المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

الفصل: ‌ نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم

وإذا كان المقلِّد ليس من العلماء باتفاق العلماء لم يدخل في شيء من هذه النصوص، وبالله التوفيق.

فصل

وقد‌

‌ نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم

، وذمُّوا من أخذ أقوالهم بغير حجة؛ فقال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجّة كمثل حاطب ليلٍ، يَحمل حُزمةَ حطبٍ وفيه أفعى تلدغُه، وهو لا يدري. ذكره البيهقي

(1)

.

وقال إسماعيل بن يحيى المُزَني في أول «مختصره»

(2)

: اختصرتُ هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله، لأقرِّبه على من أراده، مع إعلامِيْهِ

(3)

نهْيَه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه.

وقال أبو داود

(4)

: قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبعُ من مالك؟ قال: لا تقلِّدْ دينَك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخُذْ به، ثم التابعين بعدُ الرجلُ فيه مخيَّر.

وقد فرَّق أحمد بين التقليد والاتّباع، فقال أبو داود: سمعته يقول: الاتّباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعدُ في

(1)

رواه البيهقي في «المدخل» (263) وفي «مناقب الشافعي» (2/ 143)، وابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 74)، والحاكم في «المدخل إلى كتاب الإكليل» (ص 28)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 157) وفي «نصيحة أهل الحديث» (ص 32).

(2)

«مختصر المزني» مع «الأم» (8/ 93) ط. دار الفكر.

(3)

ع: «إعلانه» .

(4)

في «مسائل الإمام أحمد» (ص 369).

ص: 38

التابعين مخيَّر

(1)

.

وقال أيضًا: لا تقلِّدني [10/أ] ولا تقلِّدْ مالكًا ولا الثوريَّ ولا الأوزاعيَّ، وخذْ من حيث أخذوا

(2)

.

وقال: مِن قلّة فقهِ الرجل أن يقلِّد دينَه الرجالَ

(3)

.

وقال بشر بن الوليد: قال أبو يوسف: لا يحلُّ لأحدٍ أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا

(4)

.

وقد صرَّح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب، فكيف مَن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟ فقال جعفر الفِريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدَّورقي، حدثني الهيثم بن جَمِيل، قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إنّ عندنا قومًا وضعوا كتبًا، يقول أحدهم: ثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم. قال مالك: وصحَّ عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية، كما صحّ عندهم قول إبراهيم، فقال مالك: هؤلاء يُستتابون

(5)

، والله أعلم

(6)

.

(1)

في المصدر السابق (ص 368).

(2)

انظر: «الإنصاف» لولي الله الدهلوي (ص 105) و «عقد الجيد» (ص 28) و «إرشاد النقاد» للصنعاني (ص 143).

(3)

«إرشاد النقاد» (ص 143).

(4)

رواه البيهقي في «المدخل» (262).

(5)

رواه ابن حزم في «الإحكام» (6/ 120 - 121).

(6)

«والله أعلم» ليست في ت، ع.

ص: 39

فصل في عقد مجلس مناظرة

بين مقلّد وبين صاحبِ حجة منقادٍ للحقّ حيث كان

قال المقلّد: نحن معاشر المقلّدين ممتثلون

(1)

قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فأمر سبحانه من لا علمَ له أن يسأل من هو أعلم منه، وهذا نصُّ قولنا، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم

(2)

إلى سؤال من يعلم، فقال في حديث صاحب الشجَّة: «ألَّا سألوا إذْ

(3)

لم يعلموا؟ إنما شفاءُ العيِّ السؤالُ»

(4)

.

وقال أبو العَسِيف الذي زنى بامرأةِ مستأجِرِه: «وإنى سألت أهلَ العلمِ فأخبروني أنما

(5)

على ابني جلدُ مائةٍ وتغريبُ عامٍ، وأن على امرأة هذا الرجمَ»

(6)

. فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلمُ منه.

(1)

ت: «ممتثلين» .

(2)

«من لا يعلم» ساقطة من ع.

(3)

د: «إذا» .

(4)

رواه أبو داود (336) والدارقطني (729) والبيهقي (1/ 227 - 228) من طريق الزبير بن خريق عن عطاء عن جابر رضي الله عنه، وفي إسناده الزبير بن خريق متكلم فيه، ولكن له شاهد ضعيف يتقوى به من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود (337) وابن ماجه (572). وانظر:«التلخيص الحبير» (1/ 260)، و «صحيح أبي داود» - الأم (2/ 158 - 165).

(5)

ع: «أن» .

(6)

رواه البخاري (2724) ومسلم (1697) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما.

ص: 40

وهذا عالم الأرض عمر قد قلَّد أبا بكر، فروى شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة: أقضي فيها، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمنّي ومن الشيطان والله منه بريء، هو ما دون الولد والوالد، فقال عمر [10/ب] بن الخطاب: إني لأستحيي من الله أن أخالفَ أبا بكر

(1)

. وصحَّ عنه أنه قال له: رأيُنا لرأيِك تَبَعٌ

(2)

(3)

.

وصحَّ عن ابن مسعود أنه كان يأخذ بقول عمر

(4)

.

وقال الشعبي عن مسروق: كان ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفتون الناس: ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي بن

(1)

رواه ابن حزم في «الإحكام» (6/ 127) من هذا الطريق، ورواه عبد الرزاق (19191) وسعيد بن منصور في «سننه» (التفسير)(591)، وابن أبي شيبة (32255)، والدارمي (3015) والشعبي لم يسمع من عمر، وقول عمر في الكلالة مخرَّج أيضًا عند الحاكم (4/ 373) وإسناده صحيح. انظر:«التلخيص الحبير» (3/ 191).

(2)

«وصح عنه

تبع» ساقطة من ع.

(3)

يشير إلى حديث طارق بن شهاب أنه قال: جاء وفد بُزاخة أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح ، فخيّرهم أبو بكر بين الحرب المجلية، والسلم المخزية

، وفيه قول عمر رضي الله عنه: قد رأيت رأيا ، وسنشير عليك

إلخ القصة، وسيأتي سياق القصة بطولها. والحديث روى البخاري طرفًا منه (7221)، وساقه ابن أبي شيبة بطوله (33400)، والبيهقي (8/ 335)، وابن زنجويه في «الأموال» (2/ 461)، وصححه البرقاني في «مستخرجه» كما في «الجمع بين الصحيحين» (1/ 96).

(4)

من ذلك ما رواه ابن أبي شيبة (7410)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1827)، والطبراني (8834) من قول ابن مسعود رضي الله عنه: إنَّ عمر كره الصلاةَ بعد العصر، وأنا أكرهُ ما كره عمرُ.

ص: 41

كعب، وأبو موسى، وكان ثلاثة منهم يَدَعُون قولهم لقول ثلاثة: كان عبد الله يدع قوله لقول عمر، وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي، وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب

(1)

.

وقال جندب

(2)

: ما كنت أدَعُ قولَ ابنِ مسعود لقول أحدٍ من الناس

(3)

.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ معاذًا قد سنَّ لكم سنَّةً، فكذلك فافعلوا»

(4)

، في شأن الصلاة حيث أخّر، فصلّى ما فاته مع الإمام بعد الفراغ، وكانوا يصلُّون ما فاتهم أولًا ثم يدخلون مع الإمام.

قال المقلّد: وقد أمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر، وهم العلماء، أو العلماء والأمراء، وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، فإنه لولا التقليد لم يكن هناك طاعةٌ تختصُّ بهم.

وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، وتقليدهم اتباعٌ لهم، ففاعله ممن رضي الله عنه، ويكفي في ذلك الحديث المشهور: «أصحابي

(1)

رواه ابن حزم في «الإحكام» (6/ 67)، وفي إسناده جابر بن يزيد الجعفي متكلم فيه، وبنحوه رواه ابن سعد في «الطبقات» (2/ 351)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/ 444)، والبيهقي «المدخل» (146).

(2)

ع: «حبيب» ، تحريف.

(3)

رواه ابن حزم في «الإحكام» (6/ 67)، وفي إسناده جابر بن يزيد الجعفي متكلم فيه.

(4)

رواه أبو داود (506) ومن طريقه البيهقي (3/ 93)، والحديث صححه الألباني في «صحيح أبي داود» - الأم (2/ 425).

ص: 42

كالنجومِ، فبأيِّهم اقتديتم اهتديتم»

(1)

.

وقال عبد الله بن مسعود: من كان منكم مُستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنةُ، أولئك أصحاب محمدٍ أبرُّ هذه الأمةِ

(2)

قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرِفوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم

(3)

.

وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بسنّتي [11/أ] وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي»

(4)

.

(1)

رواه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (702) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وابن عبد البر في «الجامع» (2/ 925) من حديث جابر رضي الله عنه، وحكم بوضعه ابن حزم في «الإحكام» (6/ 82)، وملا علي القاري في «الأسرار المرفوعة» (ص 388)، والألباني في «السلسلة الضعيفة» (62).

(2)

«الأمة» ساقطة من ع.

(3)

رواه ابن عبد البر في «الجامع» (2/ 947)، والهروي في «ذم الكلام وأهله» (746)، وإسناده منقطع؛ لأن قتادة لم يدرك ابن مسعود رضي الله عنه، ولكنَّ الشطر الأول منه ثابت بنحوه عند أبي داود في «الزهد» (132)، والطبراني (8764) والبيهقي (10/ 116)، وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 180): رجاله رجال الصحيح.

(4)

رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال: حديث حسن صحيح، والبزار (4201) والحاكم (1/ 95) وقال: ليس فيه علة، وصححه أيضًا ابن حبان (5) وأبو نعيم في «المستخرج» (1/ 35) والضياء المقدسي في «اتباع السنن» (ص 19).

ص: 43

وقال: «اقتدُوا باللذينِ من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدُوا بهدْي عمّار، وتمسَّكوا بعهد ابن أم عبد»

(1)

.

وقد كتب عمر إلى شُريح: أنِ اقْضِ بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقضِ بما قضى به الصالحون

(2)

.

وقد منع عمر من بيع أمهات الأولاد

(3)

وتبعه الصحابة، وأَلزم بالطلاق الثلاث

(4)

وتبعوه أيضًا، واحتلم مرةً فقال له عمرو بن العاص: خذْ ثوبًا غير ثوبك، فقال: لو فعلتُها صارت سنةً

(5)

.

(1)

رواه الترمذي (3662) وابن ماجه (97) وأحمد (23245) من حديث حذيفة، وإسناده منقطع بين عبد الملك بن عمير وربعي بن حراش، وللحديث شواهد يتقوى بها؛ ولأجل هذا حسنه الترمذي، وصححه الحاكم (3/ 75) وصححه أيضًا ابن حبان (6902). وانظر:«التلخيص الحبير» (4/ 350)، و «السلسلة الصحيحة» (1233).

(2)

رواه النسائي (5399)، ورواه أيضًا في «السنن الكبرى» (5911)، وصححه ابن حزم في «الإحكام» (7/ 148).

(3)

يشير إلى حديث جابر رضي الله عنه: بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا فانتهينا. رواه أبو داود (3954)، وصححه ابن حبان (4324) والحاكم (2/ 18).

(4)

يشير إلى ما رواه مسلم (1472) عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم.

(5)

رواه مالك (83) وعبد الرزاق (1448).

ص: 44

وقد قال

(1)

أبي بن كعب وغيره من الصحابة: ما استبانَ لك فاعمَلْ به، وما اشتبهَ عليك فكِلْهُ إلى عالمِه

(2)

.

وقد كان الصحابة يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيٌّ بين أظهُرِهم، وهذا تقليد لهم قطعًا؛ إذ قولهم لا يكون حجة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، فأوجب عليهم قبولَ ما أنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا تقليدٌ منهم للعلماء.

وصحَّ عن ابن الزبير أنه سئل عن الجدّ والإخوة، فقال: أما الذي قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنتُ متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذته خليلًا» ، فإنه أنزله أبًا

(3)

. وهذا ظاهر في تقليده له.

وقد أمر الله سبحانه بقبول شهادة الشاهد، وذلك تقليد له، وجاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارِص والقاسم والمقوِّم للمُتْلَفات وغيرها، والحاكمَيْنِ بالمثل في جزاء

(4)

الصيد، وذلك تقليدٌ محْض.

وأجمعت الأمة على قبول قول المترجم والرسول والمعرِّف والمعدِّل

(1)

«قد» ليست في د.

(2)

رواه ابن أبي شيبة (30655)، والبخاري في «التاريخ الأوسط» (1/ 64)، والحاكم (3/ 303).

(3)

رواه البخاري (3658). وفيه: «يعني أبا بكر» .

(4)

ت: «الجزاء» .

ص: 45

وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد، وذلك

(1)

تقليد محض لهؤلاء.

وأجمعوا على جواز شِرَى اللُّحمانِ والثياب [11/ب] والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حِلّها وتحريمها اكتفاءً بتقليد أربابها، ولو كُلِّف الناس كلُّهم الاجتهادَ وأن يكونوا علماءَ لضاعت مصالح العباد، وتعطَّلت الصنائع والمتاجر، وكان الناس كلُّهم علماء مجتهدين، وهذا مما لا سبيلَ إليه شرعًا، والقدر قد مَنَع من وقوعه.

وقد أجمع الناس على تقليد الزوج للنساء اللاتي يُهدِين إليه زوجتَه، وجوازِ وطئها تقليدًا لهنّ في كونها هي زوجته.

وأجمعوا على أن الأعمى يقلِّد في القبلة، وعلى تقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة وما يصحُّ به الاقتداء، وعلى تقليد الزوجة ــ مسلمةً كانت أو ذميةً ــ أن حيضها قد انقطع فيباح للزوج وطْؤُها بالتقليد، ويُباح للوليّ تزويجُها بالتقليد لها في انقضاء عدّتها، وعلى جواز تقليد الناس للمؤذِّنين في دخول أوقات الصلوات، ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل.

وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحارث: أرضعتُك وأرضعتُ امرأتك، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراقها وتقليدها

(2)

فيما أخبرتْه به من ذلك

(3)

.

وقد صرَّح الأئمة بجواز التقليد، فقال حفص بن غِياث: سمعت سفيان يقول: إذا رأيت الرجلَ يعمل العملَ الذي قد اختُلِفَ فيه وأنت ترى تحريمَه

(1)

«ذلك» ساقطة من ت.

(2)

ت، د:«ويقلدها» .

(3)

رواه البخاري (88) من حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه.

ص: 46

فلا تَنْهَه

(1)

(2)

.

وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليدُ من هو أعلمُ منه، ولا يجوز له تقليدُ من هو مثلَه

(3)

.

وقد صرَّح الشافعيُّ بالتقليد فقال: في الضِّلع بعيرٌ، قلتُه تقليدًا لعمر

(4)

.

وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب: قلته تقليدًا لعثمان

(5)

.

وقال في مسألة الجدّ مع الإخوة: إنه يُقاسِمهم، ثم قال

(6)

: وإنما قلتُ بقول زيد، وعنه قبلنا أكثر الفرائض

(7)

.

وقد قال في موضع آخر من كتابه الجديد: قلته تقليدًا لعطاء

(8)

.

(1)

ت، ع:«فلا تتهمه» .

(2)

رواه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 368) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 135 - 136).

(3)

ذكره الخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» بدون إسناد (2/ 136). وانظر: «العدة في أصول الفقه» (4/ 1231) و «مسلَّم الثبوت» (2/ 293) و «قواطع الأدلة» (2/ 341).

(4)

«الأم» (8/ 651) وفيه: «وأنا أقول بقول عمر، لأنه لم يخالفه واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما علمته، فلم أر أن أذهب إلى رأيي وأخالفه فيه» .

(5)

«الأم» (8/ 225).

(6)

«ثم قال» ليست في د.

(7)

«الأم» (5/ 173).

(8)

انظر مثلًا «الأم» (3/ 659، 8/ 219، 344) وليس فيها لفظ التقليد.

ص: 47

وهذا أبو حنيفة رحمه الله قال في مسائل الآبار

(1)

: ليس معه [12/أ] فيها إلا تقليدُ من تقدَّمه من التابعين فيها

(2)

.

وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة، ويصرّح في «موطَّئه» بأنه أدرك العمل على هذا، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا

(3)

.

ويقول في غير موضع: «ما رأيتُ أحدًا أَقتدِي به يفعله»

(4)

. ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال.

وقد قال الشافعي في الصحابة: رأيهم لنا خيرٌ من رأيِنا لأنفسنا

(5)

.

ونحن نقول ونصدِّق أن رأي الشافعي والأئمة معه لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا.

وقد جعل الله سبحانه في فِطَرِ العباد تقليدَ المتعلّمين للأستاذين والمعلِّمين، ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا، وذلك عامٌّ في كلّ علم

(1)

ع، د:«الآثار» .

(2)

قال المرغيناني في «الهداية» (1/ 24): وإذا وقعت في البئر نجاسة نزحت، وكان نزح ما فيها من الماء طهارة لها بإجماع السلف، ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس. وانظر تفصيل المسألة في «المبسوط» للسرخسي (1/ 58) و «البحر الرائق» لابن نجيم (1/ 117).

(3)

انظر: «موطأ مالك» رقم (11، 28، 45، 55، 107 وغيرها).

(4)

انظر: «المدونة» (1/ 299، 346، 451).

(5)

انظر: المدخل للبيهقي (37) وعزاها إلى الرسالة القديمة. وانظر: «درء تعارض العقل والنقل» (5/ 73)، و «مجموع الفتاوى» (4/ 158)، و «منهاج السنة النبوية» (6/ 81).

ص: 48

وصناعة، وقد فاوتَ الله سبحانه بين قوى الأذهان كما فاوتَ بين قوى الأبدان، فلا يحسُن في حكمته وعدله ورحمته أن يَفرِض على جميع خلقه معرفةَ الحق بدليله والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقِها وجليلِها؛ ولو كان كذلك لتساوتْ أقدامُ الخلائق في كونهم علماء، بل جعل سبحانه هذا عالمًا، وهذا متعلّمًا، وهذا متبعًا للعالم مؤتمًّا به، بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع. وأين حرَّم الله تعالى على الجاهل أن يكون متبعًا للعالم مؤتمًّا به مقلّدًا له، يسيرُ بسيرِه وينزل بنزوله؟

وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كلَّ وقت نازلةٌ بالخلق، فهل فرض على كلّ منهم فرضَ عينٍ أن يأخذ حكم نازلته من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها؟ وهل ذلك في إمكانٍ فضلًا عن كونه مشروعًا؟ وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد، وكان الحديثُ العهدِ بالإسلام يسألهم فيفتونه، ولا يقولون له: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل، ولا يُعرف ذلك عن أحدٍ منهم البتَّةَ. وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود فهو من لوازم الشرع والقدر. [12/ب] والمنكرون له مضطرُّون إليه ولا بدَّ، وذلك فيما تقدَّم بيانه من الأحكام وغيرها.

ونقول لمن احتجَّ على إبطاله: كل حجة أثرية ذكرتَها فأنت مقلِّدٌ لحَمَلَتِها ورواتها؛ إذ لم يقُمْ دليل قطعيٌّ على صدقهم، فليس بيدك إلا تقليد الراوي، وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، وكذلك ليس بيد العامّي إلا تقليد العالم، فما الذي سوَّغَ لك تقليدَ الراوي والشاهد ومَنَعَنا من تقليد العالم؟ وهذا سمع بأذنه ما رواه، وهذا عقَلَ بقلبه ما سمعه، فأدَّى هذا مسموعَه، وأدَّى هذا معقولَه، وفُرِض على هذا تأديةُ ما سمعه، وعلى هذا

ص: 49

تأديةُ ما عقَلَه، وعلى من لم يَبلغ منزلتَهما القبولُ منهما.

ثم يقال للمانعين من التقليد: أنتم منعتموه خشيةَ وقوع المقلّد في الخطأ بأن يكون من قلَّده مخطئًا في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق، ولا ريبَ أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه. وهذا كمن أراد شراء سِلْعةٍ لا خِبرةَ له بها، فإنه إذا قلَّد عالمًا بتلك السلعة خبيرًا بها أمينًا ناصحًا كان صوابه وحصول غرضه أقربَ من اجتهاده لنفسه، وهذا متفقٌ عليه بين العقلاء.

قال أصحاب الحجة: عجبًا لكم معاشرَ المقلّدين الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم

(1)

ليسوا من أهله ولا معدودين

(2)

في زمرة أهله، كيف أبطلتم مذهبكم بنفس دليلكم؟ فما للمقلّد وما للاستدلال؟ وأين منصب المقلّد من منصب المستدِلّ؟ وهل ما

(3)

ذكرتم من الأدلة إلا ثيابٌ استعرتُموها من صاحب الحجة فتجمَّلتم بها بين الناس؟ وكنتم في ذلك متشبّعين بما لم تُعطَوه، ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تُؤتَوه؟ وذلك ثوبُ زورٍ لبِستموه، ومنصب لستم من أهله غَصَبتموه. [13/أ] فأخبِرونا: هل صرتم إلى التقليد لدليلٍ

(4)

قادكم إليه، وبرهانٍ دلَّكم عليه، فنزَلْتم به من الاستدلال أقربَ منزل، وكنتم به عن التقليد بمعزلٍ، أم

(1)

ت: «أنهم» .

(2)

ت: «معدود» .

(3)

ع: «بل وما» .

(4)

ت: «بدليل» .

ص: 50

سلكتم سبيلَه اتفاقًا وبَخْتًا

(1)

عن غير دليل؟ وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين سبيل

(2)

، وأيُّهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم. ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة قلتم: لسنا من أهل هذه

(3)

السبيل، وإن خاطبناكم بحكم التقليد فلا معنى لما أقمتموه من الدليل.

والعجب أن كلَّ طائفة من الطوائف، وكلَّ أمة من الأمم تدَّعي أنها على حق، حاشا فرقة التقليد فإنهم

(4)

لا يدَّعون ذلك، ولو ادَّعَوه لكانوا مُبطِلين، فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليلٍ قادَهم إليه، وبرهانٍ دلَّهم عليه، وإنما سبيلهم محضُ التقليد، والمقلِّد لا يعرف الحقَّ من الباطل، ولا الحاليَ من العاطل.

وأعجبُ من هذا أن أئمتهم نَهَوهم عن تقليدهم فعَصَوهم وخالفوهم، وقالوا: نحن على مذاهبهم، وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بَنَوا عليه، فإنهم بَنَوا على الحجة، ونَهَوا عن التقليد، وأوصَوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه، فخالفوهم في ذلك كله، وقالوا: نحن من أتباعهم، تلك أمانِيُّهم، وما أتباعهم إلا مَن سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم.

(1)

ت: «وبحثا» .

(2)

«سبيل» ساقطة من د.

(3)

ع: «هذا» .

(4)

ت: «فإنه» .

ص: 51

وأعجب من هذا أنهم مصرِّحون

(1)

في كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه، وأنه لا يحلُّ القول به في دين الله، ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معيَّنٍ لم يصحَّ شرطُه ولا توليتُه، ومنهم من صحَّح التولية وأبطل الشرط، وكذلك المفتي يَحرُم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس، والمقلِّد لا علمَ له

(2)

بصحة القول وفساده؛ إذ طريق ذلك مسدودةٌ عليه، ثم كلٌّ منهم يعرِف من نفسه أنه مقلِّد لمتبوعه لا يفارق قوله، ويترك له كلَّ ما خالفه [13/ب] من كتاب أو سنة أو قول صاحب أو قول من هو أعلمُ من متبوعه أو نظيره، وهذا من أعجب العجب.

وأيضًا فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلًا منهم يقلِّده في جميع أقواله فلم يُسقِط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئا. ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابع

(3)

التابعين، فليكذِّبْنا المقلّدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمةَ في القرون الفضيلة

(4)

على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه صلى الله عليه وسلم؛ فالمقلّدون لمتبوعيهم

(5)

في جميع ما قالوه يبيحون به الفروج والدماء والأموال ويُحرِّمونها

(6)

، ولا

(1)

ت: «يصرحون» .

(2)

«له» ساقطة من ت.

(3)

كذا في النسخ بالإفراد.

(4)

ع: «المفضلة» .

(5)

ت: «لمتبوعهم» .

(6)

ت: «ويحرمون» .

ص: 52

يدرون أذلك صواب أم خطأ= على خطر عظيم، ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء.

وأيضًا فنقول لكل من قلَّد واحدًا من الناس دون غيره: ما الذي خصَّ صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره؟ فإن قال: لأنه أعلمُ أهلِ عصره، وربما فضَّله على مَن قبله مع جَزْمِه الباطل أنه لم يجئ بعده أعلمُ منه. قيل له: وما يُدرِيك ــ ولستَ من أهل العلم بشهادتك على نفسك ــ أنه أعلم الأمة في وقته؟ فإنّ هذا إنما يعرفه من عرف المذاهبَ وأدلَّتها وراجحَها من مرجوحها، فما للأعمى ونقدِ الدراهم؟ وهذا أيضًا باب آخر من القول

(1)

على الله بلا علم.

ويقال له ثانيًا: فأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان

(2)

وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعائشة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أعلمُ من صاحبك بلا شك، فهلّا قلّدتَهم وتركتَه

(3)

؟ بل سعيد بن المسيّب والشعبيّ وعطاء وطاوس وأمثالهم أعلمُ وأفضلُ بلا شك، فلِمَ تركتَ تقليدَ الأعلم [14/أ] الأفضل الأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغِبتَ عن أقواله ومذاهبه إلى من هو دونه؟

فإن قال: لأن صاحبي ومن قلَّدته أعلم به مني، فتقليدي له أوجبَ عليَّ مخالفةَ قوله لقول من قلّدته؛ لأن وفور علمه ودينه يمنعه

(4)

من مخالفة من

(1)

ت: «من باب القول» .

(2)

بعدها في ت: «بن عفان» .

(3)

ع: «تركتهم» .

(4)

د: «منعه» .

ص: 53

هو فوقه وأعلم منه إلا لدليل صار إليه هو أولى من قولِ كلّ واحد من هؤلاء.

قيل له: ومن أين علمتَ أن الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك أولى من الدليل الذي صار إليه من هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره؟ وقولان معًا متناقضان لا يكونان صوابًا، بل أحدهما هو الصواب، ومعلوم أن ظَفَرَ الأعلمِ الأفضل بالصواب أقربُ من ظفرِ مَن هو دونه.

فإن قلت: علمت ذلك بالدليل، فههنا إذًا فقد انتقلتَ عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال، وأبطلتَ التقليد.

ثم يقال لك ثالثًا

(1)

: هذا لا ينفعك شيئًا البتَّةَ فيما اختُلِف فيه، فإن من قلَّدته ومن قلَّده غيرك قد اختلفا، وصار من قلّده غيرك إلى موافقة أبي بكر وعمر أو علي وابن عباس أو عائشة وغيرهم دون من قلَّدتَه، فهلّا نصحتَ نفسك وهُدِيتَ لرشدك وقلتَ: هذان عالمان كبيران، ومع أحدهما مَن ذكر من الصحابة فهو أولى بتقليدي إياه.

ويقال رابعًا: إمامٌ بإمام، ويسلم

(2)

قول الصحابي، فيكون أولى بالتقليد.

ويقال خامسًا: إذا جاز أن يظفَر من قلّدتَه بعلمٍ خفيَ على عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وذويهم

(3)

، فأجوَزُ

(1)

ع: «ثانيًا» . وهكذا فيما بعد بنقص عدد.

(2)

ع: «ويسلموا» .

(3)

د، ع:«دونهم» .

ص: 54

وأجوَزُ أن يظفر نظيره ومن بعده بعلمٍ خفي عليه هو؛ فإن الشَّبه

(1)

بين من قلّدته وبين نظيره ومن بعده أقربُ بكثير من الشبه بين من قلَّدته

(2)

وبين الصحابة، والخفاء على من قلّدته أقرب من الخفاء على [14/ب] الصحابة.

ويقال سادسًا: إذا سوَّغتَ لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم لقول المفضول فهلّا سوَّغتَ لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه؟ وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا عكس ما ارتكبتَ؟

ويقال سابعًا: هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء

(3)

والأموال ونقْلِها عمّن هي بيده إلى غيره موافقٌ لأمر الله أو رسوله أو إجماع أمته أو قول أحد من الصحابة؟ فإن قال: «نعم» قال ما يعلم الله ورسوله وجميع العلماء بطلانَه

(4)

، وإن قال:«لا» فقد كفانا

(5)

مؤنته، وشهد على نفسه بشهادة الله ورسوله وأهل العلم عليه

(6)

.

ويقال ثامنًا: تقليدك لمتبوعك يُحرِّم

(7)

عليك تقليدَه؛ فإنه نهاك عن ذلك، وقال: لا يحلُّ لك أن تقول بقوله حتى تعلم من أين قاله، ونهاك عن تقليده وتقليد غيره من العلماء، فإن كنتَ مقلّدًا له في جميع مذهبه فهذا من

(1)

ت، ع:«النسبة» هنا وفيما يلي. والمثبت من د.

(2)

ع: «بينه» .

(3)

«والدماء» ساقطة من ع.

(4)

«فإن قال

بطلانه» ساقطة من ع.

(5)

ع: «كفى» . ت: «كفا» .

(6)

«عليه» ساقطة من ع.

(7)

ع: «محرم» .

