدد.
وتحصل مراتب العدد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدي في تحصيل المعدود نفعا. وحيث اعتبر في الأوقات المحسوبة تحصيل ما ذكر من المراتب التي لها أسام خاصة، وأحكام مستقلة علق ها الحساب المنبئ عن ذلك، والسنة من حيث تحققها في نفسها مما لا يتعلق به الحساب وإنما الذي يتعلق به العدد طائفة منها، وتعلقه في ضمن ذلك لكل واحد من تلك الطائفة ليس من الحيثية المذكورة أعني: حيثية تحصيلها من على
(1)(11/ 56)
(2)
في تفسيره " إشارة العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 629)
(3)
(3/ 115)
(4)
في تفسيره " إشارة العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 629)
أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام، قد حصل كل منها بطائفة من الساعات، فإن ذلك وظيفة الحساب، بل من حيث إنها فرد من تلك الطائفة، من غير أن يعتبر معها شيء غير ذلك، فاتضح هذا ما رجحه المفسرون من تعلق الحساب بالأوقات لا بالسنن (1). ويؤيده قوله تعالى في سورة الإسراء:{لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب} (2).
فإن قلت: العلم بكون الشهر وقتا من الأوقات، وكذلك اليوم والليلة ظاهر لكل أحد غير مفتقر إلى الاستعانة بسير القمر وتقديره منازل.
قلت: معرفة كون الشهر شهرا لا بتم بدون النظر في سير القمر، أقل الأحوال طلوعه في أول كل شهر، وطلوعه كذلك متوقف على سيره في تلك المنازل، ثم يترتب على ذلك أن هذا الشهر مثلا أول أجزاء الوقت الشهرية أو الثاني أو الثالث، وكذلك اليوم والليلة أول أجزاء الوقت اليومية أو الليلية أو الثاني أو الثالث، وليس الشهر لعدد معلوم يمكن الاستغناء به عن النظر في القمر. وأما اليوم والليلة فهما وإن كانا يعرفان بالإضاعة والإظلام، لكن كون هذه الليلة هي الأولى من الشهر أو الوقت أو الثانية أو الثالثة متوقف على النظر في القمر، وكذلك اليوم بالتبعية.
البحث الرابع: استشكاله- عافاه الله- لكلام السعد حيث قال: وقدره ضمير للقمر بم إذ لا مذكور يصلح لذلك سواه، أي: لتقدير المنازل فقال: وهذا مشكل، فإن
(1) قال الألوسى في تفسيره (11/ 70 - 71): ولعل الأولى على هذا أن يحمل (السنين) على ما يعم السنين الشمسية والقمرية وإن كان المعتبر في التاريخ العربي الإسلامي السنة القمرية، والتفاوت بين السنتين عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة، فإن السنة الأولى عبارة عن ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وخمس ساعات وتسع وأربعين دقيقة على مقتضى الرصد الإيلخاني والسنة الثانية عبارة عن ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة، وينقسم كل منهما إلى بسيطة وكبيسة
…
" ثم تابع كلامه. ممثل ما ذكره أبو السعود.
(2)
[الإسراء: 12]
الشمس صالحة لتقدير المنازل، وأظهر في حساب الأيام والليالي من القمر.
والجواب أن منازل القمر المسافة التي يقطعها في كل يوم وليلة بحركته (1) الخاصة به، وجملتها ثمان وعشرون، وأساميها مشهورة معروفة، وهي كواكب نابتة معروفة عندهم، جعلوها علامات المنازل، فترى القمر كل ليلة نازلا بقرب أحدها. وقد قسموا دور الفلك، وهي اثنا عشر برجا على ثمانية وعشرين عدد أيام دور القمر فأصاب كل برج منزلتان وثلث، فسموا كل منزلة بالعلامات التي قد وقعت وقت التسمية بحذائه، كذا قال النيسابوري (2).
وقال أبو السعود (3): إن تخصيص القمر هذا التقدير لسرعة سيره، ومعاينة منازله، وتعلق أحكام الشريعة به، وكونه عمدة في تواريخ العرب. وكذا قال البيضاوي (4).
