الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوده، ومن هذا الباب عندهم إذا قيل: علم الله فيعني، أن الله سبب وجود العلم وليس بمعنى أن الله موصوف بالعلم، وهذا القول مما يقول به بعض الفلاسفة.
الصنف الثاني: الأشاعرة والماتريدية.
الذين يثبتون بعض الصفات وينفون البعض الآخر وهم: الأشاعرة والماتريدية: حيث يثبتون سبع صفات هي العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام النفسي1.
ويسمونها الصفات العقلية نسبة إلى مصدر ثبوتها وهو العقل عندهم أما بقية الصفات وهي الصفات الخبرية والصفات الفعلية فينفونها عن الله عز وجل ويوجبون فيها إما: التأويل أو التفويض، وسنبين المراد بهما في الفقرات التالية:
1 انظر اللمع للأشعري ص 10-15، الإرشاد للجويني ص 77-105، الاقتصاد من الاعتقاد للغزالي ص 85-88، نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني ص 181، شرح جوهرة التوحيد ص 105-131، شرح أم البراهين على السنوسية ص 16-22.
مسلك المعطلة في نصوص الصفات
.
إن كل من نظر في القرآن الكريم أو السنة النبوية يجد أنهما يزخران بالنصوص الدالة على الصفات مما لا يدع للمسلم عذراً في الإعراض عنها أو تجاهلها وذلك من كثرتها ووضوحها.
ولكن الشيطان قد تمكن من أهل الكلام حتى أعرضوا عن النصوص في هذا الباب ولم يحفلوا بها لأن بدعة التعطيل التي تمكنت من نفوسهم جعلتهم يظنون أن الله تبارك وتعالى لا يصح أن يوصف بالصفات1،بل اعتقدوا انحراف بل كفر من وصف الله عز وجل بالصفات التي ينكرونها مع ورودها في القرآن والسنة.
يقول الرازي: إن من يثبت كونه تعالى جسماً متحيزاً مختصاً بجهة هل يحكم بكفره أم لا؟ للعلماء فيه قولان: أحدهما أنه كافر وهو الأظهر، هذا لأن
1 الفتوى الحموية ص 6.
مذهبنا أن كل شيء يكون مختصاً بجهة وحيز فإنه مخلوق محدث، وله إله أحدثه وخلقه.1
وصار العقل هو مصدرهم في إثبات الصفات ومعرفة الله عز وجل وقد سبق ذكر قول عبد لجبار المعتزلي: "إن معرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل "2، وقول الغزالي: "وكل ما ورد السمع به ينظر فإن كان العقل مجوزاً له وجب التصديق به
…
وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب تأويل السمع به "3 وغيرهما.
كما سبق بيان بطلان دعوى التعارض بين العقل الصحيح والنقل الصحيح دعوى تقديم العقل على النقل.
ولأن مقصد المعطلة عموماً من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية بالبراهين العقلية هي التخيلات العقلية والتصورات الذهنية التي وضعها فلاسفة اليونان الوثنيين وزعموا بناءً عليها أن الله عز وجل لا يصح أن يوصف بصفة ثبوتية،صار معتقد المتكلمين أن الله عز وجل لا يوصف بالصفات، أو يوصف ببعض الصفات وينفى عنه البعض الآخر إلا أن المأخذ في ذلك واحد وهو العقل غير المؤسس على الشرع.
وبناءً عليه صار لهم في نصوص الشرع الكتاب والسنة إذا تعارضت مع أدلتهم ونتائجهم مسلكان هما:
1 -
رد المعنى وذلك بالتأويل أو التفويض. 2 - رد النص وعدم قبوله.
1 أساس التقديس ص 257.
وقد سبق ذكر قول السنوسي إن أصول الكفر ستة وذكر منها: التمسك في أصول العقائد بظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية. شرح أم البراهين الكبرى ص 502.
فهذا الكلام لا شك لم يصدر إلا لتغلغل البدعة في نفوسهم، واعتقادهم أن الله لا يصح أن يوصف بالصفات، فبناء عليه أن من أثبت الصفات فهو مجسم ومن جسم كفر، ونحو ذلك من الهذيان الذي لم يدل عليه دليل لا شرعي ولا حتى عقلي صحيح، ولكن الشبه إذا تعلقت بالقلوب قلبت موازين النظر ومنعته من رؤية الحق مع وضوحه وظهوره.
2 شرح الأصول الخمسة ص 88.
3 الاقتصاد في الاعتقاد ص 132، المستصفى 2/137-138.
قال الرازي: "اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك:
إما أن يقال إنها غير صحيحة، أو يقال إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها؛ ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر التأويلات على التفصيل، وإن لم نجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى "1، وسيأتي زيادة إيضاح لذلك.
فهذا هو موقف عموم الفلاسفة المنتسبين للإسلام والمتكلمين من جهمية ومعتزلة وأشعرية وماتريدية من نصوص الصفات، فإن كانت من القرآن الكريم مما لا يستطيعون الطعن في ثبوته أولوه وغيروا معناه ليتفق مع مقصدهم وهو نفي دلالته على الصفة،أو توقفوا عن التأويل، وفوضوا علم المعنى إلى الله مع القطع بعدم دلالة النص على الصفة.
وإن كانت الصفات واردة في شيء من الأحاديث النبوية زعموا كذباً وزوراً أنها مردودة بدعوى أن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد أو أن العقائد لا تثبت بأحاديث الآحاد.
