الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وأما أصحاب مالك فليس عن مالك ولا عن قدماء أصحابه فيها قول؛ واختلف المتأخرون، فقال أبو بكر ابن العربي
(1)
: أجمع هؤلاء المتأخرون على أنه يحنَث فيها بالطلاق في جميع نسائه والعتق في جميع عبيده، وإن لم يكن له رقيق فعليه عتق رقبة واحدة، والمشيُ إلى مكة والحج ولو من أقصى المغرب، والتصدُّق بثلث جميع أمواله، وصيام شهرين متتابعين. ثم قال جُلُّ الأندلسيين: إن كل امرأة له تطلَّق ثلاثًا ثلاثًا
(2)
، وقال القَرَوِيّون: إنما تطلَّق واحدة واحدة، وألزمه بعضهم صومَ سنة إذا كان معتادًا للحلف بذلك. فتأمَّلْ هذا التفاوت العظيم بين هذا القول وقول أصحاب الشافعي.
فصل
وهذا اختلافهم فيما لو حلف بأيمان المسلمين أو بالأيمان اللازمة، أو قال: جميع الأيمان تلزمني، أو حلف بأشدِّ ما أخذ أحد على أحد. قالت المالكية
(3)
: إنما ألزمناه بهذه المذكورات دون غيرها من كسوة العريان
(4)
وإطعام الجياع والاعتكاف وبناء الثغور ونحوها ملاحظةً لما غلب الحلفُ به عرفًا، فألزمناه به لأنه المسمَّى العرفي، فيقدَّم على المسمى اللغوي، واختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لأنها هي المشتهرة، ولفظ
(1)
انظر: «أحكام القرآن» (2/ 745).
(2)
في د: «ثلاثًا» بدون تكرار.
(3)
انظر: «الفروق» للقرافي (1/ 176 - 178). وقد نقل عنه المؤلف
مذهب المالكية
وأقوالهم بتصرف.
(4)
في النسخ: «العميان» . وسيأتي قريبًا على الصواب.
الحلف واليمين إنما يستعمل فيها دون غيرها. وليس المدرك أن عادتهم أنهم يفعلون مسمَّياتها، وأنهم يصومون شهرين متتابعين أو يحجون، بل غلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها.
قالوا: وقد صرَّح الأصحاب [26/أ] بأنه من كثرت عادته بالحلف بصوم سنة لزِمَه صوم سنة، فجعلوا المدرك الحلف اللفظي دون العرف
(1)
النقلي
(2)
، قالوا: وعلى هذا لو اتفق في وقت آخر أنه اشتهر حلفهم ونذرهم بالاعتكاف والرباط وإطعام الجائع وكسوة العريان وبناء المساجد دون هذه الحقائق المتقدِّمِ ذكرُها= لكان اللازمُ لهذا الحالف إذا حنِثَ الاعتكافَ وما ذكر معه، دون ما هو مذكور قبلها؛ لأن الأحكام المترتبة على القرائن تدور معها كيفما دارت، وتبطُل معها إذا بطلت، كالعقود في المعاملات والعيوب في الأعراض
(3)
في المبايعات ونحو ذلك، فلو تغيَّرت العادة في النقد والسكَّة إلى سكَّة أخرى لحُمِلَ الثمن في المبيع عند الإطلاق على السكّة والنقد المتجدّد دون ما قبله، وكذلك إذا كان الشيء عيبًا في العادة رُدَّ به المبيع، فإن تغيرت العادة بحيث لم يُعَدَّ عيبًا لم يُردَّ به المبيع.
قالوا: وبهذا تُعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهذا مجمع عليه بين العلماء، لا خلاف فيه، وإن وقع الخلاف في تحقيقه: هل وُجد أم لا؟ قالوا: وعلى هذا فليس في عرفنا اليوم الحلف بصوم شهرين متتابعين، فلا تكاد تجد أحدًا يحلف به، فلا تسوغ الفتيا بإلزامه.
(1)
د: «العرفي» .
(2)
كذا في النسختين، وفي «الفروق»:«العرف الفعلي» .
(3)
د: «الأعواض» . والمثبت موافق لما في «الفروق» .
قالوا: وعلى هذا أبدًا تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجدَّد في العرف فاعتبِرْه، ومهما سقط فألْغِه، ولا تجمُدْ على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِه على عرف بلدك، وسَلْه عن عرف بلده فأَجْرِه عليه وأَفتِه به، دون عُرْف بلدك والمذكورِ في كتبك.
قالوا: فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين.
قالوا: وعلى هذه القاعدة تُخرَّج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات؛ فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحًا تستغني عن النية.
قالوا: وعلى هذه القاعدة فإذا قال «أيمان البيعة تلزمني» خرج ما يلزمه على ذلك، وما جرت به العادة في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم يكن له نية. فأيُّ شيء جرت به عادة ملوك الوقت في التحليف به في
(1)
بيعتهم، واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفًا متبادرًا إلى الذهن من غير قرينة= حُمِلت يمينه عليه، وإن لم يكن الأمر كذلك اعتُبِرت نيته أو بساط يمينه، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه، انتهى
(2)
.
وهذا محض الفقه، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم
(1)
«في» ليست في النسختين، وهي في هامش د و «الفروق» .
(2)
أي انتهى نقل مذهب المالكية من كتاب «الفروق» .
فقد ضلّ وأضلّ، وكانت جنايته على الدين أعظمَ من جناية من طبَّب الناسَ كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان.
ولم يكن الحلف بالأيمان [26/ب] اللازمة معتادًا على عهد السلف الطيب، بل هي من الأيمان الحادثة المبتدعة التي أحدثها الجهلة الأُول؛ ولهذا قال جماعة من أهل العلم: إنها من الأيمان اللاغية التي لا يلزم بها شيء البتةَ، أفتى بذلك جماعة من العلماء، ومن متأخري من أفتى بها تاج الدين أبو عبد الله الأرموي صاحب كتاب «الحاصل» .
قال ابن بَزِيزة في «شرح الأحكام» : سأله عنها
(1)
بعض أصحابنا، فكتب له بخطه تحت الاستفتاء: هذه يمين لاغية، لا يلزم شيء البتةَ، وكتب محمد الأرموي. قال ابن بزيزة: وقفتُ على ذلك بخطه، وثبت عندي أنه خطه.
ثم قال: وقال جماعة من العلماء: لا يلزم فيها شيء سوى كفارة اليمين بالله سبحانه، بناء على أن لفظ اليمين لا ينطلق إلا على اليمين بالله سبحانه، وما عداه التزامات لا أيمانٌ.
قال: والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفًا فليحلِفْ بالله أو ليصمُتْ»
(2)
. والقائلون بأن فيها كفارة يمين اختلفوا: هل تتعدّد فيها كفارة اليمين بناء على أقلِّ الجمع، أو ليس عليه إلا كفارة واحدة لأنها إنما خرجت
(1)
«عنها» ليست في ز.
(2)
رواه البخاري (2679) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
مخرج اليمين الواحدة؟ كما أفتى به أبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم. وقد كان أبو عمر يفتي بأنه لا شيء فيها البتةَ، حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي
(1)
، وعاب ذلك عليه.
