المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ موانع التكفير - أصول مسائل العقيدة عند السلف وعند المبتدعة - جـ ٢

[سعود بن عبد العزيز الخلف]

الفصل: ‌ موانع التكفير

ثانيا:‌

‌ موانع التكفير

مما يدرأ عن المسلم التكفير إذا التبس فعله أو قوله أو اعتقاده الكفري بمانع من الموانع التالية:

1 -

الجهل

جهل المسلم بالحكم الشرعي في الأمر الكفري الذي قارفه مما يدفع عنه الكفر. ويستدلون لذلك بما رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الرجل الذي قال لأبنائه: "إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الريح في البحر فو الله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا"، قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض:"أدي ما أخذت"، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت، فقال: خشيتك يا رب فغفر له بذلك" 1.

فهذا الرجل جهل عظيم قدرة الله عز وجل وفعل ما فعل من خشية الله عز وجل فغفر الله له جهله.

وكذلك حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم

" 2.

فحداثة إسلامهم وجهلهم منعت من تكفيرهم ولم تمنع من الحكم على القول بأنه من جنس قول قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها.

وكذلك حديث حذيفة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدرس الإسلام كما يدرس وَشيُ الثوب 3،حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسري على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف

1 البخاري في التوحيد 13/466، ومسلم في التوبة 8/98 من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

2 أخرجه الترمذي في الفتن 2181 وقال حديث حسن صحيح.

3 وشي الثوب يعني ألوانه التي يحسن بها. اللسان 15/392.

ص: 61

من الناس، الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها" فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة: فقال: يا صلة تنجيهم من النار، ثلاثا"1.

فهذا فيه دليل على أن الإنسان يعذر بالجهل2.ولكن العلماء يفرقون هنا في مسألة الجهل بين ما يعذر بجهله الإنسان وما لا يعذر، والحالات التي يعذر الإنسان فيها بالجهل.

فأما ما كان معلوما من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة وفرائض الإسلام وتحريم الزنا والخمر ونحوها فهذا لا يعذر الإنسان بجهلها فمن أنكرها فقد كفر إلا أن يكون بعيدا عن الأمصار يعيش في البوادي مما يدل على أنه لم يبلغه العلم، أو يكون حديث عهد بإسلام لم يعلمه أحد شرائع الإسلام فهذا يعذر بجهله ولا يكفر حتى تبين له الحجة ويعلم الحق3.

أما ما خفي من المسائل والأحكام الشرعية فإن الإنسان لو أنكرها جهلا فإنه يعذر بذلك ولا يكفر حتى تقام عليه الحجة مثل رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة، أو حوض النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك مما قد يخفي على الإنسان.

2 -

المتأول لشبهة عرضت له:

مما يدرأ التكفير عن المعين أن يكون متأولا فيما وقع فيه من كفر لشبهة عرضت له، فهذا لا يكفر حتى يبين له خطأه حتى ترتفع شبهته في المسألة فهو كالمجتهد المخطئ وذلك مثل أهل البدع من الخوارج والجهمية والمعتزلة وغيرهم فإن أعيانهم لا يكفرون لوجود الشبهة المانعة لهم من قبول الحق فإن الخوارج استباحوا

1 ابن ماجه، الفتن، رقم 4049 وقال البوصيري هذا إسناد صحيح.

2 انظر مجموع الفتاوى 3/231، مدارج السالكين 1/338،339.

3 انظر مجموع الفتاوى 6/61 11/407

ص: 62

دماء المسلمين ظنا منهم أنهم كفار لارتكابهم الذنوب، والجهمية والمعتزلة أنكروا صفات الله عز وجل بشبهة عرضت لهم في ذلك وهو ظنهم أن ذلك ينافي تنزيه الله عز وجل.فلهذه الشبهة في التأويل لا يكفر أعيانهم. فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكفر الخوارج بل قال: إخواننا بغوا علينا، وقال لما قيل له إنهم كفار قال: من الكفر فروا، وقد وافقه الصحابة على ذلك فصار إجماعا1، وهذا مع ما ورد من الحديث الذي يصفهم بأنهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية.

