المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ شروط الواقفين - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

الفصل: ‌ شروط الواقفين

المأذون فيه

(1)

إنما يباح إذا ظنّا أن يقيما حدود الله.

وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]، فإنما قدّم الله سبحانه الوصية على الميراث إذا لم يَقصد بها الموصي الضرارَ؛ فإن قصده فللورثة إبطالُها وعدم تنفيذها. وكذلك قوله:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]، فرفع الإثم عمن أبطل الجنف والإثم من وصية الموصي، ولم يجعلها بمنزلة نص الشارع الذي تحرم مخالفته.

وكذلك الإثم مرفوع عمن أبطل من‌

‌ شروط الواقفين

ما لم يكن إصلاحًا، وما كان فيه جنفٌ أو إثم، ولا يحلُّ لأحدٍ أن يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب الله بمنزلة نص الشارع، ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام، بل قد قال إمام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه:[33/أ]«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرطٍ، كتابُ الله أحقُّ، وشرط الله أوثقُ»

(2)

. فإنما ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعةً، وللمكلف مصلحةً، وأما ما كان بضد ذلك فلا حرمة له، كشرط التعزُّب والترهُّب المضاد لشرع الله ودينه؛ فإنه سبحانه فتح للأمة باب النكاح بكل طريق، وسدَّ عنهم باب السفاح بكل طريق، وهذا الشرط الباطل مضادٌّ لذلك؛ فإنه يسدُّ على من التزمه باب النكاح، ويفتح له باب الفجور، فإن لوازم البشرية تتقاضاها الطباع أتمَّ تقاضٍ، فإذا سدّ عنها مشروعها فتحت لها

(1)

«فيه» ليست في د.

(2)

رواه البخاري (2155) ومسلم (1504/ 6) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 578

ممنوعها ولا بدّ.

والمقصود أن الله سبحانه رفع الإثم عمن أبطل الوصية الجانفة الآثمة، وكذلك هو مرفوع عمن أبطل شروط الواقفين التي هي كذلك، فإذا شرط الواقف القراءة عند القبر كانت القراءة في المسجد أولى وأحبَّ إلى الله ورسوله وأنفعَ للميت، فلا يجوز تعطيلُ الأحبِّ إلى الله، الأنفعِ لعبده، واعتبارُ ضدّه. وقد رام بعضهم الانفصالَ عن هذا بأنه قد يكون قصد الواقف حصول الأجر له باستماعه للقرآن في قبره، وهذا غلط؛ فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة، فإنه عمل اختياري وقد انقطع بموته.

ومن ذلك اشتراطه أن تُصلَّى الصلوات الخمس في المسجد الذي بناه على قبره، فإنه شرط باطل لا يجب، بل لا يحلُّ الوفاء به، وصلاته في المسجد الذي لم يوضع على قبرٍ أحبُّ إلى الله ورسوله، فكيف يُفتَى أو يُقضَى بتعطيل الأحبِّ إلى الله والقيام بالأكره إليه اتباعًا لشرط الواقف الجانف الآثم؟

ومن ذلك أن يشرط عليهم

(1)

إيقاد قنديلٍ على قبره أو بناء مسجد عليه؛ فإنه لا يحلُّ تنفيذ هذا الشرط ولا العمل به، فكيف ينفذ شرطٌ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله؟

وبالجملة فشروط الواقفين أربعة أقسام: شروط محرمة في الشرع، وشروط

(2)

مكروهة لله ورسوله، وشروط تتضمن تركَ ما هو أحبُّ إلى الله

(1)

ز: «اشتراطه عليه» .

(2)

«شروط» ليست في ز.

ص: 579

ورسوله، وشروط تتضمن فعل ما هو أحبُّ إلى الله ورسوله. فالأقسام الثلاثة الأول لا حرمةَ لها ولا اعتبارَ، والقسم الرابع هو الشرط المتَّبَع الواجب الاعتبار، وبالله التوفيق.

وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشروط كلها بقوله: «من عملَ عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»

(1)

وما ردَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز لأحدٍ اعتباره ولا الإلزام به وتنفيذه، ومن تفطَّن لتفاصيل هذه الجملة التي هي من لوازم الإيمان تخلَّص بها من آصار وأغلال في الدنيا، وإثم وعقوبة ونقص ثوابٍ في الآخرة، وبالله التوفيق.

وتأمَّلْ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صيد البرّ لكم حلال وأنتم حُرُمٌ ما لم تصيدوه أو يُصَدْ لكم»

(2)

، كيف حرّم على المحرِم الأكلَ مما صاده الحلال إذا كان قد صاده لأجله؟ فانظر كيف أثَّر القصد في التحريم ولم يرفعه ظاهر الفعل.

ومن ذلك

(3)

الأثر المرفوع من حديث [33/ب] أبي هريرة: «من تزوَّج امرأة بصداق ينوي أن لا يؤدِّيه إليها فهو زانٍ، ومن ادَّان دينًا ينوي أن لا يقضِيَه فهو سارق»

(4)

، ذكره أبو حفص بإسناده. فجعل المشتري والناكح إذا قصدا

(1)

رواه البخاري معلقًا بهذا اللفظ (13/ 388 - مع الفتح) ووصله مسلم (1718/ 18) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه أبو داود (1851) والترمذي (846) والنسائي (2827)، وفي إسناده المطلب، قال الترمذي: لا نعرف له سماعًا من جابر. وانظر: «ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 160).