قال: ومن العلماء من رأى أنه يختلف بحسب اختلاف الأحوال والمقاصد والبلاد، فمن حلف بها قاصدًا للطلاق أو العتاق لزِمَه ما ألزمَ نفسَه، ومن لم يعلم مقتضى ذلك ولم يقصده ولم يقيِّده العرف الغالب الجاري لزِمَه فيها كفارة ثلاثة أيمان بالله، بناء على أن أقل الجمع ثلاثة، وبه كان يفتي أبو بكر الطُّرطوشي
(2)
، ومن بعده من شيوخنا الذين حملنا عنهم، ومن شيوخ عصرنا من كان يفتي بها بالطلاق الثلاث بناءً على أنه العرف المستمر الجاري الذي حصل علمه والقصد إليه عند كل حالف بها.
ثم ذكر اختلاف المغاربة: هل يلزم فيها الطلاق الثلاث أم الواحدة؟ ثم قال: والمعتمد عليه فيها الرجوع إلى عرف الناس وما هو المعلوم عندهم في هذه الأيمان، فإذا ثبت فيها عندهم
(3)
شيء وقصدوه وعرفوه واشتهر بينهم وجب أن يحملوا عليه، ومع الاحتمال يُرجع إلى الأصل الذي هو اليمين بالله؛ إذ لا يسمَّى غير ذلك يمينًا، فيلزم الحالف بها كفارة ثلاثة أيمان. قال: وعلى هذا كان يُعوِّل أهل التحقيق والإنصاف من شيوخنا.
قلت: ولإجزاء الكفارة الواحدة فيها مدركٌ آخر أفقهُ من هذا، وعليه تدلُّ فتاوى الصحابة رضي الله عنهم صريحًا في حديث ليلى بنت العَجْماء المتقدم،
(1)
في «المنتقى» (4/ 7، 8).
(2)
في النسختين: «الطرطوثي» ، تحريف.
(3)
د: «عندهم فيها» .
وهذه الالتزامات الخارجة مخرجَ اليمين إنما فيها كفارة يمينٍ بالنص والقياس واتفاق الصحابة كما تقدم، فموجبها كلُّها شيء واحد ولو تعدد المحلوف به، وصار هذا نظيرَ ما لو حلف بكل سورة من القرآن على شيء واحد فعليه كفارة يمين لاتحاد الموجب وإن تعدد السبب، ونظيره ما لو حلف بأسماء الرب تعالى وصفاته فكفارة واحدة، فإذا حلف بأيمان المسلمين [27/أ] أو الأيمان كلها أو الأيمان اللازمة أو أيمان البيعة أو بما يحلف به المسلمون= لم يكن ذلك بأعظمَ ما لو حلف بكل كتاب أنزله الله أو بكل اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله، فإذا أجزأ في هذا كفارةُ يمين مع حرمة هذه اليمين وتأكُّدها فلَأنْ تجزئ الكفارة في هذه الأيمان بطريق الأولى والأحرى، ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة الحكيمة التي لم يَطْرق العالمَ شريعةٌ أكمل منها غير ذلك، وكذلك أفتى به أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الرسول ودينه وهم الصحابة.
واختلف الفقهاء بعدهم:
فمنهم: من يُلزِم الحالفَ بما التزمه من جميع الالتزامات كائنًا ما كان.
ومنهم: من لا يُلزِمه بشيء منها البتةَ، لأنها أيمان غير شرعية.
ومنهم: من يُلزِمه بالطلاق والعتاق، ويخيِّره في الباقي بين التكفير والالتزام.
ومنهم: من يحتِّم عليه
(1)
التكفير.
ومنهم: من يُلزِمه بالطلاق وحده دون ما عداه.
(1)
«عليه» ليست في د.
ومنهم: من يُلزِمه بشرط كون الصيغة شرطًا، فإن كانت صيغة التزام فيمينٌ، كقوله «الطلاق يلزمني» لم يلزمه بذلك.
ومنهم: من يتوقَّف في ذلك ولا يفتي فيه بشيء.
فالأول قول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة.
والثاني قول أهل الظاهر وجماعة من السلف.
والثالث قول أحمد بن حنبل والشافعي في ظاهر مذهبه، وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه، ومحمد بن الحسن.
والرابع قول بعض أصحاب الشافعي، ويُذكَر قولًا له وروايةً عن أحمد.
والخامس قول أبي ثور إبراهيم
(1)
بن خالد.
والسادس قول القفّال من الشافعية وبعض أصحاب أبي حنيفة، ويُحكى عنه نفسه.
والسابع قول جماعة من أهل الحديث.
وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحُّ وأفقهُ وأقرب هذه الأقوال إلى الكتاب والسنة، وبالله التوفيق.
فصل
المثال التاسع: الإلزام بالصداق الذي اتفق الزوجان على تأخير المطالبة به، وإن لم يسمِّيا أجلًا، بل قال الزوج: مائة مقدّمة ومائة مؤخّرة، فإن المؤخّر
(1)
د: «وإبراهيم» ، خطأ. فأبو ثور اسمه إبراهيم بن خالد.
لا يستحق المطالبة به إلا بموت أو فرقة. هذا هو الصحيح، وهو منصوص أحمد، فإنه قال في رواية جماعة من أصحابه: إذا تزوّجها على العاجل والآجل
(1)
لا يحل الآجل
(2)
إلا بموت أو فرقة، واختاره قدماء شيوخ المذهب والقاضي أبو يعلى، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
، وهو قول النخعي والشعبي والليث بن سعد، وله فيه رسالة كتبها إلى مالك ينكر عليه خلاف هذا القول سنذكرها بإسنادها ولفظها. وقال الحسن وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وسفيان الثوري وأبو عبيد: يبطُل الآجل لجهالة محلّه، ويكون حالًّا. وقال إياس بن معاوية: يصح الآجل، ولا يحلّ الصداق إلا أن يفارقها أو يتزوَّج عليها أو يُخرِجها من بلدها؛ فلها حينئذٍ المطالبةُ به. وقال مكحول والأوزاعي: يحلُّ بعد سنة من وقت الدخول. وقال الشافعي وأبو الخطّاب: تفسُد [27/ب] التسمية ويجب مهر المثل لجهالة العوض بجهالة أجله فترجع إلى مهر المثل.
وأما مذهب مالك
(4)
فقال عبد الملك: كان مالك وأصحابه يكرهون أن يكون شيء من المهر مؤخرًا، وكان مالك يقول: إنما الصداق فيما مضى ناجزٌ كله، فإن وقع منه شيء مؤخَّر فلا أحبُّ أن يطول الأجل في ذلك، وحكى عن ابن القاسم تأخيره إلى السنتين والأربع، وعن ابن وهب إلى السنة، وعنه إن زاد الأجل على أكثر من عشرين سنة فُسِخ، وعن ابن القاسم
(1)
ز: «وللآجل» .
(2)
ز: «للآجل» .
(3)
انظر «مجموع الفتاوى» (34/ 76).
(4)
نقل المؤلف مذهب مالك وأصحابه من «عقد الجواهر الثمينة» (2/ 104 - 105).
إن جاوز الأربعين فسخ، وعنه إلى الخمسين والستين. حكى ذلك كله فضل بن سلمة عن ابن الموَّاز، ثم قال: لأن الأجل الطويل مثل ما لو تزوَّجها إلى موت أو فراق.
