المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

الفصل: ‌ ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة

نفلها، ولهذا يُستحبُّ عقدُه في المساجد، ويُنهى عن البيع فيها، ومن يشرِط له لفظًا بالعربية راعى فيه ذلك إلحاقًا له بالأذكار المشروعة، ومثل هذا لا يجوز الهزل به، فإذا تكلّم به رتّب الشارع عليه حكمه وإن لم يقصده، بحكم ولاية الشارع على العبد، فالمكلَّف قصد السبب، والشارع قصد الحكم، فصارا مقصودين كليهما

(1)

.

فصل

وقد ظهر بهذا أن‌

‌ ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة

، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة الله ورسوله. ولم يُؤمَر أن ينقَّب عن قلوبهم ولا أن يُشقَّ بطونهم، بل يجري عليهم أحكام الله

(2)

في الدنيا إذا دخلوا في دينه، ويجري أحكامه [43/أ] في الآخرة على قلوبهم ونياتهم، فأحكام الدنيا على الإسلام، وأحكام الآخرة على الإيمان، ولهذا قبِلَ إسلام الأعراب، ونفَى عنهم أن يكونوا مؤمنين، وأخبر أنه لا ينقُصهم مع ذلك من ثواب طاعتهم لله ورسوله شيئًا، وقبِلَ إسلام المنافقين ظاهرًا، وأخبر أنهم لا ينفعهم يوم القيامة شيئًا، وأنهم في الدرك الأسفل من النار. فأحكام الرب جل جلاله جارية على ما يُظهِر العباد، ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه كما تقدم تفصيله.

وأما قصة المُلاعن فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال بعد أن ولدت الغلام على شبه الذي رُمِيَتْ به: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» ، فهذا ــ والله

(1)

كذا في النسختين. وفي «بيان الدليل» : «فصار الجميع مقصودًا» .

(2)

ز: «أحكام الله عليهم» .

ص: 622

أعلم ــ إنما أراد به لولا حكم الله بينهما باللعان لكان شَبَهُ الولد بمن رُمِيتْ به يقتضي حكمًا آخر غيره، ولكن حكم الله باللعان ألغى حكم هذا الشبه، فإنهما دليلان، وأحدهما أقوى من الآخر؛ فكان العمل به واجبًا. وهذا كما لو تعارض دليل الفراش ودليل الشبه، فإنا نُعمِل دليل الفراش ولا نلتفت إلى الشبه بالنص والإجماع، فأين في هذا ما يُبطِل المقاصد والنيات والقرائن التي لا معارضَ لها؟ وهل يلزم من بطلان الحكم بقرينة قد عارضها ما هو أقوى منها بطلانُ الحكم بجميع القرائن؟ وسيأتي دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن واعتبارها في الأحكام. وأما إنفاذه للحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب فليس في الممكن شرعًا غيرُ هذا، وهذا شأن عامة المتداعين، لا بدَّ أن يكون أحدهما مُحِقٌّ والآخر مُبطِل

(1)

، وينفذ حكم الله عليهما تارةً بإثبات حق المحق وإبطال باطل المبطل، وتارةً بغير ذلك إذا لم يكن مع المحقّ دليل.

وأما حديث ركانة لما طلّق امرأته البتةَ وأحلفه النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما أراد واحدةً

(2)

، فمن أعظم الأدلة على صحة هذه القاعدة، وأن الاعتبار في العقود بنيات أصحابها ومقاصدهم وإن خالفت ظواهرَ ألفاظهم؛ فإن لفظ البتة يقتضي أنها قد بتَّتْ منه وانقطع التواصل الذي كان بينهما بالنكاح، وأنه لم يبقَ له عليها رجعة، بل بانت منه البتةَ كما يدل عليه لفظ البتة لغةً وعرفًا، ومع هذا فردَّها عليه، وقَبِلَ قوله أنها واحدة مع مخالفة الظاهر اعتمادًا على قصده ونيته، فلولا اعتبار القصود في العقود لما نفعه قصده الذي يخالف

(1)

كذا في النسختين «محق» و «مبطل» مرفوعان. وفي المطبوع بالنصب.

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 623

ظاهر لفظه مخالفة ظاهرة

(1)

بينة. فهذا الحديث أصل لهذه القاعدة، وقد قبِلَ منه في الحكم، وديَّنه فيما بينه وبين الله، فلم يقضِ عليه بما أظهر من لفظه لما أخبره بأن نيته وقصده كان خلاف ذلك.