(3)

نقله المؤلف من «بيان الدليل» (ص 98، 99).

(4)

رواه البزار (8721) والدولابي في «الكنى والأسماء» (540)، وفي إسناده محمد بن أبان الكوفي، قال البزار فيه: لم يكن بالحافظ، وقد حدث عنه جماعة من الأجلة؛ منهم أبو الوليد وأبو داود وغيرهما. وبه أعلَّه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 131).

ص: 580

أن لا يؤدِّيا العوض بمنزلة من استحلَّ الفرج والمال بغير عوض، فيكون كالزاني والسارق في المعنى وإن خالفهما في الصورة. ويؤيِّد ذلك ما في «صحيح البخاري»

(1)

مرفوعًا: «من أخذَ أموال الناس يريد أداءها أدَّاها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافَها أتلفَه الله» .

فهذه النصوص وأضعافها تدلُّ على أن المقاصد تغيِّر أحكام التصرفات من العقود وغيرها، وأحكام الشريعة تقتضي ذلك أيضًا؛ فإن الرجل إذا اشترى أو استأجر أو اقترض أو نكح ونوى أن ذلك لموكِّله أو لمولِّيه كان له وإن لم يتكلَّم به في العقد، وإن لم ينْوِه له وقع الملك للعاقد. وكذلك لو تملَّك المباحات من الصيد والحشيش وغيرها ونواه لموكِّله وقع الملك له عند جمهور الفقهاء. نعم لا بدَّ في النكاح من تسمية الموكِّل؛ لأنه معقود عليه، فهو بمنزلة السِّلعة في البيع، فافتقر العقد إلى تعيينه لذلك، لأنه معقود عليه

(2)

. وإذا كان القول والفعل الواحد يوجب الملك لمالكينِ مختلفين عند تغيُّر النية ثبت أن للنية تأثيرًا في العقود والتصرفات.

ومن ذلك

(3)

أنه لو قضى عن غيره دينًا أو أنفق عليه نفقة واجبة ونحو ذلك ينوي التبرع والهبة لم يملك الرجوع بالبدل، وإن لم ينوِ فله الرجوع إن

(1)

رقم (2387) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

.

(2)

كذا في النسختين. وفي «بيان الدليل» : «لا لأجل أنه معقود له» .

(3)

النقل مستمر من «بيان الدليل» .

ص: 581

كان بإذنه اتفاقًا، وإن كان بغير إذنه ففيه النزاع المعروف؛ فصورة العقد واحدة، وإنما اختلف الحكم بالنية والقصد.

ومن ذلك

(1)

أن الله سبحانه حرَّم أن يدفع الرجل إلى غيره مالًا ربويًّا بمثله على وجه البيع إلا أن يتقابضا، وجوَّز دفعه بمثله على وجه القرض، وقد اشتركا في أن كلًّا منهما يدفع ربويًّا ويأخذ نظيره، وإنما فرَّق بينهما القصدُ؛ فإن مقصود القرض إرفاق المقترض ونفعه، وليس مقصوده المعاوضة والربح، ولهذا كان القرض شقيقَ العارية كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم «منيحةَ الورِق»

(2)

، فكأنه أعاره الدراهمَ ثم استرجعها منه، لكن لم يمكن استرجاع العين فاسترجع المثل. وكذلك لو باعه درهمًا بدرهمين كان ربًا صريحًا، ولو باعه إياه بدرهم ثم وهبه درهمًا آخر جاز، والصورة واحدة، وإنما فرَّق بينهما القصدُ، فكيف يمكن أحدًا أن يلغي القصودَ في العقود ولا يجعل لها اعتبارًا؟

فصل

فإن قيل: قد أطلتم الكلام في مسألة القصود في العقود، ونحن نحاكمكم إلى القرآن والسنة وأقوال الأئمة، قال الله تعالى حكاية عن نبيه نوح:{وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31]، فرتَّب الحكم على ظاهر إيمانهم، [34/أ]

(1)

كما في «بيان الدليل» (ص 99، 100).

(2)

رواه أحمد (18665) والترمذي (1957) من حديث البراء، وصححه الترمذي وابن حبان (5096).

ص: 582

وردَّ علمَ ما في أنفسهم إلى العليم بالسرائر سبحانه، المتفرد بعلم ذات الصدور وعلْمِ ما في النفوس من علم الغيب، وقد قال تعالى لرسوله:{لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إني لم أُومر أن أنقِّب عن قلوب الناس، ولا أشقّ بطونَهم»

(1)

، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابُهم على الله»

(2)

. فاكتفى منهم بالظاهر، ووكَلَ سرائرهم إلى الله، وكذلك فعل

(3)

بالذين تخلَّفوا عنه واعتذروا إليه، قَبِلَ منهم علانيتهم، ووكَلَ سرائرهم إلى الله عز وجل. وكذلك كانت سيرته في المنافقين: قبول ظاهر إسلامهم، ويكِلُ سرائرهم إلى الله عز وجل، وقال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، ولم يجعل لنا علمًا بالنيات والمقاصد تتعلق الأحكام الدنيوية بها، فقولنا لا علم لنا به.

