الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني
منهج السلف في صفات الله عزوجل
…
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد سبق أن ذكرنا منهج السلف في العقيدة وارتكازهم على الكتاب والسنة لا يقدمون عليهما رأياً ولا هوىً ولا كشفاً، ولا يسومونهما بالتحريف والتلاعب عسفاً وخسفاً، وإنما التسليم والإيمان والاقرار مع الفهم والالتزام والتعقل.
منهج السلف في صفات الله عز وجل:
السلف رحمهم الله التزموا بما ألزمهم الله عز وجل به وألزمهم به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الاعتماد على كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في سائر شؤونهم ومما التزموا به في ذلك ما يتعلق بصفات الله عز وجل.
فمن نظر في كتبهم المصنفة في هذا مثل: كتاب "السنة" للإمام أحمد و"خلق أفعال العباد" للبخاري، و"الشريعة" للآجري، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي، و"السنة" لابن أبي عاصم النبيل، و"السنة" للطبري، و"النزول" و"الصفات" و"الرؤية" للدارقطني، و"الرد على الجهمية" لابن منده، و"الرد على الجهمية" و"الرد على بشر المريسي" للدارمي، و"عقيدة أصحاب الحديث" للصابوني، و"الحجة في بيان المحجة" لأبي إسماعيل التيمي الأصبهاني، وغيرها كثير، يرى الناظر فيها أن السلف رحمهم الله أثبتوا كل ما ورد في كتاب
الله عز وجل من صفاته وما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنهم الكثير من الروايات التي تحدد موقفهم ومنهجهم في صفات الله عز وجل.
من ذلك ما روي عن الإمام أحمد أنه قال: "يضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول" وقال: "المشبهة تقول بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي، ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه".
وقال نعيم بن حماد: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه" 1
وعن الأوزاعي أنه قال: "سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها على ما جاءت".
وقال الوليد بن مسلم: "سألت الأوزاعي ومالكا وسفيان وليثا عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا: أمروها بلا كيف".
وعن عباد بن العوام قال: "قدم علينا شريك بواسط فقلنا له: إن عندنا قوماً ينكرون هذه الأحاديث، الصفات، وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا، فقال شريك: إنما جاءنا بهذه الأحاديث من جاءنا بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصلاة والزكاة والحج، وإنما عرفنا الله بهذه الأحاديث".
وقيل لسفيان بن عيينة: هذه الأحاديث التي تروى في الصفات فقال: "حق على ما سمعناها ممن نثق به ونرضاه نمرها كما جاءت بلا كيف"2.
وقال الصابوني في عقيدته: "أصحاب الحديث - حفظ الله أحياءهم ورحم موتاهم - يشهدون لله بالوحدانية وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه ويثبتون له جل جلاله ما أثبت
1 شرح الطحاوية ص 66.
2 انظر هذه النصوص في إبطال التأويلات 1/47-55.
لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه
…
" 1.
وقال الخطابي: "إن مذهب السلف إثباتها - يقصد الصفات - وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه"2.
فمن هنا يمكن لنا أن نحدد أن للسلف رحمهم الله في إثبات الصفات ثلاث قواعد هي:
القاعدة الأولى: "الإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى نفياً وإثباتاً".
القاعدة الثانية: "نفي الممثالة بين الخالق والمخلوق في الصفات".
القاعدة الثالثة: "قطع الطمع عن إدراك كيفية اتصاف الباري جل وعلا بالصفات"3.
وسنذكر بإيجاز ما يتعلق بكل قاعدة من القواعد السابقة بذكر أدلتها وما يتعلق بها من المعاني الواجب التزامها فيها.
1 عقيدة أصحاب الحديث ضمن المجموعة المنيرية 1/106.
2 نقلها عنه شيخ الإسلام في مجمع الفتاوى 5/58.
3 انظر هذه القواعد الثلاث في الحجة في بيان المحجة 1/94-97، وعقيدة أصحاب الحديث للصابوني 1/106-107،إبطال التأويلات لأخبار الصفات للقاضي أبي يعلى 1/43، ذم التأويل لابن قدامة ص 11، الرسالة التدمرية ص 4، منهج ودراسات لآيات الصفات للشنقيطي ص 6،44، معتقد أهل السنة والجماعة للتميمي ص 95.
القاعدة الأولى
الإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله عز وجل نفياً وإثباتاً.
قد دلت الأدلة الكثيرة الموجبة للالتزام والأخذ بكل ما ورد في الكتاب والسنة في هذا الباب وغيره من أبواب التوحيد والدين ومن هذه الأدلة العامة:
قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر7]،وقوله عز وجل:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف3]، وقال عز وجل:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام155]، وقال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء59] .