ومما يستدل لذلك أيضا أن قدامة بن مظعون رضي الله عنه شهد عليه شهود بشرب الخمر، فقال له عمر: إني حادك، فقال: لو شربت كما يقولون، ما كان لكم أن تجلدوني، فقال عمر رضي الله عنه: لم؟ قال قدامة: قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا

} [المائدة93] الآية، قال عمر رضي الله عنه: أخطأت التأويل إن اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله عليك "2.

قال شيخ الإسلام: "إن عمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا وإن أصروا على استحلالها قتلوا"3.

فقدامة رضي الله عنه استحل الخمر لشبهة عرضت له فيما فعل، وذلك أنه ظن أن الخمر ليست محرمة على من كان تقيا وهذا فهمه من الآية التي استدل بها، حتى أبان له عمر رضي الله عنه خطأه في الفهم فارتفعت بذلك شبهته.

ومثله في ذلك ما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم من الاقتتال الذي كانوا فيه متأولين لشبهة وقعت لهم.

فعلى هذا إذا وقع الإنسان في أمر كفري،وهو متأول لشبهة عرضت له فلا يكفر حتى يبين له وترتفع شبهته. قال شيخ الإسلام عن علماء الجهمية: "ولهذا

1 انظر مجموع الفتاوى 3/282

2 سنن البيهقي 8/316

3 مجموع الفتاوى 11/403

ص: 63

كنت أقول للجهمية من الحلولية1،والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش،لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال. وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم مع قصور عن معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له"2.

هذا في التأويل لشبهة وقعت للمؤول منعته من قبول الحق ولا يلتحق بذلك من تستر بالتأويل وجحد ما هو معلوم من الدين بالضرورة،كتأويل الملاحدة ما لا يمكن تأويله من الشرائع والمعاد الأخروي والجنة والنار، فهذا كفر لا شك فيه ومن وقع في ذلك فهو كافر خارج من الإسلام، وإنما الحديث هنا في الذي يقوم بشرائع الإسلام ولم يكن مقصده تكذيب الله ورسوله فيما تأوله مما يخالف الحق3.

ولا يعني عدم تكفير من هذا حاله أنه ليس مخطئا ولا يعني أنه غير مذنب، بل هو على خطر عظيم في بدعته، وذنبه في ذلك على قدر بعده عن الحق، وإعراضه عن وسائل معرفة الحق من الكتاب والسنة التي أمر المسلمون بالالتزام بهما والأخذ بمضمونهما والإعراض عما يخالفهما،ولهذا يذم أهل البدع والانحراف من الخوارج والجهمية والمعتزلة والقدرية والأشعرية وغيرهم.

3 -

الإكراه

الإكراه على القول أو الفعل الكفري لا يكون كفرا على الصحيح لقول الله عز وجل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل106] .

1 يقصد بالحلولية الذين يقولون إن الله في كل مكان.

2 الرد على البكري، ص:259.

3 انظر مجموع الفتاوى 3/ 282-288، إيثار الحق على الخلق، ص:415.

ص: 64

فمن أكره على قول كفري من سب الله أو رسوله أو دينه أو نحو ذلك أو فعل كفري كالسجود لمخلوق أو نحوه فإنه لا يكفر بذلك.

قال شيخ الإسلام: "وإما إذا أكره الرجل على ذلك -يعني السجود لمخلوق- بحيث لو لم يفعله لأفضى إلى ضربه أو حبسه أو أخذ ماله،الذي يستحقه من بيت المال ونحو ذلك من الضرر فإنه يجوز عند أكثر العلماء، فإن الإكراه عند أكثرهم يبيح الفعل المحرم كشرب الخمر ونحوه وهو المشهور عن أحمد وغيره،ولكن عليه مع ذلك أن يكرهه بقلبه،ويحرص على الامتناع منه بحسب الإمكان، ومن علم منه الصدق أعانه الله تعالى. وقد يعافى ببركة صدقه من الأمر بذلك. وذهب طائفة إلى أنه لا يبيح إلا الأقوال دون الأفعال، ويروى ذلك عن ابن عباس، ونحوه قالوا: إنما التقية باللسان، وهي الرواية الأخرى عن أحمد"1.

