الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحث عن تفسير قوله تعالى: {ثم جعلناه نطفة}
(1)
تأليف العلامة
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
(1) فقدت مخطوطة الرسالة من المجلد الثالث بعد كتابتها والله أعلم
السؤال
الحمد لله من أقعدته رئاسة العلم مقاعد الملوك، ووقرته الأكابر وأذعنت له إذعان المملوك، قنطرة الأحكام، شمس الإسلام، درة تاج الإفادة، ثمرة الإجادة المقتطفة بأكف أحلام أرباب السيادة، طارد الهوج (1)، مقيم العوج، من أمات شخص الضلال، فأخره الكاسر لواء من ناوى الحق وأنكره، سلطان أهل الاجتهاد، قائد أعلام معارف النقاد، خذن الأسفار والدفاتر، حافظ السند بظهر قلبه الذاكر، الحجة القائمة على العباد، والفائدة المطلوبة للرشاد، العلامة الأوحد الرباني محمد بن علي الشوكاني عصمه الله عن الزيغ والزلل، وأيقظه عن مخائل الخطأ والخطل، وطهر بتلاوة الكتاب لسانه، ونور بتلاوته جنانة، وحبب إليه معرفة فصله ووصله، وأطلعه على حقائق فضله.
وإن الموجب لرفع أكف الأقلام إلى أعز مقام مذاكرة دارت بين بعض الأعلام أجاب فيها الوالد العلامة شرف الدين الحسن بن على حنش (2) - أدام الله فوائده- وذلك بعد النظر في كثير من كتب التفسير، كالكشاف (3)، ومفاتيح الغيب (4)، وغيرهما فلم
(1) الهوج: الحمق هوج هوجا فهو أهوج، والأنثى هوجاء، والهوج مصدر الأهوج. وهو الأحمق. لسان العرب (15/ 155)
(2)
هو الوزير الحسن بن علي بن الحسن بن على بن عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح بن محمد بن صالح ابن محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن يحيى بن أحمد بن حنش.
ولد بشهارة في سنة 1153هـ ورحل من وطنه لطلب العلم إلى مدينة صنعاء فأخذ من أعيانها كالسيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في الحديث، والقاضي العلامة أحمد بن محمد قاطن قرأ عليه في مغني اللبيب ورسالة الوضع للهروي ولما تولى المنصور بالله الخلافة ناط بالمترجم له أعمالا وصيره أحد وزرائه المقربين، وبالغ في تعظمه لكونه شيخه في العلم.
توفي رحمه الله سنة 1225هـ بصنعاء وقبر. بمقبرتها.
البدر الطالع رقم (130) ونيل الوطر (1/ 348 رقم 168)
(3)
(4/ 221)
(4)
(23/ 84 - 86)
يتعرضوا لتلك الفائدة، وهى في قول الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (1). فالذي تحصل من كتب التفسير أن المراد بالإنسان آدم، وهو قول الأكثر من السلف والخلف، وجعلوا الضمير (2) في {جَعَلْنَاهُ} لمعنى أخر، وهو من وجد من ذريته. فعلى هذا يكون من باب الاستخدام وفيه التفضيل بخلق العالم الإنساني، وأنه مخلوق من الطين، كآدم وولده من النطفة ليس إلا، ولا يوجد لذلك قسم ثالث. ولكنه ورد علينا خلق عيسى- عليه السلام، فإنه ليس من الطين، ولا هو من نطفة بل نفخه نفخها الملك حصل منها الولد. وفي الأحاديث (3) شيء واسع مما يدل على أن الأمر مفروغ منه، وأن
(1)[المؤمنون: 12 - 13]
(2)
انظر " روح المعاني " للألوسى (18/ 13)
(3)
(منها) ما أخرجه البخاري رقم (3208) ومسلم رقم (2643) من حديث زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. قال: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه، وأجله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح .... ". .
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3333) عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله وكل في الرحم ملكا فيقول: يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة، فإذا أراد أن يخلقها قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ يا رب أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه ".
