المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تخصيص القرآن بالسنة جائز - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

الفصل: ‌ تخصيص القرآن بالسنة جائز

الحكمان؛ فلم يبقَ الأولُ جميعَ الواجب، ولم يحطّ الإثم عمّن اقتصر عليه، ومع ذلك فليس الزائد ناسخًا للمزيد عليه؛ إذ حكمه من الوجوب وغيره باقٍ

(1)

؛ فهكذا الزيادة المتعلقة بالمزيد لا تكون ناسخًا له، حيث لم ترفع حكمه، بل هو باقٍ على حكمه وقد ضُمَّ إليه غيره.

يوضِّحه الوجه الحادي عشر: أن الزيادة إن

(2)

رفعتْ حكمًا خطابيًّا كانت نسخًا، وزيادة التغريب وشروط الحكم وموانعه وجزاؤه

(3)

لا ترفع حكم الخطاب، وإن رفع حكم الاستصحاب

(4)

.

يوضِّحه الوجه الثاني عشر: أن ما ذكروه من كون الأول جميع الواجب وكونه مُجزِئًا وحده وكون الإثم محطوطًا عن المقتصر عليه إنما هو من أحكام البراءة الأصلية؛ فهو حكم استصحابي لم نستفده من لفظ الأمر الأول، ولا أريد به؛ فإن معنى كون العبادة مجزئة أن الذمة بريئة بعد الإتيان بها، وحطُّ الذم عن فاعلها معناه أنه قد خرج من عهدة الأمر فلا يلحقه ذم، والزيادة وإن [73/ب] رفعت هذه الأحكام لم ترفع حكمًا دلَّ عليه لفظ المزيد.

يوضِّحه الوجه الثالث عشر: أن‌

‌ تخصيص القرآن بالسنة جائز

، كما أجمعت الأمة على تخصيص قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها»

(5)

، وعموم قوله

(1)

ت: «وغير مناف» تحريف.

(2)

د، ت:«وإن» .

(3)

«وجزاؤه» ليست في ع.

(4)

ت: «الاستحباب» .

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 237

تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرِث المسلم الكافر»

(1)

، وعموم قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا قطْعَ في ثمرٍ ولا كَثَرٍ»

(2)

، ونظائر ذلك كثير؛ فإذا جاز التخصيص ــ وهو رفع بعض ما تناوله اللفظ، وهو نقصان من معناه ــ فلأن تجوز الزيادة التي لا تتضمن رفعَ شيء من مدلوله ولا نقصانه بطريق الأولى والأحرى.

الوجه الرابع عشر: أن الزيادة لا توجب رفعَ المزيد لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا

(3)

ولا عقلًا، ولا تقول العقلاء لمن ازداد خيره أو ماله أو جاهه أو علمه أو ولده: إنه قد ارتفع شيء مما في الكيس.

بل نقول في الوجه الخامس عشر: إن الزيادة قررت حكم المزيد وزادته بيانًا وتأكيدًا؛ فهي كزيادة العلم والهدى والإيمان، قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وقال: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، وقال:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، وقال:{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]. فكذلك زيادة الواجب على الواجب إنما يزيد قوةً وتأكيدًا وثبوتًا، فإن كانت متصلة به اتصالَ الجزاء والشرط كان ذلك أقوى له وأثبت وآكد، ولا ريب أن هذا أقرب إلى المعقول والمنقول والفطرة من جَعْلِ الزيادة مبطلة للمزيد عليه ناسخة له.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

«ولا عرفا» ليست في ع.

ص: 238

الوجه السادس عشر: أن الزيادة لم تتضمن النهي عن المزيد ولا المنع منه، وذلك حقيقة [74/أ] النسخ، وإذا انتفت حقيقة النسخ استحال ثبوته.

الوجه السابع عشر: أنه لا بدّ في النسخ من تنافي الناسخ والمنسوخ، وامتناع اجتماعهما، والزيادة غير منافية للمزيد عليه ولا اجتماعهما ممتنع.

الوجه الثامن عشر: أن الزيادة لو كانت نسخًا لكانت إما نسخًا بانفرادها عن المزيد أو بانضمامها إليه، والقسمان محال؛ فلا يكون نسخًا. أما الأول فظاهر؛ فلأنها

(1)

لا حكم لها بمفردها البتةَ؛ فإنها تابعة للمزيد عليه في حكمه. وأما الثاني فكذلك أيضًا؛ لأنها إذا كانت ناسخة بانضمامها إلى المزيد كان الشيء ناسخًا لنفسه ومُبطلًا لحقيقته، وهذا غير معقول. وأجاب بعضهم عن هذا بأن النسخ يقع على حكم الفعل دون نفسه وصورته، وهذا الجواب لا يُجدي عليهم شيئًا، والإلزام قائم بعينه؛ فإنه يوجب أن يكون المزيد عليه قد نسخَ حكم نفسه وجعل نفسه إذا انفرد

(2)

عن الزيادة غير مُجزِئ بعد أن كان مجزئًا.

الوجه التاسع عشر

(3)

: أن النقصان من العبادة لا يكون نسخًا لما بقي منها، فكذلك الزيادة عليها لا تكون نسخًا لها، بل أولى؛ لما تقدم.

الوجه العشرون: أن نسخ الزيادة للمزيد عليه إما أن يكون نسخًا لوجوبه، أو لإجزائه، أو لعدم وجوب غيره، أو لأمر رابع، وهذا كزيادة

(1)

ت: «فإنها» .

(2)

ت: «انفردت» .

(3)

د: «الثامن عشر» ، وهكذا يستمر نقص العدد فيما بعد، بسبب التكرار هنا.

ص: 239

التغريب مثلًا على المائة جلدة، لا يجوز أن تكون ناسخةً لوجوبها فإن الوجوب بحاله، ولا لإجزائها لأنها مجزئة عن نفسها، ولا لعدم وجوب الزائد لأنه رفعٌ لحكم عقلي وهو البراءة الأصلية؛ فلو كان رفعها نسخًا كان كلما أوجب الله شيئًا بعد الشهادتين قد نسخ به ما قبله، والأمر الرابع غير متصوَّر ولا معقول فلا يُحكم عليه.

فإن قيل: بل ههنا أمر رابع معقول، وهو الاقتصار على الأول؛ [74/ب] فإنه نسخ بالزيادة، وهذا غير الأقسام الثلاثة.

فالجواب: أنه لا معنى للاقتصار غير عدم وجوب غيره، وكونه جميع الواجب، وهذا هو القسم الثالث بعينه غيَّرتم التعبير عنه وكسَوتموه عبارة أخرى.

الوجه الحادي والعشرون: أن الناسخ والمنسوخ لا بدَّ أن يتواردا على محل واحد يقتضي المنسوخ ثبوته والناسخ رفعه، أو بالعكس، وهذا غير متحقق في الزيادة على النص.

الوجه الثاني والعشرون: أن كل واحد من الزائد والمزيد عليه دليل قائم بنفسه مستقلٌّ بإفادة حكمه، وقد أمكن العمل بالدليلين؛ فلا يجوز إلغاء أحدهما وإبطاله وإلقاء الحرب بينه وبين صاحبه وشقيقه؛ فإن كل ما جاء من

(1)

عند الله فهو حق يجب اتباعه والعمل به، ولا يجوز إلغاؤه وإبطاله إلا حيث أبطله الله ورسوله بنص آخر ناسخٍ له لا يمكن الجمع بينه وبين المنسوخ، وهذا بحمد الله منتفٍ في مسألتنا؛ فإن العمل بالدليلين يمكن، ولا

(1)

ت: «عن» .

ص: 240

تعارضَ بينهما ولا تناقضَ بوجه؛ فلا يسوغ

(1)

لنا إلغاء ما اعتبره الله ورسوله، كما لا يسوغ لنا اعتبار ما ألغاه، وبالله التوفيق.

الوجه الثالث والعشرون: أنه إن كان القضاء بالشاهد واليمين ناسخًا للقرآن، وإثبات التغريب ناسخًا للقرآن، فالوضوء بالنبيذ أيضًا

(2)

ناسخ للقرآن، ولا فرقَ بينهما البتةَ، بل القضاء بالنكول ومعاقد القِمْط يكون ناسخًا للقرآن، وحينئذٍ فنسخُ كتاب الله بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا مطعنَ فيها أولى من نسخه بالرأي والقياس والحديث الذي لا يثبت، وإن لم يكن نسخًا للقرآن لم يكن هذا نسخًا له، وأما أن يكون هذا نسخًا وذاك ليس بنسخ فتحكُّمٌ باطل وتفريق بين متماثلين.

الوجه الرابع والعشرون: [75/أ] أن ما خالفتموه من الأحاديث التي زعمتم أنها زيادة على نصّ القرآن إن كانت تستلزم نسخَه فقطعُ رِجل السارق في المرة الثانية نسخ؛ لأنه زيادة على القرآن، وإن لم يكن هذا نسخًا فليس ذلك نسخًا.

الوجه الخامس والعشرون: أنكم قلتم لا يكون المهر أقلَّ من عشرة دراهم، وذلك زيادة على ما في القرآن

(3)

؛ فإن الله سبحانه أباح استحلال البُضْع بكل ما يسمَّى مالًا، وذلك يتناول القليل والكثير، فزدتم على القرآن بقياسٍ في غاية الضعف، وبخبرٍ في غاية البطلان؛ فإن جاز نسخ القرآن بذلك فلم لا يجوز نسخه بالسنة الصحيحة الصريحة؟ وإن كان هذا ليس بنسخ لم يكن الآخر نسخًا.

(1)

ت: «يجوز» .

(2)

ت: «أيضا بالنبيذ» .

(3)

«على ما في القرآن» ساقطة من ع.

ص: 241

الوجه السادس والعشرون: أنكم أوجبتم الطهارة للطواف بقوله: «الطواف بالبيت صلاة»

(1)

، وذلك زيادة على القرآن؛ فإن الله إنما أمر بالطواف ولم يأمر بالطهارة، فكيف لم تجعلوا ذلك نسخًا للقرآن وجعلتم القضاء بالشاهد واليمين والتغريب في حدّ الزنا نسخًا للقرآن؟

الوجه السابع والعشرون: أنكم مع الناس

(2)

أوجبتم الاستبراء في جواز وطء المَسْبيَّة بحديثٍ ورد زائدٍ على كتاب الله، ولم تجعلوا ذلك نسخًا له، وهو الصواب بلا شك، فهلّا فعلتم ذلك في سائر الأحاديث الزائدة على القرآن؟

الوجه الثامن والعشرون: أنكم وافقتم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها بخبر الواحد، وهو زائد على كتاب الله

(3)

قطعًا، ولم يكن ذلك

(4)

نسخًا، فهلّا فعلتم ذلك في خبر القضاء بالشاهد واليمين والتغريب

(5)

ولم تعدُّوه نسخًا؟ وكلّ ما تقولونه في محل الوفاق يقوله لكم منازعوكم في محلّ النزاع حرفًا بحرفٍ.

(1)

رواه الترمذي (960) والدارمي (1889)، وصححه ابن خزيمة (2739) وابن حبان (3836) والحاكم (1/ 459) من حديث ابن عباس، واختلف في رفعه ووقفه، ورجح رفعَه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ورجح النسائي والبيهقي الوقف. انظر:«التلخيص الحبير» (1/ 225) و «الإرواء» (1/ 154).

(2)

«مع الناس» ليست في ع.

(3)

د: «الكتاب» .

(4)

«ذلك» ليست في ت.

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 242

الوجه التاسع والعشرون: أنكم قلتم: لا يفطر المسافر ولا يقصر في أقل من [75/ب] ثلاثة أيام، والله تعالى قال:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وهذا يتناول الثلاثة وما دونها، فأخذتم بقياس ضعيف أو أثر

(1)

لا يثبت في التحديد بالثلاث، وهو زيادة على القرآن، ولم تجعلوا ذلك نسخًا، فكذلك الباقي.

الوجه الثلاثون: أنكم منعتم قطع من سرق ما يُسرِع إليه الفساد من الأموال مع أنه سارقٌ حقيقة ولغة وشرعًا بقوله: «لا قطعَ في ثمرٍ ولا كَثَرٍ»

(2)

، ولم تجعلوا ذلك نسخًا للقرآن وهو زائد عليه.

الوجه الحادي والثلاثون: أنكم رددتم السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على العمامة

(3)

، وقلتم: إنها زائدة على نصّ الكتاب

(4)

فتكون ناسخة له فلا تُقبل، ثم ناقضتم فأخذتم بأحاديث المسح على الخفين

(5)

وهي زائدة على القرآن، ولا فرقَ بينهما، واعتذرتم بالفرق بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة بخلاف المسح على العمامة، وهو اعتذار فاسد، فإن من له اطلاعٌ على الحديث لا يشك في شهرة كل منهما وتعدُّدِ طرقها واختلافِ مخارجها وثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا.

(1)

ت: «وأثر» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه البخاري (205) من حديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه.

(4)

ت: «القرآن» .

(5)

رواه البخاري (387) ومسلم (272) من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.

ص: 243

الوجه الثاني والثلاثون: أنكم قبلتم شهادة المرأة الواحدة على الرضاع والولادة وعيوب النساء، مع أنه زائد على ما في القرآن، ولم يصحّ الحديث به صحتَه بالشاهد واليمين، ورُدَّ

(1)

ونحوه بأنه زائد على القرآن.

الوجه الثالث والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه لا يحرِّم أقلُّ من خمس رضعات

(2)

، ولا تحرِّم الرضعة والرضعتان

(3)

، وقلتم: هي زيادة على القرآن، ثم أخذتم بخبر

(4)

لا يصح بوجهٍ ما في أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم أو تساويها، ولم تَروه زيادة على [76/أ] القرآن، وقلتم: هذا بيان للفظ السارق فإنه مجمل، والرسول بيَّنه بقوله:«لا تُقطع اليدُ في أقلَّ من عشرة دراهم»

(5)

. فيا لله العجب! كيف كان هذا بيانًا ولم يكن حديث التحريم بخمس رضعات بيانًا لمجمل قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]! ولا تأتون بعذر في آية القطع إلا كان مثله أو أولى منه في آية الرضاع سواء بسواء

(6)

.

(1)

في المطبوع: «ورددتم هذا» .

(2)

رواه مسلم (1452) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

رواه مسلم (1451) من حديث أم الفضل رضي الله عنها.

(4)

ع: «بحديث» .

(5)

رواه أحمد (6900) والدارقطني (3428) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والإسناد ضعيف، فيه الحجاج بن أرطاة متكلم فيه وهو مدلس، وقد عنعن الحديث، ولم يصرح بالتحديث. وانظر:«تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 553 - 555).

(6)

«بسواء» ليست في ع.

ص: 244

الوجه الرابع والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الجوربين

(1)

، وقلتم: هي زائدة على القرآن، وجوَّزتم الوضوء بالخمر المحرمة من نبيذ التمر المسكر بخبر لا يثبت

(2)

وهو خلاف القرآن.

الوجه الخامس والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصوم عن الميت

(3)

والحج عنه

(4)

، وقلتم: هو زائد على قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، ثم جوَّزتم أن تُعمل أعمال الحج كلها عن المغمى عليه، ولم تروه زائدًا على قوله:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} . وأخذتم بالسنة الصحيحة وأصبتم في حمل العاقلة الديةَ عن القاتل خطأً

(5)

ولم تقولوا هو زائد على قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]، {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]، واعتذاركم بأن الإجماع ألجأكم إلى ذلك لا يفيد؛ لأن عثمان البتي ــ وهو من فقهاء التابعين ــ يرى أن

(6)

الدية على القاتل، وليس على العاقلة منها شيء

(7)

، ثم

(1)

رواه أبو داود (159) والترمذي وصححه (99) وابن ماجه (559) وأحمد (18206)، وصححه ابن خزيمة (198) وابن حبان (1338) من حديث المغيرة رضي الله عنه، وضعفه آخرون. انظر:«الدراية في تخريج أحاديث الهداية» (1/ 81).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه البخاري (1952) ومسلم (1147) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

رواه البخاري (1852) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

«أن» ليست في ت.

(7)

انظر: «المحلى» (11/ 259).

ص: 245

هذا حجة عليكم أن تُجمِع الأمة على الأخذ بالخبر وإن كان زائدًا على القرآن.

الوجه السادس والثلاثون: أنكم

(1)

رددتم السنة الثابتة

(2)

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اشتراط المحرم أن يحلّ حيث حُبِس

(3)

، وقلتم: هو زائد على القرآن، فإن الله أمر بإتمام الحج والعمرة، والإحلال خلاف الإتمام، ثم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم لبن الفحل

(4)

، وهو زائد على ما في القرآن [76/ب] قطعًا.

الوجه السابع والثلاثون: ردُّكم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوضوء من مس الفرج

(5)

وأكل لحوم الإبل

(6)

، وقلتم: ذلك زيادة على القرآن؛ لأن الله تعالى إنما ذكر الغائط، ثم أخذتم

(7)

بحديث ضعيف في إيجاب الوضوء من القهقهة

(8)

، وخبر ضعيف في إيجابه من القيء

(9)

، ولم يكن إذ ذاك زائدًا

(1)

«أنكم» ليست في ع.

(2)

«الثابتة» ليست في ع.

(3)

رواه البخاري (5089) ومسلم (1207) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

رواه البخاري (2644) ومسلم (1445) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

رواه أبو داود (181) والترمذي وصححه (82) وأحمد (27293) والدارقطني (528) وصححه ابن حبان (1116) والحاكم (1/ 136) من حديث بُسرة بنت صفوان رضي الله عنها.

(6)

رواه مسلم (360) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.

(7)

ع: «أخذوا» .

(8)

رواه ابن عدي في «الكامل» (4/ 101)، ولا يصح. انظر:«نصب الراية» (1/ 44 - 50).

(9)

رواه ابن ماجه (1221)، وفي إسناده إسماعيل بن عياش، في روايته عن الحجازيين كلام وهذه منها، والحديث ضعفه البيهقي (1/ 142)، ورجح جماعة من المتقدمين إرساله، منهم الذهلي وأبو حاتم والدارقطني. انظر:«سنن الدارقطني» (1/ 280 - 283) و «العلل» (14/ 361).

ص: 246

على ما في القرآن إذ هو قول متبوعكم؛ فمن العجب إذا قال من قلّدتموه قولًا زائدًا على ما في القرآن قبلتموه وقلتم: ما قاله إلا بدليل، وسهُلَ عليكم مخالفة ظاهر القرآن حينئذٍ، وإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا زائدًا على ما في القرآن قلتم: هذا زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا يُنسخ بالسنة، فلم تأخذوا به، واستصعبتم خلاف ظاهر القرآن، فهان خلافُه إذا وافق قول من قلّدتموه، وصعُب خلافُه إذا وافق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم!

الوجه الثامن والثلاثون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف لا يثبت في إيجاب المضمضة والاستنشاق في الغسل من الجنابة

(1)

، ولم تروه زائدًا على القرآن، ورددتم السنة الصحيحة الصريحة في أمر المتوضئ بالاستنشاق

(2)

، وقلتم: هو

(3)

زائد على القرآن، فهاتوا لنا الفرقَ بين ما يُقبل من السنن الصحيحة وما يُردُّ منها، فإما أن تقبلوها كلها وإن زادت على القرآن، وإما أن تردّوها كلها إذا كانت

(4)

زائدة على القرآن. وأما التحكُّم في قبول ما شئتم منها وردّ ما شئتم، ممّا

(5)

لم يأذن به الله ولا رسوله، ونحن نشهد الله شهادة

(1)

رواه الدارقطني (409)، وقال: هذا باطل، ولم يحدث به إلا بركة ، وبركة هذا يضع الحديث. وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 81).

(2)

رواه مسلم (237) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

ت: «هذا» .

(4)

ت: «وإن كانت» .

(5)

ت: «فما» .

ص: 247

يسألنا عنها يوم نلقاه أنا لا نردُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة واحدة صحيحة أبدًا إلا بسنة صحيحة

(1)

مثلها نعلم أنها ناسخة لها.

الوجه التاسع والثلاثون: أنكم رددتم السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[77/أ] في القَسْم للبكر سبعًا يفضلها بها على من عنده من النساء وللثيِّب ثلاثًا إذا أعرس بهما

(2)

، وقلتم: هذا زائد على العدل المأمور به في القرآن ومخالف له، فلو قبلناه

(3)

كنا قد نسخنا به القرآن، ثم أخذتم بقياس فاسد واهي

(4)

لا يصح في جواز نكاح الأمة لواجدِ الطَّول غير خائفٍ العنتَ إذا لم تكن تحته حرة، وهو خلاف ظاهر القرآن وزائدٌ عليه قطعًا.

الوجه الأربعون: ردُّكم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط نفقة المبتوتة وسكناها

(5)

، وقلتم: هو مخالف للقرآن، فلو قبلناه

(6)

كان نسخًا للقرآن به، ثم أخذتم بخبر ضعيف لا يصح أن عدة الأمة قُرْءانِ وطلاقها طلقتان

(7)

، مع كونه زائدًا على ما في القرآن قطعًا.

(1)

«صحيحة» ليست في ت.

(2)

رواه البخاري (5214) ومسلم (1461) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

ت: «قبلنا» .

(4)

كذا في د بإثبات الياء. وفي ت: «واهن» .

(5)

رواه مسلم (1480) من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.

(6)

ت: «قبلنا» .

(7)

رواه أبو داود (2189) والترمذي (1182)، وقال:«هذا حديث غريب» ، ورواه ابن ماجه (2080) والحاكم (2/ 205) من حديث عائشة، وفي إسناده مظاهر بن أسلم المخزومي متكلم فيه، وقال البيهقي في «السنن الصغير» (3/ 130): إنه حديث أنكره عليه أهل البصرة، وضعَّفه البخاري وغيره من الحفاظ، وكيف يصح ذلك وفي رواية زيد بن أسلم عن القاسم بن محمد أنه سئل عن ذلك فقيل له: أبلغك عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا؟ فقال: لا.

ص: 248

الوجه الحادي والأربعون: ردُّكم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخيير وليِّ الدم بين الدية أو القَوَد أو العفو

(1)

، بقولكم: إنها زائدة

(2)

على ما في القرآن، ثم أخذتم بقياسٍ من أفسد القياس أنه لو ضربه بأعظم دبُّوس يوجد حتى ينثر دماغه على الأرض فلا قوَدَ عليه، ولم تروا ذلك مخالفًا لظاهر القرآن، والله تعالى يقول:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، ويقول:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].

الوجه الثاني والأربعون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا يُقتَل مسلم بكافر»

(3)

، وقوله:«المؤمنون تتكافأُ دماؤهم»

(4)

، وقلتم: هذا خلاف ظاهر القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وأخذتم بخبر لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه «لا قوَدَ إلا بالسيف»

(5)

، وهو مخالف لظاهر القرآن؛ فإنه سبحانه قال:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .

(1)

رواه البخاري (112) ومسلم (1355) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

د: «زيادة» .

(3)

رواه البخاري (3047) من حديث علي رضي الله عنه.

(4)

رواه أبو داود (4530) والنسائي (4734) وأحمد (993)، وصححه الحاكم (2/ 141) من طريق آخر. وانظر:«التلخيص الحبير» (4/ 217) و «الإرواء» (4/ 250).

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 249

الوجه الثالث والأربعون: أنكم أخذتم بخبر لا يصح عن رسول الله [77/ب]صلى الله عليه وسلم في

(1)

أنه «لا جمعةَ إلا في مصرٍ جامعٍ

(2)

»

(3)

، وهو مخالف لظاهر القرآن قطعًا وزائد عليه، ورددتم الخبر الصحيح الذي لا شكّ في صحته عند أحد من أهل العلم في أن كل بيِّعينِ فلا بيعَ بينهما حتى يتفرقا

(4)

، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في وجوب الوفاء بالعقد.

الوجه الرابع والأربعون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف «لا تُقطع الأيدي في الغزو»

(5)

وهو زائد على القرآن، وعدَّيتموه إلى سقوط الحدود على من فعل أسبابها في دار الحرب، وتركتم الخبر الصحيح الذي لا ريب في صحته في المصرَّاة

(6)

، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن من عدة أوجه.

الوجه الخامس والأربعون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف بل باطل في أنه لا يؤكل الطافي من السمك

(7)

، وهو خلاف ظاهر القرآن؛ إذ يقول تعالى:

(1)

«في» ليست في ع.

(2)

«جامع» ليست في ت.

(3)

إنما ورد عن علي رضي الله عنه موقوفًا رواه عبد الرزاق (5177) وابن الجعد (2990) وابن أبي شيبة (5098)، وصححه ابن حجر في «الدراية» (1/ 214)، وأما مرفوعًا فإنه لا يروى في ذلك شيء. انظر:«معرفة السنن والآثار» للبيهقي (4/ 321)، و «نصب الراية» (2/ 195).

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

رواه البخاري (2150) ومسلم (1515) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7)

رواه أبو داود (3815) وابن ماجه (3247) من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا، وإسناده ضعيف، فيه محمد بن مسلم بن تدرس مدلس ولم يصرح بالتحديث، وذكر النووي في «المجموع» (9/ 34) أنه حديث ضعيف باتفاق الحفاظ، واختلف في رفعه ووقفه. وانظر:«تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (4/ 644 - 648) و «نصب الراية» (4/ 202 - 204).

ص: 250

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]، فصيده ما صِيْدَ منه حيًّا، وطعامه قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو

(1)

ما مات فيه، صحَّ ذلك عن الصدّيق

(2)

وابن عباس

(3)

وغيرهما، ثم تركتم الخبر الصحيح المصرِّح بأن ميتته حلال

(4)

مع موافقته لظاهر القرآن.

الوجه السادس والأربعون: أنكم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم كل ذي نابٍ من السباع ومِخْلبٍ من الطير

(5)

، وهو زائد على ما في القرآن، ولم تروه ناسخًا، ثم تركتم حديث حِلّ لحوم الخيل الصحيح الصريح

(6)

، وقلتم: هو مخالف لما في كتاب الله زائد عليه، وليس كذلك.

(1)

«هو» ليست في ت، ع.

(2)

رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (7/ 89)، ووصله عبد الرزاق (8654) وابن أبي شيبة (20115) والدارقطني (4724).

(3)

رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (7/ 89)، ووصله سعيد بن منصور (833 - التفسير) وهو في «مصنف ابن أبي شيبة» (20125) من طريق آخر.

(4)

رواه أبو داود (83) والنسائي (59) والترمذي وصححه (69) وابن ماجه (386) وأحمد (7233)، وصححه ابن خزيمة (111) وابن حبان (1243) والبغوي (281)، ونقل الترمذي في «العلل الكبير» (ص 41) تصحيحه عن البخاري.

(5)

رواه مسلم (1934) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(6)

رواه البخاري (4219) ومسلم (1941) من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 251

الوجه السابع والأربعون: أنكم أخذتم بحديث المنع من توريث القاتل

(1)

مع أنه زائد على القرآن، وحديث عدم القَوَد على قاتلِ ولدِه

(2)

وهو زائد على ما في القرآن، مع أن الحديثين ليسا في الصحة بذاك، وتركتم الأخذ بحديث إعتاق النبي صلى الله عليه وسلم لصفية [78/أ] وجَعْل عتقِها صداقَها

(3)

وصارت بذلك زوجة

(4)

، وقلتم: هذا خلاف ظاهر

(5)

القرآن، والحديث في غاية الصحة.

الوجه الثامن والأربعون: أنكم أخذتم بالحديث الضعيف الزائد على ما في القرآن، وهو «كلّ طلاقٍ جائزٌ إلا طلاقَ المعتوه»

(6)

، فقلتم

(7)

: هذا يدل على وقوع طلاق المُكرَه والسكران، وتركتم السنة الصحيحة

(8)

التي لا ريب في صحتها فيمن وجد متاعه بعينه عند رجلٍ قد أفلس فهو أحقُّ به

(9)

،

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه البخاري (4200) ومسلم (2/ 1045) من حديث أنس رضي الله عنه.

(4)

ع: «زوجته» .

(5)

ت: «ظاهر خلاف» .

(6)

رواه الترمذي (1191) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، ضعيف، فيه عطاء بن عجلان متكلم فيه، وورد موقوفًا عن علي رضي الله عنه رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (7/ 45)، ووصله عبد الرزاق (11415) وسعيد بن منصور (1115) وابن الجعد (2456)، وهو الصحيح.

(7)

د، ع:«فقالوا» .

(8)

بعدها في ت: «الصريحة» .

