الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هذا تركه أخذَ الزكاة من الخضراوات والمباطخ
(1)
وهم يزرعونها بجواره بالمدينة كل سنة؛ فلا يطالبهم بزكاة، ولا هم يؤدُّونها إليه.
فصل
وأما
نقل الأعيان وتعيين الأماكن
فكنقلهم المدَّ والصاع
(2)
، وتعيين موضع المنبر وموقفه للصلاة والقبر والحجرة ومسجد قباء، وتعيين الروضة والبقيع والمصلى ونحو ذلك، ونقلُ
(3)
هذا جارٍ مجرى نقلِ مواضع المناسك، كالصفا والمروة ومنى ومواضع الجمرات ومزدلفة وعرفة، ومواضع الإحرام كذي الحليفة والجحفة وغيرهما.
فصل
وأما
نقل العمل المستمر
فكنقل الوقوف والمزارعة، والأذان على المكان المرتفع، والأذان للصبح قبل الفجر، وتثنية الأذان وإفراد الإقامة، والخطبة بالقرآن وبالسنن
(4)
دون الخطبة الصناعية بالتسجيع والترجيع التي لا تُسمن ولا تُغني من [113/ب] جوع؛ فهذا النقل وهذا العمل حجة يجب اتباعها، وسنة متلقاة بالقبول على الرأس والعينين، وإذا ظفر العالم بذلك
(5)
قرَّت به عينُه، واطمأنَّتْ إليه نفسه.
(1)
جمع مَبطَخة، وهي الأماكن التي ينبت فيها البطِّيخ بكثرة.
(2)
ت: «الصاع والمد» .
(3)
د، ت:«وفعل» .
(4)
ت: «والسنن» .
(5)
د: «ظفر بذلك العالم» .
فصل
وأما العمل الذي طريقه الاجتهاد والاستدلال
(1)
فهو معترك النِّزال ومحلُّ الجدال.
قال القاضي عبد الوهاب
(2)
: وقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ليس بحجة أصلًا، وأن الحجة هي إجماع أهل المدينة من طريق النقل، ولا يرجَّح به أيضًا أحد الاجتهادين على الآخر، وهذا قول ابن بُكَير
(3)
وأبي يعقوب الرازي والقاضي أبي بكر
(4)
بن مُنْتاب والطيالسي والقاضي أبي الفرج
(5)
والشيخ أبي بكر الأبهري، وأنكروا أن يكون هذا مذهبًا لمالك أو لأحدٍ من معتمدي أصحابه.
والوجه الثاني: أنه وإن لم يكن حجة فإنه يرجَّح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم، وبه قال بعض الشافعية
(6)
.
(1)
هذا النوع الثاني من عمل أهل المدينة الذي سبق ذكره (ص 356)، وهنا تفصيل القول فيه.
(2)
نقل الزركشي في «البحر المحيط» (4/ 485) كلامه باختصار.
(3)
د، ت:«أبي بكير» . وفي المطبوع: «أبي بكر» . والتصويب من «ترتيب المدارك» (1/ 50). وهو القاضي الفقيه محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي، توفي سنة 305. ترجمته في «ترتيب المدارك» (5/ 16).
(4)
كذا في النسخ والمطبوع. والصواب: «أبو الحسن» . وهو عبيد الله بن المنتاب بن الفضل البغدادي، قاضي المدينة، من تلاميذ إسماعيل بن إسحاق القاضي. ترجمته في «ترتيب المدارك» (5/ 201).
(5)
ت: «أبو الفرج» .
(6)
ت: «أصحاب الشافعي» .
والثالث: أن إجماعهم من طريق الاجتهاد حجة وإن لم يحرم خلافه، كإجماعهم من طريق النقل، وهذا مذهب قوم من أصحابنا، وهو الذي عليه كلام أحمد بن المعذَّل
(1)
وابن بُكَير وغيرهما، وذكر الشيخ أن في «رسالة مالك إلى الليث بن سعد» ما يدلُّ عليه، وقد ذكر أبو مصعب في «مختصره» مثل ذلك، والذي صرَّح به القاضي أبو الحسين
(2)
بن أبي عمر في «مسألته التي صنّفها على أبي بكر الصَّيرفي» نقضًا لكلامه على أصحابنا في إجماع أهل المدينة، وإلى هذا يذهب جُلُّ أصحابنا المغاربة أو جميعهم.
فأما
(3)
حال الأخبار من طريق الآحاد فلا تخلو من ثلاثة أمور: إما أن يكون صحبها
(4)
عمل أهل المدينة مطابقًا لها، أو أن يكون عملهم بخلافها، أو أن لا يكون منهم عملٌ أصلًا لا بخلافٍ ولا بوفاقٍ.
فإن كان عملهم موافقًا لها كان ذلك آكدَ في تصحيحها
(5)
ووجوبِ العمل بها، إذا كان العمل من طريق النقل، وإن كان من طريق الاجتهاد كان مرجِّحًا [114/أ] للخبر على ما ذكرنا من الخلاف.
(1)
د: «المعدل» . ت: «العدل» . والصواب بالذال المعجمة، انظر ترجمته في «ترتيب المدارك» (4/ 5 - 14).
(2)
كذا في النسخ وترتيب المدارك (1/ 50). وجعله في ط: «أبو الحسن» . وترجمه بعلي بن ميسرة القاضي، وليس في مصادر ترجمته أن أباه يكنى بأبي عمر، وأن له كتابًا في الردّ على أبي بكر الصيرفي.
(3)
ت: «وأما» .
(4)
ت: «صحتها» .
(5)
ط: «صحتها» .
وإن كان عملهم بخلافه نُظِر: فإن كان العمل المذكور على الصفة التي ذكرناها فإن الخبر يُترك للعمل
(1)
عندنا، لا خلاف بين أصحابنا في ذلك، وهذا أكبر الغرض بالكلام في هذه المسألة، وهذا كما نقوله في الصاع والمد وزكاة الخُضر وغير ذلك. وإن كان العمل منهم اجتهادًا فالخبر أولى منه عند جمهور أصحابنا، إلا من قال منهم: إن الإجماع من طريق الاجتهاد حجة.
وإن لم يكن بالمدينة عملٌ يوافق موجبَ
(2)
الخبر أو يخالفه فالواجب المصير إلى الخبر؛ فإنه دليل منفرد عن مُسقِط أو مُعارِض.
هذا جملة قول أصحابنا في هذه المسألة
(3)
.
وقد تضمَّن ما حكاه أن عملهم الجاري مجرى النقل حجة، فإذا أجمعوا عليه فهو مقدَّم على غيره من أخبار الآحاد، وعلى هذا الحرف بنى المسألة وقرّرها، وقال
(4)
: والذي يدلُّ على ما قلناه أنهم إذا أجمعوا على شيء نقلًا أو عملًا متصلًا فإن ذلك الأمر معلوم بالنقل المتواتر
(5)
الذي يحصل به العلم، وينقطع العذر فيه، ويجب ترك أخبار الآحاد له
(6)
؛ لأن المدينة بلدة جمعتْ من الصحابة من يقع العلم بخبرهم فيما أجمعوا على
(1)
ت: «العمل» .
(2)
ت: «يوافق عمل موجب» .
(3)
هنا انتهى كلام القاضي عبد الوهاب.
(4)
أي القاضي عبد الوهاب.
(5)
ت: «معلوم بالمتواتر» .
(6)
«له» ساقطة من ت.
نقله، فما هذا سبيله إذا ورد خبرُ واحدٍ بخلافه كان حجة على ذلك الخبر وتُرِك له، كما لو رُوِي لنا خبرُ واحدٍ فيما تواتر به نقل جميع الأمة لوجب ترك الخبر للنقل المتواتر من جميعهم.
فيقال
(1)
: من المحال عادةً أن يُجمِعوا على شيء نقلًا أو عملًا متصلًا من عندهم إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتكون السنة الصحيحة الثابتة قد خالفته، هذا من أبينِ الباطل؛ وإن وقع ذلك فيما أجمعوا عليه من طريق
(2)
الاجتهاد فإن العصمة لم تُضْمَن لاجتهادهم، فلم يُجمِعوا من طريق النقل ولا العمل المستمرِّ على هذه الشريطة على بطلان خيار المجلس، ولا على التسليمة الواحدة، ولا على القنوت في الفجر قبل الركوع، ولا على ترك الرفع عند الركوع [114/ب] والرفع منه، ولا على ترك السجود في المفصَّل، ولا على ترك الاستفتاح والاستعاذة قبل الفاتحة، ونظائر ذلك، كيف وقدماؤهم الذين نقلوا العلم الصحيح الثابت الذي كأنه رأيُ عينٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخلاف ذلك؟ فكيف يقال: إنّ تركه عملٌ مستمرٌّ من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الآن؟ هذا من المحال. بلى نقلهم للصاع والمدّ والوقوف والأحباس
(3)
وترك زكاة الخَضراوات حق، ولم يأتِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تخالفه البتةَ، ولهذا رجع أبو يوسف إلى ذلك
(1)
هذا تعقيب من المؤلف على كلام القاضي عبد الوهاب.
(2)
«طريق» ليست في ت.
(3)
ت: «الأجاير» ، والكلمة في د بدون نقط. وفي المطبوع:«الأخاير» . وفي «تهذيب السنن» ط. الفقي (1/ 64): «الأجناس» . وكلها تحريف. والصواب ما أثبته، وهو كذلك في «مجموع الفتاوى» (20/ 304). والأحباس بمعنى الوقوف.
بحضرة الرشيد لما ناظره مالك وتبيَّن له الحق؛ فلا يُلحَق بهذا عملهم من طريق الاجتهاد، ويُجعل ذلك نقلًا متصلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُترك
(1)
له السنن الثابتة، فهذا لون وذاك لون، وبهذا التمييز والتفصيل يزول الاشتباه ويظهر الصواب.
ومن المعلوم أن العمل بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين والصحابة بالمدينة كان بحسب من فيها من المفتين والأمراء والمحتسبين على الأسواق، ولم تكن الرعية تخالف هؤلاء، فإذا أفتى المفتون نفَّذه الوالي، وعمِلَ به المحتسب، وصار عملًا، فهذا هو الذي لا يُلتفَت إليه في مخالفة السنن، لا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه والصحابة فذاك هو السنة، فلا يُخلَط أحدهما بالآخر، فنحن لهذا العمل أشدُّ تحكيمًا، وللعمل الآخر إذا خالف السنة أشدُّ تركًا، وبالله التوفيق.
وقد كان ربيعة بن أبي
(2)
عبد الرحمن يفتي وسليمان بن بلال المحتسب ينفِّذ فتواه، فتعملُ الرعية بفتوى هذا وتنفيذ هذا، كما يطَّرد العمل في بلد أو إقليم ليس فيه إلا قول مالك على قوله وفتواه، ولا يجوِّزون العمل هناك بقول غيره من أئمة الإسلام، فلو عمل به أحد لاشتدَّ نكيرهم
(3)
عليه، وكذلك بلد أو إقليم لم يظهر [115/أ] فيه إلا مذهب أبي حنيفة فإن العمل المستمر عندهم على قوله، وكل طائفة اطَّرد عندهم عملُ من
(4)
وصل إليهم
(1)
ت: «نترك» .
(2)
«أبي» ساقطة من ت.
(3)
ت: «تكبرهم» .
(4)
«من» ليست في د.
قوله ومذهبه لم
(1)
يألفوا غيره. ولا فرقَ في هذا العمل بين بلد وبلد
(2)
، والعمل الصحيح ما وافقتْه السنة.
وإذا أردتَ وضوح ذلك فانظر العمل في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في جهره بالاستفتاح في الفرض في مصلَّى النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة به
(3)
، ثم العمل في زمن مالك بوصل التكبير بالقراءة من غير استفتاح ولا تعوُّذٍ.
وانظر العمل في زمن الصحابة كعبد الله بن عمر في اعتبار خيار المجلس ومفارقته لمكان التبايع ليلزم العقد
(4)
ولا يخالفه في ذلك صحابي، ثم العمل به في زمن التابعين وإمامهم وعالمهم سعيد بن المسيّب، يعمل به ويفتي به ولا ينكره عليه منكر، ثم صار العمل في زمن ربيعة وسليمان بن بلال بخلاف ذلك.
وانظر إلى العمل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة خلفه وهم يرفعون أيديهم في الصلاة في الركوع والرفع منه
(5)
، ثم العمل في زمن الصحابة بعده حتى كان عبد الله بن عمر إذا رأى من لا يرفع يديه حَصَبَه
(6)
، وهو
(1)
د: «ولم» .
(2)
الواو ساقطة من ت.
(3)
رواه مسلم (399).
(4)
رواه البخاري (2107) ومسلم (1531).
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
رواه الحميدي في «مسنده» (615) ومن طريقه البخاري في «جزء رفع اليدين» (14). ورواه أيضًا أحمد في «مسائله» برواية ابنه عبد الله (ص 70) والدارقطني (1118). وصحّحه ابن الملقن في «البدر المنير» (3/ 478).
عمل كأنه رأيُ عينٍ، وجمهور التابعين يعمل به بالمدينة وغيرها من الأمصار كما حكاه البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما عنهم، ثم صار العمل بخلافه.
وانظر إلى العمل الذي كأنه رأيُ عينٍ من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنَيْ بيضاءَ سهيلٍ وأخيه في المسجد والصحابةُ معه، وصلَّت عائشة على سعد بن أبي وقاص في المسجد
(1)
، وصُلِّي
(2)
على عمر بن الخطاب في المسجد، ذكره مالك
(3)
عن نافع عن عبد الله.