قال عبد الملك: وقد أخبرني أصبغ أنه شهد ابنَ وهب وابن القاسم تذاكرا الأجلَ في ذلك، فقال ابن وهب: أرى
(1)
فيه العشر فدون، فما جاوز ذلك فمفسوخ، فقال له ابن القاسم: وأنا معك على هذا، فأقام ابن وهب على رأيه، ورجع ابن القاسم فقال: لا أفسخه إلى الأربعين وأفسخه فيما فوق ذلك. قال أصبغ: وبه آخذُ ولا أحبُّ ذلك ندبًا
(2)
إلى العشر ونحوها، وقد شهدتُ أشهب زوَّج ابنته وجعل مؤخَّر مهرها إلى اثنتي عشرة
(3)
سنة.
قال عبد الملك: وما قَصُرَ
(4)
من الأجل فهو أفضل، وإن بَعُدَ لم أفسخه إلا أن يجاوز ما قال ابن القاسم، وإن كانت الأربعون في ذلك كثيرةً جدًّا.
قال عبد الملك: وإن كان بعض الصداق مؤخّرًا إلى غير أجلٍ فإن مالكًا كان يفسخه قبل البناء ويُمضيه بعده، ويردُّ
(5)
المرأةَ إلى صداق مثلها معجّلًا كله
(6)
، إلا أن يكون صداق مثلها أقلَّ من المعجَّل فلا ينقص منه، أو أكثر من
(1)
كذا في النسختين. وفي «عقد الجواهر» : «رأيي» .
(2)
كذا في النسختين. وفي «عقد الجواهر» : «بدءًا» .
(3)
في النسختين: «اثني عشرة» .
(4)
ز: «قضى» ، تحريف.
(5)
كذا في النسختين. وفي «عقد الجواهر» : «وترد» بفقرة مستقلة، والصواب اتصالها بما قبلها، والضمير في «يردّ» لمالك.
(6)
في النسختين: «كليهما» . والتصويب من «عقد الجواهر» .
المعجّل والمؤجّل فيوفي تمام ذلك، إلا أن يرضى الناكح بأن يجعل المؤخر معجلًا كله مع النقد، فيُمضِي النكاح ولا يفسخ لا قبل البناء ولا بعده، ولا تُردُّ المرأة إلى صداق مثلها. ثم أطالوا بذكر فروع تتعلق بذلك.
والصحيح ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحة التسمية وعدم تمكين المرأة من المطالبة به إلا بموت أو فرقة، حكاه الليث إجماعًا منهم، وهو محض القياس والفقه، فإن المطلَق من العقود ينصرف إلى العرف والعادة عند المتعاقدين كما في النقد والسكّة والصفة والوزن، والعادة جارية بين الأزواج بترك المطالبة بالصداق إلا بالموت أو الفراق، فجرت العادة مجرى الشرط كما تقدّم ذكر الأمثلة بذلك.
وأيضًا فإن عقد النكاح يخالف سائر العقود، ولهذا نافاه التوقيت المشترط في غيره من العقود على المنافع، بل كانت جهالة مدة بقائه غير مؤثِّرةٍ في صحته، والصداق عوضُه ومقابلُه؛ فكانت جهالة مدته غير مؤثِّرة في صحته، فهذا محض القياس.
ونظير هذا لو آجره كلَّ شهر بدرهم فإنه يصح وإن كانت جملة الأجرة غير معلومة تبعًا لمدة الإجارة؛ وقد صحّ [28/أ] عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
(1)
أنه آجَر نفسَه كلّ دلوٍ بتمرة، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك التمر
(2)
. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو
(1)
ز: «كرم الله وجهه» .
(2)
رواه أحمد (1135) من حديث مجاهد عن علي رضي الله عنه، وفي إسناده انقطاع؛ لأن مجاهدًا لم يسمع من علي. ورواه ابن ماجه (2446) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي إسناد حنش متكلم فيه. وانظر:«الإرواء» (5/ 313).
حرَّم حلالًا»
(1)
، وهذا لا يتضمن واحدًا من الأمرين، فإنّ ما أحلّ الحرام وحرّم الحلال لو فعلاه بدون الشرط لما
(2)
جاز. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحقَّ الشروط أن تُوفُوا به ما استحللتم به الفروجَ»
(3)
. وأما تلك التقديرات المذكورة فيكفي في عدم اعتبارها عدم دليل واحد يدلُّ عليها، ثم ليس تقديرٌ منها بأولى من تقديرٍ أزيدَ عليه أو أنقصَ منه، وما كان هذا سبيلَه فهو غير معتبر.
قال الحافظ أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفَسَوي في كتاب «التاريخ والمعرفة» له
(4)
ــ وهو كتاب جليل غزير العلم جمُّ الفوائد ــ: حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكَير المخزومي قال: هذه رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس.
سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد، عافانا الله وإياك، وأحسنَ العاقبةَ في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه
(5)
من صلاح حالكم الذي يسرُّني، فأدام الله ذلك لكم وأتمَّه بِالْعَون على شكره
(1)
رواه أبو داود (3594) وفي إسناده كثير بن زيد متكلم فيه. ورواه الطبراني (30) والدارقطني (2892)، واللفظ لهما. وفي إسناده كثير بن عبد الله متكلم فيه، وللحديث شواهد من حديث عائشة وأنس وعمرو ورافع بن خديج وابن عمر رضي الله عنه. انظر:«الإرواء» (5/ 142).
(2)
«لما» ليست في ز.
(3)
رواه البخاري (2721) ومسلم (1418) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(4)
انظر نص الرسالة فيه (1/ 687 - 695) وفي «تاريخ ابن معين» رواية الدوري (4/ 487 - 497).
(5)
«فيه» ليست في ز.
والزيادة من إحسانه.
وذكرتَ نظرك في الكتب التي بعثتُ بها إليك وإقامتك إياها وختمك عليها بخاتمك، وقد أتتنا فجزاك الله عما قدَّمتَ منها خيرًا، فإنها كتب انتهت إلينا عنك فأحببتُ أن أبلغَ حقيقتها بنظرك فيها.
وذكرتَ أنه قد أنشطك ما كتبتُ إليك فيه من تقويمِ ما أتاني عنك= إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوتَ أن يكون لها عندي موضع، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلًا، إلا أني لم أُذاكرك مثلَ هذا.
وأنه بلغَك أني أُفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يَحِقُّ عليَّ الخوف على نفسي لاعتمادِ مَن قبلي على ما أفتيتُهم به، وأن الناس تبعٌ لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن.
وقد أصبتَ بالذي كتبتَ به من ذلك إن شاء الله، ووقع مني بالموقع الذي تحبُّ، وما أجد أحدًا قد يُنسَب إليه العلم أكرهَ لشواذِّ الفتيا ولا أشدَّ تفضيلًا لعلماء أهل المدينة الذين مَضَوا ولا آخَذَ لفتياهم فيما اتفقوا عليه= منّي، والحمد لله رب العالمين لا شريك له.
وأما ما ذكرتَ من مُقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ونزول القرآن عليه بين ظَهْرَي أصحابه، وما علَّمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعًا لهم فيه
(1)
= فكما ذكرتَ.
وأما ما ذكرتَ من قول الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
(1)
«فيه» ليست في ز.
تَجْرِي تَحْتَهَا
(1)
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، وإن
(2)
كثيرًا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاءَ مرضاة الله، فجنَّدوا [28/ب] الأجناد، واجتمع إليهم الناس، فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتُموهم شيئًا علِموه.
