الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للحرام. ولو أكل طعامًا حرامًا يظنُّه حلالًا لم يأثم به، ولو أكله وهو حلالٌ يظنه حرامًا وقد أقدمَ عليه أثِمَ بنيته. وكذلك لو قتل من يظنُّه مسلمًا معصومًا فبان كافرًا حربيًّا أثِمَ بنيته. ولو رمى صيدًا فأصاب معصومًا لم يأثم، ولو رمى معصومًا فأخطأه وأصاب صيدًا أثِمَ، ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار
(1)
لنية كلٍّ منهما قتْلَ صاحبه.
ءف
النية روح العمل ولبُّه
وقِوامُه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كَفَتا وشَفَتا وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى»
(2)
، فبيَّن في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بنية، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بيَّن في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعمُّ العباداتِ والمعاملات والأيمانَ والنذور وسائر العقود والأفعال. وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع، وأن من نوى بعقد النكاح التحليلَ كان محلِّلا، ولا يُخرِجه من ذلك صورة عقد النكاح؛ لأنه قد نوى ذلك، وإنما لامرئ ما نوى؛ فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان، والثانية معلومة بالنص.
وعلى هذا فإذا نوى بالعَصْر حصولَ الخمر كان له ما نواه، ولذلك استحقَّ اللعنة، وإذا نوى بالفعل التحيُّلَ على ما حرَّمه الله ورسوله كان له ما نواه؛ فإنه قصد المحرَّم وفعلَ مقدورَه في تحصيله، ولا فرقَ في التحيُّل على المحرَّم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعةً له، لا في عقلٍ
(1)
رواه البخاري (31) ومسلم (2888) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (2529) ومسلم (1907) من حديث عمر رضي الله عنه.
ولا في شرع. ولهذا لو نهى الطبيبُ المريضَ عما يؤذيه وحَماه منه فتحيَّل على تناولِه عُدَّ متناولًا لنفس ما نهى عنه. ولهذا مسخ الله سبحانه اليهود قِردةً لما تحيَّلوا على فعل ما حرمه الله عليهم، ولم يعصمهم
(1)
من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسَّلوا به إلى ارتكاب محارمه. ولهذا [38/أ] عاقب أصحاب الجنة بأن حَرَمَهم ثمارَها لما توسَّلوا بجَدادِها مُصبِحين إلى إسقاط نصيب المساكين. ولهذا لُعِن اليهود لما أكلوا ثمن ما حُرِّم عليهم أكله
(2)
، ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك بصورة البيع. وأيضًا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى اسم الوَدَك، فلما تحيَّلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك.
قال الخطابي
(3)
: في هذا الحديث بطلانُ كل حيلة يحتال بها المتوصِّل
(4)
إلى المحرَّم؛ فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه.
قال شيخنا
(5)
: ووجه الدلالة ما أشار إليه الإمام أحمد أن اليهود لما حرّم الله عليهم الشحوم أرادوا الاحتيالَ على الانتفاع بها على وجه لا يقال في الظاهر إنهم انتفعوا بالشحم، فجَملوه وقصدوا بذلك أن يزول عنه اسم الشحم، ثم انتفعوا بثمنه بعد ذلك لئلا يكون الانتفاع في الظاهر بعين المحرم، ثم مع كونهم احتالوا بحيلة خرجوا بها في زعمهم من ظاهر
(1)
في النسختين: «ولم يعصمه» .
(2)
رواه البخاري (2223) ومسلم (1582) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
في «معالم السنن» (5/ 129).
(4)
في «المعالم» : «للتوصُّل» .
(5)
في «بيان الدليل» (ص 57، 58).
التحريم من هذين الوجهين لعنهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا الاستحلال، نظرًا إلى المقصود، وأن حكمة التحريم لا تختلف سواء كان جامدًا أو مائعًا، وبدلُ الشيء يقوم مقامه ويسدُّ مسدَّه، فإذا حرَّم الله الانتفاع بشيء حرَّم الاعتياض عن تلك المنفعة، وأما ما أبيح الانتفاع به من وجه دون وجه كالحُمُر
(1)
مثلًا فإنه يجوز بيعها لمنفعة الظهر المباحة لا لمنفعة اللحم المحرَّمة. وهذا معنى حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود
(2)
وصحَّحه الحاكم وغيره: «لعنَ الله اليهود، حُرِّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرَّم على قومٍ أكلَ شيء حرَّم عليهم ثمنَه» يعني ثمنه المقابل لمنفعة الأكل، فإذا كانت فيه منفعة أخرى وكان الثمن في مقابلتها لم يدخل في هذا.
إذا تبيَّن
(3)
هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلَّقًا بمجرد اللفظ وبظاهرٍ من القول دون مراعاةٍ لمقصودِ الشيء المحرَّم ومعناه وكيفيته لم يستحقُّوا اللعنة لوجهين:
أحدهما: أن الشحم خرج بجَمْله عن أن يكون شحمًا، وصار وَدَكًا، كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعًا عند من يستحل ذلك؛ فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل فأعطى سِلعةً بالثمن
(1)
جمع حمار. وفي «بيان الدليل» : «كالحمير» .
(2)
رواه أحمد (2221) وأبو داود (3488)، وصححه ابن حبان (4938). ولم أجده في «المستدرك» من حديث ابن عباس. بل رواه الحاكم (4/ 194) من حديث أسامة بن زيد وصححه، ولفظه:«لعن الله اليهود، يحرمون شحوم الغنم ويأكلون أثمانها» .