(9)

رواه البخاري (2402) ومسلم (1559) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 252

وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن بقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]. والعجب أن ظاهر القرآن مع الحديث متوافقان متطابقان؛ فإن منع البائع من الوصول إلى الثمن وإلى عينِ ماله إطعامٌ له بالباطل الغرماءَ؛ فخالفتم ظاهر القرآن مع السنة الصحيحة الصريحة.

الوجه التاسع والأربعون: أخذتم بالحديث الضعيف وهو «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة»

(1)

، ولم تقولوا: هو زائد على القرآن في قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وتركتم الحديث الصحيح في بقاء الإحرام بعد الموت وأنه لا ينقطع به

(2)

، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في قوله: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54] وخلاف ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله»

(3)

.

الوجه الخمسون: ردُّ السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب الموالاة، حيث أمر الذي ترك لُمعةً من قدمهِ بأن يعيد الوضوء والصلاة

(4)

، وقالوا: هو

(5)

زائد على كتاب الله، ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على

(1)

رواه ابن ماجه (850) وأحمد (14643) والطبراني في «المعجم الأوسط» (7579)، وفي إسناده محمد بن مسلم بن تدرس مدلس وقد عنعنه، والحديث ضعفه ابن حجر، وذكر أن له طرقًا عن الصحابة وكلها معلولة. انظر:«الفتح» (2/ 242) و «التلخيص الحبير» (1/ 420).

(2)

رواه البخاري (1265) ومسلم (1206) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

رواه مسلم (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلم (243) من حديث عمر رضي الله عنه.

(5)

ت: «هذا» .

ص: 253

كتاب الله في أن «أقلّ الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة»

(1)

.

الوجه الحادي والخمسون: ردُّ الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه

(2)

«لا نكاح إلا بوليّ»

(3)

، وأن «من نكحتْ نفسها فنكاحها باطل»

(4)

، وقالوا: هو زائد على كتاب الله؛ فإن الله تعالى يقول: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ [78/ب] أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، وقال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ

(5)

فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234]، ثم أخذوا

(6)

بالحديث الضعيف الزائد على القرآن قطعًا في اشتراط الشهادة في صحة النكاح. والعجب أنهم استدلُّوا على ذلك بقوله: «لا نكاح إلا بوليٍّ مرشد

(1)

رواه الطبراني في «الكبير» (7586) وفي «الأوسط» (599)، وفي إسناده العلاء بن كثير متروك، ورماه ابن حبان بالوضع. والحديث ضعفه ابن حجر في «الدراية» (1/ 84)، وحكم بنكارته الألباني في «الضعيفة» (1414).

(2)

ع: «أن» .

(3)

رواه أبو داود (2085) والترمذي (1101) وابن ماجه (1881) وأحمد (19518) من حديث أبي موسى الأشعري، وصححه ابن حبان (4077) والحاكم (2/ 172) ونقل تصحيحه عن علي ابن المديني ومحمد بن يحيى الذهلي وجماعة. وانظر:«نصب الراية» (3/ 183). وذكره الكتاني في «نظم المتناثر» (ص 147).

(4)

رواه أبو داود (2083) والترمذي وحسنه (1102) وابن ماجه (1879) وأحمد (24205)، وصححه ابن حبان (4074) والحاكم (2/ 168) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

في النسخ: «عليهن» .

(6)

ت: «أخذتم» .

ص: 254

وشاهدَيْ عدل»

(1)

، ثم قالوا: لا يفتقر إلى حضور الولي ولا عدالة الشاهدين.

فهذا طرفٌ من بيان تناقض من ردَّ السنن بكونها زائدةً على القرآن فتكون ناسخة فلا تُقبل.

الوجه الثاني والخمسون: أنكم تجوِّزون الزيادة على القرآن بالقياس الذي أحسنُ أحواله أن يكون للأمة فيه قولان: أحدهما أنه باطل منافٍ للدين، والثاني أنه صحيح مؤخَّر عن الكتاب والسنة؛ فهو في المرتبة الأخيرة، ولا تختلفون في جواز إثبات حكمٍ زائدٍ على القرآن به

(2)

، فهلّا قلتم: إن ذلك يتضمن نسخ الكتاب بالقياس؟

فإن قيل: قد دلَّ القرآن على صحة القياس واعتباره وإثبات الأحكام به

(3)

، فما خرجنا عن موجب القرآن، ولا زدنا على ما في القرآن إلا بما دلَّنا عليه القرآن.

قيل: فهلّا قلتم مثل هذا سواء في السنة الزائدة على القرآن، وكان قولكم ذلك في السنة أسعدَ وأصلحَ

(4)

من القياس الذي هو محلُّ آراء المجتهدين وعُرضةٌ للخطأ، بخلاف قول

(5)

من ضُمِنَتْ لنا العصمة في أقواله

(6)

،

(1)

رواه الشافعي في «مسنده» (22) موقوفًا عن ابن عباس بهذا اللفظ.

(2)

«به» ليست في ت.

(3)

«به» ساقطة من ع.

(4)

ت، ع:«أصح» .

(5)

«قول» ليست في د.

(6)

في ت بعدها: «وأفعاله» .

ص: 255

وفرضَ الله علينا اتباعه وطاعته.

فإن قيل: القياس بيان لمراد الله ورسوله من النصوص، وأنه أريد بها إثبات الحكم في المذكور في نظيره، وليس ذلك زائدًا على القرآن، بل تفسير له وتبيين.

قيل: فهلّا قلتم: إن السنة بيان لمراد الله من القرآن، تفصيلًا لما أجمله، وتبيينًا لما سكت عنه، وتفسيرًا لما أبهمه، فإن الله سبحانه أمر بالعدل والإحسان [79/أ] والبر والتقوى، ونهى عن الظلم والفواحش والعدوان والإثم، وأباح لنا الطيبات، وحرّم علينا الخبائث؛ فكل ما جاءت به السنة فإنها تفصيل لهذا المأمور به والمنهيّ عنه، والذي أحلَّ لنا وحرَّم علينا.

وهذا يتبيَّن بالمثال التاسع عشر: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في حديث النعمان بن بشير أن يعدل بين الأولاد في العطية، فقال:«اتقوا الله واعدِلوا بين أولادكم» ، وفي الحديث:«إني لا أشهدُ على جَورٍ» فسماه جَورًا، وقال:«إن هذا لا يصلح» ، وقال:«أَشْهِدْ على هذا غيري»

(1)

تهديدًا له، وإلا فمن الذي

(2)

يطيب قلبه من المسلمين أن يشهد على ما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه جَور وأنه لا يصلح وأنه خلافُ تقوى الله وأنه خلافُ العدل؟ وهذا الحديث هو من تفاصيل العدل الذي أمر الله به في كتابه، وقامت به السماوات والأرض، وانْبنَتْ

(3)

عليه الشريعة؛ فهو أشدُّ موافقةً للقرآن من كل قياس على وجه

(1)

تقدم تخريج هذه الأحاديث.

(2)

«الذي» ليست في د.

(3)

ت، ع:«وأثبتت» .

ص: 256

الأرض، وهو محكم الدلالة غاية الإحكام، فردَّ بالمتشابه من قوله:«كلُّ أحدٍ أحقُّ بماله من ولده ووالده والناس أجمعين»

(1)

، فكونه أحقَّ به يقتضي جواز تصرفه فيه كما يشاء، وبقياس متشابه على إعطاء الأجانب، ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم والقياس لا يُقاوِم هذا المحكمَ المبيّن

(2)

غاية البيان.

المثال العشرون: ردُّ المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصرَّاة

(3)

بالمتشابه من القياس، وزعمهم أن هذا حديث يخالف الأصول فلا يُقبل. فيقال: الأصول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أمته والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنة؛ فالحديث الصحيح أصل بنفسه، فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه؟ هذا من أبطل الباطل، والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله، وكلام

(4)

رسوله، وما عداهما فمردودٌ [79/ب] إليهما؛ فالسنة أصل قائم بنفسه، والقياس فرع، فكيف يُردُّ الأصلُ بالفرع؟ قال الإمام أحمد

(5)

: إنما القياس أن تقيس على أصل، فأما أن تجيء إلى الأصل فتهدِمه ثم تقيس، فعلى أي شيء تقيس؟

(1)

رواه سعيد بن منصور (2293) عن الحسن مرسلاً، ورواه الدارقطني (4568) والبيهقي (10/ 319) عن حبان بن أبي جبلة مرسلًا، وأعلّه البيهقي (10/ 319) بالإرسال، والحديث ضعفه الألباني في «الضعيفة» (359).

(2)

ع: «البين» .

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

«كلام» ليست في ع.

(5)

انظر «العدة» لأبي يعلى (4/ 1336).

ص: 257

وقد تقدّم بيان موافقة حديث المصرّاة للقياس، وإبطال قول من زعم أنه خلاف القياس، وأنه ليس في الشريعة حكم يخالف القياس الصحيح، وأما القياس الباطل فالشريعة كلها مخالفة له. ويا لله العجب! كيف وافق الوضوء بالنبيذ المشتدّ للأصول

(1)

حتى قُبِل، وخالف خبر المصرّاة للأصول حتى رُدَّ؟

المثال الحادي والعشرون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في العرايا بالمتشابه من قوله: «التمر بالتمر مثلًا بمثلٍ سواء بسواء»

(2)

، فإن هذا لا يتناول الرطب بالتمر.

فإن قيل: فأنتم رددتم خبر النهي عن بيع الرطب بالتمر

(3)

مع أنه محكم صريح صحيح، بحديث العرايا

(4)

وهو متشابه.

قيل: فإذا كان عندكم محكمًا صحيحًا فكيف رددتموه بالمتشابه من اشتراط المساواة بين التمر والتمر

(5)

؟ فلا بحديث النهي أخذتم، ولا بحديث العرايا، بل خالفتم الحديثين معًا. وأما نحن فأخذنا بالسنن الثلاثة، ونزَّلنا كلَّ سنة على وجهها ومقتضاها، ولم نضرب بعضها ببعض، ولم نخالف شيئًا منها؛ فأخذنا بحديث النهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلًا،

(1)

ع: «الأصول» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

«والتمر» ليست في ع.

ص: 258

وأخذنا بحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر مطلقًا، وأخذنا بحديث العرايا وخصصنا به عمومَ حديث النهي عن بيع الرطب بالتمر؛ اتباعًا لسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، وإعمالًا لأدلة الشرع جميعها، فإنها كلها حق، ولا يجوز ضرب الحق بعضه ببعض وإبطال بعضه ببعض، والله الموفق.

المثال الثاني والعشرون

(1)

: [80/أ] ردُّ حديث القَسامة الصحيح الصريح المحكم

(2)

بالمتشابه من قوله: «لو يُعطَى الناسُ بدعواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه»

(3)

. والذي شرع الحكم بالقسامة هو الذي شرع أن لا يُعطَى أحد بدعواه المجردة، وكلا الأمرين حق من عند الله، لا اختلاف فيه، ولم يُعطَ في القسامة بمجرد الدعوى، وكيف يليق بمن بهرتْ حكمةُ شرعه العقولَ أن لا يعطي المدّعي بمجرد دعواه عُودًا من أَراكٍ ثم يعطيه بدعوى مجردة دمَ أخيه المسلم؟ وإنما أعطاه ذلك بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقُه فوق تغليب الشاهدين، وهو اللَّوث

(4)

والعداوة والقرينة الظاهرة من وجود العدو مقتولًا في بيت عدوه، فقوَّى الشارع الحكيم

(5)

هذا السبب باستحلاف خمسين من أولياء القتيل الذين يبعد أو يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدمٍ ليس منه بسبيل، ولا يكون فيهم رجل رشيدٌ يراقب الله؟ ولو عُرِض على جميع

(1)

ت: «الثاني والخمسون» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه البخاري (4552) ومسلم (1711) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(4)

ع: «الموت» تحريف.

(5)

ع: «الحكم» .

ص: 259

العقلاء هذا الحكم والحكم بتحليف العدو الذي وُجِد القتيل في داره بأنه ما قتله لرأوا أن ما

(1)

بينهما من العدل كما بين الأرض والسماء، ولو سئل كل سليم الحاسّة

(2)

عن قاتل هذا لقال من وُجِد في داره، والذي يقضى منه العجب أن يُرى قتيل يتشحَّطُ في دمه وعدوه هاربٌ بسكينٍ ملطَّخةٍ بالدم ويقال: القول قوله، فيستحلفه بالله ما قتلَه ويخلّي سبيله، ويقدم ذلك على أحسن الأحكام وأعدلها وألصقها بالعقول والفطر، الذي لو اتفقت العقلاء لم يهتدوا لأحسنَ منه، بل ولا لمثله.

وأين ما يتضمنه الحكم بالقسامة من حفظ الدماء إلى ما يتضمنه تحليف من لا يشكّ مع القرائن التي تفيد القطع أنه الجاني؟

ونظير هذا إذا رأينا رجلًا من أشراف الناس حاسرَ الرأس بغير عمامة، [80/ب] وآخر أمامه يشتدُّ عدْوًا وفي يده عمامة وعلى رأسه أخرى؛ فإنا ندفع العمامة التي بيده إلى حاسر الرأس ونقبل قوله، ولا نقول لصاحب اليد: القول قولك مع يمينك.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو يُعطى الناسُ بدعواهم» لا يعارض القسامة بوجهٍ؛ فإنه إنما نفى

(3)

الإعطاء بدعوى مجردة.

وقوله: «ولكن اليمين على المدَّعى عليه» هو في مثل هذه الصورة حيث لا يكون مع المدعي إلا مجرد الدعوى، وقد دلّ القرآن على رجم المرأة بلعان الزوج إذا نكلَتْ، وليس ذلك إقامةً للحد بمجرد أيمان الزوج، بل بها

(1)

«ما» ساقطة من ت.

(2)

ت: «الحاسية» .

(3)

ت: «بقي» تصحيف.

ص: 260

وبنكولها، وهكذا في القسامة إنما يُقبَل فيها باللوث الظاهر والأيمان المتعدّدة المغلَّظة، وهاتان بيِّنتا هذين الموضعين. والبيناتُ تختلف بحسب أحوال المشهود به كما تقدم بأربعة شهود، وثلاثة، بالنص وإن خالفه من خالفه في بينة الإعسار، واثنان، وواحد ويمين، ورجل وامرأتان، ورجل واحد، وامرأة واحدة، وأربعة أيمان، وخمسون يمينًا، ونكول وشهادة الحال، ووصف المالك اللقطة، وقيام

(1)

القرائن، والشَّبه الذي يخبر به القائف، ومعاقد القِمْط، ووجوه الآجُرِّ في الحائط، وكونه معقودًا ببناء أحدهما عند من يقول بذلك؛ فالقسامة مع اللَّوث من أقوى البينات.

المثال الثالث والعشرون: ردّ السنة الثابتة المحكمة في النهي عن بيع الرطب بالتمر

(2)

، بالمتشابه من قوله:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وبالمتشابه من قياسٍ في غاية الفساد، وهو قولهم: الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين وإما أن يكون جنسًا واحدًا، وعلى التقديرين فلا يُمنع بيع

(3)

أحدهما بالآخر، وأنت إذا نظرتَ إلى هذا القياس رأيته مصادمًا للسنة أعظمَ مصادمةٍ، ومع أنه فاسد [81/أ] في نفسه، بل هما جنس واحد أحدهما أزيدُ من الآخر قطعًا بلِينَتِه، فهو أزيدُ أجزاءً من الآخر بزيادة لا يمكن فصلها وتمييزها، ولا يمكن أن يُجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به

(4)

عند الكمال؛ إذ هو ظنٌّ وحُسبان، فكان المنع من بيع أحدهما

(1)

«قيام» ساقطة من ت، ع.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ع: «مع» .

(4)

ع: «منه» .

ص: 261

بالآخر محضَ القياس لو لم تأتِ به سنة، وحتى لو لم يكن ربًا ولا القياس يقتضيه لكان أصلًا قائمًا بنفسه، يجب التسليم والانقياد له كما يجب التسليم لسائر نصوصه المحكمة

(1)

. ومن العجب ردُّ هذه السنة بدعوى أنها مخالفة للقياس والأصول، وتحريم بيع الكُسْب

(2)

بالسِّمْسِم ودعوى أن ذلك موافق للأصول، فكلُّ أحدٍ يعلم أن جريان الربا بين التمر والرطب أقربُ إلى الربا نصًّا وقياسًا ومعقولًا من جريانه بين الكُسْب والسمسم.

المثال الرابع والعشرون: ردُّ المحكم الصريح الصحيح من السنة بالإقراع بين الأعبد الستة الموصى بعتقهم

(3)

، وقالوا: هو خلاف الأصول، بالمتشابه من رأيٍ فاسد وقياس باطل، بأنهم إما أن يكون كلُّ واحد منهم قد استحقَّ العتق فلا يجوز نقله عنه إلى غيره، أو لم يستحقَّه فلا يجوز أن يُعتق منهم أحد، وهذا الرأي الباطل كما أنه في مصادمة السنة فهو فاسد في نفسه؛ فإن العتق إنما استحقّ في ثلث ماله ليس إلّا، والقياس والأصول تقتضي جمع الثلث في محل واحد. كما إذا أوصى بثلاثة دراهم وهي كل ماله، فلم يجز الورثة، فإنا ندفع إلى الموصى له درهمًا ولا نجعله شريكًا بثلث كل درهم، ونظائر ذلك؛ فهذا المعتق لعبيده

(4)

كأنه أوصى

(5)

بعتق ثلثهم؛ إذ هذا هو الذي يملكه، وفيه صحت الوصية؛ فالحكم بجمع الثلث في اثنين

(1)

ع: «للحكمة» .

(2)

عُصارة الدهن.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

ع: «لعبده» .

(5)

«أوصى» ساقطة من ع.

ص: 262

منهم

(1)

أحسنُ عقلًا وشرعًا وفطرةً من جعْلِ الثلث شائعًا في كل واحدٍ واحدٍ منهم، فحكم رسول الله [81/ب]صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة خير من حكم غيره بالرأي المحض.

المثال الخامس والعشرون: ردُّ السنة الصريحة المحكمة في تحريم الرجوع في الهبة إلا للوالد

(2)

، برأي متشابه فاسد اقتضى عكسَ السنة، وأنه يجوز الرجوع في الهبة لكل أحد إلا لوالد أو لذي رحم مَحْرم أو لزوج أو زوجة أو

(3)

يكون الواهب قد أثيب منها، ففي هذه المواضع الأربعة يمتنع

(4)

الرجوع، وفرَّقوا بين الأجنبي والرحم بأن هبة القريب صلة ولا يجوز قطعها، وهبة الأجنبي تبرُّعٌ وله أن يُمضِيه وأن لا يُمضِيه، وهذا مع كونه مصادمًا للسنة مصادمةً محضة فهو فاسد؛ لأن الموهوب له حين قبض العين الموهوبة دخلت في مِلْكه، وجاز له

(5)

التصرُّف فيها؛ فرجوع الواهب فيها انتزاع لملكه

(6)

منه بغير رضاه، وهذا باطل شرعًا وعقلًا، وأما الوالد فولده جزء منه، وهو وماله لأبيه، وبينهما من البعضية ما يوجب شدة الاتصال، بخلاف الأجنبي.

(1)

ت: «منهما» .

(2)

رواه أبو داود (3539) والترمذي وصححه (1299) وابن ماجه (2377) وأحمد (2119)، وصححه ابن حبان (5123) والحاكم (2/ 46) من حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.

(3)

ت: «و» .

(4)

ع: «تمنع» .

(5)

«له» ليست في ت.

(6)

ت: «الملكية» .

ص: 263

فإن قيل: لم نخالفه إلا بنص محكم صريح صحيح، وهو حديث سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من وَهَبَ هبةً فهو أحقُّ بها ما لم يُثَبْ منها»

(1)

، قال البيهقي

(2)

: قال لنا أبو عبد الله ــ يعني الحاكم ــ: هذا حديث صحيح، إلا أن يكون الحمل فيه على شيخنا. يريد أحمد بن إسحاق بن محمد بن خالد الهاشمي. ورواه الحاكم

(3)

من حديث عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الواهبُ أحقُّ بهبته ما لم يُثَبْ» ، وفي كتاب الدارقطني

(4)

من حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كانت الهبةُ لذي رحم مَحْرمٍ لم يرجع فيها» . وفي «الغَيلانيات»

(5)

: ثنا محمد بن إبراهيم بن أبي [81 مكرر/أ] يحيى

(6)

عن محمد بن عبيد الله عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من وَهَب هبةً فارتجعَ بها فهو أحقُّ بها ما لم يُثَبْ منها، ولكنه كالكلب يعود في قيئه»

(7)

.

فالجواب: أن هذه الأحاديث لا تثبت، ولو ثبتت لم تَحلَّ مخالفتها،

(1)

رواه الدارقطني (2969) والحاكم (2/ 52) ومن طريقه البيهقي (6/ 180 - 181).

(2)

لم أقف عليه في كتبه، وهو في «المستدرك» (2/ 52).

(3)

لم أجده في «المستدرك» ولكن أخرجه البيهقي في «الكبرى» (6/ 181) من طريقه.

(4)

«سنن الدارقطني» (2973) ، وأخرجه أيضًا البيهقي (6/ 181).

(5)

لم أجده في «الغيلانيات» . والراوي عن ابن أبي يحيى: يحيى بن غيلان عند الدارقطني، وهو غير صاحب «الغيلانيات» .

(6)

كذا في النسخ: «محمد بن إبراهيم بن أبي يحيى» ، والصواب حذف «محمد بن» .

(7)

رواه الدارقطني (2975)، وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي متكلم فيه، وبه أعلَّه ابن عبد الهادي وضعّفه في «التنقيح» (4/ 227).

ص: 264

ووجب العمل بها وبحديث «لا يَحلُّ لواهبٍ أن يرجع في هبته»

(1)

، ولا يبطل أحدهما بالآخر، ويكون الواهب الذي لا يحلّ له الرجوع: مَن وهب تبرُّعًا محضًا لا لأجل العوض، والواهب الذي له الرجوعُ: مَن وهب ليتعوَّض من هبته ويُثاب منها، فلم يفعل المتّهب، ونَستعمل سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، ولا نَضرِب بعضها ببعض.

أما حديث ابن عمر، فقال الدارقطني: لا يثبت مرفوعًا، والصواب عن ابن عمر عن عمر قوله

(2)

. وقال البيهقي

(3)

: ورواه علي بن سهل بن المغيرة عن عبيد الله بن موسى ثنا حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله، فذكره

(4)

، وهو غير محفوظ بهذا الإسناد، وإنما يروى عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمّع، وإبراهيم ضعيف. انتهى. وقال الدارقطني: غلط فيه علي بن سهل

(5)

. انتهى.

وإبراهيم بن إسماعيل هذا قال أبو نعيم: لا يساوي حديثه فلْسَين. وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به. وقال يحيى بن معين: إبراهيم بن إسماعيل المكي

(6)

ليس بشيء

(7)

. قال البيهقي: والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

«العلل» (2/ 57) و «سنن الدارقطني» (2969).

(3)

ينظر: «السنن الكبرى» (6/ 181).

(4)

«فذكره» ليست في ت.

(5)

انظر: «العلل» (2/ 58)، والمؤلف صادر عن «التحقيق» لابن الجوزي (2/ 231).

(6)

«المكي» ليست في ت.

(7)

انظر هذه الأقوال في: «الجرح والتعديل» (2/ 84) و «تاريخ ابن معين» برواية الدوري (3/ 62).

ص: 265

سالم عن أبيه عن عمر: «من وهَبَ هبةً فلم يُثَبْ منها فهو أحقُّ بها إلا لذي رحم محرم»

(1)

. قال البخاري: هذا أصح

(2)

.

وأما حديث عبيد الله بن موسى عن حنظلة فلا أراه إلا وهمًا.

وأما حديث حماد بن سلمة فمن رواية عبد الله بن جعفر الرقّي عن ابن المبارك، وعبد الله هذا ضعيف عندهم

(3)

.

وأما حديث ابن عباس فمحمد بن عبيد الله فيه هو العَرْزَمي، ولا تقوم [81 مكرر/ب] به حجة، قال الفلّاس والنسائي: هو متروك الحديث

(4)

. وفيه إبراهيم بن يحيى

(5)

، قال مالك ويحيى بن سعيد وابن معين: هو كذاب. وقال الدارقطني: متروك

(6)

.

فإن لم تصحّ هذه الأحاديث لم يُلتفَت إليها، وإن صحَّت وجب حملُها على من وهَبَ للعوض، وبالله التوفيق.

(1)

رواه سعيد بن منصور ومن طريقه ابن حزم في «المحلّى» (9/ 128) والبيهقي (6/ 181) موقوفًا على عمر، وقد تقدم تخريجه مرفوعًا.

(2)

«السنن الكبرى» (6/ 181)، وعبارة البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 271).

(3)

بل وثّقه الحفاظ، ولم يكن تغيره فاحشًا. انظر:«تهذيب الكمال» (14/ 376) و «التنقيح» لابن عبد الهادي (4/ 229).

(4)

«الجرح والتعديل» (8/ 2) و «الضعفاء والمتروكون» للنسائي (ص 91).

(5)

صوابه «بن أبي يحيى» .

(6)

انظر هذه الأقوال: في «الكامل» لابن عدي (1/ 353) و «تاريخ ابن معين» رواية الدوري (3/ 165) و «سنن الدارقطني» (3259).

ص: 266

المثال السادس والعشرون: ردُّ السنة المحكمة في القضاء

(1)

بالقافة

(2)

، وقالوا: هو خلاف الأصول، ثم قالوا: لو ادَّعاه اثنان ألحقناه بهما، وكان هذا مقتضى الأصول.

ونظير هذا المثال السابع والعشرون: ردُّ السنة المحكمة الثابتة

(3)

في جعل الأَمة فِراشًا وإلحاق الولد بالسيد

(4)

وإن لم يدَّعِه، وقالوا: هو خلاف الأصول، والأَمة لا تكون فراشًا. ثم قالوا: لو تزوَّجها وهو بأقصى بُقعةٍ في المشرق وهي بأقصى بُقعةٍ في المغرب وأتتْ

(5)

بولد لستة أشهر لحقه، وإن علمنا بأنهما لم يتلاقيا قطُّ، وهي فِراش بالعقد، فأمته التي يطؤها ليلًا ونهارًا ليست بفراش، وهذه فراش! وهذا مقتضى الأصول، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف الأصول على لازم قولهم

(6)

.

ونظير هذا قياسُ الحَدَث على السلام في الخروج من الصلاة بكل واحد منهما، ودعوى أن ذلك موجب الأصول، مع بُعدِ ما بين الحدث والسلام، وترك قياس نبيذ التمر المسكر على عصير العنب المسكر في تحريم قليلِ كلٍّ منهما مع شدة الأُخوَّة بينهما، ودعوى

(7)

أن ذلك خلاف الأصول.

(1)

ت: «القضايا» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

د: «الثابتة المحكمة» .

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

ت: «فأتت» .

(6)

«على لازم قولهم» ليست في ع.

(7)

«ودعوى» ساقطة من ت.

ص: 267

ونظيره أن الذمي لو منع دينارًا واحدًا من الجزية انتقض عهده، وحلَّ ماله ودمه، ولو حرَّق الكعبة البيت الحرام ومسجدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهر بسبِّ الله ورسوله أقبحَ سبٍّ على رؤوس المسلمين فعهدُه باقٍ [82/أ] ودمه معصوم، وعدم النقض بذلك مقتضى الأصول، والنقض بمنع الدينار مقتضى الأصول.

ونظيره أيضًا إباحة قراءة القرآن بالعجمية، وأنه مقتضى الأصول، ومَنْع رواية الحديث بالمعنى، وهو خلاف الأصول.

ونظيره إسقاط الحدّ عمن استأجر امرأة ليزني بها أو تَغسِل ثيابه فزنى بها، وأن هذا مقتضى الأصول، وإيجاب الحدّ على الأعمى إذا وجد على فراشه امرأة فظنَّها زوجتَه فبانت أجنبية.

ونظيره أيضًا مَنْع المصلي من الصلاة بالوضوء من ماء يبلغ قناطيرَ مقنطرةً وقعت فيه قطرةُ دمٍ أو بولٍ، وإباحتهم له أن يصلِّي في ثوبٍ رُبعه متلطِّخ بالبول، وإن كان عَذِرَةً فقدر

(1)

راحة الكفّ.

ونظيره دعواهم أن الإيمان واحد، والناس فيه سواء، وهو مجرّد التصديق، وليست الأعمال داخلةً في ماهيته، وأن من مات ولم يصلِّ صلاةً قطُّ في عمره مع قدرته وصحة جسمه وفراغه فهو مؤمن، وتكفيرهم من يقول مُسيجِد أو فُقَيِّه بالتصغير أو يقول للخمر أو السماع المحرم: ما أطْيبَه وألذَّه.

