المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسائل تتعلق بالإيمان بالقدر: - أصول مسائل العقيدة عند السلف وعند المبتدعة - جـ ٢

[سعود بن عبد العزيز الخلف]

الفصل: ‌مسائل تتعلق بالإيمان بالقدر:

ومن السنة حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" 1

1 السنة لابن ابي عاصم 1/158.

ص: 119

‌مسائل تتعلق بالإيمان بالقدر:

1 -

إثبات الحكمة لله عز وجل.

مما يجب إعتقاده أن الله عز وجل حكيم في فعله وأمره، فلا يفعل ولا يخلق إلا لحكمة، كما أنه لا يأمر ويشرع إلا لحكمة بالغة، وهذا مقتضى وصفه بالحكمة جل وعلا في آيات كثيرة مثل قوله عز وجل وهو الحكيم الخبير وقوله:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء11]

فبناءً عليه يجب اعتقاد أن جميع ما يقدره الله عز وجل له فيه حكمة بالغة قد تعلم وقد لا تعلم، كما أن جميع أوامره ونواهيه هي وفق حكمة بالغة قد تعلم وقد لا تعلم.

2 -

أن الإيمان بالقدر من الإيمان بالغيب.

مما يجب معرفته أن إيماننا بأن الله عز وجل قد قدر علينا ما هو واقع بنا وأن الله سبحانه قد شاء جميع أفعالنا منا قبل وقوعها منا، وكذلك خلقها فينا وقت فعلنا لها، كل ذلك آمنا به واعتقدناه بناءً على الأدلة الشرعية المثبتة لذلك من القرآن والسنة، فهو إيمان بالغيب وفق خبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أننا نؤمن بالجنة والنار وما أعد الله لأهل كل دار منهما بالغيب من غير مشاهدة منا للجنة أو النار في هذه الحياة الدنيا، فكذلك الإيمان بالقدر إنما نؤمن به بناءً على الأدلة الشرعية التي وضحت ذلك وبينته، وعليه فلا يجوز لأحد أن يعارض ذلك أو يرده بناءً على نظر عقليّ قاصر أو قياس على المخلوق، لأن الأدلة الشرعية لا يجوز معارضتها بشيء من ذلك، بل الواجب التسليم لها ثم ما عقلته عقولنا فلنحمد الله

ص: 119

على ذلك، وما لم تعقله عقولنا فلنعلم أن القصور في عقولنا وليس في شرع الله وأمره، وحقيقة الأمر أنه لا يوجد في إثبات القدر ما يتعارض مع العقل السليم، لأن إثبات القدر هو إثبات لكمال الربوبية والملك والتصرف للخالق جل وعلا في عباده وخلقه. ولا يجوز الاعتراض على المالك إذا تصرف في ملكه، كما أن الله عز وجل في جميع تدبيراته وتصرفه في خلقه وكذا شرعه وأمره صادر عن حكمة بالغة، كما ذكرنا.

3 -

أن الإرادة في القرآن الكريم على نوعين.

إن الإرادة المضافة لله عز وجل في القرآن الكريم على نوعين:

أ - إرادة كونية قدرية: وهي تعني إرادة إيجاد الشيء وخلقه، وهذا النوع من الإرادة لابد من وقوعه، فإنه لا يتخلف، إلا أنه لا يتعلق بالمحبة والرضا، فقد يكون مما يحب الله عز وجل مثل طاعة المؤمنين وعباداتهم التي أراد الله وقوعها منهم، وقد تكون الإرادة مما لا يحب الله عز وجل مثل كفر الكافرين ومعصية العصاة الواقعة منهم، فإنها لم تقع منهم إلا بعد إرادة الله وقوعها، لكن الله عز وجل لا يحبها بل يبغضها ويكرهها، وإن كانت واقعة بإرادته الكونية القدرية.

ومن الأدلة على الإرادة الكونية القدرية قول الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام 125]

وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة 235]

وقال تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود 34]

فهذه الآيات وردت فيها الإرادة المضافة إلى الله عز وجل ومنها مايحبه الله عز وجل مثل الهداية بشرح الصدور، ومنها ما لا يحبه مثل الضلال والقتل والغواية. ولكن

ص: 120

الجميع واقع بإرادته جل وعلا التي هي بمعنى المشيئة قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر 7]

ب - إرادة دينية شرعية:

وهي النوع الثاني من أنواع الإرادة الواردة في القرآن الكريم، وهي مستلزمة للمحبة والرضا ولا يلزم أن تقع، وذلك مثل محبة الله عز وجل طاعة العباد وإيمانهم وهدايتهم.