(3)
الكلام لشيخ الإسلام، وزاد فيه المؤلف وشرحه.
المؤجّل ثم اشتراها بالثمن الحالّ، ولا غرضَ لواحد منهما في السلعة بوجهٍ ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة:«دراهمُ بدراهم دخلت بينهما حَرِيرة»
(1)
؛ فلا فرقَ بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين بلا حيلة البتةَ، لا في شرع ولا عقل ولا عرف، بل المفسدة التي لأجلها حرِّم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها، فإنها تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص؛ فمن المستحيل على شريعةِ أحكم الحاكمين أن تحرِّم ما فيه مفسدة وتلعنَ فاعله وتُؤذنه بحربٍ منه ورسوله وتُوعِده أشدَّ الوعيد، ثم تُبيح التحيُّل على حصول ذلك بعينه، سواء مع قيام تلك [38/ب] المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في مَقْتِه ومخادعة الله ورسوله. هذا لا يأتي به شرع؛ فإن الربا على الأرض أسهل وأقلُّ مفسدة من الربا بسُلَّمٍ طويل صعب المراقي
(2)
يترابى المترابيان على رأسه.
فيا لله العجب! أيُّ مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتيال والخداع؟ فهل صار هذا الذنب العظيم عند الله الذي هو من أكبر الكبائر حسنةً وطاعةً بالخداع والاحتيال؟ ويا لله! كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخُبث إلى الطيب ومن المفسدة إلى المصلحة، وجعله محبوبًا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطًا له؟ ولئن كان الاحتيال يبلغ هذا المبلغ فإنه عند الله ورسوله بمكان وبمنزلة عظيمة، وإنه من أقوى دعائم الدين وأوثق عُراه وأجلِّ أصوله.
(1)
رواه ابن أبي شيبة (20527) عن ابن عباس، وعزاه ابن القيم إلى مطيَّن كما سيأتي.
(2)
د: «التراقي» .
ويا لله العجب! كيف تزول مفسدة التحليل التي أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعن فاعله
(1)
مرةً بعد أخرى بتسليف شرطه وتقديمه على صلب العقد وإخلاء صلب العقد من لفظه وقد وقع التواطؤ والتوافق عليه؟ وأيّ غرض للشارع وأيّ حكمة في تقديم الشرط وتسليفه حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خمرةُ هذا العقد خلًّا؟ وهل كان عقد التحليل مسخوطًا لله ورسوله لحقيقته ومعناه، أم لعدم مقارنة الشرط له وحصول صورة نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته وحصول حقيقة نكاح التحليل؟ وهكذا الحيل الربوية؛ فإن الربا لم يكن حرامًا لصورته ولفظه، وإنما كان حرامًا لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع؛ فتلك الحقيقة حيث وُجدت وجد التحريم، في أيّ صورة رُكِّبت وبأي لفظ عُبِّر عنها؛ فليس الشأن في الأسماء وصور العقود، الشأنُ في حقائقها ومقاصدها وما عُقِدت له.
الوجه الثاني
(2)
: أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، وإنما انتفعوا بثمنه، ويلزم مَن راعى الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك، فلما لُعِنوا على استحلال الثمن ــ وإن لم ينصَّ لهم على تحريمه ــ عُلم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة. ونظير هذا أن يقال لرجل: لا تقرَبْ مال اليتيم، فيبيعه ويأخذ عوضه ويقول: لم أقرب ماله. وكمن يقول لرجل: لا تشرب من هذا النهر، فيأخذ بيديه ويشرب من كفَّيه ويقول: لم أشرب منه. وبمنزلة من يقول: لا تضرِبْ زيدًا، فيضربه فوق ثيابه ويقول: إنما ضربت ثيابه. وبمنزلة من يقول: لا تأكل مال
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
انظر: «بيان الدليل» (ص 58).
هذا الرجل فإنه حرام، فيشتري به سلعةً ولا يُعينه ثم ينقده
(1)
للبائع ويقول: لم آكل ماله إنما أكلتُ ما اشتريته وقد ملكتُه ظاهرًا وباطنًا. وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطبيب في معالجة المرضى لزاد مرضهم، ولو استعملها المريض كان مرتكبًا لنفس ما نهاه عنه الطبيب، كمن يقول له الطبيب: لا تأكل اللحم فإنه يزيد في موادِّ المرض، فيدقُّه ويعمل منه هريسة ويقول: لم آكل اللحم، [39/أ] وهذا المثال مطابق لعامة الحيل الباطلة في الدين.
ويا لله العجب! أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين صريحًا وبين إدخال سلعةٍ لم تُقصد أصلًا بل دخولها كخروجها؟ ولهذا لا يسأل العاقد عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيبٍ فيها، ولا يبالي بذلك البتة، حتى لو كانت خرقة مقطَّعة أو أذن جَدْيٍ أو عودًا من حطب أدخلوه محلّلا للربا. ولما تفطَّن المحتالون أن هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الأمر، وأنها ليست مقصودةً بوجه، وأن دخولها كخروجها= لم يبالوا بكونها مما يُتموَّل عادة أو لا يتموَّل، ولم يبالِ بعضهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة، بل لم يبال بعضهم
(2)
بكونها مما يباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة، وكل هذا وقع من أرباب الحيل، وهذا لما علموا أن المشتري لا غرضَ له في السلعة فقالوا: أي سلعة اتفق حضورها حصل بها التحليل، كأيّ تيسٍ اتفق في باب محلل النكاح.