ص: 55

مذهبه، فهلّا اتبعتَه فيه؟

ويقال تاسعًا: هل أنت على بصيرة في أن من قلّدته أولى بالصواب من سائر من رغِبتَ عن قوله من الأولين والآخرين أم لستَ على بصيرة؟ فإن قال: «أنا على بصيرة» قال ما يُعلَم بطلانه، وإن قال:«لست على بصيرة» وهو الحق، قيل له: فما عذرك غدًا بين يدي الله حين لا ينفعك من قلّدته بحسنة واحدة، ولا يحمل عنك سيئة واحدة، إذا حكمتَ وأفتيتَ بين خلقه بما لستَ على بصيرةٍ منه هل هو صواب أم خطأ؟

ويقال عاشرًا: هل تدَّعي عصمة متبوعك أو تجوِّز عليه الخطأ؟ والأول لا سبيل إليه، بل تُقِرُّ ببطلانه؛ فتعيَّن الثاني، وإذا جوَّزت عليه الخطأ

(1)

، فكيف تحلِّل

(2)

وتحرِّم وتُوجِب وتُرِيق الدماء وتُبِيح الفروج وتنقل الأموال وتَضْرِب الأَبْشَار

(3)

بقول مَن أنت مقِرٌّ بجواز كونه مخطئًا؟

ويقال حادي عشر: هل تقول [15/أ] إذا أفتيتَ وحكمتَ بقول من قلّدته: إن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله، وأنزل به كتابه وشرعه لعباده، ولا دينَ له سواه؟ أو تقول: إنّ دين الله الذي شرعَه لعباده خلافُه؟ أو تقول: لا أدري؟ ولا بدَّ لك من قولٍ من هذه الأقوال. ولا سبيل لك إلى الأول قطعًا؛ فإن دين الله الذي لا دينَ له سواه لا تَسُوغ مخالفته، وأقلُّ درجات مخالفه أن يكون من الآثمين، والثاني لا تدَّعيه

(4)

، فليس لك ملجأٌ

(1)

«الخطأ» ليست في ت، د.

(2)

هذا الفعل والأفعال الآتية بصيغة الغائب أو مهملة النقط في ت، د. والمثبت من ع.

(3)

جمع بَشَر، وهي ظاهر الجلد. انظر «النهاية» (1/ 129).

(4)

ت: «لابد عنه» تصحيف.

ص: 56

إلا الثالث. فيا لله العجب! كيف تُستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتُحلَّل وتُحرَّم بأمرٍ أحسنُ أحواله وأفضلُها «لا أدري» ؟

فإن كنتَ لا تَدرِي فتلك مصيبةٌ

وإن كنتَ تَدرِي فالمصيبةُ أعظم

(1)

ويقال ثاني عشر: على أي شيء كان الناس قبل أن يولَد فلان وفلان وفلان

(2)

الذين قلّدتموهم وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع؟ وليتَكم اقتصرتم على ذلك، بل جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع، أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هُدًى أو على ضلالة؟ فلا بدَّ من أن تُقِرّوا بأنهم كانوا على هدى، فيقال لهم: فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنن والآثار، وتقديم قول الله ورسوله وآثار الصحابة على ما يخالفها، والتحاكم إليها دون قول فلان ورأي فلان؟ وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعدَ الحقّ إلا الضلال فأنى تؤفكون؟

فإن قالت كلُّ فرقةٍ من المقلّدين، وكذلك يقولون: صاحبنا

(3)

هو الذي ثبتَ على ما مضى عليه السلف، واقتفى منهاجَهم، وسلك سبيلَهم، قيل لهم: فمَن سواه من الأئمة هل شارَك صاحِبَكم في ذلك أو انفرد صاحبُكم بالاتباع وحُرِمَه مَن عداه؟ فلا بدَّ من واحدٍ من الأمرين، فإن قالوا بالثاني فهم أضلُّ

(1)

البيت لصفي الدين الحلّي في «ديوانه» (ص 65) من قصيدة له في بحر الكامل، بتغيير طفيف للبيت الذي هنا من بحر الطويل، وضمّنه المؤلف في ميميته في «طريق الهجرتين» (1/ 112)، وأنشده شيخ الإسلام كما هنا في «منهاج السنة» (4/ 128، 5/ 162، 7/ 253، 459).

(2)

«وفلان» ساقطة من ت.

(3)

«صاحبنا» ساقطة من د.

ص: 57

سبيلًا من الأنعام، وإن قالوا بالأول فيقال: فكيف [15/ب] وُفِّقتم لقبول قول صاحبكم كلِّه، وردِّ قولِ من هو مثله أو أعلمُ منه كله، فلا يُرَدُّ لهذا قول، ولا يُقبَل لهذا قول، حتى كأنّ الصواب وقفٌ

(1)

على صاحبكم والخطأ وقفٌ على من خالفه، ولهذا أنتم موكَّلون بنصرته في كلّ ما قاله، وبالرد على من خالفه في كلّ ما قاله، وهذه حال الفرقة الأخرى معكم.

ويقال ثالث عشر: فمن قلّدتموه من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم، فأنتم أولُ مخالفٍ لهم.

قال الشافعي: مثلُ الذي يطلب العلم بلا حجةٍ كمثل حاطبِ ليلٍ، يَحمل حُزْمةَ حطبٍ، وفيه أفعى تلدغُه

(2)

، وهو لا يدري.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحلُّ لأحدٍ أن يقول بقولنا، حتى يعلمَ من أين قلناه.

وقال أحمد: لا تقلِّدْ دينَك أحدًا

(3)

.

ويقال رابع عشر: هل أنتم موقنون بأنكم غدًا

(4)

موقوفون بين يدي الله، وتُسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأَبْشارهم وأموالهم، وعما أفتيتم به في دينه محرّمين ومحلّلين ومُوجِبين؟ فمن قولهم:«نحن موقنون بذلك» ، فيقال لهم: فإذا سألكم مِن أين قلتم ذلك؟ فماذا جوابكم؟ فإن قلتم:

(1)

ع: «وقفا» هنا وفيما يأتي، على اعتبار أنها خبر «كان» .

(2)

ع: «وهو يلدغه» .

(3)

تقدم تخريج هذه الأقوال.

(4)

«غدا» ساقطة من ت.

ص: 58

جوابنا أنّا حلّلنا وحرّمنا وقضينا بما في كتاب «الأصل» لمحمد بن الحسن مما رواه عن أبي حنيفة وأبي يوسف من رأيٍ واختيار، وبما في «المدونة» من رواية سَحْنون عن ابن القاسم من رأيٍ واختيار، وبما في «الأم» من رواية الربيع من رأيٍ واختيار، وبما في جوابات غير هؤلاء من رأيٍ واختيار، وليتَكُم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم إليه أو سَمَتْ هِمَمُكم نحوه، بل نزلتم عن ذلك طبقاتٍ، فإذا سُئِلتم: هل فعلتم ذلك عن أمري أو أمر رسولي؟ فماذا يكون جوابكم إذًا؟ فإن أمكنكم حينئذٍ أن تقولوا: فعلْنا ما أمرتَنا به وأمرنا به رسولُك، فُزتم وتخلَّصتم، وإن لم يمكنكم ذلك فلا بدَّ أن تقولوا: لم تأمرنا بذلك ولا رسولك ولا أئمتنا، ولا بدَّ [16/أ] من أحد الجوابين، وكأنْ قَدْ

(1)

.

ويقال خامس عشر: إذا نزل عيسى ابن مريم إمامًا عدلًا وحكمًا مُقسِطا

(2)

، فبمذهبِ مَن يحكم؟ وبرأيِ مَن يقضي؟ ومعلوم أنه لا يحكم ويقضي

(3)

إلا بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم التي شرعَها لعباده؛ فذلك الذي يقضي به أحقُّ، وأولى الناسِ به عيسى ابن مريم هو الذي أوجب عليكم أن تَقضُوا وتُفتوا به

(4)

، ولا يحلُّ لأحدٍ أن يقضي ولا يفتي بشيء سواه البتَّةَ.

(1)

لمح إلى بيت النابغة الذبياني في «ديوانه» (ص 89):

أزِفَ الترحُّلُ غيرَ أن رِكابنا

لما تزلْ برِحالنا وكأنْ قَدِ

والمعنى: كأنه قد تحقَّق هذا الأمر، وقرُبَ وقت الوقوف بين يدي الله والسؤال عما قضيتم وأفتيتم به في دينه.

(2)

كما رواه مسلم (155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث متواتر.

(3)

ع: «لا يقضي ولا يحكم» .

(4)

ت: «تفتوا وتقضوا به» .

ص: 59

فإن قلتم: نحن وأنتم في هذا السؤال سواء، قيل: أجلْ، ولكن نفترق في الجواب، فنقول: يا ربنا إنك لتعلم أنّا لم نجعلْ أحدًا من الناس عِيارًا على كلامك وكلام رسولك، ونَرُدَّ

(1)

ما تنازعنا فيه إليه، ونتحاكَمْ إلى قوله، ونُقدِّمْ أقواله على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك، وكان الخلق عندنا أهْوَن أن نقدِّم كلامَهم وآراءَهم على وحيك، بل أفتينا بما وجدناه في كتابك، وبما وصل إلينا من سنة رسولك، وبما أفتى به أصحابُ نبيك، وإن عَدَلْنا عن ذلك فخطأٌ منا لا عَمْدٌ، ولم نتخذ من دونِك ولا رسولِك ولا المؤمنين وليجةً، ولم نفرِّق ديننا ونكون شِيَعًا، ولم نتقطَّعْ أمرَنا بيننا زُبرًا. وجعلنا أئمتنا قدوةً لنا، ووسائطَ بيننا وبين رسولك في نقلهم ما بلَّغوه إلينا عن رسولك

(2)

، فاتبعناهم في ذلك، وقلَّدناهم فيه، إذ أمرتَنا أنت وأمرنا رسولك بأن نسمع منهم، ونقبلَ

(3)

ما بلَّغوه عنك وعن رسولك، فسمْعًا لك ولرسولك وطاعةً. ولم نتخذْهم أربابًا نتحاكمُ إلى أقوالهم، ونُخاصِم بها، ونُوالي ونُعادي عليها، بل عرضنا أقوالَهم على كتابك وسنة رسولك، فما وافقهما قبِلناه، وما خالفهما أعرضْنا عنه وتركناه، وإن كانوا أعلمَ منّا بك وبرسولك، فمن وافق قولُه قولَ رسولك كان أعلمَ منهم في تلك المسألة. فهذا جوابنا، ونحن نُناشِدكم الله: هل أنتم كذلك حتى يُمكِنكم هذا الجواب بين يدي مَن لا يُبَدَّلُ القولُ لديه، ولا يَرُوجُ الباطل [16/ب] عليه؟

(1)

مجزوم عطفًا على «نجعلْ» ، وكذلك الفعلان «نتحاكمْ» و «نقدِّمْ» ، فتنسحب «لم» على جميع الأفعال، فيكون فيها معنى النفي، وفي نسخة ع:«لا نتحاكم» و «لا نقدم» . ولا داعي لزيادة «لا» .

(2)

«في نقلهم

رسولك» ساقطة من ت.

(3)

«ونقبل» ساقطة من ت.

ص: 60

ويقال سادس عشر: كل طائفة منكم ــ معاشرَ طوائف المقلّدين ــ قد أنزلتْ جميعَ الصحابة من أولهم إلى آخرهم وجميعَ التابعين من أولهم إلى آخرهم وجميع علماء الأمة من أولهم إلى آخرهم إلا من قلَّدوه= في مكانِ مَن

(1)

لا يُعتَدُّ بقوله، ولا يُنظر في فتاواه، ولا يُشتَغل بها، ولا يُعتَدُّ بها، ولا وجهَ للنظر فيها إلا للتمحُّل

(2)

وإعمالِ الفكر وُكْدَه في الردّ عليهم إذْ خالف قولُهم قولَ متبوعهم، وهذا هو المسوِّغ للردّ عندهم، فإذا خالف قولُ متبوعهم نصًّا عن الله ورسوله فالواجب التمحُّلُ والتكلُّف في إخراج ذلك النص عن دلالته، والتحيُّلُ لدفعه بكل طريق حتى يصح قولُ متبوعهم. فيا لله لدينه وكتابه وسنة رسوله ولبدعةٍ كادت تَثُلُّ

(3)

عرشَ الإيمان وتَهُدُّ

(4)

ركنَه، لولا أن الله ضمِنَ لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلّم بأعلامه ويذبُّ عنه. فمَن أسوأُ ثناءً على الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين، وأشدُّ استخفافًا بحقوقهم، وأقلُّ رعايةً لواجبهم، وأعظم استهانةً بهم، ممن لا يلتفت إلى قول رجل واحد منهم ولا إلى فتواه، غير صاحبه الذي اتخذه وليجةً من دون الله ورسوله؟

ويقال سابع عشر: من عجيب

(5)

أمركم أيها المقلّدون أنكم اعترفتم وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة الحق بدليله من كلام الله ورسوله، مع سهولته وقُرب مأخذه، واستيلائه على أقصى غايات البيان، واستحالةِ التناقض والاختلاف عليه؛ فهو نَقْل مصدَّق عن قائل معصوم، وقد نصبَ الله

(1)

«من» ساقطة من ت، ع.

(2)

«للتمحل» ساقطة من ع.

(3)

أي تهدم.

(4)

في هامش ع: «تهدم» برمز ظ.

(5)

ت: «عجب» .

ص: 61

سبحانه الأدلة الظاهرة على الحق وبيَّن لعباده ما يتقون، فادَّعيتم العجز عن معرفة ما نصبَ عليه الأدلة وتولَّى بيانه، ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أولى بالتقليد من غيره، وأنه أعلم الأمة [17/أ] وأفضلها في زمانه وهَلُمَّ جرًّا، وغلاة كل طائفة منكم توجب اتباعَه وتحرِّم اتباع غيره كما هو في كتب أصولهم. فعجبًا كلّ العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب الله عليه الأدلة من الحق، ولم يهتدِ

(1)

إليها، واهتدى إلى أن متبوعه أحقُّ وأولى بالصواب ممن عداه، ولم يَنْصِب الله على ذلك دليلًا واحدًا.

ويقال ثامن عشر: أعجبُ من هذا كله من شأنكم معاشرَ المقلّدين أنكم إذا وجدتم آية من كتاب الله توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنكم تأخذون بها، والعمدة في نفس الأمر على ما قاله، لا على الآية، وإذا وجدتم آيةً نظيرَها تخالف قوله لم تأخذوا بها، وتطلَّبتم لها وجوه التأويل وإخراجها عن ظاهرها حيث لم توافق رأيه، وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء

(2)

، إذا وجدتم حديثًا صحيحًا يوافق قوله أخذتم به، وقلتم: لنا قوله

(3)

صلى الله عليه وسلم كيتَ وكيتَ، وإذا وجدتم مائة حديث صحيح بل أكثر تخالف قوله لم تلتفتوا إلى حديث

(4)

منها، ولم يكن لكم منها حديث واحد فتقولون: لنا قوله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وإذا وجدتم مرسلًا قد وافق رأيه أخذتم به وجعلتموه حجة هناك، فإذا وجدتم مائة مرسلٍ تخالف رأيه اطَّرحتُموها كلّها من أولها إلى آخرها، وقلتم: لا نأخذ بالمرسل.

(1)

ت: «يهتدي» .

(2)

«سواء» ساقطة من ت.

(3)

د: «قول النبي» .

(4)

في ت بعدها: «واحد» .

ص: 62

ويقال تاسع عشر: أعجبُ من هذا أنكم إذا

(1)

أخذتم بالحديث

(2)

مرسلًا كان أو مسندًا لموافقته رأيَ صاحبكم، ثم وجدتم فيه حكمًا يخالف رأيه لم تأخذوا به في ذلك الحكم، وهو حديث واحد، وكأنّ الحديث حجة فيما وافق رأيَ من قلّدتموه، وليس بحجة فيما خالف رأيه.

ولنذكر من هذا طرفًا

(3)

فإنه من عجيب

(4)

أمرهم:

فاحتج طائفة منهم على سلب طهورية الماء المستعمل في رفع الحدث بأن النبي صلى الله عليه وسلم[17/ب] نهى أن يتوضأَ الرجلُ بفضلِ وضوء المرأةِ أو المرأةُ

(5)

بفضلِ وضوءِ الرجلِ

(6)

. وقالوا: الماء المنفصل عن أعضائهما هو فضل وضوئهما. وخالفوا نفس الحديث؛ فجوَّزوا لكلٍّ منهما أن يتوضأ بفضل طَهور

(7)

الآخر، وهو المقصود بالحديث، فإنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلَتْ بالماء، وليس عندهم للخلوة أثر، ولا لكون

(1)

«إذا» ساقطة من ت.

(2)

ع: «وجدتم الحديث» .

(3)

جميع هذه الأمثلة مأخوذة من كتاب «الإعراب عن الحيرة والالتباس الموجودين في مذاهب أهل الرأي والقياس» لابن حزم (ص 354 - 572).

(4)

ت: «أعجب» .

(5)

ت: «والمرأة» .

(6)

رواه أبو داود (81) ورواه النسائي (343) والترمذي (64) وابن ماجه (373) وأحمد (20657) من حديث الحكم بن عمرو الغفاري، وصححه ابن حبان (1260) والحميدي الأندلسي. انظر:«التنقيح» (1/ 43) و «صحيح أبي داود» - الأم (1/ 141).

(7)

ع: «وضوء» .

ص: 63

الفضلة فضلةَ امرأةٍ أثر، فخالفوا نفس الحديث الذي احتجُّوا به، وحملوا الحديث على غير محمله؛ إذ فضل الوضوء بيقين هو الماء الذي فَضَلَ منه، ليس هو الماء المتوضَّأ به، فإن ذلك لا يقال له فضل الوضوء، فاحتجوا به فيما لم يُرَدْ

(1)

به، وأبطلوا الاحتجاج به فيما أريد به.

ومن ذلك احتجاجهم على نجاسة الماء بالملاقاة وإن لم يتغيَّر بنهيه صلى الله عليه وسلم أن يُبالَ في الماء الدائم

(2)

، ثم قالوا: لو بال في الماء الدائم لم ينجِّسه حتى ينقص عن قلَّتين.

واحتجوا على نجاسته أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا استيقظَ أحدكم من نومه فلا يَغمِسْ يده في الإناء

(3)

حتى يغسلها ثلاثًا»

(4)

. ثم قالوا: لو غمَسَها قبل غَسْلها لم ينجس الماء، ولا يجب عليه

(5)

غسلها، وإن شاء أن يغمسها قبل الغسل فعلَ.

واحتجوا في هذه المسألة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحفْرِ الأرض التي بال فيها البائل وإخراجِ ترابها

(6)

، ثم قالوا: لا يجب حَفْرها، بل لو تركت حتى

(1)

ع: «لا يراد» .

(2)

رواه البخاري (239) ومسلم (282) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

د: «الماء» .

(4)

رواه البخاري (162) ومسلم (278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

ع: «عليها» .

(6)

رواه أبو يعلى (3626) والدارقطني (477) من طريق أبي بكر بن عياش عن سمعان بن مالك عن أبي وائل عنه، وأعلّه الدارقطني بجهالة سمعان، وأعلَّه ابن عبد الهادي بأبي هشام الرفاعي، قال البخاري: رأيتهم مجمعين على تضعيفه. وقال أبو زرعة: هذا الحديث منكر. وفي الباب عن أنس روي موصولًا ومرسلًا ولا يصح. وانظر: «التنقيح» لابن عبد الهادي (1/ 90 - 92).

ص: 64

يَبِسَتْ

(1)

بالشمس والريح طهرتْ.

واحتجوا على منع الوضوء بالماء المستعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب، إن الله كرِهَ لكم غُسالةَ أيدي الناس»

(2)

، يعني الزكاة. ثم قالوا: لا تحرم الزكاة على بني عبد المطلب.

واحتجوا على أن السمك الطافي إذا وقع في الماء لا ينجِّسه، بخلاف غيره من ميتة البرّ فإنه ينجِّس الماء، بقوله صلى الله عليه وسلم في البحر:«هو الطَّهور ماؤه الحِلُّ ميتتُه»

(3)

. [18/أ] ثم خالفوا هذا الخبر نفسه، وقالوا: لا يحلُّ ما مات في البحر من السمك، ولا يحلُّ شيء مما فيه أصلًا غير السمك.

واحتج أهل الرأي على نجاسة الكلب وولوغه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وَلَغَ الكلبُ في إناء أحدكم فليغسِلْه سبع مرّات»

(4)

. ثم قالوا: لا يجب غَسْله سبعًا، بل يغسل مرةً، ومنهم من قال ثلاثا.

واحتجوا على تفريقهم في النجاسة المغلَّظة بين قدر الدرهم وغيره

(1)

ع: «تنشف» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه أبو داود (83) والنسائي (59) والترمذي (69) وابن ماجه (386) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث صححه البخاري كما في «العلل الكبير» (ص 41)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة (111) وابن حبان (1243) والحاكم (1/ 140).

(4)

رواه البخاري (172) ومسلم (279) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 65

بحديث لا يصح، من طريق [ابن] غُطَيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه:«تُعاد الصلاةُ من قَدْرِ الدرهم»

(1)

. ثم قالوا: لا تُعاد الصلاة من قدر الدرهم.

واحتجوا بحديث علي بن أبي طالب في الزكاة في زيادة الإبل على عشرين ومائة أنها تُرَدُّ إلى أول

(2)

الفريضة فيكون في كل خمسٍ شاةٌ

(3)

، وخالفوه في اثني عشر موضعًا منه، ثم احتجوا بحديث عمرو بن حزم:«أن ما زاد على مائتي درهم فلا شيء فيه، حتى يبلغ أربعين فيكون فيها درهمٌ»

(4)

، وخالفوا الحديث نفسه في نصّ ما فيه في أكثر من خمسة عشر موضعًا.

(1)

رواه الدارقطني (1494) والبيهقي (2/ 404). قال البخاري: باطل، وحكم بوضعه ابن حبان في «المجروحين» (1/ 299)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 76)، والسيوطي في «اللآلئ المصنوعة» (2/ 4)، وملا علي القاري في «الأسرار المرفوعة» (ص 160)، وآفته روح بن غطيف يروي الموضوعات عن الثقات. وانظر:«السلسلة الضعيفة» (148).

(2)

ع: «أولى» .

(3)

رواه ابن أبي شيبة (10005) وأبو عبيد في «الأموال» (945)، ومن طريقه ابن زنجويه (1402) والبيهقي (4/ 92)، وأعلَّه الحازمي بالاختلاف على أبي إسحاق، واختلف في رفعه ووقفه ورجح الدارقطني الوقف. انظر:«الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار» (ص 14) و «علل» الدارقطني (4/ 73 - 75).

(4)

رواه ابن زنجويه (1683)، وصححه ابن حبان (6559)، وصححه الحاكم أيضًا (1/ 395) واختلف في وصله وإرساله، ورجح أبو داود في «المراسيل» (257) الإرسال. وانظر:«نصب الراية» (2/ 339 - 342).

ص: 66

واحتجوا على أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاثة أيام بحديث المصرَّاة

(1)

، وهذا من إحدى العجائب؛ فإنهم من أشدّ الناس إنكارًا له، ولا يقولون به، فإن كان حقًّا وجب اتباعُه، وإن لم يكن صحيحًا لم يَجُزِ

(2)

الاحتجاج به في تقدير الثلاث، مع أنه ليس في الحديث تعرُّضٌ لخيار الشرط؛ فالذي أريدَ بالحديث ودلَّ عليه خالفوه، والذي احتجوا عليه به لم يدلَّ عليه.

واحتجوا لهذه المسألة أيضًا بخبر حَبّان بن مُنقِذ الذي كان يُغْبَن في البيع، فجعل له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثة أيام

(3)

. وخالفوا الخبر كلَّه، فلم يثبتوا الخيار بالغَبْن ولو كان يساوي عُشُرَ معشارِ ما بذله فيه، وسواء قال المشتري «لا خِلابة» أو لم يقل، وسواء غُبِن قليلًا أو كثيرًا، لا خيار له في ذلك كله.

واحتجوا في إيجاب الكفّارة على من أفطر في نهار رمضان بأن في

(1)

رواه البخاري (2148) ومسلم (1524) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ت: «لم يجب» .

(3)

اختلفت القصة هل هي لمنقذ بن حبان أو ابنه حبان، فرواها ابن ماجه (2355) والدارقطني (3011) والبيهقي (5/ 273) لمنقذ، وإسناده حسن؛ وابن إسحاق صرح بالتحديث. وأمَّا قصة حبان فرواها المزني في «السنن المأثورة» (266) وابن الجارود (567) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (4858) والدارقطني (3008) والحاكم (2/ 22)، والبيهقي (5/ 273)، والحديث حسنه الألباني وصححه بشواهده شعيب الأرناؤوط، وأما رواية الاشتراط فهي منكرة لا أصل لها. انظر:«البدر المنير» (6/ 537 - 540) و «التلخيص الحبير» (3/ 49 - 50) و «السلسلة الصحيحة» (2875) و «سنن ابن ماجه» تحقيق الأرنؤوط (3/ 442 - 443).

ص: 67

بعض [18/ب] ألفاظ الحديث: أن رجلًا أفطر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفِّر

(1)

. ثم خالفوا هذا اللفظ بعينه فقالوا: إن استفَّ دقيقًا أو بلَعَ عجينًا أو إهْلِيْلَجًا

(2)

أو طِيبًا أفطر، ولا كفارة عليه.

واحتجوا على وجوب القضاء على من تعمَّد القيء بحديث أبي هريرة

(3)

، ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: إن تقيَّأ أقلَّ من مِلْء فيه فلا قضاء عليه.

واحتجوا على تحديد مسافة الفطر والقصر بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرةَ ثلاثة أيام إلا مع زوجٍ أو ذي مَحْرمٍ»

(4)

. وهذا مع أنه لا دليلَ فيه البتةَ على ما ادَّعَوه فقد خالفوه نفسه، فقالوا: يجوز للمملوكة والمكاتَبة وأم الولد السفرُ مع غير زوج ومَحْرم.

واحتجوا على منع المُحرِم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في الذي وَقَصَتْه ناقته وهو مُحرِم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تُخَمِّروا رأسَه ولا وجهَه، فإنه يُبعَث يوم القيامة ملبيًا»

(5)

. وهذا من العجب، فإنهم يقولون: إذا مات

(1)

رواه البخاري (1936) ومسلم (1111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

.

(2)

ثمر على هيئة حبِّ الصنوبر الكبار، وشجره ينبت في الهند وكابل والصين.

(3)

رواه أبو داود (2380) والترمذي (720) وحسنه، وابن ماجه (1676) وأحمد (10463)، وقال الدارقطني (2273): رواته كلهم ثقات، وصححه ابن حبان (3518) والحاكم (1/ 426) على شرط الشيخين، ووافقه الألباني، واحتجَّ به ابن تيمية. وانظر:«الإرواء» (4/ 51) و «مجموع الفتاوى» (25/ 221 - 222).

(4)

رواه مسلم (1340) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ قريب منه.

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 68

المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه، وقد بطل إحرامُه.

واحتجوا على إيجاب الجزاء على من قتل ضَبُعًا في الإحرام بحديث جابر أنه أفتى بأكلها وبالجزاء على قاتلها، وأسند ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

. ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا: لا يحلُّ أكلها.

واحتجوا فيمن وجبت عليه ابنةُ مخاضٍ فأعطى ثُلُثَي ابنة لَبونٍ تساوي بنتَ مخاض أو حمارًا يُساويها أنه يُجزِئه، بحديث أنس الصحيح وفيه:«من وجبتْ عليه ابنةُ مخاضٍ وليست عنده، وعنده ابنةُ لَبونٍ؛ فإنها تؤخذ منه، ويردُّ عليه الساعي شاتينِ أو عشرين درهمًا»

(2)

. وهذا من العجب، فإنهم لا يقولون بما دلَّ عليه الحديث من تعيين ذلك، ويستدلّون به على ما لم يدلَّ عليه بوجهٍ ولا أُرِيدَ به.

واحتجوا على إسقاط الحدود في دار الحرب إذا فعل المسلم [19/أ] أسبابها بحديث: «لا تُقطع الأيدي في الغزو»

(3)

، وفي لفظ:«في السفر»

(4)

. ولم يقولوا بالحديث؛ فإنّ

(5)

عندهم لا أثرَ للسفر ولا للغزو في ذلك.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

جزء من حديث أنس رضي الله عنه رواه البخاري (1453).

(3)

رواه الترمذي (1450) وأحمد (17626)، وفي إسناده ابن لهيعة وهو متكلم فيه، وتوبع بسعيد بن يزيد عند أحمد أيضًا (17627) من حديث بُسْر بن أرطاة، والحديث جوّده الذهبي. انظر:«فيض القدير» (6/ 417).

(4)

رواه أبو داود (4408) والنسائي (4979) وقواه ابن حجر في «الإصابة» (1/ 422).

(5)

ع: «فإنهم» .

ص: 69

واحتجوا في إيجاب الأضحية بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأضحية، وأن يُطعم منها الجار والسائل

(1)

. فقالوا: لا يجب أن يُطعَم منها جار ولا سائل.

واحتجوا في إباحة ما ذبحه غاصب أو سارق بالخبر الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دُعِي إلى طعام مع رَهْطٍ من أصحابه، فلما أخذ لقمةً قال: «إني أجد لحمَ شاةٍ أُخِذتْ

(2)

بغير حقّ» فقالت المرأة: يا رسول الله، إني أخذتُها من امرأة فلان بغير علم زوجها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُطعم الأسارى

(3)

. وقد خالفوا هذا الحديث، فقالوا

(4)

: ذبيحة الغاصب حلال، ولا تحرم على المسلمين.

واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «جَرح العَجْماء جُبَار»

(5)

في إسقاط الضمان بجناية المواشي، ثم خالفوه فيما دلَّ عليه وأُرِيد به، فقالوا: من ركبَ دابةً أو قادها أو ساقها فهو ضامن لما عَضَّتْ بفمها، ولا ضمانَ عليه فيما أتلفَتْ

(1)

رواه قوام السنة في «الترغيب والترهيب» (393)، من حديث معاذ رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نطعم من الضحايا الجار والسائل والمتعفف. وفي إسناده عبد الرحمن بن أنعم وابن لهيعة متكلم فيهما، والحديث عزاه السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 54) إلى ابن أبي شيبة.

(2)

«أخذت» ساقطة من ت.

(3)

رواه أبو داود (3332) وأحمد (22509) والدارقطني (4763) والبيهقي (5/ 335)، وجوَّد إسناده العراقي، وصححه ابن حجر، ووافقه الألباني. انظر:«التلخيص الحبير» (2/ 256)، و «المغني عن حمل الأسفار» (ص 581)، و «الإرواء» (3/ 196).

(4)

ت: «فقال» .

(5)

رواه البخاري (1499) ومسلم (1710) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 70

برجلها.

واحتجوا على تأخير القَوَد إلى حين البُرْء بالحديث المشهور أن رجلًا طعن آخر في ركبته بقَرْنٍ، فطلب القَوَد، فقال له

(1)

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حتى يبرأ» ، فأبى، فأقاده قبل أن يَبْرأ

الحديث

(2)

. وخالفوه في القصاص من الطعنة، فقالوا: لا يُقْتصُّ منها.

واحتجوا على إسقاط الحد عن الزاني بأمة ابنه أو أم ولده بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنتَ ومالُك لأبيك»

(3)

، وخالفوه فيما دلَّ عليه فقالوا: ليس للأب من مال ابنه شيء البتةَ، ولم يبيحوا له من مال ابنه عودَ أَراكٍ فما فوقه، وأوجبوا حَبْسَه في دَينه، وضمانَ ما أتلفَه عليه.

واحتجوا على أن الإمام يكبِّر إذا قال المقيم: «قد قامت الصلاة» بحديث بلال أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبقني بآمين»

(4)

، وبقول أبي

(1)

«له» ساقطة من د.

(2)

رواه أحمد (7034) من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ وفيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، ورواه الدارقطني (3114) من طريق ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وابن جريج عنعنه ولم يصح سماعه من عمرو بن شعيب، وخالفهما أيوب فرواه مرسلًا وحديثه مخرج عند عبد الرزاق (17988) ومن طريقه الدارقطني (3120). وللحديث شواهد يتقوى بها، وقد صححه الألباني. انظر:«الجوهر النقي» (8/ 68) و «الإرواء» (7/ 298).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

رواه أبو داود (937) وأحمد (23883) والطبراني (1124)، وصححه الحاكم (1/ 340). واختلف العلماء في وصله وإرساله، ورجح أبو حاتم والدارقطني الإرسال. انظر:«العلل» لابن أبي حاتم (2/ 206) و «فتح الباري» (2/ 263).

ص: 71

هريرة لمروان

(1)

: [19/ب]«لا تسبقني بآمين»

(2)

. ثم خالفوا الخبر جِهارًا فقالوا: لا يؤمّن الإمام ولا المأموم.

واحتجوا على مسح ربع الرأس بحديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسحَ بناصيته وعمامته

(3)

. ثم خالفوه فيما دلَّ عليه فقالوا: لا يجوز المسح على العمامة، ولا أثر للمسح عليها البتةَ؛ فإن الفرض سقط بالناصية، والمسح على العمامة غير واجب ولا مستحبّ عندهم.

واحتجوا لقولهم في استحباب مُساوَقة

(4)

الإمام بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعِل الإمام لِيؤتمَّ به»

(5)

، قالوا: والائتمام به يقتضي أن يفعل مثل فعله سواء. ثم خالفوا الحديث فيما دلَّ عليه، فإن فيه:«فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون»

(6)

.

واحتجوا على أن الفاتحة لا تتعيَّن في الصلاة بحديث المسيء في صلاته، حيث قال له:«اقرأْ ما تيسَّر معك من القرآن»

(7)

. وخالفوه فيما دلّ عليه صريحًا في قوله: «ثم اركَعْ حتى تطمئنَّ راكعًا، ثم ارفَعْ حتى تعتدلَ

(1)

«لمروان» ساقطة من د.

(2)

رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (1/ 156)، ووصله عبد الرزاق (2639).

(3)

رواه مسلم (247) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(4)

في هامش ع إشارة إلى أنه كان في الأصل: «مسابقة» .

(5)

رواه البخاري (378) ومسلم (411) من حديث أنس رضي الله عنه.

(6)

قطعة من الحديث السابق.

(7)

رواه البخاري (757) ومسلم (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

.

ص: 72

قائمًا، ثم اسجُدْ حتى تطمئنَّ ساجدًا»

(1)

، وقوله:«ارجعْ فصَلِّ فإنك لم تصلِّ»

(2)

، فقالوا: من ترك الطمأنينة فقد صلّى، وليس الأمر بها فرضًا لازمًا، مع أن الأمر بها وبالقراءة سواء في الحديث.

واحتجوا على إسقاط جلسة الاستراحة بحديث أبي حميد

(3)

حيث لم يذكرها فيه، وخالفوه في نفس ما دلَّ عليه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه.

واحتجوا على إسقاط فرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام في الصلاة، بحديث ابن مسعود:«فإذا قلتَ ذلك فقد تمّتْ صلاتك»

(4)

. ثم خالفوه في نفس ما دل عليه، فقالوا: صلاته تامة قال ذلك أو لم يقله.

واحتجوا على جواز الكلام والإمام على المنبر يوم الجمعة بقوله صلى الله عليه وسلم

(1)

قطعة من الحديث السابق.

(2)

قطعة من الحديث السابق.

(3)

في وصف صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم مخرَّج عند البخاري (828)، ورواه أيضًا أبو داود (963) والنسائي (1262) والترمذي (304) وابن ماجه (1061) وأحمد (23599)، وصححه الترمذي (260) وابن خزيمة (587) وابن حبان (1865).

(4)

اختلف فيه هل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو من كلام ابن مسعود، فروى الحديث أبو داود (970) وأحمد (4006) وأبو داود الطيالسي (273) من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الدارقطني (1334) وابن حبان وصححه (1962) والبيهقي (2/ 174) أنه من قول ابن مسعود وهو الصواب، ونقل النووي والعراقي الاتفاق على أنها مدرجة. انظر:«علل» الدارقطني (5/ 128) و «الفصل للوصل المدرج في النقل» (1/ 102)، و «شرح التبصرة والتذكرة» للعراقي (1/ 294) و «صحيح أبي داود» - الأم (4/ 121).

ص: 73

للداخل: «أصلَّيتَ قبل أن تجلس

(1)

[20/أ] يا فلانُ؟» قال: لا، قال:«قُمْ فاركع ركعتين»

(2)

. وخالفوه في نفس ما دلَّ عليه، فقالوا: من دخل والإمام يخطب جلسَ ولم يصلِّ.

واحتجوا على كراهية رفع اليدين في الصلاة بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما بالُهم رافعي أيديهم كأنها أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ»

(3)

. ثم خالفوه في نفس ما دلَّ عليه؛ فإن فيه: «إنما يكفي أحدَكم أن يسلِّم على أخيه من عن يمينه وشماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله»

(4)

، فقالوا: لا يحتاج إلى ذلك، ويكفيه غيره من كلِّ منافٍ للصلاة.

واحتجوا في استخلاف الإمام إذا أحدث بالخبر الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وأبو بكر يصلّي بالناس، فتأخَّر أبو بكر، وتقدَّم النبي صلى الله عليه وسلم فصلّى بالناس

(5)

. ثم خالفوه في نفس ما دلَّ عليه، فقالوا: مَن فعلَ مثل ذلك بطلتْ صلاته، وأبطلوا صلاة من فعلَ مثل فعلِ النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ومن حضر من الصحابة، فاحتجوا بالحديث فيما لم يدلَّ عليه، وأبطلوا العملَ به في نفس ما دلَّ عليه.

واحتجوا لقولهم إن الإمام إذا صلَّى جالسًا لمرضٍ صلَّى المأمومون خلفه قيامًا، بالخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج فوجد أبا بكر يصلّي

(1)

«قبل أن تجلس» ليست في ت، ع.

(2)

رواه البخاري (930) ومسلم (875) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم (430) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.

(4)

قطعة من الحديث السابق.

(5)

رواه البخاري (684) ومسلم (421) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

ص: 74

بالناس قائمًا، فتقدّم النبي صلى الله عليه وسلم وجلس فصلّى بالناس؛ وتأخر أبو بكر

(1)

. ثم خالفوا الحديث في نفس ما دلّ عليه، وقالوا: إن تأخَّر الإمام لغير حَدَثٍ وتقدَّم الآخر، بطلتْ صلاة الإمامين وصلاة جميع المأمومين.

واحتجوا على بطلان صوم مَن أكل يظنُّه ليلًا فبان نهارًا، بقوله صلى الله عليه وسلم:«إنّ بلالًا يؤذِّن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم»

(2)

. ثم خالفوا الحديث في نفس ما دلّ عليه، فقالوا: لا يجوز الأذان للفجر بالليل، لا في رمضان ولا في غيره. ثم خالفوه من وجه آخر، فإنّ في نفس الحديث:«وكان ابن أمّ مكتوم رجلًا أعمى لا يؤذِّن حتى يقال له: [20/ب] أصبحتَ أصبحتَ»

(3)

، وعندهم من أكل في ذلك الوقت بطل صومه.

واحتجوا على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالغائط بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تستقبلوا القبلةَ بغائطٍ ولا بولٍ ولا تستدبروها»

(4)

. وخالفوا الحديث نفسه، وجوَّزوا استقبالها واستدبارها بالبول.

واحتجوا على شرط الصوم في الاعتكاف بالحديث الصحيح عن عمر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلةً في المسجد الحرام، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره

(5)

. وهم لا يقولون بالحديث؛ فإن عندهم أن نذر الكافر لا ينعقد، ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام.

(1)

رواه البخاري (664) ومسلم (418) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه البخاري (622) ومسلم (1092) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

رواه البخاري (617) ومسلم (1092) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

رواه البخاري (144) ومسلم (264) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.

(5)

رواه البخاري (2032) ومسلم (1656).

ص: 75

واحتجوا على الردّ

(1)

بحديث: «تَحُوزُ المرأةُ ثلاثَ مواريثَ: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنتْ عليه»

(2)

. ولم يقولوا بالحديث في حيازتها مالَ لقيطِها، وقد قال به عمر بن الخطاب

(3)

وإسحاق بن راهويه

(4)

، وهو الصواب.

واحتجوا في توريث ذوي الأرحام بالخبر الذي فيه: «التمسوا له وارثًا أو ذَا رحمٍ» فلم يجدوا، فقال: «أعطوه الكُبْرَ

(5)

من خُزاعة»

(6)

. ولم يقولوا

(1)

الردّ: صورته أن الميت إن لم يخلِّف وارثًا إلّا ذوي فروض، ولا يستوعب المال، كالبنات والأخوات والجدات، فإن الفاضل عن ذوي الفروض يُردُّ عليهم على قدر فروضهم إلّا الزوج والزوجة. انظر «المغني» (9/ 48).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة (32228) عن الزهري أن عمر بن الخطاب أعطى ميراث المنبوذ للذي كفله، وإسناده منقطع، وصحَّ بوجه آخر عند عبد الرزاق (13840) عن ابن شهاب قال: حدثني أبو جميلة، أنه وجد منبوذًا على عهد عمر بن الخطاب، فأتاه فاتهمه، فأُثني عليه خيرًا، فقال عمر: هو حر، وولاؤه لك، ونفقته من بيت المال. والأثر علقه البخاري في «صحيحه» بصيغة الجزم (8/ 154) وصححه ابن حزم في «المحلى» (7/ 133). وانظر «فتح الباري» (12/ 39).

(4)

انظر: «مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه» (8/ 4389) و «الإجماع» لابن المنذر (ص 76) و «المغني» لابن قدامة (6/ 435).

(5)

ع: «الكثر» تصحيف. يقال: هو كُبْر قومه، أي أكبرهم في السنّ أو في الرياسة أو في النسب.

(6)

رواه أبو داود (2904) وأحمد (22944)، وفي إسناده جبريل بن الأحمر، وهو مختلف فيه، وحكم ابن كثيرعلى الحديث بالنكارة. انظر:«جامع المسانيد والسنن» (1/ 473) و «ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 398).

ص: 76

به في أن من لا وارثَ له يُعطى مالُه للكُبْر من قبيلته.

واحتجوا في منع القاتل ميراثَ المقتول بخبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «لا يَرِث قاتل»

(1)

و «لا يُقتَل مؤمن بكافر»

(2)

. فقالوا بأول الحديث دون آخره

(3)

.

واحتجوا على جواز التيمم في الحضر مع وجود الماء للجنازة إذا خاف فوتها، بحديث أبي جَهْم بن الحارث في تيمُّم النبي صلى الله عليه وسلم لردّ السلام

(4)

. ثم خالفوه فيما دلّ عليه في موضعين: أحدهما أنه تيمَّم بوجهه وكفَّيه دون ذراعَيه، والثاني أنهم لم يكرهوا ردَّ السلام للمُحْدِث، ولم يستحبوا التيمّم لردّ السلام.

واحتجوا في جواز الاقتصار في الاستنجاء على حجرين بحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجته، وقال له:«ائتِني [21/أ] بأحجار» ، فأتاه بحجرين ورَوثةٍ، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال:«هذه رِكْسٌ»

(5)

. ثم خالفوه فيما هو نصٌّ فيه، فأجازوا الاستجمار بالروث، واستدلّوا به على

(1)

رواه أبو داود (4564) والبيهقي (6/ 220)، والحديث إسناده حسن، وفي الباب أيضًا عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم. انظر:«التلخيص الحبير» (3/ 184) و «الإرواء» (6/ 117).

(2)

رواه أبو داود (2751) والترمذي (1413) وحسّنه، وابن ماجه (2659) وأحمد (6662)، وصححه ابن خزيمة (2280).

(3)

هما حديثان كما ذكرنا.

(4)

رواه البخاري (337)، ورواه مسلم معلقًا (369).

(5)

رواه البخاري (156).

ص: 77

ما لا يدل عليه من الاكتفاء بحجرين.

واحتجوا على أن مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم حاملًا أُمامة بنت أبي العاص بن الربيع، إذا قام حملَها وإذا ركع أو سجد وضعَها

(1)

، ثم قالوا: من صلَّى كذلك بطلتْ صلاته وصلاة من ائتمَّ به.

قال بعض أهل العلم

(2)

: ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة وتصحيحهم الصلاة بقراءة {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] بالفارسية، ثم يركع قدر نفس، ثم يرفع قدر حدّ السيف، أو لا يرفع بل يخِرُّ كما هو ساجدًا، ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه، وإن أمكن أن لا يضع ركبتيه صحَّ ذلك، ولا جبهته، بل يكفيه وضع رأس أنفه كقدر نفس واحد، ثم يجلس مقدار التشهد، ثم يفعل فعلًا ينافي الصلاة من فُساء أو ضُراط أو ضحكٍ أو نحو ذلك.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

إشارة إلى قصة القفال المروزي (ت 417) مع السلطان محمود الغزنوي، لما صلَّى بين يديه على مذهب أبي حنيفة، فتحوّل السلطان إلى مذهب الشافعي. وقد ساق القفّال نفسُه هذه القصة في «فتاويه» كما في «طبقات الشافعية» للسبكي (5/ 316)، ثم حكاها من بعده الجويني في «مغيث الخلق» (ص 57 - 59) وابن خلكان في «وفيات الأعيان» (5/ 180، 181) والذهبي في «السير» (17/ 486، 487). وشكّك فيها الكوثري وغيره، ونسوا أو تغافلوا أن صاحب القصة هو الذي حكاها أولًا في «فتاويه» ثم ذكرها الجويني وغيره، ولم يلفّقها الجويني، وإنما حكى ما كان معروفًا من أخبار القفال وسبب تحوُّل السلطان من المذهب الحنفي إلى المذهب الشافعي. وليس في كتب التاريخ ما ينفي ذلك، ولا في كتب الفقه الحنفي ما يخالف جواز تلك الصلاة في المذهب. وتصحيح الصلاة بقراءة {مُدْهَامَّتَانِ} بالفارسية مروي عن الإمام أبي حنيفة في «بدائع الصنائع» (1/ 112)، وكذا بقية المسائل.

ص: 78

واحتجوا على تحريم

(1)

وطء المَسْبيَّة والمملوكة قبل الاستبراء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُوطأ حاملٌ حتى تضعَ، ولا حائلٌ حتى تُستبرأ بحيضة»

(2)

. ثم خالفوا صريحَه فقالوا: إن أعتقها وزوَّجها وقد وطئها البارحةَ حلَّ للزوج أن يطأها الليلة.

واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة بخبر بنت حمزة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بها لخالتها

(3)

. ثم خالفوه فقالوا: لو تزوجت الخالة بغير محرم للبنت كابن عمها سقطت حضانتها.

واحتجوا على المنع من التفريق بين الأخوين بحديث علي في نهيه عن التفريق بينهما

(4)

. ثم خالفوه فقالوا: لا يُردُّ المبيع إذا وقع كذلك، وفي الحديث الأمرُ بردِّه.

واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذمي بخبر رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقادَ يهوديًّا من مسلمٍ لطَمَه

(5)

. ثم خالفوه فقالوا: [21/ب] لا قَوَد في

(1)

«تحريم» ساقطة من ت.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه البخاري (2699) من حديث البراء رضي الله عنه.

(4)

رواه الترمذي (1284) وابن ماجه (2249) وأحمد (800) من طريق حماد بن سلمة عن الحجاج عن الحكم عن ميمون بن أبي شبيب عنه به، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة كثير الخطأ والتدليس، وميمون لم يدرك عليًّا، والحديث له شواهد ومتابعات. قال ابن حجر في «بلوغ المرام» (814):«صححه ابن خزيمة، وابن حبان والحاكم» ، وهو في «المستدرك» (2/ 54). وانظر:«مسند أحمد» ط الرسالة (2/ 181 - 182).

(5)

رواه الدارقطني (3260) والبيهقي (8/ 31) من حديث ربيعة عن عبد الرحمن بن البيلماني عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. قال الدارقطني: ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله. وقال أبو عبيد: هذا حديث ليس بمسند، ولا يجعل مثله إمامًا يسفك به دماء المسلمين.

ص: 79

اللطمة والضربة، لا بين مسلمين ولا بين مسلم وكافر.

واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله صلى الله عليه وسلم: «من لَطمَ عبدَه فهو حرٌّ»

(1)

. ثم خالفوه فقالوا: لا يعتق بذلك. واحتجوا أيضًا بالحديث الذي فيه: «من مثَّل بعبده عَتَقَ عليه»

(2)

، فقالوا: لم يوجب عليه القَود. ثم قالوا: لا يعتق عليه.

واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه [عن جده]

(3)

: «في العين نصفُ الدية»

(4)

. ثم خالفوه في عدة مواضع

(5)

: منها قوله: «وفي العين القائمة السادَّة لموضعها ثلثُ الدية»

(6)

، ومنها قوله:«في السّن السوداء ثلثُ الدية»

(7)

.

(1)

رواه مسلم (1657) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ما بين المعكوفتين ليس في النسخ. و «عن أبيه» ساقطة من ت، ع.

(4)

رواه أبو داود (4564)، وأحمد (7092)، والبيهقي (8/ 91) من طريق محمد بن راشد عنه. والحديث صححه أحمد شاكر في تعليقه على «المسند» (6/ 456).

(5)

بعدها في ت، ع زيادة:«منه» .

(6)

رواه أبو داود (4567)، والنسائي (4840)، وفي «السنن الكبرى» (7015)، والدارقطني (3241)، والحديث حسنه الألباني في «الإرواء» (7/ 328) لكنه قيد ذلك بقوله:«إن كان العلاء حدث به قبل الاختلاط» .

(7)

رواه النسائي (4840)، وفي «السنن الكبرى» (7015)، وحسنه الألباني في «الإرواء» (7/ 328).

ص: 80

واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض بحديث النعمان بن بشير، وفيه:«أَشْهِدْ على هذا غيري»

(1)

. ثم خالفوه صريحًا فإن في الحديث نفسه: «إن هذا لا يَصلُح»

(2)

، وفي لفظ:«إني لا أَشهدُ على جَوْر»

(3)

، فقالوا: بل هذا يصلُح وليس بجور، ولكل أحدٍ أن يشهد عليه.

واحتجوا على أن النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث: «إذا وطئ أحدُكم الأذى بنعلَيْه فإنّ الترابَ لهما طَهورٌ»

(4)

. ثم خالفوه فقالوا: لو وطئ العَذِرةَ بخفَّيه لم يُطهِّرهما التراب.

واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشجَّة

(5)

. ثم خالفوه صريحًا فقالوا: لا يجمع بين الماء والتراب، بل إما أن يقتصر على غسل الصحيح إن كان أكثر ولا يتيمم، وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجريح أكثر ولا يغسل الصحيح.

واحتجوا على جواز تولية أمراء أو حكّام أو متولّين مرتَّبين واحدًا بعد واحدٍ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أميركم زيد، فإن قُتِل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فجعفر»

(6)

. ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا: لا يصح تعليق الولاية بالشرط،

(1)

رواه مسلم (1623/ 17) بهذا اللفظ.

(2)

رواه مسلم (1624) بهذا اللفظ.

(3)

رواه مسلم (1623/ 13) بهذا اللفظ.

(4)

رواه أبو داود (385) والطبراني في «الأوسط» (2759)، وصححه ابن خزيمة (292) وابن حبان (1403) والحاكم (1/ 166) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي الباب عن أبي سعيد وعائشة. انظر:«نصب الراية» (1/ 207).

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

رواه البخاري (4261) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 81

ونحن نشهد بالله أن هذه الولاية من [22/أ] أصحِّ ولايةٍ على وجه الأرض، وأنها أصحُّ من كل ولاياتهم من أولها إلى آخرها.

واحتجوا على تضمين المُتْلِف ما أتلفَه ويملك

(1)

هو ما أتلفه بحديث القَصْعة التي كسَرَتْها إحدى أمهات المؤمنين، فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبة القَصْعة نظيرها

(2)

. ثم خالفوه جهارًا فقالوا: إنما يُضمن بالدراهم والدنانير، ولا يُضمن بالمثل.

واحتجوا على ذلك أيضًا بخبر الشاة التي ذُبحت بغير إذن صاحبها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردَّها على صاحبها

(3)

. ثم خالفوه صريحًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُملِّكها الذابحَ، بل أمر بإطعامها الأُسارى.

واحتجوا في سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يُسرِع إليه الفساد بخبر: «لا قطْعَ في ثمرٍ ولا كَثَرٍ»

(4)

. ثم خالفوا الحديث نفسه

(5)

في عدة مواضع:

(1)

ع: «وتملكه» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

الكثر: جُمّار النخل، وهو شحمه الذي وسط النخلة. والحديث رواه أبو داود (4388) والنسائي (4960) والترمذي (1449) وابن ماجه (2593) وأحمد (15804) وابن حبان وصححه (4466) من حديث رافع بن خديج، وصححه أيضًا ابن الملقن في «البدر المنير» (8/ 657) وابن حجر في «الدراية» (2/ 109). وقد اختلف في وصله وإرساله. وانظر:«التلخيص الحبير» (4/ 121) و «الإرواء» (8/ 72).

(5)

لم أجده بهذه الزيادة أعني: «لا قطع في ثمر ولا كثر، فإذا آواه الجرين أو الجران قطع» . انظر: «الدراية» لابن حجر (2/ 109).

ص: 82

أحدها أن فيه: «فإذا آواه إلى الجَرِين ففيه القطع»

(1)

، وعندهم لا قطْعَ فيه آواه إلى الجرين أو لم يُؤوِه. الثاني: أنه قال: «إذا بلغ ثمنَ المِجَنّ»

(2)

، وفي «الصحيح»

(3)

أن ثمن المجنّ كان ثلاثة دراهم، وعندهم لا يقطع في هذا القدر. الثالث: أنهم قالوا: ليس الجرين حرزًا؛ فلو سرق منه تمرًا يابسًا ولم يكن هناك حافظ لم يقطع.

واحتجوا في مسألة الآبق يأتي به الرجل أن له أربعين درهمًا، بخبرٍ فيه أن من جاء بآبقٍ من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينار

(4)

. وخالفوه جهرةً فأوجبوا أربعين.

واحتجوا على

(5)

أن خيار الشفعة على الفور بحديث ابن البيلماني: «الشفعة كحلِّ العِقالِ، ولا شُفعةَ لصغيرٍ ولا لغائبٍ، ومن مثّل بعبده فهو حرٌّ»

(6)

. فخالفوا جميع ذلك إلا قوله: «الشفعة كحلِّ العِقال» .

(1)

رواه أبو داود (1710) والنسائي (4957) وابن ماجه (2596) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والحديث حسنه الترمذي (1289). وانظر:«صحيح أبي داود» - الأم (5/ 394).

(2)

ضمن الحديث السابق.

(3)

رواه البخاري (6795) ومسلم (1686) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

رواه ابن أبي شيبة (22370) من طريق ابن جريج عن عطاء عن عمرو بن دينار أو ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار مرسلًا، ورواه البيهقي (6/ 200) من طريق خصيف عن معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عمر، وفيه خصيف وهو متكلم فيه، ورجح البيهقي الإرسال على الاتصال.

(5)

«على» ليست في د.

(6)

رواه ابن ماجه (2500) والبزار (5405) والبيهقي (6/ 108) دون الجزء الأخير، وضعفه البيهقي بمحمد بن عبد الرحمن البيلماني ومحمد بن الحارث، وحكم ابن أبي حاتم بنكارته، وقال ابن حجر: إسناده ضعيف جدًّا. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (4/ 297) و «التلخيص الحبير» (3/ 125). وذكر الزيلعي في «نصب الراية» (4/ 177) أن ابن حزم روى هذا الحديث في «المحلى» من طريق البزار (8/ 17) وزاد فيه «ومن مثل بعبده فهو حر، وهو مولى الله ورسوله، والناس على شروطهم ما وافق الحق» ، ثم نقل الزيلعي عن ابن القطان ما يدلُّ أن هذه الزيادة ليست في حديث الشفعة، والظنُّ أن ابن حزم لفّق في حديث واحد، فقال ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 130): وهذه الزيادة ليست عند البزار في حديث الشفعة، ولكنه أورد حديث العبد بالإسناد المذكور حديثًا، وأورد أمر الشروط حديثًا، وأظن أن ابن حزم لما وجد ذلك كله بإسناد واحد لفّقه حديثًا، وأخذ تشنيعًا على الخصوم الآخذين لبعض ما روي بهذا الإسناد التاركين لبعضه. انتهى.

ص: 83

واحتجوا على امتناع القَوَد بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث: «لا يُقاد والد بولده ولا سيّدٌ بعبده»

(1)

. وخالفوا الحديث نفسه، فإن تمامه:«ومن مثّل بعبده فهو حرّ» .

[22/ب] واحتجوا على أن الولد يُلحَق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن وليدة زمعة، وفيه:«الولد للفِراش»

(2)

. ثم خالفوا الحديث نفسه صريحًا

(3)

فقالوا: الأمة لا تكون فراشًا وإنما كان هذا القضاء

(4)

في أمة،

(1)

رواه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (5329) والطبراني في «الأوسط» (8657)، وفي إسناده عمر بن عيسى القرشي متكلم فيه. وللحديث شواهد ومتابعات يتقوى بها، دون قوله:«ولا سيد بعبده» . انظر: «التنقيح» لابن عبد الهادي (4/ 466) و «الإرواء» (7/ 169، 267).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

«صريحا» ليست في ت.

(4)

«القضاء» ليست في ت.

ص: 84

ومن العجب أنهم قالوا: إذا عقد على أمه وابنته وأخته ووطئها لم يُحَدَّ للشبهة، وصارت فراشًا بهذا العقد الباطل المحرَّم، وأم ولده وسُرِّيته التي يطؤها ليلًا ونهارًا ليست فراشًا له.

ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنيةٍ يُنشِئها من النهار قبل الزوال بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عليها فيقول: «هل من غَداءٍ؟» فتقول: لا، فيقول:«فإني صائم»

(1)

. ثم قالوا: لو فعل ذلك في صوم التطوُّع لم يصحَّ صومه، والحديث إنما هو في التطوع

(2)

نفسه.

واحتجوا على المنع من بيع المدبَّر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية، وفي بيعه إبطالٌ لذلك، وأجابوا عن بيع النبي صلى الله عليه وسلم المدبَّر

(3)

بأنه باع خدمته. ثم قالوا: لا يجوز بيع خدمة المدبّر أيضًا.

واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شِرْكٍ في رَبْعَةٍ أو حائطٍ

(4)

. ثم خالفوا نصَّ الحديث نفسه، فإن فيه:«ولا يحلُّ له أن يبيع حتى يُؤذِن شريكه، فإن باع ولم يُؤذِنه فهو أحقُّ به» ، فقالوا: يحلّ له أن يبيع قبل إذنه، ويحلّ له أن يتحيَّل لإسقاط الشفعة، وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحقُّ أيضًا بالشفعة، ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه.