قال الشافعي

(4)

: فرض الله سبحانه على خلقه طاعة نبيه، ولم يجعل لهم من الأمر شيئًا، وأولَى أن لا يتعاطَوا حكمًا على غيب أحدٍ بدلالة ولا ظن؛ لقصور علمهم عن علم أنبيائه الذين فرض عليهم الوقوف عما ورد

(1)

جزء من حديث رواه البخاري (4351) ومسلم (1064/ 144) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

.

(2)

رواه البخاري (1399) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه مسلم (21/ 35) من حديث جابر رضي الله عنه.

(3)

«فعل» ليست في ز.

(4)

في «إبطال الاستحسان» ضمن كتاب «الأم» (9/ 59 وما بعدها).

ص: 583

عليهم حتى يأتيهم أمره؛ فإنه عز وجل ظاهَرَ عليهم الحجج، فما جعل إليهم الحكم في الدنيا إلا بما ظهر من المحكوم عليه، ففَرضَ على نبيه أن يقاتل أهل الأوثان حتى يسلموا، فتُحْقَن دماؤهم إذا أظهروا الإسلام، وأَعلَمَ أنه لا يعلم صدقَهم بالإسلام إلا الله؛ ثم أطْلعَ الله رسولَه على قوم يظهرون الإسلام ويُسِرُّون غيره، ولم يجعل له أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام، ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا؛ فقال لنبيه:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]، يعني أسلمنا بالقول مخافةَ القتل والسبي. ثم أخبر أنه يجزيهم إن أطاعوا الله ورسوله، يعني إن أحدثوا طاعة رسوله. وقال في المنافقين وهم صنفٌ ثانٍ:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 1 - 2] يعني جُنةً من القتل، وقال:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة: 95]، فأمر بقبول ما أظهروا، ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإيمان. وقد أَعلَم الله نبيه أنهم في الدرك الأسفل من النار؛ فجعل سبحانه حكْمَه عليهم على سرائرهم، وحكْمَ نبيه عليهم في الدنيا على علانيتهم: بإظهار التوبة، وما قامت عليه بينة من المسلمين بقوله، وبما أقروا بقوله، وما جحدوا من قول الكفر ما لم يقروا به ولم يقم به بينة عليهم

(1)

، وقد كذَّبهم في قولهم في كلّ ذلك، وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله.

أخبرنا مالك

(2)

عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد عن عبيد الله بن

(1)

ز: «من عليهم» .

(2)

في «الموطأ» (1/ 171)، ومن طريقه الشافعي في «الأم» (9/ 61). وعبيد الله بن عدي مختلف في صحبته، والحديث جاء موصولًا عند عبد الرزاق (18688) وأحمد (23670)، وصححه ابن حبان (5971) والألباني في «الثمر المستطاب» (1/ 54).

ص: 584

عدي بن الخِيَار

(1)

: أن رجلًا سارَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ندْرِ ما سارَّه حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يشاوره في قتل رجل من المنافقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: بلى، ولا شهادَة له، فقال:«أليس يصلّي؟» قال: بلى، ولا صلاةَ له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أولئك الذين نهاني الله عنهم» .

[34/ب] ثم ذكر

(2)

حديث: «أُمرت أن أقاتلَ الناس» ، ثم قال: فحسابهم بصدقهم وكذبهم، وسرائرهم على الله العالم بسرائرهم، المتولّي الحكمَ عليهم دون أنبيائه وحكام خلقه. وبذلك مضت أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق، أَعلَمهم أن جميع أحكامه على ما يُظهِرون، والله يُدِين بالسرائر.

ثم ذكر حديث عُويمر العجلاني في لِعانه امرأتَه

(3)

، ثم قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: «لولا ما قضى الله لكان لي فيها قضاءٌ غيره»

(4)

، يعني لولا ما

(1)

في النسختين: «عن عبيد الله بن يزيد عن عدي بن الخيار» ، خطأ. والتصويب من مصادر التخريج.

(2)

أي الشافعي في «الأم» (9/ 62).

(3)

قصة عويمر رواها البخاري (7304) ومسلم (1492) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما.

(4)

رواه البخاري (4747) من حديث ابن عباس بنحوه، ومسلم (1496) من حديث أنس دون قوله: «لولا ما قضى الله

».

ص: 585

قضى الله من أن لا يُحكَم على أحد إلا باعترافٍ على نفسه أو بينة، ولم يعرض لشريك ولا للمرأة، وأنفذ الحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب، ثم علم بعدُ أن الزوج هو الصادق.