وما مَثَلُ مَن وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراعِ المقاصد والمعاني إلا كمثل رجلٍ قيل له: لا تسلِّمْ على صاحب بدعة، فقبَّل يده ورجله ولم يسلِّم
(1)
ز: «ينفذه» .
(2)
ز: «بعضها» .
عليه، أو قيل له: اذهبْ فاملأْ هذه الجرَّة، فذهب وملأها ثم تركها على الحوض وقال: لم تقل ائْتِني بها. وكمن قال لوكيله: بعْ هذه السلعة، فباعها بدرهم وهي تساوي مائة، ويَلزم مَن وقف مع الظواهر أن يصحِّح هذا البيع ويُلزِم به الموكِّل، وإن نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألغاها في غير موضع. وكمن أعطاه رجل ثوبًا فقال: والله لا ألبسه لما له
(1)
فيه من المنَّة، فباعه وأعطاه ثمنه فقبِلَه. وكمن قال: والله لا أشرب هذا الشراب، فجعله عقيدًا أو ثَرَدَ فيه خبزًا وأكله.
ويلزم مَن وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحدَّ من فعل ذلك بالخمر، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن من الأمة من يتناول المحرَّم ويسمِّيه بغير اسمه، فقال:«ليشربنَّ ناسٌ من أمتي الخمرَ يسمُّونها بغير اسمها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يَخسِف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير» . رواه أحمد وأبو داود
(2)
. وفي «مسند الإمام أحمد»
(3)
مرفوعًا: «يشربُ ناس من أمتي الخمرَ يسمُّونها بغير اسمها» . وفيه
(4)
عن
(1)
«له» ليست في د.
(2)
رواه بهذا التمام ابن ماجه (4020) من حديث أبي مالك الأشعري. ورواه أحمد (22900) وأبو داود (3688) مختصرًا، وفي إسناده مالك بن أبي مريم لا يعرف إلا برواية حاتم عنه، ولكن له شواهد ومتابعات يصحح بها، وقد صححه ابن حبان (6758) وابن القيم في «إغاثة اللهفان» (1/ 261)، وحسنه ابن تيمية في «بيان الدليل» (ص 61). انظر:«تحريم آلات الطرب» (ص 43).
(3)
رقم (18073) ورواه أيضًا النسائي (5658) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده صحيح.
(4)
«المسند» (22709). ورواه ابن ماجه (3385)، وجوَّد إسناده ابن حجر في «الفتح» (10/ 51).
عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يشربُ ناسٌ من أمتي الخمرَ باسمٍ يسمُّونها إياه» . وفي «سنن ابن ماجه»
(1)
من حديث أبي أمامة يرفعه: «لا تذهبُ الليالي والأيام حتى تشربَ طائفة من أمتي الخمر يسمُّونها بغير اسمها» .
قال شيخنا
(2)
: وقد جاء حديث آخر يوافق هذا مرفوعًا وموقوفًا من حديث ابن عباس: «يأتي على الناس زمانٌ يُستحلُّ فيه خمسةُ أشياء بخمسة أشياء: يستحلّون الخمر باسمٍ يسمُّونها إيَّاه، والسُّحت بالهدية، والقتل بالرهبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع»
(3)
. وهذا حق؛ فإن استحلال الربا باسم البيع ظاهر، كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع وحقيقتها حقيقة الربا، ومعلوم أن الربا إنما حُرِّم لحقيقته ومفسدته [39/ب] لا لصورته واسمه، فهَبْ أن المرابي لم يسمِّه ربًا وسماه بيعًا فذلك لا يُخرِج حقيقته وماهيته عن نفسها.
وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحلّ من استحلّ المسكر من
(1)
رقم (3384)، وفي إسناده عبد السلام بن عبد القدوس متكلم فيه، والحديث يشهد له ما قبله كحديث عبادة، وحديث أبي مالك الأشعري. وانظر:«السلسلة الصحيحة» (90).
(2)
في «بيان الدليل» (ص 69).
(3)
رواه الخطابي في «غريب الحديث» (1/ 218) عن الأوزاعي مرفوعًا. وإسناده معضل. ورويت بعض جمله في «ترتيب الأمالي الخميسية» للشجري (2/ 374) برقم (2806) من طريق محمد بن كثير القرشي عن داود بن أبي هلال عن الشعبي عن حذيفة مرفوعًا. وفي إسناده محمد بن كثير القرشي، قال أحمد كما في «العلل» رواية ابنه عبد الله (3/ 438): خرقنا حديثه، ولم يرضَه.
غير عصير العنب، وقال: لا أسمِّيه خمرًا وإنما هو نبيذ. وكما يستحلُّها طائفة من المُجَّان إذا مُزِجت ويقولون: خرجت بالمَزْج عن اسم الخمر، كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق. وكما يستحلّها من يستحلّها إذا اتُّخِذت عقيدًا، ويقول: هذه عقيدٌ لا خمر، ومعلوم أن التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا للاسم والصورة؛ فإن إيقاع العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة لا تزول بتبديل الأسماء والصور، وهل هذا إلا من سوء الفهم وعدم الفقه عن الله ورسوله؟
وأما استحلال السُّحت باسم الهدية فهو أظهر من أن يُذكر، كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما، فإن المرتشي ملعونٌ هو والراشي
(1)
؛ لما في ذلك من المفسدة، ومعلوم قطعًا أنهما لا يخرجان عن الحقيقة وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية، وقد علما
(2)
وعلم الله وملائكته ومن له اطلاع على الحيل أنها رشوة.
وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسمِّيه ولاة الجور سياسةً وهيبةً وناموسًا وحرمةً للملك فهو أظهر من أن يذكر.
وأما استحلال الزنا باسم النكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غرض له أن يقيم معها ولا أن تكون زوجته، وإنما غرضه أن يقضي وطَرَه منها أو يأخذ جُعلًا على الفساد بها ويتوصَّل إلى ذلك باسم النكاح وإظهار صورته، وقد
(1)
رواه أحمد (6532) وأبو داود (3580) والترمذي (1337) وابن ماجه (2313) من حديث عبد الله بن عمرو وصححه الترمذي وابن حبان (5077) والحاكم (4/ 102).
(2)
في المطبوع: «علمنا» خلاف النسختين. والضمير للراشي والمرتشي.
علم الله ورسوله والملائكة والزوج والمرأة أنه محلِّل لا ناكح، وأنه ليس بزوج، وإنما هو تَيْس مستعار للضِّراب بمنزلة حمار العُشْريين
(1)
.
فيا لله العجب! أي فرق في نفس الأمر بين الزنا وبين هذا؟ نعم هذا زنًا بشهود من البشر وذلك زنًا بشهود من الكرام الكاتبين كما صرح به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا:«لا يزالان زانيينِ وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله أنه إنما يريد أن يُحِلَّها»
(2)
، والمقصود أن هذا المحلل إذا قيل له: هذا زنا، قال: ليس بزنا بل نكاح، كما أن المرابي إذا قيل له: هذا ربا، قال: بل هو بيع، وكذلك كل من استحل محرَّمًا بتغيُّر اسمه وصورته، كمن يستحلّ الحشيشة باسم لُقَيمة الراحة، ويستحلّ المعازف كالطنبور والعود والبربط باسم يسمِّيها به، وكما يسمي بعضهم المغنّي بالحادي والمُطرِب والقوَّال، وكما يسمِّي الديُّوث بالمصلح والموفِّق والمحسِّن
(3)
، ورأيت من يسجد لغير الله من الأحياء والأموات ويسمِّي ذلك وضع الرأس للشيخ؛ قال: ولا أقول: هذا سجود.
وهكذا الحيل سواء؛ فإن أصحابها يَعمِدون إلى الأحكام فيعلِّقونها بمجرد اللفظ، ويزعمون أن الذي يستحلُّونه ليس بداخل في لفظ الشيء المحرم، مع القطع بأن معناه معنى الشيء المحرم؛ فإن الرجل إذا قال لمن له عليه ألف: اجعلْها ألفًا ومائة إلى سنة بإدخال هذه الخرقة وإخراجها صورةً
(1)
الذي يُكتَرى للتقفيز على الإناث، كما في «مجموع الفتاوى» (32/ 94). وفي «زاد المعاد» (5/ 257): كحمار العشريين المستعار للضراب.
(2)
رواه عبد الرزاق (10778) بنحوه، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «بيان الدليل» (ص 403) بهذا اللفظ، وعزاه إلى حسين بن حفص والجوزجاني.
(3)
د: «والمحسن والموفق» .
لا معنى، لم يكن فرقٌ بين توسطها وعدمه، وكذلك إذا قال: مكِّنيني من نفسكِ أقضِ منكِ وطرًا يومًا أو ساعةً بكذا [40/أ] وكذا، لم يكن فرقٌ بين إدخال شاهدين في هذا أو عدم إدخالهما، وقد تواطآ على قضاء وطر ساعة من زمان.
ولو أوجب تبدُّلُ الأسماء والصور تبدُّلَ الأحكام والحقائق لفسدت الديانات، وبدِّلت الشرائع، واضمحلَّ الإسلام، وأي شيء نفع المشركين تسميةُ أوثانهم آلهة وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها؟ وأي شيء نفعهم تسميةُ الإشراك بالله تقربًا إلى الله؟ وأي شيء نفع المعطِّلين لحقائق أسماء الله وصفاته تسميةُ ذلك تنزيهًا؟ وأي شيء نفع الغلاةَ في البشر واتخاذهم طواغيت يعبدونهم من دون الله تسميةُ ذلك تعظيمًا واحترامًا؟ وأي شيء نفع نفاةَ القدر المخرِجين لأشرف ما في مملكة الرب تعالى من طاعة
(1)
أنبيائه ورسله وملائكته وعباده عن قدرته تسميةُ ذلك عدلًا؟ وأي شيء نفعَهم نفيُهم لصفات كماله تسميةُ ذلك توحيدًا؟ وأي شيء نفع أعداءَ الرسل من الفلاسفة ــ القائلين بأن الله لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام، ولا يُحيي الموتى ويبعث من في القبور، ولا يعلم شيئًا من الموجودات، ولا أرسل رسولًا إلى الناس
(2)
أمرهم بطاعته ــ تسميةُ ذلك حكمة؟ وأي شيء نفع أهلَ النفاق تسميةُ نفاقهم عقلًا معيشيًّا وقدْحُهم في عقل من لم ينافق نفاقهم ويُداهِنْ في دين الله؟ وأي شيء نفع المَكَسَة
(3)
تسميةُ ما يأخذونه ظلمًا وعدوانًا حقوقًا سلطانيةً، وتسميةُ أوضاعهم الجائرة الظالمة المناقضة لشرع الله ودينه شرعَ الديوان؟ وأي شيء نفع أهلَ البدع والضلال تسميةُ شبههم الداحضة عند ربهم وعند أهل العلم والإيمان
(1)
عقلياتٍ وبراهين؟ وتسمية كثير من المتصوفة الخيالاتِ الفاسدة والشطحاتِ حقائقَ؟ فهؤلاء كلهم حقيقٌ أن يُتلى عليهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23].