فمن هنا يتبين لنا أن تكفير المعين من الأشخاص لا يتم إلا بعد أن تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة وتنتفي الموانع المانعة من تكفيره، فعندها يحكم عليه بالكفر ويعامل بما يستحق ذلك وهذا كله احتياطات شرعية من أن يقصد المعين بهذا الحكم الخطير وهو لا يستحق ذلك أو ذاهل عنه.

مسألة: موقف المسلم من الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله عز وجل

سبق أن بينا ضوابط التكفير لدى أهل السنة، وهي ضوابط عامة يدخل فيها الحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤوس، فمن كان من حكام المسلمين مسلماً فلا يجوز تكفيره بعينه إلا وفق الضوابط التي ذكرناها من تحقق الشروط وانتفاء الموانع.

ومن كان منهم كافراً أصلياً فالواجب الحكم بكفره كأن يكون يهودياً أو نصرانياً أو من هو في حكمهم من الباطنيين ونحوهم.

وكذلك القول فيهم فيما يتعلق فيما يتعاطونه من الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل

1 مجموع الفتاوى المصرية 1/56 وانظر منهج ابن تيمية في مسألة التكفير 1/269.

ص: 65

واستقدام قوانين اليهود والنصارى وإلزام المسلمين بالتحاكم إليها.

فالقول فيه وفق الضوابط السابقة بأن من حكم بغير ما أنزل الله وذلك بالقوانين الوضعية ونحوها ويرى أنه يجوز له ذلك أو أنها أفضل من شرع الله أو أن شرع الله لا يصلح لهذا الزمان فهذا لا شك أنه كفر مخرج من الملة،وهذا حكم مطلق على من فعل ذلك بهذه النية،لكن الشخص المعين سواء كان الحاكم أو القاضي أو أحد أفراد الهيئة التشريعية أو نحو ذلك فإننا لا نحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة وتتضح له المحجة وتنتفي عنه الموانع من الجهل والإكراه والتأويل، فعندها يمكن الحكم بكفره. وما لم يكن كذلك فإننا لا نحكم بكفره، وهنا مسائل:

أولاً: هل يجوز الخروج على الحكام إذا حكموا بغير ما أنزل الله؟

أما إذا لم نحكم بكفر الحاكم فلا يجوز الخروج عليه، قال النووي رحمه الله: وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين 1.

قال الطحاوي رحمه الله: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمرنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة 2.

وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة بناءً على ما ورد من الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك منها رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية"3.

وعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم"، فقالوا: يا رسول الله أفلا ننابذهم

1 شرح النووي على مسلم 12/229.

2 شرح الطحاوية ص 379.

3 أخرجه البخاري، انظر: فتح الباري 13/121، مسلم بشرح النووي 12/240.

ص: 66

عند ذلك؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة"1.

وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وإن بغوا علينا وأن نقول الحق حيثما كنا ولا نخاف في الله لومة لائم.2

فهذه الأحاديث وغيرها كثير إنما أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة والصبر على أذى الأمير وفساده،كما فيها تحريم الخروج عليه لحدث أحدثه أو جرم ارتكبه، وما ذلك إلا لما في الخروج من المفاسد التي هي أعظم مما ارتكبه الأمير من الجرم من سفك الدماء وانتهاك الأعراض وانتهاب الأموال وذهاب قوة المسلمين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي السلطان إلا وكان في خروجها من الفساد أعظم من الفساد الذي أزالته"3.

ثانياً: إذا ارتكب الحاكم ما هو كفر فما الحكم؟

لقد أباح الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج على الحاكم إذا كان كافراً أو كفر بعد إسلامه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا،وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلاأن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان 4.

فهذا الحديث فيه دلالة صريحة على جواز الخروج على الحاكم، وإزالته في حالة كفره وتولية رجل مسلم.

ولا شك أن هذا مشروط بالقدرة على ذلك من ناحية المكنة بأن يكون لدى

1 أخرجه مسلم في الإمارة 12/447.

2 أخرجه مسلم في الإمارة 12/432.