ثم ذكر حديث رُكانة أنه طلَّق امرأته البتة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استحلفه ما أردتَ إلا واحدة، فحلف له فردَّها إليه

(1)

، قال: وفي ذلك وغيره دليلٌ على أنّ حرامًا على الحاكم أن يقضي أبدًا على أحد من عباد الله إلا بأحسنِ ما يظهر، وإن احتمل ما يظهر غيرَ أحسنِه كانت عليه دلالة على ما يخالف أحسنه.

وقوله

(2)

: بلى لما حكم الله في الأعراب الذين قالوا آمنّا، وعلم الله أن الإيمان لم يدخل قلوبَهم بما أظهروا من الإسلام، ولما حكم في المنافقين الذين علم أنهم آمنوا ثم كفروا، وأنهم كاذبون بما أظهروا من الإيمان بحكم الإسلام، وقال في المتلاعنين:«أبصِروها، فإن جاءت به كذا وكذا فلا أُراه إلا قد صدقَ عليها» ، فجاءت به كذلك

(3)

، ولم يجعل له إليها سبيلًا؛ إذ لم يُقرَّا

(4)

ولم تقم عليهما بينة. وأبطل في حكم الدنيا عنهما استعمالَ الدلالة، التي لا توجد في الدنيا دلالة بعد دلالة الله على المنافقين والأعراب أقوى

(1)

«إليه» ساقطة من د. والحديث رواه أبو داود (2206)، وأبو داود الطيالسي (1284) والدارقطني (3978)، ورجاله كلهم ثقات إلا نافع بن عجير لم يوثقه إلا ابن حبان، وأورده ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. انظر:«الإرواء» (7/ 142).

(2)

أي قول الشافعي في «الأم» (9/ 64). والكلام متصل بما قبله.

(3)

تقدم تخريجه في قصة عويمر وشريك.

(4)

في النسختين: «إذا لم يقر» . والمثبت من «الأم» ، وهو الموافق لما بعده.

ص: 586

مما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مولود امرأة

(1)

العجلاني على أن يكون، ثم كان كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

والأغلب

(2)

على من سمع الفزاري يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي ولدت غلامًا أسودَ

(3)

وعرَّض بالقذف= أنه يريد القذف، ثم لم يحدَّه النبي صلى الله عليه وسلم إذ

(4)

لم يكن التعريض ظاهر قذف، فلم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بحكم القذف. والأغلب على من سمع قول ركانة لامرأته:«أنتِ طالق البتةَ» أنه قد أوقع الطلاق بقوله أنت طالق، وأن البتةَ إرادة شيء غير الأول أنه أراد الإبْتَات

(5)

بثلاثٍ، ولكنه لما كان ظاهرًا في قوله واحتمل غيره لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بظاهر الطلاق واحدةً.

فمن

(6)

حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالًا على [أن]

(7)

ما أظهروا خلاف ما أبطنوا بدلالة منهم أو غير دلالة= لم يسلَمْ عندي من خلاف التنزيل والسنة، وذلك أن يقول قائل: من رجع عن الإسلام ممن وُلِد عليه قتلتُه ولم أستتبه، ومن رجع عنه ممن لم يولد عليه استتبتُه، ولم يحكم الله على عباده إلا حكمًا واحدًا، مثل أن يقول: من رجع عن الإسلام ممن

(1)

في النسختين والمطبوع: «في قوله وامرأة» ، تحريف. والتصحيح من كتاب «الأم» .

(2)

الكلام مستمر للشافعي.

(3)

رواه البخاري (6847) ومسلم (1500) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

ز: «إذا» .

(5)

ز: «الاثبات» ، تصحيف.

(6)

الكلام للشافعي، متصل بما قبله.

(7)

زيادة من «الأم» .

ص: 587

أظهر نصرانية أو يهودية أو دينًا يُظهِر كالمجوسية استتبتُه، فإن أظهر التوبة [35/أ] قبلتُ

(1)

منه، ومن رجع إلى دينٍ خفيةً

(2)

لم أستتبه، وكلٌّ قد بدَّل دين الحق ورجع إلى الكفر، فكيف يُستتاب بعضهم ولا يستتاب بعض؟

فإن قال

(3)

: لا أعرف توبة الذي يُسِرُّ دينه، قيل: ولا يعرفها إلا الله، وهذا ــ مع خلافه حكم الله ثم رسوله ــ كلام محال. يُسأل من قال هذا: هل تدري لعل الذي كان أخفى الشرك يصدق بالتوبة، والذي كان أظهر الشرك يكذب بالتوبة

(4)

؟ فإن قال: نعم، قيل: فتدري لعلك قتلتَ المؤمن الصادق الإيمان واستحييت الكاذب بإظهار الإيمان؟ فإن قال: ليس عليَّ إلا الظاهر، قيل: فالظاهر فيهما واحد وقد جعلته اثنين بعلة محالة. والمنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُظهروا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية، بل كانوا يستسرُّون بدينهم، فيقبل منهم ما يظهرون من الإيمان، فلو كان قائل هذا القول حين خالف السنة أحسن أن يقول شيئًا له وجه، ولكنه يخالفها ويعتلُّ بما لا وجه له، كأنه يرى أن اليهودية والنصرانية لا تكون إلا بإتيان الكنائس، أرأيت إذا كانوا ببلادٍ لا كنائسَ فيها أمَا يصلُّون في بيوتهم فتخفى صلاتهم على غيرهم؟

قال: وما وصفتُ

(5)

من حكم الله ثم حكم رسوله في المتلاعنين يُبطِل

(1)

د: «قبل» . والمثبت موافق لما في «الأم» .