(1)

ت: «بقدر» .

ص: 268

ونظير ذلك أنه لو شهد عليه أربعة بالزنا فقال: «صَدَقوا» سقط عنه الحد بتصديقهم، ولو قال:«كذبوا عليَّ» حُدَّ.

ونظيره أنه لا يصحُّ استئجار دارٍ تُجعل مسجدًا يصلّي فيه المسلمون، وتصحّ إجارتُها كنيسةً يُعبد فيها الصليب والنار.

ونظيره أنه لو قهقه في صلاته بطل وضوؤه، ولو غنَّى في صلاته أو قذَفَ المحصنات أو شهد بالزور فوضوؤه بحاله.

ونظيره أنه لو وقع في البئر فأرة فنجست البئر؛ فإذا نُزِع منها دلو فالدلو والماء نجسان، ثم هكذا إلى تمام كذا وكذا دلوًا، فإذا نزع الدلو الذي قبل الأخير فرشْرَشَ على حيطان البئر [82/ب] نجَّسَها كلها، فإذا جاءت النوبة إلى الدلو الأخير قَشْقَشَ النجاسة كلها من البئر وحيطانها، وطيَّبها

(1)

بعد أن كانت نجسة.

ونظيره إنكار كون القرعة التي ثبت فيها ستةُ أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

وفيها آيتان من كتاب الله طريقًا للأحكام الشرعية، وإثبات حِلّ الوطء بشهادة الزور التي يعلم المقدوح

(3)

أنها شهادة زور، وبها فرق الشاهدان بين الرجل والمرأة

(4)

.

ونظير هذا إيجاب الاستبراء على السيّد إذا ملك امرأة بِكرًا لا يُوطأ

(1)

في المطبوع: «وطينها» خلاف جميع النسخ.

(2)

تقدم تخريج بعضها.

(3)

د: «المتزوج» .

(4)

ع: «وامرأته» .

ص: 269

مثلُها، مع العلم القطعي ببراءة رحمها، وإسقاطه عمن

(1)

أراد وطء الأمة التي وطئها سيدها البارحة ثم اشتراها هو فملَّكها لغيره ثم وكَّله في تزويجها منه، فقالوا

(2)

: يحلُّ له وطؤها، وليس بين وطء بائعها ووطئه هو إلا ساعةٌ من نهار.

ونظير هذا في التناقض إباحة نكاح المخلوقة من ماء الزاني مع كونها بعضه، مع تحريم المرضَعَة من لبن امرأته لكون اللبن ثاب بوطئه فقد صار فيه جزء منه. فيا لله العجب! كيف انتهض هذا الجزء اليسير سببًا للتحريم ثم يُباح له وطؤها وهي جزؤه الحقيقي وسُلالته؟ وأين تشنيعكم وإنكاركم لاستمناء الرجل بيده عند الحاجة خوفًا من العَنَت، ثم تجوِّزون له وطء بنته المخلوقة من مائه حقيقة؟

ونظير هذا لو ادَّعى على ذمي حقًّا وأقام به شاهدين عبدين عالمين صالحين مقبولةً شهادتُهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تُقبل شهادتهما عليه، فإن أقام به شاهدين كافرين حرَّين قُبِلت شهادتهما عليه مع كونهما من

(3)

أكذب الخلق على الله وأنبيائه ودينه.

ونظير هذا لو تداعيَا حائطًا لأحدهما [83/أ] عليه خشبتان، وللآخر عليه ثلاث خشبات، ولا بينةَ، فهو كله لصاحب الخشبات الثلاث؛ فلو كان لأحدهما ثلاث خشبات وللآخر مائة خشبة فهو بينهما نصفين.

(1)

ع: «ممن» .

(2)

د: «فقالوا له» .

(3)

«من» ليست في ت.

ص: 270

ونظير هذا لو اغتصب نصراني رجلًا على ابنته أو امرأته أو حرمته وزنى بها، ثم شدَخَ رأسها بحجرٍ أو رمى بها من أعلى شاهقٍ حتى ماتت، فلا حدَّ عليه ولا قصاص؛ فلو قتله المسلم صاحب الحرمة بقصبة محدَّدةٍ قُتِل به.

ونظير هذا أنه لو أُكرِه على قتل ألفِ مسلمٍ أو أكثر بسَجْنِ شهرٍ

(1)

وأَخْذِ شيء من ماله فقَتلَهم فلا قوَدَ عليه ولا دية، حتى إذا أُكرِه بالقتل على عِتق أمته أو طلاق زوجته لزمه حكم العتق والطلاق

(2)

، ولم يكن الإكراه مانعًا من نفوذ حكمنا عليه

(3)

، مع أن الله سبحانه أباح التكلُّم بكلمة الكفر مع الإكراه، ولم يبح قتل المسلم بالإكراه أبدًا.

ونظير هذا إبطال الصلاة بتسبيحِ من نابَه شيء في صلاته، وقد أمر به

(4)

النبي صلى الله عليه وسلم

(5)

، وتصحيح صلاة من ركع ثم خرَّ ساجدًا من غير أن يقيم صلبه، وقد أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«لا تُجزِئ صلاةٌ لا يقيم الرجل فيها صُلْبَه في ركوعه وسجوده»

(6)

، ودعوى أن ذلك مقتضى الأصول.

ونظيره أيضًا إبطال الصلاة بالإشارة لردّ السلام أو غيره، وقد أشار النبي

(1)

ت: «يسجن شهرًا» .

(2)

د: «الطلاق والعتق» .

(3)

«عليه» ليست في ع.

(4)

«به» ساقطة من ع.

(5)

رواه البخاري (1218) ومسلم (421) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما.

(6)

تقدم تخريجه.

ص: 271

- صلى الله عليه وسلم في صلاته بردِّ السلام

(1)

، وأشار الصحابة برؤوسهم تارةً

(2)

وبأكفِّهم تارة

(3)

، وتصحيحها مع ترك الطمأنينة وقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ونفى الصلاة بدونها

(4)

، وأخبر أن صلاة النَّقْر صلاة المنافقين

(5)

، وأخبر حذيفة أن من صلى كذلك لقي الله على غير الفطرة التي فطر الله عليها رسوله صلى الله عليه وسلم

(6)

، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من لا يُتِمُّ ركوعه ولا سجوده أسوأ الناس سرقةً

(7)

، [83/ب] وهذا يدلُّ على أنه أسوأ حالًا عند الله من سُرَّاق الأموال.

(1)

رواه أبو داود (927) والترمذي وصححه (368) وأحمد (23886) من طريق هشام بن سعد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه. ورواه ابن ماجه (1017) وابن خزيمة أيضًا وصححه (888) وابن حبان (2258) من طريق ابن عيينة عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

روى البخاري (86) ومسلم (905) عن أسماء أن عائشة أشارت برأسها لها في قصة الكسوف.

(3)

روى مسلم (430، 431) عن جابر بن سمرة أنهم كانوا يشيرون بأيديهم عند السلام، فأنكر عليهم ولم يُبطل صلاتهم.

(4)

تقدم تخريجه في حديث المسيء صلاته.

(5)

رواه مسلم (622) من حديث أنس رضي الله عنه.

(6)

رواه البخاري (791).

(7)

رواه أحمد (11532) وأبو داود الطيالسي (2333) من حديث أبي سعيد الخدري، وإسناده ضعيف؛ لضعف علي بن زيد بن جدعان، وله شاهد من حديث أبي قتادة عند ابن خزيمة وصححه (663)، وصححه الحاكم أيضًا (1/ 229)، وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن حبان وصححه (1888)، وصححه الحاكم (1/ 229).

ص: 272

ونظير هذا قولهم: لو أن رجلًا مسلمًا طاهر البدن عليه جنابة غمس يده في بئرٍ بنية رفع الحدث صارت البئر كلها نجسة، يحرم شرب مائها والوضوء منه والطبخ به

(1)

؛ فلو اغتسل فيها مائة نصراني قُلْفٌ

(2)

عابدو الصليب

(3)

أو مائة يهودي فماؤها باقٍ على حاله طاهرٌ مطهِّر يجوز الوضوء به وشربه والطبخ

(4)

به.

ونظيره لو ماتت فأرة في ماء فصُبَّ ذلك الماء في بئر لم يُنزَح منها إلا عشرون دلوًا فقط، وتطهر بذلك، ولو توضأ رجل مسلم طاهر الأعضاء بماء فسقط ذلك الماء في البئر فلا بدَّ أن تُنزح كلها.

ونظير هذا قولهم: لو عقد على أمه أو أخته أو ابنته ووطئها وهو يعلم أن الله حرَّم

(5)

ذلك فلا حدَّ عليه؛ لأن صورة العقد شبهة، ولو رأى امرأة في الظلمة ظنَّها امرأته فوطئها فعليه الحدُّ، ولم يكن ذلك شبهة.

ونظيره قولهم: لو أنه رَشَا شاهدين فشهدا بالزور المحض أن فلانًا طلّق امرأته ففرّق الحاكم بينهما جاز له أن يتزوجها ويطأها حلالًا، بل ويجوز لأحد الشاهدين ذلك؛ فلو حكم حاكم بصحة هذا العقد لم يجز نقض حكمه، ولو حكم حاكم بالشاهد واليمين لنقض

(6)

حكمه وقد حكم به

(1)

ت: «منه» .

(2)

جمع أقلف بمعنى غير المختون.

(3)

ع: «الصلبان» .

(4)

د: «والطبيخ» .

(5)

ع: «حرم عليه» .

(6)

ع: «ينقض» .

ص: 273

رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

ونظير ذلك قولهم: لو تزوَّج امرأة فخرجت مجنونة بَرْصاء من قَرْنِها

(2)

إلى قدمها مُجذَّمةً عمياء مقطوعة الأطراف فلا خيار له، وكذلك إذا وجدت هي الزوج كذلك فلا خيار لها، وإن خرج الزوج من خيار عباد الله

(3)

وأغناهم وأجملهم وأعلمهم وليس له أبوان في الإسلام وللزوجة أبوان في الإسلام فلها الفسخ بذلك.

ونظيره [84/أ] قولهم: يصح نكاح الشِّغار، ويجب فيه مهر المثل، وقد صح نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وتحريمه إياه، ولا يصح نكاح من أعتق أمة وجعل عِتقَها صداقَها وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونظيره قولهم: يصح نكاح التحليل، وقد صحّ لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن فعله من رواية عبد الله بن مسعود وأبي هريرة وعلي بن أبي طالب

(4)

، ولا يصح نكاح الأمة لمضطرٍّ خائف العَنَت عادمِ الطَّول إذا كان تحته حرّة ولو كانت عجوزًا شوهاءَ لا تُعِفُّه.

ونظيره قولهم: يجوز بيع الكلب، وقد منع منه رسول الله

(5)

صلى الله عليه وسلم، وتحريم بيع المدبَّر وقد باعه رسول الله

(6)

صلى الله عليه وسلم.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

ت، ع:«فرقها» .

(3)

ت: «عبد الله» .

(4)

تقدم تخريجها.

(5)

رواه البخاري (2237)، ومسلم (1567) من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه.

(6)

تقدم تخريجه.

ص: 274

ونظيره قولهم: للجار أن يمنع جاره أن يَغْرِز خشبةً هو محتاج إلى غَرْزها في حائطه وقد نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منعه

(1)

، وتسليطهم إياه على انتزاع داره كلها منه بالشفعة بعد وقوع الحدود وتصريف الطرق وقد أبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

ونظيره قولهم: لا يُحكم بالقسامة لأنها خلاف الأصول، ثم قالوا: يحلف الذين وُجِد القتيل في محلّتهم ودارهم خمسين يمينًا ثم يُقضى عليهم بالدية. فيا لله العجب! كيف

(3)

كان هذا وَفْق الأصول وحكمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف الأصول؟

ونظيره قولهم: لو تزوج امرأة فقالت له امرأة أخرى: أنا أرضعتُك وزَوْجتَك، أو

(4)

قال له رجل: هذه أختك من الرضاعة، جاز له تكذيبها ووطء الزوجة، مع أن هذه هي الواقعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن الحارث بفراق امرأته لأجل قول الأمة السوداء إنها أرضعتْهما

(5)

.

ولو اشترى [84/ب] طعاما أو ماء

(6)

فقال له رجل: هذا ذبيحة مجوسي

(7)

أو نجس لم يسَعْه أن يتناوله، مع أن الأصل في الطعام والماء

(1)

رواه البخاري (2463)، ومسلم (1609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (2213)، ومسلم (1608) من حديث جابر رضي الله عنه.

(3)

ت: «فكيف» .

(4)

ت: «و» .

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

«أو ماء» ليست في ع.

(7)

ع: «يهودي» .

ص: 275

الحلُّ، والأصل في الأبضاع التحريم، ثم قالوا: لو قال المخبر

(1)

: هذا الطعام والشراب لفلان سرقه أو غصَبَه منه فلان، وسِعَه أن يتناوله.

ونظير هذا قولهم: لو أسلم وتحته أختان وخيَّرناه فطلّق إحداهما كانت هي المختارة، والتي أمسكها هي المفارقة

(2)

، قالوا: لأن الطلاق لا يكون إلا في زوجة، وأصحاب أبي حنيفة تخلَّصوا من هذا، فإنه

(3)

إن عقدَ على الأختين في عقد واحد فسد نكاحهما واستأنف نكاح من شاء منهما، وإن تزوج واحدة بعد واحدة فنكاح الأولى هو الصحيح، ونكاح الثانية فاسد.

ولكن لزمهم نظيره في مسألة العبد إذا تزوّج بدون إذن سيده كان موقوفًا على إجازته، فلو قال له: طلِّقها طلاقًا رجعيًّا، كان ذلك إجازة منه

(4)

للنكاح، فلو قال له: طلِّقها، ولم يقل: رجعيًّا، لم يكن إجازةً للنكاح، مع أن الطلاق في هذا النكاح لا يكون إلّا رجعيًّا إلّا

(5)

بعد الإجازة وقبل الدخول، وأما قبل الإجازة والدخول فلا ينقسم إلى بائن ورجعي.

المثال الثامن والعشرون: ردّ السنة الصحيحة الصريحة

(6)

المحكمة في أن من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح

(7)

،

(1)

«المخبر» ليست في ع.

(2)

«والتي أمسكها هي المفارقة» ساقطة من ع.

(3)

كذا في النسخ، وفي المطبوع:«بأنه» .

(4)

ت: «منه إجازة» .

(5)

كذا بتكرار «إلا» في جميع النسخ، والأولى حذف إحداهما.

(6)

د، ع:«الصريحة الصحيحة» .

(7)

تقدم تخريجه.

ص: 276

بكونها خلاف الأصول، وبالمتشابه من نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس

(1)

، قالوا: والعامّ عندنا يعارض الخاص؛ فقد تعارض حاظر ومبيح، فقدّمنا الحاظر احتياطًا؛ فإنه يوجب عليه إعادة الصلاة، وحديث الإتمام يجوز له المضيُّ فيها، وإذا تعارضا [85/أ] صرنا إلى النص الذي يوجب الإعادة لتتيقَّن براءة الذمة.

فيقال: لا ريبَ أن قوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتمَّ صلاتَه، ومن أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتمَّ صلاتَه»

(2)

حديث واحد، قاله صلى الله عليه وسلم في وقت واحد

(3)

، وقد وجبت طاعته في شطره؛ فتجب طاعته في الشطر الآخر، وهو محكم

(4)

خاص لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، لا يحتمل غيرَه البتةَ، وحديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي

(5)

عام مجمل قد خُصَّ منه عصرُ يومه بالإجماع، وخُصَّ منه قضاء الفائتة والمَنْسِيّة بالنص

(6)

، وخُصَّ منه ذوات الأسباب بالسنة، كما قضى النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر

(7)

، وأقرَّ من قضى سنة الفجر بعد صلاة

(1)

رواه البخاري (583) ومسلم (828) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (556) ومسلم (608) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

«في وقت واحد» ساقطة من ع.

(4)

ع: «حديث محكم» .

(5)

رواه البخاري (588) ومسلم (825) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(6)

رواه البخاري (597) ومسلم (684) من حديث أنس رضي الله عنه.

(7)

رواه البخاري (1233) ومسلم (834) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

ص: 277

الفجر، وقد أعلمه

(1)

أنها سنة الفجر

(2)

، وأمر من صلَّى في رحله ثم جاء مسجدَ جماعة أن يصلِّي معهم وتكون له نافلة، قاله في صلاة الفجر، وهي سبب الحديث

(3)

، وأمر الداخل والإمام يخطب أن يصلِّي تحية المسجد قبل أن يجلس

(4)

.

وأيضًا فإن الأمر بإتمام الصلاة وقد طلعت الشمس فيها

(5)

أمرٌ بإتمام لا بابتداء، والنهي عن الصلاة في ذلك الوقت نهيٌ عن ابتدائها لا عن استدامتها؛ فإنه لم يقل:«لا تُتمِّوا الصلاة في هذا الوقت» ، وإنما قال:«لا تصلُّوا» . وأين أحكام الابتداء من الدوام وقد فرَّق النص والإجماع والقياس بينهما؟ فلا تؤخذ أحكام الدوام من أحكام الابتداء ولا أحكامُ الابتداء من أحكام الدوام في عامة مسائل الشريعة؛ فالإحرام ينافي ابتداءَ النكاح والطيب دونَ استدامتهما، والنكاح ينافي قيام العدة والردة دون استدامتهما، والحدث ينافي ابتداء المسح على الخفين دون استدامته، وزوال خوف العَنَت ينافي ابتداء النكاح [85/ب] على الأمة دون استدامته عند الجمهور، والزنا من

(1)

ت: «أعلم» .

(2)

رواه أحمد (23761)، وصححه ابن خزيمة (1116) وابن حبان (2471) والحاكم (1/ 274 - 275) من حديث قيس بن قَهْد، ويقال: قيس بن عمرو رضي الله عنه.

(3)

رواه أبو داود (575) والنسائي (858) والترمذي وصححه (219)، وأحمد (17475)، وصححه ابن حزيمة (1279) وابن حبان (2395) والحاكم (1/ 244) من حديث يزيد بن الأسود رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (1166) ومسلم (875) من حديث جابر رضي الله عنه.

(5)

«فيها» ليست في ت.

ص: 278

المرأة ينافي ابتداء عقد

(1)

النكاح

(2)

دون استدامته عند الإمام أحمد ومن وافقه، والذهول عن نية العبادة ينافي ابتداءها دون استدامتها، وفَقْد الكفاءة ينافي لزوم النكاح في الابتداء دون الدوام، وحصول الغنى ينافي جواز الأخذ من الزكاة ابتداء

(3)

ولا ينافيه دوامًا. وحصول الحَجْر بالسَّفَه والجنون ينافي ابتداء العقد من المحجور عليه ولا ينافي دوامه، وطَريانُ ما يمنع الشهادة والفسق والكفر والعداوة بعد الحكم بها لا يمنع العمل بها في الدوام ويمنعه في الابتداء، والقدرة على التكفير بالمال تمنع التكفير بالصوم ابتداءً لا دوامًا، والقدرة على هَدْي التمتع تمنع الانتقال إلى الصوم ابتداءً لا دوامًا، والقدرة على الماء

(4)

تمنع ابتداء التيمم اتفاقًا، وفي منعه لاستدامة الصلاة بالتيمم خلافٌ بين أهل العلم، ولا يجوز إجارة العين المغصوبة ممن لا يقدر على تخليصها، ولو غَصَبها بعد العقد من لا يقدر المستأجر على تخليصها منه لم تنفسخ الإجارة، وخُيِّر المستأجر بين فسخ العقد وإمضائه، ويُمنع أهل الذمة من ابتداء إحداث كنيسة في دار الإسلام ولا يُمنعون من استدامتها، ولو حلف لا يتزوج أو لا يتطيَّب أو لا يتطهَّر فاستدام ذلك لم يحنث وإن ابتدأه حنث، وأضعاف أضعاف ذلك من الأحكام التي يُفرَّق فيها بين الابتداء والدوام؛ فيحتاج في ابتدائها إلى ما لا يحتاج إليه في دوامها، وذلك لقوة الدوام وثبوته واستقرار حكمه.

(1)

«عقد» ليست في د.

(2)

«النكاح» ليست في ع.

(3)

بعدها في د: «دون دوامه» ، وكتب «ينافيه دوامًا» في الهامش.

(4)

«الماء» ساقطة من ع ..

ص: 279

وأيضًا فهو مستصحب بالأصل.

وأيضًا فالدفْع أسهل من الرفْع.

وأيضًا [86/أ] فأحكام التبع يثبت فيها ما لا يثبت في المتبوعات، والمستدام تابع لأصله الثابت؛ فلو لم يكن في المسألة نص لكان القياس يقتضي صحة ما ورد به النص، فكيف وقد توارد عليه النص والقياس؟

فقد تبيَّن أنه لم يتعارض في هذه المسألة عام وخاص ولا نص وقياس، بل النصّ فيها والقياس متفقان، والنص العام لم يتناول مورِدَ

(1)

الخاص ولا هو داخل تحت لفظه، ولو قُدّر صلاحية لفظه له فالخاص بيان لعدم إرادته، فلا يجوز تعطيل حكمه وإبطاله، بل يتعين إعماله واعتباره، ولا تُضرَب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض، وهذه القاعدة أولى من القاعدة التي تتضمن إبطال إحدى السنتين

(2)

وإلغاء أحد الدليلين، والله الموفق.

ثم نقول: الصورة التي أبطلتم فيها الصلاة وهي حالة طلوع الشمس وخالفتم السنة، أولى بالصحة من الصورة التي وافقتم فيها السنة؛ فإنه إذا ابتدأ العصر قبل الغروب فقد ابتدأها في وقت نهي، وهو وقت ناقص، بل هو أولى الأوقات بالنقصان، كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم وقت صلاة المنافقين حين تصير الشمس بين قَرْنَي شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار

(3)

، وإنما كان النهي عن الصلاة قبل ذلك الوقت حَريمًا

(4)

له وسدًّا للذريعة، وهذا بخلاف

(1)

«مورد» ليست في ت.

(2)

ت: «الشيئين» .

(3)

رواه مسلم (832) من حديث عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه.

(4)

في المطبوع: «تحريمًا» خلاف النسخ. والحريم من كل شيء: ما تبعه، فحرُم بحرمته من مرافق وحقوق.

ص: 280

من ابتدأ الصلاة قبل طلوع الشمس؛ فإن الكفّار حينئذٍ لا يسجدون لها، بل ينتظرون بسجودها

(1)

طلوعها، فكيف يقال: تبطُل صلاة من ابتدأها في وقت تام لا يسجد فيها

(2)

الكفار للشمس، وتصح صلاة من ابتدأها وقت سجود الكفار للشمس سواء، وهو الوقت الذي تكون فيه بين قرني شيطان، فإنه حينئذٍ يقارنها ليقع السجود له كما يقارنها وقت الطلوع ليقع السجود

(3)

له؟ فإذا كان ابتداؤها وقتَ مقارنة الشيطان لها غيرَ مانعٍ من صحتها فلأن تكون استدامتها [86/ب] وقتَ مقارنة الشيطان غيرَ مانع من الصحة بطريق الأولى والأحرى، فإن كان في الدنيا قياس صحيح فهذا من أصحِّه. فقد تبيَّن أن الصورة التي خالفتم فيها النص أولى بالجواز قياسًا من الصورة التي وافقتموه فيها.

وهذا مما حصّلته عن شيخ الإسلام ــ قدس الله روحه ــ وقت القراءة عليه، وهذه كانت طريقته، وإنما يقرّر أن القياس الصحيح هو ما دل عليه النص، وأن من خالف النصّ للقياس فقد وقع في مخالفة القياس والنص معًا، وبالله التوفيق.

ومن العجب أنهم قالوا: لو صلَّى ركعة من العصر ثم غربت الشمس صحت صلاته وكان مدركًا لها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» وهذا شطر الحديث، وشطره

(1)

كذا في النسخ، ولعل الصواب:«بسجودهم» .

(2)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «فيه» .

(3)

«السجود» ليست في ع.

ص: 281

الثاني: «ومن أدرك ركعةً من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر»

(1)

.

المثال التاسع والعشرون: ردّ السنة الثابتة المحكمة الصريحة في دفع اللقطة إلى من وصف عِفَاصَها

(2)

ووِعاءها ووِكاءها

(3)

، وقالوا: هو مخالف للأصول، فكيف يُعطَى المدّعي بدعواه من غير بينة؟ ثم لم يَنْشَبوا

(4)

أن قالوا: من ادَّعى لقيطًا عند غيره ثم وصف علاماتٍ في بدنه فإنه يُقضى له به

(5)

بغير بينة، ولم يروا ذلك خلاف الأصول. وقالوا: من ادعى خُصًّا ومعاقدُ قِمْطِه

(6)

من جهته قُضي له به، ولم يكن ذلك خلاف الأصول، ومن ادعى حائطًا ووجوهُ الآجُرِّ من جهته قُضي له به، ولم يكن ذلك خلاف الأصول، ومن ادعى مالًا على غيره فأنكر ونكَلَ عن اليمين قُضِيَ له بدعواه، ولم يكن ذلك خلاف الأصول، وإذا ادَّعى الزوجان ما في البيت قُضِي لكل واحد منهما بما يناسبه، ولم يكن ذلك خلاف الأصول.

ونحن نقول: ليس في الأصول ما يُبطِل الحكم بدفع اللقطة إلى واصفها البتةَ، بل هو [87/أ] مقتضى الأصول؛ فإن الظن المستفاد بوصفه

(1)

تقدم تخريجه، وهذا اللفظ عند أبي يعلى الموصلي (6302).

(2)

العِفاص: وعاء من جلد أو خرقة أو غير ذلك يكون فيه زاد الراعي. والوِكاء: الخيط الذي يُشدّ به الوعاء.

(3)

رواه البخاري (2372) ومسلم (1722) من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.

(4)

أي لم يلبثوا.

(5)

«به» ليست في د.

(6)

ت، ع:«قمط» . وقد سبق شرحه.

ص: 282

أعظم من الظن المستفاد بمجرد النكول، بل وبالشاهدين، فوصفُه بينةٌ ظاهرة على صحة دعواه، لا سيما ولم يعارضه معارض؛ فلا يجوز إلغاء دليل صدقه مع عدم معارضٍ أقوى منه؛ فهذا خلاف الأصول حقًّا

(1)

لا موجب السنة.

المثال الثلاثون: ردُّ السنة الثابتة المحكمة الصريحة في صحة صلاة من تكلم فيها جاهلًا أو ناسيًا

(2)

، بأنها خلاف الأصول، ثم قالوا: من أكل في رمضان أو شرب ناسيًا

(3)

صحّ صومه

(4)

، مع اعترافهم بأن ذلك على

(5)

خلاف الأصول والقياس، ولكن تبعنا فيه السنة، فما الذي منعكم بتقديم

(6)

السنة الأخرى على القياس والأصول كما قدَّمتم خبر القهقهة في الصلاة والوضوء بنبيذ التمر وآثار الآبار

(7)

على القياس والأصول؟

المثال الحادي والثلاثون: ردُّ السنة الثابتة المحكمة في اشتراط البائع منفعةَ المبيع مدةً معلومةً

(8)

بأنها خلاف الأصول، ثم قالوا: يجوز بيع الثمرة قبل بدوِّ صلاحها بشرط القطع في الحال، مع العلم بأنها لو قُطعت لم تكن مالًا ينتفع به ولا يساوي شيئا البتةَ، ثم لهما أن يتفقا على بقائها

(9)

إلى حين

(1)

ع: «مقالا» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

«ناسيًا» ليست في ت.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

«على» ليست في ع.

(6)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «من تقديم» .

(7)

تقدم تخريجها كلها.

(8)

تقدم تخريجه.

(9)

ت: «إبقائها» .