إذا تقرر هذا لاح لك وجه جعل مرجع الضمير للقمر فقط، وإن جزم السعد بذلك لهذه الأمور مع مرجحات من حيث اللفظ، وهو كون الضمير مفردا، وهو لا يكون مرجعه إلا مفردا، بحسب الظاهر، فإذا تقدمه متعدد، ولما لم يدل الدليل على رجوعه إلى أحدهما على التعين كان الأحق به الأقرب. ولا ريب أن الأقرب القمر. هذا على فرض عدم وجود مرجع لعوده إلى الأقرب من غير اللفظ، فكيف إذا كان موجودا كما نحن بصدده! وصلاحية الشمس لكونها مرجعا ممنوع؟ فإنه يأباه كون الضمير مذكرا وهي مؤنثة، وكونه بعيدا من اللفظ المتصل به الضمير، والقمر قريبا منة، وكونه قد قلم الدليل على كون المرجع هو القمر كما تقدم تحقيقه. نعم قد سبق السائل دامت إفادته إلى القول بصلاحية كون الشمس مرجعا للضمير بعض أئمة التفسير، فقال البيضاوي (5)
(1) تقدم آنفا.
(2)
في تفسيره " غرائب القرآن ورغائب الفرقان "(11/ 56).
(3)
في تفسيره " إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم "(2/ 629).
(4)
في تفسيره " أنوار التنزيل وأسرار التأويل "(3/ 86)
(5)
في تفسيره (3/ 86).
إن الضمير في: وقدره منازل لكل واحد أي: قدر مسير كل واحد منهما منازل، أو قدره ذا منازل، ولكنه قال بعد هذا: أو للقمر، وتخصيصه بالذكر لسرعة سيره ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به.
وكذلك حكى أبو السعود في تفسيره (1)، فقال بعد أن قدر رجوعه إلى القمر، وذكر المرجحات التي قدمناها: وقد جعل الضمير لكل منهما، ثم قال: ويكون مقام الشمس في كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما، وهذه المنازل التي هي مواقع النجوم التي نسبت العرب إليها الأنواء (2) المستمطرة، وهي: الشرطان (3)، والبطين، ثم عددها إلى أخرها، ولكن مجرد حكاية كون كل واحد منها مرجعا لا يفيا بعد تلك المرجحات لفظا ومعنى، وأقل الأحوال أن يكون التخصيص للتقدير بالقمر فقط راجحا، ورجوعه إلى كل من الشمس والقمر مرجوحا. ومن أعظم ما يشد من عضد ذلك قوله تعالى في
(1)(2/ 629)
(2)
قال ابن الأثير قي "النهاية"(5/ 122): والأنواء: هي ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها، ومنه قوله تعالى:{والقمر قدرنه منازل} ويسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إليها فيقولون: مطرنا بنوء كذا.
وإنما حمى نوعا: لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق، ينوء نوعا: أي فض وطلع. .
واخرج البخاري في صحيحه رقم (1038) ومسلم رقم (125/ 71) عن زيد الجهني انه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال:" هل تدرون بماذا قال ربكم "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:" أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأنها من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأنها من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك ط فر بي مؤمن بالكواكب ".
(3)
تقدم ذكرها آنفا.
سورة يس: {والقمر قدرنه منازل} (1).
البحث الخامس: قوله:- عافاه الله- وهلا حمل الضمير في وقدره على الجعل! أي: وقدر جعل الشم!! ضياء، والقمر نورا منازل، والجعل. بمعنى (2) الخلق، فيكون: وقدر هذا الخلق الذي خلقه ضياء ونورا منازل إلخ.
والجواب أنه لا يخفى أن كون الشمس مجعولة ضياء، والقمر مجعولا نورا ليس هو المنازل، إنما المنازل شيء يتعلق بحركة المجعول، لا بضياء الشمس، ولا بنور القمر وتدبر، هل يصح قدر جعل الشمس ضياء ومنازل، وقدر جعل القمر نورا منازل؟ فإن قلت: ومفعولاه الشمس والضياء، والقمر النور. وإن قلت: يقدر أي: قدر هذا جعل منازل، فهو وإن صح باعتبار ظاهر اللفظ فلا يصح باعتبار المعنى، لأن المقدر منازل ليس هو هذا الجعل، بل عرض من أعراض الجرم وهو الحركة كما سلف.