(2)

في «الأم» : «يخفيه» .

(3)

الكلام متصل بما قبله في «الأم» .

(4)

د، ز:«التوبة» . والمثبت موافق لما في «الأم» .

(5)

ز: «وصف» .

ص: 588

حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، وإذا بطل الأقوى من الدلائل بطل الأضعفُ من الذرائع كلِّها، وبطل الحد في التعريض بالقذف، فإن من الناس من يقول: إذا تشاتم الرجلان فقال أحدهما: «ما أنا بزانٍ ولا أمي زانية» حُدَّ؛ لأنه إذا قاله على المشاتمة فالأغلب أنه إنما يريد به قذفَ أمِّ الذي يشاتم وأبيه

(1)

. وإن قاله على غير المشاتمة لم أحدَّه إذا قال: «لم أُرِد القذف» ، مع إبطال رسول الله

(2)

صلى الله عليه وسلم حكمَ التعريض في حديث الفزاري الذي ولدت امرأته غلامًا أسود.

فإن قال قائل: فإن عمر حدَّ في التعريض في مثل هذا

(3)

.

قيل: استشار أصحابه، فخالفه بعضهم

(4)

، ومع من خالفه ما وصفنا من الدلالة. ويبطُل مثله [من]

(5)

قول الرجل لامرأته: «أنت طالق البتة» ، لأن الطلاق إيقاع طلاق ظاهر، والبتةُ تحتمل زيادة في عدد الطلاق وغير زيادة، والقول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر، حتى لا يُحكم عليه أبدًا إلا بظاهر، ويجعل القول قوله في غير الظاهر.

(1)

في النسختين: «قذف أم الذي يشاتمه وأمه» . وشطب على «أم» في د. والتصويب من «الأم» .

(2)

د: «النبي» .

(3)

رواه عبد الرزاق (13703).

(4)

يشير إلى ما رواه مالك (2/ 829) وابن أبي شيبة (28965) واللفظ له عن عمرة بنت عبد الرحمن، قالت: استبّ رجلان، فقال أحدهما: ما أمي بزانية، وما أبي بزان، فشاور عمر القوم، فقالوا: مدح أباه وأمه، فقال: لقد كان لهما من المدح غير هذا فضربه. فيه انقطاع؛ لأن عمرة لم تدرك عمر رضي الله عنه.

(5)

من «الأم» .

ص: 589

فهذا يدلُّ على أنه لا يفسُد عقدٌ إلا بالعقد نفسه، ولا يفسُد بشيء تقدَّمه ولا تأخَّره، ولا بتوهُّم، ولا بالأغلب، وكذلك كل شيء لا يفسد إلا بعقده.

ولا تفسد البيوع بأن يقول: هذه ذريعة، وهذه نية سوء، ولو كان

(1)

أن تبطل البيوع بأن تكون ذريعة إلى الربا كان اليقين في البيوع بعقد ما لا يحل أولى أن يردّ به من الظن، ألا ترى أن رجلًا لو اشترى سيفًا ونوى بشرائه أن يقتل به مسلمًا كان الشراء حلالًا، وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع، وكذلك لو باع سيفًا من رجل يرى أنه يقتل به رجلًا كان هذا هكذا.

ولو أن رجلًا شريفًا نكح دنيَّة أعجميةً أو شريفةً لو

(2)

نكحتْ دنيًّا أعجميًّا، فتصادقا في الوجهين على أن لم ينوِ واحد منهما [35/ب] أن يثبتا على النكاح أكثر من ليلة= لم يحرم النكاح بهذه النية؛ لأن ظاهر عقده كان صحيحًا، إن شاء الزوج حبَسَها وإن شاء طلَّقها.

فإذا دلّ الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما تثبت بظاهر عقدها لا تُفسِدها نية العاقدين، كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة، ولا تفسد بتوهُّم غير عاقدها على عاقدها، سيَّما إذا كان توهمًا ضعيفًا. انتهى كلام الشافعي.

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الهازل بالنكاح والطلاق والرجعة كالجادّ بها

(3)

،

(1)

في «الأم» : «جاز» .

(2)

في النسختين: «أو» . والمثبت من «الأم» .

(3)

رواه أبو داود (2194) والترمذي (1184) وابن ماجه (2039) والحاكم (2/ 197)، وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك متكلم فيه، وللحديث شواهد يتقوى بها. انظر:«الإرواء» (6/ 224).

ص: 590

مع أنه لم يقصد حقائق هذه العقود. وأبلغُ من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أقضي بنحوٍ مما أسمع، فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعة من النار»

(1)

، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بالظاهر وإن كان في نفس الأمر لا يحل للمحكوم له ما

(2)

حكم له به، وفي هذا كله دلالة على إلغاء المقاصد والنيات في العقود، وإبطال سدّ الذرائع، واتباع ظواهر عقود الناس وألفاظهم، وبالله التوفيق.