ومما يؤكد وجوب الالتزام بما ورد في الكتاب والسنة في هذا الباب خصوصاً وغيره من أبواب الدين عموماً عدة أمور:
1 -
أن الله عز وجل غيب عنا فلم نره ولم نر شبيهاً له سبحانه وتعالى ولا مماثل فبالتالي سبيل معرفته سبحانه المعرفة الصحيحة التامة مسدودة إلا من طريق الوحي، فحاجتنا للوحي في هذا الباب من أعظم الحاجات، وقصور عقل الإنسان في الوصول إلى العلم التام الصحيح في هذا الباب ظاهر واضح، ويكفي أن ينظر الإنسان ويطلع على شيء من أقوال الفلاسفة1 في هذا فيجد كيف ضلوا في هذا الباب وأتوا بكلام هو غاية في السفه والتناقض، وصدق الله القائل:{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه110] .
2 -
أنه لا يخبر عن الله عز وجل أصدق من الله عز وجل ولا أعلم وأحكم. قال جل وعلا: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء122] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء87] .
1 سبق أن ذكرنا قولهم ومن ذلك زعمهم أن الله عقل أوحد لا يتغير ولا يتحرك.
كما ولا يخبر عن الله عز وجل أصدق من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم كما قال صلى الله عليه وسلم:"وأوتيت جوامع الكلم" 1، فلا يمكن بالتالي أن يعبر أحد من الناس أصح من عبارته صلى الله عليه وسلم ولا أدل على المراد بأكمل وجه وأقرب طريق.
3 -
أن دلالة الألفاظ الشرعية على المعاني دلالة قطعية لأن الله عز وجل قد أقام الحجة بها على العباد، قال جل وعلا:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان1] ، وقال سبحانه {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء165]، وقال أيضاً:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام92] .
فهذه النصوص، وغيرها كثير فيه دلالة واضحة على أن نصوص القرآن والسنة قطعية الدلالة لأنها لو لم تكن كذلك لما قامت بها الحجة على الناس ولو كانت نصوص الوحي لا تفيد العلم واليقين وغير قطعية الدلالة كما يزعم المتكلمون، لكان هذا الوصف غير متحقق فيها، وكانت الحجة غير قائمة على الخلق، وحاشا كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن التناقض والبطلان.
4 -
أن الإيمان بالصفات وفق ما ورد بالكتاب والسنة هو من لوازم الإقرار بالشهادتين، فمن أقر لله بالألوهية والربوبية، وأقر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة لزمه التسليم لكلام الله وخبره وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عن صفاته جل وعلا وأفعاله، وإلا كان واقعاً فيما حذر الله عز وجل من الوقوع فيه وذلك في قوله عز وجل:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء65]، وقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب36] .
1 أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة 1/372 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
5 -
أن الالتزام بمدلول الآيات والنصوص الشرعية لا يتوقف على موافقة العقل، فإن الله عز وجل قد أمر أمراً جازماً غير مشروط بموافقة العقل فمن ادعى موافقة العقل فقد افترى على الله عز وجل وفرَّغ النصوص من معانيها وأبطل دلالتها وقيدها بقيد من عنده، وهذا حال المتكلمين الذين زعموا أن دلالة النصوص على الصفات لا تقبل إلا إذا وافقت العقل.
وفي هذا يقول الغزالي: "وكل ما ورد السمع به ينظر فإن كان العقل مجوزاً له وجب التصديق به
…
وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب تأويل ما ورد السمع به "1.
ويقول السنوسي في شرح أم البراهين: "وأصول الكفر ستة، ثم قال
…
: سادساً: التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية "2.
فلا شك أن هذه الدعاوى باطلة ظالمة فيها افتراء على الله، وتقييد لكلامه بغير ما لم يشرعه الله ولم يقله، وإبطال لمعنى ودلالة النصوص الشرعية مما يفقدها قيمتها الدينية، ويجعلها كلمات جوفاء لا معنى تحتها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قواعد متعلقة بالصفات وفق القاعدة الأولى:
1 -
إثبات جميع ما ثبت في الكتاب والسنة من صفات الله عز وجل سواء ما كان مثبت أو منفي عن الله عز وجل وكل ذلك صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
والصفات المثبتة لله عز وجل كثيرة منها الوجه واليدان والعلو والعلم والكلام والسمع والبصر والقدرة والإرادة والرضى والغضب والرحمة وغير ذلك.