المسلك الأول: رد المعنى: يرد المعطلة معنى النص بطريقتين: إما التأويل أو التفويض وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: التأويل.
التأويل في اللغة يتردد بين معنيين: الأول: مرجع الشيء ومصيره وعاقبته، الثاني: التفسير والبيان.
وأضاف المتأخرون معنى آخر وهو: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى محتمل مرجوح لعلة2.
1 أساس التقديس ص 220-221.
2 انظر معجم مقاييس اللغة 1/160، تهذيب اللغة للأزهري 15/437،مختصر الصواعق 1/10.
أما في القرآن والسنة واستخدام السلف فلم يرد لفظ التأويل إلا على المعنيين الأولين وذلك مثل قوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف53] والمراد بتأويله هنا ظهور حقيقته وذلك يوم يأتيهم الجزاء يوم القيامة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس:"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" 1 فعلم التأويل هو علم التفسير.
ومن ذلك قول ابن جرير في تفسيره: "القول في تأويل الآية
…
" ومراده تفسير الآية وبيان معنى ألفاظها وأحكامها 2.
فهذان المعنيان هما الاستخدام الصحيح لكلمة التأويل ولكنها صارت في عرف المتأخرين خاصة بالمعنى الأخير وهو تحريف المعنى من معناه إلى معنى غير ظاهر لعلة وهذه العلة لا تعود في الغالب لمعنى شرعي؛ وإنما تعود إلى رأي وهوى، وهذا حقيقته تحريف كما يقول شيخ الإسلام:"فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل "3، وقال ابن القيم:"والتأويل الذي يخالف ما دلت النصوص، وما جاءت به السنة هو التأويل الفاسد"4.
أمثلة من التأويل الفاسد لدى المتكلمين:
من الأمثلة التي استخدم المتكلمون التأويل فيها: تأويل الآيات المتضمنة للصفات.
فالمعتزلة يؤولون سائر الصفات ويمنعون اتصاف الله عز وجل بصف ثبوتية، ويقولون إن اتصاف الله عز وجل بصفة من الصفات يؤدي إلى إثبات آلهة معه وإثبات الجسمية له وما إلى ذلك من الدعاوى فكل صفة من الصفات يؤولونها حتى لا
1 المسند 1/266-314-328-335.
2 انظر درء تعرض العقل والنقل 1/14، الإمام ابن تيمية وقضية التأويل ص 34/35، جناية التأويل الفاسد، محمد أحمد لوح ص 1-12.
3 مجموع الفتاوى 13/296.
4 الصواعق المرسلة 1/187.
يقعون في التشبيه أو نحو ذلك، فيقولون إن المراد بالآيات الدالة على الصفات مثل الاستواء هو الاستيلاء،والرحمة هي إرادة الثواب،واليد القدرة، والعلم الإدراك والسمع والبصر هو الإدراك وهكذا سائر الصفات.
أما الأشاعرة والماتريدية فاستخدموا التأويل أيضاً بنفس الطريقة التي استخدمها به المعتزلة إلا أنهم أكثر إثباتاً للصفات من المعتزلة، إلا أن ما يخالف قواعدهم فإنهم يؤولونه مثل قولهم في الاستواء الاستيلاء، واليد القدرة، والرحمة إرادة الثواب، والغضب إرادة العقاب، والوجه الذات، ونحو ذلك من التأويلات التي هي في الأصل تأويلات المعتزلة نفسها.
بيان بطلان التأويل عند المتكلمين:
المتكلمون عموماً تصوروا في أنفسهم تصوراً بالنسبة لله عز وجل ثم بناءً عليه أرادوا تطبيق هذا التصور على كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا يشك عاقل أنه لا ينطبق على تصور المتكلمين وآرائهم وإنما هم في وادِ والشرع في واد آخر، فأرادوا أن يجمعوا بين الثرى والثريا ويطبقوا تصوراتهم على الشرع بتأويلاتهم الفاسدة، وقد نهى السلف رحمهم الله عن تأويل نصوص الصفات بل قد أجمعوا على إثباتها من غير تأويل وتحريف ومن ذلك قول الترمذي رحمه الله في كلامه عن حديث:"من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل" 1 قال: "وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات في الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: نثبت الروايات في هذا ونؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال كيف، هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعن ابن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه
1 أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 13/415.
الروايات وقالوا هذا تشبيه وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد هاهنا القوة، وقال إسحاق بن إبراهيم راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد أو مثل يد، أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر ولا يقول كيف ولا يقول مثل سمع لا كسمع فهذا لا يكون تشبيها وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى11]1.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: "وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن فما ذكره الله تعالى في القرآن من الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال الصفة،وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف"2.
ونقل الإجماع على عدم التأويل ابن عبد البر رحمه الله حيث قال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز "3.
فهذا دليل على بطلان التأويل وضلال المؤولة ومخالفتهم لمنهج السلف.
كما أن للتأويل الذي هو التحريف لوازم كثيرة باطلة تتضح لكل من تأمل تأويل هؤلاء المعطلة.
ومن هذه اللوازم:
1 سنن الترمذي 3/41.
2 الفقه الأكبر مع شرحه لملا علي القاري ص 33-34 وقد نقل عن فخر الإسلام وعن السرخسي ما يوافق ذلك أيضاً.