وكان في كل جندٍ منهم طائفة يعلِّمون لله كتابَ الله وسنة نبيه، ويجتهدون رأيَهم فيما لم يفسِّره لهم القرآن والسنة، ويُقوِّيهم
(3)
عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجنادهم ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه، فلم يتركوا أمرًا فسّره القرآن أو عمل به النبي صلى الله عليه وسلم أو ائتمروا فيه بعده إلا علَّموهموه.
فإذا جاء أمر عمِلَ فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يزالوا عليه حتى قُبِضوا لم يأمروهم بغيره، فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يُحدِثوا اليوم أمرًا لم يعمل به سلفُهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم.
مع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا بعدُ في الفتيا في أشياء كثيرة، ولولا أني قد عرفتُ أن قد علمتَها كتبتُ بها إليك، ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن المسيب ونظراؤه أشدَّ الاختلاف، ثم اختلف الذين كانوا بعدهم فحضرتهم بالمدينة وغيرها،
(1)
في النسختين و «المعرفة» : «من تحتها» ، وهي قراءة ابن كثير، وبها كان يقرأ الشافعي.
(2)
كذا في النسختين. وفي المطبوع: «فإن» .
(3)
كذا في النسختين. وفي المطبوع: «ويقومهم» .
رأسُهم يومئذٍ ابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن.
وكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفتُ وحضرتُ وسمعتُ قولَك فيه، وقولَ ذوي الرأي من أهل المدينة يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر
(1)
وكثير بن فرقد وغير كثير ممن هو أسنُّ منه، حتى اضطرَّك ما كرهتَ من ذلك إلى فراق مجلسه.
وذاكرتُك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعضَ ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرتُ، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة ولنا خاصة، رحمة الله عليه وغفر له، وجزاه بأحسنَ من عمله.
وكان يكون من ابن شهاب اختلافٌ كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا فربما كتب إليه في الشيء الواحد على فضل
(2)
رأيه وعلمه بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضًا، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرتَ تركي إياه.
وقد عرفت أيضًا عيب إنكاري
(3)
إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلةَ المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا
(1)
في النسختين: «عمرو» . والصواب ما أثبت. وهو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني.
(2)
د: «فصل» .
(3)
كذا في النسخ. وفي «المعرفة والتاريخ» : «وقد عرفت مما عبتَ إنكاري» .
يعلمه إلا الله، لم يجمع
(1)
منهم إمام قطُّ في ليلة مطر، وفيهم أبو عبيدة بن الجرّاح وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل ــ وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل»
(2)
، ويُقال:«يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي [29/أ] العلماء برَتْوَةٍ»
(3)
ــ وشُرحبيل بن حَسنة وأبو الدرداء وبلال بن رباح.
وكان أبو ذر بمصر والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلها وبالعراق ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعمران بن حصين، ونزلها علي بن أبي طالب سنين، وكان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قطُّ.
ومن ذلك القضاء بشهادة شاهدٍ ويمينِ صاحب الحق، وقد عرفتَ أنه لم يزل يُقضَى بالمدينة به، ولم يقضِ به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشام وبحمص ولا مصر ولا العراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم ولي عمر بن عبد العزيز وكان كما علمتَ في إحياء السنن والجِدّ في إقامة الدين والإصابة في الرأي والعلم بما مضى من
(1)
د: «لم يخرج» .
(2)
رواه أحمد (12904) والترمذي (3791) وابن ماجه (154، 155) من حديث أنس، وصححه الترمذي وابن حبان (7131) والحاكم (3/ 422). والحديث قد اختلف في وصله وإرساله. انظر:«علل الدارقطني» (12/ 248).
(3)
رواه الطبراني في «المعجم الصغير» (556) من حديث جابر بن عبد الله، وفي إسناده مندل متكلم فيه، ومحمد بن الوليد العباسي لم أجد له ترجمة، وللحديث شواهد أخرى تقويه. انظر:«السلسلة الصحيحة» (1091). وفي النسختين: «بربوة» ، تصحيف. والرتوة: الخطوة.
أمر الناس، فكتب إليه رُزَيق بن الحكم
(1)
: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمينِ صاحب الحق، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة
(2)
، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك؛ فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين. ولم يجمع بين المغرب والعشاء قطُّ ليلة المطر، والسماء تسكُب عليه في منزله الذي كان فيه بخُنَاصِر
(3)
ساكنًا.
ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صَدُقات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلَّمت فدُفِع إليها، وقد وافق أهلُ العراق أهلَ المدينة على ذلك وأهلُ الشام وأهلُ مصر، ولم يقضِ أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مَن بعده
(4)
لامرأة بصداقها المؤخَّر إلا أن يفرِّق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقِّها.
ومن ذلك قولهم في الإيلاء: إنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف وإن مرَّت الأربعة الأشهر، وقد حدثني نافع عن عبد الله بن عمر ــ وهو الذي كان يروى عنه ذلك التوقيف بعد الأشهر ــ أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه: لا يحلُّ للمُولِي إذا بلغ الأجل إلا أن يفيء كما أمر الله أو يعزم
(1)
كذا في النسختين و «المعرفة» . والصواب: «حُكَيم أو حَكِيم» ، كما في «التهذيب» وفروعه و «الإكمال» (4/ 47).
(2)
د: «بالمدينة بذلك» .
(3)
كذا في النسخ. وفي «تاريخ ابن معين» : «بخناصرة» . قال في «معجم البلدان» (2/ 390): «خناصرة» بليدة من أعمال حلب تحاذي قنَّسرين نحو البادية.
(4)
كذا في النسخ. وفي «المعرفة» و «تاريخ ابن معين» : «بعدهم» .
الطلاق
(1)
، وأنتم تقولون: إن لبِثَ بعد الأربعة الأشهر التي سمَّى الله في كتابه ولم يوقف لم يكن عليه طلاق، وقد بلغنا أن عثمان بن عفّان وزيد بن ثابت وقَبِيصة بن ذؤيب وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قالوا في الإيلاء: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة
(2)
. وقال سعيد بن المسيّب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن شهاب: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة، وله الرجعة في العدة
(3)
.
ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا ملَّك الرجل امرأتَه فاختارت زوجها فهي تطليقة، وإن طلَّقت نفسها ثلاثًا فهي تطليقة
(4)
. وقضى بذلك عبد الملك بن مروان، وكان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقوله، وقد كاد الناس يجتمعون على أنها إن اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدة أو اثنتين كانت له عليها الرجعة، وإن طلَّقت نفسها ثلاثًا بانت [29/ب] منه، ولم تحلَّ له حتى تنكح زوجًا غيره فيدخل بها
ثم
(1)
رواه البخاري (5290) من طريق الليث عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
قول عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وأبي سلمة بن عبد الرحمن عند عبد الرزاق (11638) والدارقطني (4044)، وأما قول قبيصة بن ذؤيب فعند عبد الرزاق (11651).
(3)
قول أبي بكر بن عبد الرحمن والزهري عند عبد الرزاق (11651)، وكذلك قول ابن المسيب (11652).
(4)
روى عبد الرزاق (11917) عن القاسم بن محمد عن زيد بن ثابت أنه قال في رجل جعل أمر امرأته بيدها فطلقت نفسها ثلاثًا قال: هي واحدة. وروى ابن أبي شيبة (18402) من طريق جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم عن زاذان عن علي، وفيه: أرسل إلى زيد بن ثابت، فسأله؟ فقال: إن اختارت نفسها فثلاث، وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة.