(ومنها) ما أخرج مسلم في صحيحه رقم (2/ 2644) من حديث حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم? قال: " يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة. فيقول: يا رب أشقي أو سعيد .... ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (318) ومسلم رقم (5/ 2646) من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل قد وكل بالرحم ملكا. فيقول أي ربي نطفة، أي ربي علقة. أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال: قال الملك: أي رب ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه".
وأخرج أحمد في المسند (1/ 465).
عن عبد الله بن مسعود قال: مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه قال: فقالت قريش: يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي قال: لا سألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي قال: فجاء حتى جلس ثم قال: يا محمد مم يخلق الإنسان "قال يا يهودي من كل يخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة مها اللحم والدم
…
"
الولد لا يحصل إلا من نطفة الأب، والآيات فصلت خلق الإنسان من النطفة، والعلقة، والمضغة، وإن شأنه أربعون يوما نطفة، وأربعون مضغة، وأربعون علقة في سبعة أو ثمانية مواضع من كتاب (1) الله، وعيسى- صلوات الله عليه- لم يكن كذلك.
وأجاب سيدي الوالد العلامة الشرفي- كثر الله فوائده- بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} (2).
(1)(منها): قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
(ومنها) قوله تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .... } [الحج: 5].
(ومنها): {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
.} (غافر: 67).
وانظر: [فاطر: 11، يس: 17، النجم: 46، القيامة: 37، الإنسان: 2، عبس: 19]
(2)
[آل عمران: 59].
أخرج الطبري في "جامع البيان "(3 ج 3/ 295) عن ابن عباس قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وذلك أن رهطا من أهل نجران، قدموا على محمد صلى الله عليه وسلم وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟. قالوا: عيسى. تزعم أنه عبد الله، فقال محمد صلى الله عليه وسلم أجل إنه عبد الله، قالوا له: فهل رأيت مثل عيسى، أو أنبئت به؟ ثم حرجوا من عنده، فجاءه جبريل صلى الله عليه وسلم بأمر ربنا السميع العليم، فقال: قل لهم إذا أتوك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ}
وأهل التفسير (1) بنوا على الوقف عند قوله {كمثل آدم} ، وقوله {خلقه من تراب} استئناف ولم يجوزا كونه صفة، لأنه نكرة والموصوف معرفة، ولا جوزوا كونه حالا، لأن الماضي لا يقع حالا إلا مع [قد](2). هذا مفهوم كلامهم، فلذا جعلوه مستأنفا، فعلى كونه مستأنفا هل يصح أن نجعل تلك الجملة- أي خلقه من تراب- قيدا في المثل، ويكون مثل عيسى من تراب كما أن مثل ادم من تراب، والمثل (3) المراد به
(1) كالرازي في تفسيره (8/ 74) قال: قوله تعالى: {خلقه من تراب} ، ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه حبر مستأنف على جهة التفسير بحال أدم. - روح المعاني "للألوسي"(3/ 186).
وقال صاحب " الدر المصون "(3/ 218): {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى} : جملة مستأنفة لا تعلق لها. مما قبلها تعاقا صناعيا بل معنويا (2) قاله الرجاج في معاني القرآن (1/ 428) وانظر مناقشة هذا القول في " الدر المصون "(3/ 219).
(3)
والمثل عبارة عن قوله قي شيء يشبه قولا في شيء أخر بينهما مشابهة، ليبين أحدهما الأخر ويصوره نحو قولهم: الصيف ضيعت اللبن- مثل يضرب لمن يطلب شيئا قد فوته على نفسه- مجمع الأمثال (2/ 68) فإن هذا القول يشبه قوله: أهملت وقت الإمكان أمرك. وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال فقال- تعالى- {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]، وفي [العنكبوت: 43] {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} والمثل يقال على وجهين:
احدهما: بمعنى المثل: نحو: شبه، وشبه، ونقض نقض. قال بعضهم: وقد يعبر هما عن وصف الشيء نحو قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35].
الثاني: عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال فيما يشارك في الجوهر فقط، والشبه يقال فيما يشاركه في الكمية فقط، والمساوي بقال فيما يشارك في القدر والمساحة فقط والمثل عام في جميع ذلك ".