والله عز وجل موصوف بها على صفة الكمال الذي لا يلحقه فيها نقص بوجه من الوجوه لأنه سبحانه الكامل من كل وجه وقد دلت الآيات الكثيرة على ذلك فمن ذلك قوله عز وجل: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات159] التي تدل على تنزيه الله
1 المستصفى للغزالي 2/137-138، الاقتصاد في الاعتقاد ص 132.
2 شرح أم البراهين الكبرى للسنوسي ص 502.
عز وجل عن كل نقص وعيب، وقوله عز وجل:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة255] فهذا في كمال العلو له سبحانه، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة282] وهذا في كمال العلم، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك19] وهذا في كمال البصر {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة284] ويكفي في الدلالة على ذلك قوله عز وجل:{لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل60] .
كما ينفى عن الله عز وجل كل ما نفاه عن نفسه سبحانه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم مثل قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [فاطر44] ، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة255] ، {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [الجن3] ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص4] ونحو ذلك. وكل صفة منفية عن الله عز وجل فهي دليل من وجه آخر على الكمال فنفي العجز دليل على كمال القدرة ونفي السنة والنوم دليل على كمال الحياة والقيومية ونفي الصاحبة والولد دليل على كمال الغنى وكمال الوحدانية ونفي المكافئ والمماثل دليل على وحدانيته في الصفات سبحانه.
ومن الصفات الثابتة في القرآن ما يكون كمالاً في حال دون حال فلا تنسب لله بإطلاق ولا تنفى بإطلاق وإنما تثبت في الحال الذي تكون كمالاً كما في الكيد والمكر والخداع والاستهزاء، فهذه الصفات لم يثبتها الله عز وجل لنفسه إلا في مقابل فعل أعدائه فيكون معاملتهم بجنس فعلهم من الكمال في الانتقام منهم وعقوبتهم وذلك في مثل قوله عز وجل:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران54] ، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء142] ، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق15، 16] .
2_
ما لم يرد إثباته ولا نفيه في الكتاب والسنة فلا يجوز إطلاق القول به لأنه من باب القول على الله بلا علم وقد حرم ذلك كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف33] .وإنما الواجب في مثل ذلك التوقف ومعرفة المعنى المراد فإن أراد به معنى حقاً قبل وغير اللفظ إلى ما يتفق مع الشرع حتى يؤمن اللبس وإن أريد معنى باطل رد لفظه ومعناه وهذا مثل ما ينفيه المتكلمون من الجهة والمكان والجسم ونحوها، فإن أريد بالجهة والمكان جهة السفل أو مكان يحوي الله عز وجل فهذا معنى باطل مردود، وإن أريد بالجهة العلو أو المكان فوق العرش فهذا معنى ثابت لله عز وجل ولكن يغير اللفظ إلى العلو والاستواء على العرش ليؤمن اللبس، وكذلك الجسم إن قصد به جسم مركب من الأعضاء فهذا معنى باطل وإن أريد به الذات الموصوفة بالصفات فهذا حق ثابت لله عز وجل بالأدلة فيثبت المعنى وينفى اللفظ حتى يؤمن اللبس1.
3 -
أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فلا يفرق بين صفات الله عز وجل فيثبت منها شيء وينفى منها شيء كما هو الحال بالنسبة للمتكلمين يثبتون ما يتفق مع قواعدهم المبتدعة وينفون ما عداها، بل الواجب إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة بأجمعها ومن أثبت شيئاً ونفى شيئاً آخر فقد آمن ببعض الكتاب وكفر بالبعض الآخر والحجة قائمة عليه فيما أثبت على ما نفى.
4 -
أن الواجب في نصوص القرآن والسنة خاصة في الصفات إجراؤها على ظاهرها اللائق بالله عز وجل وعدم تحريف معناها بما يمنع وصفه بها سبحانه لأنه لا مجال للرأي فيها.
وقد سبق أن بينا أن الله غيب عنا فمعرفته سبحانه متوسطة بالوحي، والوحي من هذا قد أتى بأكمل العلم وأتمه فقد ورد فيه من التعريف بالله من ناحية صفاته وأفعاله الشيء الكثير جداً مما لم يحوجنا إلى قول أحد بعد قوله سبحانه وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الوحي جاء للتعليم والبيان والإيمان ومن صفاته اللازمة له الوضوح والظهور فليس فيه ألغاز ولا تعمية إلى ما نحن نحتاج إليه من ديننا قال جل
1 مجموع الفتاوى 3/41-42، القواعد المثلى ص 30.