قال الشافعي
(4)
: ولا نرى أحدًا من الصحابة حضر موتَه فتخلَّف عن جنازته، فهذا عمل مجمع عليه عندكم. قاله لبعض المالكية. وروى هشام عن أبيه أن أبا بكر صُلِّي عليه في المسجد
(5)
، [115/ب] فهذا العمل حقًّا، ولو تُرِكت السنن للعمل لتعطَّلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودَرستْ رسومها وعَفَتْ آثارها، وكم من عملٍ قد
(6)
اطَّرد بخلاف السنة الصريحة
(7)
على
(1)
رواه مسلم (973/ 101) من حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابنَي بيضاء.
(2)
د: «وصل» .
(3)
في «الموطأ» (1/ 230).
(4)
في كتاب «الأم» (8/ 576).
(5)
رواه عبد الرزاق (6576)، ورجاله كلهم ثقات.
(6)
«قد» ساقطة من ت.
(7)
ت: «الصحيحة» .
تقادم الزمان وإلى الآن، وكلَّ وقت تُترك سنة ويُعمل بخلافها ويستمرُّ عليها العمل، فخُذْ يسيرًا من السنة معمولًا به على نوع تقصير، وخُذْ بلا حُسْبانٍ ما شاء الله من سُنَنٍ قد أُهمِلتْ وعُطِّلَ العملُ بها جملة؛ فلو عمل بها من يعرفها لقال الناس: تَركتَ السنة!
فقد تقرَّر أن كل عمل خالف السنة الصحيحة لم يقع من طريق النقل البتةَ، وإنما يقع
(1)
من طريق الاجتهاد، والاجتهاد إذا خالف السنة كان مردودًا، وكل عمل طريقه النقلُ فإنه لا يخالف سنة صحيحة البتةَ.
فلنرجع إلى الأمثلة التي تُرِك فيها المحكم للمتشابه، فنقول:
المثال السابع والخمسون: تركُ السنة المحكمة الصحيحة في الجهر بآمين في الصلاة كقوله في «الصحيحين» : «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا فإنه من وافقَ تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِر له»
(2)
. ولولا جهره بالتأمين لما أمكن المأمومَ أن يؤمِّن معه ويوافقه في التأمين. وأصرحُ من هذا حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كُهيل عن حُجْر بن عَنْبس عن وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: «آمين» ، ورفع بها صوته. وفي لفظ: وطوَّل بها». رواه الترمذي وغيره
(3)
، وإسناده صحيح.
وقد خالف شعبةُ سفيانَ في هذا الحديث فقال: «وخفَضَ بها
(1)
ت: «تقع» .
(2)
رواه البخاري (780) ومسلم (410/ 72) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو داود (932) والترمذي وحسنه (248) وأحمد (18842)، وصححه الدارقطني (1269).
صوته»
(1)
، وحكم أئمة الحديث وحفَّاظه
(2)
في هذا لسفيان، فقال الترمذي
(3)
: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل في هذا الباب أصحُّ من حديث شعبة، أخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع، فقال:«عن حجر أبي العَنْبس» ، وإنما كنيته أبو السكن، وزاد فيه «علقمة بن وائل» ، [116/أ] وإنما هو حُجْر بن عَنْبس عن وائل بن حجر، ليس فيه علقمة، وقال:«وخفض بها صوته» ، والصحيح أنه جهر بها.
قال الترمذي
(4)
: وسألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة هذا، فقال: حديث سفيان أصحُّ من حديث شعبة، وقد روى العلاء بن صالح عن سلمة بن كهيل نحو رواية سفيان.
وقال الدارقطني
(5)
: كذا
(6)
قال شعبة: «وأخفى بها صوته» ، ويقال: إنه وهمَ فيه؛ لأن سفيان الثوري
(7)
ومحمد بن سلمة بن كهيل وغيرهما رووه عن سلمة فقالوا: ورفع صوتَه بآمين، وهو الصواب.
(1)
رواه أحمد (18854) وأبو داود الطيالسي (1117).
(2)
منهم البخاري وأبو زرعة وسيأتي، ومسلم في «التمييز» (ص 180)، والدارقطني (1270)، وحكى البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (2/ 391) إجماع الحفاظ على ذلك.
(3)
في «السنن» (248) و «العلل الكبير» (ص 69).
(4)
الكلام متصل بما قبله.
(5)
في «السنن» (1270).
(6)
ت: «هكذا» .
(7)
«الثوري» ليست في ت.
وقال البيهقي
(1)
: لا أعلم اختلافًا بين أهل العلم بالحديث أن سفيان وشعبة إذا اختلفا فالقول قول سفيان. وقال يحيى بن سعيد: ليس أحد أحبَّ إليَّ من شعبة، ولا يعدِلُه عندي أحد، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان. وقال شعبة: سفيان أحفظُ مني
(2)
؛ فهذا ترجيح لرواية سفيان.
وترجيح ثان: وهو متابعة العلاء بن صالح ومحمد بن سلمة بن كهيل له
(3)
.
وترجيح ثالث: وهو أن أبا الوليد الطيالسي ــ وحسْبُك به ــ رواه عن شعبة بوفاق الثوري في متنه
(4)
، فقد اختلف على شعبة كما ترى. قال البيهقي
(5)
: فيحتمل أن يكون تنبَّه لذلك فعاد إلى الصواب في متنه، وترك ذكر علقمة في إسناده.
وترجيح رابع: وهو أن الروايتين لو تقاومتا لكانت رواية الرفع متضمنة لزيادة، وكانت أولى بالقبول.
وترجيح خامس: وهو موافقتها وتفسيرها لحديث أبي هريرة: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنّ الإمام يقول آمين والملائكة تقول: آمين، فمن وافقَ تأمينُه
(1)
كما في «مختصر الخلافيات» (2/ 64).
(2)
انظر لهذه الأقوال: «الجرح والتعديل» (4/ 224) و «الكامل» لابن عدي (1/ 156) و «سؤالات الآجري» لأبي داود (ص 195).
(3)
رواية العلاء بن صالح عند الترمذي (249). وأما رواية محمد بن سلمة فعند الطبراني (113).
(4)
كما في «السنن الكبرى» للبيهقي (2/ 58).
(5)
«مختصر الخلافيات» (2/ 65).
تأمينَ الملائكة غفر له»
(1)
.
وترجيح سادس: وهو ما رواه الحاكم
(2)
بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغَ من
(3)
قراءة أم القرآن رفع صوتَه بآمين. ولأبي داود بمعناه، وزاد بيانًا فقال:«قال آمين حتى [116/ب] يسمع من يليه من الصف الأول»
(4)
. وفي رواية عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين، يرفع بها صوته، ويأمر بذلك»
(5)
.
وذكر البيهقي عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين إذا قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
(6)
. وعنده أيضًا عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ {وَلَا الضَّالِّينَ} رفع صوته بآمين. وعند أبي داود عن بلال أنه
(7)
قال
(1)
رواه النسائي (927) وأحمد (7187، 7660) والدارمي (1282) بزيادة «فإن الإمام يقول
…
». وصححه ابن خزيمة (575) وابن حبان (1804). وأصله عند البخاري ومسلم كما تقدم تخريجه.
(2)
في «المستدرك» (1/ 223)، ورواه أيضًا ابن خزيمة (571) وابن حبان (1806). وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم متكلم فيه، ولكن لحديثه شاهد يتقوى به. انظر:«صحيح أبي داود» - الأم (4/ 96).
(3)
«من» ليست في د، ت.
(4)
رواه أبو داود (934) وابن ماجه (853)، وإسناده ضعيف لجهالة أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة، وضعفِ بشر بن رافع. انظر:«ضعيف أبي داود» - الأم (1/ 355).
(5)
رواه الدارقطني (1272) وأعلّه بضعف بحر السقاء.
(6)
رواه ابن ماجه (854). والحديث أعله أبو حاتم والدارقطني. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2/ 114)، و «العلل» للدارقطني (3/ 185).
(7)
«أنه» ليست في ت.
للنبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبِقْني بآمينَ»
(1)
.
قال الربيع
(2)
: سئل الشافعي عن الإمام: هل يرفع صوته بآمين؟ قال: نعم، ويرفع بها مَن خلفه أصواتَهم، فقلت: وما الحجة؟ فقال: أخبرنا مالك، وذكر حديث أبي هريرة
(3)
المتفق على صحته، ثم قال: ففي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا» دلالةٌ على أنه أمر الإمام أن يجهر بآمين؛ لأن من خلفه لا يعرفون وقتَ
(4)
تأمينه إلا بأن يسمع تأمينه، ثم بيَّنه ابن شهاب فقال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين
(5)
. فقلت للشافعي: فإنا نكره للإمام أن يرفع صوته بآمين، فقال: هذا خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن عندنا وعندهم علم إلا هذا الحديث الذي ذكرناه عن مالك فينبغي أن يستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بآمين، وأنه أمر الإمام أن يجهر بها، فكيف ولم يزل أهل العلم عليه؟ وروى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول آمين يرفع بها صوته، ويحكي مدَّه إياها
(6)
(7)
. وكان أبو هريرة يقول للإمام: لا تَسبِقْني بآمين، وكان يؤذن له
(8)
. أخبرنا مسلم بن خالد عن
(1)
رواه أبو داود (937)، وأحمد (23920)، والحاكم وصححه (1/ 219) من طرق عن عاصم عن أبي عثمان عن بلال به.
(2)
«الأم» (8/ 545، 546).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
«وقت» ليست في ت.
(5)
رواه مالك في «الموطأ» (1/ 87)، والحديث متفق عليه قد تقدم تخريجه.
(6)
«ويحكي مده إياها» ساقطة من ت.
(7)
تقدم تخريجه.
(8)
تقدم تخريجه.
ابن جريج عن عطاء: كنتُ أسمع الأئمة ابن الزبير ومن بعده يقولون آمين، ومن خلفهم آمين، حتى إن للمسجد للجَّةً
(1)
.
وقوله: «كان أبو هريرة [117/أ] يقول للإمام لا تسبِقْني بآمين» ، يريد ما ذكره البيهقي
(2)
بإسناده عن أبي رافع أن أبا هريرة كان يؤذِّن لمروان بن الحكم، فاشترط أن لا يسبقه بالضالين، حتى يعلم أنه قد وصل الصفّ، فكان مروان إذا قال:{وَلَا الضَّالِّينَ} قال
(3)
أبو هريرة: «آمين» يمدُّ بها صوته، وقال: إذا وافق تأمينُ أهل الأرض تأمينَ أهل السماء غُفِر لهم.
وقال عطاء: أدركتُ مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} سُمِعتْ لهم رجَّةٌ بآمين
(4)
.
فردَّ هذا كله بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. والذي أُنزِلت عليه هذه الآية هو الذي رفع صوتَه بالتأمين، والذين أُمِروا بها رفعوا به أصواتهم، ولا معارضةَ بين الآية والسنة بوجهٍ ما.
المثال الثامن والخمسون: ترك القول بالسنة الصحيحة الصريحة المحكمة في أن الصلاة الوسطى صلاة العصر، بالمتشابه من قوله: {وَقُومُوا
(1)
إلى هنا انتهى كلام الشافعي. وأثر عطاء في إسناده مسلم بن خالد متكلم فيه، ولكنه توبع بعبد الرزاق (2640) وعلقه البخاري بصيغة الجزم (2/ 262 - مع الفتح)، وانظر «تغليق التعليق» (2/ 318).
(2)
في «السنن الكبرى» (2/ 58).
(3)
ت: «يقول» .
(4)
رواه البيهقي (2/ 59).
لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وهذا عجب من العجب، وأعجبُ منه تركها بأن في مصحف عائشة:«وصلاة العصر» ، وأعجب منهما تركها
(1)
بأن صلاة الظهر تُقام في شدّة الحر، وهي
(2)
في وسط النهار، فأكَّدها الله سبحانه بقوله:{وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . وأعجب من ذلك تركها بأن المغرب وُسطى بين الثنائية والرباعية؛ فهي أحقُّ بهذا الاسم من غيرها! وأعجب منه تركها بأن صلاة العشاء قبلها صلاة آخر النهار، وبعدها صلاة أول النهار، وهي وسطى بينهما، فهي أحقُّ بهذا الاسم من غيرها. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصُّه الصريح المحكم الذي لا يحتمل إلا ما دل عليه أولى بالاتباع، والله الموفق.
المثال التاسع والخمسون: ترك السنة الصحيحة الصريحة في قول الإمام: «ربنا ولك الحمد» ، كما في «الصحيحين»
(3)
من حديث أبي هريرة: [117/ب] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: «سمع الله لمن حمده» قال: «اللهم ربنا ولك الحمد» . وفيهما
(4)
أيضًا عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبّر حين يقوم، ثم يكبّر حين يركع، ثم يقول:«سمع الله لمن حمده» ، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم:«ربنا ولك الحمد» . وفي «صحيح مسلم» عن ابن عمر
(5)
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: «سمع الله لمن
(1)
«تركها» ليست في ت.
(2)
«وهي» ليست في ت.
(3)
رواه البخاري (795)، ومسلم (409).
(4)
رواه البخاري (789) ومسلم (392) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
لم أجده عند مسلم من حديث ابن عمر، وإنما هو من حديث عبد الله بن أبي أوفى (476).
حمده، اللهمَّ ربنا لك الحمد مِلءَ السماوات ومِلءَ الأرض ومِلءَ ما شئتَ من شيء بعدُ». وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال:«سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات وملءَ الأرض وملءَ ما شئتَ من شيء بعدُ، أهلَ الثناء والمجد، أحقّ ما قال العبد ــ وكلُّنا لك عبد ــ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ»
(1)
.
فرُدَّت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد»
(2)
.