وضوء الشمس كيفية قائمة ها لذاتها بلا خلاف، كما حكى ذلك النيسابوري (3)، وأما نور القمر (4) فقد ذهب جمهور الحكماء إلى أنه مستفاد من .................
(1)[يس: 39]
(2)
انظر "روح المعاني " للألوسي (11/ 67).
(3)
في تفسيره " غرائب القران ورغائب الفرقان "(11/ 56).
(4)
إن هذا القمر جرم غير منير بذاته، ولكن يستمد نوره بالانعكاس من الشمس المضيئة بذاتها، ليعكسه بدوره إلى الأرض كما صرح القران، وعرفوا أنه تابع للأرض، يسايرها وبدور معها ومثلها من الغرب إلى الشرق، وإن له دورتين، دورة حول نفسه ودورة حول الأرض، ولكن حكمة الله سبحانه قضت أن يتم الدورتين في وقت واحد، وأن يبقى متجها بأحد وجهيه إلى الأرض فلا ترى وجهه الثاني ابدأ. وذلك أن الأرض تتم دورها حول نفسها في يوم كامل وتتم دورتها حول الشمس في سنة كاملة تدور فيها على نفسها 365 دورة.
أما القمر فيتم دورته حول نفسه وحول الأرض معا في مدة شهر قمري واحد أي أنه في المدة التي يدور بها حول الأرض لا يدور حولي نفسه إلا مرة واحدة يتجه ها دائما بوجه واحد نحو أمه الأرض لا يوليها ظهره أبدا.
الشمس (1). وذهب من عدا الجمهور إلى أنه كيفية قائمة به كقيام ضوء الشمس بالشمس، إذا تقرر هذا فكيف يصح أن يقال أن نفس هذه الكيفية هي المجعولة منازل!، قال أبو السعود (2): والجعل إن جعل. بمعنى الإنشاء والإبداع فضياء محضا للمبالغة، وإن جعل. بمعنى التصير فهو مفعوله الثاني، أي جعلها ضياء على أحد الوجهين المذكورين، لكن لا أن كانت خالية من تلك الحالة، بل إبداعها كذلك كما في قولهم: ضيق فم الركية، ووسع أسفلها. انتهى.
فعرفت هذا أن الضياء والنور متعلقان بجرم الشمس أو نفس الجرم مبالغة. وعلى كل تقدير فليس المقدر منازل هو ذلك.
البحث السادس: قوله: قال السعد: والظاهر أن المراد بالمنازل البروج، وهو حملي على غير الظاهر إذ البروج (3) هي المنازل بعينها، فلم عدل إلى هذا؟ والجواب إن البروج الاثنى عشر هي غير المنازل التي هي ثمانية وعشرون؟ فإن البروج عبارة عن مقدار من دور الفلك، والمنزلة عبارة عن الكوكب الثابت الذي هو واحد من ثمانية وعشرين كوكبا كما تقدم نقله عن النيسابوري (4)، .... .... ....
= انظر: " قصة الإيمان " لنديم الجسر ص 328، " القرآن والعلم الحديث " عبد الرزاق نوفل ص 180. .
ويقال: " إن الأجرام في السماء ذات الضوء المكتسب هي السيارات التسعة. مما فيها الأرض (وهى التي أسماها القرآن الكواكب) وتوابعها من الأقمار قي المجموعة الشمسية، وما قد يوجد مثلها في السماء، وبن العلم أن قمر الأرض نشأ منها، وإن بقية الأقمار نشأت من الكواكب الأخرى، فاتفق العلم مع القرآن في وجود نوعين من النيرات المظلمة بذاتها في السماء وهي السيارات التي أسماه الكواكب، والتوابع التي منها قمر الأرض ولكنه زاد عليه بتفاصيل كعادته ".
انظر: "التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن " للأستاذ حنفي أحمد ص 170.
وانظر "روح المعاني " للألوسي (11/ 69).