ص: 283

الكمال، ودعوى أن ذلك موافق للأصول، وهو عين ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

المثال الثاني والثلاثون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تخيير النبي صلى الله عليه وسلم الولد بين أبويه

(2)

، وقالوا: هو خلاف الأصول، ثم قالوا: إذا زوَّج الوليُّ ــ غير الأب ــ الصغيرةَ صح وكان النكاح لازمًا، فإذا بلغت انقلب جائزًا وثبت لها الخيار بين الفسخ والإمضاء، وهذا وَفْق الأصول، فيا لله العجب! أين في الأصول التي هي كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة المستند

(3)

إلى الكتاب والسنة موافقةُ هذا الحكم للأصول ومخالفة [87/ب] حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخيير بين الأبوين للأصول؟

المثال الثالث والثلاثون: ردُّ السنة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في رجم الزانيين الكتابيين

(4)

، بأنها خلاف الأصول، وسقوط الحد عمن عقد على أُمِّه ووطئها، وأن هذا هو مقتضى الأصول. فيا عجبًا لهذه الأصول التي منعت الحدَّ على من أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وأسقطَتْه عمن لم يُسقِطه عنه! فإنه ثبت عنه أنه أرسل البراء بن عازب إلى رجل تزوَّج امرأة أبيه أن يضرب عنقه ويأخذ ماله

(5)

،

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

رواه أبو داود (2277) و النسائي (3496) والترمذي (1357) وصححه وابن ماجه (2351)، وصححه الحاكم (4/ 97) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

ع: «مستند» .

(4)

رواه البخاري (3635) ومسلم (1699) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(5)

رواه أبو داود (4457) والنسائي (3332) والترمذي وحسَّنه (1362)، وابن ماجه (2607) وأحمد (18578)، وصححه ابن حبان (4112) والحاكم (2/ 191).

ص: 284

فوالله ما رضي له بحد الزاني

(1)

حتى حكم عليه بضرب العنق وأخذ المال، وهذا هو الحق المحض؛ فإن جريمته أعظم من جريمة من زنى بامرأة أبيه من غير عقدٍ، فإن هذا ارتكب محظورًا واحدًا، والعاقد عليها ضمَّ إلى جريمة الوطء جريمة العقد الذي حرّمه الله، فانتهك حرمة شرعه بالعقد، وحرمة أُمِّه بالوطء، ثم يقال: الأصول تقتضي سقوط الحدّ عنه! وكذلك حُكْم النبي صلى الله عليه وسلم برجم اليهوديين هو من أعظم الأصول، فكيف رُدَّ هذا الأصل العظيم بالرأي الفاسد ويقال: إنه مقتضى الأصول؟!

فإن قيل: إنما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجم بما في التوراة إلزامًا لهما بما اعتقدا صحته.

قيل: هَبْ أن الأمر كذلك، أفحكمَ بحقٍّ يجب اتباعه وموافقته وتحرم مخالفته أم بغير ذلك؟ فاختاروا أحد الجوابين ثم اذهبوا إلى ما شئتم.

المثال الرابع والثلاثون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وجوب الوفاء بالشروط في النكاح

(2)

، وأنها أحقُّ الشروط بالوفاء على الإطلاق، بأنها خلاف الأصول، والأخذ بحديث النهي عن بيع وشرط

(3)

[88/أ] الذي لا يُعلم له إسناد يصح، مع مخالفته للسنة الصحيحة والقياس

(1)

ت: «ما أرضى له بحد الزنا» .

(2)

رواه البخاري (5151) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.

(3)

رواه الطبراني في «الأوسط» (4361) والحاكم في «معرفة علوم الحديث» (ص 128) وأبو نعيم في «مسند أبي حنيفة» (ص 160). وفي إسناده عبد الله بن أيوب القِربي، قال الدارقطني فيه: متروك. وانظر: «السلسلة الضعيفة» (491).

ص: 285

ولانعقاد

(1)

الإجماع على خلافه، ودعوى أنه موافق للأصول. أما مخالفته للسنة الصحيحة

(2)

فإن جابرًا باع بعيره وشرط ركوبه إلى المدينة

(3)

، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه

(4)

المبتاع»

(5)

، فجعله للمشتري بالشرط الزائد على عقد البيع، وقال: «من باع ثمرةً قد أُبِّرتْ فهي للبائع إلا أن يشترطها المبتاع

(6)

»

(7)

، فهذا بيع وشرط ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة. وأما مخالفته للإجماع فالأمة مُجمِعة على جواز اشتراط الرهن والكفيل والضمين والتأجيل والخيار ثلاثة أيام ونقد غير نقد البلد، فهذا بيع وشرط متفق عليه، فكيف يُجعل النهي عن بيع وشرط موافقًا للأصول وشروط النكاح التي هي أحقُّ الشروط بالوفاء مخالفةً للأصول

(8)

؟

المثال الخامس والثلاثون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في دفع الأرض بالثلث والربع مزارعةً

(9)

، بأنها خلاف الأصول، والأخذ

(1)

ت: «وانعقاد» .

(2)

بعدها في ت: «الصريحة» .

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

ع: «يشترط» .

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

«فجعله للمشتري

المبتاع» ساقطة من ت.

(7)

تقدم تخريجه.

(8)

«وشروط

للأصول» ساقطة من ع.

(9)

رواه مسلم (1548) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.

ص: 286

بالحديث الذي لا يثبت بوجهٍ أنه «نهى عن قَفيزِ الطحَّان»

(1)

، وهو: أن يدفع حنطتَه إلى من يطحنها بقفيزٍ منها، أو غَزْلَه إلى من يَنْسِجه ثوبًا بجزء منه، أو زيتونَه إلى من يَعْصِره بجزءٍ منه، ونحو ذلك مما لا غررَ فيه ولا خطرَ ولا قِمارَ ولا جهالةَ ولا أكلَ مالٍ بالباطل، بل هو نظير دفْع ماله إلى من يتَّجر فيه بجزء من الربح، بل أولى؛ فإنه قد لا يربح المال فيذهب عمله مجّانًا، وهذا لا يذهب عمله مجّانًا؛ فإنه

(2)

يطحن الحَبَّ ويَعْصِر الزيتون ويحصل على جزء منه يكون

(3)

به شريكًا لمالكه، فهو أولى بالجواز من المضاربة، فكيف يكون المنع منه موافقًا للأصول والمزارعة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون خلافَ الأصول؟

[88/ب] المثال السادس والثلاثون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة التي رواها بضعة وعشرون صحابيًّا

(4)

في أن المدينة حرَمٌ يحرم صيدها

(5)

، ودعوى أن ذلك خلاف الأصول، ومعارضتها بالمتشابه من قوله

(1)

رواه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (711) والدارقطني (2985) والبيهقي (5/ 339) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه عبد الحق الإشبيلي. وانظر:«الإرواء» (5/ 295).

(2)

ت: «لأنه» .

(3)

ت: «ويكون» .

(4)

منهم علي، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة رضي الله عنهم. انظر:«شرح معاني الآثار» للطحاوي في باب صيد المدينة (4/ 191 - 195)، و «الأحاديث الواردة في فضائل المدينة» ، للدكتور صالح بن حامد الرفاعي (ص 62 وما بعدها).

(5)

رواه مسلم (1362) من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 287

- صلى الله عليه وسلم: «أبا عُميرٍ، ما فعل النُّغَير»

(1)

. ويا لله العجب! أيُّ الأصول التي خالفتْها هذه السنن، وهي من أعظم الأصول؟ وهلّا ردَّ حديث أبي عمير لمخالفته لهذه الأصول؟ ونحن نقول: معاذَ الله أن نردَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة غيرَ معلومة النسخ أبدًا. وحديثُ أبي عمير يحتمل أربعة أوجهٍ قد ذهب إلى كلٍّ منها طائفة:

أحدها: أن يكون متقدمًا على أحاديث تحريم المدينة فيكون منسوخًا.

الثاني: أن يكون متأخرًا عنها معارضًا لها فيكون ناسخًا.

الثالث: أن يكون النُّغَر مما صِيد خارجَ المدينة ثم أُدخِل المدينة كما هو الغالب من الصيود.

الرابع: أن يكون رخصة لذلك الصغير دون غيره، كما رُخِّص لأبي بردة في التضحية بالعَناق دون غيره

(2)

؛ فهو متشابه كما ترى، فكيف يُجعل أصلًا يُقدَّم على تلك النصوص الكثيرة المحكمة الصريحة التي لا تحتمل إلا وجهًا واحدًا؟

المثال السابع والثلاثون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعشَّرات بخمسة أوسُقٍ

(3)

، بالمتشابه من قوله: «فيما سَقَتِ

(1)

رواه البخاري (6129) ومسلم (2150) من حديث أنس رضي الله عنه. والنُّغَير تصغير النُّغَر: فرخ العصفور.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه البخاري (1447) ومسلم (979) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 288

السماءُ العشْرُ، وما سُقِي بنَضْحٍ أو غَرْبٍ فنصفُ العشر»

(1)

. قالوا: وهذا يعمُّ القليلَ والكثير، وقد عارضه الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قُدِّم الأحوط وهو الوجوب

(2)

.

فيقال: يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما [89/أ] بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية؛ فإن طاعة الرسول فرضٌ في هذا وفي هذا. ولا تعارضَ بينهما بحمد الله بوجه من الوجوه؛ فإن قوله:«فيما سَقَتِ السماء العْشُر» إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرّقًا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث، وبيَّنه نصًّا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير

(3)

ما دلَّ عليه البتةَ إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلَّق فيه بعموم لم يُقصَد. وبيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصّها من النصوص؟

ويالله العجب! كيف يخصّون عموم القرآن والسنة بالقياس الذي أحسنُ أحواله أن يكون مختلَفًا في الاحتجاج به وهو محلُّ اشتباهٍ واضطراب؟ إذ ما من قياسٍ

(4)

إلا ويمكن معارضتُه بقياس مثله أو دونه أو أقوى منه، بخلاف السنة الصحيحة الصريحة فإنها لا يعارضها إلا سنة ناسخة معلومة التأخُّر

(5)

(1)

رواه البخاري (1483) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

ع: «الواجب» .

(3)

ت: «إلا» .

(4)

ت: «القياس» .

(5)

ت: «التأخير» .

ص: 289

والمخالفة.

ثم يقال: إذا خصصتم عمومَ قوله: «فيما سَقَتِ السماء العشْرُ» بالقَصَب والحشيش ولا ذكْرَ لهما في النص فهلّا خصصتموه بقوله: «لا زكاةَ في حبٍّ ولا ثَمَرٍ حتى يبلغ خمسةَ أوسُقٍ»

(1)

؟ وإذا كنتم تخصّون العموم بالقياس فهلّا خصصتم هذا العام بالقياس الجلي الذي هو من أجلى القياس وأصحِّه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة

(2)

؟ فإن الزكاة الخاصة لم يشرعها الله في مال إلا وجعل له نصابًا كالمواشي والذهب والفضة.

ويقال أيضًا: هلَّا أوجبتم الزكاة في قليل كل مال وكثيرِه عملًا بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:[89/ب]«ما من صاحب إبلٍ ولا بقرٍ لا يؤدِّي زكاتها إلا بُطِحَ لها يوم القيامة بقَاعٍ قَرْقَرٍ»

(3)

، وبقوله:«ما من صاحب ذهبٍ ولا فضةٍ لا يؤدِّي زكاتَها إلا صُفِّحَتْ له يومَ القيامة صَفائحُ من نارٍ»

(4)

. وهلَّا كان هذا العموم عندكم مقدّمًا على أحاديث النُّصُب الخاصة؟ وهلَّا قلتم: هناك تعارضُ مُسقِطٍ

(5)

ومُوجِبٍ فقدمنا

(6)

الموجب احتياطًا؟ وهذا في غاية الوضوح، وبالله التوفيق.

(1)

رواه مسلم (979) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

ت: «الزكاة فيه» .

(3)

رواه مسلم (987) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وبُطح أي أُلقي على وجهه. والقاع القرقر: المستوي الواسع من الأرض.

(4)

رواه مسلم ضمن الحديث السابق.

(5)

ت: «سقط» .

(6)

ت: «فقد قدمنا» .

ص: 290

المثال الثامن والثلاثون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز النكاح بما قلَّ من المهر ولو خاتمًا من حديد

(1)

، مع موافقتها لعموم القرآن في قوله:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، وللقياس في جواز التراضي

(2)

بالمعاوضة على القليل والكثير، بأثرٍ لا يثبت وقياسٍ

(3)

من أفسد القياس على قطع يد السارق، وأين النكاح من اللصوصية؟ وأين استباحة الفرج به إلى قطع اليد في السرقة؟ وقد تقدَّم مرارًا أن أصحَّ الناس قياسًا

(4)

أهلُ الحديث، وكلَّما كان الرجل إلى الحديث أقربَ كان قياسه أصحَّ، وكلّما كان عن الحديث أبعدَ كان قياسه أفسدَ.

المثال التاسع والثلاثون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة فيمن أسلم وتحته أختان أنه يخيَّر في إمساك من شاء منهما وتَرْكِ الأخرى، بأنه خلاف الأصول، وقالوا: قياس الأصول يقتضي أنه إن نكح

(5)

واحدة بعد واحدة فنكاح الثانية هو المردود، ونكاح الأولى هو الصحيح من غير تخيير، وإن نكحهما معًا فنكاحهما باطل، ولا تخييرَ، وكذلك حديث من أسلم على عَشْرِ نسوة، وربما أوَّلوا التخيير بتخييره في ابتداء العقد على من شاء من المنكوحات. ولفظ الحديث يأبى هذا التأويل أشدَّ الإباء؛ فإنه قال:«أمسِكْ أربعًا وفارِقْ سائرهن» ، رواه [90/أ] معمر عن الزهري عن سالم عن

(1)

رواه البخاري (5029) ومسلم (1425) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما.

(2)

ع: «الرضا» .

(3)

ع: «وبقياس» .

(4)

ع: «أصح القياس قياس» .

(5)

ت: «يقتضي أن ينكح» .

ص: 291

أبيه أن غيلان أسلم فذكره

(1)

.

قال مسلم

(2)

: هكذا روى معمر هذا الحديث بالبصرة، فإن رواه عنه ثقة خارج البصريين حكمنا له بالصحة، أو قال: صار الحديث حديثًا وإلا فالإرسال أولى.

قال البيهقي

(3)

: فوجدنا سفيان بن سعيد الثوري وعبد الرحمن بن محمد المحاربي وعيسى بن يونس ــ وثلاثتهم كوفيون ــ حدّثوا به عن معمر متصلًا، وهكذا روي عن يحيى بن أبي كثير وهو يماني

(4)

وعن الفضل بن موسى وهو خراساني عن معمر متصلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فصح الحديث بذلك. وقد روي عن أيوب السختياني عن نافع وسالم عن ابن عمر متصلًا. قال أبو علي الحافظ: تفرد به سوار

(5)

بن مُجشِّر عن أيوب، وسوار بصري ثقة، قال

(1)

رواه الترمذي (1128) وابن ماجه (1953) وأحمد (4609)، ووهَّم جمع من الحفاظ معمرًا فيه ورجحوا الإرسال ومنهم البخاري، نقل ذلك عنه الترمذي في «السنن» (1128) وفي «العلل الكبير» (ص 164)، ورجّح الحاكم الوصل (2/ 193) حيث قال: معمر بن راشد حدث به على الوجهين أرسله مرة، ووصله مرة، والدليل عليه أن الذين وصّلوه عنه من أهل البصرة، فقد أرسلوه أيضًا، والوصل أولى من الإرسال. والحديث صحيح بالمتابعات. انظر:«الإرواء» (6/ 291).

(2)

رواه عنه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 182)، وذكره أيضًا في «مختصر الخلافيات» (4/ 145).

(3)

في «مختصر الخلافيات» (4/ 145 - 146).

(4)

د: «يمامي» .

(5)

كذا في النسخ، والصواب:«سرَّار» كما في «السنن الكبرى» (7/ 183) و «التقريب» (2228) وغيرهما.

ص: 292

الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم ثقات تقوم الحجة بروايتهم. وقد روى أبو داود

(1)

عن فيروز الديلمي قال: قلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان، قال: «طلِّقْ أيتَهما

(2)

شئت».

فهذان الحديثان هما الأصول التي

(3)

يُرَدُّ ما خالفها من القياس، أما أن نقعِّد

(4)

قاعدة ونقول هذا هو الأصل ثم نردّ

(5)

السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة، فلَعَمْر الله لهدْمُ ألفِ قاعدة لم يؤصِّلها الله ورسوله أفرضُ علينا من ردِّ حديث واحد. وهذه القاعدة معلومة البطلان من الدين؛ فإن أنكحة الكفّار لم يتعرّض لها النبي صلى الله عليه وسلم كيف وقعتْ، وهل صادفت الشروط المعتبرة في الإسلام فتصح أم لم تصادفها فتبطل، وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج؛ فإن كان

(6)

ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرَّهما، ولو كان في الجاهلية قد وقع على غير شرطه من الولي والشهود وغير ذلك، وإن لم يكن الآن ممن يجوز [90/ب] له الاستمرار لم يُقِرَّ عليه، كما لو أسلم وتحته ذاتُ رحمٍ محرمٍ أو أختان أو أكثر من أربع؛ فهذا هو الأصل الذي أصَّلَتْه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما خالفه فلا يُلتفت إليه، والله الموفق.

(1)

في «السنن» (2243).

(2)

ت: «أيهما» .

(3)

ع: «الأصل الذي» .

(4)

د: «يقعد» .

(5)

د: «يرد» .

(6)

«كان» ساقطة من ع.

ص: 293

المثال الأربعون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يُفرِّق بين من أسلم وبين امرأته إذا لم تُسْلِم معه، بل متى أسلم الآخر فالنكاح بحاله ما لم تتزوَّج. هذه سنته المعلومة.

قال الشافعي

(1)

:أسلم أبو سفيان بن حرب بمَرِّ الظهران، وهي دار خزاعة، وخزاعة مسلمون قبل الفتح في دار الإسلام، ورجع إلى مكة، وهند بنت عتبة مقيمة على غير الإسلام، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضالَّ

(2)

، ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة، وقد كانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار الإسلام، وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة، ثم أسلمت قبل انقضاء العدة واستقرَّا على النكاح؛ لأن عدتها لم تنقضِ حتى أسلمت، وكان كذلك

(3)

حكيم بن حزام وإسلامه

(4)

. وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، وصارت دارهما دارَ الإسلام وظهر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهرب عكرمة إلى اليمن وهي دار حرب، وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب، ثم رجع صفوان إلى مكة وهي دار الإسلام، وشهد حنينًا وهو كافر، ثم أسلم، فاستقرت عنده امرأته

(5)

بالنكاح الأول، وذلك أنه لم تنقضِ ــ يعني ــ عدّتها

(6)

. وقد حفظ أهل العلم

(1)

في «الأم» (6/ 394 - 396).

(2)

رواه الطبراني (7264) ومن طريقه الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (144)، وإسناده حسن.

(3)

ت: «وكذلك كان» .

(4)

«وإسلامه» ليست في ت.

(5)

ت: «امرأته عنده» .

(6)

انظر: «موطأ مالك» (2/ 543 - 545) وهي مراسيل وبلاغات، والشهرة تقضي على ذلك؛ لكونه معروفًا عند أهل المغازي كابرًا عن كابرٍ. قال الشافعي في «الأم»: ما وصفتُ لك من أمر أبي سفيان وحكيم بن حزام وأزواجهما، وأمر صفوان وعكرمة وأزواجهما أمر معروف عند أهل العلم بالمغازي. وروى البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 186) عن الشافعي أنه قال: أخبرنا جماعة من أهل العلم من قريش وأهل المغازى وغيرهم عن عدد قبلهم ....

ص: 294

بالمغازي أن امرأة من الأنصار كانت عند رجلٍ بمكة فأسلمتْ وهاجرت إلى المدينة، فقدِمَ زوجها وهي في العدة، فاستقرَّا [91/أ] على النكاح.

قال الزهري

(1)

: لم يبلغني أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرَّقت هجرتُها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدَمَ زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدتها، وإنه لم يبلغنا أن امرأة فرّق بينها وبين زوجها إذا قدِمَ وهي في عدتها.

وفي «صحيح البخاري»

(2)

عن ابن عباس قال: كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه

(3)

؛ فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تُخطَبْ حتى تحيض وتطهر، فإذا طهُرتْ حلَّ لها النكاح، فإن هاجر زوجُها

(4)

قبل أن

(1)

رواه مالك (2/ 544) دون قوله: «وإنه لم يبلغنا

»، ومن طريقه البيهقي بهذه الزيادة (7/ 187). قال ابن عبد البر في «التمهيد» (12/ 19): هذا الحديث لا أعلمه يتصل من وجه صحيح، وهو حديث مشهور معلوم عند أهل السير، وابن شهاب إمام أهل السير

وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده.

(2)

رقم (5286).

(3)

«وأهل عهد

يقاتلونه» ساقطة من ع.

(4)

«زوجها» ليست في د، ع. وهي ثابتة في ت والبخاري.

ص: 295

تنكح رُدَّت إليه.

وفي «سنن أبي داود»

(1)

عن ابن عباس قال: ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، ولم يُحدِث شيئًا بعد ستّ سنين. وفي لفظٍ لأحمد:«ولم يُحدِث شهادةً ولا صداقًا» . وعند الترمذي: «ولم يُحدِث نكاحًا» . قال الترمذي: هذا حديث ليس بإسناده بأس، وقد روي بإسناد ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّها على أبي العاص بنكاح جديد

(2)

.

قال الترمذي: «في إسناده مقال» . وقال الإمام أحمد: «هذا حديث ضعيف، والصحيح أنه أقرَّهما على النكاح الأول» . وقال الدارقطني: «هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّها

(3)

بالنكاح الأول». وقال الترمذي في كتاب «العلل» له: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال:«حديث ابن عباس في هذا الباب أصحُّ من حديث عمرو بن شعيب»

(4)

.

(1)

رقم (2240). ورواه أيضًا الترمذي (1143) وأحمد (1876)، وصححه أحمد تحت رقم (6938)، وصححه أيضًا ابن حبان (4159) والحاكم (3/ 638) والضياء المقدسي (362). وانظر:«صحيح أبي داود» - الأم (7/ 10) و «الإرواء» (6/ 339).

(2)

رواه الترمذي (1142) وقال: «في إسناده مقال» ، وابن ماجه (2010) وأحمد (6938) وضعَّفه، والدارقطني (3625). وانظر:«الإرواء» (6/ 341).

(3)

«ردّها» ساقطة من ت.

(4)

انظر أحكام هؤلاء الأئمة في: «سنن الترمذي» (1142) و «مسند أحمد» (6938) و «سنن الدارقطني» (3625) و «العلل الكبير» (ص 166).

ص: 296

فكيف يُجعَل هذا الحديث الضعيف أصلًا تُردُّ به السنة الصحيحة المعلومة ويُجعل خلاف الأصول؟

فإن قيل: إنما

(1)

جعلناها خلاف الأصول لقوله [91/ب] تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وقوله:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، ولقوله:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، ولأن اختلاف الدين مانع من ابتداء النكاح؛ فكان مانعًا من دوامه كالرضاع.

قيل: لا تخالف السنة شيئًا من هذه الأصول إلا هذا القياس الفاسد؛ فإن هذه الأصول إنما دلّت على تحريم نكاح الكافر والكافرة غير الكتابيينِ، وهذا حق لا خلاف

(2)

فيه بين الأمة، ولكن أين في هذه الأصول ما يوجب تعجيل الفرقة بالإسلام وأن لا تتوقف على انقضاء العدة؟ ومعلوم أن افتراقهما في الدين سبب لافتراقهما في النكاح، ولكن توقُّف السبب على وجود شرطه وانتفاء مانعه لا يخرجه عن السببية، فإذا وُجد الشرط وانتفى المانع عَمِلَ عمله واقتصَّ أثره. والقرآن إنما دلّ على السببية، والسنة دلّت على شرط السبب ومانعه كسائر الأسباب التي فصّلت السنة شروطها وموانعها، كقوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، وقوله:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وقوله: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا

(1)

ع: «اننا» .

(2)

ع: «اختلاف» .

ص: 297

غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وقوله:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ونظائر ذلك؛ فلا يجوز أن يُجعل بيان الشروط والموانع معارضةً لبيان الأسباب والموجبات فتعود السنة كلها أو أكثرها معارضة للقرآن، وهذا محال.

المثال الحادي والأربعون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه

(1)

، بأنها خلاف الأصول وهي تحريم الميتة، [92/أ] فيقال: الذي جاء على لسانه تحريم الميتة هو الذي أباح الأجنَّة المذكورة؛ فلو قُدِّر أنها ميتة لكان استثناؤها بمنزلة استثناء السمك والجراد من الميتة، فكيف وليست بميتة؟ فإنها جزء من أجزاء الأم، والذكاة قد أتت على جميع أجزائها، فلا يحتاج أن يفرد كل جزء منها بذكاة، والجنين تابع للأم جزء منها؛ فهذا هو مقتضى الأصول الصحيحة لو لم تَرِد السنة بالإباحة، فكيف وقد وردت بالإباحة الموافقة للقياس والأصول؟

فإن قيل: فالحديث حجة عليكم؛ فإنه قال: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ، والمراد التشبيه، أي ذكاته كذكاة أمه، وهذا يدلُّ

(2)

على أنه لا يباح إلا بذكاةٍ تُشبِه ذكاة الأم.

(1)

ورد فيه عدة أحاديث، منها ما أخرجه أحمد (11260) وأبو داود (2827) والترمذي (1476) من حديث أبي سعيد الخدري، وفي إسناده مجالد بن سعيد، ولكن تابعه يونس بن أبي إسحاق عند أحمد (11343)، وهو ثقة. وحسَّنه الترمذي، وصححه ابن حبان (5889)، والحديث صحيح. انظر:«إرواء الغليل» (8/ 172).

(2)

ع: «دليل» .

ص: 298

قيل: هذا السؤال شقيقُ قولِ القائل كلمةً تكفي العاقلَ، ولو تأملتم الحديث لم تستحسنوا إيراد هذا السؤال؛ فإن لفظ الحديث هكذا: عن أبي سعيد قال

(1)

: قلنا: يا رسول الله، ننحرُ الناقة ونذبحُ البقرة والشاة وفي بطنها الجنين أنلقيه

(2)

أم نأكله؟ قال: «كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاته ذكاة أمّه» . فأباح لهم أكلَه معلّلًا بأن ذكاة الأم ذكاة له؛ فقد اتفق النص والأصل والقياس، ولله الحمد.

المثال الثاني والأربعون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في إشعار الهدي

(3)

، بأنها خلاف الأصول؛ إذ الإشعار مثلة، ولعمرُ الله إن هذه السنة خلاف الأصول الباطلة، وما ضرَّها ذلك شيئًا، والمثلة المحرَّمة هي العدوان الذي لا يكون عقوبة ولا تعظيمًا لشعائر الله؛ فأما شقُّ صفحة

(4)

سَنام البعير المستحبّ أو الواجب ذبحُه ليسيل دمه قليلًا فيظهر شعار الإسلام، وإقامة هذه السنة التي هي من أحب الأشياء إلى الله= فعلى وفق الأصول، وأيُّ كتاب أو سنة

(5)

حرَّم ذلك حتى يكون خلافًا للأصول؟ وقياس الإشعار [92/ب] على المثلة المحرمة من أفسد قياس

(6)

على وجه الأرض؛ فإنه قياس ما يحبه الله ويرضاه على ما يبغضه ويسخطه وينهى

(7)

(1)

«قال» ليست في ت.

(2)

د، ت:«أنلقه» .

(3)

رواه البخاري (1698) ومسلم (1321) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

«صفحة» ليست في ع.

(5)

د: «وأي سنة» .

(6)

ت: «القياس» .

(7)

ت: «ونهى» .

ص: 299

عنه، ولو لم يكن في حكمة الإشعار إلا تعظيم شعائر الله وإظهارها وعِلْم

(1)

الناس بأن هذه قرابين الله عز وجل تُساق إلى بيته، تُذبح له ويُتقرب بها إليه عند بيته كما يُتقرب إليه بالصلاة إلى بيته، عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلّون لها؛ فشُرِع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نُسكهم وصلاتهم لله وحده، وأن يُظهِروا شعائر توحيده غاية الإظهار ليعلو دينه على كل دين؛ فهذه هي

(2)

الأصول الصحيحة

(3)

التي جاءت السنة بالإشعار على وَفْقها، ولله الحمد.

المثال الثالث والأربعون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن امرأً اطَّلعَ عليك بغير إذنٍ فخذفتَه بحصاة ففقأتَ عينَه ما كان عليك جناح» . متفق عليه

(4)

، وفي أفراد مسلم

(5)

: «من اطَّلعَ في بيت قوم بغير إذنهم فقد حلَّ لهم أن يَفْقَؤوا عينَه» . وفي «الصحيحين»

(6)

من حديث سهل بن سعد: اطَّلع رجل من جُحرٍ في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه مِدْرًى يَحُكُّ بها رأسه، فقال:«لو أعلم أنك تنظر لطعنتُ به في عينك، إنما جُعِل الاستئذان من أجْلِ النظر» .