3 التمهيد 7/145.
1 -
أن القرآن والسنة ليسا كتابي هداية بل ضلال على زعمهم وذلك أنهم زعموا أن جميع ما فيها من الصفات ليس على ظاهره مما يؤدي إلى انحراف الخلق لعدم إدراك كثير من الناس للتأويل الذي يصرف الكلام عن ظاهره، حتى أتى المتكلمون فبينوا لهم أوجه التأويل التي تبطل دلالة اللفظ الظاهر.
2 -
يلزم من قولهم بالتأويل عجز الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن التعبير الصحيح حيث تكلم بما ظاهره خلاف الحق.
وذلك أن آيات وأحاديث الصفات لا تكاد تحصر كثرة وعلى زعم المتكلمين أنها ليست على ظاهرها، فكان الأولى عدم تركها بدون بيان، وتركها هكذا بدون بيان وتحذير من الأخذ بظواهرها إما دليل على العجز عن التعبير الصحيح أو عدم الرغبة في الهداية وكلاهما منتف عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3 -
أن دعوى أن نصوص الصفات ظاهرها باطل، وأن الحق هو في تأويلات المتكلمين وتخرصاتهم مؤد إلى أن ترك الناس بدون وحي في هذا أسلم لهم من أن يكون الوحي مضلاً لهم ومبعداً لهم عن الحق.
4 -
يلزم من دعواهم في التأويل أن يكون الصحابة وأهل القرون الفاضلة إما جهلوا تلك التأويلات أو كتموها وذلك أنه لم يرد عن أحد منهم تلك التأويلات التي زعمها المتكلمون.
ويلزم من هذا إما أنهم جهلوا تلك التأويلات ولم يعلموها ولازم هذا أن يكونوا اعتقدوا بظاهر تلك الصفات فاعتقدوا في الله الباطل، وإما أنهم علموا بها ولكنهم كتموها ولم يبينوها للأمة فيكونوا بذلك قد خانوا الأمة وكتموا علماً يحرم عليهم كتمانه خاصة أنه يتعلق بالتعريف بالله عز وجل وصفاته وأفعاله، وكل ذلك لا شك منتف عن خير الأمة وأئمتها وأفضل قرون أهل الإسلام.
5 -
أن المتأول من هؤلاء المتكلمين لا يمكنه أن يبين الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ تأويله من الآيات والأحاديث.
وذلك أن التأويل مبني على قواعد عقلية مخالفة للشرع، ولكل من المتكلمين من المعتزلة والأشعرية والماتريدية فضلاً عن الفلاسفة رأيهم ومنهجهم، فاختلفوا بناء على ذلك فيما يؤولونه ويحرفونه، فأول المعتزلة الصفات كلها وأول الأشعرية والماتريدية بعضها وأول الفلاسفة والباطنية الصفات والأفعال وحتى المعاد وأسماء الملائكة فبالتالي لا يستطيع أحد منهم أن يبين الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ تأويله.
6 -
أن المؤول لا يمكنه الرد على منكري البعث ولا على منكري الربوبية من الملاحدة الباطنية وذلك لأن آيات وأحاديث الصفات التي تسلط عليها المتكلم الضال بالتحريف الذي يسميه تأويلاً أكثر وأظهر من آيات البعث وآيات الربوبية ،كما أن المتكلم لا يرجع في تأويله إلى دليل شرعي إنما إلى نظر عقلي يعود إلى مشركي اليونان الوثنيين، فبالتالي لا يستطيع أن يقيم الحجة على منكري البعث ومنكري الربوبية الذين يرجعون في دعاويهم إلى القوم نفسهم.
7 -
أن المتكلمين لم يرجعوا فيما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة وإنما رجعوا إلى قوانين الصابئة والمشركين من الفلاسفة الوثنيين وجعلوا القرآن والسنة وراءهم ظهرياً وزعموا أنهم يريدون أن يوفقوا بين العقل والقرآن وصدق فيهم قول الله عز وجل: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء60 - 62]
8 -
أن التأويل الذي يزعمه المتكلمون للصفات مراعاة لما يسمونه التقديس أو التنزيه يلزم منه لازم مثله في الضلالة أو ربما أكثر منه،وذلك أن المتكلمين إنما أولوا الصفات التي يلزم منها عندهم الجسمية أو نحو ذلك، إلا أنه يلزمهم من
الباطل فيما أولوا أشد وأعظم مما فروا منه، فصفة العلو مثلاً نفوها فراراً من التجسيم، وقالوا: هو لا داخل العالم ولا خارجه، فإذا بهم ينفون وجود الله عز وجل لأن كل ما لم يكن داخل العالم ولا خارجه فلا وجود له أو يلزمهم أن يقولوا هو في كل مكان، فيلزم لذلك عدم تنزيهه عن مكان من الأماكن القبيحة والمستقذرة، وكذلك نفيهم للكلام، وزعم الأشاعرة أنه الكلام النفسي، فإن لازم ذلك وصفة سبحانه بالخرس الذي هو صفة نقص أما الكلام فهو صفة كمال،ولاشك أن هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة بأن يبتلى بضد ما قصد،،وماذا بعد الحق إلا الضلال1.
1 انظر الفتوى الحموية ص 8-15، ومختصر الصواعق 1/10-129، وجناية التأويل الفاسد ص 30-39.