فصل
ومما يوضّح ما ذكرناه أن
(2)
القصود في العقود معتبرة، دون
(3)
الألفاظ المجرَّدة التي لم تُقصد بها معانيها وحقائقها أو قُصِد غيرها= أن
(4)
صيغ العقود كبعتُ واشتريت وتزوجت وأجرت إما إخبارات وإما إنشاءات وإما أنها متضمنة للأمرين، فهي إخبارات عما في النفس من المعاني التي تدلّ على العقود، وإنشاءات لحصول العقود في الخارج؛ فلفظها موجب لمعناها في الخارج؛ وهي إخبار عما في النفس من تلك المعاني، ولا بدَّ في صحتها من مطابقة خبرها لمخبرها، فإذا لم تكن تلك المعاني في النفس كانت خبرًا كاذبًا، وكانت بمنزلة قول المنافق:«أشهد أن محمدا رسول الله» ، وبمنزلة قوله:«آمنت بالله وباليوم الآخر» . وكذلك المحلّل إذا قال «تزوجتُ» وهو لا يقصد بلفظ التزوج المعنى الذي جُعِل له في الشرع كان
(1)
د: «والدين» . وقد صحح في هامشها. وفي المطبوع: «أهل العلم والدين والإيمان» .
(2)
في المطبوع: «من أن» خلاف النسختين.
(3)
في النسختين: «وان» . والمثبت يقتضيه السياق.
(4)
«أن» وما بعدها مبتدأ مؤخر، والخبر المقدم:«مما يوضح» .
إخبارًا كاذبًا وإنشاء باطلًا؛ فإنا نعلم أن هذه اللفظة لم توضع
(1)
في الشرع ولا في العرف ولا في اللغة لمن قصد ردَّ المطلقة إلى زوجها، وليس له قصد في النكاح الذي وضعه الله بين عباده وجعله سبب المودّة والرحمة بين الزوجين، وليس له قصدٌ في توابعه حقيقةً ولا حكمًا، فمن ليس له قصدٌ في الصحبة [40/ب] ولا في العشرة ولا المصاهرة ولا الولد ولا المواصلة ولا المعاشرة والإيواء، بل قصدُه أن يفارق لتعود إلى غيره؛ فالله جعل النكاح سببًا للمواصلة والمصاحبة، والمحلِّل جعله سببًا للمفارقة، فإنه تزوّج ليطلّق؛ فهو مناقض لشرع الله ودينه وحكمته، فهو كاذب في قوله «تزوجتُ» بإظهاره خلاف ما في قلبه، وبمنزلة من قال لغيره: وكّلتُك أو شاركتك أو ضاربتك أو ساقيتك، وهو يقصد رفع هذه العقود وفسخها.
وقد تقدَّم أن صيغ العقود إخبارات عما في النفس من المعاني التي هي أصل العقود ومبدأ الحقيقة التي بها يصير اللفظ كلامًا معتبرًا؛ فإنها لا تصير كلامًا معتبرًا إلا إذا
(2)
قُرِنت بمعانيها، فتصير إنشاءً للعقود والتصرفات من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم وبها وُجِد، وإخباراتٍ من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس؛ فهي تُشبِه في اللفظ أحببتُ وأبغضتُ وكرهتُ، وتُشبِه في المعنى قُمْ واقعُدْ. وهذه الأقوال إنما تفيد الأحكام إذا قصد المتكلم بها ــ حقيقةً أو حكمًا ــ ما جُعلت له، وإذا لم يقصد بها ما يناقض معناها، وهذا فيما بينه وبين الله تعالى. وأما في الظاهر فالأمر محمول على الصحة، وإلا لما تمَّ عقدٌ ولا تصرفٌ، فإذا قال «بعتُ»
و «تزوجتُ» كان هذا اللفظ دليلًا على أنه قصد معناه المقصود به، وجعله الشارع بمنزلة القاصد وإن كان هازلًا، وباللفظ والمعنى جميعًا يتمُّ الحكم؛ فكلٌّ منهما جزء السبب، وهما مجموعه، وإن كانت العبرة في الحقيقة بالمعنى، واللفظ دليل؛ ولهذا يصار إلى غيره عند تعذُّره.
وهذا شأن عامة أنواع الكلام، فإنه محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق، لا سيما الأسماء
(1)
الشرعية التي علَّق الشارع بها أحكامها، فإن المتكلم عليه أن يقصد بتلك الألفاظ معانيها، والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني، فإن لم يقصد المتكلم بها معانيها بل تكلّم بها غيرَ قاصدٍ لمعانيها أو قاصدًا لغيرها أبطل الشارع عليه قصده، فإن كان هازلًا أو لاعبًا
(2)
لم يقصد المعنى ألزمه الشارع المعنى، كمن هزلَ بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة، بل لو تكلم الكافر بكلمة الإسلام هازلًا ألزم به وجرت عليه أحكامه ظاهرًا، وإن تكلّم بها مخادعًا ماكرًا محتالًا مُظهِرًا خلافَ ما أبطن لم يُعطِه الشارع مقصوده، كالمحلّل والمرابي بعقد العينة وكل من احتال على إسقاط واجب أو فعلِ محرَّم بعقد أو قول أظهره وأبطن الأمر الباطل. وبهذا يخرج الجواب عن الإلزام بنكاح الهازل وطلاقه ورجعته، وإن لم يقصد حقائق هذه الصيغ ومعانيها.