فانظر ملتقى البحرين، ومعترك الفريقين، فقد أبرز كلٌّ منهما حجته، وخاض بحرَ العلم فبلغ منه لُجَّته، وأدلى

(3)

من الحجج والبراهين بما لا يُدفَع، وقال ما هو حقيق بأن يقول له

(4)

أهل العلم: قُلْ يُسمَع، وحجج الله لا تتعارض

(5)

، وأدلة الشرع لا تتناقض، والحق يصدِّق بعضُه بعضًا، ولا يقبل معارضة ولا نقضًا. وحرامٌ على المقلِّد المتعصب أن يكون من هذا الطراز الأول، أو يكون على قوله وبحثه إذا حقَّت الحقائق المعوَّلُ، فليجرِّب المدَّعي ما ليس له، والدعيُّ

(6)

في قوم ليس منهم نفسه وعلمه وما حصَّله،

(1)

رواه البخاري (2458) ومسلم (1713) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

(2)

ز: «فيما» .

(3)

في النسختين: «وأدل» .

(4)

«له» ليست في د.

(5)

ز: «تعارض» .

(6)

في المطبوع: «والمدعي» .

ص: 591

في الحكم بين الفريقين، والقضاء الفَصْل بين المتغالبين، ولْيُبطِل الحجج والأدلّة من أحد الجانبين، ليسلَم له قول إحدى الطائفتين، وإلا فيلزم حدَّه، ولا يتعدَّى طورَه، ولا يمدُّ إلى العلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باعًا يقصُر عن الوصول إليه، ولا يتَّجر بنقدٍ زائف لا يَرُوج عليه. ولا يتمكَّن من الفصل بين المقالتين إلا من تجرَّد لله مسافرًا بعزْمةٍ وهمَّةٍ إلى مطلع الوحي، مُنزِلًا نفسه منزلةَ من يتلقاه غضًّا طريًّا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَعرِض عليه آراء الرجال ولا يَعرِضه عليها، ويحاكمها إليه ولا يحاكمه إليها.

فنقول ــ وبالله التوفيق ــ: إن الله تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفًا ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئًا عرَّفه بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتَّب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ، ولم يرتِّب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يُرِدْ معانيها ولم يُحِطْ بها علمًا، بل تجاوزَ للأمة عما حدَّثتْ به أنفسَها ما لم تكلَّم به أو تعمل به

(1)

، وتجاوزَ لها عما تكلَّمتْ به مخطئةً أو ناسيةً أو مُكرَهةً

(2)

أو غير عالمة به، إذا لم تكن مريدةً لمعنى ما تكلَّمتْ به وقاصدةً إليه، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتَّب الحكم.

هذه قاعدة الشريعة، وهي من [36/أ] مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته، فإن خواطر القلوب وإرادات النفوس لا تدخل تحت الاختيار، فلو

(1)

رواه البخاري (6664) ومسلم (127) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

.

(2)

سيأتي تخريجه قريبًا.

ص: 592

ترتَّبت عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرجٍ ومشقّةٍ على الأمة، ورحمة الله سبحانه وحكمته تأبى ذلك. والغلط والسهو والنسيان وسبْقُ اللسان بما لا يريده العبد بل يريد خلافه والتكلُّم به مُكرَهًا وغيرَ عارفٍ لمقتضاه من لوازم البشرية، لا يكاد ينفكُّ الإنسان من شيء منه؛ فلو رُتِّب عليه الحكم لحَرِجت الأمة وأصابها غايةُ العَنَت والمشقة؛ فرفع عنها المؤاخذة بذلك كلّه، حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسُّكْر كما تقدمت شواهده، وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى وسبق اللسان بما لم يُرِده والتكلُّم في الإغلاق ولغو اليمين؛ فهذه عشرة أشياء لا يؤاخذ الله عبده بالتكلم في حال منها؛ لعدم قصده وعَقْدِ قلبه الذي يؤاخذ به.

أما الخطأ من شدة الفرح فكما في الحديث الصحيح حديث فرح الربّ بتوبة عبده، وقول الرجل:«اللهم أنت عبدي وأنا ربك» ، أخطأ من شدة الفرح

(1)

.

وأما الخطأ من شدة الغضب فكما في قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، قال السلف: هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله حالَ الغضب، لو أجابه الله لأهلكَ الداعي ومن دعا عليه، فقضي إليه أجله، وقد قال جماعة من الأئمة: الإغلاق الذي منع النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الطلاق والعتاق فيه هو الغضب

(2)

. وهذا كما قالوه؛ فإن للغضب سُكرًا كسكرِ الخمر أو أشدّ.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم توثيق تفسير الآية وتفسير الإغلاق.

ص: 593

وأما السكران فقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فلم يرتِّب على كلام السكران حكمه حتى يكون عالمًا بما يقول؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يَسْتَنكه المقرَّ بالزنا ليعلم هل هو عالم بما يقول أم غير عالم بما يقول، ولم يؤاخذ حمزة بقوله في حال السكر:«هل أنتم إلّا عبيد لأبي» ، ولم يكفّر من قرأ في حال سكره في الصلاة:«لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون»

(1)

.