ثانيا: التفويض:
يقصد به: اعتقاد عدم صحة دلالة ظاهر النص على الصفة وتفويض علم معنى النص إلى الله عز وجل. مثال ذلك:اليد والوجه والقدم ونحوها من الصفات فهي ألفاظ ليس لها معنى معلوم عندهم، وإنما الله تبارك وتعالى هو الذي يعلم مراده منها، مع الحذر من اعتقاد أنها تتضمن إثبات صفة اليد أو الوجه أو القدم، ويضيفون أيضاً أن هذا هو مذهب السلف.
وهذا الذي رجع إليه الجويني في كتابه "العقيدة النظامية" وأوجبه1، مع أنه في كتابه "الإرشاد إلى قواطع الأدلة" يوجب تأويل الصفات حذراً من اللبس ووقوع الشبهات في الدين2.
والغزالي جعل التفويض هو الذي يصار إليه مع العوام،فيزجروا عن تعلم معاني الصفات ويفهموا فقط أن الله ليس كمثله شيء3، وزعم أن هذا الموقف من العوام هو مذهب السلف وأنهم كانوا لا يطلعون العوام على علم معاني الصفات مع أنهم كانوا يعلمون ذلك، وبنى على ذلك كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام"4.
1 العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية ص 32.
2 الإرشاد إلى قواطع الأدلة ص 60.
3 انظر الاقتصاد في الاعتقاد ص 36.
4 انظر إلجام العوام عن علم الكلام ص 54، 84.
أما المتأخرون من الأشاعرة فصاروا إلى أن كل نص فيه إثبات صفة لا يثبتونها، فعلى المسلم أ، يعتقد عدم ثبوتها أولاً، ثم بعد ذلك إما أن يؤول وإما أن يفوض إلى الله عز وجل علم المعنى 1.
الرد عليهم في دعوى التفويض.
الأشاعرة والماتريدية الذين يدعون التفويض وينسبون ذلك إلى السلف جمعوا بين تجهيل السلف والكذب عليهم كما أنهم متناقضون في هذه الدعوى وهذا يتبين مما يلي:
1 -
إن ادعاء أن السلف كان مذهبهم تفويض المعنى تجهيل لهم وذم، لأن معنى ذلك أنهم كانوا كالأعاجم والأميين الذين لا يفهمون معاني الصفات، وإنما يقرؤون آيات القرآن ولا يدرون ماذا تعني، وهذا خلاف الحق الظاهر المشهود، فإن الثابت أن الصحابة رضوان الله عليهم تعلموا لفظ القرآن وتفسيره ونقلوه إلى من بعدهم. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"والذي لا إله إلا غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته".
وعنه رضي الله عنه أيضاً أنه قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن".
وعن مجاهد قال: "عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها "2.
1 انظر: أساس التقديس للرازي ص 221، حيث جعل النصوص المعارضة للعقل إما غير صحيحة فترد وإما صحيحة فيقطع بأن ظاهرها غير مراد ثم تؤول على سبيل التبرع، وإما يفوض علمها إلى الله عز وجل، وانظر شرح جوهرة التوحيد ص 153-154، وجاء فيها: وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها
2 ذكر هذه الروايات الثلاث ابن كثير في مقدمة تفسيره 1/4-5.
فهذه النصوص تدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا أميين جهلاء لا بالنسبة لنصوص القرآن ولا بالنسبة لآيات الصفات ومن ادعى أنهم يجهلون معاني النصوص فقد افترى عليهم.
2 -
إن ادعاء أن السلف كانوا مفوضة للمعنى كذب عليهم أيضاً لأن كل من اطلع على النصوص عنهم أدرك أنهم اثبتوا معاني الصفات على الوجه اللائق بالله عز وجل ومن ذلك ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في أمر الإفك: "لشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل فيَّ بأمر يتلى "1.
وكذلك قولها رضي الله عنها الذي رواه البخاري: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات"2.
وكذلك قول زينب بنت جحش رضي الله عنها تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الأخريات: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات"3.
وقول ابن عباس رضي الله عنه لما دخل على عائشة رضي الله عنها وهي في الموت: "كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات"4.
وقال الأوزاعي إمام أهل الشام: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله على عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته "5.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا أهل الحديث الذين رأيتهم عليها فأحلف عنهم مثل سفيان الثوري ومالك وغيرهما
1 أخرجه مسلم 4/2135.
2 أخرجه البخاري في التوحيد 13/384.
3 أخرجه البخاري في التوحيد 13/415.
4 المسند 1/276، الرد على الجهمية للدارمي ص 275.
5 تذكرة الحفاظ للذهبي صحيح الرواية 1/181.
الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف يشاء وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كيف يشاء" 1.
فهذا غيض من فيض في الدلالة على أن السلف كانوا يثبتون معنى الصفة ويفوضون في الكيفية وهذا ظاهر بحمد الله.
3 -
إن المفوضة يستدلون لقولهم بالوقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران7] .ويزعمون أن الصفات من المتشابه، وفي ذلك خطأ من أربعة أوجه:
أولاً: أن نسبة التفويض إلى الشرع خطأ ظاهر لما سبق بيانه.
ثانياً: ادعائهم أن الصفات من المتشابه وهذا لم يقل به أحد من السلف2.