يموت أو يطلِّقها، إلا أن يردّ عليها في مجلسه فيقول: إنما ملَّكتُك واحدة، فيُسْتَحلَف ويُخلَّى بينه وبين امرأته.
ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول: أيُّما رجلٍ تزوج أمة ثم اشتراها زوجها فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات
(1)
. وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوجت المرأة الحرة عبدًا فاشترتْه فمثل ذلك.
وقد بُلِّغنا عنكم شيئًا من الفتيا مستكرهًا، وقد كنتُ كتبت إليك في بعضها فلم تُجِبْني في كتابي، فتخوَّفتُ أن تكون استثقلتَ ذلك، فتركتُ الكتاب إليك في شيء مما أنكرتُ وفيما أردتُ
(2)
فيه على
(3)
رأيك. وذلك أنه بلغني أنك أمرتَ زفر بن عاصم الهلالي ــ حين أراد أن يستسقي ــ أن يقدِّم الصلاة قبل الخطبة، فأعظمتُ ذلك؛ لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة يوم الجمعة، إلا أن الإمام إذا دنا فراغُه من الخطبة فدعا حوَّل رداءه ثم نزل فصلّى، وقد استسقى عمر بن عبد العزيز
(4)
وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
(5)
وغيرهما، فكلهم يقدِّم الخطبة والدعاء قبل الصلاة، فاستهتر
(6)
الناس كلهم فعْلَ زفر بن عاصم من ذلك واستنكروه.
(1)
لم أجده بهذا اللفظ في المصادر التي بين أيدينا، وقد روى ابن أبي شيبة (18564) عنه بلفظ:«بيع الأمة طلاقها» .
(2)
كذا في النسخ وأصل «المعرفة والتاريخ» . وفي المطبوع: «أوردت» .
(3)
كذا في النسخ. وفي «تاريخ ابن معين» : «علم» ، وهو أولى بالسياق.
(4)
رواه عبد الرزاق (4898).
(5)
رواه الأثرم، انظر:«المغني» لابن قدامة (3/ 341).
(6)
كذا في بعض النسخ «وتاريخ ابن معين» . وفي ز: «فاستهزأ» . وفي «المعرفة» : «فأشهر» ، وهو الصواب.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول في الخليطَينِ في المال: إنه لا تجب عليهما الصدقة حتى يكون لكل واحدٍ منهما ما تجب فيه الصدقة. وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة ويترادَّانِ بالسَّوِية
(1)
، وقد كان ذلك يُعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم وغيره، والذي حدَّثنا به يحيى بن سعيد، ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه، فرحمه الله وغفر له وجعل الجنة مصيره.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذا أفلس الرجل وقد باعه رجل سِلعةً فتقاضى طائفة من ثمنها أو أنفق المشتري طائفة منها= أنه يأخذ ما وجد من متاعه. وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئًا أو أنفق المشتري منها شيئًا فليست بعينها.
ومن ذلك أنك تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعطِ الزبير بن العوام إلا لفرس واحد، والناس كلهم يحدِّثون أنه أعطاه أربعة أسهُمٍ لفرسين ومنَعَه الفرس الثالث
(2)
، والأمة كلهم على هذا الحديث: أهل الشام وأهل مصر وأهل العراق وأهل إفريقية، لا يختلف فيه اثنان؛ فلم يكن ينبغي لك ــ وإن كنتَ سمعتَه من رجل مرضيٍّ ــ أن تخالف الأمة أجمعين.
وقد تركتُ أشياءَ كثيرة من أشباه هذا، وأنا أُحِبُّ توفيقَ الله إيّاك وطُوْلَ
(1)
وهو الكتاب الذي كتبه أبو بكر رضي الله عنه، رواه البخاري (2487) من حديث أنس رضي الله عنه، ثم أخذه من بعده عمر رضي الله عنه وعمل به. كما رواه أبو داود (1568) من حديث ابن عمر.
(2)
يُنظر: «التلخيص الحبير» (3/ 228 - 229)، ولم أعثر على رواية فيها منع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير الفرس الثالث. وقد رُوي أنه أحضر أفراسًا يوم خيبر.
بقائك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضَّيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نَأَتِ الدار؛ فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقِنْه. لا تتركِ الكتاب إليَّ بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجةٍ إن كانت لك أو لأحد يُوصَل بك، فإني أُسَرُّ بذلك. كتبتُ إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكْرَ ما أولانا وتمامَ ما أنعم به علينا، والسلام عليك ورحمة الله.
فإن قيل: فما تقولون فيما لو تجمَّلوا وجعلوه [30/أ] حالًا، وقد اتفقوا على تأخيره في الباطن
(1)
كصدُقاتِ النساء في هذه الأزمنة في الغالب: هل للمرأة أن تطالب به قبل الفرقة أو الموت؟
قيل: هذا ينبني على أصل، وهو إذا اتفقا في السرّ على مهرٍ وسمَّوا في العلانية أكثر منه: هل يؤخذ بالسرّ أو بالعلانية؟ فهذه المسألة مما اضطربت فيها أقوال المتأخرين لعدم إحاطتهم بمقاصد الأئمة، ولا بدَّ من كشف غطائها، ولها في الأصل صورتان:
إحداهما
(2)
: أن يعقدوه في العلانية بألفين مثلًا، وقد اتفقوا قبل ذلك أن المهر ألف وأن الزيادة سُمْعة، من غير أن يعقدوه بالأقل؛ فالذي عليه القاضي ومن بعده من أصحاب أحمد أن المهر هو المسمَّى في العقد، ولا اعتبارَ بما اتفقوا عليه قبل ذلك، وإن قامت به البينة أو تصادقوا عليه، وسواء كان مهر
(1)
(2)
د: «أحدهما» . ومن هنا إلى (ص 571) نقله المؤلف من كتاب «بيان الدليل» (ص 114 - 119)، وقد نصَّ على ذلك في آخره.
العلانية من جنس السر
(1)
أو من غير جنسه وأقلّ منه أو أكثر. قالوا: وهو ظاهر كلام أحمد في مواضع.
قال في رواية ابن بَدِينا في الرجل يُصْدِق صداقًا في السرّ وفي العلانية شيئًا آخر: يؤخذ بالعلانية. وقال في رواية أبي الحارث
(2)
: إذا تزوجها في العلانية على شيء وأسرَّ غير ذلك أُخِذ بالعلانية، وإن كان قد أشهد في السرّ بغير ذلك. وقال في رواية الأثرم في رجل أصْدقَ صداقًا سرًّا وصداقًا علانيةً: يؤخذ بالعلانية إذا كان قد أقرَّ به، قيل له: فقد أشهد شهودًا في السر بغيره؟ قال: وإن، أليس قد أقر بهذا
(3)
أيضًا عند شهود؟ يؤخذ بالعلانية.
قال شيخنا رضي الله عنه
(4)
: ومعنى قوله «أقرّ به» أي رضي به والتزمه، لقوله سبحانه:{أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81]، وهذا يعمُّ التسميةَ في العقد والاعتراف بعده. ويقال: أقرَّ بالجزية، وأقرَّ للسلطان بالطاعة، وهذا كثير في كلامهم.
وقال في رواية صالح في الرجل يُعلِن مهرًا ويُخفِي آخر؛ أُخِذ بما يعلن؛ لأن العلانية قد أشهد على نفسه، وينبغي لهم أن يَفُوا له بما كان أسرَّه. وقال في رواية ابن منصور: إذا تزوج امرأة في السرّ بمهرٍ وأعلنوا مهرًا آخر
(1)
د: «جنس مهر السر» . والمثبت من ز موافق لما في «إبطال التحليل» .
(2)
في النسختين: «ابن الحارث» ، خطأ. والصواب ما أثبت، وهو أبو الحارث أحمد بن محمد الصائغ، روى عن أحمد مسائل كثيرة بضعة عشر جزءًا، ترجمته في «طبقات الحنابلة» (1/ 74).
(3)
د: «بها» .
(4)
«رضي الله عنه» ليست في ز. والنص في «بيان الدليل» (ص 115).
ينبغي لهم أن يَفُوا، وأما هو فيؤخذ بالعلانية.
قال القاضي وغيره: فقد أطلق القول بمهر العلانية، وإنما قال: ينبغي لهم أن يَفُوا بما أسرَّه
(1)
على طريق الاختيار؛ لئلا يحصل منهم غرور له في ذلك. وهذا القول هو قول الشعبي وأبي قلابة وابن أبي ليلى وابن شُبرمة
(2)
والأوزاعي، وهو قول الشافعي المشهور عنه. وقد نصَّ في موضع على أنه يؤخذ بمهر السر، فقيل: في هذه المسألة قولان، وقيل: بل ذلك في الصورة الثانية كما سيأتي.
وقال كثير من أهل العلم أو أكثرهم: إذا علم الشهود أن المهر الذي يُظهِره سُمْعة، وأن أصل المهر كذا وكذا، ثم تزوّج وأعلن الذي قال= فالمهر هو السر، والسمعة باطلة. وهذا قول الزهري والحكم بن عُتَيبة
(3)
ومالك والثوري والليث وأبي حنيفة وأصحابه وإسحاق، وعن شريح والحسن كالقولين
(4)
. وذكر القاضي عن أبي حنيفة [30/ب] أنه يبطل المهر ويجب
(1)
ز: «أسر» .
(2)
قول أبي قلابة رواه ابن أبي شيبة (16365). وأما قول الشعبي فرواه عبد الرزاق (10447) وابن أبي شيبة (16362). وأما قول ابن أبي ليلى فرواه سعيد بن منصور (1003). وأما قول ابن شبرمة فحكاه الطحاوي في «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 287).
(3)
قول الزهري رواه ابن أبي شيبة (16359) وكذلك قول الحكم (16360). وفي د: «الحكم بن عيينة» ، تصحيف.
(4)
في الأخذ بالعلانية قول الحسن عند عبد الرزاق (10446)، وقول شريح عند ابن أبي شيبة (16364). وأما في الأخذ بالسر فقولهما عند ابن أبي شيبة (16357، 16358).
مهر المثل، وهو خلاف ما حكاه عنه أصحابه وغيرهم.
ونقل عن أحمد ما يقتضي أن الاعتبار بالسر إذا ثبت أن العلانية تَلجِئةٌ، فقال: إذا كان رجل قد أظهر صداقًا وأسرَّ غير ذلك نُظِر في البينات والشهود، وكان الظاهر أوكدَ، إلا أن تقوم بينة تدفع العلانية. قال القاضي: وقد تأوَّل أبو حفص العكبري هذا على أن بينة السر عدول وبينة العلانية غير عدول، فحكم بالعدول. قال القاضي: وظاهر هذا أنه حكم بنكاح السر إذا لم تقم بينة عادلة بنكاح العلانية.
وقال أبو حفص: إذا تكافأت البينات وقد شرطوا في السر أن الذي يظهر في العلانية الرياء والسمعة، فينبغي لهم أن يَفُوا له بهذا الشرط ولا يطالبوه بالظاهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«المؤمنون على شروطهم»
(1)
. قال القاضي: وظاهر هذا الكلام من أبي حفص أنه قد جعل للسرّ حكمًا. قال: والمذهب على ما ذكرناه.
قال شيخنا رضي الله عنه
(2)
: كلام أبي حفص الأول فيما إذا قامت البينة بأن النكاح عُقِد في السر بالمهر القليل، ولم يثبت نكاح العلانية، وكلامه الثاني فيما إذا ثبت نكاح العلانية، ولكن تشارطوا إنما يظهرون الزيادة على ما اتفقوا عليه للرياء والسمعة.
قال شيخنا رضي الله عنه
(3)
: وهذا الذي ذكره أبو حفص أشبه بكلام
الإمام
(1)
تقدم تخريجه، ولا يوجد في لفظ الحديث:«المؤمنون على شروطهم» . انظر: «إرواء الغليل» (5/ 250).
(2)
«رضي الله عنه» من د. والنص في «بيان الدليل» (ص 117).
(3)
«رضي الله عنه» من د.
أحمد وأصوله؛ فإن عامة كلامه في هذه المسألة إنما هو إذا اختلف الزوج والمرأة ولم تثبت بينةٌ ولا اعتراف أن مهر العلانية سمعة، بل شهدت البينة أنه تزوجها بالأكثر، وادّعى عليه ذلك، فإنه يجب أن يؤخذ بما أقرَّ به إنشاءً أو إخبارًا؛ فإذا أقام شهودًا يشهدون أنهم تراضوا بدون ذلك [حُكِمَ]
(1)
بالبينة الأولى؛ لأن
(2)
التراضي بالأقلِّ في وقت لا يمنع التراضي بما زاد عليه في وقت آخر. ألا ترى أنه قال: آخذُ بالعلانية لأنه قد أشهد على نفسه، وينبغي لهم أن يَفُوا بما كان أسرّه؛ فقوله «لأنه قد أشهدَ على نفسه» دليل على أنه إنما يلزمه في الحكم فقط، وإلا فما
(3)
يجب بينه وبين الله لا يُعلَّل بالإشهاد. وكذلك قوله «ينبغي لهم أن يَفُوا له، وأما هو فيؤخذ بالعلانية» دليل على أنه يحكم عليه به، وأن أولئك يجب عليهم الوفاء. وقوله «ينبغي» يستعمل في الواجب أكثر مما يستعمل في المستحب، ويدل على ذلك أنه قد قال أيضًا في امرأة تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة، فاختلفوا في ذلك: فإن كانت البينة في السر والعلانية سواء أُخِذ بالعلانية لأنه أحوط، وهو فرج يؤخذ بالأكثر، وقُيِّدت المسألة بأنهم اختلفوا وأنّ كلاهما
(4)
قامت به بينة عادلة.
وإنما يظهر ذلك بالكلام في الصورة الثانية: وهو ما إذا تزوَّجها في السر
(1)
هنا بياض في النسختين، واستُدرك من «بيان الدليل» .
(2)
في النسختين: «البينة الأولى أن» . والتصويب من «بيان الدليل» .
(3)
ز: «فيما» .
(4)
كذا في النسختين بالألف، وهو أسلوب شيخ الإسلام فيما وصل إلينا بخطه من الكتب.
