الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}
•
قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}
يحتمل أن المراد بالتأويل في هذه الآية الكريمة التفسير وإدراك المعنى، ويحتمل أن المراد به حقيقة أمره التي يئول إليها، وقد قدمنا في مقدمة هذا الكتاب أن من أنواع البيان التي ذكرناها فيه أن كون أحد الاحتمالين هو الغالب في القرآن يبين أن ذلك الاحتمال الغالب هو المراد؛ لأن الحمل على الأغلب أولى من الحمل على غيره. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الغالب في القرآن إطلاق التأويل على حقيقة الأمر التي يئول إليها كقوله:{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُه} الآية. وقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)} [النساء: 59] إلى غير ذلك من الآيات. قال ابن جرير الطبري: وأصل التأويل: من آل الشيء إلى كذا إذا صار إليه ورجع يئول أولا، وأولته أنا: صيرته إليه، وقال: وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى:
على أنها كانت تأول حبها
…
تأول ربعي السقاب فأصحبا
قال: ويعني بقوله: "تأول حبها" مصير حبها ومرجعه، وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا في قلبه فآل من الصغر إلى العظم، فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديما كالسقب الصغير الذي لم
يزل يشب حتى أصحب، فصار كبيرا مثل أمه. قال وقد ينشد هذا البيت:
"على أنها كانت توابع حبها
…
توالي ربعي السقاب فأصحبا"اهـ
وعليه فلا شاهد فيه، والربعي السقب الذي ولد في أول النتاج، ومعنى أصحب: انقاد لكل من يقوده، ومنه قول امرىء القيس:
"ولست بذي رئية إمر
…
إذا قيد مستكرها أصحبا"
والرئية: وجع المفاصل. والإمر: بكسر الهمزة وتشديد الميم مفتوحة بعدها راء، هو الذي يأتمر لكل أحد لضعفه، وأنشد بيت الأعشى المذكور الأزهري وصاحب اللسان:
ولكنها كانت نوى أجنبيه
…
توالي ربعي السقاب فأصحبا
وأطال في شرحه وعليه فلا شاهد فيه أيضا.
تنبيه: اعلم أن التأويل يطلق ثلاثة إطلاقات:
الأول: هو ما ذكرنا من أنه الحقيقة التي يئول إليها الأمر، وهذا هو معناه في القرآن.
الثاني: يراد به التفسير والبيان، ومنه بهذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في ابن عباس:"اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"، وقول ابن جرير وغيره من العلماء، القول في تأويل قوله تعالى: كذا وكذا أي: تفسيره وبيانه، وقول عائشة الثابت في الصحيح: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا
وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن، تعني يمتثله، ويعمل به، والله تعالى أعلم.
الثالث: هو معناه المتعارف في اصطلاح الأصوليين، وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح، بدليل يدل على ذلك، وحاصل تحرير مسألة التأويل عند أهل الأصول أنه لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح:
الأول: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صحيح في نفس الأمر يدل على ذلك، وهذا هو التأويل المسمى عندهم بالتأويل الصحيح، والتأويل القريب كقوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيح:"الجار أحق بصقبه" فإن ظاهره المتبادر منه ثبوت الشفعة للجار، وحمل الجار في هذا الحديث على خصوص الشريك المقاسم حمل له على محتمل مرجوح، إلا أنه دل عليه الحديث الصحيح المصرح بأنه إذا صرفت الطرق وضربت الحدود، فلا شفعة.
الحالة الثانية: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لأمر يظنه الصارف دليلا، وليس بدليل في نفس الأمر، وهذا هو المسمى عندهم بالتأويل الفاسد، والتأويل البعيد، ومثل له الشافعية، والمالكية، والحنابلة بحمل الإمام أبي حنيفة رحمه الله المرأة في قوله - صلى الله عليه وسلم -:"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، باطل" على المكاتبة، والصغيرة، وحمله أيضا رحمه الله المسكين في قوله:{ستين مِسْكِينًا} على المد، فأجاز إعطاء ستين مدا لمسكين واحد.
الحالة الثالثة: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره، لا عن دليل