الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُحْسِنٌ} الآية. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله في حال كونه محسنا؛ لأن استفهام الإنكار مضمن معنى النفي، وصرح في موضع آخر: أن من كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى، وهو قوله تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ومعنى إسلام وجهه لله إطاعته وإذعانه، وانقياده لله تعالى بامتثال أمره، واجتناب نهيه في حال كونه محسنا، أي: مخلصا عمله لله، لا يشرك فيه به شيئا، مراقبا فيه لله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فالله تعالى يراه، والعرب تطلق إسلام الوجه، وتريد به الإذعان والإنقياد التام، ومنه قول زيد بن نفيل العدوي:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
…
له المزن تحمل عذبا زلالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
…
له الأرض تحمل صخرا ثقالا
•
قوله تعالى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}
الآية. لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم في الكتاب ما هو، ولكنه بينه في أول السورة، وهو قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية. كما قدمناه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقوله هنا: {وَمَا يُتْلَى} في محل رفع معطوفا على الفاعل الذي هو لفظ الجلالة، وتقرير المعنى:(قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) أيضا {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} الآية، وذلك قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الآية. ومضمون ما أفتى به هذا الذي يتلى علينا في الكتاب هو تحريم هضم حقوق اليتيمات، فمن خاف أن لا يقسط في اليتيمة التي في حجره
فليتركها، ولينكح ما طاب له سواها، وهذا هو التحقيق في معنى الآية، كما قدمنا، وعليه فحرف الجر المحذوف في قوله:{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} هو عن، أي: ترغبون عن نكاحهن لقلة مالهن وجمالهن، أي: كما أنكم ترغبون عن نكاحهن إن كن قليلات مال وجمال فلا يحل لكم نكاحهن إن كن ذوات مال وجمال إلا بالإقساط إليهن في حقوقهن، كما تقدم عن عائشة رضي الله عنها.
وقال بعض العلماء: الحرف المحذوف هو في، أي: ترغبون في نكاحهن إن كن متصفات بالجمال، وكثرة المال مع أنكم لا تقسطون فيهن.
والذين قالوا بالمجاز واختلفوا في جواز حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معا أجازوا ذلك في المجاز العقلي كقولك: أغناني زيد وعطاؤه، فإسناد الإغناء إلى زيد حقيقة عقلية، وإسناده إلى العطاء مجاز عقلي فجاز جمعها، وكذلك إسناد الإفتاء إلى الله حقيقي، وإسناده إلى ما يتلى مجاز عقلي عندهم، لأنه سببه فيجوز جمعها.
وقال بعض العلماء: إن قوله: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في محل جر معطوفا على الضمير، وعليه فتقرير المعنى قُلِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ويفتيكم فيما يتلى عليكم، وهذا الوجه يضعفه أمران:
الأول: أن الغالب أن الله يفتي بما يتلى في هذا الكتاب، ولا يفتي لظهور أمره.
الثاني: أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ضعفه غير واحد من علماء العربية، وأجازه ابن مالك مستدلا بقراءة حمزة "والأرحام" بالخفض عطفا على الضمير من قوله:{تَسَاءَلُونَ بِهِ} وبوروده في الشعر كقوله:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا
…
فاذهب فما بك والأيام من عجب
بجر الأيام عطفا على الكاف، ونظيره قول الآخر:
نعلق في السواري سيوفنا
…
وما بينها والكعب مهوى نفانف
بجر الكعب معطوفا على الضمير قبله، وقول الآخر:
وقد رام آفاق السماء فلم يجد
…
له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا
فقوله: ولا الأرض بالجر معطوفا على الضمير، وقول الآخر:
أمر على الكتيبة لست أدري
…
أحتفي كان فيها أم سواها
فسواها في محل جر بالعطف على الضمير.
وأجيب عن الآية بجواز كونها قسما، والله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه، كما أقسم بمخلوقاته كلها في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) الآية.
وعن الأبيات بأنها شذوذ يحفظ ولا يقاس عليه.
وصحح العلامة ابن القيم رحمه الله جواز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، وجعل منه قوله تعالى:{حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} فقال: إن قوله: {وَمَنِ}
في محل جر عطفا على الضمير المجرور في قوله: {حَسْبُكَ} وتقرير المعنى عليه حَسْبُكَ اللَّهُ، أي: كافيك، وكافي من اتبعك من المؤمنين.
وأجاز ابن القيم والقرطبي في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} أن يكون منصوبا معطوفا على المحل؛ لأن الكاف مخفوض في محل نصب، ونظيره قول الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا
…
فحسبك والضحاك سيف مهند
بنصب الضحاك كما ذكرنا، وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)} فقال: {وَمَنْ} عطف على ضمير الخطاب في قوله {لَكُمْ} وتقرير المعنى عليه: وجعلنا لكم ولمن لستم له برازقين فيها معايش، وكذلك إعراب {وَمَا يُتْلَى} بأنه مبتدأ خبره محذوف، أو خبره {في الكتاب} ، وإعرابه منصوبا على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره، ويبين لكم ما يتلى، وإعرابه مجرورا على أنه قسم، كل ذلك غير ظاهر.
وقال بعض العلماء: إن المراد بقوله: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} آيات المواريث؛ لأنهم كانوا لا يورثون النساء، فاستفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فأنزل الله آيات المواريث.
وعلى هذا القول فالمبين لقوله: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} هو قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} الآيتين. وقوله في آخر السورة: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الآية. والظاهر أن قول أم المؤمنين أصح وأظهر.
تنبيه: المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أصله مجرور بحرف محذوف، وقد قدمنا الخلاف هل هو عن، وهو الأظهر، أو هو في، وبعد حذف حرف الجر المذكور فالمصدر في محل نصب على التحقيق، وبه قال الكسائي والخليل: وهو الأقيس لضعف الجار عن العمل محذوفا.
وقال الأخفش: هو في محل جر بالحرف المحذوف بدليل قول الشاعر:
وما زرت ليلى أن تكون حبيبة
…
إلي ولا دين بها أنا طالبه
بجر دين عطفا على محل أن تكون، أي: لكونها حبيبة، ولا لدين، ورد أهل القول الأول الاحتجاج بالبيت بأنه من عطف التوهم كقول زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى
…
ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
بجر سابق لتوهم دخول الباء على المعطوف عليه الذي هو خبر ليس، وقول الآخر:
مشائم ليسوا مصلحين عشيرة
…
ولا ناعب إلا ببين غرابها
بجر ناعب لتوهم الباء، وأجاز سيبويه الوجهين.
واعلم أن حرف الجر لا يطرد حذفه إلا مع المصدر المنسبك من أن، وأن وصلتهما عند الجمهور خلافا لعلي بن سليمان الأخفش القائل بأنه مطرد في كل شيء عند أمن اللبس، وعقده ابن مالك في الكافية بقوله: