المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الشرط المتقدم والمقارن - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

الفصل: ‌ الشرط المتقدم والمقارن

أن يصيبهم الله بأيديهم؛ لأنهم كلما أرادوا أن يعذِّبوهم على ذلك أظهروا الإسلام فلم يصابوا بأيديهم قطُّ. والأدلة على ذلك كثيرة جدًّا، وعند هذا فأصحاب هذا القول يقولون: نحن أسعد بالتنزيل والسنة من مخالفينا في هذه المسألة المشنِّعين علينا بخلافها، وبالله التوفيق.

وأما قوله: «ولا يفسد عقد إلا بالعقد نفسه، لا يفسد بشيء تقدَّمه ولا تأخَّره، ولا بتوهم، ولا أمارة عليه» ، يريد أن الشرط المتقدم لا يُفسِد العقد إذا عَرِيَ صلب العقد عن مقارنته، وهذا أصل قد خالفه فيه جمهور أهل العلم

(1)

، وقالوا: لا فرقَ بين‌

‌ الشرط المتقدم والمقارن

؛ إذ مفسدة الشرط المقارن لم تزُل بتقدمه وإسلافه، بل مفسدته مقارنًا كمفسدته متقدمًا، وأي مفسدة زالت بتقدم الشرط إذا كانا قد علِمَا وعلم الله سبحانه والحاضرون أنهما إنما عقدَا على ذلك الشرط الباطل المحرَّم وأظهرا صورة العقد مطلقًا، وهو مقيَّد في نفس الأمر بذلك الشرط المحرم؟ فإذا اشترطا قبل العقد أن النكاح نكاح تحليلٍ أو متعة أو شغارٍ، وتعاهدا على ذلك، وتواطآ عليه، ثم عقدا على ما اتفقا عليه، وسكتا عن إعادة الشرط في صلب العقد اعتمادًا على تقدم ذكره والتزامه= لم يخرج العقد بذلك عن كونه عقد تحليلٍ ومتعة وشغار حقيقةً.

وكيف يعجز المتعاقدان اللذان يريدان عقدًا قد حرَّمه الله ورسوله لوصفٍ أن يشترطا قبل العقد إرادةَ ذلك الوصف وأنه هو المقصود، ثم يسكتا عن ذكره في صلب العقد ليتمَّ غرضهما؟ وهل إتمام غرضهما إلا عين تفويت مقصود الشارع؟ وهل هذه القاعدة ــ وهي أن الشرط المتقدم لا يؤثّر

ص: 631

شيئًا ــ إلا فتح لباب الحيل؟ بل هي أصل الحيل وأساسها، وكيف تُفرِّق الشريعة بين متماثلين من كل وجه لافتراقهما في تقدُّم لفظٍ أو تأخُّرِه مع استواء العقدين في الحقيقة والمعنى والقصد؟ وهل هذا إلا من أقرب الوسائل والذرائع إلى حصول ما قصد الشارع عدمه وإبطاله؟ وأين هذه القاعدة من قاعدة سدِّ الذرائع إلى قصد

(1)

[45/ب] المحرَّمات؟ ولهذا صرَّح أصحابها ببطلان قاعدة سدّ الذرائع لما علموا أنها مناقضة لتلك؛ فالشارع سدَّ الذرائع إلى المحرمات بكل طريق، وهذه القاعدة

(2)

تُوسع الطرق إليها وتنهجها.

وإذا تأمل اللبيب هذه القاعدة وجدها ترفع التحريم أو الوجوب مع قيام المعنى المقتضي لهما حقيقة، وفي ذلك تأكيد للتحريم من وجهين: من جهة أن فيها فعلَ المحرم وتركَ الواجب، ومن جهة اشتمالها على التدليس والمكر والخداع والتوسل بشرع الله الذي أحبَّه ورضيَه لعباده إلى نفس ما حرّمه ونهى عنه، ومعلوم أنه لا بدَّ أن يكون بين الحلال والحرام فرقٌ في الحقيقة، بحيث يظهر للعقول

(3)

مضادةُ أحدهما للآخر، والفرق في الصورة غير معتبر ولا مؤثِّر؛ إذ الاعتبار بالمعاني والمقاصد في الأقوال والأفعال، فإن الألفاظ إذا اختلفت عباراتها أو مواضعها بالتقدم والتأخر والمعنى واحد كان حكمها واحدًا، ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفًا، وكذلك الأعمال. ومن تأمَّل الشريعة حقَّ التأمل علم صحة هذا

(1)

«قصد» ليست في د.

(2)

ز: «قاعدة» .

(3)

د: «العقود» .

ص: 632

بالاضطرار؛ فالأمر المحتال عليه بتقدُّم الشرط دون مقارنتِه صورتُه صورة الحلال المشروع ومقصودُه مقصود الحرام الباطل، فلا تُراعى الصورة وتُلغى الحقيقة والمقصود، بل مشاركة هذا للحرام صورةً ومعنى وإلحاقه به لاشتراكهما في القصد والحقيقة أولى من إلحاقه بالحلال المأذون فيه لمشاركته له في مجرَّد الصورة.

فصل

وقوله: «ولا تفسد البيوع بأن يقال: هذه ذريعة وهذه نية سوء

إلى آخره»، فإشارة منه إلى قاعدتين، إحداهما: أنه لا اعتبار بالذرائع ولا يُراعى سدّها، والثانية: أن القصود غير معتبرة في العقود، والقاعدة المتقدمة أن الشرط المتقدّم لا يؤثِّر، وإنما التأثير للشرط الواقع في صلب العقد، وهذه القواعد متلازمة؛ فمَن سدَّ الذرائع اعتبر المقاصد وقال: يؤثِّر الشرط متقدمًا ومقارنًا، ومن لم يسدَّ الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة، ولا يمكن إبطال واحدة منها إلا بإبطال جميعها. ونحن نذكر قاعدة سدِّ الذرائع، ودلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها.

* * * *

ص: 633