ثالثاً: أنهم يجعلون التفويض أحد الموقفين من النصوص،والموقف الآخر والذي عليه جلهم هو التأويل، فكيف ادعوا إسناد العلم إلى الله في هذا ثم يؤولون.
رابعاً: أنهم يمنعون إطلاق الصفة الواردة في الآية وهذا معنى متعلق بالآية وهو عدم القول بالمعنى الظاهر، فادعاء أن هذا تفويض وتوقف في معنى الآية تناقض،لأنهم حددوا المراد إجمالاً إلا أنهم لم يحددوه تعييناً بمعنى أنهم نفوا المراد ثم لم يحددوا المراد، وهذا تناقض.
ولو نظرنا في موقف العلماء من فواتح السور ممن لم يفسرها قالوا الله أعلم بمراده منها، فهم لم يحددوا أي مفهوم لها لا إجمالي ولا تفصيلي فهذا هو التفويض الصحيح للمعنى أما المتكلمون فدعوى التفويض عندهم متناقضة في نفس الصفة لما ذكرنا.
4 -
إن ادعاء تفويض علم معنى الصفة إلى الله عز وجل فيه تفريغ لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والسنة عن معانيها الظاهرة وإبطال لدلالتها على المعاني،وفي هذا
1 عون المعبود 13/41، طبقات الحنابلة 1/283.
2 انظر: تفسير ابن جرير 3/172 فقد ذكر أن الأقوال في المتشابه إما أنه المنسوخ أو ما تشابهت معانيه واختلفت ألفاظه أو ما تشابهت فيه المعاني في القصص واختلفت ألفاظه، أو ما استأثر الله بعلمه من وقت نزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها ومنهم من قال المقطع من أوائل السور.
من الطعن في القرآن والسنة ما فيه، لأن معناه أن الله عز وجل خاطبنا بكلام لا معنى له عندنا،ولا فائدة لنا فيه،بل هو كلام خال من أي فائدة،بل في زعمهم مضر لنا في ديننا، وحاشا كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك بل الأولى بهذه الأوصاف كلام المتكلمين وأضرابهم.
ثانيا: ردهم للأحاديث النبوية في الصفات
المعطلة لما اعتدوا على آيات الكتاب العزيز بالتحريف والتعطيل تسلطوا على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالإلغاء والرد والإبطال فزعموا أنها أحاديث آحاد لا تقبل في العقائد، وفي هذا يقول عبد الجبار المعتزلي عن خبر الواحد:"يجوز العمل به إذا ورد بشرائطه، فأما قبوله فيما طريقته الاعتقادات فلا"1.
ويقول الرازي: "أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى فغير جائز "2.
وهذا لاشك من الظلم والاعتداء والبغي والضلال ورد الحق لشبه عقلية وتصورات ذهنية ليست بشيء ولا على شيء، وقد رد ذلك علماء الإسلام وبينوا بطلانه وبينوا أن حديث الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً له يفيد اليقين عند جماهير الأمة3.
ومما يبين بطلان دعوى المتكلمين أشياء عديدة منها:
1 -
أن الصحابة رضي الله عنه وكذلك التابعين وأئمة الإسلام لم يفرقوا بين الأحاديث كما فعل المتكلمون،إنما كانوا إذا صح الحديث أخذوا به في العقائد والأحكام وإذا لم يصح ردوه في العقائد والأحكام، فعلى من زعم التفريق أن يثبت أن الصحابة أو التابعين كانوا يفرقون بين ذلك.
1 شرح الأصول الخمسة ص 769.
2 أساس التقديس ص 215.
3 انظر مختصر الصواعق 2/362-433، شرح الطحاوية ص 501، خبر الواحد وحجيته ص 125-144.
2 -
أن الله أرسل للناس رسلاً أفراداً فلو كان التواتر مشروطاً في إقامة الحجة ما قامت الحجة على الناس بإرسال أفراد من الرسل.
3-
أن الله عز وجل قال: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات6] ،فعلل الرد بالفسق ومفهوم ذلك أنه إذا جاء العدل قبل قوله.
4-
أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رسله بكتبه إلى الملوك حول الجزيرة وهم أفراد،وقد قامت الحجة على أولئك بتلك الرسائل،كما أرسل أصحابه معلمين وولاة وقضاة مثل أبي موسى الأشعري ثم معاذ بن جبل ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن، كما أرسل قبل ذلك مصعب بن عمير إلى المدينة فدخل بدعوته كثير من أهلها، كما أرسل أبو عبيدة بن الجراح إلى نجران، فلو كانت العقائد لا تثبت بأخبار الآحاد لما صح ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ولما أقره الله عز وجل عليه.
5-
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" 1 فدعا للنفر الواحد بنقل الرواية ولم يفرق في ذلك بين عقيدة وشريعة وفي هذا كفاية والله أعلم.
2 أخرجه د. في العلم من حديث زيد بن ثابت 2/126، ت. في العلم من حديث زيد وعبد الله بن مسعود. وقال عن حديث زيد: حسن، وقال عن حديث عبد الله: حسن صحيح 5/34.
الأصول التي بنى عليها المتكلمون نفيهم للصفات
المتكلمون عموماً كما سبق بيانه اعتمدوا على أصول وقواعد سموها أدلة وبراهين عقلية زوراً وبهتاناً، وإنما هي تصورات ذهنية وخيالات وأوهام مستوردة من فلاسفة اليونان الوثنيين، ألبسها المتكلمون لباس الإسلام، وأدخلوها في صلب طريقتهم في معرفة الله عز وجل فأثمرت لهم نتائج فاسدة باطلة مخالفة لكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بل مخالفة للعقل السليم.
