الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إثم عظيم، ولم يبين مبلغ هذا الحوب من العظم، ولكنه بينه في موضع آخر، وهو قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)} .
•
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
الآية. لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية الكريمة من عدم ظهور وجه الربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء، وعليه ففي الآية نوع إجمال، والمعنى كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنه كان الرجل تكون عنده اليتيمة في حجره فإن كانت جميلة تزوجها من غير أن يقسط في صداقها، وإن كانت ذميمة رغب عن نكاحها وعضلها أن تنكح غيره لئلا يشاركه في مالها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. أي: كما أنه يرغب عن نكاحها إن كانت قليلة المال والجمال فلا يحل له أن يتزوجها إن كانت ذات مال وجمال إلا بالإقساط إليها والقيام بحقوقها كاملة غير منقوصة. وهذا المعنى الذي ذهبت إليه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، يبينه ويشهد له قوله تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} وقالت رضي الله عنها: إن المراد بما يتلى عليكم في الكتاب هو قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الأية، فتبين أنها يتامى النساء بدليل تصريحه بذلك في قوله:{فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} الأية. فظهر من هذا أن المعنى: وإن خفتم ألا تقسطوا في زواج اليتيمات فدعوهن، وانكحوا ما طاب
لكم من النساء سواهن، وجواب الشرط دليل واضح على ذلك؛ لأن الربط بين الشرط والجزاء يقتضيه، وهذا هو أظهر الأقوال؛ لدلالة القرآن عليه، وعليه فاليتامى جمع يتيمة على القلب، كما قيل: أيامى، والأصل أيائم ويتائم لما عرف أن جمع الفعيلة فعائل، وهذا القلب يطرد في معتل اللام كقضية، ومطية، ونحو ذلك ويقصر على السماع فيما سوى ذلك.
قال ابن خويز منداد: يؤخذ من الآية جواز اشتراء الوصي وبيعه من مال اليتيم لنفسه بغير محاباة، وللسلطان النظر فيما وقع من ذلك.
وأخذ بعض العلماء من هذه الآية: أن الولي إذا أراد نكاح من هو وليها جاز أن يكون هو الناكح والمنكح، وإليه ذهب مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري، وأبو ثور، وقاله من التابعين: الحسن، وربيعة، وهو قول الليث.
وقال زفر والشافعي: لا يجوز له أن يتزوجها إلا بإذن السلطان، أو يزوجها ولي آخر أقرب منه أو مساو له.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: يوكل رجلا غيره فيزوجها منه، وروي هذا عن المغيرة بن شعبة، كما نقله القرطبي. وغيره.
وأخذ مالك بن أنس من تفسير عائشة لهذه الآية كما ذكرنا الرد إلى صداق المثل فيما فسد من الصداق، أو وقع الغبن في مقداره؛ لأن عائشة رضي الله عنها، قالت:"ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق" فدل على أن للصداق سنة معروفة لكل صنف
من الناس على قدر أحوالهم، وقد قال مالك: للناس مناكح عرفت لهم وعرفوا لها، يعني مهورا وأكفاء.
ويؤخذ أيضا من هذه الآية جواز تزويج اليتيمة إذا أعطيت حقوقها وافية. وما قاله كثير من العلماء من أن اليتيمة لا تزوج حتى تبلغ، محتجين بأن قوله تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} اسم ينطلق على الكبار دون الصغار فهو ظاهر السقوط؛ لأن الله صرح بأنهن يتامى بقوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} هو وهذا الاسم أيضا قد يطلق على الصغار، كما في قوله تعالى:{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} وهن إذ ذاك رضيعات، فالظاهر المتبادر من الآية، جواز نكاح اليتيمة مع الإقساط في الصداق وغيره من الحقوق.
ودلت السنة على أنها لا تجبر، فلا تزوج إلا برضاها، وإن خالف في تزويجها خلق كثير من العلماء.
تنبيه: قال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ليس له مفهوم إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة، اثنتين، أو ثلاثا، أو أربعا، كمن خاف، فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف ذلك، وأن حكمها أعم من ذلك. اهـ منه بلفظه.
قال مقيده - عفا الله عنه -: الذي يظهر في الآية - على ما فسرتها به عائشة، وارتضاه القرطبي، وغير واحد من المحققين ودل عليه القرآن - أن لها مفهوما معتبرًا؛ لأن معناها: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات فانكحوا ما طاب لكم من سواهن،
ومفهومه أنهم إن لم يخافوا عدم القسط لم يؤمروا بمجاوزتهن إلى غيرهن، بل يجوز لهم حينئذ الاقتصار عليهن، وهو واضح كما ترى، إلا أنه تعالى لما أمر بمجاوزتهن إلى غيرهن عند خوفهم أن لا يقسطوا فيهن أشار إلى القدر الجائز من تعدد الزوجات، ولا إشكال في ذلك. والله أعلم.
وقال بعض العلماء: معنى الآية {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أي: إن خشيتم ذلك فتحرجتم من ظلم اليتامى فاخشوا أيضا وتحرجوا من ظلم النساء بعدم العدل بينهن، وعدم القيام بحقوقهن، فقللوا عدد المنكوحات، ولا تزيدوا على أربع، وإن خفتم عدم إمكان ذلك مع التعدد فاقتصروا على الواحدة؛ لأن المرأة شبيهة باليتيم، لضعف كل واحد منهما، وعدم قدرته على المدافعة عن حقه، فكما خشيتم من ظلمه فاخشوا من ظلمها.
وقال بعض العلماء: كانوا يتحرجون من ولاية اليتيم، ولا يتحرجون من الزنى، فقيل لهم في الآية: إن خفتم الذنب في مال اليتيم فخافوا ذنب الزنا، فانكحوا ما طاب لكم من النساء، ولا تقربوا الزنا. وهذا أبعد الأقوال فيما يظهر. والله تعالى أعلم.
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضا: أن من كان في حجره يتيمة لا يجوز له نكاحها إلا بتوفيته حقوقها كاملة، وأنه يجوز نكاح أربع، ويحرم الزيادة عليها، كما دل على ذلك أيضا إجماع المسلمين قبل ظهور المخالف الضال، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان بن سلمة:"اختر منهن أربعا وفارق سائرهن". وكذا قال للحارث بن قيس الأسدي، وأنه مع خشية عدم العدل لا يجوز نكاح غير واحدة.