المثال الستون: ردُّ السنة الصحيحة المحكمة في إشارة المصلي في التشهد بإصبعه
(3)
كقول ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة وضع كفَّه اليمنى
(4)
على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلَّها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام. رواه مسلم. وعنده أيضًا عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ووضع إصبعه التي تلي الإبهام فدعا بها
(5)
. وعنده أيضًا عن عبد الله بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بإصبعه
(6)
، ورواه خُفاف بن
(1)
رواه مسلم (477).
(2)
رواه البخاري (689) ومسلم (411) من حديث أنس بن مالك.
(3)
ت: «بإصبعه في التشهد» .
(4)
د: «الأيمن» .
(5)
الحديثان مخرجان عند مسلم (580).
(6)
الذي عند مسلم (579): «وضع يده على فخذه» . ووضع اليدين على الركبتين عند النسائي (1161).
إِيماء بن رَحَضَة
(1)
ووائل بن حُجر وعبادة بن الصامت ومالك بن نُمير
(2)
الخزاعي عن أبيه كلُّهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك
(3)
.
وسئل ابن عباس [118/أ] عنه فقال: هو الإخلاص
(4)
.
فردُّوا ذلك كلَّه بحديث لا يصح، وهو ما رواه محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن أبي غطفان المرّي عن أبي هريرة مرفوعًا:«التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، ومن أشار في صلاته إشارةً تُفهَم عنه فليعِدْها»
(5)
.
(1)
كذا ضبطه الحافظ في «الإصابة» (3/ 304). وفي ط: «رخصة» خطأ.
(2)
في النسختين د، ت:«بهز» خطأ. والتصويب من مصادر التخريج.
(3)
حديث خُفاف بن إيماء عند أحمد (16572) من طريق ابن إسحاق قال: حدثني عمران عن مقسم عن رجل من أهل المدينة. وفي إسناده راوٍ لم يسم، وكذلك اضطرب ابن إسحاق فيه سندًا ومتنًا. ورواه أبو يعلى (908) من طريق يزيد بن عياض عن عمران عن مقسم عن الحارث. وفي إسناده يزيد بن عياض قال البخاري ومسلم فيه: منكر الحديث. وانظر: «السلسلة الضعيفة» (12/ 265).
أما حديث وائل بن حجر فعند أبي داود (726) والنسائي (1263) وابن ماجه (912) وأحمد (18858)، وصححه ابن خزيمة (713) وابن حبان (1945).
أما حديث عبادة بن الصامت فعند البيهقي في «مختصر الخلافيات» (2/ 96).
أما حديث مالك بن نمير فرواه أبو داود (991) والنسائي (1274) وابن ماجه (911)، وفي إسناده مالك بن نمير لايعرف. انظر:«ضعيف أبي داود» - الأم (1/ 371).
(4)
رواه عبد الرزاق (3244) وابن أبي شيبة (8515)، وروي مرفوعًا عند الحاكم (4/ 320)، وقد حكم الذهبي بنكارته. انظر:«مختصر استدراك الذهبي» (6/ 3017).
(5)
رواه أبو داود (944) والدارقطني (1866، 1867).
قال الدارقطني
(1)
: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان هذا مجهول، وآخر الحديث زيادة في الحديث، ولعله من قول ابن إسحاق، والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
(2)
كان يشير في الصلاة.
المثال الحادي والستون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة في ضَفْر
(3)
رأس المرأة الميتة ثلاثَ ضَفَائر
(4)
، كقوله في «الصحيحين» في غسل ابنته:«اجعلنَ رأسها ثلاثة قرون» . قالت أم عطية: ضَفَرنا
(5)
رأسها وناصيتها وقرنيها ثلاثة قرون وألقيناه من خلفها
(6)
.
فردَّ ذلك بأنه يُشبِه زينة الدنيا، وإنما يُرسَل شعرها شُقَّتينِ على ثَديَيْها. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقُّ بالإتباع.
المثال الثاني والستون: ترك السنة الصحيحة الصريحة التي رواها الجماعة عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: «صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره»
(7)
. لم يقل: «على صدره» غير مؤمَّل بن إسماعيل.
(1)
في «السنن» (2/ 456) بعد حديث (1867)، وكذلك أعلّه أحمد وأبو حاتم. انظر:«مسائل ابن هانئ» (2/ 191) و «العلل» لابن أبي حاتم (2/ 39 - 40).
(2)
ت: «والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم» .
(3)
في النسختين د، ت:«ظفر» خطأ.
(4)
د، ت:«ظفائر» ، خطأ.
(5)
د، ت:«ظفرنا» .
(6)
رواه البخاري (1263) ومسلم (939) من حديث أم عطية.
(7)
رواه ابن خزيمة (479) وأبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (2/ 268) والبيهقي (2/ 3)، وفي إسناده مؤمل بن إسماعيل متكلم فيه، لكن للحديث متابعات وشواهد يترقى بها. انظر: أصل «صفة الصلاة» (1/ 215 - 218).
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عنه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة ثم كبَّر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده
(2)
اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما وكبَّر فرفع، فلما قال سمع الله لمن حمده رفع يديه، فلما سجد سجد بين كفَّيه». وزاد أحمد وأبو داود: «ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرُّصْغ
(3)
والساعد»
(4)
.
وفي «صحيح البخاري»
(5)
عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم: [118/ب] ولا أعلمه إلا يَنْمِي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي «السنن» عن ابن مسعود أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى
(6)
. وقال [علي]
(7)
:
(1)
رقم (401).
(2)
«يده» ليست في ت.
(3)
كذا في النسختين د، ت. وهي لغة في الرسغ معروفة، كما في «لسان العرب» (رصغ) وغيره.
(4)
رواه أبو داود (727) والنسائي (889) وأحمد (18870) وصححه ابن خزيمة (480) وابن حبان (1860).
(5)
رقم (740).
(6)
رواه أبو داود (755) والنسائي (888) وابن ماجه (811)، وصححه النووي في «المجموع» (3/ 312)، وحسنه ابن حجر في «الفتح» (2/ 224).
(7)
زيادة لازمة، وليست في النسخ.
«من السنة في الصلاة وضع الأكُفّ على الأكُفّ تحت السرّة» . رواه أحمد
(1)
.
وقال مالك في «موطّئه»
(2)
: «وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة» ، ثم ذكر حديث سهل بن سعد. وذكر عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري أنه قال:«من كلام النبوة إذا لم تستحِ فافعلْ ما شئتَ، ووضعُ إحدى اليدين على الأخرى في الصلاة يضع اليمنى على اليسرى، وتعجيل الفطر، والاستيناء بالسحور»
(3)
.
وذكر أبو عمر في كتابه
(4)
من حديث الحارث بن غُطَيف أو غُطَيف بن الحارث قال: مهما رأيتُ شيئًا فنسيتُه فإني لم أنسَ أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعًا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة
(5)
.
وعن قَبِيصة بن هُلْب
(6)
عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعًا يمينه على
(1)
رواه أبو داود (756) وأحمد في «مسائله» رواية عبد الله (ص 72) وابنه عبد الله في زوائده على «المسند» (875) والدارقطني (1102) والبيهقي (2/ 31). وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي متكلم فيه، قال النووي في «المجموع» (3/ 313):«اتفقوا على تضعيفه» يعني الحديث. انظر: «التنقيح» (2/ 147) و «الإرواء» (2/ 69).
(2)
«الموطأ» (1/ 158).
(3)
«الموطأ» (1/ 158). وفي إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق متكلم فيه. والاستيناء بالسحور أي تأخيره.
(4)
«التمهيد» (20/ 73) و «الاستذكار» (2/ 290).
(5)
رواه أحمد (22497) وابن أبي شيبة (3954).
(6)
الاسم غير واضح في د. وفي ت مكانه بياض. والمثبت من «التمهيد» .
شماله في الصلاة
(1)
.
وقال علي بن أبي طالب: من السنة وضع اليمنى على الشمال في الصلاة
(2)
.
وعنه أيضًا أنه كان إذا قام إلى الصلاة وضع يمينه على رُسْغه، فلا يزال كذلك حتى يركع، إلا أن يُصلِح ثوبه أو يَحُكَّ جسده
(3)
.
وقال علي في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]: إنه وضع اليمين
(4)
على الشمال في الصلاة تحت
(5)
الصدر»
(6)
.
وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال هكذا، ووضع اليمنى على اليسرى
(7)
.
(1)
رواه الترمذي وحسنه (252) وابن ماجه (809)، ورواه أحمد (21967) بزيادة «على صدره». وانظر: أصل «صفة الصلاة» (1/ 216).
(2)
تقدم تخريجه بزيادة: «تحت السرة» .
(3)
ذكره البخاري (3/ 71 - مع الفتح) معلقًا بصيغة الجزم، ووصله أبو داود مختصرًا (757) وابن أبي شيبة بتمامه (8814)، وحسنه البيهقي (2/ 29) وابن حجر في «تغليق التعليق» (2/ 443).
(4)
ت: «اليمنى» .
(5)
في الروايات: «على صدره» . وليس فيها «تحت الصدر» .
(6)
رواه ابن أبي شيبة (3962) والبخاري في «التاريخ الكبير» (6/ 437)، وفي إسناده عقبة بن ظبيان قال عنه أحمد في «العلل» (2/ 88):«لا أذكره يعني معرفته» . ولكن له متابعات وشواهد يحسّن بها. انظر: أصل «صفة الصلاة» (1/ 217).
(7)
رواه ابن أبي شيبة (3967)، وفي إسناده أبو زياد يقول فيه الدارقطني في «سؤالات البرقاني» (604):«لا يعرف يترك» .
وقال أبو الدرداء: من أخلاق النبيين وضع اليمين على الشمال في الصلاة
(1)
.
وقال ابن الزبير: صفُّ القدمين ووضع اليد على اليد من السنة
(2)
.
ذكر هذه الآثار أبو عمر بأسانيدها، وقال: هي آثار ثابتة، وقال وهب بن بقية: ثنا محمد [119/أ] بن المطّلب عن أبان بن بشير المعلّم ثنا يحيى بن أبي كثير ثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من النبوة: تعجيل الفطر، وتأخير السحور، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة»
(3)
.
وقال سعيد بن منصور: أنا هشيم أنا منصور بن زاذان عن محمد بن أبان الأنصاري عن عائشة قالت: ثلاث من النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة
(4)
.
فردَّتْ هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك قال: تركه أحبُّ إليّ. ولا أعلم شيئا قطُّ رُدَّتْ به سواه.
(1)
رواه ابن أبي شيبة (3957).
(2)
رواه أبو داود (754) والطبراني (298)، وفي إسناده زرعة بن عبد الرحمن لم يوثقه إلا ابن حبان، لكن له شواهد تقويه، والأثر صححه الضياء (257)، وحسّنه النووي في «خلاصة الأحكام» (1/ 357)، وجوّده ابن الملقن في «البدر المنير» (3/ 512).
(3)
رواه ابن عبد البر في «التمهيد» (20/ 80)، وإسناده ضعيف؛ لجهالة محمد بن المطلب وأبان بن بشير. انظر:«لسان الميزان» (7/ 509، 1/ 220).
(4)
رواه ابن عبد البر في «التمهيد» (19/ 251، 20/ 80). وفي إسناده محمد بن أبان، لا يعرف له سماع من عائشة رضي الله عنها. انظر:«التاريخ الكبير» (1/ 32).
المثال الثالث والستون: ردّ السنة المحكمة الصريحة في تعجيل الفجر وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها بالستين إلى المائة
(1)
، ثم ينصرف منها والنساء لا يُعرفن من الغَلَس
(2)
، وأن صلاته كانت التغليس حتى توفّاه الله
(3)
، وأنه إنما أسفرَ بها مرةً واحدة
(4)
، وكان بين سحوره وصلاته قدر خمسين آية
(5)
.
فردَّ
(6)
ذلك بمجمل حديث رافع بن خَديج: «أسْفِروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر»
(7)
. وهذا بعد ثبوته إنما المراد به
(8)
الإسفار بها دوامًا لا ابتداءً، فيدخل
(9)
فيها مغلِّسًا ويخرج منها مُسفِرًا كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم؛ فقوله موافق لفعله لا مناقضٌ له، وكيف يُظنُّ به المواظبة على فعلِ ما الأجرُ الأعظم
(10)
في خلافه.
(1)
رواه البخاري (541) ومسلم (461) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (372) ومسلم (645) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه أبو داود (394)، وصححه ابن خزيمة (352) وابن حبان (1449)، وحسّنه النووي. انظر:«الإرواء» (1/ 269 - 270) و «صحيح أبي داود» - الأم (2/ 250).
(4)
تقدم تخريجه في الحديث السابق.
(5)
رواه البخاري (575) ومسلم (1097) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(6)
د: «فردوا» .
(7)
رواه أبو داود (424) والنسائي (549) والترمذي وصححه (154) وأحمد (17279)، وصححه ابن حبان (1490). قال ابن حجر في «الفتح» (2/ 55): صححه غير واحد. وانظر: «الإرواء» (1/ 281).
(8)
ت: «أن المراد بها» .
(9)
ت: «فيخرج» ، خطأ.
(10)
ت: «أعظم» .
المثال الرابع والستون: ردّ السنة الثابتة الصريحة المحكمة في امتداد وقت المغرب إلى سقوط الشفق، كما في «صحيح مسلم»
(1)
من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وقتُ صلاة الظهر ما لم تحضر العصرُ، ووقتُ العصر ما لم تصفرَّ الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط ثَوْرُ
(2)
الشفق، ووقت العشاء
(3)
إلى نصف [119/ب] الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس».
وفي «صحيحه» أيضًا
(4)
عن أبي موسى أن سائلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المواقيت فذكر الحديث، وفيه:«ثم أمره فأقام المغرب حين وَجَبتِ الشمس، فلما كان في اليوم الثاني قال: ثم أخَّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم قال: الوقت ما بين هذين» .