ومن أهم القواعد التي قعدوها في باب معرفة الله عز وجل هو: اعتمادهم على العقل في معرفة الله عز وجل وبناء عليه جعلوا الشرع تابعاً له لا متبوعاً، وهذا منهم التزام بمسلك الفلاسفة الذين راموا التعرف على الله عز وجل بالعقل، فتوصلوا بناءً على النظر في المخلوقات إلى أن الكون مكون من مادة وصورة، وأنها قديمة أزلية وأن هناك موجودا أعلى هو الذي تولى ترتيبها وانبثاق المخلوقات منها وهذا الموجود يزعمون بأنه:"عقل أوحد لا يتغير ولا يتحرك" وهو أزلي لا بداية لوجوده.
فدرج المتكلمون على هذا المدرج فراموا إثبات وجود الله عز وجل من خلال النظر في مخلوقاته بالطريقة التي سلكها الفلاسفة، وقالوا بما قال به الفلاسفة من تقسيم المخلوقات إلى مادة وصورة إلا أنهم جعلوا بدل المادة الجوهر أو الجسم وبدل الصورة العرض، وخالفوهم بأن قالوا: بحدوث الجواهر والأعراض، بخلاف دعوى الفلاسفة الذين قالوا بقدمها.
وحتى يثبت المتكلمون وجود الله عز وجل استخدموا مايسمونه: دليل حدوث الجواهر والأجسام والأعراض، وحتى يقرروا ذلك قدموا بست مقدمات - وقد سبق ذكرها في الفصل الأول - توصلوا من خلالها إلى إثبات حدوث الأجسام،ثم قرروا بناء على ذلك أن لها محدثا هو الله عز وجل، إلا أن هذا الطريق أوصلهم إلى أن نفوا عن الله عز وجل كل ما جعلوه دليلا على حدوث الأجسام أو الأعراض فأداهم ذلك إلى أن قالوا بمثل دعوى الفلاسفة في الله من أنه: عقل أوحد لا يتغير ولا يتحرك، وهم وإن لم يعبروا بهذا التعبير نفسه فإنهم التزموا مدلوله وهو أن الله لا يمكن أن يكون جسماً.
وهذا يتفق مع قول الفلاسفة: إنه عقل، كما أنه لا يمكن أن يفعل الشيء متى شاء، وهذا يتفق مع قول الفلاسفة: إنه لا يتغير ولا يتحرك، كما أن المعتزلة منهم أنكروا صفاته بناءً على أنه واحد وهو قول الفلاسفة إنه أوحد، وهذا كله حتى يسلم لهم الدليل الذي استدلوا به على وجود الله عز وجل وحدوث العالم1، فالتزموا حيال هذا الدليل التزامات صارت من أهم شبههم في نفي صفات الله عز وجل، نذكر بعضاً منها وهي:
1 -
أن إثبات الصفات يلزم منه التعدد أو ينافي الوحدانية.
2 – أن إثبات الصفات يلزم منه التجسيم.
3 – أن إثبات الصفات يلزم منه وصف الله بالحدوث أو حلول الحوادث في ذاته تبارك وتعالى.
4 -
أن إثبات الصفات يلزم منه المماثلة بين الخالق والمخلوق.
وسنشير بإ شارات مختصرة إلى هذه الشبه ونبين بطلانها:
الشبهة الأولى: أن إثبات الصفات ينافي الوحدانية ويلزم منه التعدد.
هذا الشبهة أخذ بها المعتزلة،حيث زعموا أن وحدانية الله تعني أنه واحد في ذاته وحدانية مطلقة، وهذه الوحدانية عندهم تتنافى مع إثبات الصفات، يعني أن كل صفة ذات مستقلة، فيلزم من ذلك وجود ذوات بعدد الصفات، وهذا منتف عن الله عز وجل،فبالتالي لابد من نفي الصفات حتى لا تتعدد الذوات بتعدد الصفات2.
الرد عليهم:
هذا قول باطل وتصور باطل من عدة أوجه وهي:
1 -
أن هذه الدعوى باطلة،لأن من البديهي أن كل ذات لابد لها من الصفات وأنه ما من موجود إلا وله صفات والذي ليس له صفة هو ما ليس بموجود وهو المعدوم.
1 قد سبق أن بينا بطلان هذا الطريق وهذا الدليل.
2 انظر كلام عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة ص 195.
2 -
أن المعتزلة أثبتوا صفة الوجود لله عز وجل فيلزمهم في ذلك إثبات ذات معه تسمى الوجود.
3 -
أن الوحدانية التي ذكروها وهي الذات الخالية من الصفات هو توحيد الفلاسفة، الذين زعموا أن الله لا يصح أن يوصف بأي صفة لأنه واحد من كل وجه، لا عقلي ولا شرعي وإنما هو قول مبني على وهم وخيال.
4 -
أن الله عز وجل أثبت الوحدانية وأثبت الصفات في آياته المنزلة ووحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن آيات الله في الكون تلجئ اضطراراً إلى إثبات خالق موصوف بصفات الكمال حتى يتأتى إيجاد هذا الكون وإلا امتنع وجود الكون، وهذا ظاهر واضح فكل دعوى تنفي ذلك فهي وهمية باطلة.