وأما قوله

(2)

: «إن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل في حكم الدنيا استعمالَ الدلالة التي لا يوجد أقوى منها» يعني دلالة الشبه، فإنما أبطلها بدلالة أقوى منها وهي اللعان، كما أبطلها مع قيام دلالة الفراش، واعتبرها حيثُ لم يعارضها مثلُها ولا أقوى منها في إلحاق الولد بالقافة [43/ب] وهي دلالة الشبه، فأين في هذا إلغاء الدلالات والقرائن مطلقًا؟

وأما قوله: «إنه لم يحكم في المنافقين بحكم الكفر مع الدلالة التي لا أقوى منها وهي خبر الله سبحانه عنهم وشهادته عليهم» ، فجوابه: أن الله سبحانه لم يُجرِ أحكام الدنيا على علمه في عباده، وإنما أجراها على الأسباب التي نصَبَها أدلة عليها، وإن علم سبحانه أنهم مُبطِلون فيها مُظهِرون لخلاف ما يُبطِنون، وإذا أطلع الله رسولَه

(3)

على ذلك لم يكن ذلك مناقضًا لحكمه الذي شرعه ورتّبه على تلك الأسباب، كما رتَّب على المتكلم بالشهادتين حكمَه وأطلع رسولَه وعبادَه المؤمنين على أحوال كثير من المنافقين وأنهم لم يطابق قولُهم اعتقادَهم.

وهذا كما أجرى حكمه على المتلاعنين ظاهرًا، ثم أطلع رسوله

(1)

«ظاهرة» ليست في ز.

(2)

أي قول الشافعي الذي سبق ذكره (ص 586)، ويستمر المؤلف في مناقشة كلامه في الفقرات الآتية.

(3)

ز: «ورسوله» .

ص: 624

والمؤمنين على حال المرأة بشَبَه الولد لمن رُمِيتْ به، وكما قال:«إنما أقضي بنحوٍ مما أسمع، فمن قضيتُ له بشيء من حقِّ أخيه فإنما أقطعُ له قطعةً من النار»

(1)

. وقد يُطلِعه الله سبحانه على حالِ آخذِ ما لا يحلُّ له أخذه، ولا يمنعه ذلك من إنفاذ الحكم.

وأما الذي قال: «يا رسول الله، إن امرأتي ولدتْ غلامًا أسودَ»

(2)

، فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحًا ولا كنايةً

(3)

، وإنما أخبره بالواقع مستفتيًا عن حكم هذا الولد: أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه؟ فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرَّب له الحكمَ بالشَّبه الذي ذكره؛ ليكون أذعنَ لقبوله وانشراحِ الصدر له، ولا يقبله على إغماض. فأين في هذا ما يُبطِل حدَّ القذف بقول من يشاتم غيره:«أما أنا فلستُ بزانٍ، وليستْ أمي بزانية» ، ونحو هذا من التعريض الذي هو أوجعُ وأنكى من التصريح، وأبلغ في الأذى، وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح، فهذا لون وذاك لون، وقد حدَّ عمر بالتعريض في القذف، ووافقه الصحابة رضي الله عنهم.

وأما قوله رحمه الله

(4)

: «إنه استشار أصحابه فخالفه بعضهم» ، فإنه يريد ما رواه عن مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين استبَّا في زمن عمر بن الخطاب، فقال أحدهما للآخر: والله ما أنا بزانٍ ولا أمي بزانية، فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب، فقال قائل: مدح أباه وأمه،

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

د: «لا كنايةً ولا صريحًا» .

(4)

د: «رضي الله عنه» .

ص: 625

وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، نرى أن تجلده الحدّ، فجلده عمر الحدَّ ثمانين

(1)

، وهذا لا يدل على أن القائل الأول خالف عمر؛ فإنه لما قيل له إنه قد كان لأبيه وأمه مدحٌ غير هذا فهم أنه أراد القذف فسكت، وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة.