وهذا متأخر عن حديث جبريل؛ لأنه كان بمكة، وهذا قول وذاك فعل، وهذا يدلّ على الجواز وذاك على الاستحباب، وهذا في «الصحيح» وذاك في «السنن» ، وهذا يوافق قوله صلى الله عليه وسلم:«وقتُ كل صلاةٍ ما لم يدخل وقت التي بعدها»
(5)
، وإنما خُصَّ منه الفجر بالإجماع؛ فما عداها من الصلوات داخل في عمومه، والفعل إنما يدل على الاستحباب فلا يعارض العام ولا الخاص.
(1)
رقم (612).
(2)
في النسختين د، ت:«نور» . والتصويب من «صحيح مسلم» . وثور الشفق: ثورانه وانتشاره.
(3)
ت: «صلاة العشاء» .
(4)
رقم (614).
(5)
رواه مسلم (681) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه بمعناه.
المثال الخامس والستون: ردُّ السنة الصريحة المحكمة الثابتة في وقت العصر، وأنه إذا صار ظلُّ كل شيء مثله، وأنهم كانوا يصلّونها مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذهب أحدهم إلى العوالي قدرَ أربعة أميال والشمس مرتفعة
(1)
، وقال أنس: صلّى لنا
(2)
رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فأتاه رجل من بني سَلِمَة فقال: يا رسول الله إنا نريد أن ننحر جَزورًا لنا، وإنا نحبُّ أن تحضرها، قال:«نعم» ، فانطلق وانطلقنا معه، فوجد الجَزور لم تُنْحَر، فنُحِرت ثم قُطِّعت ثم طُبخ منها ثم أكلنا منها قبل أن تغيب الشمس»
(3)
. ومحالٌ أن يكون هذا بعد المثلين. وفي «صحيح مسلم»
(4)
عنه: «وقتُ صلاة الظهر ما لم تحضر العصر» . ولا معارضَ لهذه السنن، لا في الصحة ولا في الصراحة والبيان.
فردَّتْ بالمجمل من قوله صلى الله عليه وسلم: «مثلكم ومثل أهل الكتاب قبلكم كمثل رجل استأجر أُجراءَ فقال: من يعمل لي إلى نصف [120/أ] النهار على قيراطٍ قيراطٍ؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي إلى صلاة العصر على قيراطٍ قيراطٍ؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي على قيراطينِ قيراطينِ، فعملتم أنتم
(5)
، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقلُّ أجرًا، فقال: هل ظلمتُكم من أجركم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أُوتيه من أشاء»
(6)
.
(1)
رواه البخاري (550) ومسلم (621) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
كذا في د، ت. وهو موافق لما في «صحيح مسلم». وفي ط:«بنا» .
(3)
رواه مسلم (624).
(4)
رواه مسلم (612).
(5)
«أنتم» ليست في ت.
(6)
رواه البخاري (2268) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ويا لله العجب! أيُّ دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظلُّ مثلين بنوعٍ من أنواع الدلالة؟ وإنما يدلُّ على أن
(1)
من صلاة العصر إلى غروب الشمس أقصرُ من نصف النهار إلى وقت العصر، وهذا لا ريبَ فيه.
المثال السادس والستون
(2)
: ردّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في المنع من تخليل الخمر، كما في «صحيح مسلم»
(3)
عن أنس: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تُتَّخذ خلًّا، قال:«لا» .
وفي «المسند»
(4)
وغيره من حديث أنس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي حِجْره يتيم، وكان عنده خمر حين حُرِّمت الخمر، فقال: يا رسول الله أصنعُها خلًّا؟ قال: «لا» ، فصَبَّها حتى سال الوادي.
وقال أحمد
(5)
: ثنا وكيع ثنا سفيان عن السدّي
(6)
عن أبي هريرة عن أنس: أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتامٍ ورِثُوا خمرًا، فقال:«أهرِقْها» ، قال: أفلا نجعلها خلًّا؟ قال: «لا» .
(1)
«أن» ساقطة من ت.
(2)
بياض في ت مكان العدد.
(3)
رقم (1983).
(4)
لم أجده في «المسند» . ورواه أبو عوانة (7976) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (3335) والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 37). وفي إسناده أبو حذيفة موسى بن مسعود متكلم فيه، وللحديث طرق يصحح بها، انظر ما بعده.
(5)
رواه أحمد (12189) وأبو داود (3675) والترمذي وصححه (1294).
(6)
ت: «السري» تصحيف.
وروى الحاكم والبيهقي
(1)
من حديث أنس أيضًا قال: كان في حِجْر أبي طلحة يتامى، فاشترى لهم خمرًا، فلما أنزل الله تحريم الخمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: أجعلُه خلًّا؟ قال: «لا»
(2)
، فأَهراقَه.
وفي الباب عن أبي الزبير
(3)
عن جابر
(4)
، وصحَّ ذلك عن عمر بن الخطاب
(5)
، ولا يُعلم له في الصحابة مخالف.
فرُدَّتْ بحديث مجمل لا يثبت، وهو ما رواه الفرج بن فَضالة عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن أم سلمة أنها كانت لها شاة تَحلُبها
(6)
، ففقدَها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«ما فعلتْ شاتُك؟» فقلت: ماتت، قال:«أفلا انتفعتم بإهابها؟» قلت: إنها ميتة، قال: «فإن
(7)
[120/ب] دِباغَها يُحِلّ كما يُحِلُّ الخلُّ الخمرَ»
(8)
.
(1)
لم أجده في «المستدرك» . وأخرجه أحمد (13733) والدارمي (2161) والبزار (7008) والبيهقي (6/ 37).
(2)
ت: «له» .
(3)
ت: «أبي هريرة» ، تحريف.
(4)
رواه البيهقي (6/ 37)، وفي إسناده أبو جناب ضعيف ويدلس. انظر:«تهذيب الكمال» (31/ 284) ترجمة (6817).
(5)
رواه عبد الرزاق (17111).
(6)
في النسختين د، ت:«تحملها» . والتصويب من مصادر التخريج.
(7)
ت: «إن» .
(8)
رواه الطبراني في المعجم الأوسط (417) والدارقطني (125)، وأعله الدارقطني بتفرد الفرج بن فضالة وضعفه، ونقل البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (8/ 226) تضعيفه عن سائر أهل العلم بالحديث.
قال الحاكم
(1)
: تفرَّد به الفرج بن فضالة عن يحيى، والفرج ممن لا يُحتجّ بحديثه، ولم يصحَّ تحليل خلّ الخمر من وجهٍ. وقد فسَّره راويه
(2)
الفرج فقال: يعني أن الخمر إذا تغيّرت فصارت خلًّا حلَّت. فعلى هذا التفسير الذي فسَّره راوي الحديث يرتفع الخلاف.
وقد قال الدارقطني
(3)
: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدِّث عن فَرَج بن فَضالة، ويقول: حدَّث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث مقلوبة منكرة. وقال البخاري: الفرج بن فضالة منكر الحديث
(4)
.
وردَّتْ بحديث واهٍ من رواية مغيرة بن زياد
(5)
عن أبي الزبير عن جابر يرفعه: «خيرُ خلِّكم خلُّ خمرِكم»
(6)
. ومغيرة هذا يقال له أبو هشام المكفوف صاحب مناكير عندهم، ويقال: إنه حدث عن عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير بجملة من المناكير، وقد حدّث عن عبادة بن نُسَي بحديث غريب موضوع
(7)
، فكيف يُعارَض بمثل هذه الرواية الأحاديث الصحيحة
(1)
نقله البيهقي عن الحاكم، انظر «مختصر الخلافيات» (3/ 372 - 373).
(2)
ت: «روايه» .
(3)
في «مختصر الخلافيات» (3/ 373) عزاه إلى عمرو بن علي الفلاس. وانظر: «الجرح والتعديل» (7/ 86) و «تاريخ دمشق» لابن عساكر (48/ 263).
(4)
انظر هذه الأقوال في: «الجرح والتعديل» (7/ 86) و «التاريخ الكبير» (7/ 134).
(5)
ت: «زيادة» .
(6)
رواه البيهقي (6/ 38)، ونقل عن الحاكم:«هذا حديث واهٍ، والمغيرة بن زياد صاحب مناكير» . وانظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 485) و «السلسلة الضعيفة» (1199).
(7)
هذا الكلام للحاكم موجود في «تاريخ دمشق» (13/ 60)، وتعقبه المزي في «تهذيب الكمال» (28/ 363) قائلًا: وفي هذا القول نظر، فإن جماعة من أهل العلم قد وثقوه كما تقدم، ولا نعلم أحدًا منهم قال إنه متروك الحديث، ولعله اشتبه عليه بغيره، فإن أصرم بن حوشب يكنى أبا هشام أيضًا، وهو من الضعفاء المتروكين، فلعله اشتبه عليه به، والله أعلم.
المحفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن تخليل الخمر؟ ولم يزل أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكرون ذلك.
قال الحاكم
(1)
: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الحِيري يقول: سمعت محمد بن إسحاق يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: قدمتُ المدينة أيام مالك، فتقدَّمتُ إلى فامِيٍّ
(2)
فقلت: عندك خلُّ خمر؟ فقال: سبحان الله! في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم قدمتُ بعد موت مالك، فذكرت ذلك لهم، فلم ينكر عليّ.
وأما ما روي عن علي رضي الله عنه من اصطباغه بخلِّ الخمر، وعن عائشة أنه لا بأس به
(3)
؛ فهو خلُّ الخمر الذي تخلّلْت بنفسها لا باتخاذها.
المثال السابع والستون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة في تسبيح المصلّي إذا نابه شيء في صلاته، كما في «الصحيحين»
(4)
من حديث أبي
(1)
رواه البيهقي في «مختصر الخلافيات» (3/ 374) عن الحاكم، ورواه أبو نعيم في الحلية (6/ 319).
(2)
د: «قاض» . ت: «قاص» . وكلاهما تحريف. والتصويب من «حلية الأولياء» (6/ 319) و «مختصر الخلافيات» (3/ 374). والفامي: بائع الحنطة والحمّص.
(3)
أثر علي عند عبد الرزاق (17107)، وأثر عائشة عند ابن أبي شيبة (24569).
(4)
رواه البخاري (1203) ومسلم (422).
سلمة عن أبي هريرة [121/أ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التسبيح في الصلاة للرجال، والتصفيق للنساء» . وفي «الصحيحين»
(1)
أيضًا عن سهل بن سعد الساعدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فذكر الحديث وقال في آخره: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالي أراكم أكثرتم التصفيقَ؟ مَن نابَه شيء في صلاته فليسبِّح؛ فإنه إذا سبَّح التفتَ إليه، وإنما التصفيق للنساء» . وذكر البيهقي
(2)
من حديث إبراهيم بن طهمان عن الأعمش عن ذكوان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استُؤذِن على الرجل وهو يصلِّي فإذنه التسبيح، وإذا استُؤذِن على المرأة وهي تصلِّي فإذنها التصفيق» . قال البيهقي: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات
(3)
.
فردَّت هذه السنن بأنها معارضة لأحاديث تحريم الكلام في الصلاة، وقد تعارض مبيح وحاظر
(4)
، فيقدَّم الحاظر. والصواب أنه لا تعارضَ بين سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجه، وكلٌّ منها له وجه، والذي حرَّم الكلام في الصلاة ومنعَ منه هو الذي شرع
(5)
التسبيح المذكور، وتحريم الكلام كان قبل الهجرة، وأحاديث التسبيح بعد ذلك؛ فدعوى نسخها بأحاديث تحريم الكلام محال. ولا تعارضَ بينهما بوجهٍ ما؛ فإن «سبحان الله» ليس من الكلام الذي مُنِع منه المصلّي، بل هو مما أُمر به أمرَ إيجاب أو استحباب
(6)
،
(1)
رواه البخاري (684) ومسلم (421).
(2)
في «السنن الكبرى» (2/ 247). وانظر: «السلسلة الصحيحة» (497).
(3)
«مختصر الخلافيات» (2/ 151).
(4)
د: «حاظر ومبيح» .
(5)
د: «تشرع» .
(6)
ت: «واستحباب» .
فكيف يُسوَّى بين المأمور والمحظور؟ وهل هذا إلا من أفسدِ قياسٍ واعتبار؟
المثال الثامن والستون: ردُّ السنة الثابتة في إثبات سجدات المفصَّل، والسجدة الأخيرة من سورة
(1)
الحج، كما روى أبو داود في «السنن»
(2)
: حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي ثنا ابن أبي مريم أنا نافع بن يزيد عن الحارث بن سعيد العُتَقِي عن عبد الله بن مُنَين
(3)
عن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمسَ عشرة سجدةً في القرآن، منها ثلاثة في المفصّل، [121/ب] وفي سورة
(4)
الحج سجدتان».
تابعه محمد بن إسماعيل السلمي عن سعيد بن أبي مريم، وقال ابن وهب: أخبرنا ابن لهيعة عن مِشْرَح بن هَاعَان
(5)
عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلت سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجد فيهما فلا يقرأهما»
(6)
.
(1)
«سورة» ليست في د.
(2)
رقم (1401). ورواه أيضًا ابن ماجه (1057). وفي إسناده الحارث بن سعيد لا يعرف حاله، وعبد الله بن منين متكلم فيه، والحديث ضعفه عبد الحق الإشبيلي وابن القطان. انظر:«التلخيص الحبير» (2/ 18) و «ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 72).
(3)
في النسختين د، ت:«منير» تحريف. والتصويب من مصادر التخريج. وانظر: «التقريب» .
(4)
«سورة» ليست في ت.
(5)
ت: «عاهان» ، تحريف.