انظر: " الدر المصون "(1/ 156)" مفردات ألفاظ القرآن " للأصفهاني (ص 759)
الصفة كما في قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (1) أي صفة الجنة وصفة عيسى، كما هو معنى كلام العلامة الشرفي كان الله له سيما مع ما ورد في أن كل شخص يموت ويقبر في التربة التي خلق منها أم لا؟
وجوابكم عمدة السائل- نفع الله بعلومكم- وهذا إلى معلومكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
(1)[محمد: 15]. سأل مقاتل صاحب التفسير أبا عمرو بن العلاء عن قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ما مثلها؟ قال: فيها أنهار من ماء غير آسن. قال: ما مثلها؟ فسكت أبو عمرو. قال: فسألت يونس عنها فقال: مثلها: صفتها.
تهذيب اللغة (15/ 95)
الجواب
أقول- وبالله التوفيق-: قد اختلف أئمة التفسير في مرجع الضمير في قوله- عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} فقيل إنه راجع إلى الإنسان، وهو شامل لآدم ولذريته، وهذا على قول من قال: إن الإنسان المذكور في الآية هو آدم، وبه قال ابن عباس (1)، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل. وقال الآخرون: الإنسان هاهنا هو ولد آدم، والطن هاهن أيضًا اسم لآدم، والسلالة (2) هي الأجزاء (3) اللطيفة المبثوثة في أعضائه، التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منيا، وهذا التفسير مطابق لقوله تعالى:{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (4)، وحينئذ فلا إشكال في مرجع الضمير، وهو لفظ الإنسان، وقيل (5) أن الإنسان إنما تتولد من النطفة، وهى إنما تتولد عن فضل الهضم الراتع، وذلك إنما تتولد من الأغذية، وهى: إما حيوانية، أو نباتية. والحيوانية تنتهي إلى النجاتية، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء؟ فالأنسان بالحقيقة يكون متولدا من سلالة من طين، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردن عليها أطوار الخلقة، وأطوار الفطرة صارت ميتا. قال الرازي (6): وهذا التأويل
(1) ذكره الرازي في تفسيره
(23/ 84). والقرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(12/ 109)
(2)
والسلالة: الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر، فعالة وهو لناء يدل على القلة كالقلامة والقمامة- وهما الدور الأول من أدوار الخلق.
قاله الرازي في تفسيره (23/ 84).
وقال الكلبي: السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك فالذي يخرج هو السلالة. "الجامع لأحكام القرآن "القرطبي (12/ 109)
(3)
ذكره الرازي مما في تفسيره (23/ 84)
(4)
[السجدة: 7 - 8]
(5)
ذكره الرازي في تفسيره (23/ 84)
(6)
في تفسيره (23/ 84)
مطابق لا نحتاج فيه إلى التكليفات. وعلى هذا فالمراد بالإنسان (1) ولد آدم، ومرجع الضمير لفظ الإنسان، وليس في ذلك إشكال، إنما الإشكال على قول من قال: إن المراد بالإنسان ادم، فإنه إذا جعل المرجع لفظ الإنسان باعتبار شموله لآدم ولذريته كما قاله أهل القول الأول، فلا ريب أنه يكون في الكلام استخدام، لأنه قد أريد بلفظ الإنسان آدم وبضميره ما هو أعم منه، أو أريد بلفظ الإنسان ادم، وبضميره ذريته التي يصدق عليها لفظ الإنسان. والذي أوجب تفسير الإنسان بآدم كونه صرح سبحانه بأنه خلقه من طين، وهذا الوصف لا ينطبق إلا عليه، كما أن الخلق من نطفة لا تنطبق إلا على ذريته، وفي هذه الآية. وقد تخلص القائلون بأن المراد بالإنسان ذرية ادم عن التصريح بكونه مخلوقا من طين بأحد الوجهين الفذين قدمنا ذكرهما، فقائل يقول: إن لفظ الطين اسم لآدم، وقائل يقول بالوجه المذكور بعده.