وقد صحَّ عن عمر من وجوه أنه حدَّ في التعريض، فروى معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن عمر كان يحدُّ في التعريض بالفاحشة

(2)

، وروى ابن جريج عن ابن أبي مُليكة عن صفوان وأيوب عن عمر أنه حدَّ في التعريض

(3)

. وذكر أبو عمر

(4)

أن عثمان كان يحد في التعريض وذكره ابن أبي شيبة

(5)

، وكان عمر بن عبد العزيز يرى الحدّ في التعريض

(6)

. وهو قول أهل المدينة [44/أ] والأوزاعي، وهو محض القياس، كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكناية، واللفظ إنما يُراد لدلالته على المعنى؛ فإذا ظهر المعنى غاية الظهور لم يكن في تغيير اللفظ كبير فائدة.

وأما قوله: «من حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم لم يسلَمْ من خلاف التنزيل والسنة» ، فإنه يشير بذلك إلى قبول توبة الزنديق وحَقْن دمه بإسلامه، وقبول توبة المرتدّ وإن وُلِد على الإسلام، وهاتان مسألتان فيهما

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

رواه عبد الرزاق (13703).

(3)

رواه عبد الرزاق (13705).

(4)

في «الاستذكار» (24/ 127).

(5)

في «المصنّف» (28966).

(6)

رواه عبد الرزاق (13718، 13719).

ص: 626

نزاع بين الأمة مشهور، وقد ذكر الشافعي الحجة على قبول توبتهما، ومن لم يقبل توبتهما يقول: إنه لا سبيل إلى العلم بها؛ فإن الزنديق قد عُلِم أنه لم يزل مظهرًا للإسلام، فلم يتجدَّد له بإسلامه الثاني حالٌ مخالفةٌ لما كان عليه، بخلاف الكافر الأصلي؛ فإنه إذا أسلم فقد تجدّد له بالإسلام حالٌ لم يكن عليها، والزنديق إنما رجع إلى إظهار الإسلام.

وأيضًا فالكافر كان معلنًا لكفره غير متستِّرٍ به ولا مُخفٍ له، فإذا أسلم تيقنَّا أنه أتى بالإسلام رغبة فيه لا خوفًا من القتل، والزنديق بالعكس فإنه كان مخفيًا لكفره متستِّرًا به، فلم نؤاخذه بما في قلبه إذا لم يظهر عليه، فإذا ظهر على لسانه وَاخَذْناه به، فإذا رجع عنه لم يرجع عن أمر كان مُظهِرًا له غير خائف من إظهاره، وإنما رجع خوفًا من القتل.

وأيضًا فإن الله سبحانه سنَّ في عباده أنهم إذا رأوا بأسه لم ينفعهم الإسلام، وهذا إنما أسلم عند معاينة البأس، ولهذا لو جاءنا من تلقاء نفسه وأقرَّ بأنه قال كذا وكذا وهو تائب منه قبلنا توبته ولم نقتله.

وأيضًا فإن الله سبحانه سنَّ في المحاربين أنهم إن تابوا من قبل القدرة عليهم قُبلت توبتهم، ولا تنفعهم التوبة بعد القدرة عليهم، ومحاربة الزنديق للإسلام بلسانه أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه؛ فإن فتنة هذا في الأموال والأبدان، وفتنة الزنديق في القلوب والإيمان، فهو أولى أن لا تُقبل توبته بعد القدرة عليه، وهذا بخلاف الكافر الأصلي؛ فإن أمره كان معلومًا، وكان مُظهِرًا لكفره غير كاتمٍ له، والمسلمون قد أخذوا حِذرهم منه، وجاهروه بالعداوة والمحاربة.

وأيضًا فإن الزنديق هذا دأبه دائمًا، فلو قُبلت توبته لكان تسليطًا له على

ص: 627

بقاء نفسه بالزندقة والإلحاد، وكلما قدر عليه أظهر الإسلام وعاد إلى ما كان عليه، ولا سيَّما وقد علم أنه أمِنَ بإظهار الإسلام من القتل، فلا يزَعُه خوفه عن المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومسبَّة الله ورسوله، فلا ينكفُّ عدوانُه عن الإسلام إلا بقتله.

وأيضًا فإن من سبَّ الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، فجزاؤه القتل حدًّا، والحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقًا، ولا ريب أن محاربة هذا الزنديق لله ورسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفسادًا

(1)

، فكيف تأتي الشريعة بقتل من صال على [44/ب] عشرة دراهم لذمي أو على بدنه ولا تقبل توبته، ولا تأتي بقتل من دأبه الصولُ

(2)

على كتاب الله وسنة رسوله والطعنُ في دينه وتقبل توبته بعد القدرة؟

وأيضًا فالحدود بحسب الجرائم والمفاسد، وجريمة هذا أغلظُ الجرائم، ومفسدة بقائه بين أظهر المسلمين من أعظم المفاسد.

وهاهنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها، وهي أن الشارع إنما قبلَ توبة الكافر الأصلي مِن كفرِه بالإسلام لأنه ظاهر لم يعارضه ما هو أقوى منه، فيجب العمل به؛ لأنه مقتضٍ

(3)

لحقن الدم والمعارض منتفٍ. فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والإسلام لا يدلُّ على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالةً قطعية ولا ظنية، أما انتفاء القطع فظاهر، وأما انتفاء الظن فلأن الظاهر إنما يكون دليلًا

(1)

د: «وإفساد» .

(2)

د: «التصول» .

(3)

في النسختين: «مقتضى» .

ص: 628

صحيحًا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه

(1)

، فإذا قام دليل على الباطن لم يُلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن يخالفه. ولهذا اتفق الناس على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه، وإن شهد عنده بذلك العدولُ

(2)

، وإنما يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها. وكذلك لو أقرَّ إقرارًا عُلِم أنه كاذب فيه، مثل أن يقول لمن هو أسنُّ منه «هذا ابني» لم يثبت نسبه ولا ميراثه اتفاقًا. وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر الواحد العدل والأمر والنهي والعموم والقياس إنما يجب اتباعها إذا لم يقم دليل أقوى منها يخالف ظاهرها.

وإذا عُرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته، وتكذيبه واستهانته بالدين، وقَدْحه فيه؛ فإظهاره الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر ما كان يظهره قبل هذا، وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة؛ فلا يجوز الاعتماد عليه لتضمُّنه إلغاءَ الدليل القوي وإعمالَ الدليل الضعيف الذي قد ظهر بطلان دلالته، ولا يخفى على المنصف قوةُ هذا النظر وصحةُ هذا المأخذ. وهذا مذهب أهل المدينة: مالك وأصحابه والليث بن سعد، وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة، وهو إحدى

(3)

الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه، بل هي أنصُّ الروايات عنه، وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يستتاب، وهو قول الشافعي، وعن أبي يوسف روايتان؛ إحداهما: أنه يستتاب، وهي الرواية الأولى عنه، ثم قال آخرًا: أقتلُه

(1)

في هامش د: «يخالفه» .

(2)

د: «بذلك العدول عنده» .

(3)

ز: «أحد» .

ص: 629

من غير استتابة، لكن إن تاب قبل أن يُقدَر عليه قبلت توبته، وهذا هو الرواية الثالثة عن أحمد.

ويا لله العجب! كيف يقاوِم دليلُ إظهاره للإسلام بلسانه بعد القدرة عليه أدلةَ زندقتِه، وتكررها منه مرة بعد مرة، وإظهاره كل وقت للاستهانة بالإسلام والقدح في الدين والطعن فيه في كل مجمع، مع استهانته بحرمات الله واستخفافه [45/أ] بالفرائض وغير ذلك من الأدلة؟ ولا ينبغي لعالمٍ قطُّ أن

(1)

يتوقف في قتل مثل هذا، ولا تُترك الأدلة القطعية لظاهرٍ قد تبيَّن عدم دلالته وبطلانها، ولا تسقط الحدود عن أرباب الجرائم بغير موجب.

نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والأعمال ما يدلُّ على حسن الإسلام وعلى التوبة النصوح، وتكرر ذلك منه= لم يُقتل، كما قاله أبو يوسف وأحمد في إحدى الروايات، وهذا التفصيل أحسنُ الأقوال في المسألة.

ومما يدلُّ على أن توبة الزنديق بعد القدرة لا تَعصِم دمَه قولُه تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52]، قال السلف في هذه الآية:{أَوْ بِأَيْدِينَا} بالقتل

(2)

إن أظهرتم ما في قلوبكم، وهو كما قالوا؛ لأن العذاب على ما يُبطِنونه من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل؛ فلو قُبلت توبتهم بعد ما ظهرت زندقتهم لم يمكن المؤمنين أن يتربَّصوا بالزنادقة

(1)

«أن» ليست في د.

(2)

روي هذا عن ابن عباس وقتادة. انظر: «تفسير الطبري» (11/ 497).

ص: 630