(6)
رواه أبو داود (1402) والترمذي (578) وأحمد (17364). وفي إسناده ابن لهيعة، فإن تلميذه لم يثبت أخذه عنه قبل الاختلاط، وللشطر الأول من الحديث متابعات وشواهد تقويه. انظر:«صحيح أبي داود» - الأم (5/ 145).
وحديث ابن لهيعة يُحتجُّ منه بما رواه عنه العبادلة، كعبد الله بن وهب وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرئ. قال أبو زرعة: كان ابن المبارك وابن وهب يتبعان أصوله. وقال عمرو بن علي: من كتب عنه قبل احتراق كتبه مثل ابن المبارك والمقرئ أصحُّ ممن كتب عنه بعد احتراقها. وقال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقًا. وقد انتقى النسائي هذا الحديث من جملة حديثه، وأخرجه، واعتمده، وقال: ما أخرجتُ من حديث ابن لهيعة قطُّ إلا حديثًا واحدًا أخبرناه هلال بن العلاء ثنا معافى بن سليمان عن موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن ابن لهيعة، فذكره. وقال ابن وهب: حدثني الصادق البارُّ واللهِ عبد الله بن لهيعة. وقال الإمام أحمد: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه
(1)
وإتقانه؟ وقال ابن عيينة: كان عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة. وقال أحمد بن صالح الحافظ: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلَّابًا للعلم. وقال ابن حبان: كان صالحًا لكنه يدلِّس عن الضعفاء، ثم احترقت
(2)
كتبه، وكان أصحابنا
(3)
يقولون: سماع من سمع منه قبل احتراق كتبه مثل العبادلة ابن وهب وابن المبارك والمقرئ والقعنبي فسماعهم صحيح
(4)
.
(1)
«وضبطه» ليست في ت.
(2)
ت: «اخروقت» تحريف.
(3)
ت: «صحابيًا» تحريف.
(4)
انظر هذه الأقوال في: «الجرح والتعديل» (5/ 147) و «الضعفاء» لابن الجوزي (2/ 136) و «الكامل» لابن عدي (5/ 239) و «تاريخ ابن يونس» (1/ 282) و «المجروحين» لابن حبان (2/ 11).
وقد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الإنشقاق: 1]
(1)
، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد [122/أ] في النجم، ذكره البخاري
(2)
.
فرُدَّت هذه السنن برأي فاسد وحديث ضعيف:
أما الرأي فهو أن آخر الحج السجود فيها سجود الصلاة لاقترانه بالركوع، بخلاف الأولى؛ فإن السجود فيها مجرد عن ذكر الركوع، ولهذا لم يكن قوله تعالى:{يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] من مواضع السجدات بالاتفاق.
وأما الحديث الضعيف فإنه رواه أبو داود
(3)
: ثنا محمد بن رافع ثنا أزهر بن القاسم ثنا أبو قدامة عن مطر الوراق عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصّل
(4)
منذ تحوَّل إلى المدينة.
فأما الرأي فيدلُّ على فساده وجوه:
(1)
رواه مسلم (578).
(2)
رواه البخاري (1067) ومسلم (576) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
في «السنن» (1403)، ورواه أيضًا الطبراني (11924). وفي إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد ومطر الوراق متكلم فيهما، والحديث ضعفه ابن حجر في «الفتح» (2/ 555). وانظر:«ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 75).
(4)
د: «الفصل» .
منها: أنه مردود بالنص.
ومنها: أن اقتران الركوع بالسجود في هذا الموضع لا يخرجه عن كونه سجودًا
(1)
، وقد صحّ سجوده صلى الله عليه وسلم في النجم، وقد قرن السجود فيها بالعبادة كما قرنه بالعبادة في سورة الحج، والركوع لم يزِدْه إلا تأكيدًا.
ومنها: أن أكثر السجدات المذكورة في القرآن متناولة لسجود الصلاة؛ فإن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15] يدخل فيه سجود المصلّين قطعًا، وكيف لا وهو أجلُّ السجود وأفرضه؟ وكيف لا يدخل في قوله:{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]، وفي قوله:{كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وقد قال قبلُ:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9 - 10] ثم قال: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} ، فأمره بأن
(2)
يفعل هذا الذي نهاه عنه عدوُّ الله، فإرادة سجود الصلاة بآية السجدة لا تمنع
(3)
كونها سجدة، بل تؤكِّدها وتقويها.
يوضِّحه أن مواضع السجدات في القرآن نوعان: إخبار وأمر؛ فالإخبار خبر من الله تعالى عن سجود مخلوقاته له عمومًا أو خصوصًا، فسنَّ للتالي والسامع
(4)
(1)
ت: «سجدة» . وبعدها في ط وليست في النسخ: «كما أن اقترانه بالعبادة التي هي أعم من الركوع لا يخرجه عن كونه سجدة» .
(2)
ت: «أن» .
(3)
ت: «لا يمتنع» .
(4)
ت: «والمستمع» .
وجوبًا أو استحبابًا أن
(1)
يتشبه بهم عند تلاوة السجدة أو سماعها، وآيات الأوامر بطريق [122/ب] الأولى. وهذا لا فرقَ فيه بين أمر وأمر، فكيف يكون الأمر بقوله:{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} مقتضيًا للسجود دون الأمر بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]؟ فالساجد إما متشبه بمن أُخبِر عنه، أو ممتثل لما أُمِر به، وعلى التقديرين يُسَنُّ له السجود في آخر الحج كما يُسَنُّ له في أولها؛ فكما سوَّت السنةُ بينهما سوَّى القياسُ الصحيح والاعتبار الحق بينهما. وهذا السجود شرعه الله ورسوله عبوديةً عند تلاوة هذه الآيات واستماعها، وقربةً إليه، وخضوعًا لعظمته، وتذللًا بين يديه، واقتران الركوع ببعض آياته مما يؤكّد ذلك، ويقوّيه، لا يضعفه ويُوهِيه، والله المستعان.
وأما قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} فإنما لم يكن موضع سجدة؛ لأنه خبر خاص عن قول الملائكة لامرأة بعينها أن تُدِيم العبادة لربها بالقنوت وتصلِّي له بالركوع والسجود؛ فهو خبر عن قول الملائكة لها ذلك، وإعلامٌ من الله لنا أن الملائكة قالت ذلك لمريم. فسياق ذلك غير سياق آيات السجدات.
وأما الحديث الضعيف فإنه من رواية أبي قدامة، واسمه الحارث بن
(2)
عبيد قال الإمام أحمد: هو مضطرب الحديث، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الأزدي: ضعيف، وقال ابن حبان: لا
(1)
ت: «بأن» .
(2)
«الحارث بن» ساقطة من ت.
يحتجُّ به إذا انفرد
(1)
. قلت: وقد أُنكِر عليه هذا الحديث وهو موضع الإنكار؛ فإن أبا هريرة شهد سجوده صلى الله عليه وسلم في المفصّل في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الإنشقاق: 1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]. ذكره مسلم في «صحيحه»
(2)
، وسجد معه. حتى لو صح خبر أبي قدامة هذا لوجب تقديم خبر أبي هريرة عليه؛ لأنه مُثبِت فمعه زيادة علم، والله أعلم.
المثال التاسع والستون: [123/أ] ردُّ السنن الثابتة الصحيحة في سجود الشكر، كحديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج نحو صَدَقتِه، فخرَّ ساجدًا فأطال السجود، ثم قال:«إن جبريل أتاني وبشّرني فقال: إن الله عز وجل يقول لك: من صلَّى عليك صلّيتُ عليه، ومن سلَّم عليك سلّمتُ عليه، فسجدتُ لله شكرًا»
(3)
.
وكحديث سعد بن أبي وقاص في سجوده صلى الله عليه وسلم شكرًا لربه لما أعطاه ثُلثَ أمته، ثم سجد ثانيةً فأعطاه الثلث الآخر، ثم ثالثةً فأعطاه الثلث الباقي
(4)
.
(1)
انظر هذه الأقوال في: «العلل» للإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (3/ 27) و «الكامل» لابن عدي (2/ 455) و «الضعفاء» للنسائي (ص 29) و «التنقيح» لابن عبد الهادي (2/ 335 - 336) و «المجروحين» لابن حبان (1/ 224).
(2)
رقم (578).
(3)
رواه أحمد (1664) والحاكم (1/ 550) والضياء المقدسي (926)، وفي إسناده عبد الواحد بن محمد لم يوثقه إلا ابن حبان، والاختلاف على عمرو بن أبي عمر، وللحديث طريق آخر يرتقي به إلى الحسن. انظر:«الإرواء» (2/ 228).
(4)
رواه أبو داود (2775) والبيهقي (2/ 370)، وإسناده ضعيف؛ لجهالة يحيى بن الحسن بن عثمان، وشيخه الأشعث. انظر:«ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 363) و «الضعيفة» (3230).
وكحديث أبي بكرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمر يُسَرُّ به خرَّ ساجدًا شكرًا
(1)
لله عز وجل، وأتاه بشيرٌ يبشِّره بظَفَر جندٍ له على عدوهم، فقام وخرَّ ساجدًا
(2)
.
وسجد كعب بن مالك لما بُشِّر بتوبة الله عليه
(3)
، وسجد أبو بكر رضي الله عنه حين جاءه قتل مسيلمة
(4)
، وسجد علي رضي الله عنه حين وُجِد ذو الثُّدَيَّة
(5)
في الخوارج الذين قتلهم
(6)
.
ولا أعلم شيئًا يدفع هذه السنن والآثار مع صحتها وكثرتها غير رأي فاسد، وهو أن نعم الله سبحانه لا تزال واصلةً إلى عبده، فلا معنى لتخصيص بعضها بالسجود.
(1)
«شكرًا» ليست في ت.
(2)
رواه أبو داود (2774) والترمذي (1578) وابن ماجه (1394) وأحمد (20455)، والحاكم (1/ 276). وفي إسناده بكار بن عبد العزيز متكلم فيه. وانظر:«الضعيفة» (436).
(3)
رواه البخاري (4418) ومسلم (2769).
(4)
رواه عبد الرزاق (5963) من طريق مسعر عن أبي عون، وإسناده منقطع. ورواه ابن أبي شيبة (33512) والبيهقي (2/ 371) من طريق مسعر عن أبي عون عن رجل، ولم يسم، والأثر ضعفه الألباني في «الإرواء» (2/ 230).
(5)
د: «ذا الثدية» .
(6)
رواه أحمد (848)، وفي إسناده طارق بن زياد لم يوثقه إلا ابن حبان، ولكن له متابعان يحسن بهما الأثر. انظر:«الإرواء» (2/ 230).
وهذا من أفسدِ رأيٍ وأبطلِه؛ فإن النعم نوعان: مستمرة ومتجددة، فالمستمرة شكرُها بالعبادات والطاعات، والمتجددة شُرِع لها سجود الشكر؛ شكرًا لله عليها، وخضوعًا له وذلًّا، في مقابلة فرحة النعم وانبساط النفس لها، وذلك من أكبر أدوائها؛ فإن الله لا يحبُّ الفَرِحين ولا الأَشِرين؛ فكان دواء هذا الداء الخضوع والذلّ والانكسار لرب العالمين، وكان في سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره.
ونظير هذا السجودُ عند الآيات التي يخوِّف الله بها عباده، كما في الحديث: «إذا رأيتم آية
(1)
فاسجدوا»
(2)
. وقد فَزِع النبي صلى الله عليه وسلم عند رؤية انكساف [123/ب] الشمس إلى الصلاة، وأمر بالفَزَع إلى ذكره
(3)
، ومعلوم أن آياته سبحانه لم تزل مُشاهَدةً معلومةً بالحسّ والعقل، ولكن تجدُّدها يُحدِث للنفوس من الرهبة
(4)
والفزع إلى الله
(5)
ما لا تُحدِثه الآيات المستمرة، فتجدُّد هذه النعم في اقتضائها لسجود الشكر كتجدُّد تلك الآيات في اقتضائها للفزع إلى السجود والصلاة.
ولهذا لما بلغ فقيهَ الأمة وترجمانَ القرآن عبد الله بن عباس موتُ ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم خرَّ ساجدًا، فقيل له: أتسجد لذلك؟ فقال: قال رسول
(1)
«آية» ليست في ت.
(2)
سيأتي تخريجه بعد حديث.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
ت: «الربنه» !
(5)
ت: «الآية» .
الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم آية فاسجدوا» ، وأيُّ آيةٍ أعظمُ من ذهاب أزواج النبي
(1)
صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا؟
(2)
فلو لم تأتِ النصوص بالسجود عند تجدُّد النعم لكان هو محض القياس، ومقتضى عبودية الرغبة، كما أن السجود عند الآيات مقتضى عبودية الرهبة، وقد أثنى الله سبحانه
(3)
على الذين يسارعون في الخيرات ويدعونه رَغبًا ورهبًا.
ولهذا فرق الفقهاء بين صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء بأن
(4)
هذه صلاة رهبةٍ وهذه صلاة رغبةٍ، فصلوات الله وسلامه على من جاءت سنته وشريعته بأكملِ ما جاءت به شرائع الرسل وسننُهم.
المثال السبعون: ردُّ السنة الثابتة الصحيحة بجواز ركوب المرتهن للدابة المرهونة وشُربه لبنَها بنفقته عليها، كما روى البخاري في «صحيحه»
(5)
: ثنا محمد بن مقاتل أنا عبد الله أنا زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرَّهن يُركَب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبنُ الدَّرِّ يُشرَب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقةُ» . وهذا الحكم من أحسن الأحكام وأعدلها، ولا أصلح للراهنين منه، وما عداه ففسادٌ ظاهر؛ فإن الراهن قد يغيب [124/أ] ويتعذَّر على المرتهن مطالبته
(1)
د: «رسول الله» .
(2)
رواه أبو داود (1197) والترمذي وحسنه (3891)، والضياء المقدسي (323)، وحسنه البغوي (1156). وانظر:«صحيح أبي داود» - الأم (4/ 357).