(1)
ثم قال النيسابوري: " وبذلك يقع اختلاف أحواله من الهلالية والبدرية
…
".
(2)
قي تفسيره " إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم "(2/ 630).
(3)
في تفسيره (11/ 56).
(4)
ثم قال النيسابوري: " وبذلك يقع اختلاف أحواله من الهلالية والبدرية ".
وأبي السعود (1). وبذلك قال غير هما. والمنزلة أيضًا التي هي عبارة عن الكوكب الثابت الذي يقطعه القمر بحركته في كل يوم وليلة إذا أريد به مقدار من دور الفلك يحل به ذلك النجم، فهذه الإدارة لا تستلزم أن تكون المنازل نفسي البروج، لان البرج إنما يقطعه القمر في يومين وليلتين وثلث يوم وليلة وإن صدق على مجموع المنازل أنها مجموع دور الفلك كما صدق على مجموع البروج أنها مجموع دور الفلك، ثم المنازل وإن كانت هي منازل للشمس كما هي منازل للقمر، لكن لما كان القمر يقطع في كل يوم وليلة واحدا منها، والشمس إنما تقطعه في ثلاثة عشر يوما بلياليها كانت نسبة هذه المنازل إلى القمر أظهر في نسبتها إلى الشمس، لمرور القمر فيها جميعا في كل شهر، والشمس إنما تمر بها في كل سنة مرة. ومع هذا كله فلا جدوى لقول السعد، والظاهر أن المراد بالمنازل البروج، لكن لا من حيث اتحادهما كما ذكره السائل- عافاه الله- بل من حيث كون ذلك لا يفيد شيئا فيما هو بصدده من ترجيح كون المرجع للضمير هو القمر.
البحث السابع: قال- كثر الله فوائده-: وقال أي: السعد: لأن بها عدد السنن والحساب بقرانه مع الشمس وظهوره بعدها؛ وظاهر القران يقتضى غير هذا بم إذ لا دخل له في حساب القران الذي هو من علم المنجمين، فاعتبار الشرع برؤية الهلال لا بقي أن (2) الشمس، فإنما هو اعتبار الشهر عند المنجمين المسمى بالجدول، قال- عافاه الله-: ثم قال السعد: وذلك لأن المعتبر في الشرع السنة القمرية، والشهر الهلالي، فإن أرادهما بحساب المنجمين الذي هو القران كما ذكره فباطل، وإن أراد الرؤية فقد صرح بأنه القران.
(1) في تفسيره (2/ 630).
(2)
أي تقابلها معها في نقطة واحدة وعلى خط طول وعرض واحد.
انظر: " الفلك العام " د (هربري سنبر جونز) ترجمة الدكتور عبد الحميد سماحة (ص 167).
أقول: هذا اعتراض صحيح، وانتقاد رجيح، فإن السعد- رحمه الله خلط في كلامه هذا الاعتبار الشرعي بالاعتبار الجدولي، فإن مرجع الأول رؤية الهلال فحسب، وموجع الثاني القران الذي أشار إليه. وقد اقتصر المفسرون على الأول عند ذكرهم لمرجحات كون المرجع للضمير هو القمر. وفي كلام السعد خلل آخر، وهو أن القرآن أمر نسبى لا يتحقق إلا بين شيئين (1) وهما الشمس والقمر، أو أحد النيرات مع أحدهما، ولا لتم أحدهما على انفراده، فكيف يصح أن يكون من مرجحات كون القمر هو المرجع للضمير، وهو مشترك بينها وبن الشمس!، وإلى هنا انتهى الجواب. قال المجيب شيخ الإسلام إنه كان تحريره في 3 ذو القعدة سنة 1212 هـ.
(1) انظر: " روح المعاني " للألوسي (11/ 68 - 69).