ونحن نذكر تقسيمًا جامعًا نافعًا في هذا الباب نبين به حقيقة الأمر، فنقول: المتكلم بصيغ العقود إما أن يكون قاصدًا للتكلُّم بها أو لا يكون قاصدًا:
(1)
د: «الأحكام» .
(2)
د: «لاغيا» .
فإن لم يقصد التكلم بها كالمكره والنائم والمجنون والسكران والمغلوب على عقله لم يترتَّب عليها شيء، وإن كان في بعض ذلك نزاع وتفصيل فالصواب أن أقوال هؤلاء كلها
(1)
هدرٌ كما دل [41/أ] عليه الكتاب والسنة والميزان وأقوال الصحابة.
وإن كان قاصدًا للتكلم بها فإما أن يكون عالمًا بغايتها متصورًا لها، أو لا يدري معناها البتة بل هي عنده كأصواتٍ يَنْعِق بها؛ فإن لم يكن عالمًا بمعناها ولا متصورًا له لم يترتب عليها أحكامها أيضًا، ولا نزاع بين أئمة الإسلام في ذلك. وإن كان متصورًا لمعانيها عالمًا بمدلولها فإما أن يكون قاصدًا لها أو لا؛ فإن كان قاصدًا لها ترتبت أحكامها في حقه ولزمتْه، وإن لم يكن قاصدًا لها فإما أن يقصد خلافها أو لا يقصد لا معناها ولا غير معناها؛ فإن لم يقصد غير التكلم بها فهو الهازل ونذكر حكمه، وإن قصد غير معناها فإما أن يقصد ما يجوز له قصده أو لا:
فإن قصد ما يجوز له قصده نحو أن يقصد بقوله «أنت طالق» من زوج كان قبلي، أو يقصد بقوله «أَمتي أو عبدي حرٌّ» أنه عفيف عن الفاحشة، أو يقصد بقوله «امرأتي عندي مثل أمي» في الكرامة والمنزلة، ونحو ذلك، لم تلزمه أحكام هذه الصيغ فيما بينه وبين الله تعالى. وأما في الحكم فإن اقترن بكلامه قرينة تدل على ذلك لم يلزمه أيضًا؛ لأن السياق والقرينة بينة تدل على صدقه، وإن لم يقترن بكلامه قرينة أصلًا وادعى ذلك دعوى مجردة لم تُقبل منه.
وإن قصد بها ما لا يجوز قصده، كالمتكلم بنكحتُ وتزوجتُ يقصد
(1)
«كلها» ليست في د.
التحليل، وببعتُ واشتريت يقصد الربا، وبخالعتُها يقصد الحيلة على فعل المحلوف عليه، وبملكتُ يقصد التحيُّل على إسقاط الزكاة أو الشفعة
(1)
، وما أشبه ذلك= فهذا لا يحصل له مقصوده الذي قصده وجعل ظاهر اللفظ والفعل وسيلةً إليه؛ فإن في تحصيل مقصوده تنفيذًا للمحرَّم، وإسقاطًا للواجب، وإعانةً على معصية الله، ومناقضةً لدينه وشرعه، فإعانته على ذلك إعانة على الإثم والعدوان. ولا فرقَ بين إعانته على ذلك بالطريق التي وُضِعت مُفضِيةً إليه وبين إعانته بالطريق التي وُضِعت مفضيةً إلى غيره؛ فالمقصود إذا كان واحدًا لم يكن اختلاف الطرق الموصلة إليه بموجبٍ لاختلاف حكمه فيحرم من طريق ويحلُّ بعينه من طريق أخرى.
والطرقُ وسائل وهي مقصودة لغيرها، فأيّ فرق بين التوسل إلى الحرام بطريق الاحتيال والمكر والخداع والتوسل إليه بطريق المجاهرة التي يوافق فيها السرُّ الإعلانَ
(2)
والظاهرُ الباطنَ والقصدُ للّفظ، بل سالك هذه الطريق قد تكون عاقبته أسلمَ وخطره أقلَّ من سالك تلك من وجوه كثيرة، كما أن سالك طريق الخداع والمكر عند الناس أمقتُ وفي قلوبهم أوضعُ وهم عنه أشدُّ نفرةً من آتي الأمرِ على وجهه وداخلِه من بابه؛ ولهذا قال أيوب السختياني ــ وهو من كبار التابعين وساداتهم وأئمتهم ــ في هؤلاء:«يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أَتَوا الأمرَ على وجهه كان أسهلَ عليهم»
(3)
.
(1)
د: «الشفعة أو الزكاة» .
(2)
ز: «والإعلان» .
(3)
رواه البخاري (12/ 336 - مع الفتح) معلقًا بصيغة الجزم بنحوه. وانظر: «تغليق التعليق» (5/ 264).