(3)
في سورة الأنبياء: 90.
(4)
في النسختين د، ت:«فإن» .
(5)
رقم (2512).
بالنفقة التي تحفظ الرهن، ويشقُّ
(1)
عليه أو يتعذّر رفعُه إلى الحاكم وإثباتُ الرهن وإثباتُ غيبة الراهن وإثباتُ أن
(2)
قدر نفقته عليه هي قدر حلبه وركوبه وطلبُه منه الحكمَ له بذلك، وفي هذا من العسر والحرج والمشقة ما ينافي الحنيفية السمحة؛ فشرع الشارع الحكيم القيِّم بمصالح العباد للمرتهن أن يشرب لبن الرهن ويركب ظهره وعليه نفقته، وهذا محض القياس لو لم تأتِ به السنة الصحيحة، وهو يخرج على أصلين:
أحدهما: أنه إذا أنفق على الرهن صارت النفقة دينًا على الراهن؛ لأنه واجب أدَّاه عنه، ويتعسَّر عليه الإشهاد على ذلك كلَّ وقت واستئذان الحاكم، فجوَّز له الشارع استيفاء دينه من ظَهر الرهن ودَرِّه، وهذا مصلحة محضة لهما، وهي بلا شك أولى من تعطيل منفعة ظَهْرِه وإراقة لبنه أو تركه يفسد في الحيوان ويُفسِده حيث يتعذّر الرفع إلى الحاكم، لا سيما ورَهْن الشاءِ ونحوها إنما يقع غالبًا بين أهل البوادي حيث لا حاكم، ولو
(3)
كان فلم يولِّ الله ولا رسوله الحاكمَ هذا الأمر.
الأصل الثاني: أن ذلك معاوضة في غَيبة أحد المعاوضين للحاجة والمصلحة الراجحة، وذلك أولى من الأخذ بالشفعة بغير رضا المشتري، لأن الضرر في ترك هذه المعاوضة أعظم من الضرر في ترك الأخذ بالشفعة. وأيضًا فإن المرتهن يريد حفظ الوثيقة لئلّا يذهب ماله، وذلك إنما يحصل ببقاء الحيوان، والطريق إلى ذلك إما النفقةُ عليه، وذلك مأذون فيه عرفًا كما
(1)
د: «ويشتطّ» .
(2)
«أن» ليست في ت.
(3)
ت: «فلو» .
هو مأذون فيه شرعًا.
وقد أُجرِي العرفُ مُجرَى النطق في أكثر من مائة موضع:
منها: نقد البلد في المعاملات، وتقديم الطعام إلى الضيف، وجواز تناول اليسير مما يسقط من الناس من مأكول وغيره، والشرب من خوابي [124/ب] السيل
(1)
ومصانعه في الطرق، ودخول الحمّام وإن لم يعقد عقد الإجارة مع الحمَّامي لفظًا
(2)
، وضرب الدابة المستأجَرة إذا حَرَنَتْ في السير، وإيداعها في الخان إذا قَدِمَ بلدة أو ذهب في حاجة، ودفع الوديعة إلى من جرت العادة بدفعها
(3)
إليه من امرأة أو خادم أو ولد، وتوكيل الوكيل لما لا يباشِر مثلَه بنفسه، وجواز التخلّي في دار من أذن له بالدخول إلى داره والشرب من مائه والاتكاء على الوسادة المنصوبة، وأكل الثمرة الساقطة من الغصن الذي على الطريق، وإذن المستأجر للدار لمن شاء من أصحابه وأضيافه في الدخول والمبيت والثَّواء
(4)
عنده والانتفاع بالدار وإن لم يتضمَّنهم عقد الإجارة لفظًا اعتمادًا على الإذن العرفي، وغَسْل القميص الذي استأجره للُّبس مدة يحتاج فيها إلى الغسل. ولو وكَّل غائبًا أو حاضرًا في بيع شيء والعرف قبض ثمنه ملك ذلك. ولو اجتاز بحرثِ غيره في الطريق ودَعَتْه الحاجة إلى التخلِّي فيه فله ذلك إذا لم يجد موضعًا سواه، إما لضيقِ الطريق أو لتتابع المارِّين فيها، فكيف بالصلاة فيه والتيمم بترابه؟
ومنها: ما لو رأى شاة غيره
(1)
تموت فذبحها حفظًا لماليتها عليه كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعًا، وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع من ذلك ويقول: هذا تصرُّفٌ في ملك الغير، ولم يعلم هذا اليابس أن التصرف في ملك الغير إنما حُرِّم لما فيه من الإضرار به، وتركُ التصرُّف ها هنا هو الإضرار.
ومنها: لو استأجر غلامًا فوقعت الأَكِلَةُ
(2)
في طَرَفه فتيقَّن أنه إن لم يقطعه سرتْ إلى نفسه فمات، جاز له قطعُه ولا ضمانَ عليه.
ومنها: لو رأى السيل يمرُّ بدار جاره فبادر ونقبَ حائطه وأخرج متاعه فحفظه عليه جاز ذلك، ولم يَضمَن نَقْبَ الحائط.
ومنها: لو قصد العدو مالَ جاره فصالحه ببعضه [125/أ] دفعًا عن بقيته
(3)
جاز، ولم يَضْمَن ما دفعه إليه
(4)
.
ومنها: لو وقعت النار في دار جاره فهدم جانبًا منها على النار لئلا تَسْرِي إلى بقيتها لم يَضْمَن.
ومنها: لو باعه صُبْرةً عظيمة
(5)
أو حطبًا أو حجارةً ونحو ذلك جاز له أن يدخل ملكه من الدوابّ والرجال ما ينقلها به، وإن لم يأذن له في ذلك لفظًا.
(1)
«غيره» ليست في د.
(2)
داء في العضو يأتكل منه.
(3)
د: «نفسه» تحريف.
(4)
هذه الفقرة ساقطة من ت.
(5)
ت: «صبرة طعام» .
ومنها: لو جَدَّ
(1)
ثماره أو حصدَ زرعه ثم بقي من ذلك ما يُرغَب عنه عادةً جاز لغيره التقاطُه وأخذه، وإن لم يأذن فيه لفظًا.
ومنها: لو وجد هَدْيًا مُشْعَرًا منحورًا ليس عنده أحد جاز له
(2)
أن يقتطع ويأكل منه.
ومنها: لو أتى إلى دار رجل جاز له طَرْقُ حلقة الباب عليه، وإن كان تصرفًا
(3)
في بابه لم يأذن له فيه لفظًا.
ومنها: الاستناد إلى جداره
(4)
والاستظلال به.
ومنها: الاستمداد من مِحْبرته، وقد أنكر أحمد على من استأذنه في ذلك.
وهذا أكثر من أن نحصره، وعليه يُخرَّج حديث عروة بن الجعد البارقي حيث أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى شاتين بدينار، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بالدينار والشاة الأخرى
(5)
، فباع وأقبض وقبض بغير إذن لفظي اعتمادًا منه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع، ولا إشكالَ بحمد الله في هذا الحديث بوجهٍ ما، وإنما الإشكال في استشكاله؛ فإنه جارٍ على محض القواعد كما عرفته.
(1)
ت: «حذ» .
(2)
«له» ليست في ت.
(3)
ت: «تصرف» .
(4)
ت: «داره» .
(5)
رواه البخاري (3642).
فصل
ومن هذا: الشرط العرفي كاللفظي، وذلك كوجوب نقد البلد عند
(1)
الإطلاق، ووجوب الحلول حتى كأنه مشترط لفظًا فانصرف العقد بإطلاقه إليه وإن لم يقتضِه
(2)
لفظه.
ومنها: السلامة من العيوب حتى سُوِّغ له الرد بوجود العيب تنزيلًا لاشتراط سلامة المبيع عرفًا منزلةَ اشتراطها لفظًا.
ومنها: وجوب وفاء المُسْلَم
(3)
فيه في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظًا بناء على الشرط [125/ب] العرفي.
ومنها: لو دفع ثوبه إلى من يعرف أنه يغسل أو يَخِيط بالأجرة، أو عجينَه لمن يخبزه
(4)
، أو لحمًا لمن يطبخه، أو حبًّا لمن يطحَنُه، أو متاعًا لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصبَ نفسه للأجرة على ذلك وجب له أجرة مثله، وإن لم يشترط معه ذلك لفظًا عند جمهور أهل العلم، حتى عند المنكرين لذلك؛ فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العملُ إلا به.
بل ليس يقف الإذنُ فيما يفعله الواحد من هؤلاء وغيرهم على صاحب المال خاصة؛ لأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا جاز
(1)
ت: «على» .
(2)
ت: «لم يقتضيه» .
(3)
ت: «السلم» .
(4)
ت: «يخبزها» .
لأحدهم ضمُّ اللقطة وردُّ الآبق وحفظ الضالَّة، حتى إنه يَحْسِب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقطة ويُنزِّل إنفاقَه عليها منزلةَ إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظًا لمال أخيه وإحسانًا إليه؛ فلو علم المتصرِّف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلًا في حكم الشرع لما أقدمَ على ذلك، ولضاعت مصالح الناس، ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضا، وتعطَّلت حقوق كثيرة، وفسدت أموال عظيمة. ومعلومٌ أن شريعة من بَهَرت العقولَ شريعتُه وفاقت كلَّ شريعة واشتملت على كل مصلحة وعطَّلت كل مفسدة تأبى ذلك كلَّ الإباء.
وأين هذا من إجازة أبي حنيفة تصرُّف الفضولي ووقفَ العقود تحصيلًا لمصلحة المالك، ومَنْعِ المرتهن من الركوب والحلب بنفقته؟ فيا لله العجب! يكون هذا الإحسان للراهن وللحيوان ولنفسه بحفظ الرهن حرامًا لا اعتبارَ به شرعًا مع إذن الشارع فيه لفظًا وإذن المالك عرفًا، وتصرُّف الفضولي معتبرًا مرتَّبًا عليه حكمه! هذا، ومن المعلوم أنّا في إبراء الذِّمم أحوجُ منا إلى العقود على أولاد الناس وبناتهم وإمائهم [126/أ] وعبيدهم ودورهم وأموالهم؛ فالمرتهن محسن بإبراء ذمة المالك من الإنفاق على الحيوان، مؤدٍّ لحقّ الله فيه ولحقّ مالكه ولحقّ الحيوان ولحقّ نفسه، متناولٌ ما أذن له فيه الشارع من العوض بالدَّرّ والظَّهر. وقد أوجب الله سبحانه على الآباء إيتاء المراضع أجرهن بمجرد الإرضاع، وإن لم يعقدوا معهن عقد إجارة؛ فقال تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].
فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بما لو كان الرهن دارًا فخرِبَ بعضها فعَمَرَها ليحفظ الرهن؛ فإنه لا يستحق السكنى عندكم بهذه العمارة، ولا
يرجع بها.
قيل: ليس كذلك، بل يحتسب له بما أنفقه؛ لأنّ فيه إصلاحَ الرهن، ذكره القاضي وابنه وغيرهما. وقد نصّ الإمام أحمد
(1)
في رواية [ابن] أبي حرب الجرجرائي
(2)
في رجل عمل في قناة رجل بغير إذنه، فاستخرج الماء: لهذا الذي عمِلَ نفقته
(3)
إذا عمِلَ ما يكون منفعة لصاحب القناة. هذا مع أن الفرق بين الحيوان والدار ظاهر؛ لحاجة الحيوان إلى الإنفاق ووجوبه على مالكه، بخلاف عمارة الدار، فإن صحَّ الفرق بطل السؤال، وإن بطل الفرق ثبت الاستواء في الحكم.
فإن قيل: في هذا مخالفةٌ للأصول من وجهين:
أحدهما: أنه إذا أدَّى عن غيره واجبًا بغير إذنه كان متطوّعًا، ولم يلزمه القيام له بما أدَّاه عنه.
الثاني: أنه لو لزمه عوضُه فإنما يلزمه نظير ما أدَّاه، فأما أن يُعاوَض عليه بغير جنس ما أدَّاه بغير اختياره فأصول الشرع تأبى ذلك.
قيل: هذا هو الذي رُدَّتْ به هذه السنة، ولأجله تأوَّلها من تأوَّلها على أن المراد بها أن النفقة على المالك، فإنه الذي يركب ويشرب، وجعل الحديث دليلًا على جواز تصرُّف الراهن في الرهن بالركوب والحلب وغيره، ونحن
(1)
كما في «الروايتين والوجهين» لأبي يعلى (1/ 368).
(2)
في المصدر السابق: «أبو جعفر محمد بن حرب الجرجاني» . وهو خطأ. انظر: «طبقات الحنابلة» (1/ 331).
(3)
د: «أجر نفقته» . والمثبت من ت موافق لما في «الروايتين» .
نبيِّن ما في هذين الأصلين من حق وباطل.
فأما الأصل الأول فقد دلَّ على فساده القرآن والسنة وآثار الصحابة والقياس [126/ب] الصحيح ومصالح العباد:
أما القرآن فقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقد تقدم تقرير الدلالة منه. وقد اعترض بعضهم على هذا الاستدلال بأن المراد به أجورهن المسمَّاة فإنه أمرٌ لهم بوفائها، لا أمرٌ لهم بإيتاء ما لم يسمُّوه من الأجرة، ويدلُّ عليه قوله تعالى:{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]، وهذا التعاسر إنما يكون حالَ العقد بسبب طلبِها الشططَ من الأجر أو حطَّها عن أجرة المثل. وهذا اعتراض فاسد؛ فإنه ليس في الآية ذكر التسمية، ولا يدلُّ عليها بدلالة من الدلالات الثلاث، أما اللفظيتان فظاهر، وأما اللزومية فلِانفكاكِ التلازم بين الأمر بإيتاء الأجر وبين تقدُّم تسميتِه. وقد سمَّى الله سبحانه ما يؤتيه العامل على عمله أجرًا وإن لم يتقدم له تسمية، كما قال تعالى عن خليله:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، ومعلوم أن الأجر
(1)
ما يعود إلى العامل عوضًا عن عمله؛ فهو كالثواب الذي يثوب إليه أي يرجع من عمله، وهذا ثابت سواء سُمِّي أو لم يُسَمَّ.