وورد بعده استشكال من السائل لبعض ما فيه فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء، والقمر نورا، وسخرهما بأمره تسخيرا،- وقدرهما منازل بنص الكتاب ليعلم بسيرهما عدد السنن والحساب، والصلاة والسلام على من أرسله ماحيا لظلام الضلال بضياء هدايته، وهاديا إلى سبيل الرشاد بنور رسالته، وعلى آله الذين طلعت شمس علومهم في سماء الفضل فانزاحت حنادس (1) الجهل، وعلى علماء أمته الذين خصهم بمزيد الفضل والشرف، وحفظ بهم علم الكتاب والسمنة بحمله خلف عن سلف، فلم يخل عصر من عالم يرجع إليه في توضيح المشكلات، ولم يتعطل زمن من فاضل يعول عليه في حل المعضلات. ومن ظن أن جيد الزمن عاطل من قلائد الفضل اللؤلؤية، وأن مهوى سيفه خاليا عن أقراط الكمال الجوهرية فلينظر إلى ما تقلد به جيد هذا الزمن من اللألئ اليتمية، وتقرط به سيف هذا الدهر من الجواهر الثمينة ليعلم أن هذا هو الدهر الأول، وأن ذلك العصر هو العصر المستقبل، وليتأمل ما أودع مولانا الأوحد، وعلامة العصر المفرد، وإنسان عين هذا العالم الإنساني محمد بن علي بن محمد الشوكاني- كثر الله فوائده، وأجزل له عوائده- وما أبدع في جوابه المسمى جواب السائل عن تفسير تقدير القمر منازل، فلقد كشف النقاب عن وجوه تلك المسائل، وأتى من التحقيق ما يعجز عنة جهابذة الأوائل، سوى أنه عرض للذهن القاصر ما عرض من إشكال معه في أطراف.
أولا فيما أطبق عليه أئمة التفسير من تقدير الحذف والتأويل على وجهين في تفسير قدرناه، فهلا أولو قدرناه بمعنى سيرناه، وجعلوا التقدير بمعنى. . . . . . . . . . . . . .
(1) حندس: الجندس: الظلمة وفي الصحاح: الليل الشديد.
وليلة جندسة وليل حندس مظلم، والحنادس ثلاث ليالي من الشهر لظلمتهن. " لسان العرب"(3/ 356)
التسيير (1) حتى يقع الفعل على مفعوله بدون حذف ولا تأويل.
الثاني أن الصدر لم يثلج ببرد اليقين فيما ذكروه أن اليوم والليلة يعرفان بمسير القمر.
وقد أفدتم ما أفدتم. ومما أشكل قول أبي السعود: وأما اليوم والليلة فإنهما وإن كانا يعرفان بالإضاعة والإظلام. ثم قال ما معناه أن كون هذه الليلة الأولى أو الثانية، أو اليوم الأول أو الثاني متوقفا على النظر في القمر، ومحل النزاع ليس هذا من جهل العدد، بل المراد أن معرفة اليوم والليلة من حيث إن هذا يوم، وهذه ليلة لا يعرفان إلا بسير الشمس فقط، كما أن هذا شهر من حيث هو شهر لا يعرف إلا بصير القمر، فلم خصوا الأيام والليالي والأشهر والسنن بسير القمر؟ وقد قال- عز وجل:{الشمس والقمر بحسبان} (2).
قال الزمخشري في تفسيره (3): بحسبان معلوم، وتقدير سوي يجريان في بروجهما ومنازلهما، وفي ذلك منافع للناس عظيمة، من ذلك علم السنين والحساب.
وقال المحشي: أي حساب الأيام والليالي والشهور. وقد نقلتم تلك الأقوال في عود الضمير عليهما، ولكن صرحتم بأنها مرجوحة، وأن تخصيص القمر أرجح، نعم وأشكل ما ذكره النيسابوري في تفسيره (4) كما نقلتم عنه في قوله أن المنازل ثمانية وعشرون منزلة، وأن الثمانية والعشرين عدد أيام دور القمر الذي هو الشهر إلى آخر ما ذكره.
وهذا بخلاف ما ذكره أهل الهيئة، وعلماء علم الفلك من تحقيق دور القمر، فإنهم ذكروا أن القمر يقطع الأثني عشر برجا التي هي شهر قمري في تسعة وعشرين يوما، وثماني ساعات، وخمس وأربعين دقيقة، هذا هو الدور القمري، والشهر القمري والسنة
(1) تقدم ذكر ذلك.
