الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: أَنْتُمْ عِنْدِي كَأَنْبِيَائِي اذْهَبُوا فَاخْتَرِقُوا الصُّفُوفَ فَاشْفَعُوا تُشَفَّعُوا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِ الْعَالِمِ، وَتُقَدَّمُ رُتْبَتُهُ بِالذِّكْرِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الرُّتَبِ الْبَاقِيَةِ إذْ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ لَهُمْ فِي مَقَامِهِ الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ وَالْبَاقُونَ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ مُضْطَرُّونَ لَا تَتِمُّ لَهُمْ صَفْقَةٌ وَلَا يَتَقَوَّمُ لَهُمْ أَمْرٌ إلَّا بِدُخُولِ الْعَالِمِ بَيْنَهُمْ، وَإِلَّا كَانَ سَعْيُهُمْ هَبَاءً مَنْثُورًا فَجَاءَ مَا قَالَ عليه الصلاة والسلام سَوَاءً بِسَوَاءٍ «نِعْمَ الرَّجُلُ الْعَالِمُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ نَفَعَ وَإِنْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ أَغْنَى نَفْسَهُ بِاَللَّهِ» .
وَبِالْكَلَامِ عَلَى الْعَالِمِ وَتَمْيِيزِ مَقَامِهِ يَنْدَرِجُ غَيْرُهُ فِيهِ مِنْ مُتَعَلِّمٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَأَبْقَيْت بَقِيَّةً مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْبَاقِينَ وَسَنَذْكُرُ كُلًّا مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
[فَصْلٌ فِي الْعَالِمِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ]
(فَصْلٌ) فِي الْعَالِمِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ وَهَدْيِهِ وَأَدَبِهِ فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ نِيَّتَهُ جَهْدَهُ مَا اسْتَطَاعَ أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مَنْ ذُكِرَ إذْ أَنَّ مَا هُوَ فِيهِ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَعِمَادُهُ، وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ فَرْعٌ عَنْهُ وَتَابِعٌ لَهُ كَأَصْلِ الشَّجَرَةِ إنْ اسْتَقَامَ اسْتَقَامَتْ الْفُرُوعُ وَإِنْ أَصَابَتْ الْأَصْلَ آفَةٌ هَلَكَتْ الْفُرُوعُ وَالنِّيَّةُ هِيَ الْأَصْلُ لِإِحْرَازِ هَذَا الْأَصْلِ إنْ كَانَ حَسَنًا يَسْلَمُ صَاحِبُهُ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ قَالَ عليه الصلاة والسلام «نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» .
وَلَا يُوجَدُ فِي الْأَعْمَالِ كُلِّهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ فِيهِ حَسَنَةً فَإِذَا كَانَتْ النِّيَّةُ حَسَنَةً كَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ، وَإِلَّا فَتَكُونُ الْأَعْمَالُ تَفْضُلُهُ بِحَسَبِ مَا كَانَتْ النِّيَّةُ فِيهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رحمه الله لِابْنِ وَهْبٍ لَمَّا أَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ مَا الَّذِي قُمْت إلَيْهِ بِأَوْجَبَ عَلَيْك مِنْ الَّذِي قُمْت عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لَمَّا كَانَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مَا كَانَتْ فَكَانَ طَلَبُ الْعِلْمِ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ وَالصَّلَاةُ تُدْرَكُ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا مُمْتَدٌّ وَمَسَائِلَ الْعِلْمِ تَفُوتُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ
وَلَا تَتَحَصَّلُ لِلْإِنْسَانِ وَحْدَهُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ مَضَتْ الْحِكْمَةُ وَبِهِ وَقَعَ التَّكْلِيفُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» ، وَهُوَ الْآنَ مُتَيَسِّرٌ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مُجَالَسَتِهِ الْإِمَامَ مَالِكًا الَّذِي كَانَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ تَفُوتُهُ مُجَالَسَتُهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالنِّيَّةُ أَوْلَى مَا يُرَاعِي الْعَالِمُ أَوَّلًا ثُمَّ يُنَمِّيهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَيُحَسِّنُهَا وَالْعَالِمُ أَوْلَى بِتَنْمِيَتِهَا وَتَحْسِينِهَا، إذْ الْعِلْمُ الَّذِي عِنْدَهُ يُبَصِّرُهُ بِذَلِكَ وَيَدُلُّهُ عَلَيْهِ.
قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وَكَيْفِيَّةُ إخْلَاصِ النِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ بِنِيَّةِ أَنْ يَمْتَثِلَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] وَيُقْرَأُ أَيْضًا تُعَلِّمُونَ وَتَعْلَمُونَ بِمَعْنَى تَتَعَلَّمُونَ فَتَجْمَعُ الْقِرَاءَاتُ الثَّلَاثُ الْعِلْمَ وَالتَّعْلِيمَ وَالتَّعَلُّمَ.