وقد نصّ الإمام أحمد
(2)
على أنه إذا افتدي الأسير رجع عليه بما غرمه
(1)
ت: «الأجرة» .
(2)
كما في «الروايتين والوجهين» (2/ 375 - 376).
عليه، ولم يختلف قوله فيه. واختلف قوله
(1)
فيمن قَضَى دَينَ غيره عنه بغير إذنه؛ فنصّ في موضع على أنه يرجع عليه، فقيل له: هو متبرع بالضمان، فقال: وإن كان متبرعًا بالضمان. ونصَّ في موضع آخر على
(2)
أنه لا يرجع، فإنه قال: إذا لم يقل اقضِ عني ديني كان متبرعًا، ونصَّ على أنه يرجع على السيد بنفقة عبده الآبق إذا ردَّه، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى عامله في سَبْي العرب ورقيقهم، وقد كان التجَّار اشتروه فكتب إليه: أيُّما حرٍّ اشتراه التجَّار فاردُدْ عليهم رؤوسَ [127/أ] أموالهم
(3)
.
وقد قيل: إن جميع الفرق تقول بهذه المسألة وإن تناقضوا ولم يَطْردوها:
فأبو حنيفة يقول: إذا قضى بعض الورثة دَينَ الميت ليتوصَّل بذلك إلى أخذ حقه من التركة بالقسمة فإنه يرجع على التركة بما قضاه، وهذا واجبٌ قد أدّاه عنه غيرُه بغير إذنه، وقد رجع به. ويقول: إذا بنى صاحب العُلْوِ والسُّفْلِ بغير إذن المالك لزِم الآخرَ غرامةُ ما يخصُّه. وإذا أنفق المرتهن على الرهن في غَيبة الراهن رجع بما أنفق. وإذا اشترى اثنان من واحد عبدًا بألفٍ فغاب أحدهما فأدَّى الحاضرُ جميعَ الثمن ليتسلَّم العبدَ كان له الرجوع.
والشافعي يقول: إذا أعار عبدًا لرجلٍ ليرهنَه فرهنه ثم إن صاحب الرهن
(1)
انظر: «المغني» (7/ 89، 90).
(2)
«على» ليست في ت.
(3)
رواه سعيد بن منصور (2803) والبيهقي (9/ 112)، وهو مرسل؛ لأن الشعبي لم يدرك عمر.
قضى الدين بغير إذن المستعير وافتكَّ الرهنَ رجع بالحق. وإذا استأجر جِمالًا ليركبها فهربَ الجَمَّال فأنفق المستأجر على الجِمال رجع بما أنفق. وإذا ساقى رجلًا على نخله فهرب العامل فاستأجر صاحبُ النخل من يقوم مقامَه رجع عليه به. واللقيط إذا أنفق عليه أهل المحلَّة ثم استفاد مالًا رجعوا عليه. وإن أذن له في الضمان فضمن ثم أدّى الحق بغير إذنه رجع عليه.
وأما المالكية والحنابلة فهم أعظم الناس قولًا بهذا الأصل، والمالكية أشدُّ قولًا به.
ومما يوضِّح ذلك أن الحنفية قالوا في هذه المسائل: إن هذه الصور كلها أحوجَتْه إلى استيفاء حقّه أو حفظ ماله؛ فلولا عمارة السُّفْل لم يثبت العُلْو، ولو لم يقضِ الوارث الغرماء لم يتمكَّن مِن أخذ حقه من التركة بالقسمة، ولو لم يحفظ الرهن بالعَلف لتَلِفَ محلُّ الوثيقة، ولو لم يستأجر على الشجر من يقوم مقام العامل لتعطَّلت الثمرة، وحقه متعلق بذلك كله، فإذا أنفق كانت نفقته ليتوصَّل إلى حقه. بخلاف من أدَّى دينَ غيره فإنه [127/ب] لا حقَّ له هناكَ يتوصَّل إلى استيفائه بالأداء؛ فافترقا. وتبيّن أن هذه القاعدة لا تلزمنا، وأن من أدّى عن غيره واجبًا من دين أو نفقة على قريب أو زوجة فهو إما فضولي وهو جدير بأن يفوت عليه ما فوَّته على نفسه، أو متفضل فحوالته على الله دون من تفضَّل عليه؛ فلا يستحق مطالبته.
وزادت الشافعية وقالت: لما ضَمِن له المُؤْجِر تحصيلَ منافع الجمال، ومعلوم أنه لا يمكنه استيفاء تلك المنافع إلا بالعلف؛ دخل في ضمانه لتلك المنافع إذنُه له في تحصيلها بالإنفاق عليها ضمنًا وتبعًا، فصار ذلك مستحقًّا عليه بحكم ضمانه عن نفسه لا بحكم ضمان الغير عنه.
يوضّحه أن المؤجر والمساقي قد علما أنه لا بدّ للحيّ من قَوَّام، ولا بدّ للنخيل من سقْيٍ وعملٍ عليها؛ فكأنه قد حصل الإذن فيها في الإنفاق عرفًا، والإذن العرفي يجري مجرى الإذن اللفظي، وشاهده ما ذكرتم من المسائل.
فيقال: هذا من أقوى الحجج عليكم في مسألة علف المرتهن للرهن، واستحقاقه للرجوع بما غرمه، وهذا نصف المسافة، وبقي نصفها الثاني، وهو المعاوضة عليها بركوبه وشربه، وهي أسهل المسافتين وأقربهما؛ إذ غايتها تسليط الشارع له على هذه المعاوضة التي هي من مصلحة الراهن والمرتهن والحيوان، وهي أولى من تسليط الشفيع على المعاوضة عن الشِّقْص المشفوع لتكميل ملكه وانفراده به، وهي أولى من المعاوضة في مسألة الظفر بغير اختيارِ مَن عليه الحق؛ فإن سبب الحق فيها ليس ثابتًا، والآخذ ظالم في الظاهر، ولهذا منعه النبي صلى الله عليه وسلم من الأخذ وسماه خائنًا بقوله:«أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنَك، ولا تخُنْ من خانك»
(1)
. وأما ههنا فسبب الحق ظاهر، وقد أذن في المعاوضة للمصلحة التي فيها، [128/ب] فكيف تَمنع هذه المعاوضةَ التي سبب الحق فيها ظاهر وقد أذن فيها الشارع، وتُجوِّز تلك المعاوضة التي سبب الحق فيها غير ظاهر وقد منع منها الشارع؟ فلا نصّ ولا قياس.
ومما يدلُّ على أن من أدّى عن غيره واجبًا أنه يرجع عليه به قولُه تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وليس من جزاء هذا
(1)
رواه أبو داود (3535) والترمذي وحسنه (1264) والبزار (9002)، وصححه الحاكم (2/ 46)، وفي الباب عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما. وانظر:«الإرواء» (5/ 381) و «السلسلة الصحيحة» (423).
المحسن بتخليصه من أحسن إليه
(1)
بأداء دَينه وفكِّ أسْره منه وحلِّ وثاقِه أن يضيع عليه معروفُه وإحسانه، وأن يكون جزاؤه منه بإضاعة ماله ومكافأته عليه بالإساءة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَن أسدى إليكم معروفًا فكافِئوه»
(2)
، وأيُّ معروفٍ فوق معروف هذا الذي افْتكَّ أخاه من أَسْر الدين؟ وأي مكافأة أقبح من إضاعة ماله عليه وذهابه؟ وإذا كانت الهدية التي هي تبرُّعٌ محض قد شُرِعت المكافأة عليها وهي من أخلاق المؤمنين، فكيف يُشرع جواز ترك المكافأة على ما هو من أعظم المعروف؟ وقد عقد الله سبحانه الموالاة بين المؤمنين وجعل بعضهم أولياء بعض، فمن أدّى عن وليّه واجبًا كان نائبَه فيه بمنزلة وكيلِه ووليِّ من أقامه الشرع للنظر في مصالحه لضعفه أو عجزه.
ومما يوضِّح ذلك أن الأجنبي لو أقرض ربَّ الدين قدْرَ دينه وأحاله به
(3)
على المدين ملك ذلك، وأيُّ فرقٍ شرعي أو معنوي بين أن يوفِّيه ويرجع به على المدين أو يُقرِضه ويحتال به على المدين؟ وهل تفرِّق الشريعة المشتملة على مصالح العباد بين الأمرين؟ ولو تعيَّن عليه ذبح هدي أو أضحية فذبحها أجنبي بغير إذنه أجزأَتْ
(4)
وتأدَّى الواجب بذلك، ولم تكن ذبيحة غاصب، وما ذاك إلا لكون الذبح قد وجب عليه فأدَّى هذا
(1)
«بتخليصه من أحسن إليه» ساقطة من ت.
(2)
رواه أبو داود (1672) والنسائي (2567) وأحمد (5365)، وصححه ابن حبان (3408) والحاكم (1/ 412) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. انظر:«السلسلة الصحيحة» (254).
(3)
«به» ليست في ت.
(4)
ت: «أجزأ» .
الواجبَ غيرُه وقام مقام تأديته هو بحكم النيابة عنه شرعًا. وليس الشأن [128/ب] في هذه المسألة لوضوحها واقتضاء أصول الشرع وفروعه لها، وإنما الشأن فيمن عمِلَ في مال غيره عملًا بغير إذنه ليتوصَّل بذلك العمل إلى حقه، أو فَعَله حفظًا لمال المالك واحترازًا له من الضياع؛ فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله.
وقد نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه في عدة مواضع:
منها: أنه إذا حصد زرعه في غَيبته فإنه نص على أنه يرجع عليه بالأجرة. وهذا من أحسن الفقه، فإنه إذا مرض أو غابَ أو حُبِس
(1)
فلو ترك زرعه بلا حصاد لهلك وضاع، فإذا علم من يحصده له أنه يذهب عليه عمله ونفقته ضياعًا لم يقدم على ذلك، وفي ذلك من إضاعة المال وإلحاق الضرر بالمالك ما تأباه الشريعة الكاملة؛ فكان من أعظم محاسنها أن أذنت للأجنبي في حصاده والرجوع على مالكه بما أنفق عليه حفظًا لماله ومال المحسن إليه، وفي خلاف ذلك إضاعة لماليهما أو مال أحدهما.
ومنها: ما نص عليه فيمن عمل في قناة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء، قال: لهذا الذي عمِلَ نفقتُه.
ومنها: لو انكسرت سفينته فوقع متاعه في البحر فخلَّصه رجل فإنه لصاحبه، وله عليه أجرُ مثلِه. وهذا أحسن من أن يقال: لا أجر له؛ فلا تطيب نفسه بالتعرُّض للتلَف والمشقة
(2)
الشديدة ويذهب عمله باطلًا أو يذهب
مال الآخر ضائعًا، وكل منهما فساد محض، والمصلحة في خلافه ظاهرة. والمؤمنون يرون قبيحًا أن يذهب عملُ هذا ضائعًا ومال هذا ضائعًا، ويرون من أحسن الحسن أن يَسلَم مال هذا وينجح سعي هذا، والله الموفق.
المثال الحادي والسبعون: ردُّ السنة الثابتة الصريحة المحكمة في صحة
(1)
ضمان دَين الميت الذي لم يُخلِّف وفاء، كما في «الصحيحين» عن أبي قتادة قال:[129/أ] أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة ليصلّي عليها، فقال:«أعليه دين؟» فقالوا: نعم، ديناران، فقال:«أتركَ لهما وفاءً؟» قالوا: لا، قال:«صلُّوا على صاحبكم» ، فقال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسول الله، فصلَّى عليه
(2)
.
فردّت هذه السنة برأي لا يقاومها، وهو أن الميت قد خَرِبتْ ذمته؛ فلا يصح ضمان شيء خراب في محل خراب، بخلاف الحي القادر فإن ذمته بصدد العمارة، فصحَّ ضمان دينه وإن لم يكن له
(3)
وفاء في الحال، وأما إذا خلَّف وفاء فإنه يصح الضمان تنزيلًا لذمته بما خلَّفه من الوفاء منزلةَ الحي القادر. قالوا: وأما الحديث فإنما هو إخبار عن ضمان متقدم على الموت؛ فهو إخبار منه بالتزام سابق، لا إنشاء للالتزام حينئذٍ.
(1)
«صحة» ليست في د.
(2)
رواه النسائي (1962) والترمذي (1069) وأحمد (22543)، وصححه الترمذي وابن حبان (3058). وأخرجه أبو داود (3343) من حديث جابر، وصححه ابن حبان (3064) والحاكم (2/ 58). وأما البخاري (2289) فرواه من حديث سلمة بن الأكوع بلفظ:«قالوا عليه ثلاثة دنانير» . وأخرجه مسلم (1619) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
«له» ليست في ت.
وليس في ذلك ما تُردُّ به السنة الصحيحة
(1)
الصريحة، ولا يصحّ حملها على الإخبار لوجوه:
أحدها: أن في بعض ألفاظ الحديث: «فقال أبو قتادة: أنا أتكفَّل به يا رسول الله، فصلى عليه» . رواه النسائي
(2)
بإسناد صحيح.
الثاني: أن في بعض طرق البخاري
(3)
: «فقال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله وعليَّ دينُه» . فقوله: «وعليَّ دينُه» كالصريح في الالتزام أو صريح فيه؛ فإن هذه الواو للاستئناف، وليس قبلها ما يصح أن يُعطف ما بعدها عليه، كما لو قال: صلِّ عليه وأنا ألتزم ما عليه أو وأنا ملتزم ما عليه.