3 منهاج السنة النبوية 2/87.

4 فتح الباري 6/116.

ص: 67

الإنسان القوة التي يغلب على ظنه بها الغلبة، أما إذا لم يكن لديه القوة التي يتمكن بها من ذلك فإنه لا يخرج،لأنه بخروجه يستعدي الحاكم بما معه من قوة عليه وعلى أهل دينه،فيكون ذلك سبباً في الهلاك والدمار بدون فائدة، وذلك لأن إزالة الحاكم الكافر هو من إزالة المنكر وإزالة المنكر منوطة بالقدرة والاستطاعة وأن لا يترتب على ذلك منكر أكبر منه فإن ذلك لا يجوز.

فيجب عند ذلك الصبر عليه حتى يريح الله منه، أو يجد المسلمون القوة التي يزيلونه بها.

ومما يدل على وجوب الصبر على الحاكم إذا كان كافراً وليس عند المسلمين قدرة يزيلونه بها أدلة عديدة منها:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش في مكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاماً أذاقه فيها المشركون ألوان العذاب،كما أذاقوا أصحابه أصنافاً من العذاب بل قتلوا بعض أصحابه وخرج آخرون منهم من بلادهم فراراً بدينهم، وكل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم صابر محتسب حتى انتقل إلى المدينة وتكونت لديه القوة فعندها قاتل الكفرة.

2 -

قصة موسى مع الطاغية فرعون فإن موسى عليه السلام بعد أن أظهر الآيات الدالة على نبوته أبى فرعون قبول ذلك بل توعد موسى عليه السلام وقومه بما حكاه الله عز وجل بقوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف127] فكان جواب موسى عليه السلام وتوجيهه لقومه بالصبر قال عز وجل: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف128] . فبناءً على ذلك جعل الله لهم العاقبة بصبرهم على الأذى في الله عز وجل قال عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف137] .

ص: 68

فهذه ظاهرة الدلالة على وجوب الصبر على الحاكم الكافر فليس للناس وسيلة إلا ذلك حتى يريحهم الله عز وجل منه أو يقضي الله ما يشاء والعاقبة للمتقين.

3 -

قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 1فالحاكم الكافر وتصرفاته مع المسلمين من المنكر الذي يجب إزالته إلا أن إزالته مقترنة بالقدرة على ذلك والاستطاعة، فإذا لم يكن للإنسان قدرة فإنه غير مؤاخذ على ذلك ولا آثم،وكذلك لو ترتب على تغيير المنكر منكر أكبر منه فإنه لا يجوز تغييره،لأن المراد من تغيير المنكر تقليل الشر وتكثير الخير،فإذا أدى تغييره إلى زيادة المنكر وتكثير الشر وتقليل الخير فلا شك أن بعض الشر أهون من بعض فيتوقف المسلم عن ذلك،لأن الغاية من تغيير المنكر وهي تقليل الشر غير متحققة.

4 -

موقف الإمام أحمد رحمه الله من الخليفة العباسي الواثق فبعد أن سجن وضرب وأخرج من السجن جاءه بعض فقهاء بغداد وشاوروه في عدم الرضا بخلافة الواثق والخروج عليه فنهاهم عن ذلك وقال لهم: "لا تخلعوا يداً من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم انظروا في عاقبة أمركم ولا تعجلوا"2.

فالإمام أحمد رحمه الله قد حذر أولئك الفقهاء مغبة ما عزموا عليه ونهاهم عن ذلك وأمرهم بالصبر إلا أنهم لم يستمعوا إلى قوله فأخذوا كلهم وقتلوا.

وإن من نظر في حال المسلمين الماضين الذين خرجوا على الحكام كيف أنهم سفكوا دماءهم وأشاعوا الفتن والشر يدرك خطورة هذا الأمر، فالخوارج على كثرة خروجهم لم يحققوا لأنفسهم ما كانوا يقصدونه،وكذلك من ابتلي بالخروج من أهل السنة لم يدركوا ما قصدوا ولم يسلموا من القتل والتنكيل وسفك الدماء

1 أخرجه مسلم في الإيمان 2/212.

2 وجوب طاعة السلطان في غير معصية الرحمن ص 22.