فصل
إذا عُرِف هذا فنقول: المكره قد أتى باللفظ المقتضي للحكم، ولم يثبت عليه حكمه لكونه غير قاصد له، وإنما قصد دفع الأذى عن [41/ب] نفسه، فانتفى الحكم لانتفاء قصده وإرادته لموجب اللفظ؛ فعُلِم أن نفس اللفظ ليس مقتضيًا للحكم اقتضاءَ الفعل لأثره، فإنه لو قتل أو غصب أو أتلف أو نجَّس المائع مكرَهًا لم يمكن أن يقال: إن ذلك القتل أو الإتلاف أو التنجيس فاسد أو باطل، كما لو أكل أو شرب أو سَكِر لم يقل: إن ذلك فاسد، بخلاف ما لو حلف أو نذر أو طلّق أو عقد عقدًا حكميًّا. وهكذا المحتال الماكر المخادع؛ فإنه لم يقصد الحكم المقصود بذلك اللفظ الذي احتال به، وإنما قصد معنى آخر فقصد الربا بالبيع والتحليل بالنكاح والحنث بالخلع، بل المكره قصدُه دفع الظلم عن نفسه، وهذا قصده التوسل إلى غرض رديء؛ فالمحتال والمكره يشتركان في أنهما لم يقصدا بالسبب حكمه ولا باللفظ معناه، وإنما قصدا
(1)
التوسل بذلك اللفظ وبظاهر ذلك السبب إلى شيء آخر غير حكم السبب، لكن أحدهما راهبٌ قصدُه دفع الضرر، ولهذا يُحمد أو يُعذر على ذلك، والآخر راغبٌ قصدُه إبطال حق وإيثار باطل، ولهذا يُذمّ على ذلك؛ فالمكره يُبطِل حكم السبب فيما عليه وفيما له لأنه لم يقصد واحدًا منهما، والمحتالُ يبطل حكم السبب فيما احتال عليه، وأما فيما سواه فيجب فيه التفصيل.
وههنا أمر لا بدّ منه، وهو أن من ظهر لنا أنه محتال فكمن ظهر لنا أنه
(1)
د: «قصد» .
مكره، ومن ادعى أنه إنما قصد الاحتيال فكمن ادعى أنه مكره، وإن كان ظهور أمر المكره أبينَ من ظهور أمر المحتال.
فصل
وأما الهازل فهو الذي يتكلم بالكلام من غير قصدٍ لموجبه وحقيقته، بل على وجه اللعب، ونقيضُه الجادُّ فاعلٌ من الجِدّ بكسر الجيم وهو نقيض الهزل، وهو مأخوذ من «جَدَّ فلان» إذا عظُم واستغنى وصار ذا حظٍّ، والهزل: مِن هَزُلَ إذا ضعف وضَؤُل، نُزِّلَ الكلام الذي يراد معناه وحقيقته بمنزلة صاحب الحظّ والبَخْت والغنى، والذي لم يُرَد معناه وحقيقته بمنزلة الخالي من ذلك؛ إذ قِوام الكلام بمعناه، وقِوام الرجل بحظّه وماله، وقد جاء فيه حديث أبي هريرة المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم:«ثلاثٌ جِدُّهن جِدٌّ وهزلهن جِدٌّ: النكاح والطلاق والرجعة» . رواه أهل السنن، وحسَّنه الترمذي
(1)
.
وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من نكحَ لاعبًا أو طلَّق لاعبًا أو أعتق لاعبًا فقد جاز»
(2)
.
وقال عمر بن الخطاب: «أربعٌ جائزاتٌ إذا تكلَّم بهن: الطلاق والعتاق والنكاح والنذر»
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
رواه الطبري في «تفسيره» (4/ 184) عن الحسن مرسلًا، وفي إسناده سليمان بن أرقم متكلم فيه. وجاء موصولاً عند ابن أبي شيبة (18719) عن الحسن عن أبي الدرداء مرفوعا. والحسن لم يسمع من أبي الدرداء. وروي عنه موقوفًا كما سيأتي.
(3)
رواه سعيد بن منصور (1610) وابن أبي شيبة (18715)، وسعيد بن المسيب أدرك عمر وكان صغيرًا، لكن مراسيله عنه صحيحة كما تقدم.
وقال عليٌّ: «ثلاثٌ لا لعبَ فيهم: الطلاق والعتاق والنكاح»
(1)
.
وقال أبو الدرداء: «ثلاثٌ اللعبُ فيهن كالجدّ: الطلاق والنكاح والعتق»
(2)
.
وقال ابن مسعود: «النكاح جِدُّه ولعبُه سواء» . ذكر ذلك أبو حفص العُكبَري
(3)
.
فصل
(4)
فأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور، وكذلك نكاحه صحيح كما صرَّح به النص، وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين، وهو قول الجمهور، وحكاه أبو حفص نصًّا عن أحمد، وهو قول أصحابه وقول طائفة من أصحاب الشافعي. وذكر بعضهم أن الشافعي نصَّ على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه. ومذهب مالك الذي [42/أ] رواه ابن القاسم عنه وعليه العمل عند أصحابه أن هَزْل النكاح والطلاق لازم، بخلاف البيع، وروى عنه علي بن زياد أن نكاح الهازل لا يجوز. قال بعض أصحابه: فإن
(1)
رواه عبد الرزاق (10247)، وفي إسناده جابر الجعفي متكلم فيه.
(2)
رواه سعيد بن منصور (1604) وابن أبي شيبة (18714).
(3)
عزا هذه الآثار إليه شيخ الإسلام في «بيان الدليل» (ص 105) بقوله: «رواهن أبو حفص العكبري» . وروى أثر ابن مسعود عبد الرزاق (10244) من طريق ابن جريج عن عبد الكريم عنه به. ولا يدرى من عَبد الكريم؛ هل هو ابن مالك أو ابن أبي المخارق؟ وفي كلا الحالين ففيه انقطاع؛ لأنهما لم يدركا ابن مسعود رضي الله عنه.
(4)
نقله المؤلف من «بيان الدليل» (ص 105 وما بعدها).
قام دليل الهزل لم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق، ولا شيء عليه من الصداق.
وأما بيع الهازل وتصرفاته المالية فإنه لا يصح عند القاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه، وهو قول الحنفية والمالكية. وقال أبو الخطاب في «انتصاره»: يصح بيعه كطلاقه. وخرَّجها بعض الشافعية على وجهين، ومن قال بالصحة قاسَ سائر التصرفات على النكاح والطلاق والرجعة.