ومن الأدلة الدالة على ذلك قوله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة 185]

وقوله عز وجل: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة 6]

وقوله عز وجل: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء 27]

فالإرادة في هذه الآيات تسمى الإرادة الدينية الشرعية المستلزمة للمحبة والرضا، ولكنها قد تقع إذا تعلق بها النوع الآخر من الإرادة وهي الإرادة الكونية القدرية، وقد لا تقع إذا لم يتعلق بإيجادها إرادته الكونية القدرية.

ويفيدنا ذلك معرفة أن جميع الطاعات يريدها الله ديناً وشرعاً ويحبها ويرضاها، أما المعاصي فإنه لا يريدها ديناً ولا شرعاً، وأنه جل وعلا يبغضها ويكرهها، وأنه قد يريد وجودها كوناً وقدراً فتوجد من عباده وهو في نفس الوقت يبغضها ويكرهها وقد توعدهم بالعقوبة عليها. 1

4 -

احتجاج بعض العصاة بالقدر والرد عليهم.

بعض العصاة المنحرفين عن دين الله قد يفعل الفعل المحرم المنهي عنه، ثم إذا اعترض عليه أحد ونبهه على تحريم فعله وأنه ارتكب جرماً فعليه التوبة والإقلاع

1 انظر في ذلك شرح الطحاوية ص 116 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/188

ص: 121

عما هو عليه من ارتكاب المحرم، فإن هذا العاصي يحتج بالقدر ويدّعي أن الله هو الذي قدّر عليه ذلك، أو قد يدّعي حين يدعى إلى الصلاة - مثلاً - بأنه إذا أراد الله له أن يصلي سيصلي. فكيف جواب ذلك؟

الجواب عن ذلك أن يقال: إن احتجاج العاصي بالقدر وهو مقيم على المعصية من جنس احتجاج المشركين بالقدر في دعوة الأنبياء، وذلك كما حكى الله عز وجل في قوله:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام 148]

فالمشركون هنا احتجوا بالقدر على رد الشرع ودعوة الأنبياء، والعاصي المقيم على المعصية يحتج بالقدر على معصيته، والمشركون كاذبون، وكذلك العاصي كاذب لعدة أسباب:

أ - لأن القدر ليس حجة لعاص، ونحن إنما أمرنا أن نؤمن بالقدر، لا أن نحتج به

ب - أن القدر لا يعلم حتى يقع فإذا وقع علمنا بأن الأمر كان مقدراً، فكيف يجوز للإنسان أن يحتج بشيء غاب عنه، ولا يدري ما قدر له فيه.

ج - إن الله عز وجل قد خلق للإنسان الإرادة والقدرة، وأرسل له الرسل، وأنزل الكتب ليعلموه شرع الله، ويحذروه من معصية الله، فعليه فإنه ليس للعاصي أي حجة على الله، فاحتجاجه بالقدر غير صحيح وليس فيه حجة.

د - إن مما يبين كذب المحتج بالقدر على المعصية، أنه لو اعتدى أحد على ماله أو عرضه فاحتج ذلك المعتدي بالقدر فإن المعتدى عليه لا يقبل ذلك الاحتجاج، وسيسعى إلى إنزال العقوبة به، فكذلك لا يقبل احتجاج العاصي بالقدر.

ص: 122

5 -

احتجاج بعض العصاة بالقدر بقولهم: بأنه إذا كان الله قد قدّر لي دخول الجنة فإني سأدخلها.

والرد على هذه الوسوسة الشيطانية بأن يقال:

أ - إن الجنة لا يحصلها الإنسان ولا يدخلها إلا بعمل، كما قال صلى الله عليه وسلم: في الحديث الذي سبق ذكره لما سئل: أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: "نعم". قال: فلم يعملون؟ قال: "كل يعمل لما خلق له أو يسر له".

فعليه إن ما قدر لك لا يأتيك إلا بعمل، فلابد من العمل، وذلك مثل من قدر له أن يكون طبيباً أو مهندساً أو طياراً أو عالماً في الشرع، فلا يمكن أن يكون كذلك إلا بالتعلم والاجتهاد، فكذلك ما قدر للإنسان من جنة أو نار مثل ذلك، ويخشى على من استمر في الوسوسة لنفسه بأنه إذا كان من أهل الجنة، فإنه سيدخلها فيترك طاعة الله، والشيطان يمنّيه حتى يموت على ذلك فيكون من أهل النار، لأن من ترك طاعة الله وعبادته دخل النار.