الثالث: أن الحكم لو اختلف لقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل ضمِنتَ ذلك في حياته أو بعد موته؟ ولا سيما فإن الظاهر منه الإنشاء، وأدنى الأحوال أن يحتملهما على السواء، فإذا كان أحدهما باطلًا في الشرع والآخر صحيحًا فكيف يُقِرُّه على قول محتمل لحق وباطل ولم يستفصله عن مراده به
(4)
؟
الرابع: أن القياس يقتضي صحة الضمان وإن لم يُخلِّف وفاء، فإن من صح ضمان دينه إذا خلَّف وفاء صح ضمانه وإن لم يكن له مال كالحي. وأيضًا [129/ب] فمن صحَّ ضمان دينه حيًّا صح ضمان دينه ميتًا. وأيضًا فإن الضمان لا يوجب الرجوع، وإنما يوجب مطالبة ربّ الدين للضامن، فلا فرق
(1)
«الصحيحة» ليست في د.
(2)
رقم (4692).
(3)
رقم (2289).
(4)
«به» ليست في ت.
بين أن يخلّف الميت وفاء أو لم يخلّفه. وأيضًا فالميت أحوجُ إلى ضمان دَينه من الحيّ لحاجته إلى تبريد جلدته ببراءة ذمته وتخليصه من ارتهانه بالدين. وأيضًا فإن ذمة الميت وإن خرِبتْ من وجه ــ وهو تعذُّر
(1)
مطالبته ــ لم تخرَبْ من جهة بقاء الحق فيها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس من ميّتٍ يموت إلا وهو مرتهنٌ بدَينه»
(2)
، ولا يكون مرتهنًا وقد خربت ذمته. وأيضًا فإنه لو
(3)
خرِبت ذمته لبطل الضمان بموته؛ فإن الضامن فرعه، وقد خربت ذمة الأصل، فلما استُدِيم
(4)
الضمان ولم يبطل بالموت عُلِم أن الضمان لا ينافي الموت؛ فإنه لو نافاه ابتداءً لنافاه استدامةً؛ فإن هذا من الأحكام التي لا يفرَّق فيها بين الدوام والابتداء لاتحاد سبب الابتداء والدوام فيها. فظهر أن القياس المحض مع السنة الصحيحة، والله الموفق.
المثال الثاني والسبعون: ترك السنن الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في جمع التقديم والتأخير بين الصلاتين للعذر، كحديث أنس:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تَزِيغَ الشمس أخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما»
(5)
. وفي لفظٍ له: «كان رسول الله
(6)
صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخَّر الظهر حتى يدخل وقت العصر،
(1)
ت: «متعذر» .
(2)
رواه الدارقطني (2984) والبيهقي (6/ 73). قال البيهقي: عطاء بن عجلان ضعيف، والروايات في تحمل أبي قتادة دين الميت أصح.
(3)
ت: «ولو» .
(4)
ت: «استدمتم» .
(5)
رواه البخاري (1111) ومسلم (704).
(6)
د: «النبي» .
ثم يجمع بينهما»
(1)
. وهو في «الصحيحين» .
وكقول معاذ بن جبل: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زَيْغ الشمس أخَّر الظهر حتى يجمعها مع العصر فيصلّيهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زَيْغ الشمس صلَّى [130/أ] الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخَّر المغرب حتى يصلِّيها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجَّل العشاء فصلّاها مع المغرب» . وهو في السنن و «المسند»
(2)
، وإسناده صحيح، وعلته واهية
(3)
.
وكقول ابن عباس: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زاغت الشمس في منزله جمعَ بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تَزِغْ في منزله سار، حتى إذا حانت
(4)
العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء، وإذا لم تَحِنْ
(5)
في منزله ركب، حتى إذا كان العشاء نزل فجمع بينهما»
(6)
. وهذا متابع لحديث معاذ، وفي بعض طرق هذا الحديث:
(1)
هذا لفظ مسلم (704/ 47).
(2)
رواه أبو داود (1220) والترمذي وقال: حسن غريب (553، 554) وأحمد (22094)، وصححه ابن حبان (1458) والبيهقي (3/ 162). انظر:«صحيح أبي داود» - الأم (4/ 381).
(3)
كذا قال، وأشار إلى علته البخاري والترمذي وأبو حاتم وغيرهم. انظر:«تنقيح التحقيق» (2/ 536) ط. المعرفة، والتلخيص الحبير (2/ 102) و «المحرر» لابن عبد الهادي (2/ 4).
(4)
د، ت:«جاءت» هنا وفيما يلي. والتصويب من «المسند» .
(5)
في النسختين: «لم تجيء» . والتصويب من «المسند» .
(6)
رواه أحمد (3480) والطبراني (11522) والدارقطني (1450)، وفي إسناده حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس متكلم فيه، ولكن له شاهد من حديث معاذ، وروي عن ابن عباس من وجه آخر. انظر:«الإرواء» (3/ 28).
«وإذا سافر قبل أن تزول الشمس أخَّر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر»
(1)
.
كقول ابن عمر وقد أخَّر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما ثم أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا جدَّ به السيرُ
(2)
.
وكلُّ هذه سننٌ في غاية الصحة والصراحة، ولا معارضَ لها؛ فرُدَّت بأنها أخبار آحاد، وأوقات الصلوات ثابتة بالتواتر، كحديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وصلاته به كلَّ صلاة في وقتها ثم قال:«الوقتُ ما بين هذين»
(3)
. فهذا في أول الأمر بمكة، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالسائل في المدينة سواءً، صلَّى به كل صلاة
(4)
في أول وقتها وآخره وقال: «الوقت ما بين هذينِ»
(5)
. وقال في حديث عبد الله بن عمرو: «وقتُ صلاة الظهر ما لم تحضر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفرَّ الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط
(1)
رواه الشافعي في مسنده (530) ومن طريقه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (4/ 293) والبغوي (4/ 195). وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى متكلم فيه، وحسين بن عبد الله السابق.
(2)
رواه البخاري (1091) ومسلم (903).
(3)
رواه أبو داود (393) والترمذي (149) وأحمد (3081) من حديث ابن عباس، وإسناده حسن. وفي الباب عن جابر وغيره.
(4)
«سواء
…
صلاة» ساقطة من ت.
(5)
رواه مسلم (614) من حديث أبي موسى الأشعري.
ثَوْر
(1)
الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل»
(2)
. وقال: «وقتُ كل صلاة ما لم يدخل وقتُ التي تليها»
(3)
. ويكفي قوله للسائل وقد سأله عن المواقيت ثم بيَّنها له بفعله: «الوقتُ [129/ب] فيما بين
(4)
هذين». فهذا بيان بالقول والفعل.
وهذه أحاديث محكمة صحيحة صريحة
(5)
في تفصيل الأوقات مجمع عليها بين الأمة، وجميعهم احتجوا بها في أوقات الصلاة، فقدَّمتم عليها أحاديث مجملة محتملة في الجمع غير صريحة فيه؛ يجوز أن يكون المراد بها الجمع في الفعل، وأن يراد بها الجمع في الوقت، فكيف يُترك الصريح المبين للمجمل
(6)
المحتمل؟ وهل هذا إلا تركٌ للمحكم وأخذٌ بالمتشابه، وهو عين ما أنكرتموه في هذه الأمثلة؟
فالجواب
(7)
أن يقال: الجميع
(8)
حق؛ فإنه من عند الله، وما كان من عند الله فإنه لا يختلف، فالذي وقَّت هذه المواقيت وبيَّنها بقوله وفعله هو الذي شَرَع الجمع بقوله وفعله؛ فلا يؤخذ ببعض السنة ويُترك بعضها.
(1)
د: «نور» ، وليست في ت. والتصحيح من «صحيح مسلم». وثور الشفق: ثورانه وانتشاره.
(2)
رواه مسلم (612).
(3)
بمعناه عند مسلم (681) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(4)
ت: «ما بين» .
(5)
ت: «صريحة صحيحة» .
(6)
ت: «المجمل» .
(7)
ت: «الجواب» .
(8)
ت: «الجمع» .
والأوقات التي بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله نوعان بحسب حال أربابها: أوقات السعة والرفاهية، وأوقات العذر والضرورة، ولكل منها أحكام تخصُّها. وكما أن واجبات الصلاة وشروطها تختلف باختلاف القدرة والعجز فهكذا أوقاتها، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم وقت النائم والذاكر حين يستيقظ ويذكر، أيّ وقتٍ كان
(1)
، وهذا غير الأوقات الخمسة. وكذلك جعل أوقات المعذورين ثلاثة: وقتين مشتركين، ووقتًا مختصًّا؛ فالوقتان المشتركان لأرباب الأعذار هما أربعة لأرباب الرفاهية، ولهذا جاءت الأوقات في كتاب الله نوعين
(2)
خمسة وثلاثة في نحو عشر آيات من القرآن، فالخمسة لأهل
(3)
الرفاهية والسعة، والثلاثة لأرباب الأعذار، وجاءت السنة بتفصيل ذلك وبيانه وبيان أسبابه، فتوافقت دلالة القرآن والسنة والاعتبار الصحيح الذي هو مقتضى حكمة الشريعة وما اشتملت [131/أ] عليه من المصالح.
فأحاديث الجمع مع أحاديث الإفراد بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع أحاديث الشروط والواجبات؛ فالسنة يبيِّن بعضُها بعضًا، لا يُردّ بعضُها ببعض. ومن تأمَّل أحاديث الجمع وجدها كلها صريحةً في جمع الوقت لا في جمع الفعل، وعَلِم أن جمع الفعل أشقُّ وأصعبُ من الإفراد بكثير؛ فإنه ينتظر بالرخصة أن يبقى من وقت الأولى قدرُ فعلِها فقط، بحيث إذا سلّم منها دخل وقت الثانية فأوقع كل واحدة منهما في وقتها، وهذا أمر
(4)
في غاية العسر
(1)
رواه البخاري (597) ومسلم (684) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
ت: «نوعان» .
(3)
ت: «الأهل و» .
(4)
ت: «أمره» .
والحرج والمشقة، وهو منافٍ لمقصود الجمع، وألفاظ السنة الصريحة تردُّه كما تقدم، وبالله التوفيق.
المثال الثالث والسبعون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بخمسٍ متصلة وسبعٍ متصلة، كحديث أم سلمة:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع وبخمس لا يفصِلُ بينهن بسلام ولا كلام» . رواه أحمد
(1)
.
وكقول عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمسٍ، لا يجلس إلا في آخرهن» . متفق عليه
(2)
.
وكحديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي من الليل تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلّم، ثم يقوم فيصلّي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلّم تسليمًا يُسمِعنا، ثم يصلّي ركعتين بعدما يسلّم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول
(3)
»
(4)
. وفي لفظٍ عنها: «فلما أسنَّ وأخذه اللحم أوتر
(5)
(1)
رواه أحمد (26486) والنسائي (1714) وابن ماجه (1192)، وفي إسناده الحكم لم يسمع من مِقسَم إلا أربعة أحاديث وهذا ليس منها، وقد اختلف عنه فرواه بعضٌ عن الحكم عن مقسم عن أم سلمة، ورواه آخرون عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن أم سلمة رضي الله عنهم. انظر:«العلل» للدارقطني (15/ 205).
(2)
رواه مسلم (737)، والشطر الأول منه عند البخاري (1140).
(3)
ت: «صنيعه في الركعتين» . وعند مسلم: «صنيعه الأول» .
(4)
رواه مسلم (746).
(5)
ت: «صلى» .
بسبع ركعات، لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلِّم إلا في السابعة»
(1)
. وفي لفظٍ: «صلَّى بسبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن»
(2)
. وكلها أحاديث صحاح صريحة لا معارض لها.
فرُدَّتْ [131/ب] بقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى»
(3)
. وهو حديث صحيح، ولكن الذي قاله هو الذي أوتر بالسبع والخمس، وسننه
(4)
كلها حق يصدِّق بعضُها بعضًا؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاب السائل له عن صلاة الليل بأنها مثنى مثنى، ولم يسأله عن الوتر، وأما السبع والخمس والتسع والواحدة فهي صلاة الوتر، والوتر اسم للواحدة المنفصلة مما قبلها، وللخمس والسبع والتسع المتصلة، كالمغرب اسم للثلاث المتصلة، فإن انفصلت الخمس والسبع والتسع بسلامينِ كالإحدى عشرة كان الوتر اسم الركعة المفصولة وحدها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«صلاة الليل مَثنى مَثنى، فإذا خشي الصبحَ أوتر بواحدة تُوتِر له ما صلَّى»
(5)
. فاتفق فعله صلى الله عليه وسلم وقوله، وصدَّق بعضه بعضًا، وكذلك يكون ليس إلّا. وإن حصل تناقضٌ فلا بدَّ من أحد أمرين:
إمّا أن يكون أحد الحديثين ناسخًا للآخر، أو ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان الحديثان من كلامه وليس أحدهما منسوخًا فلا تناقضَ ولا
(1)
رواه أبو داود (1342).
(2)
رواه النسائي (1718).
(3)
سيأتي تخريجه.
(4)
د: «وسنته» .
(5)
رواه البخاري (472) ومسلم (749) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
تضادَّ هناك البتة، وإنما يُؤتى من يُؤتى هناك
(1)
من قِبَلِ فهمه وتحكيمه آراء الرجال وقواعد المذهب على السنة؛ فيقع الاضطراب والتناقض والاختلاف، والله المستعان
(2)
.
* * * *
(1)
«هناك» ليست في ت.
(2)
إلى هنا انتهت نسخة ت.