(1)

رواه مسلم (1154) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

ع: «صوم التطوع» .

(3)

رواه البخاري (2141) ومسلم (997) من حديث جابر رضي الله عنه

.

(4)

تقدم تخريجه. والرَّبْع: المنزل ودار الإقامة، والربعة أخص من الربع. انظر «النهاية» (2/ 189).

ص: 85

واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في الزيتون من الزيت أقلُّ من الزيت المفرد، بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم بالحيوان

(1)

. ثم خالفوه نفسه، فقالوا: يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير [23/أ] نوعه.

واحتجوا على أن عطية المريض المنجزة كالوصية لا تنفذ إلا في الثلث، بحديث عمران بن حُصين:«أن رجلًا أعتق ستة مملوكين عند موته لا مال له سواهم، فجزَّأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء وأقرعَ بينهم، فأعتقَ اثنين وأرقَّ أربعة»

(2)

. ثم خالفوه في موضعين؛ فقالوا: لا يُقرَع بينهم البتةَ، ويعتق من كل واحدٍ سدسُه.

وهذا كثيرٌ جدًّا، والمقصود أن التقليد حكمَ عليكم بذلك، وقادكم إليه قهرًا، ولو حكَّمتم الدليلَ على التقليد لم تقعوا في مثل هذا؛ فإن هذه الأحاديث إن كانت حقًّا وجب الانقياد لها والأخذُ بما فيها، وإن لم تكن صحيحة لم يؤخذ بشيء مما فيها، فأما أن تُصحَّح ويُؤخذ بها فيما وافق قولَ المتبوع، وتُضعَّف أو تُردّ إذا خالفتْ قوله أو تُؤوَّل= فهذا من أعظم الخطأ والتناقض.

فإن قلتم: عارضَ ما خالفناه منها ما هو أقوى منه، ولم يعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدولَ عنه واطِّراحَه.

قيل: لا تخلو هذه الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمةً، فإن كانت منسوخة لم يُحتجَّ بمنسوخٍ البتةَ، وإن كانت محكمةً لم يجز

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

رواه مسلم (1668) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما.

ص: 86

مخالفةُ شيء منها البتةَ.

فإن قيل: هي منسوخة فيما خالفناها فيه، ومحكمة فيما وافقناها فيه.

قيل: هذا مع أنه ظاهر البطلان يتضمّن ما لا

(1)

علمَ لمدَّعيه به، قائلٌ ما لا دليلَ عليه، فأقلُّ ما فيه أن معارضًا لو قَلَبَ عليه هذه الدعوى بمثلها سواءً، لكانت دعواه من جنس دعواه، ولم يكن بينهما فرقٌ، وكلاهما مدَّعٍ ما لا يمكنه إثباته؛ فالواجب اتباع سنن

(2)

رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل القاطع على نسخ المنسوخ منها، أو تُجمِع الأمة على العمل بخلاف شيء منها، وهذا الثاني محالٌ قطعًا، فإن الأمة ولله الحمد لم تُجمِع على ترك [23/ب] العمل بسنة واحدة، إلا سنةً ظاهرة النسخ معلومٌ للأمة ناسخها، وحينئذٍ يتعيَّن العمل بالناسخ دون المنسوخ، وأما أن تُترك السننُ لقول أحدٍ من الناس فلا، كائنًا من كان، وبالله التوفيق.

الوجه العشرون: أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفةَ أمر الله وأمر رسوله وهَدْي أصحابه وأحوال أئمتهم، وسلكوا ضدَّ طريق أهل العلم:

أما أمر الله فإنه أمر بردّ ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلّدون قالوا: إنما نردُّه إلى من قلَّدناه.

وأما أمر رسوله فإنه صلى الله عليه وسلم أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين

(3)

، وأمر أن يُتمسَّك بها، ويُعَضّ عليها بالنواجذ

(4)

،

(1)

د: «لما» .

(2)

ت: «سنة» .

(3)

بعدها في ت: «من بعده» .

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 87

وقال المقلّدون: بل عند الاختلاف نتمسّك بقول من قلّدناه، ونقدِّمه على كل ما عداه.

وأما هَدْي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلِّد رجلًا في جميع أقواله، ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يردُّ من أقواله شيئًا، ولا يقبل من أقوالهم شيئًا، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث.

وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نَهَوا عن تقليدهم وحذَّروا منه، كما تقدَّم ذكرُ بعضِ ذلك عنهم

(1)

.

وأما سلوكهم ضدَّ طريق أهل العلم فإن طريقهم طلبُ أقوال العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضُها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق ذلك منها قبلوه، ودانوا الله به، وقضَوا به، وأفتَوا به، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردُّوه، وما لم يتبيَّنْ لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغةَ الاتباع لا واجبةَ الاتباع، من غير أن يُلزِموا بها أحدًا، ولا يقولوا: إنها الحقُّ دون ما خالفها، هذه طريقة أهل العلم [24/أ] سلفًا وخلفًا.

وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق، وقلبوا أوضاعَ الدين، فزيَّفوا

(2)

كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وجميع أصحابه، فعرضوها على أقوال من قلَّدوه، فما وافقها منها قالوا لنا وانقادوا له مُذعِنين، وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا: احتجّ الخصم بكذا وكذا، ولم يقبلوه، ولم يدينوا به.

(1)

(3/ 38).

(2)

ع: «فرفضوا» .

ص: 88

واحتالَ فضلاؤهم في ردِّها بكل ممكن، وتطلَّبوا لها وجوه الحِيَل التي تردُّها، حتى إذا كانت موافقةً لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمةً فيها شنَّعوا على مُنازعِهم، وأنكروا عليه ردَّها بمثل تلك الوجوه بعينها، وقالوا: لا تُردُّ النصوص بمثل هذا. ومَن له همةٌ تسمو إلى الله ومرضاته ونَصْرِ الحق الذي بَعَثَ به رسولَه أين كان ومع من كان، لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخُلُق الذميم.

الوجه الحادي والعشرون: أن الله سبحانه ذمّ {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32]، وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم، بخلاف أهل العلم؛ فإنهم وإن اختلفوا لم يفرِّقوا دينهم ولم يكونوا شِيَعًا، بل شيعة واحدة متفقة على طلب الحق، وإيثارِه عند ظهوره، وتقديمِه على كلّ ما سواه، فهم طائفة واحدة قد اتفقت مقاصدهم وطريقهم؛ فالطريق واحد، والقصد واحد، والمقلّدون بالعكس: مقاصدهم شتَّى، وطُرُقهم مختلفة، فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق.

الوجه الثاني والعشرون: أن الله سبحانه ذمَّ الذين تقطَّعوا أمرهم بينهم زُبرًا، كل حزبٍ بما لديهم فرحون. والزُّبر: الكتب المصنَّفة التي رَغِبوا بها عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا [24/ب] أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 51 - 53] فأمر تعالى الرسلَ بما أمر به أُممَهم: أن يأكلوا من الطيبات، وأن يعملوا صالحًا، وأن يعبدوه وحده، ويطيعوا أمره وحده، وأن لا يتفرَّقوا في الدين؛

ص: 89

فمضت الرسل وأتباعهم على ذلك، ممتثلين

(1)

لأمر الله، قابلين لرحمته، حتى نشأت خلوفٌ قطعَّوا أمرهم بينهم زُبُرًا كلُّ حزب بما لديهم فرحون. فمن تدبَّر هذه الآيات ونزَّلها على الواقع تبيَّن له حقيقة الحال، وعَلِم من أيّ الحزبين هو، والله المستعان.

الوجه الثاني والعشرون

(2)

: أن الله سبحانه قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، فخصّ هؤلاء بالفلاح دون من عداهم، والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله، لا الداعون إلى رأي فلان وفلان.

الوجه الثالث والعشرون: أن الله سبحانه ذمّ من إذا دُعِي إلى الله وإلى رسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره، وهذا شأن أهل التقليد، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]، فكل من أعرض عن الداعي له إلى ما أنزل الله ورسولِه إلى غيره فله نصيبٌ من هذا الذمّ؛ فمستكثِرٌ ومستقِلٌ.

الوجه الرابع والعشرون: أن يقال لفرقة التقليد: دين الله عندكم واحد أو هو في القول وضدِّه، فدينُه هو الأقوال المختلفة المتضادّة التي يُناقِض بعضُها بعضًا، ويُبطِل بعضها بعضًا، كلها دين الله؟ فإن قالوا: بلى، هذه الأقوال المتضادّة المتعارضة التي يناقض بعضها بعضا كلُّها دين الله خرجوا

(1)

ع: «مسلّمين» .

(2)

تكرر في النسخ: «الوجه الثاني والعشرون» . فأبقيناه كما هو لئلا نغيّر ترقيم المؤلف، وفي المطبوعات:«الثالث والعشرون» . واستمر الترقيم على هذا فيما بعد.

ص: 90

عن نصوص أئمتهم؛ فإن جميعهم على أن الحق في واحد من الأقوال، كما أن القبلة في جهة من الجهات، وخرجوا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول الصريح، [25/أ] وجعلوا دين الله تابعًا لآراء الرجال.

وإن قالوا: الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد، وهو ما أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده، كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة، فمن وافقه فهو المصيب وله أجران، ومن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على خطئه.

قيل لهم: فالواجب إذًا طلبُ الحقّ، وبذلُ الاجتهاد في الوصول إليه بحسب الإمكان؛ لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة، وتقواه فِعلُ ما أمر به وترك ما نهى عنه؛ فلا بدَّ أن يعرف العبد ما أُمر به ليفعله وما نُهي عنه ليجتنبه وما أبيح له ليأتيه. ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلبٍ وتحرٍّ للحق، فإذا لم يأت بذلك فهو في عهدة الأمر، ويلقى الله ولما يَقْضِ

(1)

ما أمره.

الوجه الخامس والعشرون: أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة، والواجب على من بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه، وإن تنَّوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال. ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يَعرِضون ما يسمعون منه صلى الله عليه وسلم على أقوال علمائهم، بل لم يكن لعلمائهم قول غير قوله، فلم يكن أحد منهم يتوقَّف في

(2)

قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأيِ ذي رأي أصلًا،

(1)

«يقض» ساقطة من ت.

(2)

ت: «على» .

ص: 91

وكان هذا هو الواجب الذي لا يتمُّ الإيمان إلا به، وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلَّفين إلى يوم القيامة. ومعلوم أن هذا الواجب لم يُنسَخ بعد موته، ولا هو مختصٌّ بالصحابة؛ فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله.

الوجه السادس والعشرون: أن أقوال العلماء وآراءهم لا تنضبط ولا تنحصر، ولم تُضمَن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا؛ [25/ب] فلا يكون اتفاقهم إلا حقًّا، ومن المحال أن يُحِيلنا الله ورسوله على ما لا ينضبط ولا ينحصر، ولم يَضْمَن لنا عصمته من الخطأ، ولم يُقِم لنا دليلًا على أن

(1)

أحد القائلين أولى بأن نأخذ قولَه كلَّه من الآخر، بل يُترك قول هذا كلّه ويؤخذ قول هذا كله، هذا محال أن يشرعه الله أو يرضى به، إلا إذا كان أحد القائلينِ رسولًا والآخر كاذبًا على الله، فالفرض حينئذٍ ما يعتمده هؤلاء المقلدون مع متبوعهم ومخالفيهم

(2)

.

الوجه السابع والعشرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ»

(3)

، وأخبر أن العلم يقلُّ، فلا بدَّ من وقوع ما أخبر به الصادق، ومعلوم أن كتب المقلِّدين قد طبَّقتْ شرقَ الأرض وغربَها، ولم تكن في وقتٍ قطُّ أكثر منها في هذا الوقت. ونحن نراها كلَّ عامٍ في ازدياد وكثرة، والمقلّدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه، وشهرتها في الناس خلاف الغربة، بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره؛ فلو كانت هي العلم

(1)

«أن» ليست في ت.

(2)

ع: «ومخالفهم» .

(3)

رواه مسلم (145) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 92

الذي بعث الله به رسوله لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم في شهرة وظهور، وهو خلاف ما أخبر به الصادق.

الوجه الثامن والعشرون: أن الاختلاف كثير في كتب المقلدين وأقوالهم، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه، بل هو حق يصدِّق بعضه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض، وقد قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

الوجه التاسع والعشرون: أنه لا يجب على العبد أن يقلِّد زيدًا دون عمرو، بل يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد الآخر عند المقلدين، فإن كان قول من قلَّده أولًا هو الحق لا سواه فقد جوَّزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه، وهذا محال. وإن كان الثاني هو الحق وحده فقد جوَّزتم [26/أ] الإقامة على خلاف

(1)

الحق. وإن قلتم: القولان المتضادان المتناقضان حقٌّ، فهو أشدُّ إحالةً، ولا بدَّ لكم من قسم من هذه

(2)

الأقسام الثلاثة.

الوجه الثلاثون: أن يقال للمقلّد: بأي شيء عرفتَ أن الصواب مع من قلّدته دون من لا تقلّده؟ فإن قال: «عرفته بالدليل» فليس بمقلّد، وإن قال:«عرفته تقليدًا له؛ فإنه أفتى بهذا القول ودان به، وعلمُه ودينُه وحسنُ ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقول غير الحق» ، قيل له: فمعصومٌ هو عندك أم يجوز عليه الخطأ؟ فإن قال بعصمته أبطلَ، وإن جوَّز عليه الخطأ قيل له: فما

(1)

ت: «غير» .

(2)

د: «هؤلاء» .

ص: 93

يُؤمِنك أن يكون قد أخطأ فيما قلَّدتَه فيه وخالفه فيه غيره؟ فإن قال: وإن أخطأ فهو مأجور، قيل: أجل هو مأجور لاجتهاده، وأنت غير مأجور لأنك لم تأتِ بموجب الأجر، بل قد فرَّطتَ في الاتباع الواجب، فأنتَ إذًا مأزور. فإن قال: كيف يأجره الله على ما أفتى به ويمدحه عليه ويذمُّ المستفتيَ على قبوله منه؟ وهل يُعقل هذا؟ قيل: المستفتي إن قصَّر وفرَّط في معرفة الحق مع قدرته عليه لحِقَه الذمُّ والوعيد، وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور أيضًا، وأما المتعصب الذي جعل قول متبوعه عِيارًا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزِنها بها

(1)

، فما وافق قولَ متبوعه منها قبله وما خالفه ردَّه، فهذا إلى الذمّ والعقاب أقرب منه إلى الأجر والثواب. وإن قال ــ وهو الواقع ــ: اتبعتُه وقلّدته ولا أدري أعلى صواب هو أم لا، فالعهدة على القائل، وأنا حاكٍ لأقواله، قيل له: فهل تتخلَّص بهذا من الله عند السؤال لك عما حكمت به بين عباد الله وأفتيتهم به، فوالله إن للحكّام والمفتين لموقفًا للسؤال لا يتخلَّص فيه إلا من عَرَف الحقّ وحكم به وعرفَه وأفتى به، وأما من عداهما فسيعلم عند [26/ب] انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء.

الوجه الحادي والثلاثون: أن نقول: أخذتم بقول فلان؛ لأنّ فلانًا قاله أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله؟ فإن قلتم: «لأن فلانا قاله» جعلتم قول فلان حجة، وهذا عين الباطل، وإن قلتم:«لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله» كان هذا أعظم وأقبح؛ فإنه مع تضمُّنه للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقويلكم عليه

(2)

ما لم يقله، وهو أيضًا كذبٌ على المتبوع فإنه لم يقل: هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد دار

(1)

كذا في النسخ، توهُّمًا أن العيار بمعنى الميزان مؤنث، وليس كذلك.

(2)

ع: «تقولكم إليه» .

ص: 94

قولكم بين أمرين

(1)

لا ثالث لهما: إما جعْلُ قول غير المعصوم حجة، وإما تقويلُ المعصوم ما لم يقله، ولا بدَّ من واحدٍ من الأمرين.

فإن قلتم: «بل منهما بدٌّ، وبقي قسم ثالث، وهو أنا قلنا كذا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتبع من هو أعلم منا، ونسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم، ونردّ ما لم نعلمه إلى استنباط أولي العلم؛ فنحن في ذلك متبعون ما أمرنا به نبينا» .

قيل: وهل نُدندِن إلا حول اتباع أمره صلى الله عليه وسلم، فحيَّهلا بالموافقة على هذا الأصل الذي لا يتمُّ الإيمان والإسلام إلا به، فنناشدكم بالذي أرسله إذا جاء أمره وجاء قول من قلَّدتموه هل تتركون قوله لأمره صلى الله عليه وسلم، وتضربون به الحائط، وتحرّمون الأخذ به والحالة هذه حتى تتحقق المتابعة كما زعمتم، أم تأخذون بقوله وتفوّضون أمر الرسول إلى الله، وتقولون: هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا، ولم يخالف هذا الحديث إلا وهو عنده منسوخ أو معارَضٌ بما هو أقوى منه أو غير صحيح عنده؟ فتجعلون قولَ المتبوع محكمًا وقول الرسول متشابهًا؛ فلو كنتم قائلين بقوله لكون الرسول أمركم بالأخذ بقوله لقدَّمتم قول الرسول أين كان.

ثم نقول في الوجه الثاني والثلاثين: [27/أ] وأين أمركم الرسول بأخذ قولِ

(2)

واحدٍ

(3)

من الأمة بعينه، وترك قول نظيره ومن هو أعلم منه وأقرب إلى الرسول؟ وهل هذا إلا نسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنه أمر بما لم يأمر به قطُّ؟

(1)

ت: «أمركم بين اثنين» . ع: «أمركم بين أمرين» .

(2)

«قول» ساقطة من ع.

(3)

«واحد» ساقطة من ت.

ص: 95

يوضحه الوجه الثالث والثلاثون: أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم، فإن الله سبحانه أمر

(1)

بسؤال أهل الذكر، والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر الله نساء نبيه أن يذكرنه بقوله:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]، فهذا هو الذكر الذي أمرنا الله باتباعه، وأمر من لا علم عنده أن يسأل أهله، وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنزله على رسوله ليخبروه به، فإذا أخبروه به لم يَسَعْه غير اتباعه. وهذا كان شأن أئمة أهل العلم، لم يكن لهم مقلَّد معيَّن يتبعونه في كل ما قال؛ فكان عبد الله بن عباس يسأل الصحابة عما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله أو سنَّه

(2)

، لا يسألهم عن غير ذلك، وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصًا عائشة عن فِعْلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته

(3)

، وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن نبيهم فقط، وكذلك أئمة الفقه، كما قال الشافعي لأحمد: يا أبا عبد الله، أنت أعلم بالحديث مني؛ فإذا صح الحديث فأعلِمْني حتى أذهب إليه شاميًّا كان أو كوفيًّا أو بصريًّا

(4)

،

ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه فيأخذ به وحده ويخالف له ما سواه.

(1)

ع: «أمرنا» .

(2)

من ذلك قوله رضي الله عنهما لرجل من الأنصار: «هلمَّ فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير» ، رواه الدارمي (590) وابن سعد في «الطبقات» (2/ 368) والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/ 542)، والحاكم (1/ 106).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

رواه ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 70) ..

ص: 96

الوجه الرابع والثلاثون: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرشد المفتين

(1)

لصاحب الشجَّة بالسؤال عن حكمه وسنته، فقال:«قتلوه، قتلَهم الله»

(2)

، فدعا عليهم [27/ب] حين أفتوا بغير علم. وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد؛ فإنه ليس علمًا باتفاق الناس، فإن ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله

(3)

فهو حرام، وذلك أحد أدلة التحريم؛ فما احتجّ به المقلّدون هو من أكبر الحجج عليهم، والله الموفق. وكذلك سؤال أبي العَسِيف الذي زنى بامرأةِ مستأجرِه لأهل العلم؛ فإنهم لما أخبروه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البكر الزاني أقرَّه على ذلك ولم ينكره

(4)

؛ فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم.

الوجه الخامس والثلاثون: قولهم: إن عمر قال في الكلالة: إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر، وهذا تقليد منه له، فجوابه من خمسة أوجه:

أحدها: أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطُل استدلالهم به، ونحن نذكره بتمامه. قال شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي: إن أبا بكر قال في الكلالة: «أقضي فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنّي ومن الشيطان، والله منه بريء، هو ما دون الولد والوالد» ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:«إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر»

(5)

. فاستحيا

(1)

في المطبوع: «المستفتين» خلاف جميع النسخ.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ت: «دعا على فاعله رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 97

عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه، وأنه ليس كلامه كله صوابًا مأمونًا عليه الخطأ، ويدلُّ على ذلك أن عمر بن الخطاب أقرَّ عند موته أنه لم يقضِ في الكلالة بشيء، وقد اعترف أنه لم يفهمها

(1)

.

الوجه الثاني: أن خلاف عمر لأبي بكر أشهرُ من أن يُذكر، كما خالفه في سَبْي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر، وبلغ خلافه إلى أن ردَّهن حرائر إلى أهلهن

(2)

إلا من ولدت لسيدها منهن، ونقض حكمه

(3)

، ومن جملتهن خولة الحنفية أم محمد بن علي، فأين هذا من فعل المقلِّدين بمتبوعهم؟ وخالفه في أرض العنوة، [28/أ] فقسمها أبو بكر ووقفها عمر. وخالفه في المفاضلة في العطاء، فرأى أبو بكر التسوية ورأى عمر المفاضلة

(4)

. ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف، وصرّح بذلك فقال: إن أستخلِفْ فقد استخلف أبو بكر، وإن لم أستخلِفْ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف. قال ابن عمر: فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمتُ أنه لا يَعدِلُ برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا، وأنه غيرُ مستخلف

(5)

. فهكذا يفعل أهل

(1)

رواه عبد الرزاق (19194) من طريق عمرو بن دينار عن طاوس وذكره

، وطاوس لم يدرك عمر، وتوبع بابن المسيب عند إسحاق بن راهويه في «مسنده» كما في «المطالب العالية» (8/ 17)، ومرسل سعيد بن المسيب عن عمر مقبول. انظر:«الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (4/ 61) و «تهذيب الكمال» (11/ 66).

(2)

د: «أهليهن» .

(3)

انظر: «الأموال» لابن زنجويه (1/ 349) و «السنن الكبرى» للبيهقي (9/ 73 - 74).

(4)

رواه البخاري (4022).

(5)

رواه مسلم (1823).

ص: 98

العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول غيره، لا يعدِلُون بالسنة شيئًا سواها، لا كما يصرِّح به المقلّدون صُراحًا، وخلافه له في الجد والإخوة معلوم أيضًا

(1)

.

الثالث: أنه لو قُدِّر تقليدُ عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك مُستراحٌ لمقلّدي من هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يداني الصحابة ولا يقاربهم، فإن كان كما زعمتم لكم أسوة بعمر فقلِّدوا أبا بكر واتركوا تقليد غيره، والله ورسوله وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد ما لا يحمدونكم على تقليد غير أبي بكر.

الرابع: أن المقلِّدين لأئمتهم لم يستحيوا مما استحيا منه عمر؛ لأنهم يخالفون أبا بكر وعمر معه ــ ولا يستحيون من ذلك ــ لقول من قلَّدوه من الأئمة، بل قد صرَّح بعض غلاتهم

(2)

في بعض كتبه الأصولية أنه لا يجوز

(3)

تقليد أبي بكر وعمر، ويجب تقليد الشافعي. فيا لله العجب! الذي

(4)

أوجبَ تقليد الشافعي حرّم

(5)

عليكم تقليد أبي بكر وعمر! ونحن نُشهِد الله علينا شهادة نُسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صحّ عن الخليفتين الراشدين اللذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهما والاقتداء بهما

(6)

قولٌ، وأطبقَ

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

هو الجويني، ذكر ذلك في «مغيث الخلق» (ص 16 - 17، 27).

(3)

ت: «لا يجب» .

(4)

ع: «ما الذي» .

(5)

ع: «وحرّم» .

(6)

تقدم تخريجه.

ص: 99

أهل الأرض على خلافه= لم نلتفتْ إلى أحد منهم. ونحمد الله على أن عافانا مما ابتلى به من حرَّم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة.

وبالجملة فلو [28/ب] صحَّ تقليد عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحةٌ لمقلِّدي من لم يأمر الله ولا رسوله بتقليده، ولا جعله عِيارًا على كتابه وسنة رسوله، ولا هو جعل نفسه كذلك.

الخامس: أن غاية هذا أن يكون عمر قد قلَّد أبا بكر في مسألة، فهل في هذا دليل على جواز اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع، لا يُلتفَت إلى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت قولَه؟ فهذا واللهِ هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرَّم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة.

الوجه السادس والثلاثون: قولهم: إن عمر قال لأبي بكر: رأْيُنا لرأيك تَبَع؛ فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقلَ، فاقتصر من الحديث على هذه الكلمة، واكتفى بها، والحديث من أعظم الأشياء إبطالًا لقوله؛ ففي «صحيح البخاري»

(1)

عن طارق بن شهاب قال: جاء وفد بُزاخَة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألون الصلح، فخيَّرهم بين الحرب المُجْلِية والسلم المُخْزِية

(2)

، فقالوا: هذه المُجْلِية قد عرفناها فما

(1)

رقم (7221) باختصار، وساقه بطوله أبو بكر البرقاني في «مستخرجه» كما في «الفتح» (13/ 210)، والحميدي في «الجمع بين الصحيحين» (1/ 96).

(2)

المجلية من الجلاء، وهو الخروج من جميع المال، والمخزية من الخزي، وهو القرار على الذل والصَّغار.

ص: 100

المُخْزِية؟ قال: ننزِع منكم الحَلْقة والكُراع

(1)

، ونغنَم ما أصبنا منكم

(2)

، وتردُّون علينا ما أصبتم منّا، وتَدُون لنا قتلانا، وتكون قتلاكم في النار، وتتركون أقوامًا يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله والمهاجرين أمرًا يعذرونكم به. فعرضَ أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيتَ رأيًا، وسنُشير عليك، أما ما ذكرتَ من الحرب المجلية والسلم المخزية فنِعْم ما ذكرتَ، وأما ما

(3)

ذكرتَ من أن نغنم ما أصبنا منكم وتردُّون ما أصبتم منا فنِعْم ما ذكرتَ، وأما ما ذكرت تَدُون

(4)

قتلانا وتكون قتلاكم في النار، فإن قتلانا قاتلتْ فقُتِلت على أمرِ الله، أجورُها [29/أ] على الله ليس لها دياتٌ. فتتابع القوم على ما قال عمر. فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه:«قد رأيتَ رأيًا، ورأيُنَا لرأيك تَبَع»

(5)

فأيُّ مستراحٍ في هذا لفرقة التقليد؟

الوجه السابع والثلاثون: قولهم: «إن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر» ، فخلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يُتكلَّف إيراده، وإنما

(6)

كان يوافقه كما يوافق العالم العالم، وحتى لو أخذ بقوله تقليدًا لعمر

(7)

فإنما ذلك في نحو أربع مسائل نعدُّها، أو كان من عُمَّاله وكان عمر أمير المؤمنين. وأما مخالفته

(1)

الحلقة: السلاح. والكراع: جميع الخيل.

(2)

في النسخ: «لكم» . والمثبت من «الفتح» .

(3)

د: «وما» .

(4)

ت: «تدو» . د: «تدو من» .

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

ع: «وإن» .

(7)

«لعمر» ليست في ت، ع.

ص: 101

له ففي نحو مائة مسألة: منها: أن ابن مسعود صح عنه أن أم الولد تُعتَق من نصيب ولدها

(1)

، ومنها: أنه كان يُطبِّق في الصلاة

(2)

إلى أن مات، وعمر كان يضع يديه على ركبتيه

(3)

، ومنها: أن ابن مسعود كان يقول في الحرام: هي يمين

(4)

، وعمر يقول: طلقة واحدة

(5)

، ومنها: أن ابن مسعود كان يحرِّم نكاح الزانية على الزاني أبدًا

(6)

، وعمر كان

(7)

يتوِّبهما ويُنكِح أحدَهما الآخر

(8)

، ومنها: أن ابن مسعود كان يرى بيع الأمة طلاقها

(9)

، وعمر يقول: لا تَطلُق بذلك

(10)

، إلى قضايا كثيرة.

والعجب أن المحتجّين بهذا لا يرون تقليد ابن مسعود ولا تقليد عمر،

(1)

رواه عبد الرزاق (13214) وابن أبي شيبة (22012) من طريق الأعمش عن زيد بن وهب، وإسناده صحيح.

(2)

رواه مسلم (534).

(3)

رواه النسائي (1034) والترمذي (258)، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (149).

(4)

رواه عبد الرزاق (11366) وسعيد بن منصور (1693) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه، ومجاهد لم يسمع ابن مسعود رضي الله عنه، وله طريق أخرى عند ابن أبي شيبة (18488).

(5)

رواه عبد الرزاق (11391)، وفي إسناده إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص لم يدرك عمر.

(6)

رواه ابن أبي شيبة (17065) من طريق سالم بن أبي الجعد عن أبيه عنه به.

(7)

د: «وكان عمر» .

(8)

رواه الشافعي في «مسنده» (38)، وسعيد بن منصور (885).

(9)

رواه سعيد بن منصور (1942).

(10)

رواه سعيد بن منصور (1951).

ص: 102

وتقليدُ مالك وأبي حنيفة والشافعي أحبُّ إليهم وآثرُ عندهم، ثم كيف يُنسَب إلى ابن مسعود تقليد الرجال وهو يقول: لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلَمُهم بكتاب الله، ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلتُ إليه. قال شقيق: فجلستُ في حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما سمعتُ أحدًا يردُّ ذلك عليه

(1)

. وكان يقول: والذي لا إله إلا هو ما من كتاب الله سورةٌ إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيما أُنزِلتْ، ولو أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب الله مني تبلُغه الإبل لركبتُ إليه

(2)

.

وقال أبو موسى الأشعري: [29/ب] كنَّا حينًا وما نرى ابن مسعود وأمّه إلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، من كثرة دخولهم ولزومهم له

(3)

.

وقال أبو مسعود البدري وقد قام عبد الله بن مسعود: ما أعلمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلمَ بما أنزل الله من هذا القائم، فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا غِبْنا، ويُؤذَن له إذا حُجِبْنا

(4)

.

وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: إني بعثتُ إليكم عمّارًا أميرًا وعبد الله معلّمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فخذوا عنهما، واقتدوا بهما؛ فإني آثرتُكم بعبد الله على نفسي

(5)

.

(1)

رواه البخاري (5000) ومسلم (2462).

(2)

رواه البخاري (5002) ومسلم (2463).

(3)

رواه البخاري (3763) ومسلم (2460).

(4)

رواه مسلم (2461).

(5)

رواه أحمد بن حنبل في «الفضائل» (1546)، والطبراني (8478)، وصححه الحاكم (3/ 388).

ص: 103

وقد صح عن ابن عمر

(1)

أنه استفتى ابن مسعود في «البتّة» وأخذ بقوله

(2)

، ولم يكن ذلك تقليدًا له، بل لما سمع قوله فيها تبيَّن له أنه الصواب. فهذا هو الذي كان يأخذ به الصحابة من أقوال بعضهم بعضًا

(3)

، وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: اغْدُ عالمًا أو متعلمًا، ولا تكوننَّ إمَّعَةً

(4)

، فأخرجَ الإمّعة ــ وهو المقلّد ــ من زمرة العلماء والمتعلمين، وهو كما قال رضي الله عنه؛ فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلمين للعلم والحجة، كما هو معروف ظاهر لمن تأمَّله.

الوجه الثامن والثلاثون: قولهم: «إن عبد الله كان يدَع قوله لقول عمر، وأبو موسى كان

(5)

يدع قوله لقول علي، وكان زيد

(6)

يدع قوله لقول أبي بن كعب»

(7)

، فجوابه أنهم لم يكونوا يدَعون ما يعرفونه من السنة تقليدًا لهؤلاء الثلاثة كما تفعله فرقة التقليد، بل من تأمّل سيرة القوم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا يدعونها لقول أحدٍ كائنًا من كان، وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة

(8)

، وابن عباس ينكر على من يعارض ما

(1)

في الإحكام (4/ 214): (أن عمر استفتى ابن مسعود) وما ذكر أعلاه أن المستفتي هو ابن عمر، ليس بصواب، وسياق الكلام الذي قبله يدل عليه.

(2)

ذكره ابن حزم في «الإحكام» (4/ 214) بدون إسناد.

(3)

«فهذا

بعضًا» ساقطة من ت.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

«كان» ليست في ت، د.

(6)

«كان زيد» ساقطة من ت.

(7)

تقدم تخريجه.

(8)

من ذلك ما روي عن عمر أنه قال: «الخطبة موضع الركعتين، من فاتته الخطبة صلى أربعًا» رواه عبد الرزاق (5485) وابن أبي شيبة (5374)، وإسناده منقطع؛ لأن عمرو بن شعيب لم يدرك عمر، وخالفه ابنه فقال: «إذا أدرك الرجل ركعة يوم الجمعة صلى إليها أخرى

» رواه عبد الرزاق (5471) وإسناده صحيح، ودليل هذا القول ثابت في السنة عند النسائي (553)، والترمذي (524) وصححه، وابن ماجه (1122)، وصححه ابن خزيمة (1848) وابن حبان (1483) والحاكم (1/ 291).

ص: 104

بلغه من السنة بقوله: قال أبو بكر وعمر، ويقول:[30/أ] يُوشِك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون

(1)

: قال أبو بكر وعمر

(2)

. فرحم الله ابن عباس ورضي عنه، فوالله لو شاهد خلفنا هؤلاء الذين إذا قيل لهم: قال رسول الله؛ قالوا: قال فلان وفلان، لمن لا يداني الصحابة ولا قريبًا من قريب.

وإنما كانوا يدَعون أقوالهم لأقوال هؤلاء؛ لأنهم يقولون القول ويقول هؤلاء؛ فيكون الدليل معهم فيرجعون إليهم ويدعون أقوالهم، كما يفعل أهل العلم الذين هو أحب إليهم مما سواه، وهذا عكس طريقة فرقة التقليد من كل وجه، وهذا هو الجواب عن قول مسروق: ما كنتُ أدعُ قول ابن مسعود لقول أحد من الناس

(3)

.

الوجه التاسع والثلاثون: قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد سنَّ لكم معاذٌ فاتبعوه»

(4)

. فعجبًا لمحتجٍّ بهذا على تقليد الرجال في دين الله، وهل صار ما

(1)

ت، د:«تقولوا» .

(2)

رواه أحمد (3121) من طريق شريك عن الأعمش عن فضيل بن عمرو عن سعيد بن جبير عنه به، وفي إسناده شريك النخعي متكلم فيه، وله طريقان أخريان، الأولى: عند الطبراني في «المعجم الأوسط» (21)، والثانية: عند ابن عبد البر في «الجامع» (2/ 1210)، وابن حزم في «حجة الوداع» (ص 353).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 105

سنَّه معاذ سنةً إلا بقوله صلى الله عليه وسلم: «فاتبعوه» ، كما صار الأذان سنةً بقوله صلى الله عليه وسلم وإقراره وشرعه

(1)

، لا بمجرد المنام.

فإن قيل: فما معنى الحديث؟

قيل: معناه أن معاذًا فعل فعلًا جعله الله لكم سنة، وإنما صار سنة لنا حين أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، لا لأن معاذًا فعلَه فقط، وقد صحَّ عن معاذ أنه قال: كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلَّة عالم، وجدال منافقٍ بالقرآن؟ فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلِّدوه دينكم، وإن افْتُتِن فلا تقطعوا منه إياسَكم فإن المؤمن يُفتَتَن ثم يتوب، وأما القرآن فإنّ له منارًا كمنار الطريق لا يخفى على أحدٍ، فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدًا، وما لم تعلموه فكِلُوه إلى عالمه، وأما الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح، ومن لا فليستْ بنافعتِه دنياه

(2)

. فصدعَ رضي الله عنه بالحق، ونهى عن التقليد في كل شيء، وأمر باتباع ظاهر القرآن، وأن لا يُبالَى بمن خالف [30/ب] فيه، وأمر بالتوقُّف فيما أشكل، وهذا كلُّه خلاف طريقة المقلّدين، وبالله التوفيق.

الوجه الأربعون: قولكم: «إن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء، وطاعتُهم تقليدهم فيما يفتون به» ؛ فجوابه أن أولي الأمر قد قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد. والتحقيق: أن

(1)

حديث رؤيا الأذان رواه عبد الله بن زيد رضي الله عنه، وقد أخرجه أبو داود (499)، والترمذي وصححه (189)، وابن ماجه (706)، وأحمد (16477)، وصححه البخاري كما نقل البيهقي في «سننه الكبرى» (1/ 391)، وصححه ابن خزيمة (370، 371) وابن حبان (1679). انظر: «التنقيح» لابن عبد الهادي (3/ 51).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 106

الآية تتناول الطائفتين، وطاعتهم من طاعة الرسول، لكن خفي على المقلّدين أنهم إنما يُطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله ورسوله؛ فكان العلماء مبلِّغين لأمر الرسول، والأمراء منفِّذين له، فحينئذٍ تجب طاعتهم تبعًا لطاعة الله ورسوله، فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثارُ التقليد عليها؟

الوجه الحادي والأربعون: أن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم، وأعظمها إبطالًا للتقليد، وذلك من وجوه:

أحدها: الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه.

الثاني: طاعة رسوله، ولا يكون العبد مطيعًا لله ورسوله حتى يكون عالمًا بأمر الله ورسوله، ومن أقرَّ على نفسه بأنه ليس من أهل العلم بأوامر الله ورسوله

(1)

وإنما هو مقلّد فيها لأهل العلم= لم يُمكِنْه تحقيقُ طاعة الله ورسوله البتةَ.

الثالث: أن أولي الأمر قد نَهوا عن تقليدهم، كما صحَّ ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة، وذكرناه نصًّا عن الأئمة الأربعة وغيرهم

(2)

، وحينئذٍ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبةً بطل التقليد، وإن لم تكن واجبةً بطل الاستدلال.

الرابع: أنه سبحانه قال في الآية نفسها: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ

(1)

«ومن أقر

ورسوله» ساقطة من ع.

(2)

تقدم تخريجها.

ص: 107

وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ [30 مكرر/أ] بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، وهذا صريح في إبطال التقليد، والمنعِ من ردِّ المتنازَعِ فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد.

فإن قيل: فما هي طاعتهم المختصَّة بهم؟ إذ لو كانوا إنما يطاعون فيما يخبرون به عن الله ورسوله كانت الطاعة لله ورسوله لا لهم.

قيل: وهذا هو الحق، وطاعتهم إنما هي تَبَعٌ لا استقلال، ولهذا قرنَها بطاعة الرسول ولم يُعِدِ العامل، وأفرد طاعة الرسول وأعاد العامل، لئلّا يُتوهَّم أنه إنما يطاع تبعًا كما يطاع أولو الأمر تبعًا، وليس كذلك، بل طاعته واجبة استقلالًا، كان ما أمر به ونهى عنه في القرآن أو لم يكن.

الوجه الثاني والأربعون: قولهم: «إن الله ــ سبحانه وتعالى ــ أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وتقليدهم هو اتباعهم بإحسان» ، فما أصدقَ المقدمةَ الأولى، وما أكذبَ الثانية! بل الآية من أعظم الأدلة ردًّا على فرقة التقليد؛ فإن اتباعهم هو سلوك سبيلهم ومنهاجهم، وقد نهوا عن التقليد وكون الرجل إمَّعةً، وأخبروا أنه ليس من أهل البصيرة، ولم يكن فيهم ــ ولله الحمد ــ رجل واحد على مذهب هؤلاء المقلدين، وقد أعاذهم الله وعافاهم مما ابتلى به من يردّ النصوص لآراء الرجال وتقليدها؛ فهذا ضدُّ متابعتهم، وهو نفس مخالفتهم؛ فالتابعون لهم بإحسانٍ حقًّا هم أولو العلم والبصائر، الذين لا يقدِّمون على كتاب الله وسنة رسوله رأيًا ولا قياسًا ولا معقولًا ولا قولَ أحد من العالمين، ولا يجعلون مذهب رجلٍ عِيارًا على القرآن والسنن؛ فهؤلاء أتباعهم حقًّا، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته.

ص: 108

يوضِّحه الوجه الثالث والأربعون: أن أتباعهم لو كانوا هم المقلدين الذين هم مُقرّون على أنفسهم وجميعُ أهل العلم أنهم ليسوا من أولي العلم

(1)

، [30 مكرر/ب] لكان سادات العلماء الدائرون مع الحجة ليسوا من أتباعهم، والجهّال أسعدُ بأتباعهم منهم، وهذا عين المحال، بل من خالف واحدًا منهم للحجة فهو المتبع له، دون من أخذ قوله بغير حجة، وهكذا القول في أتباع الأئمة رضي الله عنهم، معاذَ الله أن يكونوا هم المقلدين لهم الذين يُنزِلون آراءهم منزلة النصوص، بل يتركون لها النصوص؛ فهؤلاء ليسوا من أتباعهم، وإنما أتباعهم من كان على طريقتهم واقتفى منهاجَهم.

ولقد أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي

(2)

وهي وقف على الحنابلة، والمجتهد ليس منهم، فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد، لا على تقليدي له. ومن المحال أن يكون هؤلاء المتأخرون على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلّدونهم، فأتبعُ الناس لمالك ابنُ وهب وطبقته ممن يُحكِّم الحجة وينقاد للدليل أين كان، وكذلك أبو يوسف ومحمد أتبعُ لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفتهما له، وكذلك البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتبعُ له من المقلدين المحض

(1)

ع: «أهل العلم» .

(2)

هي المدرسة الحنبلية بدمشق، التي وقفها الشيخ عبد الوهاب بن أبي الفرج الحنبلي المتوفى سنة 536. درَّس فيها شيخ الإسلام سنة 695 عوضًا عن زين الدين بن المنجَّى بعد وفاته. انظر «البداية والنهاية» (17/ 684، 685) و «الدارس في تاريخ المدارس» (2/ 64، 73، 74).

ص: 109

المنتسبين

(1)

إليه، وعلى هذا فالوقف على أتباع الأئمة أهلِ الحجة والعلم أحقُّ به من المقلدين في نفس الأمر.

الوجه الرابع والأربعون: قولهم: يكفي في صحة التقليد الحديثُ المشهور: «أصحابي كالنجوم، بأيِّهم اقتديتم اهتديتم»

(2)

جوابه من وجوه:

أحدها: أن هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر، ولا يثبت شيء منها

(3)

.

قال ابن عبد البر

(4)

: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد الله بن مفرِّج

(5)

حدّثهم ثنا محمد بن أيوب [31/أ] الصَّموت قال: قال لنا البزار: وأما ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم «أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم» فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن يقال لهؤلاء المقلدين: فكيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي يُهتدى بها وقلّدتم من هو دونهم بمراتب كثيرة؟ فكان تقليد مالك

(1)

ت: «المحض له من المنتسبين» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

انظر: «الإحكام» لابن حزم (6/ 83).

(4)

في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 924). وعنه ابن حزم في «الصادع» (ص 559)، وفيهما بقية كلام البزار.

(5)

في المطبوع: «مفرح» تصحيف. وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى بن مفرج القرطبي، محدث حافظ جليل صاحب مؤلفات. توفي سنة 380. انظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 390).

ص: 110

والشافعي وأبي حنيفة وأحمد آثرَ عندكم من تقليد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فما دلَّ عليه الحديث خالفتموه صريحًا، واستدللتم به على تقليد من لم يتعرض له بوجه.

الثالث: أن هذا يوجب عليكم تقليدَ من ورَّث الجدَّ مع الإخوة

(1)

منهم ومن أسقط الإخوةَ به معًا

(2)

(3)

، وتقليدَ من قال: الحرام يمين

(4)

، ومن قال: هو طلاق

(5)

، وتقليدَ من حرَّم الجمع بين الأختين بملك اليمين

(6)

ومن أباحه

(7)

، وتقليدَ من جوّز للصائم أكل البَرَد

(8)

ومن منعَ منه، وتقليدَ من قال: تعتدُّ المتوفَّى عنها بأقصى الأجلين

(9)

، ومن قال: بوضع الحمل

(10)

، وتقليدَ من قال: يحرم على المحرم استدامة الطِّيب

(11)

، وتقليدَ من

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

ت: «تبعًا» . والكلمة ساقط من ع.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

كعلي رضي الله عنه، وقوله مخرج عند سعيد بن منصور (1727) وابن أبي شيبة (16507).

(7)

كعثمان رضي الله عنه، وقوله مخرج عند ابن أبي شيبة (16512).

(8)

كأبي طلحة، وفعله مخرج عند البزار (7427، 7428) وأبي يعلى (1424) وعبد الله بن أحمد في زوائده على «المسند» (13971)، وقال البزار:«ولا نعلم هذا الفعل إلا عن أبي طلحة» .

(9)

رواه البخاري (4909) ومسلم (1485) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(10)

رواه البخاري (4910) عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(11)

كعمر رضي الله عنه، وقوله رواه البخاري (5914) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 111

أباحه

(1)

، وتقليد من جوَّز بيع الدرهم بالدرهمين

(2)

، وتقليدَ من حرَّمه

(3)

، وتقليدَ من أوجب الغسل من الإكسال

(4)

،

وتقليدَ من أسقطه

(5)

، وتقليد من ورَّث ذوي الأرحام

(6)

ومن أسقطهم

(7)

، وتقليدَ من رأى التحريم برضاع الكبير

(8)

ومن لم يره

(9)

، وتقليد من منعَ تيممَ الجنب

(10)

ومن أوجبه

(11)

، وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدةً

(12)

ومن رآه ثلاثًا

(13)

، وتقليد من

(1)

كعائشة رضي الله عنها، وحديثها رواه البخاري (1539) ومسلم (1189).

(2)

وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما رواه البخاري (2178) ومسلم (1596) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ولكن ابن عباس رجع عن قوله كما عند الحاكم وصححه (2/ 42).

(3)

كأبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وتقدم تخريجه.

(4)

منهم أبو هريرة رضي الله عنه، وقوله مخرج عند عبد الرزاق (940) وابن أبي شيبة (937) ..

(5)

منهم عثمان رضي الله عنه، وقوله مخرج عند البخاري (292) ومسلم (347).

(6)

منهم ابن مسعود رضي الله عنه، وقوله مخرج عند عبد الرزاق (19115)، وفي إسناده: محمد بن سالم الهمداني متكلم فيه، والشعبي لم يسمع من ابن مسعود رضي الله عنه.

(7)

منهم زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقوله مخرج عند سعيد بن منصور (5) والبيهقي (6/ 213).

(8)

منهم عائشة رضي الله عنها، وقولها مخرج عند مسلم (1454).

(9)

سائر أمهات المؤمنين، وقولهن عند مسلم (1454).

(10)

منهم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وقوله مخرج عند البخاري (338) ومسلم (368).

(11)

منهم علي رضي الله عنه، وقوله عند ابن أبي شيبة (1675).

(12)

منهم أبو بكر رضي الله عنه، وقوله عند مسلم (1472).

(13)

منهم عمر رضي الله عنه، وقوله عند مسلم (1472).

ص: 112

أوجب فسخَ الحج إلى العمرة

(1)

ومن منع منه

(2)

، وتقليد من أباح لحوم الحُمر الأهلية

(3)

ومن منع منها

(4)

، وتقليد من رأى النقض بمسّ الذكر

(5)

ومن لم يره

(6)

، وتقليد من رأى بيعَ الأمة طلاقها

(7)

ومن لم يره

(8)

،

وتقليد من وقف المُولِيَ عند الأجل

(9)

ومن لم يَقِفْه

(10)

، وأضعاف أضعاف ذلك مما اختلف فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن سوَّغتم هذا [31/ب] فلا تحتجُّوا لقولٍ على قول، ومذهبٍ على مذهب، بل اجعلوا الرجل مخيَّرًا في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم، ولا تنكروا على من خالف مذاهبكم واتبع قول أحدهم، وإن لم تسوِّغوه فأنتم أول مُبطلٍ لهذا الدليل ومخالف له، وقائل بضدّ مقتضاه، وهذا مما لا انفكاكَ لكم منه.

الرابع: أن الاقتداء بهم هو اتباع القرآن والسنة، والقبول من كل من دعا إليهما منهم؛ فإن الاقتداء بهم يحرِّم عليكم التقليد، ويوجب الاستدلال وتحكيمَ الدليل، كما كان عليه القوم رضي الله عنهم، وحينئذٍ فالحديث من أقوى

(1)

كابن عباس رضي الله عنهما، وقوله عند مسلم (1244).

(2)

كعثمان رضي الله عنه، وقوله عند مسلم (1223).

(3)

كابن عباس رضي الله عنه، وقوله عند البخاري (5529) ومسلم (1939).

(4)

منهم علي رضي الله عنه عند البخاري (5115) ومسلم (1407).

(5)

منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عند مالك (59).

(6)

منهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عند عبد الرزاق (429).

(7)

وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه، وتقدم تخريجه.

(8)

وهو قول عمر رضي الله عنه، وتقدم تخريجه ..

(9)

وهو المأثور عن جمع من الصحابة. انظر: السنن الكبرى للبيهقي (7/ 378).

(10)

وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه عند عبد الرزاق (11641).

ص: 113

الحجج عليكم، وبالله التوفيق.

الوجه الخامس والأربعون: قولكم: قال عبد الله بن مسعود: «من كان مستنًّا منكم

(1)

فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد»

(2)

، فهذا من أكبر الحجج عليكم من وجوه:

فإنه نهى عن الاستنان بالأحياء، وأنتم تقلّدون الأحياء والأموات.

الثاني: أنه عيَّن المستنَّ بهم بأنهم خير الخلق وأبرُّ الأمة وأعلمهم، وهم الصحابة رضي الله عنهم، وأنتم ــ معاشرَ المقلِّدين ــ لا ترون تقليدهم ولا الاستنانَ بهم، وإنما ترون تقليد فلان وفلان ممن هو

(3)

دونهم بكثير.

الثالث: أن الاستنان بهم هو الاقتداء بهم، وهو بأن يأتي المقتدي بمثل ما أتوا به، ويفعل كما فعلوا، وهذا يُبطل قبول قول أحد بغير حجة كما كان الصحابة عليه.

الرابع: أن ابن مسعود قد صح عنه النهيُ عن التقليد، وأن لا يكون الرجل إمَّعةً لا بصيرةَ له

(4)

؛ فعلم أن الاستنان عنده غير التقليد.

الوجه السادس والأربعون: قولكم: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»

(5)

، وقال:

(1)

د: «منكم مستنًا» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ت: «هم» .

(4)

تقدم تخريجهما.

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 114

«اقتدُوا باللذين من بعدي»

(1)

، فهذا من أكبر حُججنا عليكم [32/أ] في بطلان ما أنتم عليه من التقليد؛ فإنه خلاف سنتهم، ومن المعلوم بالضرورة أن أحدًا منهم لم يكن يدع السنة إذا ظهرت لقول غيره كائنًا من كان، ولم يكن له معها قول البتةَ، وطريقةُ فرقةِ التقليد خلاف ذلك.

يوضّحه الوجه السابع والأربعون: أنه صلى الله عليه وسلم قرن سنتهم بسنته

(2)

في وجوب الاتباع، والأخذُ بسنتهم ليس تقليدًا لهم، بل اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الأخذ بالأذان لم يكن تقليدًا لمن رآه في المنام، والأخذ بقضاء ما فات المسبوقَ من صلاته بعد سلام الإمام لم يكن تقليدًا لمعاذ، بل اتباعًا لمن أمرنا بالأخذ بذلك، فأين التقليد الذي أنتم عليه من هذا؟

يوضحه الوجه الثامن والأربعون: أنكم أول مخالف لهذين الحديثين؛ فإنكم لا ترون الأخذ بسنتهم ولا الاقتداء بهم واجبًا، وليس قولهم عندكم حجة، وقد صرَّح بعض غُلاتكم

(3)

بأنه لا يجوز تقليدهم، ويجب تقليد الشافعي، فمن العجائب احتجاجكم بشيء أنتم أشدُّ الناس خلافًا له، وبالله التوفيق.

يوضحه الوجه التاسع والأربعون: أن الحديث بجملته حجة عليكم من كل وجه، فإنه أمرَ عند كثرة الاختلاف بسنته وسنة خلفائه، وأمرتم أنتم برأي فلان ومذهب فلان.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

ت: «سنته بسنتهم» .

(3)

سبق ذكره (ص 99).

ص: 115

الثاني: أنه حذّر من محدثات الأمور، وأخبر أن كلّ محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، ومن المعلوم بالاضطرار أنّ ما أنتم عليه من التقليد الذي تُرِك له كتاب الله وسنة رسوله، ويُعرض القرآنُ والسنة عليه، ويُجعل معيارًا عليهما= من أعظم المحدثات والبدع التي برَّأ الله سبحانه منها القرونَ الثلاثة

(1)

التي فضّلها وخيّرها على غيرها.

وبالجملة فما سنَّه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة لا يجوز العدولُ عنها، فأين هذا من قول فرقة التقليد: ليست سنتهم [32/ب] حجة، ولا يجوز تقليدهم فيها؟

يوضّحه الوجه الخمسون: أنه صلى الله عليه وسلم قال في نفس هذا الحديث: «فإنه مَن يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا»

(2)

، وهذا ذمٌّ للمختلفين، وتحذيرٌ من سلوك سبيلهم، وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد، وأهلُه هم الذين فرَّقوا الدين وصيّروا أهله شِيَعًا، كل فرقة تنصر متبوعها وتدعو إليه، وتذمُّ من خالفها ولا يرون العمل بقولهم، حتى كأنهم ملة أخرى سواهم، يدأبون ويكدحون في الرد عليهم، ويقولون: كتبُهم وكتبنا، وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا.

هذا، والنبي واحد والقرآن واحد والدين واحد والرب واحد؛ فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواءٍ بينهم كلهم: أن لا يطيعوا إلا الرسول، ولا يجعلوا

(3)

معه من تكون أقواله كنصوصه، ولا يتخذَ بعضهم

(1)

«الثلاثة» ليست في ت، ع.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ت: «يجعلون» .

ص: 116

بعضًا أربابًا من دون الله. فلو اتفقت كلمتهم على ذلك، وانقاد كلٌّ منهم لمن دعاه إلى الله ورسوله، وتحاكموا كلُّهم إلى السنة وآثار الصحابة= لقلَّ الاختلاف وإن لم يُعدَم من الأرض؛ ولهذا تجد أقلَّ الناس اختلافًا أهل السنة والحديث؛ فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقًا وأقلّ اختلافًا منهم لما بَنَوا على هذا الأصل، وكلما كانت الفرقةُ عن الحديث أبعدَ كان اختلافهم في أنفسهم أشدَّ وأكثر، فإن من ردَّ الحق مرِجَ عليه أمرُه واختلطَ عليه، والتبس عليه وجه الصواب، فلم يدرِ أين يذهب، كما قال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5].

الوجه الحادي والخمسون: قولكم: إن عمر كتب إلى شُريح: «أن اقضِ بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة

(1)

رسول الله، فإن لم يكن في سنة رسول الله فبما [33/أ] قضى به الصالحون»

(2)

، فهذا من أظهر الحجج عليكم على بطلان التقليد؛ فإنه أمره أن يقدِّم الحكم بالكتاب على كل

(3)

ما سواه، فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة لم يلتفت إلى غيرها، فإن لم يجده في السنة قضى بما قضى به الصحابة.

ونحن نناشد الله فرقة التقليد: هل هم كذلك أو قريبًا من ذلك؟ وهل إذا نزلت بهم نازلةٌ حدَّث أحد منهم نفسَه أن يأخذ حكمها من كتاب الله ثم ينفِّذه، فإن لم يجدها في كتاب الله أخذها من سنة رسول الله، فإن لم يجدها

(1)

ع: «فبسنة» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

«كل» ساقطة من ع.

ص: 117

في السنة أفتى فيها بما أفتى به الصحابة

(1)

؟ والله يشهد

(2)

عليهم وملائكته، وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون حكمها من قول من قلّدوه، وإن استبان لهم في الكتاب أو السنة أو أقوال

(3)

الصحابة خلافُ ذلك لم يلتفتوا إليه، ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلَّدوه؛ فكتاب عمر من أبطل الأشياء وأكسرِها لقولهم، وهذا كان سَيْر السلف المستقيم وهَدْيهم القويم.

فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير، وقالوا: إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولًا: هل فيها اختلاف

(4)

أم لا؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا سنة، بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع، وإن كان فيها اختلاف اجتهد في

(5)

أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به وحكم به.

وهذا خلاف ما دلَّ عليه حديث معاذ وكتاب عمر وأقوال الصحابة، والذي دلَّ عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدور مأمور

(6)

، فإن عِلْم المجتهد بما دلّ عليه القرآن والسنة أسهلُ عليه بكثير من عِلْمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم. وهذا إن لم يكن متعذرًا فهو أصعب شيء وأشقُّه إلا فيما هو من لوازم الإسلام، فكيف يُحيلنا الله

(1)

د: «الصحابة به» .

(2)

ع: «شهيد» .

(3)

«أقوال» ليست في د.

(4)

ع: «خلاف» .

(5)

ت: «إلى» .

(6)

ع: «مأمون» .

ص: 118

ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على [33/ب] كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما، ويسّرهما لنا، وجعل لنا

(1)

إلى معرفتهما طريقًا سهلة التناول من قرب؟

ثم ما يُدرِيه فلعلَّ الناس اختلفوا وهو لا يعلم، وليس عدم العلم بالنزاع علمًا بعدمه، فكيف يقدِّم عدم العلم على أصل العلم كله؟ ثم كيف يسوغ له ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به، وغايته أن يكون موهومًا، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكًا فيه شكًّا

(2)

متساويًا أو راجحًا؟ ثم كيف يستقيم هذا على رأي من يقول: انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع؟ فما لم ينقرض عصرهم فلمن نشأ

(3)

في زمنهم أن يخالفهم، فصاحب هذا السلوك لا يُمكِنه أن يحتجّ بالإجماع حتى يعلم أن العصر انقرض ولم ينشأ فيه مخالف لأهله؟ وهل أحال الله الأمة في الاهتداء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيلَ لهم إليه ولا اطلاعَ لأفرادهم عليه؟ وترك إحالتهم على ما هو بين أظهرهم حجةٌ عليهم

(4)

باقية إلى آخر الدهر متمكّنون من الاهتداء به ومعرفة الحق منه، هذا من أمحل المحال.

وحين نشأت هذه الطريقة تولَّد عنها معارضةُ النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلّدين إذا احتُجَّ عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلاف الإجماع. وهذا هو الذي أنكره

(1)

«لنا» ساقطة من ت.

(2)

«شكا» ليست في ت.

(3)

ت، ع:«شاء» .

(4)

«عليهم» ليست في د.

ص: 119

أئمة الإسلام، وعابوا من كل ناحية على من ارتكبه، وكذّبوا من ادعاه؛ فقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: من ادّعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغه

(1)

.

وقال في رواية المرّوذي

(2)

: كيف يجوز للرجل أن يقول: [34/أ] أجمعوا؟! إذا سمعتهم يقولون: «أجمعوا» فاتَّهِمْهم، لو قال: إني لم أعلم مخالفًا كان

(3)

.

وقال في رواية أبي طالب: هذا كذب، ما عِلْمُه أن الناس مجمعون؟ ولكن يقول: ما أعلمُ فيه اختلافًا، فهو أحسن من قوله: إجماع الناس

(4)

.

وقال في رواية أبي الحارث: لا ينبغي لأحدٍ أن يدّعي الإجماع، لعل الناس اختلفوا

(5)

.

ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة، والسنة على الإجماع، وجَعْلِ الإجماع في المرتبة الثالثة، قال الشافعي: الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة

(6)

.

(1)

انظر: «مسائل الإمام أحمد» رواية ابنه عبد الله (ص 439).

(2)

في المطبوع: «المروزي» خطأ.

(3)

«العدة في أصول الفقه» (4/ 1060).

(4)

المرجع السابق.

(5)

المرجع السابق

(6)

رواه البيهقي في «أحكام القرآن» (1/ 29)، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (51/ 363)، وللمقولة قصة.

ص: 120

وقال في كتاب «اختلافه مع مالك»

(1)

: والعلم طبقات، الأولى: الكتاب والسنة الثابتة

(2)

، ثم الإجماع فيما ليس كتابًا ولا سنة

(3)

، الثالثة: أن يقول الصحابي فلا يُعلم له مخالف من الصحابة، الرابعة: اختلاف الصحابة، الخامسة: القياس

(4)

. فقدَّم النظر في الكتاب والسنة على الإجماع، ثم أخبر أنه إنما يصير إلى الإجماع فيما لم يعلم فيه كتابًا ولا سنة، وهذا هو الحق.

وقال أبو حاتم الرازي

(5)

: العلم عندنا ما كان عن الله تعالى من كتاب ناطق ناسخٍ غير منسوخ، وما صحّت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا معارضَ له، وما جاء عن الألبّاء

(6)

من الصحابة ما اتفقوا عليه، فإذا اختلفوا لم يخرج من اختلافهم، فإذا خفي ذلك ولم يفهم فعن التابعين، فإذا لم يوجد عن التابعين فعن أئمة الهدى من أتباعهم، مثل أيوب السختياني وحماد بن زيد وحماد بن سلمة

(7)

وسفيان ومالك والأوزاعي والحسن بن

(1)

ضمن كتاب «الأم» (8/ 764).

(2)

د: «الثانية» خطأ، لأن الثانية الإجماع.

(3)

كذا في النسخ. وفي «الأم» : «ليس فيه كتاب ولا سنة» .

(4)

هنا انتهى كلام الشافعي.

(5)

رواه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 432 - 433) ثم قال: قصد أبو حاتم إلى تسمية هؤلاء؛ لأنهم كانوا المشهورين من أئمة أهل الأثر في أعصارهم، ولهم نظراء كثيرون من أهل كل عصر أولو نظر واجتهاد، فما أجمعوا عليه فهو الحجة، ويسقط الاجتهاد مع إجماعهم، فكذلك إذا اختلفوا على قولين لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث.

(6)

ع: «الأولياء» .

(7)

في د بتقديم حماد بن سلمة على حماد بن زيد.

ص: 121

صالح، ثم ما لم يوجد عن أمثالهم فعن مثل عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن إدريس ويحيى بن آدم وابن عيينة ووكيع بن الجراح، ومن بعدهم محمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون والحميدي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي [34/ب] وأبي عبيد القاسم. انتهى.

فهذا طريقُ أهل العلم وأئمة الدين، جَعْلُ أقوال هؤلاء بدلًا عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة بمنزلة التيمم، إنما يصار إليه عند عدم الماء؛ فعَدلَ هؤلاء المتأخرون المقلّدون إلى التيمم، والماءُ بين أظهرهم أسهلُ من التيمم بكثير.

ثم حدثت

(1)

بعد هؤلاء فرقة هم أعداء العلم وأهله، فقالوا: إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة لم يجزْ أن ينظر فيها في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أقوال الصحابة، بل إلى ما قال مقلَّده ومتبوعه ومَن جعله عِيارًا على القرآن والسنة؛ فما وافق قولَه أفتى به وحكم به، وما خالفه لم يجز له أن يفتي به ولا يقضي به، وإن فعل ذلك تعرَّض لعَزْله عن منصب الفتوى والحكم، واستُفْتِي عليه: ما تقول السادة الفقهاء فيمن ينتسب إلى مذهب إمام معين يقلّده دون غيره، ثم يفتي أو يحكم بخلاف مذهبه، هل يجوز له ذلك أم لا؟ وهل يقدح ذلك فيه أم لا؟ فيُنْغِض المقلِّدون رؤوسهم، ويقولون: لا يجوز له ذلك، ويقدح فيه.

ولعل القول الذي عدل إليه هو قول أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأمثالهم؛ فيجيب هذا الذي انتصب للتوقيع

(1)

ع: «حدث» .

ص: 122

عن الله ورسوله بأنه

(1)

لا يجوز له مخالفة قول متبوعه لأقوال

(2)

من هو أعلم بالله ورسوله

(3)

منه، وإن كان مع أقوالهم كتاب الله وسنة رسوله.

وهذا من أعظم جنايات فرقة التقليد على الدين، ولو أنهم لزموا حدَّهم ومرتبتهم وأخبروا إخبارًا مجردًا عما وجدوه من السواد في البياض من أقوال لا علم لهم بصحيحها

(4)

من باطلها لكان لهم عذرٌ مّا عند الله، ولكن هذا مبلغهم من العلم، وهذه معاداتهم لأهله وللقائمين لله بحججه، وبالله التوفيق.

الوجه [35/أ] الثاني والخمسون: قولكم: «منع عمر من بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة، وألزم بالطلاق الثلاث وتبعوه أيضًا»

(5)

، جوابه من وجوه:

أحدها: أنهم لم يتبعوه تقليدًا له، بل أدّاهم اجتهادهم في ذلك إلى ما أدّاه إليه اجتهاده، ولم يقل أحد منهم قط: إني رأيت ذلك تقليدًا لعمر.

الثاني: أنهم لم يتبعوه كلهم، فهذا ابن مسعود يخالفه في أمهات الأولاد، وهذا ابن عباس يخالفه في الإلزام بالطلاق الثلاث

(6)

، وإذا اختلف الصحابة وغيرهم فالحاكم هو الحجة.

(1)

ت: «أنه» .

(2)

ت: «ولا قول» خطأ.

(3)

«بأنه

ورسوله» ساقطة من ع.

(4)

ت، ع:«بصحتها» .

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

كما رواه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (6/ 335) وأبو داود (2197).

ص: 123

الثالث: أنه ليس في اتباع قول عمر بن الخطاب في هاتين المسألتين وتقليد الصحابة لو فُرِض له في ذلك ما يسوِّغ تقليدَ من هو دونه بكثير في كل ما يقوله وترْكَ قولِ من هو مثله ومن هو فوقه وأعلم منه، فهذا من أبطل الاستدلال، وهو تعلُّقٌ ببيت العنكبوت، فقلِّدوا عمر واتركوا تقليد فلان وفلان، فأما وأنتم تصرِّحون بأن

(1)

عمر لا يقلَّد وأبو حنيفة والشافعي ومالك يقلَّدون فلا يمكنكم الاستدلال بما أنتم مخالفون له، فكيف يجوز للرجل أن يحتج بما لا يقول به؟

الوجه الثالث والخمسون: قولكم: «إن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم: خذْ ثوبًا غير ثوبك، فقال: لو فعلتُ صارت سنة»

(2)

، فأين في هذا من الإذن من عمر في تقليده والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله؟ وغاية هذا أنه تركه لئلا يقتدي به من يراه يفعل ذلك، ويقول: لولا أن هذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعله عمر؛ فهذا هو الذي خشيه عمر رضي الله عنه، والناس مقتدون بعلمائهم شاؤوا أو أبوا، فهذا هو الواقع وإن كان الواجب فيه تفصيل.

الوجه الرابع والخمسون: قولكم: «قد قال أُبيّ: ما اشتبه عليك فكِلْه إلى عالمه»

(3)

، [35/ب] فهذا حق، وهو الواجب على من سوى الرسول؛ فإن كل أحد بعد الرسول لا بدَّ أن يشتبه عليه بعض ما جاء به، وكل من اشتبه عليه شيء وجب

(4)

عليه أن يَكِلَه إلى مَن هو أعلم منه، فإن تبين له صار عالمًا به مثله،

(1)

ع: «أن» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

«بعد الرسول

وجب» ساقطة من ع.

ص: 124

وإلا وكَلَه إليه، ولم يتكلّف ما لا علم له به، فهذا هو الواجب علينا في كتاب ربنا وسنة نبينا

(1)

وأقوال أصحابه، وقد جعل الله سبحانه فوق كل ذي علم عليمًا؛ فمن خفي عليه بعض الحق فوكَلَه إلى من هو أعلم منه فقد أصاب، فأيُّ شيء في هذا من الإعراض عن القرآن والسنن وآثار الصحابة، واتخاذِ رجلٍ بعينه معيارًا على ذلك، وتركِ النصوص لقوله وعرْضِها عليه، وقبولِ كل ما أفتى به وردِّ كل ما خالفه؟ وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج على بطلان التقليد، فإن أوله:«ما استبان لك فاعمَلْ به، وما اشتبه عليك فكِلْه إلى عالمه» . ونحن نناشدكم الله إذا استبانت

(2)

لكم السنة هل تتركون قولَ من قلَّدتموه لها وتعملوا بها وتفتوا أو تقضوا

(3)

بموجبها، أم تتركونها وتعدِلون عنها إلى قوله وتقولون: هو أعلم بها منا؟ فأبيٌّ رضي الله عنه مع سائر الصحابة على هذه الوصية، وهي مبطِلة للتقليد قطعًا، وبالله التوفيق.

ثم نقول: هل وَكَلْتم ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالمها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هم أعلم الأمة وأفضلها؟ بل تركتم أقوالهم وعدلتم عنها، فإن كان من قلَّدتموه ممن يوكل ذلك إليه فالصحابة أحقُّ أن يوكل ذلك إليهم.

الوجه الخامس والخمسون: قولكم: «كان الصحابة يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيٌّ بين أظهرهم، وهذا تقليد للمستفتين

(4)

لهم»، فجوابه أن فتواهم إنما

(1)

ع: «نبيه» .

(2)

د: «استبان» .

(3)

كذا الأفعال الثلاثة بدون النون في د، ت.

(4)

ت: «للمفتين» .

ص: 125

كانت تبليغًا عن الله ورسوله، [36/أ] وكانوا بمنزلة المخبرين فقط، لم تكن فتواهم تقليدًا لرأي فلان وفلان وإن خالفت النصوص؛ فهم لم يكونوا يقلِّدون في فتواهم، ولا يفتون بغير النصوص، ولم تكن المستفتون

(1)

لهم تعتمد

(2)

إلا على

(3)

ما يبلِّغونهم إياه عن نبيهم، فيقولون: أمر بكذا، وفعل كذا

(4)

، ونهى عن كذا، هكذا كانت فتواهم؛ فهي حجة على المستفتين كما هي حجة عليهم، ولا فرق بينهم وبين المستفتين لهم في ذلك إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدمها، والله ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم وأن مستفتيهم لم يعملوا إلا بما علموه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه، هؤلاء بواسطة وهؤلاء بغير واسطة، ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد

(5)

من الأمة يحلّل ما حلله ويحرّم ما حرمه ويستبيح ما أباحه.

وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل وكذَّبه

(6)

(7)

، وأنكر على من أفتى برجم الزاني البكر

(8)

، وأنكر على

(1)

في النسخ: «المستفتين» .

(2)

كذا بتأنيث الفعلين (تكن، تعتمد) في النسخ، على تأويل أن الفاعل جماعة المستفتين.

(3)

«على» ساقطة من ت.

(4)

«وفعل كذا» ليست في د.

(5)

ع: «أحد» .

(6)

«وكذبه» ليست في د.

(7)

رواه البخاري (5318) ومسلم (1484)، وأما التصريح بتكذيبه والإنكار عليه فمخرج عند أحمد (4273).

(8)

تقدم تخريجه.

ص: 126

من أفتى باغتسال الجريح حتى مات

(1)

، وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته، وأخبر أن إثم المستفتي عليه

(2)

، فإفتاء الصحابة في حياته نوعان: أحدهما: كان يبلُغه ويُقِرُّهم عليه، فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم، الثاني: ما

(3)

كانوا يفتون به مبلِّغين له عن نبيهم فهم فيه رواة، لا مقلِّدون ولا مقلَّدون.

الوجه السادس والخمسون: قولكم: «وقد قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122]، فأوجب قبول نذارتهم، وذلك تقليد لهم» ، جوابه من وجوه:

أحدها: أن الله سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي الذي ينزل في غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فأين في هذا حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي؟

الثاني: أن الآية حجة عليهم ظاهرة؛ فإنه سبحانه نوَّع عبوديتهم وقيامهم بأمره [36/ب] إلى نوعين: أحدهما: نفير الجهاد، والثاني: التفقه في الدين، وجعل قيام الدين بهذين الفريقين، وهم الأمراء والعلماء، أهل الجهاد وأهل العلم؛ فالنافرون يجاهدون عن القاعدين، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين، فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

«ما» هنا موصولة وليست نافية.

ص: 127

وهنا

(1)

للناس في الآية قولان:

أحدهما أن المعنى: «فهلّا نفرَ من كل فرقة طائفةٌ تتفقه وتنذر القاعدة» ، فيكون المعنى في طلب العلم، وهذا قول الشافعي

(2)

وجماعة من المفسّرين، واحتجوا به على قبول خبر الواحد؛ لأن الطائفة لا يجب أن تكون عدد التواتر.

والثاني أن المعنى: «فلولا نفر من كل فرقة طائفةٌ تجاهد لتتفقه القاعدةُ، وتُنذِر النافرةَ للجهاد إذا رجعوا إليهم، ويخبرونهم بما نزل بعدهم من الوحي» وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح

(3)

؛ لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإذا استُنفِرتم فانْفِروا»

(4)

. وأيضًا فإن المؤمنين عام في المقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم والغائبين عنه، والمقيمون مرادون ولا بدَّ فإنهم سادات المؤمنين، فكيف لا يتناولهم اللفظ؟ وعلى قول أولئك يكون المؤمنون خاصًّا بالغائبين عنه فقط، والمعنى: وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم، فلولا نفر إليه من كل فرقة منهم طائفة. وهذا خلاف ظاهر لفظ المؤمنين، وإخراجٌ للفظ النفير عن مفهومه في القرآن والسنة.

وعلى كلا القولين فليس في الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد المذموم، بل هي حجة على فساده وبطلانه؛ فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة،

(1)

ع: «وهناك» .

(2)

انظر: «الرسالة» (ص 365 - 369).

(3)

انظر ترجيح هذا عند المؤلف في «بدائع الفوائد» (4/ 1636، 1637). وقد ضعَّفه الطبري في «تفسيره» (12/ 84، 85).

(4)

رواه البخاري (1834) ومسلم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 128

فمن لم تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر، كما أن النذير من أقام الحجة، فمن لم يأت بحجة فليس بنذير، فإن سميتم ذلك تقليدًا فليس الشأن في الأسماء، ونحن لا [37/أ] ننكر التقليد بهذا المعنى، فسمُّوه ما شئتم، وإنما ننكر نصْبَ رجل معين يُجعل قوله عِيارًا على القرآن والسنن؛ فما وافق قولَه منها قُبِل وما خالفه لم يُقبَل، ويقبل قوله بغير حجة، ويُردّ قول نظيره أو أعلمَ منه والحجة معه، فهذا الذي أنكرناه، وكل عالم على وجه الأرض يعلن بإنكاره وذمه وذم أهله.

الوجه السابع والخمسون: قولكم: «إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال: أما الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذتُه خليلًا ــ يريد أبا بكر رضي الله عنه ــ فإنه أنزله أبًا»

(1)

، فأيّ شيء في هذا مما يدل على التقليد بوجه من الوجوه؟ وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطمع في دفعها ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصحُّ الأقوال على الإطلاق، وابن الزبير لم يخبر بذلك تقليدًا، بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبِّه على جلالة قائله، وأنه ممن

(2)

لا يقاس غيره به، لا لِيُقبل قوله بغير حجة وتُترك الحجة من القرآن والسنة لقوله؛ فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى لله، وحجج الله وبيناته أحبّ إليهم من أن يتركوها لآراء الرجال أو لقول أحدٍ كائنًا من كان. وقول ابن الزبير:«إن الصديق أنزله أبًا»

(3)

متضمن للحكم والدليل معًا.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

ع: «مما» .

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 129

الوجه الثامن والخمسون: قولكم: «وقد أمر الله بقبول شهادة الشاهد، وذلك تقليد له» ، فلو لم يكن في آفات التقليد غيرُ هذا الاستدلال لكفى به بطلانًا، وهل قبلنا قول الشاهد إلا بنص كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع الأمة على قبول قوله؛ فإن الله سبحانه نصبه حجة يحكم الحاكم بها كما يحكم بالإقرار، وكذلك قول المقرِّ أيضًا حجة شرعية، وقبوله تقليدٌ له كما سمَّيتم قبول شهادة الشاهد تقليدًا، فسمُّوه ما شئتم فإن الله سبحانه أمرنا بالحكم بذلك، وجعله [37/ب] دليلًا على الأحكام؛ فالحاكم بالشهادة والإقرار منفِّذ لأمر الله ورسوله، ولو تركنا وتقليد الشاهد لم نُلزِم به حكمًا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بالشاهد

(1)

وبالإقرار

(2)

، وذلك حكم بنفس ما أنزل الله لا بالتقليد؛ فالاستدلالُ بذلك على التقليد المتضمن للإعراض عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وتقديمِ آراء الرجال عليها، وتقديمِ قول الرجل على من هو أعلم منه، واطِّراحِ قول من عداه جملةً= من باب قلب الحقائق وانتكاس العقول والأفهام. وبالجملة فنحن إذا قبلنا قول الشاهد لم نقبله لمجرد كونه شهد به، بل لأن الله سبحانه أمرنا بقبول قوله، فأنتم معاشرَ المقلّدين إذا قبلتم قول من قلَّدتموه قبلتموه لمجرد كونه قاله أو لأن الله أمركم بقبول قوله وطَرْح قول من سواه؟

الوجه التاسع والخمسون: قولكم: «وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمقوِّم والحاكمَينِ بالمثل في جزاء الصيد، وذلك تقليد محض» ، أتعنون به أنه تقليد لبعض العلماء في قبول أقوالهم أو

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

كقصة ماعز وهي مخرجة عند مسلم (1692) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما.

ص: 130

تقليد لهم فيما يخبرون به؟ فإن عنيتم الأول فهو باطل، وإن عنيتم الثاني فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذي قام الدليل على بطلانه، وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد، لا من باب قبول الفتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها

(1)

، بل لمجرد إحسان الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه، فأين قبول الأخبار والشهادات والأقارير إلى التقليد في الفتوى؟ والمخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسّي طريقُ العلم به إدراكه بالحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة، وقد أمر الله سبحانه بقبول خبر المخبر به إذا كان ظاهر الصدق والعدالة. وطَرْدُ [38/أ] هذا ونظيره: قبول خبر المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر عمن أخبر عنه بذلك، وهلمَّ جرًّا؛ فهذا حق لا ينازع فيه أحد.

وأما تقليد الرجل فيما يخبر به عن ظنه فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده؛ فتقليدنا له في ذلك بمنزلة تقليدنا له فيما يخبر به عن رؤيته وسماعه وإدراكه، فأين في هذا ما يوجب علينا أو يسوِّغ لنا أن نفتي بذلك أو نحكم به وندين الله به، ونقول: هذا هو الحق وما خالفه باطل، ونترك له نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة وأقوال من عداه من جميع أهل العلم؟

ومن هذا الباب تقليد الأعمى في القبلة

(2)

ودخول الوقت لغيره، وقد كان ابن أم مكتوم لا يؤذِّن حتى يقلِّد غيره في طلوع الفجر، ويقال له: أصبحتَ أصبحتَ

(3)

، وكذلك تقليد الناس للمؤذّن في دخول الوقت،

(1)

ع: «لصحتها» .

(2)

«في القبلة» ساقطة من ت.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 131

وتقليد من في المطمورة

(1)

لمن يُعلِمه بأوقات الصلاة والفطر والصوم وأمثال ذلك، ومن ذلك التقليدُ في قبول الترجمة والرسالة والتعريف والتعديل والجرح. كل هذا من باب الأخبار التي أمر الله بقبول المخبر بها إذا كان عدلًا صادقًا، وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد في الهديَّة

(2)

وإدخال الزوجة على زوجها، وقبول خبر المرأة ذميةً كانت أو مسلمةً في انقطاع دم حيضها لوقته

(3)

وجواز وطئها وإنكاحها بذلك، وليس هذا تقليدًا في الفتيا والحكم، وإذا كان تقليدًا لها فإن الله سبحانه شرع لنا أن نقبل قولها ونقلِّدها فيه

(4)

، ولم يشرع لنا أن نتلقى أحكامه عن غير رسوله، فضلًا عن أن نترك سنة رسوله لقول واحد من أهل العلم ونقدِّم قوله على قول من عداه من الأمة.

الوجه الستون: قولكم: «وأجمعوا على جواز شراء اللُّحمان والأطعمة والثياب وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلّها اكتفاءً بتقليد أربابها» ، جوابه: أن هذا ليس تقليدًا [38/ب] في حكم من أحكام الله ورسوله من غير دليل، بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع، وهو اقتداء واتباع لأمر الله ورسوله، حتى لو كان الذابح والبائع يهوديًّا أو نصرانيًّا أو فاجرًا اكتفينا بقوله في ذلك، ولم نسأله عن أسباب الحلّ، كما قالت عائشة: يا رسول الله، إن ناسًا يأتوننا باللحمان لا ندري أذَكروا اسم الله عليها أم لا، فقال: «سمُّوا أنتم

(1)

المقصود بها هنا السجن الذي يتخذه بعض الحكام تحت الأرض.

(2)

أي العروس التي تُهدَى إلى زوجها.

(3)

د: «لوقتها» .

(4)

«فيه» ساقطة من ت.

ص: 132

وكلوا»

(1)

، فهل يسوغ لكم تقليدُ الكفّار والفسّاق في الدين كما تقلّدونهم في الذبائح والأطعمة؟

فدَعُوا هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحق والباطل؛ لنعقد معكم عقد الصلح اللازم على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله والتحاكم إليهما وترك أقوال الرجال لهما، وأن ندورَ مع الحق حيث كان، ولا نتحيَّز إلى شخص معين غير الرسول: نقبل قوله كله، ونردُّ قول من خالفه كله، وإلا فاشهدوا بأنا أول منكرٍ لهذه الطريقة وراغبٍ عنها داعٍ إلى خلافها، والله المستعان.

الوجه الحادي والستون: قولكم: «لو كُلِّف الناس كلهم الاجتهادَ وأن يكونوا علماء ضاعت مصالح العباد، وتعطَّلت الصنائع والمتاجر، وهذا مما لا سبيلَ إليه شرعًا وقدرًا» ، فجوابه من وجوه:

أحدها: أن من رحمة الله سبحانه بنا ورأفتِه أنه لم يكلِّفنا بالتقليد، فلو كلَّفنا به لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا، لأنا لم نكن ندري من نقلِّد من المفتين والفقهاء، وهم عدد فوق المئتين، ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله، فإن المسلمين قد ملأوا الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، وانتشر الإسلام بحمد الله وفضله وبلغ ما بلغ الليل، فلو كلّفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العَنَت والفساد، ولكلّفنا بتحليل الشيء وتحريمه وإيجاب الشيء وإسقاطه معًا إن كلّفنا بتقليد كل عالم، وإن كلّفنا بتقليد الأعلم فالأعلم

(1)

رواه ابن ماجه (3174)، والدارمي (2019)، واللفظ لهما، وهو أيضًا عند البخاري بنحوه (7398).

ص: 133

فمعرفة [39/أ] ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير كثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد، ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ فضلًا عن المقلد الذي هو كالأعمى. وإن كلّفنا بتقليد البعض ــ كأنْ

(1)

جعل ذلك إلى تشهِّينا واختيارنا ــ صار دين الله تبعًا لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا، وهو عين المحال؛ فلا بدّ أن يكون ذلك راجعًا إلى من

(2)

أمر الله باتباع قوله وتلقِّي الدين من بين شفتيه، وذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله وأمينه على وحيه وحجته على خلقه، ولم يجعل الله هذا المنصب لسواه بعده أبدًا.

الثاني: أنّ بالنظر والاستدلال صلاحَ الأمور لا ضياعها، وبإهماله وتقليد من يخطئ ويصيب إضاعتها وفسادها، كما الواقع شاهد به.

الثالث: أن كل واحد منا مأمور بأن يصدِّق الرسول فيما أخبر به

(3)

، ويطيعه فيما أمر، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وخبره. ولم يوجب الله سبحانه من ذلك على الأمة إلا ما فيه حفظُ دينها ودنياها وصلاحها في معاشها ومعادها، وبإهمال ذلك تضيع مصالحها وتفسد أمورها، فما خراب العالم إلا بالجهل، ولا عمارته إلا بالعلم، وإذا ظهر العلم في بلد أو محلّةٍ قلّ الشر في أهلها، وإذا خفي العلم هناك ظهر الشر والفساد. ومن لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل الله له نورًا. قال الإمام أحمد

(4)

: لولا العلم كان

(1)

في المطبوع: «وكان» ، وليس في النسخ الواو.

(2)

«من» ساقطة من ت.

(3)

«به» ليست في ع.

(4)

حكاه الغزالي في «الإحياء» (1/ 11) وابن الجوزي في «التبصرة» (2/ 193) عن الحسن.

ص: 134

الناس كالبهائم، وقال

(1)

: الناس أحوجُ إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا، والعلم يحتاج إليه كل وقت.

الرابع: أن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصُّه من الأحكام، ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة لمصالح الخلق ولا تعطيل لمعايشهم؛ فقد [39/ب] كان الصحابة رضي الله عنهم قائمين بمصالحهم ومعايشهم

(2)

، وعمارة حُروثهم، والقيام على مواشيهم، والضرب في الأرض لمتاجرهم، والصفق بالأسواق

(3)

، وهم أهدى العلماء الذين لا يُشَقُّ في العلم غبارُهم.

الخامس: أن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدّرات الأذهان ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد الله تعالى أيسرُ شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه، فإنه كتاب الله الذي يسّره للذكر، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]. قال البخاري

(1)

انظر «مسائل حرب» (ص 343) و «طبقات الحنابلة» (1/ 146) و «الآداب الشرعية» (2/ 44). وذكره المؤلف في «مفتاح دار السعادة» (1/ 164، 226، 332).

(2)

يشير إلى قول عائشة رضي الله عنها: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم» رواه البخاري (2071).

(3)

يشير إلى قول أبي هريرة رضي الله عنه: «وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم» رواه البخاري (118) ومسلم (2492).

ص: 135

في «صحيحه»

(1)

: قال مطر الوراق: هل من طالب علمٍ فيُعَان عليه؟ ولم يقل: فتضيع عليه مصالحه وتتعطّل عليه معايشه. وسنة رسوله ــ وهي بحمد الله تعالى مضبوطة محفوظة ــ أصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث، وفرشها وتفاصيلها نحو الأربعة آلاف، وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة

(2)

مقدّرات الأذهان وأغلوطات المسائل والفروع والأصول، التي ما أنزل الله بها من سلطان، التي كلُّ ما لها

(3)

في نمو وزيادة وتوليد، والدين كلُّ ما له

(4)

في غربة ونقصان، والله المستعان.

الوجه الثاني والستون: قولكم: «قد أجمع الناس على تقليد الزوج لمن يُهدِي إليه زوجته ليلة الدخول، وعلى تقليد الأعمى في القبلة والوقت، وتقليد المؤذّنين، وتقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة، وتقليد الزوجة في انقطاع دمها ووطئها وتزويجها» .

فجوابه ما تقدم أن استدلالكم بهذا من باب المغاليط، وليس هذا من التقليد المذموم على لسان السلف والخلف في شيء، ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها، بل لأن الله ورسوله أمر بقبول قولهم وجعله دليلًا على ترتُّب الأحكام؛ فإخبارهم [40/أ] بمنزلة الشهادة والإقرار، فأين

(1)

معلقًا بصيغة الجزم (9/ 159)، ووصله الفريابي في تفسيره كما في «تغليق التعليق» (5/ 379)، والطبري (22/ 131)، وابن أبي حاتم (10/ 3320)، وابن عبد البر في «الجامع» (2/ 1020)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 76).

(2)

د: «المشقة والصعوبة» .