الشبهة الثانية: نفي الجسمية.
المتكلمون عموماً ردوا كثيراً من الصفات الذاتية مثل العلو والوجه واليد والقدم وغيرها،وزعموا أن إثبات هذه الصفات إما دليل على الجسمية أو من خصائص الأجسام فبالتالي لا يمكن إثباتها لله تبارك وتعالى لأن الله عندهم ليس بجسم ولا يقوم به ما هو من خصائص الأجسام1.
الرد عليهم:
1 -
أن دعوى أن الله عز وجل ليس بجسم هو وصف لله عز وجل أو هو قاعدة أساسية عندهم في صفات الله لأنه بني عليها اعتقادات عديدة متعلقة بصفات الله عز وجل، ومع ذلك
1 انظر الإرشاد للجويني ص 150: حيث جعل المانع من وصفه بالنزول أن ذلك من صفات الأجسام، وانظر الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 30: حيث نفى العلو بناءً على أن الجهة من صفات الجواهر، وانظر إلجام العوام عن علم الكلام ص 54: حيث جعل أول الواجبات تجاه أحاديث الصفات اعتقاد تنزيه الله عز وجل عن الجسمية وتوابعها، والرازي في أساس التقديس ص 15 وما بعدها، بنى الكتاب كله في نفي صفات الله عز وجل بناءً على نفي الجسمية.
فلم ترد في الكتاب ولا في السنة، حيث لا يوجد فيهما نص واحد ينفي عن الله عز وجل الجسمية، واستدلال الرازي لنفي الجسم عن الله بقوله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص1] ، وزعمه بأن لفظة "أحد" تعني ليس بجسم1،هو استدلال سخيف يتنافى مع اللغة والشرع فإن "أحد" في اللغة هو: الواحد وهو الأول في العدد وهو المنفرد، وبالنسبة لله عز وجل فالواحد والأحد ذو الوحدانية2.
ووحدانية الله عز وجل ثابتة له جل وعلا،كما أثبتها الشرع من جميع النواحي فهو واحد في ذاته تبارك وتعالى وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا معين له وواحد في عبادته لا شريك له.
2 -
أن نفي الجسم عن الله هو دعوى الفلاسفة الذين زعموا أن الله تبارك وتعالى "عقل" ومرادهم بذلك أنه لا ذات له سبحانه، لأن مرادهم بالعقل هو الفكر أو الشيء المعقول، وهذا إذا تمعن فيه العاقل أدرك أنه حديث خرافة لا شرع ولا عقل، فأخذ المتكلمون بهذا وجعلوه قاعدة أساسية وكأنما هو تنزيل من حكيم حميد، وحقيقته دعوى فلسفية ظنية وهمية تخرصية.
3 -
أن التجسيم إثباتا أو نفيا لم يرد في الكتاب ولا في السنة وإنما هو لفظ مبتدع فأول من ابتدعه إثباتا هشام بن الحكم الرافضي بقوله إن الله جسم، وأول من نفاه عن الله عز وجل الجهم ابن صفوان3 الترمذي، أما السلف فلا يثبتونه ولا ينفونه، فليس لأحد أن يتهمهم به كما أنه ليس لأحد من الناس أن ينفي ما ثبت بالشرع من الصفات بلفظ مبتدع مختلف في معناه إلى ثلاث عشرة مقالة كما ذكر أبو الحسن الأشعري4.
1 أساس التقديس ص 30.
2 اللسان 2/450.
3 مجموع الفتاوى 6/40-43.
4 مقالات الإسلاميين 2/4-8.
4 -
أن نفي التجسيم على الكيفية التي يطلقها المتكلمون أدى إلى نفيهم سائر صفات الله عز وجل الذاتية الثابتة بالكتاب والسنة ،وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على كذب هذه الدعوى وبطلانها لأنها معارضة لما ثبت في القرآن والسنة، فإما أن نثبت دعوى المتكلمين بنفي الجسم فننفي صفات الله عز وجل وهذا أعظم الضلال، وأما أن نثبت ما في القرآن والسنة من الصفات وننفي تلك الدعوى ونبطل الكلام فيها نفيا وإثباتا، وهذا هو الحق.
الشبهة الثالثة: نفي حلول الحوادث.
المتكلمون عموماً نفوا الصفات الفعلية عن الله عز وجل، وذلك مثل الكلام والنزول والاستواء والإتيان والضحك والرضى والغضب، وغير ذلك من الصفات المتعلقة بمشيئة الله وإرادته وأنه يفعلها عز وجل متى شاء، وحجتهم في ذلك أن هذا يؤدي إلى حلول الحوادث بمعنى أنه فعل فعلاً بعد فعل وهذا حدوث وتغير عندهم وكل متغير حادث والله منزه عن الحوادث كما أنه مؤد إلى أن الله تحل به الحوادث والله منزه عن ذلك1، هكذا على العموم زعموا.