وأما الخطأ والنسيان فقد قال تعالى حكاية عن المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقال الله عز وجل:«قد فعلتُ»

(2)

. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه»

(3)

.

وأما المُكْرَه فقد قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، والإكراه داخل في حكم الإغلاق.

وأما اللغو فقد رفع الله سبحانه المؤاخذة به حتى يحصل عقد القلب.

(1)

تقدم تخريج حديث حمزة والحديث الذي بعده.

(2)

رواه مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

رواه ابن ماجه (2045) والطبراني في «المعجم الصغير» (765) والدارقطني (4351) من حديث ابن عباس، وصححه ابن حبان (7219) والحاكم (2/ 198).

ص: 594

وأما سبق اللسان بما لم يُرِدْه المتكلم فهو دائر بين الخطأ في اللفظ والخطأ في القصد؛ فهو أولى أن لا يؤاخَذَ به من لغو اليمين، وقد نصّ الأئمة على مسائل من ذلك تقدَّم ذكر بعضها.

وأما الإغلاق فقد نصّ عليه صاحب [36/ب] الشرع، والواجب حمل كلامه فيه على عمومه اللفظي والمعنوي؛ فكل من أُغلِق عليه باب قصده وعلمه كالمجنون والسكران والمكره والغضبان فقد تكلم في الإغلاق، ومن فسَّره بالجنون أو بالسُّكر أو بالغضب أو بالإكراه فإنما قصد التمثيل لا التخصيص، ولو قدِّر أن اللفظ يختص بنوع من هذه الأنواع لوجب تعميم الحكم بعموم العلة؛ فإن الحكم إذا ثبت لعلةٍ تعدَّى بتعدِّيها وانتفى بانتفائها.

فصل

فإذا تمهَّدت هذه القاعدة فنقول: الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين ونيّاتهم وإراداتهم لمعانيها ثلاثة أقسام:

أحدها: أن تظهر مطابقة القصد للّفظ، وللظهور مراتب تنتهي إلى اليقين والقطع بمراد المتكلم، بحسب الكلام في نفسه وما يقترن به من القرائن الحالية واللفظية وحال المتكلم به وغير ذلك، كما إذا سمع العاقل العارف باللغة قوله صلى الله عليه وسلم:«إنكم ستَرَون ربكم عِيانًا، كما ترون القمر ليلةَ البدر ليس دونه سحابٌ، وكما ترون الشمس في الظهيرة صَحْوًا ليس دونها سحاب، لا تُضارُّون في رؤيته إلا كما تُضَارُّون في رؤيتها»

(1)

، فإنه لا يستريب ولا يشك

(1)

رواه البخاري (4581) ومسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه البخاري مختصرًا (7435) ومسلم (633) من حديث جرير. وفي الباب عن غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

ص: 595

في مراد المتكلم وأنه رؤية البصر حقيقةً، وليس في الممكن عبارة أوضح ولا أنصُّ من هذه. ولو اقتُرِح على أبلغ الناس أن يعبِّروا عن هذا المعنى بعبارة لا تحتمل غيره لم يقدر على عبارةٍ أوضحَ ولا أنصَّ من هذه، وعامة كلام الله ورسوله من هذا القبيل؛ فإنه مستولٍ على الأمد الأقصى من البيان.

فصل

القسم الثاني: ما يظهر بأن المتكلم لم يُرِدْ معناه، وقد ينتهي هذا الظهور إلى حدّ اليقين بحيث لا يشكُّ فيه السامع، وهذا القسم نوعان؛ أحدهما: أن لا يكون مريدًا لمقتضاه ولا لغيره، والثاني: أن يكون مريدًا لمعنى يخالفه؛ فالأول كالمكره والنائم والمجنون ومن اشتدَّ به الغضب والسكران، والثاني: كالمعرِّض والمورِّي والمُلغِز والمتأوِّل.

فصل

القسم الثالث: هو ظاهر في

(1)

معناه ويحتمل عدم إرادة المتكلم له ويحتمل إرادته لغيره، ولا دلالة على واحد من الأمرين، واللفظ دال على المعنى الموضوع له، وقد أتى به اختيارًا.

فهذه أقسام الألفاظ بالنسبة إلى إرادة معانيها ومقاصدِ المتكلم بها، وعند هذا يقال: إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قصدٌ يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره، والأدلة التي ذكرها الشافعي وأضعافها كلها إنما تدلُّ على ذلك، وهذا حق لا ينازعِ فيه عالم، والنزاع إنما هو في غيره.

(1)

«في» ليست في ز.

ص: 596

إذا عُرِف هذا فالواجب حمل كلام الله ورسوله وحمل كلام المكلَّف على ظاهره الذي هو ظاهره، وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب، ولا يتمُّ التفهيم والفهم إلا بذلك. ومدَّعي غيرِ ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذبٌ عليه. قال الشافعي

(1)

: وحديث رسول الله [37/أ]صلى الله عليه وسلم على ظاهره بتٌّ.

