الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثقة إذا حدّث بالخطأ فحُمِلَ عنه وهو لا يشعر أنه خطأ ٌ يُعمَلُ به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سبباً للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يُؤمن عليه الإثم إذا تعمّد الإكثار، فمن ثمّ توقّف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثرَ منهم فمحمولٌ على أهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبُّت، أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسُئلوا فلم يُمكِنهم الكتمان» (3).
ء ـ ما أُثرِ عن عمر من قوله: «حسبنا كتاب الله» :
وذلك في واقعةٍ حصلت في مرض وفاة حبيبنا محمدٍ أخرج خبرَها البخاري في مواضعَ من «صحيحه» وغيرُهُ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما اشتد بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وجعُهُ قال: «اتئوني بكتابٍ أكتُبْ لكم كتاباً لا تَضلُّوا من بعده» . قال عمر رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط قال: «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع» . فخرج ابن عباس رضي الله عنه يقول: إن الرزيّةَ كلَّ الرزيّةِ ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه (1).
وهذا الحديث أخرجه البخاريُّ في باب كتابة العلم من كتاب العلم من «صحيحه» !
وهذا من فقهه العظيم؛ والشاهدُ همُّ النبيِّ أن يكتبَ لأمته كتاباً يحصل معه الأمن من الاختلاف وهو لا يهمّ إلا بحقّ (2).
وقد بيّن العلماءُ توجيه قول عمر رضي الله عنه، وقد جمعَ من دُرَرِهم الحافظ ابن حجر العسقلانيّ باقةً عطرةً فقال:
قال القرطبي وغيره: «ائتوني» أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر رضي الله عنه مع طائفةٍ أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، فكرهوا أن يكلّفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة؛ مع استحضارهم قوله تعالى:
(1)«فتح الباري» 1/ 272.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه» برقم (114)، ومسلمٌ في «صحيحه» برقم (4232).
(3)
يُنظر: «فتح الباري» للحافظ ابن حجر العسقلاني 1/ 284.
{ما فرطنا في الكتاب من شيء} [سورة الأنعام 6: الآية 38]، وقوله تعالى:{تبيانا لكل شيء} [سورة النحل 16: الآية 89]، ولهذا قال عمر رضي الله عنه:«حسبُنا كتاب الله» .
وظهر لطائفة أخرى أن الأَولى أن يكتب لِمَا فيه من امتثالِ أمرِهِ، وما يتضمنه من زيادة الإيضاح. ودل أمرُهُ لهم بالقيام على أن أمرَهُ الأولَ كان على الاختيار، ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياماً ولم يعاود أمْرَهم بذلك، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم؛ لأنه لم يترُكِ التبليغَ لِمُخالفة من خالَفَ!
وقد كان الصحابة يُراجعونه في بعض الأمور ما لم يَجزِم بالأمر، فإذا عزم امتثلوا (1).
وقال الحافظ ابن حجر في موضعٍ آخر من كتابه:
وقال النووي: اتفق قولُ العلماء على أن قولَ عمرَ رضي الله عنه: «حسبنا كتاب الله» من قوة فقهه ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجَزوا عنها فاستحقوا العقوبة لكونها منصوصة (2)، وأراد أن لا ينسدّ بابُ الاجتهاد على العلماء.
وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر رضي الله عنه إشارة إلى تصويبه رأيَه.
وأشار بقوله: حسبنا كتاب الله إلى قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [سورة الأنعام 6: الآية 38].
ويحتمل أن يكون قصد التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا رأى ما هو فيه من شدة الكرب، وقامت عنده قرينةٌ بأن الذي أراد كتابته ليس مِمّا لا يستغنون عنه؛ إذ لو كان من هذا القَبيل لم يتركْهُ صلى الله عليه وسلم لأجل اختلافهم.
(1)«فتح الباري» للحافظ ابن حجر العسقلاني 1/ 282.
(2)
يُستدل لذلك بأدلةٍ كثيرةٍ صريحةٍ منها قوله صلى الله عليه وسلم: «ذروني ما تركتُكم» .
أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (3257)، وأحمد في «مسنده» برقم (7367) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله في صلاة شأن التراويح: «خشيتُ أن تُفترَضَ عليكم» .
أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (2012)، ومسلم في «صحيحه» برقم (1784) من حديث عائشة رضي الله عنها.
ولا يعارض ذلك قولُ ابن عباس: إن الرزية
…
إلخ؛ لأن عمر رضي الله عنه كان أفقَهَ منه قطعا.
وقال الخطابي: لم يتوهم عمرُ رضي الله عنه الغلطَ فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد كتابته، بل امتناعُهُ مَحمولٌ على أنه لما رأى ما هو فيه من الكرب وحضور الموت خشي أن يجد المنافقون سبيلاً إلى الطعن فيما يكتبه وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف الاتفاق؛ فكان ذلك سبب توقُّف عمر رضي الله عنه لا أنه تعمَّدَ مُخالَفةَ قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا جواز وقوع الغلط عليه حاشا وكلا (1).
(1)«فتح الباري» للحافظ ابن حجر العسقلاني 8/ 479.