(2)
[الرحمن: 5].
(3)
في "الكشاف"(4/ 50).
(4)
"غرائب القرآن ورغائب الفرقان"(11/ 56).
منه اثنا عشر شهرا، فيتحصل من مجموع ذلك ثلثمائة يوم، وأربعة وخمسون يوما، وربع يوم تقريبا، وهو أيام السنة القمرية. وبرهان ذلك واضح.
وأما ما ذكره النيسابوري (1) أن أيام دور القمر ثمانية وعشرون بعد المنازل فلا يصح، لأنها تحصل أيام السنة القمرية مما ذكره ثلثمائة يوم، وستة وثلاثون يوما، وهذا غير صحيح فتأملوه (2).
ونعم أن المنازل ثمانية وعشرون، ولكنه أخل بالعبارة في عدم تحقيق المسير في المنازل، إلا أن يكون على وجه التغليب، والذي عليه التحقيق في علم الهئية على مسير القمر على اختلاف هيئته في البروج أنه يقطع في البروج المستوية في كل يوم وليلة منزلة، ونحو سدس منزلة في هيئة الأطول، وفي البروج المعوجة تقطع دون المنزلة قدر إحدى عشرة درجة، وتعجز قليلا بنحو نصف سدس، وربع سدس، ويتم من مجموع ذلك الشهر كما صرحوا.
ولا يستقيم في الفلك حساب الأيام على قانون حساب المنازل، إنما عملهم على البروج، ولعل هذا هو الذي حمل السعد على تفسير المنازل بالبروج، لصحة الحساب، لأن القمر يقطع في الشهر العربي اثنى عشر برجا، فيحصل منه حساب السنين القمرية، بخلاف المنازل فلا يتحصل فيها كمية الشهر دون اليوم على أفرادها إلا من مجموعها، إلا إذا حصل على وجه التغليب. وما ذكر النيسابوري (3) أن الشمس تقطع المنزلة في ثلاثة عشر يوما بلياليها وهم، والذي عليه علماء الهيئة أن الشمس تقطع المنزلة تارة في اثنهما عشر يوما، وتارة في ثلاثة عشر، وتارة في أقل منها. ومجموع قطعها للفلك في ثلثمائة وخمسة وستين يوما ونحو ربع يوم؛ وهذه هي السنة الشمسية، أعني: التي تعرف من
(1) في تفسيره (11/ 56).
(2)
انظر: كلام الألوسى في تفسيره (11/ 69 - 70) وقد تقدم.
(3)
في تفسيره (10/ 84).
الأيام.
ومن المعلوم أن هذا لا جدوى فيه؛ إذ المقصود هنا هو ما جاء به الشرع لا العقل، إنما سنح ذكره لعله يتمشى عليه كلام السعد. والله أعلم. والحمد لله أولا وآخرا.
قال السائل: وحرر يوم الخميس 16 ذي القعدة سنة 1212هـ.
فأجاب عليه المولى العلامة بدر الدين، العالم الرباني محمد بن على الشوكاني- عفى الله عنه- فقال:
الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على رسوله وآله. قلتم- كثر الله فوائدكم، ونفع بعلومكم-: فهلا أولوا قدرناه بمعنى سيرناه إلخ.