ومن ادعى أنه لا طريق لنا إلى اليقين بمراد المتكلم لأن العلم بمراده موقوف على العلم بانتفاء عشرة أشياء

(2)

= فهو ملبوس عليه ملبِّس على الناس؛ فإن هذا لو صح لم يحصل لأحدٍ العلمُ بكلام متكلم قطُّ، وبطلت فائدة التخاطب، وانتفت خاصية الإنسانية، وصار الناس كالبهائم، بل أسوأ حالًا، ولما عُلِم غرض هذا المصنّف من تصنيفه، وهذا باطل بضرورة الحس والعقل، وبطلانه من

(3)

أكثر من ثلاثين وجهًا مذكورة في غير هذا الموضع

(4)

.

ولكن حمل كلام المتكلمين على ظاهره لا ينبغي صرفه عن ذلك لدلالة تدل عليه، كالتعريض ولحن الخطاب والتورية وغير ذلك، وهذا أيضًا مما لا ينازع فيه العقلاء. وإنما النزاع في الحمل على الظاهر حكمًا بعد ظهور مراد المتكلم والفاعل بخلاف ما أظهره؛ فهذا هو الذي وقع فيه النزاع، وهو: هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود وإن ظهرت المقاصد

(1)

لم أجد كلامه في مظانه.

(2)

هذا قول الرازي في «المحصّل» (ص 31).

(3)

«من» ليست في د.

(4)

ذكرها المؤلف في «الصواعق المرسلة» (2/ 633 وما بعدها).

ص: 597

والنيات

(1)

بخلافها أم للقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها؟ وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثّر في صحة العقد وفساده وفي حلّه وحرمته، بل أبلغ من ذلك، وهي أنها تؤثّر في الفعل الذي ليس بعقدٍ تحليلًا وتحريمًا، فيصير حلالًا تارة وحرامًا تارة باختلاف النية والقصد، كما يصير صحيحًا تارة وفاسدًا تارة باختلافها.

وهذا كالذبح، فإن الحيوان يحلُّ إذا ذُبح لأجل الأكل ويحرم إذا ذُبح لغير الله. وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرِم فيحرم عليه ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم. وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوي أن تكون لموكِّله فتحرم على المشتري وينوي أنها له فتحلُّ له، وصورة الفعل والعقد واحدة، وإنما اختلفت النية والقصد. وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجلٍ صورتُهما واحدة، وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة بالقصد. وكذلك عَصْر العنب بنية أن يكون خمرًا معصيةٌ ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

، وعَصْره

(3)

بنية أن يكون خلًّا أو دِبْسًا جائز، وصورة الفعل واحدة. وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلمًا حرام باطل لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله فهو طاعة وقربة. وكذلك عقد النذر المعلَّق على شرط ينوي به التقرُّب والطاعة فيلزمه الوفاء بما نَذَرَه، وينوي به الحلف

(1)

د: «النيات والمقاصد» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

في النسختين: «وعصيره» .

ص: 598

والامتناع فيكون يمينًا مكفّرة. وكذلك تعليق الكفر بالشرط ينوي به اليمين والامتناع فلا يكفر بذلك، وينوي به وقوع الشرط فيكفر، وصورة اللفظ واحدة. وكذلك ألفاظ الطلاق صريحها وكنايتها ينوي بها الطلاق فيكون ما نواه وينوي بها غيره فلا تطلَّق. وكذلك قوله:«أنت عندي مثل [37/ب] أمي» ينوي به الظهار فتحرم عليه، وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه. وكذلك من أدَّى عن غيره واجبًا ينوي الرجوع ملكه وإن نوى

(1)

التبرع لم يرجع.

وهذه كما أنها أحكام الرب تبارك وتعالى في العقود فهي أحكامه تعالى في العبادات والمثوبات والعقوبات؛ فقد اطَّردت سنته بذلك في شرعه وقدره، أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يُحتاج إلى ذكره؛ فإن القربات كلها مبناها على النيات، ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقصد. ولهذا لو وقع في الماء ولم ينوِ الغسل أو دخل الحمام للتنظيف أو سَبَحَ للتبرُّد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق، فإنه لم ينوِ العبادة فلم تحصل له، وإنما لامرئ ما نوى. ولو أمسك عن المفطرات عادةً أو اشتغالًا ولم ينوِ القربة لم يكن صائمًا. ولو دار حول البيت يلتمس شيئًا سقط منه لم يكن طائفًا. ولو أعطى الفقير هبةً أو هديةً ولم ينوِ الزكاة لم تُحتَسب زكاة. ولو جلس في المسجد ولم ينوِ الاعتكاف لم يحصل له.

وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب؛ ولهذا لو جامعَ أجنبيةً يظنُّها زوجته لم يأثم بذلك وقد يُثاب بنيته، ولو جامع في ظلمة

(2)

من يظنُّها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثِمَ على ذلك بقصده ونيته

(1)

د: «نوع» خطأ.

(2)

«في ظلمة» ليست في ز.

ص: 599