الرد عليهم:
1 -
إن دعوى أن الله عز وجل لا يفعل الشيء بعد الشيء أو لا يفعل متى شاء وهو ما يسمونه نفي الحوادث دعوى لا دليل عليها من الكتاب ولا من السنة بل الأدلة كلها على خلافها، واستدلال بعض المتكلمين بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام وقوله:{فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام76]- فزعموا أن الأفول معناه: التغير والتحرك وهو منفي عن الله عز وجل بدلالة هذه الآية - هو استدلال خاطئ ظاهر البطلان، لأن الأفول في اللغة الاحتجاب والمغيب2، وليس التغير
1 انظر الغنية في أصول الدين ص 81، والاقتصاد في الاعتقاد ص 74-75 عند كلامه على صفة الكلام وإيجابه الكلام النفسي ومنعه أن يكون الله يتكلم بمشيئته، وانظر ص 91 في كلامه على أن صفات الله قديمة، وانظر المواقف للإيجي ص 275، والماتريدية دراسة وتقويما ص 300-303.
2 انظر معجم مقاييس اللغة 1/119، تهذيب اللغة للأزهري 15/378.
والحركة، وإبراهيم عليه السلام كان يحاجهم في الألوهية وليس في صفات الله عز وجل ولا في وجوده.
2 -
أن دعوى المتكلمين نفي حلول الحوادث هو عين دعوى الفلاسفة في أن الله: "لا يتغير ولا يتحرك" أخذها المتكلمون وسموها: نفي حلول الحوادث، وهي دعوى باطلة شرعاً كما أنها باطلة عقلاً، إذ لازمها أن الله عز وجل جماد أو ميت فإن الجماد والميت هو الذي لا يتأتى منه الفعل أو الحركة.
3 -
أن إثبات أن الله عز وجل هو الخالق والمتصرف في هذا الكون ينفي تماماً هذه الدعوى ويبطلها لأن لازم ذلك أنه يفعل ما يشاء وقت ما يشاء وهذا حدوث، فمن نفى الأفعال المتعلقة بالمشيئة والاختيار، على اعتبار أنها حوادث فعليه أن ينفي الخلق والتدبير، ومن قال بذلك فقد كفر.
4 -
إن دعوى المتكلمين إن حدوث الحوادث تغير والتغير على الله محال تلاعب بالألفاظ غير صحيح، لأن التغير هو أن ينقلب حال الإنسان من حال إلى حال بأن يكون صحيحاً فيصبح مريضاً أو يكون صالحاً فيصبح عاصياً أو يكون عاصياً فيصبح صالحاً.
هذا غالب ما يطلق عليه التغير في اللغة والشرع، أما إذا كان الإنسان مصلياً فصلى الصبح ثم صلى الظهر لا يقال تغير أو كان متكلماً ثم سكت ثم تكلم لا يقال لهذا تغير1.
فيثبت من هذا أن دعوى المتكلمين بأن حلول الحوادث تغير كلام باطل وتحميل للألفاظ فوق ما تحتمل.
5 -
إن دعوى نفي الحوادث دعوى لم ترد في الكتاب ولا في السنة فهي مبتدعة بل إن الكتاب والسنة على خلافها، ومن يدعي نفي حلول الحوادث عن الله عز وجل ينفي عنه بذلك سائر صفاته الفعلية الاختيارية مثل الاستواء والنزول والرضى والفرح والمجيء ونحو ذلك فكيف يصح لمسلم أن ينفي ما ثبت قطعاً في الكتاب والسنة بألفاظ مبتدعة.
1 انظر مجموع الفتاوى 6-249.
الشبهة الرابعة: نفي مشابهة المخلوقات.
المعطلة تصوروا أن إثبات صفات الله عز وجل يلزم منه مشابهة الخالق للمخلوق فأداهم هذا التصور إلى نفيها زاعمين أن إثباتها تشبيه.
الرد عليهم:
1 -
أن إثبات الصفات ليس فيه مماثلة ولا مشابهة وقد سبق أن بينا ذلك عند ذكر قواعد السلف في الصفات.
2 -
أن ما أثبته المعتزلة من الوجود والذات وما أثبته الأشاعرة والماتريدية من الصفات مثل السمع والبصر ونحوها، يلزمهم فيه مثل ما نفوا لأن المخلوقات توصف بتلك الصفات فيلزمهم نفي ما أثبتوا،فإذا قالوا إن وصف الله عز وجل بتلك الصفات على صفة لا تشبه المخلوق،فكذلك ما يتعلق بتلك الصفات التي نفوها فإن إثباتها على صفة لا تشبه صفة المخلوق.
3 -
أن الله تبارك وتعالى هو الذي ذكر الأمرين عن نفسه، وهما الإثبات ونفي التمثيل والمشابهة في قوله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى11] . فلا يسع المسلم إلا إثبات الصفات ونفي التمثيل، ومن أخذ بجزء من الآية ونفى الجزء الآخر بلا دليل شرعي كان هذا إيمانا ببعض الكتاب وكفرا بالبعض الآخر.
4 -
أن دعوى نفي المشابهة بين الخالق والمخلوق،مع الغلو فيها هي دعوى الفلاسفة الذين نفوا عن الله تبارك وتعالى كل الصفات حتى الوجود الحقيقي من أجل نفي المماثلة وهي دعوى وهمية تخرصية كما أنهم متناقضون فيها لأنهم زعموا: أن العقل الأول وجد على شبه الموجود الأول الذي هو الله وأن الشيء لا يوجد إلا شبيهه وهذا تناقض واضح، فنفي وجود الله من أجل نفي المشابهة ثم إثبات التشابه التام بين الله وما يسمونه: العقل الأول،كلام متناقض تافه.