ص: 69

وإشاعة الخوف والفتن،فهذا الحسين رضي الله عنه خرج على يزيد فكاد بفعلته أن تستأصل شأفة أهل البيت،وخرج أهل المدينة على يزيد فأدى ذلك إلى قتلهم والقضاء على بقية الصحابة الذين في المدينة ولم يسلم منها إلا من اعتزلهم كابن عمر وزين العابدين علي بن الحسين ومحمد بن الحنفية وقلائل آخرين.

ومحمد بن الأشعت خرج على الحجاج فقتل من جيشه وجيش الحجاج الآلاف من المسلمين ثم شرد هو ثم قتل طريداً، ولم يتوصل إلى ما قصد وهكذا سائر الحوادث من هذا الجنس.

وما حدث في هذه العصور دليل وبرهان فما حدث للمسلمين في سوريا أو في مصر وفي الجزائر، وغيرها من سائر البلدان من سفك الدماء وإشاعة الخوف والفتن مما كان الناس منه في عافية، لولا تلك التصرفات الرعناء ممن لم يعرفوا حقيقة معتقد أهل السنة وما فيه من الرحمة في هذا الباب،وصدق الحسن البصري رحمه الله حيث قال لما جاءه جماعة أيام يزيد ابن المهلب، فأمرهم الحسن أن يلزموا بيوتهم ويغلقوا عليهم أبوابهم، ثم قال: والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يرفع الله ذلك عنهم، وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيوكلوا إليه، ووالله ما جاءوا بيوم خير قط، ثم تلا قوله:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} 1.

فلهذه الأمور كلها فإن الواجب على المسلمين إذا كان الحاكم كافراً وليس لهم القدرة التي يغلب على ظنهم بها الغلبة فإنهم لا يجوز لهم الخروج على ذلك الحاكم.

وفي هذا المعنى جاء كلام مشايخنا الفضلاء منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حيث سئل عن الموقف من الحكام العصاة فأجاب بتحريم الخروج

1 أخرجه الآجري في الشريعة 1/158.

ص: 70

عليهم وذكر الأدلة في ذلك، ثم قال:"فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشر كثير إلا إذا رأى المسلمون كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان،فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة، أما إذا لم يكن عندهم قدرة فلا يجوز،أو كان الخروج يسبب شراً أكثر فليس لهم الخروج رعاية للمصالح العامة.والقاعدة الشرعية المجمع عليها: أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو شر منه،بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه،وأما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين، فإذا كانت هذا الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفراً بواحاً وعندها قدرة تزيله بها وتضع إماماً صالحاً طيباً من دون أن يترتب على هذا فساد كبير واختلال الأمن وظلم الناس واغتيال من لا يستحق الاغتيال،إلى غير هذا من الفساد العظيم فهذا لا يجوز بل يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف ومناصحة ولاة الأمر والدعوة لهم بالخير والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير.هذا هو الطريق السوي الذي يجب أن يسلك، لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة، ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير،ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شر أكثر. نسأل الله للجميع التوفيق والهداية"1.

ومثله أجاب فضيلة الشيخ صالح الفوزان عن سؤال في كيفية التعامل مع الحاكم المسلم وغير المسلم.قال بعد أن أجاب عن التعامل مع الحاكم المسلم: "وأما التعامل مع الحاكم الكافر فهذا يختلف باختلاف الأحوال فإذا كان في المسلمين قوة وفيهم استطاعة لمقاتلته وتنحيته عن الحكم وإيجاد حاكم مسلم، فإنه يجب عليهم ذلك وهذا من الجهاد في سبيل الله، أما إذا كانوا لا يستطيعون إزالته فلا يجوز لهم أن يتحرشوا في الظلمة والكفرة،لأن هذا يعود على المسلمين بالضرر والإبادة والنبي صلى الله عليه وسلم عاش في مكة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة،

1 نقلا عن وجوب طاعة السلطان في غير معصية الرحمن ص 31.