(1)

في هامش ع: «اعلام» .

(2)

«هي» ليست في ت.

(3)

«الصحيحة» ليست في ع.

(4)

رواه البخاري (6902) ومسلم (2158/ 44) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

برقم (2158/ 43).

(6)

رواه البخاري (6241) ومسلم (2156).

ص: 300

وفي «صحيح مسلم»

(1)

عن أنس: أن رجلًا اطَّلعَ من بعض حجر رسول الله

(2)

صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمِشْقَصٍ أو بمشاقص، قال: وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخْتِلُه ليطعنَه.

وفي «سنن البيهقي»

(3)

بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اطَّلعَ على قوم بغير إذنهم فرمَوه فأصابوا عينه فلا ديةَ له [93/أ] ولا قصاصَ» .

فرُدَّت هذه السنن بأنها خلاف الأصول؛ فإنّ الله إنما أباح قَلْعَ العين بالعين، لا بجناية النظر، ولهذا لو جنى عليه بلسانه لم يقطع، ولو استمع عليه بأُذُنه لم يجز له أن يقطع أذنه.

فيقال: بل هذه السنن من أعظم الأصول؛ فما خالفها فهو خلاف الأصول. وقولكم: إنما شرع الله سبحانه أخْذَ العين بالعين، فهذا حق في القصاص، وأما العضو الجاني المتعدّي الذي لا يمكن دفعُ ضرره وعدوانه إلا برميه، فإن الآية لا تتناوله

(4)

نفيًا ولا إثباتًا، والسنة جاءت ببيان حكمه بيانًا ابتدائيًّا لِما سكت عنه القرآن، لا مخالفًا لما حكم به القرآن، وهذا قسم آخر غير فَقْء العين قصاصًا، وغير دفع الصائل الذي يُدفع بالأسهل فالأسهل؛ إذ المقصود دفع ضررِ صِياله، فإذا اندفع بالعصا لم يدفع بالسيف.

(1)

رقم (2157)، ورواه البخاري (6242) أيضًا.

(2)

د: «النبي» .

(3)

(8/ 338)، ورواه أيضًا النسائي (4860) وأحمد (8997)، وصححه ابن حبان (6004).

(4)

ت: «لا تتناول له» .

ص: 301

وأما هذا المتعدي بالنظر المحرّم الذي لا يمكن الاحتراز منه، فإنه إنما يقع على وجه الاختفاء والخَتْل؛ فهو قسم آخر غير الجاني وغير الصائل الذي لم

(1)

يتحقّق عدوانه

(2)

، ولا يقع هذا غالبًا إلا على وجه الاختفاء وعدم مشاهدة غير الناظر له؛ فلو كُلِّف المنظور إليه إقامةَ البينة على جنايته تعذَّرت عليه، ولو أمر بدفعه بالأسهل فالأسهل ذهبت جناية عدوانه

(3)

بالنظر إليه وإلى حريمه هدرًا، والشريعة الكاملة تأبى هذا وهذا؛ فكان أحسنُ ما يمكن وأصلحه وأكفُّه لنار الجاني

(4)

ما جاءت به السنة التي لا معارضَ لها ولا دافعَ لصحتها من حذف

(5)

ما هنالك، وإن لم يكن هناك بصرٌ عادٍ لم يضرَّ

(6)

حَذْف الحصاة، وإن كان هناك بصرٌ عادٍ لا يلومَنَّ إلا نفسه

(7)

؛ فهو الذي عرَّضه صاحبه للتلف، فأدناه إلى الهلاك، والحاذف

(8)

ليس بظالم [93/ب] له، والناظر خائن ظالم، والشريعة أكمل وأجلُّ من أن تُضيع

(9)

حقَّ هذا الذي قد هُتِكَتْ حرمته وتُحِيله في

(10)

الانتصار على التعزير بعد إقامة

(1)

«لم» ساقطة من ع.

(2)

د: «عداوته» .

(3)

د: «عداوته» .

(4)

ع: «لثار الجاني» . وفي المطبوع: «وأكفه لنا وللجاني» . والمثبت من د.

(5)

كذا في النسخ بالحاء، وهو صحيح بها وبالخاء في اللغة بمعنى الرمي.

(6)

ع: «لم يجز» .

(7)

ت: «لا يكون إلا من نفسه» .

(8)

د: «والخاذف» .

(9)

ت: «تضع» ..

(10)

ت: «على» .

ص: 302

البينة؛ فحكم الله فيه بما شرعه على لسان رسوله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

المثال الرابع والأربعون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وضع الجوائح، بأنها خلاف الأصول، كما في «صحيح مسلم»

(1)

عن جابر يرفعه: «لو بعتَ من أخيك ثمرًا فأصابتْه جائحةٌ فلا يَحِلُّ لك أن تأخذ منه شيئًا، بِمَ

(2)

تأخذُ مال أخيك بغير حق؟». وروى سفيان بن عيينة عن حُميد عن سليمان عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين، وأمر بوضع الجوائح

(3)

. فقالوا: هذه خلاف الأصول؛ فإن المشتري قد ملك الثمرة وملك التصرف فيها، وتَمَّ نقلُ الملك إليه، ولو ربح فيها كان

(4)

الربح له، فكيف تكون من ضمان البائع؟ وفي «صحيح مسلم»

(5)

عن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمارٍ ابتاعها، فكثُر دَينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تصدَّقوا عليه» ، فتصدّقوا عليه، فلم يبلغ ذلك وفاءَ دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» . وروى مالك

(6)

عن

(1)

رقم (1554).

(2)

ت: «ثم» .

(3)

رواه أبو داود (3374) وأحمد (14320)، وروى مسلم الشطر الأول منه برقم (1436) والشطر الثاني برقم (1554).

(4)

ع: «لكان» .

(5)

رقم (1556).

(6)

في «الموطأ» (2/ 621)، ومن طريقه الشافعي في «الأم» (4/ 117) عن عمرة مرسلاً، ووصله أحمد (24405)، وصححه ابن حبان (5032) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني الوصل في «علله» (14/ 423).

ص: 303

أبي الرِّجال عن أمه عَمْرة أنه سمعها

(1)

تقول: ابتاع رجل ثمرَ حائطٍ في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعالجَه وأقام عليه حتى تبيَّن له النقصان، فسأل ربَّ الحائط أن يضعَ عنه، فحلف لا يفعل، فذهبتْ أمُّ المشتري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرتْ له ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تألَّى أن لا يفعلَ خيرًا» ، فسمع بذلك ربُّ المال، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم[94/أ] فقال: يا رسول الله، هو له.

والجواب

(2)

أن وضع الجوائح لا يخالف شيئًا من الأصول الصحيحة، بل هو مقتضى أصول الشريعة، ونحن نبيِّن بحمد الله هذا بمقامين

(3)

:

أما الأول فحديث وضع الجوائح لا يخالف كتابًا ولا سنةً ولا إجماعًا، وهو أصلٌ بنفسه؛ فيجب قبوله، وأما ما ذكرتم من القياس فيكفي في فساده شهادة النصّ له بالإهدار، كيف وهو فاسد في نفسه؟

وهذا يتبيّن بالمقام الثاني، وهو أن وضع الجوائح كما هو موافق للسنة الصحيحة الصريحة فهو مقتضى القياس

(4)

الصحيح؛ فإن المشتري لم يتسلَّم الثمرة ولم يقبضها القبضَ التامَّ الذي يوجب نقلَ الضمان إليه؛ فإن قبضَ كل شيء بحسبه، وقبضُ الثمار إنما يكون عند كمال إدراكها شيئًا فشيئًا، فهو كقبض المنافع في الإجارة، وتسليمُ الشجرة إليه كتسليم العين المُؤْجَرة من الأرض والعقار والحيوان، وعُلَقُ البائع لم تنقطع عن المبيع، فإن له سقْيَ الأصل وتعاهُدَه، كما لم تنقطع عُلَقُ المُؤجِر عن العين

(1)

ع: «أنها سمعتها» ، خطأ ..

(2)

ت: «فالجواب» .

(3)

ت: «هذين المقامين» .

(4)

ع: «مقتض للقياس» .

ص: 304

المستأجرة، والمشتري لم يتسلَّم التسلُّم التام كما لم يتسلم المستأجر التسلُّم التام، فإذا جاء أمر غالب اجتاح الثمرة من غير تفريطٍ من المشتري لم يحلَّ للبائع إلزامُه بثمن ما أتلفه الله سبحانه منها قبل تمكُّنه من قبضها القبضَ المعتاد.

وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيتَ إن منعَ الله الثمرة؟ فبِمَ يأخذ أحدكم مالَ أخيه بغير حق؟»

(1)

، فذكر الحكم وهو قوله: «فلا يحلُّ له أن يأخذ

(2)

منه شيئًا»، وعلة الحكم وهو قوله:«أرأيتَ إن منع الله الثمرةَ» إلى آخره. وهذا الحكم نصٌّ لا يحتمل التأويل، والتعليل وصف مناسب لا يقبل الإلغاء ولا المعارضة. وقياس الأصول لا يقتضي غير ذلك، ولهذا لو تمكَّن من القبض المعتاد [94/ب] في وقته ثم أخَّره لتفريطٍ منه أو لانتظارِ غلاء السعر كان التلف من ضمانه، ولم تُوضَع عنه الجائحة.

وأما معارضة هذه السنة بحديث الذي أُصيب في ثمار ابتاعها فمن باب ردِّ المحكم بالمتشابه؛ فإنه ليس فيه أنه أصيب فيها بجائحة، بل لعله أصيب فيها بانحطاط سعرها. وإن قُدِّر أن المصيبة كانت بجائحةٍ فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة، بل لعلها جائحة خاصة كسرقة اللصوص التي يمكن

(3)

الاحتراز منها، ومثل هذا لا يكون جائحة تُسقِط الثمن عن المشتري، بخلاف نهب الجيوش والتلف بآفة سماوية. وإن قُدِّر أن الجائحة عامة فليس في الحديث ما يبيِّن أن التلف لم يكن بتفريطه في التأخير، ولو

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

ع: «لك أن تأخذ» .

(3)

ت: «لا يمكن» .

ص: 305

قُدِّر أن التلف لم يكن بتفريطه فليس فيه أنه طلب الفسخ وأن توضع عنه الجائحة، بل لعله رضي بالمبيع ولم يطلب الوضع، والحق في ذلك له: إن شاء طلبه، وإن شاء تركه. فأين في الحديث أنه طلب ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم منَعَه منه؟ ولا يتمُّ الدليل إلا بثبوت المقدمتين، فكيف يُعارَض نصُّ قوله الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير معنى واحد وهو نصٌّ فيه بهذا الحديث المتشابه؟ ثم قوله فيه:«ليس لكم إلا ذلك» دليل على أنه لم يبقَ لبائعي الثمار من ذمة المشتري غيرُ ما أخذه

(1)

، وعندكم المال كله في ذمته؛ فالحديث حجة عليكم.

وأما المعارضة بحديث مالك فمن أبطل المعارضات وأفسدِها، فأين فيه أنه أصابته جائحة بوجهٍ ما؟ وإنما فيه أنه عالجه وأقام عليه حتى تبيَّن له النقصان، ومثل هذا لا يكون سببًا لوضع الثمن، وبالله التوفيق.

المثال الخامس والأربعون: [95/أ] ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وجوب الإعادة على من صلّى خلف الصف وحده، كما في «المسند» بإسناد صحيح و «صحيحي ابن حبان وابن خزيمة» عن علي بن شيبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلِّي خلفَ الصف، فوقف حتى انصرف الرجل، فقال له:«استقبلْ صلاتَك، فلا صلاةَ لفردٍ خلفَ الصفّ»

(2)

.

(1)

ع: «أخذوه» .

(2)

رواه أحمد (16297) وابن ماجه (1003)، وصححه ابن خزيمة (1569) وابن حبان (2202). قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: حديث ملازم بن عمرو ــ يعني هذا الحديث ــ في هذا أيضًا حسنٌ؟ قال: نعم. انظر: «المغني» (3/ 155) و «الإرواء» (2/ 329).

ص: 306

وفي «السنن» و «صحيح ابن حبان وابن خزيمة» عن وابصة بن معبد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلّي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد صلاته

(1)

.

وفي «مسند الإمام أحمد»

(2)

: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل صلَّى وحدَه خلف الصف

(3)

قال: «يعيد صلاته» .

فردَّت هذه السنن المحكمة بأنها خلاف الأصول، ولعمر الله إنها هي محض الأصول، وما خالفها فهو خلاف الأصول، وردَّت بالمتشابه من حديث ابن عباس حيث أحرم عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، فأداره إلى يمينه، ولم يأمره باستقبال الصلاة

(4)

.

وهذا من أفسد الردّ؛ فإنه لا يشترط أن تكون تكبيرة الإحرام من المأمومين في حال واحد

(5)

، بل لو كبَّر أحدهم وحده ثم كبَّر الآخر بعده صحت القدوة ولم يكن السابق فذًّا وإن أحرم وحده، فالاعتبار بالمُصافَّة فيما تدرك به الركعة وهو الركوع. وأفسدُ من هذا الردّ ردُّ الحديث بأن الإمام يقف فذًّا، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلُّ وأعظمُ في صدور أهلها أن تُعارَض بهذا

(1)

رواه أبو داود (682) والترمذي وحسنه (230، 231) ، ورواه ابن ماجه (1004) وأحمد (18000) ، وذكره ابن خزيمة بدون إسناد (1569)، وصححه ابن حبان (2198). وانظر:«الإرواء» (2/ 323).

(2)

رقم (18004).

(3)

ت، ع:«خلف الصف وحده» .

(4)

رواه البخاري (117) ومسلم (763).

(5)

د: «واحدة» .

ص: 307

وأمثاله. وأقبحُ من هذه المعارضة معارضتها بأن المرأة تقف خلف الصف وحدها؛ فإن هذا هو موقفها المشروع بل الواجب، كما أن موقف الإمام المشروع أن يكون وحده أمام الصف. وأما موقف الفذّ خلف الصف فلم يشرعه رسول الله [95/ب]صلى الله عليه وسلم البتةَ، بل شرع الأمر بإعادة الصلاة لمن وقف فيه، وأخبر أنه لا صلاة له.

فإن قيل: فهَبْ أن هذه المعارضات لم يسلم منها شيء، فما تصنعون بحديث

(1)

أبي بكرة حين ركع دون الصفّ ثم مشى راكعًا حتى دخل في الصف، فقال له النبي

(2)

صلى الله عليه وسلم: «زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ»

(3)

. ولم يأمره بإعادة الصلاة وقد وقعت منه تلك الركعة فذًّا؟

قيل: نقبله على الرأس والعينين، ونمسك

(4)

قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تَعُدْ» ، فلو فعل أحد ذلك غيرَ عالمٍ بالنهي لقلنا له كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، فإن عاد بعد علمه بالنهي فإمّا أن يجتمع مع الإمام في الركوع في الصف أو لا، فإن جامعَه في الركوع وهو في الصف صحت صلاته؛ لأنه أدرك الركعة وهو غير فذٍّ كما لو أدركها قائمًا، وإن رفع الإمام رأسه من الركوع قبل أن يدخل في الصف، فقد قيل: تصح صلاته، وقيل: لا تصح له تلك الركعة ويكون فذًّا فيها. والطائفتان احتجُّوا بحديث أبي بكرة.

(1)

ت: «في حديث» .

(2)

ت: «رسول الله» .

(3)

رواه البخاري (783).

(4)

ع: «ونمتثل» .

ص: 308

والتحقيق أنه قضية عينٍ، يحتمل دخوله في الصف قبل رفع الإمام، ويحتمل أنه لم يدخل فيه حتى رفع الإمام. وحكاية الفعل لا عمومَ لها؛ فلا يمكن أن يُحتَجَّ بها على الصورتين، فهي إذًا مجملة متشابهة، فلا يُترك لها النص المحكم الصريح، فهذا مقتضى الأصول نصًّا وقياسًا، وبالله التوفيق.

المثال السادس والأربعون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز الأذان للفجر قبل دخول وقتها، كما في «الصحيحين»

(1)

من حديث سالم بن عبد الله [عن أبيه]

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن بلالًا يؤذِّن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذانَ ابنِ [96/أ] أم مكتوم» . وفي «صحيح مسلم»

(3)

عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغرَّنَّكم نداءُ بلال ولا هذا البياضُ حتى ينفجر

(4)

الفجر». وهو في «الصحيحين»

(5)

من حديث ابن مسعود، ولفظه:«لا يمنعنَّ أحدَكم أذانُ بلال من سحوره؛ فإنه يؤذِّن أو ينادي ليرجع قائمكم وينتبه نائمكم» . قال مالك

(6)

: «لم تَزَلِ الصبحُ يُنادَى لها قبل الفجر» .

فرُدَّتْ هذه السنة لمخالفتها

(7)

الأصولَ والقياس على سائر الصلوات، وبحديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن بلالًا أذَّن قبل

(1)

البخاري (617) ومسلم (1092).

(2)

ليست في النسخ، وقد استدركت من «الصحيحين» .

(3)

رقم (1094).

(4)

ت: «يفجر» .

(5)

البخاري (621) ومسلم (1093).

(6)

في «الموطأ» (1/ 72).

(7)

ع: «بمخالفتها» .

ص: 309

طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام

(1)

. ولا تردُّ السنة الصحيحة بمثل ذلك؛ فإنها أصلٌ بنفسها، وقياس وقت الفجر على غيره من الأوقات لو لم يكن فيه إلا مصادمته للسنة لكفى في ردّه، فكيف

(2)

والفرق قد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما في النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة التي لا تكون في غير الفجر؟ وإذا اختصّ وقتها بأمر لا يكون في سائر الصلوات امتنع الإلحاق.

وأما حديث حماد عن أيوب فحديث معلول عند أئمة الحديث لا تقوم به حجة. قال أبو داود: لم يروِه عن أيوب إلا حماد بن سلمة

(3)

. وقال إسحاق بن إبراهيم بن جبلة

(4)

: سألت عليًّا ــ هو ابن المديني ــ عن حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر أن بلًالا أذّن بليل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجعْ فنادِ

(5)

أن العبد نام». فقال: هو عندي خطأ، لم يتابَع حماد بن سلمة على

(1)

رواه أبو داود (532) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 139) والدارقطني (954)، ونقل ابن حجر اتفاق الأئمة كأحمد والبخاري وأبي حاتم بأن حمادًا أخطأ في رفعه، والصواب وقفه على عمر. انظر:«العلل» لابن أبي حاتم (12/ 339) و «التلخيص الحبير» (1/ 319) و «فتح الباري» (2/ 103).

(2)

«فكيف» ليست في ت.

(3)

«سنن أبي داود» (532).

(4)

د: «حلبة» . ت، ع:«حكيم» . وكلاهما تصحيف. والصواب ما أثبته كما في «معرفة السنن والآثار» (2/ 213) و «الثقات» لابن حبان (8/ 122).

(5)

ت: «فنادى» .

ص: 310

هذا، إنما روي أن بلالًا كان ينادي بليل

(1)

. قال البيهقي

(2)

: قد تابعه سعيد بن زَرْبيّ، وهو ضعيف

(3)

.

وأما حماد بن سلمة فإنه أحد أئمة المسلمين، حتى قال الإمام أحمد: إذا [96/ب] رأيت الرجل يغمِزُ حماد بن سلمة فاتهِمْه، فإنه كان شديدًا على أهل البدع

(4)

.

قال البيهقي

(5)

: إلا أنه لما طعن في السن ساء حفظه، فلذلك ترك البخاري الاحتجاج بحديثه، وأما مسلم فاجتهد في أمره، وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيُّره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ أكثر من اثني عشر حديثًا أخرجها في الشواهد دون الاحتجاج به. وإذا كان الأمر كذلك فالاحتياط لمن راقب الله عز وجل أن لا يحتجَّ بما يجد من حديثه مخالفًا لأحاديث الثقات الأثبات، وهذا الحديث من جملتها.

ثم ذكر من طريق الدارقطني عن معمر عن أيوب قال: أذَّن بلال مرةً بليل. قال الدارقطني

(6)

: هذا مرسل.

ثم ذكر من طريق إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة

(1)

«مختصر الخلافيات» (1/ 462) و «معرفة السنن والآثار» (2/ 213) و «السنن الكبرى» (1/ 383).

(2)

في «مختصر الخلافيات» (1/ 462).

(3)

«مختصر الخلافيات» (1/ 462).

(4)

انظر: «مختصر الخلافيات» (1/ 462) و «السير» (7/ 450).

(5)

«مختصر الخلافيات» (1/ 462).

(6)

«السنن» (956).

ص: 311

عن عبد العزيز بن أبي روّاد [عن نافع] عن ابن عمر أن بلالًا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حملَك على ذلك؟» قال: استيقظتُ وأنا وَسْنانُ، فظننت أن الفجر قد طلع، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي في المدينة أن العبد قد نام، وأقعده إلى جانبه حتى طلع الفجر

(1)

.

ثم قال

(2)

: هكذا رواه إبراهيم عن عبد العزيز

(3)

، وخالفه

(4)

شعيب بن حرب، فقال: عن عبد العزيز عن نافع عن مؤذّن لعمر يقال له مسروح أنه أذّن قبل الصبح، فأمره عمر أن ينادي: ألا إنّ العبد نام

(5)

.

قال أبو داود

(6)

: ورواه حماد

(7)

بن زيد عن عبيد الله

(8)

بن عمر عن نافع أو غيره أن مؤذّنًا لعمر يقال له مسروح أو غيره. ورواه الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: كان لعمر مؤذن يقال له مسعود، فذكر [97/أ] نحوه، قال أبو داود: وهذا أصحّ من ذلك. يعني حديث عمر أصح.

قال البيهقي

(9)

: وروي من وجه آخر عن عبد العزيز موصولًا، ولا

(1)

رواه البيهقي (1/ 383) والزيادة منه.

(2)

يعني البيهقي.

(3)

رواه البيهقي (1/ 383).

(4)

ع: «وخالف» .

(5)

رواه أبو داود (533)، ومن طريقه البيهقي (1/ 384)، ورواه الدارقطني (955).

(6)

في «سننه» (533).

(7)

ت: «أحمد» ، تحريف.

(8)

ت: «عبد الله» ، خطأ.

(9)

كما في «مختصر الخلافيات» (1/ 362). ويستمر النقل إلى خمس صفحات.

ص: 312

يصح، رواه عامر بن مدرك عنه عن نافع عن ابن عمر: أن بلالًا أذَّن قبل الفجر، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن ينادي: إن العبد نام، فوجد بلالٌ وجدًا شديدًا. قال الدارقطني

(1)

: وَهِم فيه عامر بن مدرك، والصواب عن شعيب بن حرب عن عبد العزيز عن نافع عن مؤذن عمر عن عمر من قوله، وروي عن أنس بن مالك، ولا يصح.

وروي عن أبي يوسف القاضي عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس: أن بلالًا أذّن قبل الفجر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصعد فينادي: ألا إن العبد نام، ففعل، وقال:

ليتَ بلالًا لم تلِدْه أمُّه

وابتلَّ مِن نَضْحِ دمٍ جبينُه

قال الدارقطني

(2)

: تفرّد به أبو يوسف عن سعيد، يعني موصولًا، وغيره يُرسِله عن سعيد عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمرسل أصح.

ورواه الدارقطني

(3)

من طريق محمد بن القاسم الأسدي، ثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس، ثم قال: محمد بن القاسم الأسدي ضعيف جدًّا. وقال البخاري: كذّبه أحمد بن حنبل

(4)

.

وروي عن حميد بن هلال أن بلالًا أذَّن ليلةً بسوادٍ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن

(1)

في «سننه» (958).

(2)

في «السنن» (959).

(3)

في «سننه» (961).

(4)

«التاريخ الصغير» (2/ 312).

ص: 313

يرجع إلى مقامه فينادي: إن العبد نام

(1)

، ورواه إسماعيل بن مسلم عن حميد عن أبي قتادة، وحميد لم يلق أبا قتادة؛ فهو مرسل بكل حال.

وروي عن شداد مولى عِياض قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحَّر فقال: لا تؤذِّنْ حتى يطلع الفجر

(2)

، وهذا مرسل. قال أبو داود: شدّاد مولى عِياض لم يدرك بلالًا.

وروى [97/ب] الحسن بن عُمارة عن طلحة بن مصرّف عن سُويد بن غَفَلة عن بلال قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أؤذّن حتى يطلع الفجر

(3)

، وعن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال مثله، لم يروه هكذا غير الحسن بن عُمارة

(4)

، وهو متروك

(5)

، ورواه الحجاج بن أرطاة عن طلحة وزُبيد عن سويد بن غفلة أن بلالًا لم يؤذّن حتى ينشقّ الفجر

(6)

، هكذا رواه، لم يذكر فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلاهما ضعيفان

(7)

.

وروي عن سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان أن

(8)

النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «لا تؤذِّن» ــ وجمع سفيان أصابعه الثلاث ــ «لا تؤذِّنْ حتى يقول

(1)

رواه الدارقطني (957).

(2)

رواه أبو داود (534) وابن أبي شيبة (2234) والبيهقي (1/ 384).

(3)

رواه أبو نعيم في «الحلية» (5/ 22).

(4)

ت: «أبي عمارة» ، خطأ.

(5)

انظر: «تهذيب الكمال» (6/ 265) ترجمة (1252).

(6)

رواه ابن أبي شيبة (2235) من طريق طلحة.

(7)

عود الضمير إلى الحسن بن عمارة وحجاج بن أرطاة.

(8)

«أن» ليست في ت.

ص: 314

الفجر هكذا»

(1)

. وصف سفيان بين السبابتين ثم فرّق بينهما.

قال

(2)

: وروينا عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود ما دلّ على أذان بلال بليل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر معاني تأذينه بالليل، وذلك أولى بالقبول لأنه موصول، وهذا مرسل.

وروي عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق عن الأسود قال: قالت لي عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوتر

(3)

من الليل رجع إلى فراشه، فإذا أذّن بلال قام؛ وكان بلال يؤذّن إذا طلع الفجر، فإن كان جنبًا اغتسل، وإن لم يكن توضأ ثم

(4)

صلى ركعتين

(5)

. وروى الثوري عن أبي إسحاق في هذا الحديث قال: ما كان المؤذّن يؤذّن حتى يطلع الفجر. وروى شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود: سألتُ عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، قالت: كان ينام أول الليل، فإذا كان السحر أوتر

(6)

، ثم يأتي فراشه، فإن كانت له حاجة إلى أهله ألمَّ بهم، ثم ينام، فإذا سمع النداء ــ وربما

(7)

قالت الأذان ــ وثبَ، وربما قالت قام، [98/أ] فإن كان جنبًا أفاض عليه الماء، وربما قالت: اغتسل، وإن لم يكن جنبًا توضّأ ثم خرج للصلاة

(8)

. وقال

(1)

انظر: «مختصر الخلافيات» (1/ 468).

(2)

أي البيهقي في المصدر السابق.

(3)

د، ت:«أوتى» .

(4)

ت: «و» .

(5)

انظر: مختصر الخلافيات (1/ 468 - 469).

(6)

د: «اوى» .

(7)

في النسخ هنا وفيما يلي: «وما» بدل «وربما» .

(8)

رواه البخاري (1146) ومسلم (739) وأبو داود الطيالسي (1483) واللفظ له.

ص: 315

زهير بن معاوية عن أبي إسحاق في هذا الحديث: فإذا كان عند النداء الأول وثَبَ

(1)

.

قال البيهقي: وفي روايته ورواية شعبة كالدليل على أن هذا النداء كان قبل طلوع الفجر، وهي موافقة لرواية القاسم عن عائشة، وذلك أولى من رواية من خالفهما. وروي عن عبد الكريم عن نافع عن ابن عمر عن حفصة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذّن المؤذّن صلى الركعتين، ثم خرج إلى المسجد وحرَّم الطعام، وكان لا يؤذّن إلا بعد الفجر

(2)

.

قال البيهقي: هكذا في هذه الرواية، وهو محمول إن صحَّ على الأذان الثاني، والصحيح عن نافع بغير هذا اللفظ، رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح صلّى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة

(3)

. والحديث في «الصحيحين»

(4)

.

فإن قيل: عُمدتكم في هذا إنما هو على حديث بلال، ولا يمكن الاحتجاج به؛ فإنه قد اضطرب الرواة فيه هل كان المؤذن بلالًا

(5)

أو ابن أم مكتوم، وليست إحدى الروايتين أولى من الأخرى، فتتساقطان، فروى شعبة

(1)

هذا اللفظ عند مسلم (739).