بألفٍ، ثم تزوّجها في العلانية بألفين مع بقاء النكاح الأول، فهنا قال القاضي في «المجرد» و «الجامع»: إن تصادقا على نكاح السر لزم نكاح [31/أ] السر بمهر السرّ؛ لأن النكاح المتقدم قد صحّ ولزم، والنكاح المتأخر عنه لا يتعلق به حكم، ويُحمل مطلق كلام أحمد والخرقي على مثل هذه الصورة، وهذا مذهب الشافعي.
وقال الخرقي
(1)
: إذا تزوَّجها على صداقين سرّ وعلانية أُخِذ بالعلانية وإن كان السر قد انعقد النكاح به. وهذا منصوص كلام الإمام أحمد في قوله: إن زوِّجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة، وعموم كلامه المتقدم يشمل هذه الصورة والتي قبلها. وهذا هو الذي ذكره القاضي في «خلافه» ، وعليه أكثر الأصحاب.
ثم طريقته وطريقة جماعة في ذلك أن ما أظهراه زيادة في المهر، والزيادة فيه بعد لزومه لازمة، وعلى هذا فلو كان السر هو الأكثر أخذ به أيضًا، وهو معنى قول الإمام أحمد «أُخِذ بالعلانية» يؤخذ بالأكثر. ولهذا القول طريقة ثانية، وهو أن نكاح السر إنما يصح إذا لم يكتموه على إحدى الروايتين بل أَنَصِّهما؛ فإذا تواصَوا بكتمان النكاح الأول كانت العبرة إنما هي بالثاني
(2)
.
فقد تحرَّر أن الأصحاب مختلفون: هل يؤخذ بصداق العلانية ظاهرًا وباطنًا أو ظاهرًا فقط؟ فيما إذا كان السر تواطؤًا من غير عقد، وإن كان السر عقدًا فهل هي كالتي قبلها أو يؤخذ هنا بالسرّ في الباطن بلا تردد؟ على
(1)
في «مختصره» بشرحه «المغني» (10/ 172).
(2)
د: «بالنكاح الثاني» . والمثبت موافق لما في «بيان الدليل» .
وجهين: فمن قال إنه يؤخذ به ظاهرًا فقط وإنهم في الباطن لا ينبغي لهم أن يأخذوا إلا بما اتفقوا عليه لم يرد نقضًا، وهذا قول له شواهد كثيرة. ومن قال إنه يؤخذ به ظاهرًا وباطنًا بنى ذلك على أن المهر من توابع النكاح وصفاته، فيكون ذكره سمعةً كذكره هزلًا، والنكاح جدُّه وهزلُه سواء، فكذلك ذكر ما هو فيه. يحقِّق ذلك أن حِلّ البضع مشروط بالشهادة على العقد، والشهادة وقعت على ما أظهره؛ فيكون وجود
(1)
المشهود به شرطًا في الحل.
هذا كلام شيخ الإسلام في مسألة مهر السر والعلانية في كتاب «إبطال التحليل» نقلته بلفظه.
ولهذه المسألة عدة صور هذه إحداها.
الثانية
(2)
: أن يتفقا في السر على أن ثمن المبيع ألف ويُظهِرا في العلانية أن ثمنه ألفان، فقال القاضي في «التعليق القديم» والشريف أبو جعفر وغيرهما: الثمن ما أظهراه، على قياس المشهور عنه في المهر أن العبرة بما أظهراه، وهو الأكثر. وقال القاضي في «التعليق الجديد» وأبو الخطاب وأبو الحسين وغيرهم من أصحاب القاضي: الثمن ما أسرَّاه، والزيادة سمعة ورياء، بخلاف المهر، إلحاقًا للعوض في البيع بنفس البيع، وإلحاقًا للمهر بالنكاح، وجعلًا الزيادة فيه بمنزلة الزيادة بعد العقد وهي غير لاحقة. وقال أبو حنيفة عكس هذا، بناء على أن تسمية العوض شرط في صحة البيع دون النكاح. وقال صاحباه: العبرة في الجميع بما أسرَّاه.
(1)
ز: «وجوب» . والمثبت موافق لما في «بيان الدليل» .
(2)
نقلها المؤلف من «بيان الدليل» (ص 113 - 114).
الصورة الثالثة
(1)
: أن يتفقا في عقد البيع على أن يتبايعا شيئًا بثمن ذكراه على أنه بيع تَلْجئةٍ لا حقيقةَ له، تخلُّصًا من ظالم يريد أخذه؛ فهذا عقد باطل؛ وإن لم [31/ب] يقولا في صلب العقد «قد تبايعناه تلجئةً». قال القاضي: هذا قياس قول أحمد؛ لأنه قال فيمن تزوج امرأة واعتقد أنه يُحِلُّها للأول: لم يصحَّ هذا النكاح، وكذلك إذا باع عنبًا ممن يعتقد أنه يعصره خمرًا. قال: وقد قال أحمد في رواية ابن منصور
(2)
: إذا أقرَّ لامرأة بدَينٍ في مرضه ثم تزوّجها ومات وهي وارثة، فهذه قد أقرَّ لها وليست بزوجة، يجوز ذلك، إلا أن يكون أراد تلجئةً فيردُّ. ونحو هذا نقل إسحاق بن إبراهيم والمرُّوذي، وهذا قول أبي يوسف ومحمد، وهو قياس قول مالك.
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يكون تلجئةً حتى يقولا في العقد «قد
(3)
تبايعنا هذا العقد تلجئةً».
ومأخذ من أبطله أنهما لم يقصدا العقد حقيقة، والقصد معتبر في صحته، ومأخذ من يصحِّحه أن هذا شرط مقدم على العقد، والمؤثر في العقد إنما هو الشرط المقارن.
والأولون منهم من يمنع المقدمة الأولى ويقول: لا فرقَ بين الشرط المتقدم والمقارن، ومنهم من يقول: إنما ذلك في الشرط الزائد على العقد، بخلاف الرافع له فإن الشارط هنا يجعل العقد غير مقصود، وهناك هو مقصود، وقد أطلق عن شرط مقارن.
(1)
نقل المؤلف هذه الصورة من «بيان الدليل» (ص 110 - 112).
(2)
«مسائله» (2/ 502).
(3)
ز: «وقد» .
الصورة الرابعة
(1)
: أن يظهرا نكاحًا تلجئةً لا حقيقةَ له؛ فاختلف الفقهاء في ذلك؛ فقال القاضي وغيره من الأصحاب: إنه صحيح كنكاح الهازل؛ لأن أكثر ما فيه أنه غير قاصد للعقد، بل هازل به، ونكاح الهازل صحيح.
قال شيخنا
(2)
: ويؤيِّد هذا أن المشهور عندنا أنه لو شرط في العقد رفْعَ موجبه، مثل أن يشترط
(3)
أن لا يطأها أو أنها لا تحلُّ له أو أنه لا ينفق عليها ونحو ذلك= صح العقد دون الشرط؛ فالاتفاق على التلجئة حقيقته
(4)
أنهما اتفقا على أن يعقدا عقدًا لا يقتضي موجبه، وهذا لا يبطله.
قال شيخنا
(5)
: ويتخرج في نكاح التلجئة أنه باطل، لأن الاتفاق الموجود قبل العقد بمنزلة المشروط في العقد في أظهر الطريقين لأصحابنا، ولو شرطا في العقد أنه نكاح تلجئةٍ لا حقيقة لكان نكاحًا باطلًا، وإن قيل إنّ فيه خلافًا فإن أسوأ الأحوال أن يكون كما لو شرطا أنها لا تحلُّ له، وهذا الشرط يفسد العقد على الخلاف المشهور.