وعندي أنه لو قيل: المراد بالإنسان المذكور بالآية هو النوع (2) الشامل لآدم وغيره ولا شك أنه مخلوق من طين، أما ادم فظاهر، وأما ذريته فلأن المخلوق من المخلوق من الشيء مخلوق من ذلك الشيء، فكل إنسان مخلوق من الطين، لأن فيه جزءا من أبيه الأول المخلوق من الطين حقيقة، ويكون الضمير راجعا إلى الإنسان هذا المعنى، أي: ثم جعلنا هذا النوع نطفة، ولا شك أن هذه خاصة للنوع، ولا يلزم في خاصة النوع أن
(1) انظر: "روح المعاني" للألوسي (18/ 13)
(2)
قال ابن جرير في "جامع البيان"(10/ ج 18/ 8) وأولى القولين بالصواب قول من قال: معناه: ولقد خلقنا ابن آدم من سلالة آدم وهي صفة مائه وادم هو الطين لأنه خلق منه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لدلالة قوله:{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} ، على أن ذلك كذلك، لأنه معلوم أنه لم يصر في قرار مكين، إلا بعد خلقه في صلب الفحل، ومر بعد نخوله من صلبه صار في قرار مكين، والعرب تسمى ولد الرجل ونطفته: سليله وسلالته، لأنهما مسلولان منه
توجد في كل فرد من أفراده، فلا يرد النقض بأن ادم له، يجعل نطفة، وهكذا لا يرد عيسى لذلك.
هذا ما ظهر في تفسير مرجع الضمير باعتبار ما أراده السائل، على أن عيسى وإن كان من إحدى الجهتين لا تصدق عليه أنه مخلوق من تراب، ولا من نطفة، ولكنه من الجهة الأخرى وهى جهة الأم يصدق عليه أنه مخلوق من تراب، ومن نطفة، لأنه قد يكون في بطن أمه، وهي مخلوقة من تراب باعتبار أبيها ادم؛ إذ المخلوق من المخلوق من الشيء مخلوق من ذلك الشيء كما قدمنا، وكذلك مخلوقة من نطفة، والأمر ظاهر، وعيسى لما تكون فيما هو مخلوق من تراب، وفيما هو مخلوق من نطفة، صح أن يدخل تحت لفظ الإنسان المذكور في الآية ويتصف بصفاته المذكورة.
إذا تقرر لك هذا علمت أن قوله في الآية الأخرى التي ذكرها السائل- كثر الله فوائده- خلقه من (1) تراب إن كان وصفا لآدم- عليه السلام فالأمر ظاهر، وإن كان وصفا لعيسى- عليه السلام فبالاعتبار الذي أسلفنا.
قال الرازي (2): أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول- عليه الصلاة والسلام وكان مما أوردوه من شبههم أن قالوا: يا محمد، لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى، فقال: إن آدم ليس له أب ولا أم، ولم يلزم أن يكون ابنا لله، فكذا القول في عيسى.
هذا حاصل الكلام. قال: وأيضا إذا جاز أن يخلق الله ادم (3) من التراب فلما لا يجوز
(1):. (2):. (3): قال ابن تيمية في " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح "(4/ 54 - 55). {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
أن هذا كلام حق، فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم (1) قوله تعالى:(خلقه من تراب)
(2)
في تفسيره (8/ 74) وقد تقدم تخريجه
أن يخلق عيسى من دم مريم، بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولدة من التراب اليابس .... انتهى
واعلم أن الكلام على ما سأل عنه السائل- كثر الله فوائده- إذا رمنا استقصاء ما يتعلق به طال البحث فلنقتصر على هذا ..... انتهى.
= قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته من ذكر بلا أنثى كما قال تعالى:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق ادم وحواء أعجب من خلق المسيح فإن حواء خلقت من ضلع وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل حواء.
فلهذا شبه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح فإذا كان سبحانه قادرا أن يخلقه من تراب والتراب ليس من جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان؟ وهو سبحانه خلق آدم من تراب، ثم قال له كن فيكون، لما نفخ فيه من روحه، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه وقال له: كن فيكون ولم يكن آدم. مما نفخ من روحه لا هوتا وناسوتا بل كله ناسوت، فكذلك المسيح كله ناسوت والله سبحانه ذكر هذه الآية ضمن الآيات التي أنزلها في شأن النصارى لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران وناظروه في المسيح.