(2)

رواه أحمد (26430) وأبو يعلى (7036) والطبراني (321).

(3)

رواه البخاري (618) ومسلم (723) واللفظ له.

(4)

إلى هنا انتهى كلام البيهقي من «مختصر الخلافيات» (1/ 462 - 470).

(5)

ت: «بلال» .

ص: 316

عن حبيب بن عبد الرحمن قال: سمعت عمتي أُنيسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ

(1)

ابن أم مكتوم ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال»

(2)

. رواه البيهقي وابن حبان في «صحيحه» .

فالجواب أن هذا الحديث قد رواه ابن عمر وعائشة وابن مسعود وسمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن بلالًا يؤذّن بليل

(3)

، وهذا الذي رواه صاحبا «الصحيح» ، ولم يختلف عليهم في ذلك. وأما حديث أُنيسة فاختلف عليها على ثلاثة أوجه:

أحدها: [98/ب] كذلك رواه محمد بن أيوب عن أبي الوليد وأبي عمرو

(4)

عن شعبة

(5)

.

الثاني: كحديث عائشة وابن عمر: أن بلالًا يؤذّن بليل

(6)

، هكذا رواه محمد بن يونس الكُديمي عن أبي الوليد عن شعبة، وكذلك رواه أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق عن شعبة

(7)

.

الثالث: رُوي على الشك: إن بلالًا يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتى

(1)

مكان «قال إن» بياض في ت.

(2)

رواه النسائي (640) وأحمد (27439)، وصححه ابن خزيمة (405) وابن حبان (3474) والبيهقي (1/ 382).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

د، ت:«وابن عمر» . والمثبت هو الصواب، كما عند البيهقي (1/ 382). وسيأتي.

(5)

رواه البيهقي (1/ 382).

(6)

انظر: «السنن الكبرى» (1/ 382).

(7)

رواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» (1766).

ص: 317

يؤذن

(1)

ابن أم مكتوم، أو قال: إن ابن أم مكتوم يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن بلال

(2)

. كذلك رواه سليمان بن حرب وجماعة.

والصواب رواية أبي داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق لموافقتها حديث ابن عمر وعائشة، وأما رواية أبي الوليد وأبي عمرو

(3)

فمما انقلب فيها لفظ الحديث، وقد عارضها رواية الشك ورواية الجزم بأن المؤذن بليلٍ هو بلال، وهو الصواب بلا شك، فإن ابن أم مكتوم كان ضرير البصر، ولم يكن له علم بالفجر؛ فكان إذا قيل له:«طلع الفجر» أذَّن. وأما ما ادعاه بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأذان نوبًا بين بلال وبين ابن أم مكتوم، وكان كل منهما في نوبته يؤذّن بليلٍ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يأكلوا ويشربوا حتى يؤذّن الآخر= فهذا كلام باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجئ في ذلك أثر قطُّ، لا بإسناد

(4)

صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل، ولكن هذه طريقة من يجعل غلط الرواة شريعةً ويحملها على السنة، وخبر ابن مسعود وابن عمر وعائشة وسمرة الذي لم يُختلَف عليهم فيه أولى بالصحة، والله أعلم.

المثال السابع والأربعون

(5)

: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المستفيضة

(1)

ع: «حتى تسمعوا أذان» .

(2)

رواه البيهقي (1/ 382).

(3)

د، ع:«أبي عمر» .

(4)

ت: «ولا إسناد» .

(5)

د، ت:«التاسع والأربعون» . وهكذا يستمر زيادة رقمين فيما بعد، وقد صحِّح في د في الهوامش بخط مغاير، واعتمدنا هذا التصحيح.

ص: 318

عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على القبر، كما في «الصحيحين»

(1)

من حديث ابن عباس: [99/أ] أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى على قبر منبوذٍ، فصفَّهم وتقدّم فكبّر عليه أربعًا. وفيهما

(2)

من حديث أبي هريرة: أنه صلّى على قبر

(3)

امرأة سوداء كانت تقمُّ المسجد. وفي «صحيح مسلم»

(4)

من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر امرأة بعدما دُفِنتْ. وفي «سنن» البيهقي والدارقطني

(5)

عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى على قبرٍ بعد شهر. وفيهما

(6)

عنه: أن

(7)

النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ميت بعد ثلاث. وفي «جامع الترمذي»

(8)

: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى على أم سعد بعد شهر

(9)

.

فردَّت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: «لا تجلسوا على القبور

(1)

رواه البخاري (857) ومسلم (954).

(2)

رواه البخاري (1337) ومسلم (956).

(3)

«قبر» ليست في ع.

(4)

رقم (955).

(5)

رواه الدارقطني (1847) ومن طريقه البيهقي (4/ 46)، وهي شاذة تفرد بها بشر بن آدم عن أبي عاصم، وخالفه غيره فيها. انظر:«سنن» الدارقطني (1847) و «الفتح» (3/ 205) و «الإرواء» (3/ 183).

(6)

رواه الدارقطني (1846) ومن طريقه البيهقي (4/ 45 - 46)، وهي زيادة شاذة. انظر:«الفتح» (3/ 205) و «الإرواء» (3/ 183).

(7)

ت: «عن» .

(8)

رواه الترمذي عن سعيد بن المسيب مرسلًا (1038)، وضعفه الألباني في «الإرواء» (2/ 186).

(9)

«شهر» ليست في ت.

ص: 319

ولا تصلُّوا إليها»

(1)

. وهذا حديث صحيح، والذي قاله هو النبي الذي صلّى على القبر؛ فهذا قوله وهذا فعله، ولا يناقض أحدهما الآخر؛ فإن الصلاة المنهي عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر؛ فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختصُّ بمكان، بل فعلُها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه

(2)

؛ فالصلاة عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه

(3)

، فإنه المقصود بالصلاة في الموضعين، ولا فرق بين كونه على النعش وعلى الأرض وبين كونه في بطنها، بخلاف سائر الصلوات؛ فإنها لم تُشرع في القبور ولا إليها؛ لأنها ذريعة إلى اتخاذها مساجد، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك

(4)

، فأين ما لَعن فاعله وحذَّر منه وأخبر أن أهله شرار الخلق كما قال:«إن من شرار الناس من تُدرِكهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد»

(5)

إلى ما فعله صلى الله عليه وسلم مرارًا متكررةً؟ وبالله التوفيق.

المثال الثامن والأربعون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في النهي عن الجلوس على فراش [99/ب] الحرير، كما في «صحيح البخاري»

(6)

من حديث حذيفة: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن

(1)

رواه مسلم (972).

(2)

رواه البخاري (1245) ومسلم (951) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

ت: «نفسه» تصحيف.

(4)

رواه البخاري (437) ومسلم (530) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

رواه أحمد (3844) والبزار (1724) والطبراني (10413)، وصححه ابن خزيمة (789) وابن حبان (2325)، وجوّد إسناده ابن تيمية في «الاقتضاء» (2/ 186)، وحسنه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 27).

(6)

رقم (5837).

ص: 320

نأكل فيها، وعن الحرير والديباج، وأن نجلس عليه»، وقال:«هو لهم في الدنيا ولنا في الآخرة»

(1)

. ولو لم يأتِ هذا النص لكان النهي عن لبسه متناولًا لافتراشه كما هو متناول للالتحاف به، وذلك لُبسٌ لغة وشرعًا، كما قال أنس:«قمتُ إلى حصيرٍ لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِس»

(2)

، ولو لم يأت اللفظ العام المتناول لافتراشه بالنهي لكان القياس المحض موجبًا لتحريمه، إما قياس المثل أو قياس الأولى؛ فقد دل على تحريم الافتراش النص الخاص واللفظ العام والقياس الصحيح، ولا يجوز ردُّ ذلك كله بالمتشابه من قوله:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ومن القياس على ما إذا كان الحرير بِطانةَ الفراش دون ظِهارته؛ فإن الحكم في ذلك التحريم على أصح القولين، والفرق على القول الآخر مباشرة الحرير وعدمها كحَشْو الفراش به

(3)

؛ فإن صح الفرق بطل القياس، وإن بطل الفرق منع الحكم. وقد تمسَّك

(4)

بعموم النهي عن افتراش الحرير طائفة من الفقهاء فحرموه على الرجال والنساء، وهذه طريقة الخراسانيين من أصحاب الشافعي، وقابلَهم من أباحه للنوعين

(5)

، والصواب التفصيل وأن من أُبيح له لبسه أبيح له افتراشه ومن حُرِّم عليه حرم عليه، وهذا

(6)

قول الأكثرين، وهي طريقة العراقيين من الشافعية.

(1)

رواه البخاري (5632) ومسلم (2067) من حديث حذيفة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (380) ومسلم (658).

(3)

«به» ليست في ع.

(4)

ت: «تمثل» .

(5)

ت: «إباحة النوعين» .

(6)

ت: «وهو» .

ص: 321

المثال التاسع والأربعون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في خَرْص الثمار في الزكاة والعرايا وغيرها إذا بدا صلاحها، كما رواه

(1)

الشافعي

(2)

[100/أ] عن عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح التمار عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتّاب بن أَسِيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكَرْم: «يُخْرَص كما يُخْرَص النخل، ثم تُؤدَّى زكاته زبيبًا كما تُؤدَّى زكاة النخل تمرًا» .

وبهذا الإسناد بعينه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث من يَخْرُص على الناس

(3)

كرومهم وثمارهم

(4)

.

وقال أبو داود الطيالسي

(5)

: ثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال: سمعت عبد الرحمن بن مسعود بن نِيَار

(6)

يقول: أتانا سهل بن أبي حَثْمة

(1)

ع: «روى» .

(2)

في «مسنده» (2/ 162) وأبو داود (1603، 1604) والنسائي (2618) والترمذي (644) وابن ماجه (1819)، والإسناد منقطع؛ قال أبو داود:«سعيد لم يسمع من عتاب شيئًا» ، وقد اختلف في وصله وإرساله، وقد صوَّب الإرسال أبوحاتم في «العلل» لابنه (2/ 589). وانظر:«التلخيص الحبير» (2/ 331) و «الإرواء» (3/ 283).

(3)

ع: «على الناس من يخرص» .

(4)

تقدم تخريجه في الحديث السابق.

(5)

في «مسنده» (1330)، ورواه أبو داود (1605) والنسائي (2491) والترمذي (643) وأحمد (15713)، وفي إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار لم يوثقه إلا ابن حبان. انظر:«السلسلة الضعيفة» (2556) و «ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 115).

(6)

ت: «عبد الرحمن بن نيار» .

ص: 322

إلى مجلسنا، فحدَّثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا خَرصتم فدَعُوا الثلث؛ فإن لم تَدَعوا الثلث فدعوا الربع» .

قال الحاكم

(1)

: هذا حديث صحيح الإسناد.

ورواه أبو داود في «السنن»

(2)

. وروى فيها أيضًا عن عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود، فيَخْرُص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه، ثم يُخيِّر يهودَ

(3)

فيأخذونه بذلك الخَرْص أم

(4)

يدفعونه إليهم بذلك الخرص، لكي تُحصَى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتُفرَّق

(5)

.

وروى الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيّب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود خيبر: «أُقِرُّكم على ما أَقرَّكم الله، على أن التمر

(6)

بيننا وبينكم». قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخْرُص عليهم ثم يقول: إن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي، وكانوا يأخذونه

(7)

.

وفي «الصحيحين»

(8)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرَصَ حديقة المرأة وهو

(1)

في «المستدرك» (1/ 402).

(2)

برقم (1605).

(3)

ع: «اليهود» .

(4)

ع: «أو» .

(5)

رواه أبو داود (1606، 3413)، وإسناده ضعيف؛ لجهالة المخبر بين ابن جريج وابن شهاب. وانظر:«ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 115) و «الإرواء» (3/ 280).

(6)

ع: «الثمر» .

(7)

رواه مالك في «الموطأ» (2/ 703)، ومن طريقه الشافعي في «الأم» (3/ 85، 86، 8/ 625) والبيهقي (4/ 122). وهو مرسل.

(8)

رواه البخاري (1481) ومسلم (1392) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.

ص: 323

ذاهب إلى تبوك، وقال لأصحابه:«اخْرُصوها» ، فخرصوها بعشرة أوسُقٍ، فلما قَفَلَ

(1)

سألوا المرأة عن تمر الحديقة، فقالت: بلغ عشرة أوسُقٍ.

وفي «الصحيحين»

(2)

من حديث [100/ب] زيد بن ثابت: رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب العرِيَّة أن يبيعها بخَرْصِها تمرًا.

وصحّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه بعث سهل بن أبي حَثْمة على خرص التمر، وقال: إذا أتيتَ أرضًا فاخرُصْها، ودَعْ لهم قدرَ ما يأكلون»

(3)

.

فردَّتْ هذه السنن كلها بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، قالوا: والخرص من باب القمار والميسر؛ فيكون تحريمه ناسخًا لهذه الآثار. وهذا من أبطل الباطل؛ فإن الفرق بين القمار والميسر والخرص المشروع، كالفرق بين البيع والربا والميتة والذكيّ

(4)

، وقد نزَّه الله رسوله وأصحابه عن تعاطي القمار وعن شرعه وإدخاله في الدين.

ويا لله العجب! أكان المسلمون يقامرون إلى زمن خيبر، ثم استمروا على ذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين، ثم انقضى عصر الصحابة وعصر التابعين على القمار ولا يعرفون أن الخرص قمار حتى بيَّنه بعض فقهاء

(1)

ع: «قفلوا» .

(2)

رواه البخاري (2380) ومسلم (1539).

(3)

رواه البيهقي (4/ 124)، وإسناده منقطع لأن بُشيرًا لم يدرك عمر، ولكن وصله الحاكم وصححه (1/ 402 - 403)، ورواه البيهقي (4/ 124) عن بشير عن سهل بن أبي حثمة عن عمر.

(4)

في المطبوع: «والمذكى» . والمثبت من النسخ.

ص: 324

الكوفة؟ هذا واللهِ الباطلُ حقًّا، والله الموفق.

المثال الخمسون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صفة صلاة الكسوف وتكرار الركوع في كل ركعة، كحديث عائشة وابن عباس وجابر وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، كلهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم تكرار الركوع في الركعة الواحدة

(1)

، فردَّت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: كنتُ يومًا أرمي بأسهُمٍ وأنا بالمدينة، فانكسفت الشمس، فجمعتُ أسهمي وقلت: لأنظرنَّ ماذا أحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس؛ فكنتُ خلف ظهره، فجعل يسبّح ويكبّر ويدعو حتى [101/أ] حُسِر عنها، فصلّى ركعتين وقرأ بسورتين. رواه مسلم في «صحيحه»

(2)

. وفي «صحيح البخاري»

(3)

عن أبي بكرة قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى ركعتين.

وهذا لا يناقض رواية من روى أنه ركع في كل ركعة ركوعين، فهي ركعتان تعدَّدَ ركوعهما، كما يُسمَّيان سجدتين مع تعدد سجودهما، كما قال ابن عمر: حفظتُ عن

(4)

رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها

(5)

. وكثيرًا ما يجيء في السنن إطلاق السجدتين على الركعتين؛ فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصدِّق بعضها بعضًا، لا سيَّما والذين رووا تكرار الركوع أكثرُ

(1)

سيأتي قريبًا.

(2)

رقم (913).

(3)

رقم (1062).

(4)

ت: «من» .

(5)

رواه البخاري (1180) ومسلم (729).

ص: 325

عددًا وأجلُّ وأخصُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين لم يذكروه.

فإن قيل: ففي حديث أبي بكرة: «فصلَّى ركعتين نحوًا مما تصلُّون» ، وهذا صريح في إفراد الركوع.

قيل: هذا الحديث رواه شعبة عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي بكرة دون الزيادة المذكورة، وهو الذي رواه البخاري في «صحيحه» ، وزاد إسماعيل بن عُلية هذه الزيادة

(1)

؛ فإن رجَّحنا بالحفظ والإتقان

(2)

فشعبة شعبة، وإن قبلنا الزيادة فرواية من زاد في كل ركعة ركوعًا آخر زائدة

(3)

على رواية من روى ركوعًا واحدًا، فتكون أولى.

فإن قيل: فما تصنعون بالسنة المحكمة الصريحة من رواية سمرة بن جندب

(4)

والنعمان بن بشير

(5)

وعبد الله بن عمرو

(6)

أنه صلّاها ركعتين

(1)

عند ابن حبان (2835)، وكذا زادها يزيد بن زريع عند النسائي في «الكبرى» (505) وابن خزيمة (1374). ولو حملنا الحديث على معنى «كما تصلُّون صلاة الكسوف» فلا إشكال في هذه الزيادة، وعليه حمله ابن حبان والبيهقي (3/ 332). وانظر «فتح الباري» (2/ 527).

(2)

ع: «الاتفاق» .

(3)

ع: «زيادة» .

(4)

رواه أبو داود (1184) والنسائي (1484)، وفي إسناده ثعلبة بن عباد، ذكره ابن المديني في عداد المجهولين. انظر:«التنقيح» لابن عبد الهادي (2/ 606).

(5)

رواه أبو داود (1193) والنسائي (1485) وأحمد (18365). وتكلم في سماع أبي قلابة من النعمان، واختلف في إسناده. انظر:«نصب الراية» (2/ 228) و «ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 24).

(6)

رواه أبو داود (1194) والنسائي (1482) وأحمد (6483)، وصححه ابن خزيمة (1389) وابن حبان (2838) والحاكم (1/ 329). وانظر:«الإرواء» (2/ 124).

ص: 326

كل ركعة بركوع، وبحديث قَبِيصة الهلالي عنه صلى الله عليه وسلم:«وإذا رأيتم ذلك فصلُّوا كإحدى صلاةٍ صليتموها من المكتوبة»

(1)

؟ وهذه الأحاديث في «المسند» و «سنن النسائي» وغيرهما.

قيل: الجواب [101/ب] من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن أحاديث تكرار الركوع أصحُّ إسنادًا وأسلمُ من العلة والاضطراب، ولا سيما حديث عبد الله بن عمرو؛ فإن الذي في «الصحيحين»

(2)

عنه أنه قال: «كُسِفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنودي أن الصلاة جامعة، فركع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين في سجدة، ثم قام فركع ركعتين في سجدة، ثم جلس حتى جلي عن الشمس» . فهذا أصح وأصرح من حديث كل ركعة بركوع؛ فلم يبقَ إلا حديث سمرة بن جندب والنعمان بن بشير، وليس منهما شيء في «الصحيح» .

الثاني: أن رواتها من الصحابة أكبر وأكثر وأحفظ وأجلُّ من سمرة والنعمان بن بشير؛ فلا تُردُّ روايتهم بها.

الثالث: أنها متضمنة لزيادة، فيجب الأخذ بها، وبالله التوفيق.

المثال الحادي والخمسون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الجهر في صلاة الكسوف، كما في «صحيح البخاري»

(3)

من حديث

(1)

رواه أبو داود (1185) وأحمد (20607)، وأبوقلابة لم يسمع من قبيصة، وفي سنده اضطراب أيضًا. انظر:«ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 24).

(2)

رواه البخاري (1051) ومسلم (910).

(3)

الحديث بهذا اللفظ مخرج عند أبي داود (1188) والدارقطني (1790) والحاكم (1/ 334) والبيهقي (3/ 336)، وأصل الحديث في الصحيحين، وسيأتي تخريجه بعد حديثين.

ص: 327

الأوزاعي عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قراءة طويلة يجهر بها في صلاة الكسوف.

قال البخاري

(1)

: «تابعه سليمان بن كثير وسفيان بن حسين عن الزهري» .

قلت: أما حديث سليمان بن كثير ففي «مسند أبي داود الطيالسي»

(2)

: ثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف.

وقد تابعه عبد الرحمن بن نمر عن الزهري، وهو في «الصحيحين»

(3)

أنه سمع ابن شهاب يحدّث عن عروة عن عائشة: كُسِفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا أن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبَّر وافتتح القرآن، وقرأ [102/أ] قراءة طويلة يجهر بها، فذكر الحديث.

قال البخاري: «حديث عائشة في الجهر أصحُّ من حديث سمرة»

(4)

.

قلت: يريد قول سمرة: «صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوفٍ، ولم نسمع

(1)

في «صحيح» (1066).

(2)

رقم (1569).

(3)

رواه البخاري (1065) ومسلم (901).

(4)

ذكره عنه الترمذي في «العلل الكبير» (ص 97)، ومن طريقه البيهقي (3/ 336).

ص: 328

له صوتًا»

(1)

، وهو أصرح منه بلا شك، وقد تضمَّن زيادة الجهر؛ فهذه ثلاث ترجيحات، والذي رُدّت به هذه السنة المحكمة هو المتشابه من قول ابن عباس: إنه صلّى بالكسوف فقرأ نحوًا من سورة البقرة

(2)

. قالوا: فلو سمع ما قرأ لم يقدره بسورة البقرة.

وهذا يحتمل وجوهًا:

أحدها: أنه لم يجهر.

الثاني: أنه جهر ولم يسمعه ابن عباس.

الثالث: أنه سمعه ولم يحفظ ما قرأ به، فقدره بسورة البقرة؛ فابنُ عباس لم يجمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جمعه بعده.

الرابع: أن يكون نسي ما قرأ به وحفظ قدر قراءته، فقدرها بالبقرة، ونحن نرى الرجل ينسى ما قرأ به الإمام في صلاة يومه. فكيف يقدم هذا اللفظ المجمل على الصريح المحكم الذي لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا؟

ومن العجب أن أنسًا روى ترك جهر النبي صلى الله عليه وسلم ببسم الله الرحمن الرحيم

(3)

، ولم يصحّ عن صحابي خلافه، فقلتم: كان صغيرًا يصلِّي خلف

(1)

رواه أبو داود (1184) والنسائي (1495) والترمذي (562) وابن ماجه (1264) وأحمد (20178)، وفي إسناده ثعلبة بن عباد مجهول. انظر:«ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 22).

(2)

رواه البخاري (1052) ومسلم (907).

(3)

رواه البخاري (743) ومسلم (399).

ص: 329

الصفوف فلم يسمع البسملة، وابنُ عباس أصغرُ سنًّا منه بلا شك، وقدَّمتم عدمَ سماعه للجهر على من سمعه صريحًا، فهلّا قلتم: كان صغيرًا فلعله صلّى خلف الصف فلم يسمعه جهر

(1)

؟

وأعجبُ من هذا قولكم: إن أنسًا كان صغيرًا لم يحفظ تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك حجًّا وعمرةً» ، وقدّمتم قول ابن عمر عليه أنه أفرد الحج

(2)

، وأنس إذ ذاك له عشرون سنة، وابن عمر لم يستكملها وهو بِسنِّ أنس، وقوله:«أفرد الحج» مجمل، وقولُ أنس: سمعته يقول: «لبيك عمرة وحجًّا»

(3)

محكم مبين

(4)

صريح لا يحتمل غير ما يدل عليه، [102/ب] وقد قال ابن عمر:«تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، وبدأ فأهلَّ بالعمرة، ثم أهلَّ بالحج»

(5)

، فقدَّمتم على حديث أنس ــ الصحيح الصريح المحكم الذي لم يُختلف عليه فيه ــ حديثًا

(6)

ليس مثلَه في الصراحة والبيان، ولم يَذكُر رواية لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختُلِف عليه فيه.

المثال الثاني والخمسون: ردُّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الاكتفاء في بول الغلام الذي لم يَطْعَم بالنَّضْح دون الغسل، كما في

(1)

ت: «جهرا» .

(2)

رواه مسلم (1231).

(3)

رواه مسلم (1232). وفي ت: «حجا وعمرة» .

(4)

ع: «بين» .

(5)

رواه البخاري (1691) ومسلم (1227).

(6)

ت: «حديث» .

ص: 330

«الصحيحين»

(1)

عن أم قيس أنها أتت بابنٍ لها صغير لم يأكل الطعام، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حِجْره، فبال عليه

(2)

، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فنضَحَه ولم يغسِلْه.

وفي «الصحيحين»

(3)

أيضًا عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرِّك عليهم ويُحنِّكهم، فأُتي بصبي فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه ولم يغسله.

وفي «سنن أبي داود»

(4)

عن أُمامة

(5)

بنت الحارث قالت: كان الحسين بن علي في حِجْر النبي صلى الله عليه وسلم، فبال عليه، فقالت: الْبَسْ ثوبًا وأعطني إزارك حتى أغسِلَه، فقال:«إنما يُغسَل من بول الأنثى، ويُنضَح من بول الذكر» .

وفي «المسند»

(6)

وغيره عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بول الغلام

(1)

رواه البخاري (223) ومسلم (287).

(2)

ع: «على ثوبه» .

(3)

رواه البخاري (6355) ومسلم (286).

(4)

رواه أبو داود (375) وابن ماجه (522)، وصححه ابن خزيمة (282) والحاكم (1/ 166) والبيهقي (2/ 414). انظر:«صحيح أبي داود» - الأم (2/ 221).

(5)

كذا في النسخ، والصواب:«لبابة» .

(6)

رواه أحمد (757) وأبو داود (378) والترمذي وحسنه (610) وابن ماجه (525) وصححه ابن خزيمة (284) وابن حبان (1375) والحاكم (1/ 165 - 166) والبيهقي (2/ 415)، والضياء (496)، وقد اختلف في رفعه ووقفه وإرساله ووصله، ورجح البخاري صحته والدارقطني. انظر:«التنقيح» (1/ 130) و «الفتح» (1/ 326) و «التلخيص الحبير» (1/ 60 - 62) و «صحيح أبي داود» - الأم (2/ 225).

ص: 331

الرضيع يُنضَح، وبول الجارية يُغسَل». قال قتادة: هذا ما لم يطعما، فإذا طَعِما غُسِلا جميعًا. قال الحاكم أبو عبد الله

(1)

: «هذا حديث صحيح الإسناد، فإن أبا الأسود الدؤلي صحّ سماعه عن علي» . وقال الترمذي: حديث حسن.

وفي «سنن أبي داود»

(2)

من حديث أبي السَّمْح خادم النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُغسَل من بول الجارية، ويُرَشُّ من بول الغلام» .

وفي «المسند»

(3)

من حديث أم كُرْز الخزاعية قالت: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بغلام فبال عليه، فأمر به فنُضِح، [103/أ] وأُتي بجارية فبالت عليه، فأمر به فغُسِل.

وعند ابن ماجه

(4)

عن أم كُرز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بول الغلام يُنْضَح، وبول الجارية يُغْسَل» .

وصحّ الإفتاء بذلك عن علي بن أبي طالب وأم سلمة

(5)

، ولم يأتِ عن

(1)

في «المستدرك» (1/ 166).

(2)

رواه أبو داود (376) والنسائي (304) وابن ماجه (526)، وصححه ابن خزيمة (283) والحاكم (1/ 166)، وحسّنه البخاري كما نقله ابن حجر في «التلخيص الحبير» (1/ 61).

(3)

رواه أحمد (27370) ومن طريقه الطبراني (408)، وفيه انقطاع، عمرو بن شعيب لم يسمع من أم كرز، ورواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (824) من حديث عبد الله بن عمرو، وفي إسناده عبد الله بن موسى التيمي متكلم فيه. انظر:«ميزان الاعتدال» (2/ 508) و «التلخيص» (1/ 62).

(4)

في «سننه» (527)، وفيه انقطاع، وقد سبق بيانه قريبًا.

(5)

أثر علي رضي الله عنه رواه أبو داود (377) وأثر أم سلمة رواه أبو داود (379).

ص: 332

صحابي خلافهما.

فرُدَّتْ هذه السنن

(1)

بقياس متشابه على بول الشيخ، وبعموم لم يُرَدْ به هذا الخاصّ، وهو قوله:«إنما يُغسَل الثوب من أربعٍ: من البول والغائط والمني والدم والقيء»

(2)

. والحديث لا يثبت؛ فإنه من رواية علي بن زيد بن جُدعان عن ثابت بن حماد. قال ابن عدي

(3)

: «لا أعلم رواه عن علي بن زيد غير ثابت بن حماد، وأحاديثه مناكير ومعلومات

(4)

». ولو صحّ وجب العمل بالحديثين، ولا يُضرب أحدهما بالآخر، ويكون البول فيه مخصوصًا ببول الصبي

(5)

، كما خص منه بول ما يؤكل لحمه بأحاديث دون هذه في الصحة والشهرة.