وعلا: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود1]، وقال تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت3]، وقال جل وعلا:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل44] .
فعلى هذا كل صفة لله عز وجل في القرآن أو السنة تثبت لله سبحانه على ظاهر النص اللائق بالله ولا يحرف معناها أو تفهم خطأ ثم تحرف كما هو حال أهل الضلالة من المتكلمين.
القاعدة الثانية:
نفي المماثلة بين الخالق والمخلوق في الصفات.
مما يجب اعتقاده في هذا أن الله تبارك وتعالى موصوف بالصفات على صفة تليق بجلاله وعظمته وأن المخلوق موصوف بالصفات على صفة تليق بضعفه وعجزه وحاجته فلا تماثل صفات الخالق صفات المخلوق بل إن الله عز وجل لا يماثله سبحانه شيء في صفاته.
وقد دلت الأدلة على ذلك وهي قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى11]، وقوله عز وجل:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص4]، وقوله عز وجل:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم65]، وقوله تعالى:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل74] .
فهذه الأدلة دالة على أن الله سبحانه لا يماثله ولا يشابهه ولا يكون مساوياً له بحال من الأحوال أحد من خلقه وهذه هي وحدانيته سبحانه في الصفات فلا يماثله فيها أحد.
ولأهمية هذه القاعدة نفصل القول فيها في نقاط:
1-
أن القول في الصفات كالقول في الذات، وذلك أن ذات الله تعالى لا يماثلها ذات من ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته جل وعلا لا تماثل صفات المخلوقين.
2-
أن كل موصوف بصفة فصفاته تلائم ذاته.
وذلك أن الموجودات كلها موصوفة بالصفات، ولكن كل موصوف صفاته نلائم ذاته، فالدواب والطير والشجر والإنسان توصف كلها بأن لها ذاتاً وحياة وسمعاً وبصرا، ولكن كل منها صفاته تختلف عن الآخر بما يتناسب مع ذاته، فإذا كانت صفات المخلوقين غير متماثلة ومتباينة ومتفاوتة، فإذاً صفات الخالق أولى أن
تتباين فيما بينها وبين صفات المخلوق ولا تتماثل، وأن صفاته جل وعلا تليق بذاته العلية.
3 -
أن التماثل في الأسماء لا يلزم منه التماثل في المسميات.
وذلك أن الله تعالى قد وصف نفسه بصفات وصف بها المخلوقين وجعلها من صفاتهم، مثل السمع والبصر والعلم والحلم ونحو ذلك، ولكن لا يلزم من هذا التماثل في الأسماء التماثل في المسميات. وهذا ظاهر يدل عليه أن في الجنة عسلاً وخمراً ولبناً وماءً، وفي الدنيا مثل ذلك، ولكن خمر الدنيا وعسلها ولبنها وماءها يختلف عن خمر الآخرة ولبنها وعسلها ومائها، بل قال ابن عباس:"ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء"1. فإذاً كان هذا في المخلوقات فلا شك أن عدم التماثل بين الخالق والمخلوق أعظم وأكبر.
4 -
أن كل موصوفين بصفة بينهما قدر مشترك من الصفة،فمثلاً الإنسان موصوف بالبصر والنملة والفيل موصوف بالبصر، فبينهما قدر مشترك من أجله وصف كل منهم بالبصر.
ولله المثل الأعلى فالله تبارك وتعالى موصوف بالقدرة والإنسان موصوف بالقدرة فهناك قدر مشترك من أجله صح وصف الإنسان بذلك، وإلا لما صح اتصافه به، إلا أن قدرة الخالق تليق بكماله وجلاله وعظمته، والمخلوق قدرته وسائر صفاته تليق به، وليس في هذا شيء من التمثيل أو التشبيه، لأن التماثل والتشابه إنما يصح لو كان هناك تماثل وتشابه في مقدارالصفة وهيئتها، فإذا لم يكن هناك تشابه في هذا، فالقدر المشترك الذي من أجله صح الوصف بالصفة
لا يلزم منه تشابه ولا تماثل، إنما يفيد فقط صحة الوصف بالصفة.
1 ذكره ابن جرير الطبري 1/391-392 في تفسير قول الله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة25]، وانظر: الدر المنثور 1/38.
5 -
أن الغلو في نفي التشبيه تعطيل.
مما يجب أن يحذر في هذا الباب ما عليه أهل التعطيل من الفلاسفة والمتكلمين، الذين غلوا في نفي التشبيه، حتى اعتبروا أن إثبات الصفات لله تعالى وهي موجودة في الإنسان أن ذلك تشبيه، ولاشك أن هذا من أبطل الباطل، ومن الاعتداء والغلو الممقوت، وبناءً عليه عطلوا النصوص وأبطلوا دلالتها، وزعموا أن الله تعالى لا يوصف بالصفات على تفاوت منهم في ذلك.