أقول: هذا صحيح مغن عن الحذف والتقدير في المفعول الأول، أو الثاني، أو نزع الخافض، لكنه لا يكون تأويل قدرناه بمعنى سيرناه إلا على التضمن الذي قد تمهدت قواعده، والتضمن هو ضرب من التأويل، لأنه إخراج للفعل عن معناه إلى معنى فعل آخر، فهو إن نفع عدم تقدير مفعول أول غير الضمير أو مفعول ثان، المنازل قد وقع به تقدير فعل آخر غير الفعل المذكور في نظم القرآن الكريم، وحاصله أن تقدير مفعول محذوف أخف مؤنة من تقدير فعل محذوف، فلعل تقدير المفسرين بحذف أحد المفعولين دون الفعل لهذا، ثم قد عرفتم أن القاعدة في التضمن (1) المصرح ها في علم العربية أنه يصح كون أحد المفعولين الأصلي أو البدلي حالا، والآخر أصلا. فإذا بني في الآية على التضمن كان المراد سيرنا القمر مقدرا منازل، أو قدرنا القمر مسيرا منازل، هذا الأمر لا بد منه. ولا يخفاكم أن الفعل الذي هو قدرنا باق في كلا التقديرين باعتبار بقاء اسم الفاعل، وإذا كان باقيا مع التضمن إما أصلا أو حالا عاد التقدير الذي وقع الفرار منه، لأن إتباع التقدير على القمر لا يصح، وحينئذ لم يأت التضمن بما يوجب عدم الاحتياج إلى تقدير المسير في الأول، أو لفظ ذا في الثاني باعتبار ما ذكرناه من جعل أحد [المفعولين](2) أصلا، والأخر حالا، ثم على كل حال لم يقطع الخلوص من معرة
(1): قيل: أن من الإيجاز نوعا يسمى التضمين، وهو حصول معنى في لفظ من غير ذكر له باسم أو صفة هي عبارة عنه.
وهو نوعان: أحدهما ما يفهم من البنية.
والثاني ما يفهم من معنى العبارة.
(1)
انظر: "معترك الأقران في إعجاز القرآن"(1/ 230).
(2)
في المخطوط (الفعلين) والصواب ما أثبتناه.
التأويل الذي فررتم منه إلى التضمن نوعا من التأويل كما عرفتم.
قلتم- دامت منكم الإفادة- بل المراد أن معرفة اليوم والليلة من حيث إن هذا اليوم والليلة لا يعرفان إلا بسير الشمس. أقول: لا نزاع في هذا؟ فإن الأمر كما ذكرتم، والذي في الجواب هو تصحيح لما وقع في كلام الزمخشري (1) من مدخلية القمر لمعرفة اليوم والليلة، لأن كلامه إذا حمل على أن المراد معرفة نفس اليوم والليلة فهو كما ذكرتم غير صحيح في الظاهر، وإن حمل على أن المراد معرفة اليوم والليلة من حيث إنها جزء من الوقت معين كاليوم الأول من الشهر، أو الثاني، أو الثالث، وكذلك الليلة كان كلام الزمخشري (1) صحيحا، فوقع في الجواب حمل الكلام على معنى يصح، وليس محل النزاع إلا مجرد مدخلية معرفة اليوم والليلة من مسير القمر.
وقد وقعت المدخلية من الحيثية التي ذكرناها، فلا لتم كل ما ذكرتم من أن محل النزاع هو معرفة اليوم والليلة من حيث إن هذا يوم، وهذه ليلة بم فإن هذا لا ينازع الزمخشري ولا غيره في عدم مدخليته في مسير القمر، ولكن من أين لنا أن الزمخشري أراد هذا، حتى يتجه عليه الاعتراض؟ ثم ما ذكرتم من أن ذلك المحرر في الجواب الذي استشكلتم هو كلام أبي السعود، ليس الأمر كذلك، بل هو كلام المجيب- لطف الله به- وكلام أبي السعود انقضى عند قوله أن يعتبر معها شيء غير ذلك. وما ذكرتم من نقل كلام الزمخشري (2) والمحشي على قوله تعالى:{الشمس والقمر بحسبان} (3) فهو مسلم لأن معرفة اليوم من حيث هو يوم، والليلة من حيث هي ليلة يعرفان بذلك.
قلتم- عافاكم الله- إن علماء الهيئة ذكروا أن القمر يقطع الاثني عشر البرج التي هي شهر قمري في تسعة وعشرين يوما، وثماني ساعات، وخمس وأربعين دقيقة إلى آخر
(1) في "الكشاف"(3/ 115)
(2)
في "الكشاف"(6/ 6)
(3)
[الرحمن: 5]
ما أوردتم على النيسابوري. أقول: ما ذكرتم هو عند بعض المشتغلين هذا العلم، وعند غيرهم ما ذكره النيسابوي (1). قالوا: سير القمر في كل منزلة ليلة حتى تكمل الثماني والعشرون ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر كاملا، وليلة إن كان ناقصا. ومن جملة من صرح هذا أبو السعود في تفسيره (2) فقال: وهي معنى المنازل من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين، فإذا كان في آخر منازله دن واستقوس، ثم يستتر ليلتين إذا ليلة إذا نقص الشهر انتهى.