المثال الثالث والخمسون: ردّ السنة الثابتة الصحيحة الصريحة

(6)

المحكمة في الوتر بواحدةٍ مفصولة، كما في «الصحيحين»

(7)

عن ابن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال: «مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلَّى ركعة واحدة تُوتِر له ما قد صلى» .

(1)

ت: «السنة» .

(2)

رواه أبو يعلى (1611).

(3)

في «الكامل» (2/ 302 - 303)، وبه أعله البيهقي (1/ 14).

(4)

كذا في النسخ. وفي «الكامل» «مقلوبات» . وفي المطبوع: «معلولات» .

(5)

في ع بعلامة ظ: «غير الصبي» .

(6)

«الصحيحة» ليست في ع. و «الصريحة» ليست في ت.

(7)

رواه البخاري (990) ومسلم (749).

ص: 333

وفي «الصحيحين»

(1)

أيضًا من حديث عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلِّم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة.

وفي «صحيح مسلم»

(2)

عن أبي مِجْلَز قال: سألت ابن عباس عن الوتر، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ركعة من آخر الليل» .

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم»

(3)

. فإذا صلى القاعد

(4)

ركعتين وجب بهذا النص أن تَعدِلَ صلاة القائم ركعة، فلو لم تصح لكانت صلاة القاعد [103/ب] أتمَّ من صلاة القائم، والاعتماد

(5)

على الأحاديث المتقدمة.

وصحَّ الوتر بواحدةٍ مفصولة عن عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبي أيوب ومعاوية بن أبي سفيان

(6)

.

وقال الحاكم أبو عبد الله: ثنا عبد الله بن سليمان ثنا أحمد بن صالح ثنا عبد الله بن وهب عن سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان عن عبد الله بن

(1)

هذا اللفظ عند مسلم (736).

(2)

رقم (753).

(3)

بهذا اللفظ عند النسائي (1659) من حديث ابن عمرو، وأصله عند مسلم (735).

(4)

ت: «القائم» خطأ.

(5)

ت: «وللاعتماد» .

(6)

أثر عثمان عند عبد الرزاق (4653)، وأثر سعد في البخاري (6356)، وأثر ابن عمر في «الموطأ» (19)، وأثر ابن عباس ومعاوية في البخاري (3764)، وأثر أبي أيوب عند عبد الرزاق (4633).

ص: 334

الفضل عن الأعرج عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُوتِروا بثلاثٍ تشبّهوا بالمغرب، أوتروا بخمسٍ أو سبعٍ»

(1)

. رواه ابن حبان والحاكم في «صحيحيهما» ، وقال الحاكم: رواته كلهم ثقات.

وله شاهد آخر بإسناد صحيح: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا طاهر بن عمرو بن الربيع بن طارق ثنا أبي ثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عِراك بن مالك عن أبي هريرة، فذكر مثله سواء، وزاد:«أوتروا بخمس أو سبع أو تسع أو بإحدى عشرة ركعة أو أكثر من ذلك»

(2)

.

فردَّتْ هذه السنن

(3)

بحديثين باطلين وقياس فاسد:

أحدهما: «نهى عن البُتَيراء»

(4)

وهذا لا يُعرف له إسناد لا صحيح ولا ضعيف، وليس في شيء من كتب الحديث المعتمد عليها، ولو صحّ فالبتيراء صفة للصلاة التي قد بُتِر ركوعها وسجودها فلم يُطمَأَنَّ فيها.

الثاني: حديث يُروى عن ابن مسعود مرفوعًا: «وِتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب» . وهذا الحديث وإن كان أصلح من الأول فإنه في

(1)

رواه الدارقطني (1650) ووثق رواته كلهم، وابن حبان (2429) والحاكم (1/ 304). وانظر:«التلخيص الحبير» (2/ 30).

(2)

رواه الحاكم (1/ 304) والبيهقي (3/ 31)، وفي إسناده طاهر بن عمرو له ذكرٌ دون جرح ولا تعديلٍ. انظر:«تاريخ مولد العلماء ووفياتهم» لابن زبر (2/ 596) و «المؤتلف والمختلف» للدارقطني (2/ 949) و «توضيح المشتبه» لابن ناصر الدين (3/ 68).

(3)

ت: «السنة» .

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 335

«سنن الدارقطني»

(1)

، فهو من رواية يحيى بن زكريا. قال الدارقطني: «يقال له ابن أبي الحواجب، ضعيف، ولم يروِه عن الأعمش مرفوعًا

(2)

غيرُه». ورواه الثوري في [104/أ]«الجامع» وغيره عن الأعمش موقوفًا على ابن مسعود، وهو الصواب.

وأما القياس الفاسد فهو أن قالوا: رأينا المغرب وتر النهار، وصلاة الوتر

(3)

وتر الليل، وقد شرع الله سبحانه وتر النهار موصولًا فهكذا وتر الليل.

وقد صحَّت السنة بالفرق بين الوترين من وجوه كثيرة:

أحدها: الجمع بين الجهر والسر في وتر النهار دون وتر الليل.

الثاني: وجوب الجماعة أو مشروعيتها فيه دون وتر الليل.

الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم فعل وتر الليل على الراحلة

(4)

دون وتر النهار.

الرابع: أنه قال في وتر الليل إنه ركعة

(5)

واحدة

(6)

دون وتر النهار.

الخامس: أنه أوتر بتسع وسبع وخمس موصولة

(7)

دون وتر النهار.

(1)

رقم (1653).

(2)

ع: «موقوفًا» خطأ.

(3)

ت، د:«المغرب» . وكتب فوقها في د: كذا. وصحح في هامشها: لعله «الوتر» . وهو الصواب.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

«ركعة» ليست في ت.

(6)

تقدم تخريجه.

(7)

أما التسع فعند مسلم (746)، وأما السبع فعند أبي داود (1342) والنسائي (1721)، وصححه ابن خزيمة (1078). وأما الخمس فعند مسلم (737). وانظر:«صحيح أبي داود» - الأم (5/ 87).

ص: 336

السادس: أنه نهى عن تشبيه وتر الليل بوتر النهار كما تقدم.

السابع: أن وتر الليل اسم للركعة وحدها، ووتر النهار اسم لمجموع صلاة المغرب، كما في «صحيح مسلم»

(1)

من حديث ابن عمر وابن عباس أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوتر ركعة من آخر الليل» .

الثامن: أن وتر النهار فرض ووتر الليل ليس بفرض باتفاق الناس.

التاسع: أن وتر النهار يُقضى بالاتفاق، وأما وتر الليل فلم يقم على قضائه دليل؛ فإن المقصود منه قد فات، فهو كتحية المسجد ورفع اليدين في محل الرفع والقنوت إذا فات، وقد توقف الإمام أحمد في قضاء الوتر، وقال شيخنا

(2)

: لا يقضى؛ لفوات المقصود منه بفوات وقته، قال: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو وجعٌ صلّى من النهار اثنتي عشرة ركعة

(3)

، ولم يذكر الوتر.

العاشر: أن المقصود [104/ب] من وتر الليل فِعْلُ ما تقدّمه من الأشفاع كلها وترًا، وليس المقصود منه إيتار الشفع الذي يليه خاصة. وكان الأقيس ما جاءت به السنة أن يكون ركعة مفردة توتر جميع ما قبلها، وبالله التوفيق.

المثال الرابع والخمسون: ردّ السنة الصحيحة الصريحة أنه لا يجوز

(1)

رقم (753).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (23/ 91، 197).

(3)

رواه مسلم (746) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 337

التنفُّل إذا أقيمت صلاة الفرض، كما في «صحيح مسلم»

(1)

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أُقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» . وقال الإمام أحمد في روايته: «إلا التي أُقيمت»

(2)

.

وفي «الصحيحين»

(3)

عن عبد الله بن مالك ابن بُحَينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا وقد أقيمت الصلاة يصلّي ركعتين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثَ به الناس

(4)

، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«آلصبحَ أربعًا آلصبح أربعًا» .

وفي «صحيح مسلم»

(5)

عن عبد الله بن سَرجِسَ قال: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، فصلّى ركعتين قبل أن يصل إلى الصف، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا فلانُ، بأيّ صلاتَيْك اعتددتَ

(6)

؟ بالتي صلّيتَ وحدَك أو بالتي صلَّيت معنا؟».

وفي «الصحيحين»

(7)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل، فكلَّمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرف أحَطْنا به نقول: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لي: «يُوشِك أن يصلّي أحدكم الصبحَ أربعًا» . وعند مسلم

(8)

: «أقيمت

(1)

رقم (710).

(2)

«المسند» (8623)، وفي إسناده ابن لهيعة متكلم فيه.

(3)

رواه البخاري (663) ومسلم (711).

(4)

أي اجتمعوا حوله.

(5)

رقم (712).

(6)

ع: «اعددت» .

(7)

بل في «صحيح مسلم» (711/ 65) من حديث عبد الله بن مالك ابن بحينة رضي الله عنه. وليس عند البخاري بهذا اللفظ.

(8)

رقم (711/ 66).

ص: 338

صلاة الصبح، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يصلّي والمؤذّن يقيم الصلاة، فقال:«أتصلِّي الصبح أربعًا؟» .

وقال أبو داود الطيالسي في «مسنده»

(1)

: ثنا أبو عامر الخزّاز عن ابن أبي مُليكة عن ابن عباس قال: كنت أصلّي وأخذ المؤذن في الإقامة، فجذبني

(2)

النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أتصلّي الصبح أربعًا؟» . وكان عمر بن الخطاب إذا رأى رجلًا يصلّي وهو يسمع الإقامة ضربه

(3)

.

وقال [105/أ] حماد بن سلمة: عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أبصر رجلًا يصلّي الركعتين والمؤذّن يقيم، فحَصَبه وقال:«أتصلِّي الصبحَ أربعًا؟»

(4)

.

فردّت هذه السنن كلّها بما رواه حجّاج بن نُصير المتروك عن عبّاد بن كثير الهالك عن ليث عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أُقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» ، وزاد:«إلا ركعتي الصبح»

(5)

. فهذه

(1)

رقم (2859)، ورواه أيضًا أحمد (2130). وفي إسناده صالح بن رستم متكلم عليه، ولكن له شواهد من حديث ابن بحينة وأبي هريرة رضي الله عنهما، والحديث صححه ابن خزيمة (1124) وابن حبان (2469) والحاكم (1/ 307) والضياء المقدسي (100). انظر:«السلسلة الصحيحة» (2588).

(2)

د، ت:«فحدثني» . والمثبت عند الطيالسي.

(3)

رواه عبد الرزاق (3988)، وفي إسناده جابر بن يزيد الجعفي متكلم فيه.

(4)

رواه البيهقي (2/ 483)، ورواه عبد الرزاق (4006) عن معمر عن أيوب به. ورجاله كلهم ثقات، والإسناد صحيح.

(5)

رواه البيهقي (2/ 483) وأعلّه بضعف حجَّاج وعباد.

ص: 339

الزيادة كاسمها زيادة في الحديث لا أصلَ لها.

فإن قيل: فقد كان أبو الدرداء يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر فيصلّي الركعتين في ناحية المسجد، ثم يدخل مع القوم في الصلاة

(1)

، وكان ابن مسعود يخرج من داره لصلاة الفجر ثم يأتي الصلاة فيصلي ركعتين في ناحية المسجد ثم يدخل معهم في الصلاة

(2)

.

قيل: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله في مقابلة أبي الدرداء وابن مسعود، والسنة سالمة لا معارض لها، ومعها أصحُّ قياسٍ يكون؛ فإن وقتها يضيق بالإقامة فلم يقبل غيرها، بحيث لا يجوز لمن حضر أن يؤخّرها ويصلّيها بعد ذلك، والله الموفق.

المثال الخامس والخمسون: ردُّ السنة الصحيحة المحكمة في استحباب صلاة النساء جماعةً لا منفرداتٍ، كما في «المسند» و «السنن» من حديث عبد الرحمن بن خلّاد

(3)

عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذّنًا كان يؤذّن لها، وأمرها أن تؤمَّ أهلَ دارها». قال عبد الرحمن: فأنا رأيتُ مؤذّنَها شيخًا كبيرًا. وقال الوليد بن جُمَيع: حدثتني جدتي عن أم ورقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها ــ أو أذِن لها ــ أن تؤمَّ أهلَ دارها، وكانت قد قرأت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة (6482).

(2)

رواه عبد الرزاق (4021، 4022). وفي إسناده أبو إسحاق سمع منه معمر بعد الاختلاط.

(3)

«بن خلاد» ليست في ت.

(4)

رواه أبو داود (592) وأحمد (27283) والبيهقي (3/ 130)، وصححه ابن خزيمة (1676). انظر:«التنقيح» لابن عبد الهادي (2/ 82) و «صحيح أبي داود» - الأم (3/ 142).

ص: 340

وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع ثنا سفيان عن مَيْسرة أبي حازم عن رائطة الحنفية أن عائشة [105/ب]رضي الله عنها أمَّتْ نسوة في المكتوبة، فأمَّتْهن بينهن وسطًا

(1)

. تابعه ليث عن عطاء عن عائشة

(2)

.

وروى الشافعي عن أم سلمة أنها أمَّتْ نساء فقامت وسطَهن

(3)

. ولو لم يكن في المسألة

(4)

إلا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «تَفْضُل صلاة الجماعة على صلاة الفذِّ بسبع وعشرين درجة»

(5)

لكفى.

وروى البيهقي من حديث يحيى بن يحيى أنا ابن لهيعة عن الوليد بن أبي الوليد عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا خيرَ في جماعة النساء إلا في صلاة أو جنازة»

(6)

. والاعتماد على ما تقدم.

(1)

رواه أحمد في «العلل» برواية عبد الله (2/ 552) والدارقطني (1507) والبيهقي (3/ 131). وفي إسناده رائطة الحنفية لم يوثقها إلا العجلي في «الثقات» (2335)، وللأثر شواهد ومتابعات سيأتي بعضها. انظر:«تمام المنة» (ص 153).

(2)

رواه البيهقي (1/ 131)، وفي إسناده ليث بن أبي سليم متكلم فيه لكنه مُتابع بما قبله.

(3)

رواه الشافعي في «مسنده» (315) ومن طريقه البيهقي (3/ 131). وفي إسناده حجيرة ذكرها ابن سعد في «الطبقات» (8/ 484) دون جرح أو تعديل، ولكنها توبعت بأم الحسن خيرة عند ابن أبي شيبة (4989).

(4)

ع: «السنة» .

(5)

رواه البخاري (645) ومسلم (650) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(6)

ذكره في «مختصر الخلافيات» (2/ 304)، ورواه أحمد (24376) والطبراني في «المعجم الأوسط» (9359)، وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه كلام.

ص: 341

فردّت هذه السنن بالمتشابه من قوله: «لن يُفلح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأة»

(1)

. وهذا إنما هو في الولاية والإمامة العظمى والقضاء، وأما الرواية والشهادة والفتيا والإمامة فلا تدخل في هذا. والعجب أن من خالف هذه السنة جوَّز للمرأة أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين، فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم ولم تُفلِح أخواتها من النساء إذا أمَّتْهن؟

المثال السادس والخمسون: ردُّ السنن الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي رواها عنه خمسة عشر نفسًا من الصحابة

(2)

: أنه كان يسلِّم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: «السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله»

(3)

. منهم عبد الله بن مسعود، وسعد

(4)

بن أبي وقاص، وجابر بن سمرة، وأبو موسى الأشعري، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، ووائل بن حُجر، وأبو مالك الأشعري، وعدي بن عَمِيْرة

(5)

الضَّمري، وطَلْق بن علي، وأوس بن أوس، وأبو رِمْثة. والأحاديث

(1)

رواه البخاري (4425) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(2)

انظر: «شرح معاني الآثار» (1/ 266 - 271) و «التلخيص الحبير» (1/ 486 - 488) و «مجمع الزوائد» (2/ 145 - 147).

(3)

هذا حديث عبد الله بن مسعود أخرجه أبو داود (996) والنسائي (1324) والترمذي (295) وابن ماجه (914) وأحمد (3699)، وصححه ابن خزيمة (728) وابن حبان (1993). وانظر:«صحيح أبي داود» - الأم (4/ 150).

(4)

ت: «سعيد» خطأ.

(5)

في جميع النسخ: «عمرة» . والمثبت هو الصواب، كما في «الإكمال» (6/ 279) و «الإصابة» (7/ 132).

ص: 342

بذلك ما بين صحيح وحسن، فرُدَّ ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحتها:

أحدها: حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان [106/أ] يسلِّم تسليمةً واحدة. رواه الترمذي

(1)

.

والثاني: حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلِّم في آخر الصلاة تسليمة

(2)

واحدة: السلام عليكم

(3)

.

الثالث: حديث عبد المهيمن بن عباس عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلِّم تسليمة واحدة لا يزيد عليها. رواه الدارقطني

(4)

.

الرابع: حديث عطاء بن أبي ميمونة

(5)

عن أبيه عن الحسن عن سمرة بن جندب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلِّم واحدةً في الصلاة قِبَلَ وجهه؛ فإذا سلَّم عن يمينه سلَّم عن يساره. رواه الدارقطني

(6)

.

(1)

رقم (296)، ورواه أيضًا ابن خزيمة (729)، وفي إسناده زهير بن محمد فيه كلام. وقد اختلف في وقفه ورفعه، ورجح أبو حاتم والبزار والدارقطني الوقف. انظر:«العلل» لابن أبي حاتم (2/ 430) و «العلل» للدارقطني (14/ 171) و «التلخيص الحبير» (1/ 485 - 486).

(2)

ع: «بتسليمة» .

(3)

رواه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 266).

(4)

في «سننه» (1339)، ورواه أيضًا ابن ماجه (918)، وفي إسناده عبد المهيمن، وسيأتي الكلام عليه (ص 346).

(5)

ع: «عطاء بن أبي ميمون» ، خطأ.

(6)

في «السنن» (1338).

ص: 343

الخامس: حديث يحيى بن راشد عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلِّم

(1)

مرة واحدة

(2)

.

وهذه الأحاديث لا تقاوِم تلك ولا تقارِبها حتى تُعارَض بها.

أما حديث عائشة فحديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث

(3)

. قال البخاري

(4)

: زهير بن محمد من أهل الشام يُروى عنه مناكير. وقال يحيى: ضعيف. والحديث من رواية عمرو بن أبي سلمة عنه. قال الطحاوي

(5)

: «وهو وإن كان ثقةً فإن رواية عمرو بن أبي سلمة عنه تضعف جدًّا، هكذا قال يحيى بن معين فيما حكى لي عنه غير واحد من أصحابنا منهم علي بن عبد الرحمن بن المغيرة، وزعم أن فيها تخليطًا كثيرًا» . قال

(6)

: والحديث أصله موقوف على عائشة، هكذا رواه الحفّاظ.

فإن قيل

(7)

: فإذا ثبت ذلك عن عائشة فبمن نعارضها في ذلك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟

(1)

إلى هنا انتهت نسخة ع.

(2)

رواه ابن ماجه (920) والطبراني (6285) والبيهقي (2/ 179)، وفيه يحيى بن راشد، فيه كلام.

(3)

ت: «أهل الحديث» .

(4)

في «التاريخ الكبير» (3/ 427). وانظر: «سنن الترمذي» (296). وفيهما: «زهير بن محمد، أهل الشام يروون عنه مناكير» .

(5)

في «شرح معاني الآثار» (1/ 270).

(6)

أي الطحاوي في المصدر السابق.

(7)

يتابع ابن القيم في نقل كلام الطحاوي من «شرح معاني الآثار» (1/ 270 - 271).

ص: 344

قيل له: بأبي بكر وعمر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسهل بن سعد الساعدي، وذكر

(1)

الأسانيد [106/ب] عنهم بذلك، ثم قال: فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعمار ومن ذكرنا معهم يسلِّمون عن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا ينكر ذلك عليهم غيرهم، على قرب عهدهم برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحِفْظهم لأفعاله، فما ينبغي لأحدٍ خلافه لو لم يكن رُوي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف وقد رُوي عنه ما يوافق فعلهم؟

وأما حديث سعد بن أبي وقّاص فحديث معلول، بل باطل، والدليل على بطلانه أن الذي رواه هكذا الدراوردي خاصة، وقد خالف في ذلك جميع من رواه عن مصعب بن ثابت كعبد الله بن المبارك ومحمد بن عمرو. ثم قد رواه إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن سعد كما رواه الناس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلّم عن يمينه حتى يُرى بياض خدّه، وعن يساره حتى يُرى بياض خده. رواه مسلم في «صحيحه»

(2)

؛ فقد صح رواية سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلَّم تسليمتين ومعه من ذكرنا من الصحابة، وبان بذلك بطلانُ رواية الدراوردي.

وأما حديث عبد المهيمن بن عباس

(3)

بن سهل عن أبيه عن جده فقال

(1)

أي الطحاوي في المصدر السابق.

(2)

رقم (582).

(3)

د، ت:«عياش» تصحيف.

ص: 345

الدارقطني

(1)

: عبد المهيمن ليس بالقوي، وقال ابن حبان

(2)

: بطل الاحتجاج به.

وأما حديث عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن فمن رواية رَوْح ابنه عنه. قال الإمام أحمد: «منكر الحديث» ، وتركه يحيى

(3)

.

وأما حديث يحيى بن راشد عن يزيد مولى سلمة فقال يحيى: يحيى بن راشد ليس بشيء، وقال النسائي: ضعيف

(4)

.

وقال أبو عمر بن عبد البر

(5)

: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلّم تسليمة واحدة من حديث سعد بن أبي وقّاص، [107/أ] ومن حديث عائشة، ومن حديث أنس، إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث؛ لأن حديث سعد أخطأ فيه الدراوردي، فرواه على غير ما رواه الناس بتسليمة واحدة، وغيرُه يروي فيه بتسليمتين

(6)

. ثم ذكر حديثه عن مصعب بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلّم في الصلاة تسليمة واحدة. ثم قال: وهذا وهم عندهم وغلطٌ، وإنما الحديث كما رواه ابن المبارك وغيره عن مصعب بن ثابت عن

(1)

«السنن» (1342).

(2)

في «المجروحين» (2/ 149).

(3)

انظر: «الجرح والتعديل» (3/ 497) و «المجروحين» (1/ 300) و «الضعفاء» لابن الجوزي (1/ 288).

(4)

انظر: «الكامل» لابن عدي (9/ 47).

(5)

في «الاستذكار» (1/ 489 - 491).

(6)

ت: «تسليمتين» .

ص: 346

إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه: كان يسلّم عن يمينه وعن يساره

(1)

. وقد روي هذا الحديث عن سعد من طريق مصعب، ثم ساق طرقه بالتسليمتين، ثم ساق من

(2)

طريق ابن المبارك عن مصعب عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلّم عن يمينه وعن شماله، كأني أنظر إلى صفحة خدِّه. فقال الزهري: ما سمعنا هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له إسماعيل بن محمد: أكلَّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعتَ؟ قال: لا، قال: فنصفه؟ قال: لا، قال: فاجعلْ هذا في النصف الذي لم تسمع

(3)

.

قال

(4)

: وأما حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلّم تسليمة واحدة

(5)

، فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة، رواه عنه عمرو بن أبي سلمة، وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يُحتجُّ به، وذُكر ليحيى بن معين هذا الحديث فقال: عمرو بن أبي سلمة وزهير

(6)

ضعيفان لا حجة فيهما.

وأما حديث أنس فلم يأتِ إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس، ولم

(1)

سيأتي تخريجه قريبًا.

(2)

«من» ليست في ت.

(3)

رواه ابن خزيمة (727) وابن حبان (1992) والبيهقي (2/ 178)، وهو حديث صحيح. انظر:«الإرواء» (2/ 86).

(4)

أي ابن عبد البر، والكلام متصل بما قبله.

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

ت: «زهير بن محمد» .

ص: 347

يسمع أيوب من أنس عندهم شيئًا

(1)

.

قال

(2)

: وقد روي عن الحسن مرسلًا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يسلّمون تسليمة [107/ب] واحدة

(3)

، ذكره وكيع عن الربيع عنه، قال: والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة، وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرًا عن كابرٍ، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد، لأنه

(4)

لا يخفى؛ لوقوعه في كل يوم مرارًا.

قلت: هذا أصل قد نازعهم فيه الجمهور، وقالوا: عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار، لا فرقَ بين عملهم وعمل أهل الحجاز والعراق والشام؛ فمن كانت السنة معهم فهم أهل العمل المتَّبع، وإذا اختلف علماء المسلمين لم يكن عمل بعضهم حجة على بعض، وإنما الحجة اتباع السنة، ولا تُترك السنة لكون عمل بعض المسلمين على خلافها أو عمل بها غيرهم، ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها لتُرِكت السنن وصارت تبعًا لغيرها؛ فإن عَمل بها ذلك الغير عُمِل بها وإلا فلا. والسنة هي العِيار على العمل، وليس العمل عِيارًا على السنة، ولم تُضمَن لنا العصمة قطُّ في عمل مصر من الأمصار دون سائرها، والجدران والمساكن والبقاع لا تأثير لها في ترجيح الأقوال، وإنما التأثير لأهلها وسكّانها.

(1)

انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (39) و «العلل» للإمام أحمد رواية المروذي (ص 41).

(2)

أي ابن عبد البر.

(3)

رواه ابن أبي شيبة (3081).

(4)

ت: «فإنه» .

ص: 348

ومعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وظَفِروا

(1)

من العلم بما لم يَظفَرْ به مَن بعدهم؛ فهم المقدَّمون في العلم على من سواهم، كما هم المقدَّمون في الفضل والدين، وعملهم هو العمل الذي لا يُخالَف، وقد انتقل أكثرهم عن المدينة، وتفرقوا في الأمصار، بل أكثر علمائهم صاروا إلى الكوفة والبصرة والشام، مثل علي بن أبي طالب وأبي موسى وعبد الله بن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ومعاذ بن جبل، وانتقل إلى الكوفة والبصرة نحو ثلاثمائة صحابي ونيِّف، وإلى الشام ومصر نحوهم، [108/أ] فكيف يكون عمل هؤلاء معتبرًا ما داموا في المدينة، فإذا خالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرًا، فإذا فارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر، ولم يكن خلاف ما انتقل عنها معتبرًا؟ هذا من

(2)

الممتنع.

وليس جعلُ عمل الباقين معتبرًا أولى من جَعْل عمل المفارقين معتبرًا؛ فإن الوحي انقطع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبقَ إلا كتاب الله وسنة رسوله، فمن كانت السنة معه فعمله هو العمل المعتبر حقًّا. ثم كيف تُترك السنة المعصومة لعمل غير معصوم؟

ثم يقال: أرأيتم لو استمرَّ عمل أهل مصرٍ من الأمصار التي انتقل الصحابة

(3)

إليها على ما أدّاه إليهم من صار إليهم من الصحابة، ما الفرق بينه

(1)

ت: «فظفروا» .

(2)

«من» ليست في د.

(3)

ت: «من الصحابة» .

ص: 349

وبين عمل أهل المدينة المستمرّ على ما أدّاه إليهم من بها من الصحابة، والعمل إنما استند إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله؟ فكيف يكون قوله وفعله الذي أدَّاه من بالمدينة موجبًا للعمل دون قوله وفعله الذي أدّاه غيرهم؟ هذا إذا كان النص مع عمل

(1)

أهل المدينة، فكيف إذا كان مع غيرهم النص

(2)

، وليس معهم نصٌّ يعارضه، وليس معهم إلا مجرد العمل؟ ومن المعلوم أن العمل لا يقابل النص، بل يقابل العمل بالعمل، ويَسلَم النص عن المعارض.

وأيضًا فنقول: هل يجوز أن يخفى على أهل المدينة بعد مفارقة جمهور الصحابة لها سنةٌ من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون علمها عند من فارقها أم لا؟ فإن قلتم: «لا يجوز» ، أبطلتم أكثر السنن التي لم يروِها أهل المدينة، وإن كانت

(3)

من رواية إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، ومن رواية أهل بيت علي عنه، ومن رواية أصحاب معاذ عنه، ومن رواية أصحاب أبي موسى عنه، ومن رواية أصحاب عمرو بن العاص وابنه عبد الله وأبي الدرداء ومعاوية [108/ب] وأنس بن مالك وعمار بن ياسر وأضعاف هؤلاء، وهذا مما لا سبيل إليه. وإن قلتم:«يجوز أن يخفى على من بقي بالمدينة بعض السنن ويكون علمها عند غيرهم» ، فكيف تُترك السنن لعملِ مَن قد اعترفتم بأن السنة قد تخفى عليهم؟

وأيضًا فإن عمر بن الخطاب كان إذا كتب إليه بعض الأعراب بسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل بها، ولو لم يكن معمولًا بها بالمدينة، كما كتب إليه

(1)

«عمل» ليست في ت.