ص: 71

والولاية فيها للكفار ومعه من أسلم من أصحابه لم ينازلوا الكفار بل كانوا منهيين عن قتال الكفار في هذه الحقبة ولم يؤمروا بالقتال إلا بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصار له دولة وجماعة يستطيع بهم أن يقاتل الكفار.

هذا هو منهج الإسلام فإذا كان المسلمون تحت ولاية كافرة ولا يستطيعون إزالتها فإنهم يتمسكون بإسلامهم وبعقيدتهم، ولكن لا يخاطرون بأنفسهم ويغامرون في مجابهة الكفار لأن ذلك يعود عليهم بالإبادة والقضاء على الدعوة،أما إذا كانت لهم قوة يستطيعون بها الجهاد فإنهم يجاهدون في سبيل الله على الضوابط الشرعية المعروفة"1.

فهذا فيه دلالة واضحة على المنهج الذي يجب أن يسلكه المسلم في مثل هذه الحالات.

ومما أنصح به إخواني في هذا أن يعلموا أن الواجب عليهم تجاه إخوانهم المسلمين في دعوتهم وتوجيههم بعد العلم أمران:

الأول: النصح وذلك أن يدعوا إلى الله عز وجل نصيحة لإخوانهم رغبة في إيصال الخير لهم،واستفراغ الوسع في ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.

والثاني: القدرة، بمعنى أن تنصح لإخوانك وفق قدرتك التي أعطاك الله تبارك وتعالى سواءً قدرة مالية أو بدنية أو جاه أو علم، فتنطلق في دعوتك من القدرات المتاحة لك في العلم، وذلك في الخطب أو الإمامة أو التدريس أو التوجيه والتعليم في الإذاعة أو التلفاز أو نحو ذلك ما يمكنك به تبليغ دين الله والدعوة إليه بالفرص المتاحة لذلك، ولا يتعدى الإنسان ما هو في قدرته وطاقته فإن الله لا يسألك إلا عما مكنك فيه،كما لا يفعل الإنسان في هذا الباب - أعني في باب الدعوة - ما يعود على دعوته والمسلمين بشر يؤدي إلى قطع هذا العمل والإضرار به،بل يستعمل عقله وحكمته وينطلق من قدراته وإمكاناته، فبهذا يسلم وتسلم دعوته

1 المرجع السابق ص 27.

ص: 72

خاصة في مثل هذه الأزمان ويؤدي للناس الحق الواجب عليه من تبليغ دين الله.

وفي هذه الأزمان على الداعية أن يكون حذراً ويقظاً،لأن كثيراً من الدعاة أصلحهم الله قد أولعوا بالحكام فكفروهم وحملوا عليهم وألبوا الناس عليهم واجتهدوا في الخروج عليهم،كما أن الحكام تسلطوا على أولئك الدعاة بدوافع عديدة منها أنهم شعروا أنهم خطر ماحق على حكمهم ورئاستهم،فهذا كله أورث المسلمين شروراً عظيمة متواصلة خص بها أهل التدين وخاصة من الشباب بالنصيب الأوفى.

وهذا شر وبلاء، فعلى الداعية أن يكون واعياً يقظاً لأن الدعوة إلى الخروج مبنية على التكفير فليحتاط لنفسه ولو توقف عن الجواب عن مثل هذه المسائل والإعراض عنها أقصد الأسئلة، مثل: ما حكم من حكم بغير ما أنزل الله؟ ما حكم من جعل الربا في بلاده؟ ما حكم الحاكم الفلاني؟ ونحو ذلك. فلو أعرض المسلم عن الجواب عن مثل هذه الأسئلة لما يترتب على الجواب عنها من فهمها الفهم الخاطئ من قبل الجهلة المتحمسين على غير علم،لكان إعراضه عن الجواب حكمة وتعقل،ويكون أثناء ذلك دافعاً للناس للاشتغال بإصلاح أنفسهم وأهليهم،فإن لهم في ذلك شغلاً كافياً عن الحكام وأمورهم مما ليس لهم في الحديث عنه مصلحة سوى إغراء السفهاء أو ملء قلوب المسلمين على الحكام وكرههم وبغضهم المؤدي إلى شر عظيم.

والله نسأل أن يهدي المسلمين ويصلح شؤونهم وأحوالهم.

ص: 73