ب - أن قائل هذا الكلام غير صادق في دعواه هذه، والذي يدل على ذلك ويؤكده بأن يقال له: فلتعلم أن كل شيء بقدر حتى رزقك وطعامك ونومك وحركتك، فإذا كنت صادقاً في دعواك فاجلس في بيتك ولا تسعى لرزقك، لأن ما قدر لك سيأتيك، كما يقال له: لا تذهب تحضر الطعام ولا تصنعه لأنه إذا كان مقدراً لك سيأتيك، فهل سيقبل ذلك؟ لاشك أنه لن يقبل ذلك، فكذلك دعواه هذه غير مقبولة، وإنما هي من إتباع النفس هواها وتمني الأماني على الله، أما لو قبل ذلك وقال: أبقى في البيت حتى يأتيني رزقي بدون سعي، أو أمكث في مكاني حتى يأتيني طعامي فهو لاشك بعدها مجنون لا فائدة من الكلام معه.

ص: 123

6 -

أثر الإيمان بالقدر وفوائده:

لا يشرع الله عز وجل شرعاً ولا يأمر بأمر إلا وله حكمة بالغة، وللإيمان بالقدر آثار وفوائد عديدة نذكر منها:

أ - أن الإيمان بالقدر - وفق ما أمر الله عز وجل وبيّن ووفق ما بيّنه رسوله الله صلى الله عليه وسلم يصحح للمسلم إيمانه ويكمله له، ويكون بذلك مستجيباً لأمر الله عز وجل بالإيمان بالقدر ويحصل بذلك أجر المؤمنين بالغيب.

ب - إن اعتقاد المسلم أن ما قدر له سيصيبه، وأن أجله ورزقه مكتوب مقدر يجعله شجاعاً مقداماً لا يخاف، لأن ما قدر له سيأتيه، فمن أي شيء يخاف؟ أمن شيء لم يكتب عليه فلن يصيبه، أم من شيء كتب عليه فلن يفر منه وهذا يدفعه إلى الإقدام والشجاعة إذا كان الأمر فيه رضى لله عز وجل.

ج - أن الإيمان بالقدر فيه الإيمان بأن جميع ما يصيبك بقدر من الله لا مفرّ منه، فعندها تخف المصيبة على الإنسان إذا وقعت، فلو مات له قريب أو ذهب له مال فإنه يصبر ويحتسب لأن ما وقع لايمكن دفعه فإذا صبر حصل له أجر الصابرين الذي ذكره الله عز وجل في قوله:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة 155 - 157]

كما أنه إذا أصابته نعمة علم أنها من عند الله فلا يبطر ولا يختال بل يشكر الله عز وجل حتى يزيد، كما قال عز وجل:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم 7]

د - أن المؤمن بالقدر يعلم "أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، فما شاء من قلب أقامه وما شاء من قلب أزاغه" 1 ويعلم أن الأعمال بالخواتيم، فذلك يدفعه إلى الاستمرار في الطاعة حتى الموت، كما أن علم الإنسان بأن الخير كله بيد الله عز وجل فلا يأتيك خير إلا من الله، كما أنه لا يصرف عنك الشر إلا الله

1 مسند أحمد 2/168.

ص: 124

عز وجل، فهذا يجعل الإنسان يرتبط بالله عز وجل ارتباطا قوياً ويكثر من دعائه وسؤاله فيحصل بذلك الخير الذي يريد بإذن الله، ويندفع عنه الشر الذي يخاف بإذن الله، ويكون في نفس الوقت قد عبد الله عز وجل عبادة يحبها الله من عباده وهي الدعاء والسؤال، وفي هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من لم يسأل الله يغضب عليه" 1، وفيها استجابة لأمر الله عز وجل لقوله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر 60]

هـ -أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فمن كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة"

هذا الحديث فيه بشارة للمسلم إذا كان على عمل صالح لعله يكون خلق للجنة، فيزداد تمسكاً واجتهاداً ليحصل على أعلى المراتب، كما أن فيه تحذيراً للمسلم فيما لو كان على عمل غير صالح، فلا يصلي أو يشرب الخمر ونحو ذلك، بأن في ذلك علامة وتخويف له من أن يكون خلق للنار، لأن علامة ذلك الاستمرار في معصية الله عز وجل، فينتبه ويحذر ويرجع عن فساده حتى لا يكون من أهل النار، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تمت في 5/1/1421هـ تصحيحاً.

وكتبه: سعود بن عبد العزيز الخلف.

1 مسند أحمد 2/443.

ص: 125