والحاصل أن من ذهب إلى أن الشهر لا يزيد ولا ينقص بل هو مقدار معين محدود في كل شهر يتحصل من مجموعة ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما قال بما ذكرتم. ومن ذهب إلى أن الشهور تختلف زيادة ونقصانا قال بأن الشهر قد يكون ثلاثين يوما، وقد يكون تسعة وعشرين يوما، وأنه لا ظهور للقمر في زيادة على المنازل الثماني والعشرين، بل يستتر من بعدها، ويحتجب عن الأبصار، وهذا هو المحسوس بالمشاهدة. ثم يتحصل من المجموع كما يتحصل من المجموع الأول، وهو ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما، وهو السنة القمرية. وإذا تقرر هذا عرفتم عدم ورود ما أوردتم من أن السنة تكون على ما ذكره ثلثمائة وستة وثلاثين يوما، لأن هذا إنما يتم على فرض أن الشهر اسم للأيام التي تحل ها القمر في المنازل الثماني والعشرين، وهم لا يقولون بذلك لما عرفتم من أنهم يعدون من أيام الشهر يوم الاستتار أو يوميه.
قلتم- حفظكم الله-: وما ذكره النيسابوري (3) أن الشمس تقطع المنزلة في ثلاثة عشر يوما بلياليها وهم، والذي عليه علماء الهيئة أن الشمس تقطع المنزلة تارة في اثني عشر يوما، وتارة في ثلاثة عشر يوما، وتارة في أقل منهما، ومجموع قطعها للفلك في ثلثمائة وخمسة وستين يوما، ونحو ربع يوم تقريبا، وهذه هي السنة الشمسية.
(1) في تفسيره (10/ 84)
(2)
في تفسيره (2/ 630)
(3)
في تفسيره (10/ 84)
أقول: قد وافق النيسابوري (1) على ما ذكره المحقق أبو السعود في تفسيره (2)، فإنه قال: ويكون مقام الشمس في كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما انتهى. ثم ههنا شيء وهو أنكم جزمتم بأن الشمس تقطع المنزلة إما في اثني عشر يوما، أو ثلاثة عشر يوما، أو دونهما، فحصل من هذا أن أكثر منزلة تقطعها الشمس في ثلاثة عشر يوما، واقفها في دون اثني عشر يوما، وأوسطها في اثني عشر يوما ونحوه. إذا قلنا أن الشمس تقطع كل منزلة في ثلاثة عشر يوما حصل من المجموع ثلثمائة لوم وأربعة وستون يوما، فبالضرورة أنها إذا كانت تقطع بعض المنازل في اثني عشر يوما، وفيما دونها أن لا يحصل من المجموع هذا العدد، فكيف جزمتم آخرا بأنه يحصل من المجموع ثلثمائة وخمسة وستون يوما فإن هذا لا يتم إلا على أنها تبقى في كل منزلة ثلاثة عشر يوما، وفي واحدة منها أربعة عشر يوما، وهي منزلة البلدة كما ذكروه، أو على أنها تبقى في بعض المنازل دون ثلاثة عشر، وفي بعضها فوق ثلاثة عشر، وهذا لا يفيده كلامكم، فإنكم جزمتم بأن بقاء الشمس في المنازل على ثلاثة أقسام: ثلاثة عشر، واثنى عشر، ودونهما؟ فكان يلزم على هذا أن تكون أيام السنة الشمسية دون ما ذكرتم بكثير فتأملوا هذا، ففيه تمرين. وإن كان كما لمحتم إليه لا تتعلق به فائدة شرعية. وحسبنا الله وكفى ونعم الوكيل، انتهى.
قال المجيب: حرر ليلة الجمعة المسفرة عن اليوم السابع والعشرين شهر القعدة الحرام سنة 1212 هـ.
(1) في تفسيره (10/ 84)
(2)
في تفسره (2/ 630)