الصورة الخامسة: أن يتفقا على أن العقد عقد تحليل، لا نكاح رغبة، وأنه متى دخل بها طلَّقها أو
(6)
فهي طالق، أو أنها متى اعترفت بأنه وصل إليها فهي طالق، ثم يعقداه مطلقًا وهو في الباطن نكاح تحليل لا نكاح رغبة،
(1)
نقلها المؤلف من «بيان الدليل» (ص 112، 113).
(2)
في المصدر السابق.
(3)
د: «يشرط» . والمثبت موافق لما في «بيان الدليل» .
(4)
ز: «حقيقة» .
(5)
في «بيان الدليل» (ص 113).
(6)
د: «وإلا» .
فهذا باطل محرم، لا تحلُّ به الزوجة للمطلق، وهو داخل تحت اللعنة، مع تضمُّنٍ لزيادة الخداع كما سماه السلف بذلك، وجعلوا فاعله مخادعًا لله، وقالوا: من يخادع الله يخدعه. وعلى بطلان هذا النكاح نحو ستين دليلًا.
والمقصود أن المتعاقدينِ وإن أظهرا خلاف ما اتفقا عليه في الباطن فالعبرة بما أضمراه
(1)
واتفقا عليه وقصداه بالعقد، وقد أشهدا الله على ما في قلوبهما فلا [32/أ] ينفعهما تركُ التكلم به حالَ العقد
(2)
، وهو مطلوبهما ومقصودهما.
الصورة السادسة: أن يحلف الرجل على شيء في الظاهر، وقصده ونيته خلاف ما حلف عليه، وهو غير مظلوم؛ فهذا لا ينفعه ظاهر لفظه، وتكون يمينه على ما يصدِّقه عليه صاحبه اعتبارًا بمقصده ونيته.
الصورة السابعة: إذا اشترى أو استأجر مُكرَهًا لم يصح، وإن كان في الظاهر قد حصل صورة العقد؛ لعدم قصده وإرادته؛ فدلَّ على أن القصد روح العقد ومصحِّحه ومُبطِله، فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ؛ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها، ومقاصد العقود هي التي تُراد لأجلها، فإذا أُلغِيت واعتُبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره واعتبارًا لما يسوغ إلغاؤه.
وكيف يقدَّم اعتبار اللفظ الذي قد ظهر كل الظهور أن المراد خلافه؟ بل يُقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر بل قد تيقَّن أنه المراد، وكيف يُنكِر
على أهل الظاهر من يسلك هذا؟ وهل ذلك إلا من أبرد
(1)
الظاهرية؟ فإن أهل الظاهر تمسَّكوا بألفاظ النصوص وأجْرَوها على ظواهرها حيث لا يقع القطع بأن المراد خلافها، وأنتم تمسَّكتم بظواهر ألفاظِ غير المعصومين حيث يقع القطع بأن المراد خلافها، فأهل الظاهر أعذرُ منكم بكثير، وكل شبهة تمسَّكتم بها في تسويغ ذلك فأدلة الظاهرية في تمسُّكهم بظواهر النصوص أقوى وأصح.
والله تعالى يحبُّ الإنصاف، بل هو أفضل حلية تحلَّى بها الرجل، خصوصًا من نَصبَ نفسه حكمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال تعالى لرسوله:{وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف وأن لا يميل أحدهم مع قريبه وذي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل الحق مطلوبه، يسير بسيره وينزل بنزوله، يدين بدين العدل والإنصاف ويُحكِّم الحجة، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو العلم الذي قد شمَّر إليه، ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه، لا يَثْني عِنانَه عنه عذلُ عاذلٍ، ولا تأخذه فيه لومة لائم، ولا يصدُّه عنه قول قائل.
ومن تدبَّر مصادر الشرع وموارده تبيَّن له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصدٍ منه، كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمُكْرَه والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم، ولم يكفِّر من قال من شدة فرحه براحلته بعد يأسه منها:«اللهم أنت عبدي وأنا ربك»
(2)
، فكيف يعتبر الألفاظ التي يُقطع بأن مراد
(1)
في المطبوع: «إيراد» ، تحريف.
(2)
تقدم تخريجه.
قائلها خلافها؟ ولهذا ألغَى شهادة المنافقين ووصفهم بالخداع والكذب والاستهزاء، وذمَّهم على أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم وأن بواطنهم تخالف ظواهرهم، وذمّ تعالى من يقول ما لا يفعل، وأخبر أن [32/ب] ذلك من أكبر المقت عنده، ولعن اليهود إذ توسَّلوا بصورة عقد البيع على ما حرَّمه عليهم إلى أكل ثمنه، وجعل أكل ثمنه لما كان هو المقصود بمنزلة أكله في نفسه.
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عاصرَها ومعتصرها
(1)
، ومن المعلوم أن العاصر إنما عصر عنبًا، ولكن لما كانت نيته إنما هي تحصيل الخمر لم ينفعه ظاهر عَصْره، ولم يعصمه من اللعنة لباطن قصدِه ومراده، فعُلِم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها.
ومن لم يُراعِ القصود في العقود وجرى مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر، وأن يجوز له عَصْر
(2)
العنب لكل أحد وإن ظهر له أن قصده الخمر، وأن يقضي له بالأجرة لعدم تأثير القصد في العقد عنده. ولقد صرَّحوا بذلك، وجوَّزوا له العصر، وقَضَوا له بالأجرة، وقد روي في أثر مرفوع من حديث ابن بريدة عن أبيه: «من حبسَ العنب أيام القِطاف حتى
(1)
رواه الترمذي (1295) وابن ماجه (3381) من حديث أنس رضي الله عنه، قال ابن حجر: رواته ثقات. وفي الباب عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنه. انظر: «التلخيص الحبير» (4/ 136) و «السلسلة الصحيحة» (839) و «الإرواء» (5/ 364).
(2)
ز: «عصير» .
يبيعه من يهودي أو نصراني أو من يتخذه خمرًا فقد تقحَّم النارَ على بصيرةٍ»
(1)
. ذكره أبو عبد الله ابن بطَّة
(2)
.
ومن لم يراعِ القصد في العقد لم ير بذلك بأسًا، وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات
(3)
كما هي معتبرة في التقربات والعبادات؛ فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالًا وحرامًا، وصحيحًا وفاسدًا، وطاعة ومعصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبة أو محرمة، وصحيحة أو فاسدة.
ودلائل هذه القاعدة تفوت الحصر، فمنها قوله تعالى في حق الأزواج إذا طلَّقوا أزواجهم طلاقًا رجعيًّا:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]، وقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وذلك نص في أن الرجعة إنما ملَّكها الله سبحانه لمن قصد الصلاح دون مَن قصد الضرار.
وقوله في الخلع: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وقوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230]، فبيَّن سبحانه أن الخلع المأذون فيه والنكاح
(1)
رواه الطبراني في «الأوسط» (5356)، وفي إسناده الحسن بن مسلم المروزي، قال فيه أبو حاتم كما في «الجرح والتعديل» (3/ 36): لا أعرفه، وحديثه يدل على الكذب. وقال الذهبي في «الميزان» (1/ 523): أتى بخبر موضوع في الخمر.
(2)
لعله ذكره في «تحريم الخمر» له، وهو من كتبه المفقودة.
(3)
ز: «العبادات» .