مع أن الحق أن الواجب الشرعي في ذلك هو القصد والتوسط، فلا غلو في الإثبات يوصل إلى التمثيل والتشبيه، ولا غلو في التنزيه يوصل إلى التعطيل والتحريف، وإنما إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل.
القاعدة الثالثة:
قطع الطمع عن إدراك كيفية اتصاف الباري جل وعلا بالصفات
مما يؤمن به السلف في باب صفات الله عز وجل أنهم يثبتونها ويؤمنون بها وهم في نفس الوقت يجهلون كيف يتصف الباري بها.
وذلك لأن الله عز وجل قد أخبرنا بالصفات ولكنه جل وعلا لم يخبرنا بالكيفية كما أخبرنا جل وعلا بأنه سبحانه لا يمكن أن يحاط به علما فقال جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه110] وقال جل وعلا: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام103] .
فمن هنا كثر كلام السلف في أن الواجب على المسلم أن يؤمن بصفات الله عز وجل بلا كيف كما سبق أن ذكرنا ذلك عن العديد منهم وكما هو مشهور عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة".1
وعن شيخه ربيعة أنه قال: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول".2 فذهبت هذه المقولة أصلا من أصول أهل السنة وهي أن الاستواء معلوم معنىً لأن الاستواء في اللغة العلو والارتفاع، أما كيفية استواء الخالق على العرش فهي مجهولة ولا نعقل كيف يكون ذلك، والإيمان بالاستواء واجب شرعا لورود النصوص العديدة به.
ونزيد هذه القاعدة المهمة توضيحا بما يلي:
1_
أن العقل قاصر عن إدراك ومعرفة كيفية صفات الله عز وجل وذلك أن العقل لا يمكن أن يتخيل ولا أن يتصور إلا ما رآه أو رأى شبيها له، والله عز وجل غيب عنا فلم نره ولم نر شبيها له فلا يمكن أن نكيف صفاته كما أنه جل وعلا لم يخبرنا بذلك فبالتالي لا سبيل لنا إلى معرفة ذلك في هذه الحياة الدنيا.
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/398، الأسماء والصفات للبيهقي ص408.
2 المصدران السابقان.
2 -
أن عدم العلم بكيفية الصفات لا ينفي الصفات ولا يقدح في الإيمان بها وإثباتها. لأن الله عز وجل أخبرنا بالصفة ولم يخبرنا بالكيفية وطلب منا الإيمان بها ولا تنافي في ذلك لأن هناك أشياء عديدة نؤمن بها من مخلوقات الله ونحن لا نعرف كيفيتها، منها الروح التي في الإنسان فإن الإنسان عاجز عن معرفة كنهها وحقيقتها مع أن الإنسان يحس بها ويشعر بها وقد أخبرنا الله بها في قوله:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء85] فأخبرنا عن الروح ولم يعطنا عن كيفيتها علما فنحن نؤمن بها بدون أن نعرف كيفيتها وهذا لا يقدح في إيماننا بها. فكذلك ولله المثل الأعلى صفات الله عز وجل فجهلنا بكيفيتها لا ينفيها ولا يقدح في إيماننا بها.
3 -
أن من تكلم في الكيفية فقد افترى على الله عز وجل. وذلك أن الله أخبرنا عن صفاته ولم يخبرنا عن كيفيتها فبالتالي من كيّف صفات الله فقد افترى على الله عز وجل وقفا ما ليس له به علم، قال جل وعلا:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء36] .
4 -
أن من زعم أن السلف فوضوا علم المعنى فقد أخطأ عليهم.
من النصوص السابقة يتبين لنا أن السلف أثبتوا الصفات إثباتا تاما وفوضوا علم الكيفية ونهوا عن الكلام في الكيفية فمن زعم أنهم مفوضة في الصفات بمعنى أنهم فوضوا علم معنى الصفة فقد كذب عليهم وافترى عليهم كما هو دعوى كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة الذين ينسبون إلى السلف تفويض معنى الصفات بمعنى أن تكون الآية والحديث الواردة في ذكر صفة من الصفات من الكلام الذي لا يعرفون معناه بل يفوضون علمه إلى الله عز وجل، وهذا خطأ عليهم وكلامهم السابق والكتب المصنفة في ذلك ظاهرة الدلالة على أن التفويض إنما هو في الكيفية وليس المعنى.