والفقه فيه أن الهازل أتى بالقول غير ملتزمٍ لحكمه، وترتيب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم أبى؛ لأن ذلك لا يقف على اختياره، وذلك أن الهازل قاصد للقول مريدٌ له مع علمه بمعناه وموجبه، وقصدُ اللفظ المتضمن للمعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما، إلا أن يعارضه قصد آخر كالمكره والمخادع المحتال؛ فإنهما قصدَا شيئًا آخر غير معنى القول وموجبه. ألا ترى أن المكره قصد دفع العذاب عن نفسه فلم يقصد السبب ابتداء، والمحلّل قصد إعادتها إلى المطلِّق، وذلك منافٍ لقصده موجب السبب، وأما الهازل فقصد السبب ولم يقصد حكمه ولا ما ينافي حكمه فترتَّب عليه أثره.
فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بلغو اليمين، فإنه لا يترتَّب عليه حكمه.
قيل: اللاغي لم يقصد السبب، وإنما جرى على لسانه من غير قصدٍ؛ فهو بمنزلة كلام النائم والمغلوب على عقله. وأيضًا فالهزل أمر باطن لا يُعرف إلا من جهة الهازل، فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد الآخر. ومن فرَّق بين البيع وبابه والنكاح وبابه قال: الحديث والآثار تدلّ على أن من
العقود ما يكون جدُّه وهزلُه سواء، ومنها ما لا يكون كذلك، وإلا لقال
(1)
: العقود كلها أو الكلام كله جدُّه وهزله سواء، وأما من جهة المعنى فإن النكاح والطلاق والرجعة والعتق فيها حقٌّ لله، أما العتق فظاهر، وأما الطلاق فإنه يوجب تحريم البضع، ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه وإن لم تطلبها الزوجة، وكذلك في النكاح فإنه يفيد حِلَّ ما كان حرامًا وحرمةَ ما كان حلالًا، وهو التحريم الثابت بالمصاهرة؛ ولهذا لا يستباح إلا بالمهر، وإذا كان كذلك لم يكن للعبد ــ مع تعاطي السبب الموجب لهذه الأحكام ــ أن لا يرتِّب عليها موجباتها، كما ليس له ذلك في كلمات الكفر إذا هَزَل بها كما صرّح به القرآن؛ فإن الكلام المتضمن لحقّ الله لا يمكن قولُه مع رفع ذلك الحق؛ إذ ليس للعبد أن يهزِل مع ربّه ولا يستهزئ بآياته ولا يتلاعب بحدوده.
وفي حديث أبي موسى: «ما بالُ أقوامٍ يلعبون بحدود الله ويستهزئون [42/ب] بآياته؟»
(2)
في الهازلين. يعني ــ والله أعلم ــ يقولونها لعبًا غير ملتزمين لأحكامها، وحكمها لازم لهم، وهذا بخلاف البيع وبابه؛ فإنه تصرُّف في المال الذي هو محض حق الآدمي، ولهذا يملك بذله بعوض وغير عوض، والإنسان قد يلعب مع الإنسان وينبسط معه، فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجادّ؛ لأن المزاح معه جائز.
(1)
في «بيان الدليل» : «لقيل» .
(2)
رواه ابن بطة في «إبطال الحيل» (ص 99) بهذا اللفظ. ورواه ابن ماجه (2017) وابن حبان (4265) دون قوله: «ويستهزئون بآياته» . والحديث ضعَّفه الألباني في «الضعيفة» (4431).
وحاصل الأمر أن اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله غير جائز، فيكون جدُّ القول وهزلُه سواء، بخلاف جانب العباد. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح مع أصحابه ويباسطهم، وأما مع ربه تبارك وتعالى فيجِدُّ كلَّ الجِدّ، ولهذا قال للأعرابي يمازحه:«مَن يشتري منّي العبدَ؟» فقال: تجدني رخيصًا يا رسول الله؟ فقال: «بل أنت عند الله غالٍ»
(1)
. وقصد صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله، والصيغة صيغة استفهام. وهو صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقًّا
(2)
. ولو أن رجلًا قال: «من يتزوَّج أمي أو أختي» لكان من أقبح الكلام، وقد كان عمر رضي الله عنه يضرب من يدعو امرأته أخته، وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود
(3)
أن رجلًا قال لامرأته: يا أُخَيَّة
(4)
، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أختُك هي؟» . وإنما جعل إبراهيم ذلك حاجةً لا مُزاحًا
(5)
.
ومما يوضّحه أن عقد النكاح يُشبِه العبادات في نفسه، بل هو مقدَّم على
(1)
رواه أحمد (12648) والترمذي في «الشمائل» (229) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5790) وابن حجر في «الإصابة» (2/ 452).
(2)
رواه أحمد (8723) والترمذي (1990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الترمذي والبغوي (3602).
(3)
برقم (2210) وهو مرسل، وقد وصله أبو داود في الحديث الذي بعده (2211)، والحديث في إسناده اضطراب. انظر:«ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 240).
(4)
د: «أخته» . وفي ز بدون نقط، والمثبت من أبي داود.
(5)
إشارة إلى الحديث الذي رواه البخاري (3358) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه: «بينا هو (أي إبراهيم) ذاتَ يومٍ وسارةُ، إذ أتى على جبَّار من الجبابرة، فقيل له: إن ههنا رجلًا معه امرأة من أحسن النساء، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي
…
».