(3)

ع: «كمالها» .

(4)

ع: «كماله» .

ص: 136

في ذلك ما يسوِّغ التقليدَ في أحكام الدين، والإعراضَ عن القرآن والسنن، ونصْبَ رجل بعينه ميزانًا على كتاب الله وسنة رسوله؟

الوجه الثالث والستون: قولكم: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن الحارث أن يقلّد المرأة التي أخبرته بأنها أرضعته وزوجته»

(1)

، فيا لله العجب! فأنتم لا تقلّدونها في ذلك، ولو كانت إحدى أمهات المؤمنين، ولا تأخذون بهذا الحديث، وتتركونه تقليدًا لمن قلّدتموه دينكم، وأيُّ شيء في هذا مما يدل على التقليد في دين الله؟ وهل هذا إلا بمنزلة قبول خبر

(2)

المخبر عن أمر حسي يخبر به، وبمنزلة قبول الشاهد؟ وهل كان مفارقة عقبة لها تقليدًا لتلك الأمة أو اتباعًا لرسول الله

(3)

حيث أمره بفراقها؟ فمن بركة التقليد أنكم لا تأمرونه بفراقها، وتقولون: هي زوجتك حلال وطؤها، وأما نحن فمن حقوق الدليل علينا أن نأمر من وقعت له هذه الواقعة بمثل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر

(4)

سواء، ولا نترك الحديث تقليدًا لأحد.

الوجه الرابع والستون: قولكم: «قد صرّح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تتَّهمْه

(5)

(6)

. وقال

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

«خبر» ليست في ت، ع.

(3)

ع: «لسنة رسول الله» .

(4)

كذا في النسخ. وهو عقبة بن الحارث بن عامر. نُسِب إلى جدّه. انظر: «الإصابة» (7/ 202). وفي المطبوع: «عامر» .

(5)

في هامش د والمطبوع: «فلا تنهه» .

(6)

تقدم تخريجه.

ص: 137

محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد مثله

(1)

. وقال الشافعي في غير موضع: قلتُه تقليدًا لعمر، وقلته تقليدًا لعثمان، وقلته تقليدًا لعطاء»

(2)

.

جوابه من وجوه:

أحدها: أنكم إن ادّعيتم أن جميع العلماء صرّحوا بجواز التقليد فدعوى باطلة، فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذم التقليد وأهله والنهي عنه ما فيه كفاية، وكانوا يسمُّون المقلد الإمَّعَة ومُحقِبَ دينِه، كما قال ابن مسعود: الإمَّعة الذي

(3)

يُحقِب دينَه الرجالَ، [40/ب] وكانوا يسمُّونه الأعمى الذي لا بصيرة له

(4)

، ويسمُّون المقلدين أتباعَ كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

(5)

، وكما سمّاه الشافعي حاطبَ ليل، ونهى عن تقليده وتقليد غيره

(6)

؛ فجزاه الله عن الإسلام خيرًا، لقد نصح لله ورسوله والمسلمين، ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأمر

(7)

باتباعهما دون قوله، وأمرنا بأن نعرضَ أقواله عليهما فنقبلَ منها ما وافقهما

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

«الذي» ساقطة من ع.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

تقدم تخريجه.

(7)

ع: «وأمرنا» .

ص: 138

ونردَّ ما خالفهما؛ فنحن نناشد المقلدين الله: هل حفظوا في ذلك وصيتَه وأطاعوه، أم عصوه وخالفوه؟ وإن ادعيتم أن من العلماء من جوَّز التقليد فكان ما رأى

(1)

أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم جوّزوا التقليد لمن هو أعلم منهم هم من أعظم الناس رغبةً عن التقليد واتباعًا للحجة ومخالفةً لمن هو أعلم منهم، فأنتم مقرُّون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن ومن أبي يوسف، وخلافهما له معروف، وقد صحّ عن أبي يوسف أنه قال: لا يحلُّ لأحدٍ أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا

(2)

.

الثاني: أنكم منكرون أن يكون من قلّدتموه من الأئمة مقلدًا لغيره أشدَّ الإنكار، وقمتم وقعدتم في قول الشافعي: قلته تقليدًا لعمر، وقلته تقليدًا لعثمان، وقلته تقليدًا لعطاء، واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشد الاضطراب، وادعيتم أنه لم يقلّد زيدًا في الفرائض، وإنما اجتهد فوافق اجتهادُه اجتهادَه، ووقع الخاطر على الخاطر، حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة

(3)

حتى في الأكدرية، وجاء الاجتهاد حذوَ القُذَّة بالقذَّة، فكيف نصبتموه مقلدًا ههنا؟ ولكن هذا التناقض جاء من بركة التقليد، ولو اتبعتم العلم من حيث هو واقتديتم بالدليل وجعلتم الحجة إمامًا لما تناقضتم هذا التناقض [41/أ] وأعطيتم كلَّ ذي حق حقَّه.

(1)

كذا في د، ع. وفي ت:«فكان ماذا» . وبعدها في د والمطبوع: «الثاني» . وسيأتي الثاني بعد أسطر.

(2)

تقدم ذكره.

(3)

في هامش ع: «العادة» .

ص: 139

الثالث: أن هذا من أكبر الحجج عليكم؛ فإن الشافعي قد صرَّح بتقليد عمر وعثمان وعطاء مع كونه من أئمة المجتهدين، وأنتم ــ مع إقراركم بأنكم من المقلدين ــ لا ترون تقليد واحدٍ من هؤلاء، بل إذا قال الشافعي: وقال عمر وعثمان

(1)

وابن مسعود ــ فضلًا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن ــ تركتم تقليد هؤلاء وقلّدتم الشافعي، وهذا عين التناقض؛ فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلّدتموه، فإن قلدتم الشافعي فقلِّدوا من قلَّده الشافعي، فإن قلتم: بل قلّدناهم فيما قلّدهم فيه الشافعي، قيل: لم يكن ذلك تقليدًا منكم لهم، بل تقليدًا له، وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا إلى أحدٍ منهم.

الرابع: أن من ذكرتم من الأئمة لم يقلِّدوا تقليدكم، ولا سوَّغوه البتَّةَ، بل غاية ما نُقِل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفَروا فيها بنص عن الله ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قولِ من هو أعلم منهم فقلَّدوه، وهذا فعلُ أهل العلم، وهو

(2)

الواجب؛ فإن التقليد إنما يباح للمضطر. وأما من عدَل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكُّنه منه إلى التقليد فهو كمن عدلَ إلى الميتة مع قدرته على المذكَّى؛ فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل إلا عند الضرورة، فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم.

الوجه الخامس والستون: قولكم: «قال الشافعي: رأي الصحابة لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا

(3)

، ونحن نقول ونصدِّق: رأي الشافعي والأئمة لنا خير من

(1)

«وعطاء

وعثمان» ساقطة من ع.

(2)

«هو» ساقطة من ت.

(3)

تقدم توثيقه.

ص: 140

رأينا لأنفسنا»، جوابه من وجوه:

أحدها: أنكم أولُ مخالفٍ لقوله، ولا ترون رأيهم لكم خيرًا من رأي الأئمة لأنفسهم، بل تقولون: رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا، فإذا جاءت الفتيا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة وجاءت الفتيا عن الشافعي وأبي حنيفة [41/ب] ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة وأخذتم بما أفتى به الأئمة، فهلَّا كان رأي الصحابة لكم خيرًا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم

(1)

أنفسكم.

الثاني: أن هذا لا يوجب صحة تقليدِ مَن سوى الصحابة؛ لما خصَّهم الله به من العلم والفهم والفضل والفقه عن الله ورسولهم، وشاهدوا الوحي، والتلقي عن الرسول بلا واسطة، ونزول الوحي

(2)

بلغتهم وهي غضَّة محضة لم تُشَبْ، ومراجعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم من القرآن والسنة حتى يُجلِّيه لهم؛ فمن له هذه المزية بعدهم؟ ومن شاركهم في هذه المنزلة حتى يقلَّد كما يقلَّدون فضلًا عن وجوب تقليده وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما صرَّح به غُلاتهم؟ وتالله إن بين علم الصحابة وعلم من قلَّدتموه من الفضل كما بينهم وبينهم في ذلك.

قال الشافعي في «الرسالة القديمة»

(3)

بعد أن ذكرهم وذكر من

(1)

ع: «فنصحتم» دون «لو» .

(2)

«والتلقي

الوحي» ساقطة من ع.

(3)

سبق ذكر هذا النصّ في أول الكتاب، ونسبه إلى «رسالته البغدادية» التي رواها عنه الحسن الزعفراني.

ص: 141

تعظيمهم وفضلهم: وهم فوقنا في كل علمٍ واجتهاد وورع وعقل وأمرٍ استُدرِك به عِلمٌ

(1)

، وآراؤهم لنا أحمدُ وأولى بنا من رأينا.

قال الشافعي: وقد أثنى الله على الصحابة في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحد بعدهم.

وفي «الصحيحين»

(2)

من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبِقُ شهادةُ أحدهم يمينَه ويمينُه شهادتَه» .

وفي «الصحيحين»

(3)

من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفَه» .

وقال ابن مسعود: «إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلبَ محمدٍ خيرَ قلوب العباد، ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خيرَ قلوب العباد، فاختارهم لصحبته، وجعلهم أنصار [42/أ] دينه ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح»

(4)

.

وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنة خلفائه الراشدين، وبالاقتداء

(1)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «عليهم» مخالف لجميع النسخ.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه البخاري (3673) ومسلم (2541).

(4)

رواه أحمد (3600) وأبو داود الطيالسي (243) والبزار (1816)، وحسنه السخاوي في «المقاصد الحسنة» (959). وانظر:«السلسلة الضعيفة» (533).

ص: 142

بالخليفتين

(1)

. وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

. وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود بالعلم

(3)

، ودعا لابن عباس بأن يفقِّهه الله في الدين ويعلِّمه التأويل

(4)

، وضمَّه إليه مرةً وقال:«اللهم علِّمه الحكمة»

(5)

. وناولَ عمرَ في المنام القدحَ الذي شرب منه حتى رأى الرِّيَّ يخرج من تحت أظفاره وأوَّله بالعلم

(6)

، وأخبر أن القوم إن أطاعوا أبا بكر وعمر يرشُدوا

(7)

، وأخبر أنه لو كان بعده نبيٌّ لكان عمر

(8)

، وأخبر أن الله جعل الحقَّ على لسانه وقلبه

(9)

، وقال:«رضيتُ لكم ما رضي لكم ابنُ أم عبد»

(10)

يعني عبد الله بن مسعود. وفضائلهم ومناقبهم وما خصَّهم الله به من العلم والفضل أكثر من أن يُذكر، فهل يستوي تقليد هؤلاء وتقليد من بعدهم ممن

(1)

تقدم تخريجهما.

(2)

رواه البخاري (466) ومسلم (2382).

(3)

رواه أحمد (3599) وابن أبي شيبة (32461)، وصححه ابن حبان (6504).

(4)

سبق تخريجه.

(5)

رواه البخاري (3756) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(6)

رواه البخاري (82) ومسلم (2391) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(7)

رواه مسلم (681) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

(8)

رواه الترمذي (3686) وحسنه، ورواه أحمد أيضًا (17405)، وصححه الحاكم (3/ 85). وانظر:«السلسلة الصحيحة» (327).

(9)

رواه الترمذي وصححه (3682)، وأحمد (5145)، وصححه ابن حبان (6895) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفي الباب عن معاوية وأبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهم. انظر:«مسند أحمد» ط الرسالة (9/ 144).

(10)

رواه البزار (1986)، والطبراني في «الأوسط» (6879)، وصححه الحاكم (3/ 318). انظر:«السلسلة الصحيحة» (1225).

ص: 143

لا يدانيهم ولا يقاربهم؟

الثالث: أنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قلّدتموه حجة، وأكثرُ العلماء بل الذي نصَّ عليه من قلدتموه أن أقوال الصحابة حجة

(1)

يجب اتباعها، ويحرم الخروج منها، كما سيأتي حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك، وأبلغُهم فيه الشافعي، ونبيِّن أنه لا يختلف مذهبه أن قول الصحابي

(2)

حجة، ونذكر نصوصه في الجديد على ذلك إن شاء الله

(3)

، وأن من حكى عنه قولين في ذلك فإنما حكى ذلك بلازمِ قوله لا بصريحه، وإن كان قول الصحابي حجة فقبول قوله حجةً

(4)

واجب متعين، وقبول قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائغًا، فقياس أحد القائلين على الآخر من أفسد القياس وأبطله.

الوجه السادس والستون: قولكم: «وقد جعل الله سبحانه في فِطَر العباد تقليدَ المتعلمين للمعلّمين والأستاذين في جميع الصنائع والعلوم

[42/ب] إلى آخره»، فجوابه أن هذا حق ولا ينكره عاقل، ولكن كيف يستلزم ذلك صحة التقليد في دين الله، وقبولَ قول المتبوع بغير حجة تُوجِب قبولَ قوله، وتقديمَ قوله على قول من هو أعلم منه، وترْكَ الحجة لقوله، وترْكَ أقوال أهل العلم جميعًا من السلف والخلف لقوله؟ فهل جعل الله ذلك

(5)

(1)

«حجة» ساقطة من ت.

(2)

ع: «أقوال الصحابة» .

(3)

انظر (4/ 579) وما بعدها.

(4)

«حجة» ليست في ت، ع.

(5)

«ذلك» ليست في ع.

ص: 144

في فطرة أحد من العالمين؟

ثم يقال: بل الذي فطر الله عليه عباده طلبُ الحجة والدليل المثبت لقول المدعي، فركز سبحانه في فِطَر الناس أنهم لا يقبلون قول من لم يقم الدليل على صحة قوله، ولأجل ذلك أقام الله سبحانه البراهينَ القاطعة والحجج الساطعة والأدلة الظاهرة والآيات الباهرة على صدق رُسله إقامةً للحجة وقطعًا للمعذرة، هذا وهم أصدقُ خلقه وأعلمهم وأبرُّهم وأكملهم، فأتوا بالآيات والحجج والبراهين مع اعتراف أممهم لهم بأنهم

(1)

أصدق الناس، فكيف يُقبل قول من عداهم بغير حجة توجب قبولَ قوله؟ والله تعالى إنما أوجب قبول قولهم بعد قيام الحجة وظهور الآيات المستلزمة لصحة دعواهم؛ لِما جعل الله في فِطَر عباده من الانقياد للحجة

(2)

، وقبول قول صاحبها، وهذا أمر مشترك بين جميع أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم وبَرِّهم وفاجرهم، الانقياد للحجة وتعظيم صاحبها، وإن خالفوه عنادًا وبغيًا ولفَواتِ أغراضهم بالانقياد؛ ولقد أحسن القائل

(3)

:

أبِنْ وجهَ قول الحقِّ في قلب سامعٍ

ودَعْه فنورُ الحقّ يَسرِي ويُشرِقُ

سيُؤنِسُه رِفْقًا وينسى نِفارَه

كما نسيَ التوثيقَ من هو مُطلَقُ

ففطرة الله وشرعته من أكبر الحجج على فرقة

(4)

التقليد.

(1)

ع: «أنهم» .

(2)

ت، ع:«والحجة» .

(3)

هو ابن حزم، كما في «معجم الأدباء» (4/ 1659).

(4)

ع: «فرق» .

ص: 145

الوجه السابع والستون: قولكم: «إنه سبحانه فاوتَ بين قوى الأذهان كما فاوتَ بين قوى الأبدان، فلا يليق بحكمته وعدله أن يفرض على كل أحد معرفةَ الحق بدليله في كل مسألة

إلى آخره»، فنحن لا ننكر ذلك، ولا [43/أ] ندّعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله في كل مسألة من مسائل الدين دِقِّه وجِلِّه، وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومن تقدَّمهم من الصحابة والتابعين، وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، مِن نصْبِ رجلٍ واحد وجعْلِ فتاويه بمنزلة نصوص الشارع، بل تقديمها عليها، وتقديم قوله على أقوال من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع علماء أمته، والاكتفاء بتقليده عن تلقِّي الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة، وأن يضمَّ إلى ذلك أنه لا يقول إلا بما في كتاب الله وسنة رسوله. وهذا مع تضمُّنه للشهادة بما لا يعلم الشاهد، والقول على الله بلا علم، والإخبار عمن خالفه ــ وإن كان أعلمَ منه ــ أنه غير مصيب للكتاب والسنة ومتبوعي هو المصيب، أو يقول: كلاهما مصيب للكتاب والسنة، وقد تعارضت أقوالهما، فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضة متناقضة، والله ورسوله يحكم بالشيء وضدِّه في وقت

(1)

واحد، ودينه تبعٌ لآراء الرجال، وليس له في نفس الأمر حكم معيَّن، فهو إما أن يسلك هذا المسلك أو يخطِّئ من خالف متبوعه، ولا بدَّ له

(2)

من واحد من الأمرين، وهذا من بركة التقليد عليه.

إذا عُرِف هذا فنحن إنما قلنا ونقول: إن الله تعالى أوجب على العباد أن

(1)

«وقت» ساقطة من ع.

(2)

«له» ليست في ع.

ص: 146

يتَّقُوه بحسب استطاعتهم، وأصل التقوى معرفة ما يتّقَى ثم العمل به؛ فالواجب على كل عبدٍ أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم يلتزم طاعة الله ورسوله، وما خفي عليه فهو فيه أسوةَ أمثالِه ممن عدا الرسول؛ فكلُّ أحدٍ سواه قد خفي عليه بعض ما جاء به، ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل العلم، ولم يكلِّفه الله ما لا يطيق من معرفة الحق واتباعه.

قال أبو عمر

(1)

: وليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم[43/ب] إلا وقد خفي عليه بعض أمره، فإذا أوجب الله سبحانه على كل أحد ما استطاعه وبلغَتْه قواه من معرفة الحقّ وعذَرَه فيما خفي عليه منه، فأخطأه أو قلّد فيه غيره= كان ذلك هو مقتضى حكمته وعدله ورحمته، بخلاف ما لو فوّض إلى العباد تقليد من شاؤوا من العلماء، وأن يختار كل منهم رجلًا ينصِبه معيارًا على وحيه، ويُعرِض عن أخذ الأحكام واقتباسها من مشكاة الوحي؛ فإن هذا ينافي حكمته ورحمته وإحسانه، ويؤدي إلى ضياع دينه وهجر كتابه وسنة رسوله كما وقع فيه من وقع، وبالله التوفيق.

الوجه الثامن والستون: قولكم: «إنكم في تقليدكم بمنزلة المأموم مع الإمام والمتبوع مع التابع، والركب خلف الدليل» ، جوابه: إنّا والله حولها نُدندِن

(2)

، ولكن الشأن في الإمام والدليل والمتبوع الذي فرض الله على الخلائق أن تأتم به وتتبعه وتسير خلفه، وأقسم سبحانه بعزته أن العباد لو أتوه من كل طريق أو استفتحوا من كل باب لم يفتح لهم حتى يدخلوا خلفه؛

(1)

لم أجد هذا النص في مؤلفاته الموجودة.

(2)

د: «ندندن حولها» .

ص: 147

فهذا لعمر الله هو إمام الخلق

(1)

ودليلهم وقائدهم حقًّا. ولم يجعل الله منصب الإمامة بعده إلا لمن دعا إليه ودلَّ عليه، وأمر الناس أن يقتدوا به، ويأتمّوا به، ويسيروا خلفه، وأن لا ينصبوا لنفوسهم متبوعًا ولا إمامًا ولا دليلًا غيره، بل يكون العلماء مع الناس بمنزلة أئمة الصلاة مع المصلّين، كل واحد يصلّي طاعةً لله وامتثالًا لأمره، وهم في الجماعة متعاونون متساعدون بمنزلة الوفد مع الدليل، كلهم يحج طاعةً لله وامتثالا لأمره، لا أن

(2)

المأموم يصلي لأجل كون الإمام يصلي، بل هو يصلي صلى إمامه أو لا. بخلاف المقلّد؛ فإنه إنما ذهب إلى قول متبوعه لأنه قاله، لا لأن الرسول قاله، ولو كان كذلك لدار [44/أ] مع قول الرسول أين كان ولم يكن مقلدًا. فاحتجاجهم بإمام الصلاة ودليل الحاج من أظهر الحجج عليهم.

يوضّحه الوجه التاسع والستون: أن المأموم قد علم أن هذه الصلاة التي فرضها الله سبحانه على عباده، وأنه وإمامه في وجوبها سواء، وأن هذا البيت هو الذي فرض الله حجه على من استطاع إليه سبيلًا

(3)

، وأنه هو والدليل في هذا الفرض سواء، فهو لم يحج تقليدًا للدليل، ولم يصلِّ تقليدًا للإمام.

وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم دليلًا يدلُّه على طريق المدينة لما هاجر الهجرة التي فرضها الله عليه

(4)

، وصلّى خلف عبد الرحمن بن عوف مأمومًا

(5)

،

(1)

ع: «إمامهم» .

(2)

ع: «لأن» خطأ.

(3)

«سبيلا» ليست في ع.

(4)

رواه البخاري (2263) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

رواه مسلم (274) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

ص: 148

والعالم يصلّي خلف مثلِه ومن هو دونه، بل خلف من ليس بعالم، وليس من تقليده في شيء.

يوضّحه الوجه السبعون: أن المأموم يأتي بمثل ما يأتي به الإمام سواء، والركْب يأتون بمثل ما يأتي به الدليل، ولو لم يفعلا

(1)

ذلك لما كان هذا متبعًا، فالمتبع للأئمة هو الذي يأتي بمثل ما أتوا به سواء، من معرفة الدليل وتقديم الحجة وتحكيمها حيث كانت ومع من كانت؛ فهذا يكون متبعًا لهم، وأما مع إعراضه عن الأصل الذي قامت عليه إمامتهم ويسلك غير سبيلهم ثم يدعي أنه مؤتمٌّ بهم فتلك أمانيُّهم، ويقال لهم:{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].

الوجه الحادي والسبعون: قولكم: «إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد، وكان الناس حديثي عهد بالإسلام، وكانوا يفتونهم، ولم يقولوا لأحد منهم: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل» ، جوابه: أنهم لم يفتوهم بآرائهم، وإنما بلَّغوهم ما قاله نبيهم وفعله وأمر به؛ فكان ما أفتوهم به هو الحكم وهو الحجة، وقالوا لهم: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، فكان ما يخبرونهم به هو نفس الدليل وهو الحكم؛ فإن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحكم وهو دليل الحكم، وكذلك القرآن، وكان الناس [44/ب] إذ ذاك إنما يحرِصون على معرفة ما قاله نبيهم وفعله وأمر به، وإنما تبلِّغهم الصحابة ذلك.

فأين هذا من زمانٍ إنما يحرِص أشباه الناس فيه على ما قاله الآخِر فالآخِر، وكلما تأخَّر الرجل أخذوا كلامه وهجروا أو كادوا يهجرون كلام

(1)

ع: «لم يفعلوا» .

ص: 149

من فوقه

(1)

، حتى تجد أتباع الأئمة أشدَّ الناس هجرًا لكلامهم، وأهل كل عصر إنما يقضون ويفتون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بعُدَ العهد ازداد كلام المتقدم هجرًا ورغبة عنه، حتى إن كتبه

(2)

لا تكاد تجد عندهم منها شيئًا بحسب تقدُّم زمانه. ولكن أين قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للتابعين: لينصِبْ كلٌّ منكم لنفسه رجلًا يختاره ويقلّده دينه ولا يلتفت إلى غيره، ولا يتلقَّى الأحكام من الكتاب والسنة، بل من تقليد الرجال، فإذا جاءكم عن الله ورسوله شيء وعن من نصبتموه إمامًا تقلّدونه فخذوا بقوله، ودعُوا ما بلغكم عن الله ورسوله؛ فوالله لو كُشِف الغطاء لكم وحقَّت الحقائق لرأيتم نفوسكم وطريقكم مع الصحابة كما قال الأول

(3)

:

نزلُوا بمكةَ في قبائل هاشمٍ

ونزلتُ بالبيداءِ أبعدَ منزل

وكما قال الثاني

(4)

:

سارتْ مشرِّقةً وسرتُ مغرِّبًا

شتَّانَ بين مشرِّقٍ ومغرِّب

وكما قال الثالث

(5)

:

(1)

ت، ع:«من هو فوقه» .

(2)

ع: «كتبهم» .

(3)

البيت لعمر بن أبي ربيعة في «ديوانه» (ص 320)، وبلا نسبة في «أمالي القالي» (1/ 202) و «طبقات الفقهاء» للشيرازي (ص 124).

(4)

البيت بلا نسبة في «الوافي بالوفيات» (6/ 64) و «تاج العروس» (شرق) و «إغاثة اللهفان» (1/ 373).

(5)

هو عمر بن أبي ربيعة، انظر «ديوانه» (ص 503) و «الكامل» (2/ 780) و «الشعر والشعراء» (2/ 562) و «الأغاني» (1/ 122) وغيرها.

ص: 150

أيّها المُنْكِحُ الثّريّا سُهيلًا

عَمْرَك الله كيفَ يلتقيانِ

هي شاميَّةٌ إذا ما استقلَّتْ

وسهيلٌ إذا استقلَّ يمان

الوجه الثاني والسبعون: قولكم: «إن التقليد من لوازم الشرع والقدر، والمنكرون له مضطرون إليه، ولا بدَّ كما تقدم بيانه من الأحكام» ، جوابه: أن التقليد المنكر المذموم ليس من لوازم الشرع، وإن كان من لوازم القدر، بل بطلانه وفساده من لوازم الشرع، كما عُرِف بهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها، وإنما الذي من لوازم الشرع المتابعة، [45/أ] وهذه المسائل التي ذكرتم أنها من لوازم الشرع ليست تقليدًا، وإنما هي متابعة وامتثال للأمر، فإن أبيتم إلا تسميتها تقليدًا فالتقليد بهذا الاعتبار حق، وهو من الشرع، ولا يلزم من ذلك أن يكون التقليد الذي وقع النزاع فيه من الشرع، ولا من لوازمه، وإنما بطلانه من لوازمه.

يوضّحه الوجه الثالث والسبعون: أن ما كان من لوازم الشرع فبطلان ضدّه من لوازم الشرع؛ فلو كان التقليد الذي وقع فيه النزاع من لوازم الشرع لكان بطلان الاستدلال واتباع الحجة في موضع التقليد من لوازم الشرع؛ فإنّ ثبوت أحد النقيضين يقتضي انتفاء الآخر، وصحة أحد الضدَّين يوجب بطلان الآخر. ونُحرِّره دليلًا فنقول: لو كان التقليد من الدين لم يجز العدول عنه إلى الاجتهاد والاستدلال؛ لأنه يتضمن بطلانه.

فإن قيل: كلاهما من الدين، وأحدهما أكملُ من الآخر؛ فيجوز العدول عن المفضول إلى الفاضل.

قيل: إذا كان قد

(1)

انسدَّ باب الاجتهاد عندكم وقُطِعَتْ طريقُه وصار

(1)

«قد» ليست في ت.

ص: 151

الغرض هو التقليد، فالعدول عنه إلى ما قد سُدَّ بابه وقُطِعت طريقه يكون عندكم معصية وفاعله آثمًا، وفي هذا من قطْعِ طريق العلم وإبطال حجج الله وبيناته وخلوِّ الأرض من قائمٍ لله بحججه ما يبطل هذا القول ويدحضه. وقد ضَمِنَ النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرُّهم من خذَلَهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة

(1)

، وهؤلاء هم أولو العلم والمعرفة بما بعث الله به رسوله؛ فإنهم على بصيرة وبينة، بخلاف الأعمى الذي قد شهد على نفسه بأنه ليس من أولي العلم والبصائر.

والمقصود أن الذي هو من لوازم الشرع فالمتابعة والاقتداء، وتقديم النصوص على آراء الرجال، وتحكيم الكتاب والسنة [45/ب] في كلّ ما تنازع فيه العلماء. وأما الزهد في النصوص، والاستغناء عنها بآراء الرجال، وتقديمها عليها، والإنكار على من جعل كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة نُصْبَ عينيه وعرضَ أقوال العلماء عليها ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله وليجة= فبطلانُه من لوازم الشرع، ولا يتم الدين إلا بإنكاره وإبطاله، فهذا لون والاتباع لون، والله الموفق.

الوجه الرابع والسبعون: قولكم: «كل حجة أثرية احتججتم بها على بطلان التقليد فأنتم مقلّدون لحملتها ورواتها، وليس بيد العالم إلا تقليد الراوي، ولا بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، ولا بيد العامي إلا تقليد العالم

إلى آخره».

جوابه: ما تقدَّم مرارًا من أن هذا الذي سميتموه تقليدًا هو اتباع أمر الله ورسوله، ولو كان هذا تقليدًا لكان كل عالم على وجه الأرض بعد الصحابة

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 152

مقلّدًا، بل كان الصحابة الذين أخذوا عن نظرائهم مقلدين. ومثل هذا الاستدلال لا يصدر إلا من مشاغبٍ أو ملبِّس يقصد لَبْس الحقّ بالباطل. والمقلّد لجهله أخذ نوعًا صحيحًا من أنواع التقليد، واستدلّ به على النوع الباطل منه لوجود القدر المشترك، وغَفَل عن القدر الفارق، وهذا هو القياس الباطل المتفق على ذمه، وهو أخو هذا التقليد الباطل، كلاهما في البطلان سواء. وإذا جعل الله سبحانه خبرَ الصادق حجة وشهادة العدل حجة لم يكن متبع الحجة مقلدًا، وإن قيل: إنه مقلّد للحجة فحيَّهلا بهذا التقليد وأهله، وهل نُدندِن إلا حوله؟ والله المستعان.