(2)

ت: «النص مع غيرهم» .

(3)

د: «كان» .

ص: 350

الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَّث امرأةَ أشيم الضِّبابي

(1)

من دية زوجها فقضى به عمر

(2)

.

وأيضًا فإن هذه السنة التي لم يعمل بها أهل المدينة لو جاء من رواها إلى المدينة وعمِل بها لم يكن عملُ

(3)

من خالفه حجةً عليه، فكيف يكون حجة عليه إذا خرج من المدينة؟

وأيضًا فإن هذا يوجب أن يكون جميع أهل الأمصار تبعًا للمدينة فيما يعملون به، وأنه لا يجوز لهم مخالفتهم في شيء، فإن عملهم إذا قُدِّم على السنة فلأن يقدَّم على عمل غيرهم أولى، وإن قيل إن عملهم نفسه سنة لم يحلَّ لأحد مخالفتهم، ولكن عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء لم يأمر أحد منهم أهلَ الأمصار أن لا يعملوا بما عرفوه من السنة وعلَّمهم إياه الصحابة إذا خالف عمل أهل المدينة، وأنهم لا يعملون إلا بعمل أهل المدينة، بل مالك نفسه منع الرشيد من ذلك وقد عزم عليه، وقال له: قد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد، وصار عند كل طائفة علمٌ ليس عند غيرهم، وهذا يدلُّ على أن عمل أهل المدينة ليس عنده حجة لازمة لجميع الأمة

(4)

، وإنما هو اختيار منه لما رأى عليه العمل، ولم يقل قطُّ في «موطَّئه» ولا غيره: لا يجوز العمل بغيره، بل يخبر إخبارًا مجرَّدًا أن هذا عمل أهل

(1)

ت: «شيم المصابي» تحريف.

(2)

رواه أبو داود (2927) والترمذي وصححه (1436) وابن ماجه (2642) وأحمد (15746).

(3)

ت: «لم يكن من عمل بها» .

(4)

«لجميع الأمة» ليست في ت.

ص: 351

بلده؛ فإنه ــ رضي الله عنه وجزاه عن الإسلام خيرًا ــ ادّعى إجماع أهل المدينة في نيف وأربعين مسألة.

[109/أ] ثم هي ثلاثة أنواع:

أحدها: لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم.

والثاني: ما خالف أهل المدينة

(1)

فيه غيرهم وإن لم يعلم اختلافهم فيه.

والثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسِهم. ومن ورعه رضي الله عنه لم يقل: إن هذا إجماع الأمة الذي لا يحلّ خلافه.

وعند هذا فنقول: ما عليه العمل إما أن يُراد به القسم الأول، أو هو والثاني، أو هما والثالث؛ فإن أريد الأول فلا ريبَ أنه حجة يجب اتباعه، وإن أريد الثاني والثالث فأين دليله؟

وأيضًا فأحقُّ عملِ أهل المدينة أن يكون حجةً العملُ القديم الذي كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وزمن خلفائه الراشدين، وهذا كعملهم الذي كأنه مُشاهَدٌ بالحس ورأي عينٍ

(2)

في إعطائهم أموالَهم التي قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على من شهد معه خيبر، فأعطوها اليهود على أن يعملوها بأنفسهم وأموالهم والثمرة بينهم وبين المسلمين، يُقرّونهم ما أقرَّهم الله ويُخرِجونهم متى شاؤوا

(3)

، واستمرَّ هذا العمل كذلك بلا ريب إلى أن

(1)

ت: «فيه أهل المدينة» .

(2)

ت: «بالعين» .

(3)

رواه البخاري (2338) ومسلم (1551) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 352

استأثر الله بنبيه صلى الله عليه وسلم مدةَ أربعة أعوام، ثم استمرّ مدة خلافة الصديق، وكلهم على ذلك، ثم استمرَّ مدة خلافة عمر، إلى أن أجلاهم قبل أن يُستشهد بعامٍ

(1)

؛ فهذا هو العمل حقًّا، فكيف ساغ خلافه وتركُه لعملٍ حادث؟

ومن ذلك عمل الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم على الاشتراك في الهدي، البدنة عن عشرة والبقرة عن سبعة

(2)

، فيا له من عملٍ ما أحقَّه وأولاه بالاتباع! فكيف يخالف إلى عمل حادث بعده مخالف له؟

ومن ذلك عمل أهل المدينة الذي كأنه رأيُ عينٍ في سجودهم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الإنشقاق: 1] مع نبيهم صلى الله عليه وسلم وتَبِعهم أبو هريرة، وإنما صحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعوام وبعضَ الرابع، وقد أخبر عن عمل الصحابة مع نبيهم في آخر أمره، فهذا والله هو العمل، فكيف [109/ب] يقدَّم عليه عمل من بعدهم بما شاء الله من السنين ويقال: العمل على ترك السجود؟

ومن ذلك عمل الصحابة مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقد قرأ السجدة على المنبر في خطبته يوم الجمعة، ثم نزل عن المنبر فسجد، وسجد معه أهل المسجد، ثم صعِدَ

(3)

. فهذا العملُ حقًّا، فكيف يقال: العمل على خلافه ويقدَّم العمل الذي يخالف ذلك عليه؟

(1)

قصة الإجلاء ثابتة عند البخاري (2338) ومسلم (1551)، وأما تاريخ إجلائهم فيدل عليه مرسل ابن المسيب عند عبد الرزاق (14468).

(2)

رواه مسلم (1318) من حديث جابر رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (1077).

ص: 353

ومن ذلك عمل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في اقتدائهم به وهو جالس

(1)

، وهذا كأنه رأيُ عينٍ، سواء كانت صلاتهم خلفه قعودًا أو قيامًا، فهذا عمل في غاية الظهور والصحة، فمن العجب أن تُقدَّم عليه رواية جابر الجعفي عن الشعبي ــ وهما كوفيان ــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يَؤمَّنَّ أحدٌ بعدي جالسًا»

(2)

؟ وهذه من أسقط روايات أهل الكوفة.

ومن ذلك أن سليمان بن عبد الملك عامَ حجَّ جمع ناسًا من أهل العلم فيهم عمر بن عبد العزيز وخارجة بن زيد بن ثابت والقاسم بن محمد وسالم وعبد الله

(3)

ابنا عبد الله بن عمر ومحمد بن شهاب الزهري وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة، فكلهم أمره بالطيب، وقال القاسم: أخبرتني عائشة أنها طيَّبتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحِرْمه حين أحرم ولحِلِّه قبل أن يطوف بالبيت. ولم يختلِفْ عليه أحد منهم، إلا أن عبد الله بن عبد الله قال: كان عبد الله رجلًا

(4)

جادًّا مُجِدًّا، كان يرمي الجمرةَ، ثم يذبح، ثم يحلق، ثم يركب فيُفِيض قبل أن يأتي منزله. قال سالم: صدق. ذكره النسائي

(5)

. فهذا عمل أهل المدينة وفتياهم، فأي عمل بعد ذلك يخالفه يستحق التقديم عليه؟

(1)

رواه البخاري (688) ومسلم (412) من حديث عائشة.

(2)

رواها الدارقطني (1485) والبيهقي (3/ 80).

(3)

كذا في النسخ و «السنن الكبرى» مكبّرًا، وهو صواب. وفي بعض المطبوعات:«عبيد الله» . وعبد الله وعبيد الله كلاهما من أبناء عبد الله بن عمر، من رجال «الصحيحين» ، وعبد الله كان وصيَّ أبيه، كما في «التقريب» .

(4)

«رجلًا» ساقطة من د.

(5)

رواه النسائي في «السنن الكبرى» (4146).

ص: 354

ومن ذلك ما روى البخاري في «صحيحه»

(1)

عن قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال: «ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع» ، وزارعَ عليٌّ وسعد بن مالك وعبد الله [110/أ] بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين، وعاملَ عمر بن الخطاب الناس على: إنْ

(2)

جاء عمرُ بالبِذْر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبِذْر فلهم كذا وكذا.

فهذا والله هو العمل الذي يستحقّ تقديمَه على كل عمل خالفه، والذي من جعله بينه وبين الله فقد استوثق. فيا لله العجب! أيُّ عملٍ بعد هذا يقدَّم عليه

(3)

؟ وهل يكون عمل يمكن أن يقال إنه إجماع أظهر من هذا وأصحّ منه؟

وأيضًا فالعمل نوعان: نوع لم يعارضه نص ولا عمل قبله ولا عملُ مصرٍ آخر غيره، وعمل عارضه واحد من هذه الثلاثة؛ فإن سوَّيتم بين أقسام هذا

(4)

العمل كلها فهي تسوية بين المختلفات التي فرَّق النص والعقلُ بينها، وإن فرّقتم بينها فلا بدَّ من دليل فارقٍ بين ما هو معتبر منها وما هو غير معتبر، ولا تذكرون دليلًا قطُّ إلا كان دليل مَن قدَّم النص أقوى، وكان به أسعد.

وأيضًا فإنا نقسم عليكم هذا العمل من وجه آخر ليتبين به المقبول من

(1)

تعليقًا في (5/ 10) مع «الفتح» . وانظر: «تغليق التعليق» (3/ 300).

(2)

ط: «على أنه إن» . والمثبت موافق لما في النسخ و «صحيح البخاري» .

(3)

«عليه» ليست في د.

(4)

ت، د:«هذه» .

ص: 355

المردود، فنقول: عمل أهل المدينة وإجماعهم نوعان؛ أحدهما: ما كان من طريق النقل والحكاية، والثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال.

فالأول على ثلاثة أضرب:

أحدها: نقل الشرع مبتدأً من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أربعة أنواع؛ أحدها: نقل قوله، والثاني: نقل فعله، والثالث: نقل تقريره لهم على أمرٍ شاهدَهم عليه أو أُخبِر به، الرابع: نقلٌ لترك شيء قام سبب وجوده ولم يفعله.

الثاني: نقل العمل المتصل زمنًا بعد زمن من عهده صلى الله عليه وسلم.

والثالث: نقلٌ لأماكنَ وأعيانٍ ومقاديرَ لم تتغير عن حالها.

ونحن نذكر أمثلة هذه الأنواع:

فأما نقل قوله فظاهر، وهو الأحاديث المدنية التي هي أم الأحاديث النبوية، وهي أشرف أحاديث [110/ب] أهل الأمصار، ومن تأمَّل أبواب البخاري وجده أول ما يبدأ في الباب بها ما وجدها، ثم يُتبِعها بأحاديث أهل الأمصار، وهذه كمالك عن نافع عن ابن عمر، وابن شهاب

(1)

عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة، ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وابن شهاب

(2)

عن سالم عن أبيه، وابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ويحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس، ومالك عن موسى بن عقبة عن كُريب عن أسامة بن زيد، والزهري

(1)

ت: «ابن سهل» ، تحريف.

(2)

ت: «ابن سهل» ، تحريف.

ص: 356

عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب

(1)

، وأمثال ذلك.

وأما نقلُ فعله فكنقلهم أنه توضأ من بئر بُضاعة

(2)

، وأنه كان يخرج كلَّ عيدٍ إلى المصلَّى فيصلِّي به العيد هو والناس

(3)

، وأنه كان يخطبهم قائمًا على المنبر وظهره إلى القبلة ووجهه إليهم

(4)

، وأنه كان يزور قُباءً كلَّ سبتٍ ماشيًا وراكبًا

(5)

، وأنه كان يزورهم في دُورهم

(6)

ويعود مرضاهم

(7)

ويشهد جنائزهم

(8)

ونحو ذلك.

وأما نقل التقرير فكنَقْلِهم إقرارَه لهم

(9)

على تلقيح النخل، وعلى تجاراتهم التي كانوا يتجرونها

(10)

، وهي على ثلاثة أنواع: تجارة الضرب في الأرض، وتجارة الإدارة، وتجارة السَّلَم، فلم ينكر عليهم منها تجارة

(1)

د: «أيوب» خطأ. وهو أبو أيوب الأنصاري.

(2)

رواه أبو داود (66) والنسائي (326) والترمذي وحسنه (66) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه أحمد وابن معين وابن حزم وابن القطان. انظر:«التلخيص الحبير» (1/ 13).

(3)

رواه البخاري (324) ومسلم (890) من حديث أم عطية رضي الله عنها.

(4)

رواه البخاري (1013) ومسلم (897) من حديث أنس رضي الله عنه.

(5)

رواه البخاري (1191) ومسلم (1399) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(6)

رواه البخاري (380) ومسلم (658) من حديث أنس رضي الله عنه.

(7)

رواه البخاري (1295) ومسلم (1628) من حديث سعد رضي الله عنه.

(8)

رواه مسلم (965) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.

(9)

ت: «إقرارًا لهم» .

(10)

أما تلقيح النخل فعند مسلم (2362) من حديث رافع رضي الله عنه، وأما تجاراتهم فقد تقدم تخريجه.

ص: 357

واحدة، وإنما حرّم عليهم فيها الربا الصريح ووسائله المفضية إليه، أو التوسل بتلك المتاجر إلى الحرام، كبيع السلاح لمن يقاتل به المسلم، وبيع العصير لمن يَعصِره خمرًا، وبيع الحرير لمن يلبسه من الرجال، ونحو ذلك مما هو معاونة على الإثم والعدوان.

وكإقرارهم على صنائعهم المختلفة من تجارة وخياطة وصياغة وفلاحة، وإنما حرّم عليهم فيها الغشّ [111/أ] والتوسّل بها إلى المحرَّمات.

وكإقرارهم على إنشاد الأشعار المباحة وذكر أيام الجاهلية والمسابقة على الأقدام. وكإقرارهم على المناهدة

(1)

في السفر، وكإقرارهم على الخُيَلاء في الحرب

(2)

ولُبسِ الحرير فيه

(3)

وإعلامِ الشجاع منهم بعينه

(1)

في جميع النسخ: «المهادنة» . وفي هامش نسخة د: «لعله المناهدة، وهو ما تُخرِجه الرفقة من النفقة في السفر. قاله في القاموس» . وهو الصواب، ولا معنى للمهادنة في السفر.

(2)

أما الإنشاد فرواه البخاري (453) ومسلم (2485) من حديث حسان رضي الله عنه.

وأما ذكر أيام الجاهلية فرواه مسلم (2322) من حديث جابر بن سمرة.

وأما المسابقة على الأقدام فعند أبي داود (2578) وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها، صححه ابن الملقن في «البدر المنير» (9/ 424).

وأما المناهدة في السفر فعند البخاري (2486) ومسلم (2500) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

وأما إقرار الخيلاء في الحرب فعند أبي داود (2659) من حديث جابر بن عتيك، وصححه ابن حبان (4762) وحسنه الألباني في «صحيح أبي داود» - الأم (7/ 411).

(3)

رواه البخاري (2920) ومسلم (2076) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 358

بعلامة من ريشة أو غيرها.

وكإقرارهم على لُبس ما نَسَجَه الكفار من الثياب، وعلى إنفاق ما ضربوه من الدراهم، وربما كان عليها صورُ ملوكهم، ولم يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه مدة حياتهم دينارًا ولا درهمًا، وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار

(1)

.

وكإقراره لهم بحضرته على المُزاح المباح، وعلى الشِّبع في الأكل، وعلى النوم في المسجد، وعلى شركة الأبدان

(2)

. وهذا كثير من أنواع السنن احتجّ به الصحابة وأئمة الإسلام كلهم.

وقد احتجّ به جابر في تقرير الرب في زمن الوحي كقوله: «كنا نَعْزِل والقرآن ينزِل»

(3)

، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن. وهذا من كمال فقه الصحابة وعلمهم، واستيلائهم على معرفة طرق الأحكام ومداركها، وهو يدل على أمرين:

(1)

أول من أحدث ضربها ونقش عليها عبد الملك بن مروان. انظر: «الطبقات» لابن سعد (5/ 223) و «الأوائل» للعسكري (1/ 254). وأما لبس منسوج الكفار فعند مسلم (2069) من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.

(2)

أما المزاح المباح فعند أبي داود (5000) وأحمد (23971) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (6675) والحاكم (4/ 423). وأما الشبع في الأكل ففي البخاري (5381) ومسلم (2038) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأما النوم في المسجد ففي البخاري (440) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وأما شركة الأبدان فعند أبي داود (3388) وفيه انقطاع؛ فإن أبا عبيدة لم يسمع من ابن مسعود.

(3)

رواه البخاري (5207) ومسلم (1440).

ص: 359

أحدهما: أن أصل الأفعال الإباحة، ولا يحرم منها إلا ما حرّمه الله على لسان رسوله.

الثاني: أن علم الرب تعالى بما يفعلونه في زمن شرع الشرائع ونزول الوحي وإقراره لهم عليه دليل على عفوه عنه.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أنه في الوجه الأول يكون معفوًّا عنه استصحابًا، وفي الثاني يكون العفو عنه تقريرًا لحكم الاستصحاب. ومن هذا النوع تقريره لهم على أكل الزروع التي تُداس بالبقر، من غير أمر لهم بغَسْلها، وقد علم صلى الله عليه وسلم أنها لا بدَّ أن تبول وقت الدِّياس.

ومن ذلك تقريره لهم على الوقود في بيوتهم وعلى أطعمتهم بأرواث الإبل وأَخْثاء البقر وأبعار [111/ب] الغنم، وقد علم

(1)

أن دخانها ورمادها يصيب ثيابهم وأوانِيَهم، ولم يأمرهم باجتناب ذلك، وهو دليل على أحد أمرين ولا بدَّ: طهارة ذلك، أو أن دخان النجاسة ورمادها ليس بنجس

(2)

.

ومن ذلك تقريرهم على سجود أحدهم على ثوبه إذا اشتدَّ الحرُّ

(3)

، ولا يقال في ذلك: إنه ربما لم يعلمه؛ لأن الله قد علمه وأقرّهم عليه ولم يأمر رسوله بإنكاره عليهم، فتأمل هذا الموضع.

ومن ذلك تقريرهم على الأنكحة التي عقدوها في حال الشرك، ولم

(1)

ت: «علم الله» .

(2)

«وهو دليل

بنجس» ساقطة من ت.

(3)

رواه البخاري (385) ومسلم (620) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 360

يتعرض لكيفية وقوعها

(1)

، وإنما أنكر منها ما لا مَسَاغ

(2)

له في الإسلام حين الدخول فيه.

ومن ذلك تقريرهم على ما بأيديهم من الأموال التي اكتسبوها قبل الإسلام بربا أو غيره، ولم يأمر بردّها، بل جعل لهم بالتوبة ما سلف من ذلك.

ومنه تقرير الحبشة باللعب في المسجد بالحِراب، وتقرير عائشة على النظر إليهم، وهو كتقريره

(3)

النساء على الخروج والمشي في الطرقات وحضور المساجد وسماع الخطب التي كان ينادي بالاجتماع

(4)

لها، وتقريره للرجال على استخدامهن في الطحن والغسل والطبخ والعجن وعلف الفرس والقيام بمصالح البيت

(5)

، ولم يقل للرجال قطُّ

(6)

: لا يحلّ لكم ذلك إلا

(1)

تقدم تخريج بعضها.

(2)

ت: «يساغ» .

(3)

د: «كتقرير» .

(4)

ت: «بالإجماع» .

(5)

أما إقرار عائشة بالنظر إليهم ففي البخاري (454) ومسلم (892) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأما خروجهن وحضور المساجد فعند البخاري (865) ومسلم (442) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وأما حضور الأعياد فرواه البخاري (977) ومسلم (884) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأما إقرارهن على استخدامهن في الطحن فرواه البخاري (3113) ومسلم (2727) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وأما العجن فعند البخاري (2637) ومسلم (2770) في قصة حادثة الإفك. وأما علف الفرس فعند البخاري (5224) ومسلم (2182) من حديث أسماء بنت أبي بكر. والقيام بمصالح البيت فعند البخاري (2406) ومسلم (715) من حديث جابر، والغسل في حديث عائشة عند البخاري (230)، ومسلم (289).

(6)

«قط» ليست في د.

ص: 361

بمعاوضتهن أو استرضائهن حين يتركن الأجرة. وتقريره لهم على الإنفاق عليهن بالمعروف من غير تقدير فرضٍ ولا حَبّ ولا خبز، ولم يقل لهم: لا تَبرأ ذِمَمُكم من الإنفاق الواجب إلا بمعاوضة الزوجات من ذلك على الحب الواجب لهن، مع فساد المعاوضة من وجوه عديدة أو بإسقاط الزوجات حقَّهن من الحب، بل أقرَّهم على ما كانوا يعتادون نفقته قبل الإسلام وبعده، وقرَّر وجوبه بالمعروف، وجعله نظير نفقة الرقيق في ذلك

(1)

.

ومنه [112/أ] تقريرهم على التطوُّع بين أذان المغرب والصلاة وهو يراهم ولا ينهاهم

(2)

.

ومنه تقريرهم على بقاء الوضوء وقد خفقَتْ رؤوسهم من النوم في انتظار الصلاة ولم يأمرهم بإعادته

(3)

، وتطرُّقُ احتمالِ كونه لم يعلم ذلك مردود بعلم الله به، وبأن القوم أجلُّ وأعرفُ بالله ورسوله أن لا يخبروه بذلك، وبأن خفاء مثل ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يراهم ويشاهدهم خارجًا إلى الصلاة ممتنع.

ومنه تقريرهم على جلوسهم في المسجد وهم مُجْنِبون إذا توضؤوا

(4)

.

(1)

رواه الترمذي وصححه (1163) والنسائي في «السنن الكبرى» (9124) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وحسنه الألباني في «الإرواء» (7/ 96).

(2)

رواه مسلم (836) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم (376) وأبو داود (200) واللفظ له من حديث أنس رضي الله عنه.

(4)

رواه ابن أبي شيبة (1567) من حديث زيد بن أسلم، ورواه سعيد بن منصور في التفسير (646) من حديث عطاء بن يسار، وصححه ابن كثير في «تفسيره» (2/ 313).

ص: 362

ومنه تقريرهم على مبايعة عُميانهم على مبايعتهم وشرائهم بأنفسهم من غير نهيٍ لهم عن ذلك يومًا ما

(1)

، وهو يعلم أن حاجة الأعمى إلى ذلك كحاجة البصير.

ومنه تقريرهم على قبول الهدية التي يخبرهم بها الصبي والعبد والأمة

(2)

، وتقريرهم على الدخول بالمرأة التي يخبرهم بها النساء أنها امرأته

(3)

، بل الاكتفاء بمجرد الإهداء من غير إخبار.

ومنه تقريرهم على قول الشعر وإن تغزَّل أحدهم فيه بمحبوبته، وإن قال فيه ما لو أقرّ به في غيره لوَاخذَه

(4)

به، كتغزُّل كعب بن زهير بسعاد

(5)

،

(1)

تقدم تخريجه من حديث حبان بن منقذ رضي الله عنه.

(2)

أما إرسال الصبي بالهدية رواه أحمد (17677) من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه وإسناده حسن. وأما إرسال العبد والأمة فرواه البخاري (5225) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (5254) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

ت: «لواخذ» .

(5)

رواه ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 503) عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً، ورواه الحاكم (3/ 579) والبيهقي في «الدلائل» (5/ 207) من طريق الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير عن أبيه عن جده، ورواه الحاكم (3/ 582) عن موسى بن عقبة مرسلاً. ووصله محمد بن سلّام في «طبقات فحول الشعراء» (1/ 100) ومن طريقه السبكي في «طبقات الشافعية» (1/ 230)، وفي إسناده محمد بن سليمان لم أعرفه، قال العراقي: وهذه القصة رويناها من طرق لا يصح منها شيء، وذكرها ابن إسحاق بسند منقطع. انظر:«تحفة الأحوذي» (2/ 233).

ص: 363

وتغزُّل حسان في شعره وقوله فيه

(1)

:

كأن سَبيئةً من بيتِ رأسٍ

يكون مزاجَها عسلٌ وماءُ

ثم ذكر وصف الشراب، إلى أن قال:

ونشربُها فتتركُنا ملوكًا

وأُسْدًا لا يُنَهْنِهنا

(2)

اللقاءُ

فأقرَّهم على قول ذلك وسماعه؛ لعلمه ببرِّ قلوبهم ونزاهتهم وبُعدهم عن كل دنسٍ وعيب، وأن هذا إذا وقع مقدمةً

(3)

بين يدي ما يحبُّه الله ورسوله من مدح الإسلام وأهله وذم الشرك وأهله والتحريض على الجهاد والكرم والشجاعة فمفسدته مغمورة جدًّا في جنب هذه المصلحة، مع ما فيه من مصلحة

(4)

هزِّ النفوس واستمالة إصغائها وإقبالها على المقصود [112/ب] بعده، وعلى هذا جرت عادة الشعراء بالتغزُّل بين يدي الأغراض التي يريدونها بالقصيد.

ومنه

(5)

تقريرهم على رفع الصوت بالذكر بعد السلام

(6)

، بحيث كان من هو خارج المسجد يعرف انقضاء الصلاة بذلك، ولا ينكره عليهم.

(1)

«ديوانه» (ص 71).

(2)

د، ت:«لا ينههنا» .

(3)

«مقدمة» ليست في د.

(4)

«مصلحة» ليست في ت.

(5)

ت: «ومنها» .

(6)

رواه البخاري (842) ومسلم (583) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 364

فصل

وأما نقلهم لتركه فهو نوعان، وكلاهما سنة:

أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقوله في شهداء أحد:«ولم يغسِلْهم ولم يصلِّ عليهم»

(1)

، وقوله في صلاة العيد:«لم يكن أذانٌ ولا إقامة ولا نداء»

(2)

، وقوله في جمعه بين الصلاتين:«ولم يسبِّح بينهما ولا على إثْرِ واحدةٍ منهما»

(3)

ونظائره.

والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرتْ هِممُهم ودواعيهم أو أكثرهم

(4)

أو واحد منهم على نقله؛ فحيثُ لم ينقله واحد منهم البتةَ ولا حدَّث به في مجمعٍ أبدًا عُلِم أنه لم يكن، وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبلَ المأمومين وهم يؤمِّنون على دعائه دائمًا بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات، وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من ركوع الثانية، وقوله:«اللهم اهْدِنا فيمن هديتَ» يجهر بها ويقول المأمومون كلهم «آمين» . ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير ولا رجل ولا امرأة البتةَ وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يُخِلُّ به يومًا واحدًا. وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة ولرمي الجمار ولطواف الزيارة ولصلاة الاستسقاء والكسوف. ومن هنا

(1)

رواه البخاري (1343) من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (960) ومسلم (886) من حديث ابن عباس وجابر رضي الله عنهم.

(3)

رواه البخاري (1673) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

«أو أكثرهم» ليست في ت.

ص: 365

يُعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة؛ فإنَّ تَرْكه صلى الله عليه وسلم سنة كما أن فِعْله سنة، فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرقَ.

فإن قيل: من أين لكم [113/أ] أنه لم يفعله، وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟

فهذا سؤال بعيد جدًّا عن معرفة هَدْيه وسنته

(1)

وما كان عليه، ولو صحّ هذا السؤال وقُبِل

(2)

لاستحبَّ لنا مستحِبٌّ الأذانَ للتراويح، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟ واستحبّ لنا مستحِبّ آخر الغسلَ لكل صلاة، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟ واستحبّ لنا آخرُ النداءَ بعد الأذان: الصلاة يرحمكم الله، ورفع بها صوته، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟ واستحبّ لنا آخر لُبس السواد والطَّرْحة

(3)

للخطيب، وخروجه بالشاويش

(4)

يصيح بين يديه، ورَفْع المؤذّنين أصواتهم كلما ذُكِر اسم الله أو اسم رسوله جماعةً وفرادى، وقال: من أين لكم أن هذا لم يُنقل؟ واستحبَّ آخرُ صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة في رجب، وقال: من أين لكم أن

(5)

إحياءهما لم ينقل؟ وانفتح باب البدعة، وقال كل من دعا إلى بدعة: من أين لكم أن هذا لم يُنقل؟

(1)

ت: «سننه» .

(2)

ت: «وقيل» .

(3)

أي الطيلسان، وهو كساء يُلقى على الكتف.

(4)

شاويش أو جاويش أو جاووش كلمة تركية، من جنود الحرس، وكان من عملهم أن ينشدوا أمام السلطان في مواكبه وحفله. انظر:«تكملة المعاجم العربية» (2/ 132).

(5)

ت: «هذا أن» .

ص: 366