الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: بعضُ أدلة القرآنيين وتفنيدها:
إنّ المطّلع على فكر جماعة أهل القرآن المعاصرين يجد أنهم يُردّدون شُبَهاً عفى عليها الزمن، وهكذا هم أهلُ البدع، وأصحابُ الأهواء، وأربابُ الضلالات، يُكرّرون أشياءَ هتفَ بها أسلافُهُم منذُ مئاتِ السنين!
وهذا ديدن أهل الباطل دائماً يُعيدون ما فُرِغَ منه لعلّهم يصطادون ضحايا جديدة من الغافلين.
وصدق الله العظيم الذي حكى منهج الضالّين المضلّين في كتابه العزيز فقال: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [سورة فصلت 41: الآية 43].
وقال سبحانه: {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [سورة البقرة 2: الآية 118].
ومنكرو السنّة الغرّاء ـ أراح اللهُ الأمةَ من بلائهم ـ ليسوا مختلفين عن الغواةِ الآخرين، وهم لو قصدوا الحقَّ، ولو استَحيَوا من ربِّهم تبارك وتعالى، ثم من خلقه؛ لَبَحثوا عن الأجوبة التي أُجيبَ بها مَنِ اقتَدَوا بهم ممّن تقدّمهمُ من المبتدعة السابقين.
وها هي كتبُ أهل العلم المختلفة ملأى بالردود على تلك التشغيبات التي شغّبَ بها الأولون، ولكنهم يلوكون الأقوال العفِنَةَ، ويَجترّون الآراءَ المُنتِنَة، ويُغمضون أعيُنَهم عن الأدوية الناجعة التي فيها علاجُ أسقام قلوبِهم، ويتجاهلون البلاسم الشافية التي بها يُداوى بها زيغُ عقولِهم.
والدليل على ما أقول: أن أطروحاتِهم تُغفِلُ عموماً الردودَ على شُبَهِهم، وتطوي ذكرَ مواضِعِ بيان ما يستشكلون.
أوليس من العجيب أنهم يقولون ويُعيدون، ويروحون ويجيئون، في طرح أسئلةٍ وقضايا الجوابُ عنها أجلى من الجليّ؟
إن هؤلاء الناس يرومون الجدل للجدل، شأنُهم شأنُ من ذكروا في القرآن العزيز فقال:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [سورة الزخرف 43: الآية 58].
وقال عزّ من قائل: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [سورة الأنعام 6: الآية 121].
إنّ من يُطالعَ أدبياتِ أعداءِ السنة من القرآنيين يَجدُهم يأتون في لَجَجِهم بأدلة نقليةٍ جُلُّها ما ساقه أسلافهم من قبلُ من آياتٍ قرآنية انتزعوها من سياقِها، وأوّلوها على غير وجهِها، وحسبوا أنّهم حسموا بذلك النزاع من المسلمين.
أما الآيات القرآنية التي يسوقُها القرآنيون، فإنّي مُورِدٌ طائفةٌ منها مبيِّناً ـ بحول الله تعالى ـ فسادَ استنادهم إليها، وبُطلانَ اتكالِهم عليها.
والعجيبُ أنهم قد يستشهدون بشيءٍ من الأحاديث النبوية، والأخبار المرويّة، وهدفُهُم التشكيك والتشتيت.
والعجبُ كلّ العجب من هؤلاء كيف يُريدون أن ينقُضوا مبدأ السنةِ ببعضِ المرويِّ فيها، وكيف يُريدون إثبات الكذب في الروايات المنسوبة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ من هذه المرويّات! وإنّ لي عودةً إلى هذا التعجُّبِ عما قريب بإذن الله.
وهم عصابةٌ هدفُها إشغال الأمة عن قضاياها المصيرية، وإلهاؤها عن سبيل نهضتها الحقيقية، وأنّى للأمة ذلك والطابور الخامس يفُتُّ في عضُدِها، ويطعنُها في ظهرِها؟
وصدق الشاعر:
أرى ألْفَ بانٍ لا يقومُ لهادِمٍ
…
فكيف ببانٍ خلفَه ألفُ هادمِ
وصدق قبلَه ربُّ العالمين الذي وصفَ هؤلاء بقوله: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [سورة المنافقون 63: الآية 4].
ولكن هل نتركُ هؤلاء يُفتّتون في الأمة، وينهشون في لحمها، ويُهلكون من أبنائها من كان يجب أن يكونوا عواملَ قوةٍ وبناء؟
لقد قرَّر كثيرٌ من أهل العلم لزومَ التّصدّي لأهل البدع؛ صيانةً للأمة من شرورهم؛ «إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة، ونبتَ جماعةٌ
لفّقوا لها شبهاً، ورتّبوا فيها كلاماً مؤلّفاً؛ فصار ذلك المحذور (1) بحكم الضرورة مأذوناً فيه بل صار من فروض الكفايات، وهو القدر الذي يقابَلُ به المبتدع إذا قصد الدعوة إلى البدعة» (2).
وروي أنه قيل للإمام أحمد ابن حنبل: الرجلُ يصوم ويصلي ويعتكف أحبُّ إليك أو يتكلّم في أهل البدع؟
فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل (3).
ورأى ابن تيميةَ رحمه الله أنّ الإمام أحمدَ ـ عليه رحمات الله ـ قد بيَّنَ بجوابِهِ ذلك «أنَّ نفعَ هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهيرُ سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفعُ بغي هؤلاء وعدوانِهم على ذلك واجبٌ على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يُقيمه الله لدفع ضررِ هؤلاء لفسد الدين، وكان فسادُه أعظمَ من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإنَّ هؤلاء إذا استولَوا لم يُفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يُفسدون القلوب ابتداءً» (4).
وإنّي ـ بفضل الله تعالى أولاً وآخراً ـ جنديٌّ صغيرٌ شرّفني الله تبارك وتعالى بشيءٍ يسيرٍ من الذبّ عن دينه القويم، والدفاع عن سنّة نبيّه الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم.
فإن بلغَ كلامي هذا مسلماً فحصًّنه من غوائلِ أولئك القرآنيين، وعصمه من الهلاك في هرطقتهم، فذلك المنى، وهو المراد.
وإن بلغَ مسطوري هذا أحداً ممن غُرِّرَ بهم من المنضوين تحت لواء طائفة القرآنيين، فهداه الله بسبب هذه السطور، فارعوى أحدٌ عن غيّه، وأفاق بعد سُكره، فحيّهلا، وبها ونعمت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه:«فوالله لَأَنْ يهديَ اللهُ رجلاً بك خير لك من أن يكون لك حمر النعم» (5).
(1) المحذور المعنيُّ في سياق الكلام هو علم الكلام.
(2)
«إحياء علوم الدين» 1/ 42 للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى.
(3)
«مجموع الفتاوى» 28/ 131.
(4)
«مجموع الفتاوى» 28/ 131.
(5)
أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (2942)، ومسلم في «صحيحه» برقم (6223)، وأحمد في «مسنده» برقم (22821).