الوجه الخامس والسبعون: قولكم: «أنتم منعتم من التقليد خشيةَ وقوع المقلّد في الخطأ بأن يكون من قلَّده مخطئًا في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر [46/أ] والاستدلال في طلب الحق، ولا ريب أن صوابه في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من اجتهاده هو لنفسه، كمن أراد شراء سلعةٍ لا خِبرةَ له بها فإنه إذا قلّد عالمًا بتلك السلعة خبيرًا بها أمينًا ناصحًا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه» .

جوابه من وجوه:

أحدها: أنّا منعنا التقليد طاعةً لله ورسوله، والله ورسوله منع منه، وذمّ أهله في كتابه، وأمر بتحكيمه وتحكيم رسوله وردِّ ما تنازعت فيه الأمة إليه وإلى رسوله، وأخبر أن الحكم له وحده، ونهى أن يتخذ من دونه ودون رسوله وليجة، وأمر أن يعتصم بكتابه، ونهى أن يتخذ من دونه أولياء وأربابًا يُحِلُّ من اتخذهم ما أحلُّوه ويُحرِّم ما حرَّموه، وجعل

(1)

من لا علم له بما

(1)

«وجعل» ليست في ت.

ص: 153

أنزله على رسوله بمنزلة الأنعام، وأمر بطاعة أولي الأمر إذا كانت طاعتهم طاعةً لرسوله بأن يكونوا متبعين لأمره مخبرين به، وأقسم بنفسه سبحانه أنّا لا نؤمن حتى نُحكِّم الرسول خاصة فيما شجر بيننا لا نحكِّم غيرَه، ثم لا نجد في أنفسنا حرجًا مما حكم به، كما يجده المقلدون إذا جاء حكمه خلاف قول من قلَّدوه، وأن نسلِّم لحكمه تسليمًا

(1)

، كما يسلِّم المقلدون لأقوال من قلَّدوه، بل تسليمًا أعظم من تسليمهم وأكمل، والله المستعان. وذمَّ من حاكمَ إلى غير الرسول، وهذا كما أنه ثابت في حياته فهو ثابت بعد مماته، فلو كان حيًّا بين أظهرنا وتحاكمنا إلى غيره لكنّا من أهل الذم والوعيد؛ فسنته وما جاء به من الهدى ودين الحق لم يمت، وإن فُقِد من بين الأمة شخصُه الكريم فلم يُفقَد من بينها سنته ودعوته وهَدْيه، والعلم والإيمان بحمد الله مكانَهما، من ابتغاهما وجدهما.

وقد ضمن الله سبحانه حفْظَ الذكر الذي أنزله [46/ب] على رسوله؛ فلا يزال محفوظًا بحفظ الله مَحميًّا بحمايته لتقوم حجة الله على العباد قرنًا بعد قرن؛ إذ كان نبيهم آخر الأنبياء ولا نبيَّ بعده؛ فكان حفظه لدينه وما أنزله على رسوله مُغنِيًا عن رسول آخر بعد خاتم الرسل. والذي أوجبه الله سبحانه وفرضه على الصحابة من تلقِّي العلم والهدى من القرآن والسنة دون غيرهما هو بعينه واجب على من بعدهم، وهو محكم لم يُنسخ، ولا يتطرَّق إليه النسخ حتى ينسخ الله العالَم ويطوي الدنيا.

وقد ذمّ الله تعالى من إذا دُعي إلى ما أنزل الله وإلى رسوله صدَّ وأعرض، وحذّره أن تصيبه مصيبة بإعراضه عن ذلك في قلبه ودينه ودنياه،

(1)

«تسليما» ليست في د.

ص: 154

وحذّر مَن خالف عن أمره واتبع غيره أن تصيبه فتنة أو يصيبه عذاب أليم؛ فالفتنة في قلبه، والعذاب الأليم في بدنه

(1)

وروحه، وهما متلازمان؛ فمن فُتِن في قلبه بإعراضه عما جاء به ومخالفته له إلى غيره أصيب بالعذاب الأليم ولا بدَّ، وأخبر سبحانه أنه إذا قضى أمرًا على لسان رسوله لم يكن لأحد من المؤمنين أن يختار من أمره غيرَ ما قضاه، فلا خِيرَة

(2)

لمؤمنٍ بعد قضائه البتَّةَ.

ونحن نسأل المقلّدين: هل يمكن أن يخفى قضاء الله ورسوله على من قلّدتموه دينَكم في كثير من المواضع أم لا؟ فإن قالوا: «لا يمكن أن يخفى عليه ذلك» أنزلوه فوق منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة كلِّهم؛ فليس أحد منهم إلا وقد خفي عليه بعض ما قضى الله ورسوله به

(3)

:

فهذا الصدّيق أعلمُ الأمة به خفي عليه ميراث الجدّة، حتى أعلمه به محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة

(4)

.

(1)

د: «قلبه» .

(2)

ت: «خير» .

(3)

يراجع للأمثلة الآتية وغيرها: «الإحكام» لابن حزم (6/ 89) و «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» ضمن «مجموع الفتاوى» (20/ 234 - 238) و «الصواعق المرسلة» (2/ 543 - 551).

(4)

رواه أبو داود (2894) والترمذي (2101) وابن ماجه (2724) من طريق عثمان بن إسحاق بن خرشة، عن قبيصة بن ذؤيب، وإسناده ضعيف؛ لأنَّ عثمان بن إسحاق بن خرشة لا يعرف بالرواية، وقبيصة بن ذؤيب لم يسمع أبا بكر الصديق، وكذا اضطرب الرواة عن الزهري في إسناده، والحديث ضعفه ابن حزم والألباني. انظر:«المحلى» (8/ 292) و «الإرواء» (6/ 124) و «ضعيف أبي داود» - الأم (2/ 393).

ص: 155

وخفي عليه أن الشهيد لا ديةَ له حتى أعلمه به عمر، فرجع إلى قوله

(1)

.

وخفي على عمر تيمّم الجنب فقال: لو بقي شهرًا لم يصلِّ حتى يغتسل

(2)

.

وخفي عليه دية الأصابع، فقضى في الإبهام والتي [47/أ] تليها بخمس وعشرين، حتى أُخبِر أن في كتابٍ إلى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيها بعشرٍ عشرٍ؛ فترك قوله ورجع إليه

(3)

.

وخفي عليه شأن الاستئذان حتى أخبره به أبو موسى وأبو سعيد الخدري

(4)

.

وخفي عليه توريث المرأة من دية زوجها حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي ــ وهو أعرابي من أهل البادية ــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يُورِث امرأة أشْيمَ الضِّبابي من دية زوجها

(5)

.

وخفي عليه حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه، فوجده عند المغيرة بن شعبة

(6)

.

وخفي عليه أمر المجوس في الجزية، حتى أخبره عبد الرحمن بن

(1)

تقدم تخريجه في قصة وفد بزاخة.

(2)

رواه البخاري (338) ومسلم (368).

(3)

رواه عبد الرزاق (17698) من طريق يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب.

(4)

رواه البخاري (2062) ومسلم (2153).

(5)

سبق تخريجه.

(6)

رواه البخاري (6907) ومسلم (1689). والإملاص: إسقاط الجنين.

ص: 156

عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هَجَر

(1)

.

وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض، فكان يردُّهن حتى يطهرن ثم يطفن، حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، فرجع عن قوله

(2)

.

وخفي عليه التسوية بين دية الأصابع، وكان يُفاضِل بينها حتى بلغتْه السنة في التسوية، فرجع إليها

(3)

.

وخفي عليه شأن متعة الحج، وكان ينهى عنها

(4)

، حتى وقف على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، فترك قوله وأمر بها

(5)

.

وخفي عليه جواز التسمِّي بأسماء الأنبياء فنهى عنه، حتى أخبره طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كنّاه أبا محمد، فأمسك ولم يتمادَ على النهي

(6)

، هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر الصحابة، ولكن لم يمرَّ بباله رضي الله عنه أمرٌ هو بين يديه حتى نهى عنه.

(1)

رواه البخاري (3156، 3157).

(2)

رواه أبو داود (2004) وأحمد (15440) والنسائي في الكبرى (4171) من طريق يعلى بن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس به، وإسناده صحيح. انظر:«صحيح أبي داود» - الأم (6/ 246).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

رواه مسلم (1217) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

رواه البخاري (1559) ومسلم (1221) من حديث أبي موسى رضي الله عنه. وليس فيه أنه ترك قوله وأمر بها، بل احتج لقوله وبقي عليه.

(6)

رواه أحمد (17896) والطبراني (544)، وفيهما أن محمد بن طلحة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه محمدًا.

ص: 157

وكما خفي عليه قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقوله:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، حتى قال: والله كأنّي ما سمعتُها قطُّ قبل وقتي هذا

(1)

.

وكما خفي عليه حكم الزيادة في المهر على مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته، حتى ذكَّرتْه تلك المرأة بقوله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فقال: كل أحدٍ [47/ب] أفقهُ من عمر حتى النساء

(2)

.

وكما خفي عليه أمر الجد والكلالة وبعض

(3)

أبواب الربا، فتمنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهِد إليهم فيها عهدًا

(4)

.

وكما خفي عليه يوم الحديبية أن وعد الله لنبيه وأصحابه بدخول مكة مطلقٌ لا يتعيَّن لذلك العام، حتى بيَّنه له النبي صلى الله عليه وسلم

(5)

.

وكما خفي عليه جواز استدامة الطيب للمحرم وتطيبه بعد النحر وقبل

(1)

رواه ابن ماجه (1627)، وبنحوه عند البخاري (4454) كلاهما من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه سعيد بن منصور (598) من طريق مجالد عن الشعبي عنه به، ومجالد متكلم فيه، والشعبي لم يسمع من عمر رضي الله عنه. وانظر:«الإرواء» (6/ 348).

(3)

«بعض» ليست في د.

(4)

رواه البخاري (5588) ومسلم (3032) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(5)

رواه البخاري (2731).

ص: 158

طواف الإفاضة

(1)

وقد صحت السنة بذلك

(2)

.

وكما خفي عليه أمر القدوم على محلِّ الطاعون أو الفرار منه، حتى أُخبِر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تدخلوها، وإذا وقع وأنتم بأرضٍ فلا تخرجوا منها فرارًا منه»

(3)

.

هذا، وهو أعلم الأمة بعد الصديق على الإطلاق. وهو

(4)

كما قال ابن مسعود: لو وُضِع علم عمر في كِفّة ميزانٍ، وجُعِل علم أهل الأرض في كِفَّة، لرجَحَ علم عمر. قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: والله إني لأحسب عمر ذهب بتسعةِ أعشارِ العلم

(5)

.

وخفي على عثمان بن عفان أقلُّ مدة الحمل، حتى ذكَّره ابن عباس بقوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فرجع إلى ذلك

(6)

.

(1)

رواه البخاري (5914) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (1539) ومسلم (1189) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

رواه البخاري (5728) ومسلم (2218) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

(4)

«هو» ليست في ع.

(5)

سبق تخريجه.

(6)

رواه مالك بلاغًا (11)، ووصله سعيد بن منصور (2075) من طريق الأعمش عن مسلم بن صبيح عن قائد ابن عباس، ولم يسم، لكنه توبع بأبي عبيد مولى عبد الرحمن عند ابن شبة في «تاريخ المدينة» (3/ 977) وابن منده في «التوحيد» (101) من طريق ابن شهاب عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن، وإسناده صحيح. ومثل هذه القصة حصلت مع عمر، ونقل ابن عبد البر تصحيح القصتين عن عكرمة انظر:«الاستذكار» (7/ 492).

ص: 159

وخفي على أبي موسى الأشعري ميراث بنت الابن مع البنت السدس، حتى ذُكِر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَّثها ذلك

(1)

.

وخفي على ابن عباس تحريم لحوم الحُمُر الأهلية، حتى ذُكِر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّمها يوم خيبر

(2)

.

وخفي على ابن مسعود حكم المفوّضة، وتردَّدوا إليه فيها شهرًا فأفتاهم برأيه، ثم بلغه النصُّ بمثل ما أفتى به

(3)

.

وهذا باب لو تتبعناه لجاء سِفْرًا كبيرًا، فنسأل حينئذٍ فرقةَ التقليد: هل يجوز أن يخفى على من قلَّدتموه بعضُ شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما خفي ذلك على سادات الأمة أو لا؟ فإن قالوا: «لا يخفى عليه» وقد [48/أ] خفي على الصحابة مع قرب عهدهم= بلغوا في الغلوّ مبلغَ مدَّعي العصمة في الأئمة، وإن قالوا:«بل يجوز أن يخفى عليهم» وهو الواقع، وهم مراتبُ في الخفاء في القلة والكثرة= قلنا

(4)

: فنحن نناشدكم الله الذي هو عند لسان كل

(5)

قائل وقلبه، إذا قضى الله ورسوله أمرًا خفي على من قلّدتموه: هل تبقى لكم الخيرةُ بين قبول قوله وردِّه، أم تنقطع خِيرتُكم وتوجبون العمل بما قضاه الله ورسوله عينًا لا يجوز سواه؟ فأعِدُّوا لهذا السؤال جوابًا، وللجواب صوابًا؛ فإن السؤال واقع، والجواب لازم.

(1)

رواه البخاري (6736).

(2)

رواه البخاري (4227، 5529) ومسلم (1939).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

«قلنا» ليست في د.

(5)

د: «كل لسان» .

ص: 160

والمقصود أن هذا هو الذي مَنَعَنا من التقليد، فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر تسوِّغ لكم ما ارتضيتموه لأنفسكم من التقليد؟

الوجه الثاني: أن قولكم: «صواب المقلّد في تقليده لمن هو أعلم منه أقربُ من صوابه في اجتهاده» دعوى باطلة؛ فإنه إذا قلّد من قد خالفه غيره ممن هو نظيره أو أعلم منه لم يدْرِ: على صوابٍ هو من تقليده أم على خطأ، بل هو ــ كما قال الشافعي ــ حاطبُ ليلٍ

(1)

، إما أن يقع بيده عودٌ أو أفعى تلدغه. وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة الحق فإنه بين أمرين: إما أن يظفَر به فله أجران، وإما أن يخطئه فله أجر، فهو مصيب للأجر ولا بدّ، بخلاف المقلّد المتعصب فإنه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ لم يسلَمْ من الإثم، فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده؟

الوجه الثالث: أنه إنما يكون أقربَ إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع من قلَّده دون غيره، وحينئذٍ فلا

(2)

يكون مقلدًا له، بل متبعًا للحجة. وأما إذا لم يعرف ذلك البتَّةَ فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذلٍ جهدَه ومستفرغٍ وُسعَه في طلب الحق؟

الوجه الرابع: أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء من امتثل أمر الله فردَّ ما تنازعوا فيه إلى القرآن [48/ب] والسنة، وأما من ردَّ ما تنازعوا فيه إلى قول متبوعه دون غيره فكيف يكون أقربَ إلى الصواب؟

الوجه الخامس: أن المثال الذي مثَّلتم به من أكبر الحجج عليكم؛ فإن من أراد شراء سِلْعة أو سلوكَ طريق حين اختلف عليه اثنان أو أكثر، وكل

(1)

سبق توثيقه.

(2)

ع: «لا» .

ص: 161

منهم يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر، فإنه لا يُقدِم على تقليد واحد منهم، بل يبقى مترددًا طالبًا للصواب من أقوالهم؛ فلو أقدمَ على قبول قول أحدهم، مع مساواة الآخر له

(1)

في المعرفة والنصيحة والديانة، أو كونه فوقه في ذلك= عُدَّ مخاطرًا مذمومًا، ولم يُمدَح إن أصاب. وقد جعل الله في فِطَر العقلاء في مثل هذا أن يتوقف أحدهم، ويطلب ترجيح قول المختلفين عليه من خارجٍ، حتى يستبين له الصواب، ولم يجعل في فطرهم الهَجْمَ على قبول قول واحد واطِّراحَ قول من عداه.

الوجه السادس والسبعون: أن نقول لطائفة المقلدين: هل تسوِّغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو تقليد بعضهم دون بعض؟ فإن سوَّغتم تقليد الجميع كان تسويغكم لتقليد من انتميتم إلى مذهبه كتسويغكم لتقليد غيره سواء، فكيف صارت أقوال هذا العالم مذهبًا لكم تفتون وتقضون بها وقد سوّغتم من تقليد هذا ما سوّغتم من تقليد الآخر؟ فكيف صار هذا صاحب مذهبكم دون هذا؟ وكيف استجزتم أن تردُّوا أقوال هذا وتقبلوا أقوال هذا وكلاهما عالم يسوغ اتباعه؟ فإن كانت أقواله من الدين فكيف ساغ لكم دفع الدين؟ وإن لم تكن أقواله من الدين فكيف سوَّغتم تقليده؟ وهذا لا جواب لكم عنه.

يوضّحه الوجه السابع والسبعون: أن من قلّدتموه إذا روي عنه قولان أو روايتان سوَّغتم العمل بهما، وقلتم: مجتهد له قولان؛ فيسُوغ لنا الأخذ بهذا [49/أ] وهذا، وكان القولان جميعًا مذهبًا لكم، فهلّا جعلتم قول نظيره من المجتهدين بمنزلة قوله الآخر وجعلتم القولين جميعًا مذهبًا لكم، وربما كان

(1)

«له» ليست في ت، ع.

ص: 162

قولُ نظيره ومن هو أعلمُ منه أرجحَ من قوله الآخر وأقربَ إلى الكتاب والسنة؟

يوضّحه الوجه الثامن والسبعون: أنكم معاشرَ المقلدين إذا قال بعض أصحابكم ممن قلّدتموه قولًا خلافَ قول المتبوع أو خرَّجه على قوله جعلتموه وجهًا، وقضيتم وأفتيتم به، وألزمتم بمقتضاه، فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم أو فوقه قولًا يخالفه لم تلتفتوا إليه ولم تعدُّوه شيئا، ومعلوم أن واحدًا من الأئمة الذين هم نظير متبوعكم أجلُّ من جميع أصحابه من أولهم إلى آخرهم، فقدِّروا أسوأ التقادير أن يكون قوله بمنزلة وجهٍ في مذهبكم.

فيا لله العجب! صار من أفتى أو حكم بقول واحد من مشايخ المذهب أحقَّ بالقبول ممن أفتى بقول الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس

(1)

وأبي بن كعب وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل، وهذا من بركة التقليد عليكم.

وتمام ذلك بالوجه التاسع والسبعين: أنكم إن رمتم التخلُّص من هذه الخطّة، وقلتم

(2)

: بل يسوغ تقليد بعضهم دون بعض، وقالت كل فرقة منكم: يسوغ أو يجب تقليد من قلّدناه دون غيره من الأئمة الذين هم مثله أو أعلم منه= كان أقلّ ما في ذلك معارضة

(3)

قولكم بقول الفرقة الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض.

ثم يقال: ما الذي جعل متبوعكم أولى بالتقليد من متبوع الفرقة الأخرى؟ بأي كتاب أم بأية سنة؟ وهل تقطَّعت الأمة أمرَها

(4)

بينها زُبرًا

(1)

«وابن عباس» في ع مؤخر إلى ما بعد معاذ بن جبل.

(2)

«وقلتم» ليست في ت.

(3)

«معارضة» ساقطة من ع.

(4)

«أمرها» ليست في ت، وفي ع:«من أمرها» .

ص: 163

وصار كل حزب بما لديهم فرحون إلا بهذا السبب؟ فكل طائفة تدعو إلى متبوعها وتَنْأَى عن غيره وتنهى عنه، وذلك يُفضي

(1)

إلى التفريق بين الأمة، وجَعْلِ دين الله تابعًا للتشهّي والأغراض وعُرضةً للاضطراب والاختلاف، وهذا كله يدلّ على أن [49/ب] التقليد ليس من عند الله للاختلاف الكثير الذي فيه. ويكفي في فساد هذا المذهب تناقضُ أصحابه ومعارضة أقوالهم بعضِها ببعض، ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليدَ صاحبهم وتحريمُهم تقليدَ الواحد من أكابر الصحابة كما صرّحوا به في كتبهم.

الوجه الثمانون: أن المقلّدين حكموا على الله قدرًا وشرعًا بالحكم الباطل جِهارًا المخالفِ لما أخبر به رسوله، فأخلَوا الأرض من القائمين لله بحججه

(2)

، وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة؛ فقالت طائفة: ليس لأحدٍ أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد اللؤلؤي. وهذا قول كثير من الحنفية

(3)

. وقال بكر بن العلاء القُشيري المالكي: ليس لأحدٍ أن يختار بعد المائتين من الهجرة

(4)

. وقال آخرون: «ليس لأحدٍ أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجرّاح وعبد الله بن المبارك

(5)

. وقالت طائفة: ليس لأحدٍ أن يختار بعد الشافعي

(6)

.

(1)

د: «مفضي» .

(2)

ت: «بحجة» .

(3)

كما نقله ابن حزم في «الإحكام» (4/ 146).

(4)

المرجع السابق.

(5)

انظر المرجع السابق.

(6)

انظر: «الإبهاج في شرح المنهاج» للسبكي وابنه (3/ 206)، منسوبًا إلى إمام الحرمين.

ص: 164

واختلف المقلّدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه ويكون له وجه يفتي ويحكم به، ومن ليس كذلك، وجعلوهم ثلاث مراتب: طائفة أصحاب وجوه كابن سُريج والقفّال وأبي حامد، وطائفة أصحاب احتمالات لا أصحاب وجوه كأبي المعالي، وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات كأبي حامد وغيره.

واختلفوا متى انسدَّ باب الاجتهاد على أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، وعند هؤلاء أن الأرض قد خلتْ من قائمٍ لله بحججه

(1)

، ولم يبقَ فيها من يتكلّم بالعلم، ولم يحلَّ لأحدٍ بعدُ أن ينظر في كتاب الله ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منها، ولا يقضي ويفتي بما فيها حتى يعرضه على قول مقلَّده ومتبوعه، فإن [50/أ] وافقه حكم به وأفتى به، وإلا ردَّه ولم يقبله.

وهذه أقوال ــ كما ترى ــ قد بلغتْ من الفساد والبطلان والتناقض، والقولِ على الله بلا علم، وإبطالِ حججه، والزهدِ في كتابه وسنة رسوله، وتلقِّي الأحكام منهما= مبلغَها، ويأبى الله إلا أن يتمَّ نوره ويصدِّق قول رسوله: إنه لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحججه

(2)

(3)

، ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به

(4)

، وأنه لا يزال يبعث على رأس كلِّ مائة سنةٍ لهذه الأمة من يجدِّد لها دينها

(5)

.

(1)

ت: «بحجة» .

(2)

سبق تخريجه.

(3)

«والزهد

بحججه» ساقطة من ع.

(4)

سبق تخريجه.

(5)

رواه أبو داود (4291)، والطبراني في «المعجم الأوسط» (6527)، والحاكم (4/ 522) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه السخاوي في «المقاصد الحسنة» (238) وعزا تصحيحه إلى الحاكم، وصححه أيضًا الألباني في «السلسلة الصحيحة» (599).

ص: 165

ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يقال لأربابها: فإذا لم يكن لأحدٍ أن يختار بعد من ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم؟ وكيف حرّمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاده من القول الموافق لكتاب الله وسنة رسوله، وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلّدتموه، وأوجبتم على الأمة تقليده، وحرّمتم تقليد من سواه، ورجحتموه على تقليد من سواه؟ فما الذي سوَّغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليلَ عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب، وحرَّم اختيارَ ما عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؟

ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك، فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك، دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو ممن جاء بعده؟ وموجَبُ هذا القول أن أشهب وابن الماجشون ومطرِّف بن عبد الله وأصبغ بن الفرج وسَحنون بن سعيد

(1)

وأحمد بن المعذَّل ومن في طبقتهم من الفقهاء كان لهم أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مائتين، فلما استهلَّ هلال

(2)

المحرّم من سنة إحدى ومائتين وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم

(1)

ت: «سعد» خطأ.

(2)

«هلال» ليست في ت.

ص: 166

في الوقت بلا مهلةٍ ما كان مطلقًا [50/ب] لهم من الاختيار!

ويقال للآخرين: أليس من المصائب وعجائب الدنيا تجويزُكم الاختيارَ والاجتهاد والقول في دين الله بالرأي والقياس لمن ذكرتم من أئمتكم، ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفَّاظ الإسلام وأعلمِ الأمة بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم، كأحمد

(1)

بن حنبل والشافعي وإسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري وداود بن علي ونظرائهم، على سعة علمهم بالسنن، ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم، وتحريهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين، ودقة نظرهم، ولطف استخراجهم للدلائل. ومن قال منهم بالقياس فقياسه من أقرب القياس إلى الصواب، وأبعده عن الفساد، وأقربه إلى النصوص، مع شدة ورعهم وما منحهم الله من محبة المؤمنين لهم وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم لهم.

فإن احتجّ كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه التراجيح من: تقدُّم زمانٍ، أو زهدٍ، أو ورعٍ، أو لقاءِ شيوخ وأئمة لم يلْقَهم مَن بعده، أو كثرةِ أتباعٍ لم يكونوا لغيره= أمكن الفريقَ الآخر أن يُبدوا لمتبوعهم من الترجيح بذلك أو غيره ما هو مثل هذا أو فوقه، وأمكن غيرَ هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعًا: نفوذ قولكم هذا إن لم تأنفوا من التناقض يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم منه من الصحابة والتابعين وأعلم وأورع وأزهد وأكثر اتباعًا وأجلُّ، فأين أتباع ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل بل أتباع عمر وعلي من أتباع الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة؟ وهذا

(1)

ت: «كالإمام أحمد» .

ص: 167

أبو هريرة قال البخاري: حمل العلم عنه ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع

(1)

. وهذا زيد بن ثابت من جملة أصحابه عبد الله بن عباس، وأين في أتباع [51/أ] الأئمة مثلُ عطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وجابر بن زيد؟ وأين في أتباعهم مثل السعيدَين

(2)

والشعبي ومسروق وعلقمة والأسود وشُريح؟ وأين في أتباعهم مثلُ نافع وسالم والقاسم وعروة وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن؟ فما الذي جعل الأئمة بأتباعهم أسعدَ من هؤلاء بأتباعهم؟ ولكن أولئك وأتباعهم على قدر عصرهم، فعِظَمُهم وجلالتهم وكِبَرُهم منع المتأخرين من الاقتداء بهم، وقالوا بلسان قالهم وحالهم: هؤلاء كبار علينا لسنا من زَبونهم، كما صرَّحوا وشهِدوا على أنفسهم بأنّ أقدارهم تتقاصر عن تلقّي العلم من القرآن والسنة، وقالوا: لسنا أهلًا لذلك، لا لقصور الكتاب والسنة، ولكن لعَجْزِنا نحن وقصورنا، فاكتفينا بمن هو أعلم بهما منّا.

فيقال لهم: فلِمَ تُنكرون على من اقتدى بهما وحكَّمهما وتحاكم إليهما، وعرضَ أقوال العلماء عليهما فما وافقهما قَبِلَه وما خالفهما ردَّه؟ فهَبْ أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود فلِمَ تنكرون على من وصل إليه وذاق حلاوته؟ وكيف تحجَّرتم الواسعَ من فضل الله الذي ليس على قياس عقول العالمين ولا اقتراحاتهم، وهم وإن كانوا في عصركم ونشأوا معكم وبينكم وبينهم نسبٌ قريب فالله يمنُّ على من يشاء من عباده.

(1)

انظر: «الاستيعاب» (4/ 1771) و «جامع الأصول» (12/ 591) و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 561) والإصابة (13/ 41).

(2)

أي سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير.

ص: 168

وقد أنكر الله سبحانه على من ردَّ النبوة بأن الله صرَفَها عن عظماء القرى ورؤسائها وأعطاها لمن ليس كذلك، بقوله:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثلُ أمتي كالمطر، لا يُدرَى أولُه خير أم آخره»

(1)

. وقد أخبر الله سبحانه عن السابقين بأنهم {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13 - 14]، وأخبر سبحانه [51/ب] أنه {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، ثم قال:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، ثم

(2)

أخبر أن {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4].

وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد، وذكرنا من

(3)

مآخذهما وحجج أصحابهما وما لهم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتابٍ من كتب القوم من أولها إلى آخرها، ولا يظفر به

(4)

في غير هذا

(1)

رواه الترمذي (2869) وأحمد (12327) من طريق حماد بن يحيى عن ثابت عن أنس، والحديث حسنه الترمذي، وفي الباب عن ابن عمر وابن عمرو وعمار رضي الله عنهم، وصححه الحافظ ابن حجر والألباني. انظر:«التمهيد» (20/ 253) و «فتح الباري» (7/ 6) و «السلسلة الصحيحة» (2286).

(2)

ت: «و» .

(3)

«من» ساقطة من ع.

(4)

ع: «بهما» .

ص: 169

الكتاب أبدًا، وذلك بحول الله وقوته ومعونته وفتحه؛ فله الحمد والمنّة، وما كان فيه من صوابٍ فمن الله، هو المانُّ به

(1)

، وما كان فيه من خطأ فمنّي ومن الشيطان، وليس الله ورسوله ودينه في شيء منه، وبالله التوفيق.

* * * *

(1)

«وهو المان به» ساقطة من ع.

ص: 170