وَقَالَ سبحانه وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» .
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنْت أَنْ أُنْفِذَ كَلِمَةً سَمِعْتهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ تُجْهِزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا.
وَالْأَجْرُ فِي الْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ فِيهِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ» وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَسَّمَ بَيْنَ عِبَادِهِ الْأَعْمَالَ وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالثَّوَابِ.
وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعُبَّادِ كَتَبَ إلَى مَالِكٍ رحمه الله يَحُضُّهُ عَلَى الِانْفِرَادِ وَتَرْكِ مُجَالَسَةِ النَّاسِ فَكَتَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَدْ قَسَّمَ بَيْنَ عِبَادِهِ الْأَعْمَالَ كَمَا قَسَّمَ الْأَرْزَاقَ فَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي الصِّيَامِ وَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصِّيَامِ وَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي كَذَا وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ
فِي كَذَا فَعَدَّدَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَظُنُّ مَا أَنْتَ فِيهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا أَنَا فِيهِ، وَكِلَانَا عَلَى خَيْرٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالسَّلَامُ.
وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا، الْعَمَلُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ إذْ هُوَ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَسَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ عز وجل كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَوْ قَالَ لَيْلَةَ تَمَامِهِ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي مَاذَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت يَا ابْنَ آدَمَ؟ مَاذَا أَجَبْت الْمُرْسَلِينَ؟» .
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ (مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمِهِ) قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنْزَلَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ أَوْحَى إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ قُلْ لِلَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي غَيْرِ الدِّينِ وَيَتَعَلَّمُونَ لِغَيْرِ الْعَمَلِ وَيَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الْكِبَاشِ وَقُلُوبُهُمْ كَقُلُوبِ الذِّئَابِ أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ إيَّايَ يُخَادِعُونَ وَبِي يَسْتَهْزِئُونَ لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَذَرُ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ» .
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ آدَابِ النُّفُوسِ بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ صَدَقَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُخَادِعُوا اللَّهَ فَإِنَّهُ مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يُخَادِعْهُ اللَّهُ وَنَفْسَهُ يَخْدَعُ لَوْ كَانَ يَشْعُرُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْف يُخَادَعُ اللَّهُ؟ قَالَ: تَعْمَلُ بِمَا أَمَرَك اللَّهُ بِهِ وَتَطْلُبُ بِهِ غَيْرَهُ وَاتَّقُوا الرِّيَاءَ فَإِنَّهُ الشِّرْكُ، وَإِنَّ الْمُرَائِيَ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ يُنْسَبُ إلَيْهَا يَا كَافِرُ يَا فَاجِرُ يَا غَادِرُ يَا خَاسِرُ ضَلَّ عَمَلُك وَبَطَلَ أَجْرُك فَلَا خَلَاقَ لَك الْيَوْمَ فَالْتَمِسْ أَجْرَك مِمَّنْ كُنْت تَعْمَلُ لَهُ يَا مُخَادِعُ» انْتَهَى.
، وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مَا جَاءَ فِي نَصِّ التَّنْزِيلِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: مَعْنَاهُ يُقَابِلُهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَمِنْ
كِتَابِ الْقُرْطُبِيِّ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو أَوْ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَتُتَّخَذُ سُنَّةٌ مُبْتَدَعَةٌ تَجْرِي عَلَيْهَا النَّاسُ فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ: غُيِّرَتْ السُّنَّةُ قِيلَ: مَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: إذَا كَثُرَ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّ فُقَهَاؤُكُمْ وَكَثُرَ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّ أُمَنَاؤُكُمْ وَالْتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَتَفَقَّهَ الرَّجُلُ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ لَوْ أَنَّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ أَخَذُوهُ بِحَقِّهِ أَوْ كَمَا يَنْبَغِي لَأَحَبَّهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ طَلَبُوا بِهِ الدُّنْيَا فَأَبْغَضَهُمْ اللَّهُ وَهَانُوا عَلَى النَّاسِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] قَالَ: قَوْمٌ وَصَفُوا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَخَالَفُوهُ بِقُلُوبِهِمْ إلَى غَيْرِهِ انْتَهَى.
وَمِنْ كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْإِمَامِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَنْسِبُ الْحِكْمَةَ لِغَيْرِ أَهْلِهَا أَمَّا الْحِكْمَةُ فَقَدْ صَارَ هَذَا الِاسْمُ يُطْلَقُ عَلَى الطَّبِيبِ، وَعَلَى الشَّاعِرِ، وَعَلَى الْمُنَجِّمِ حَتَّى عَلَى الَّذِي يُخْرِجُ الْقُرْعَةَ وَاَلَّذِي يَجْلِسُ عَلَى شَوَارِعِ الطُّرُقِ لِلْحِسَابِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ الَّتِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهَا فَقَالَ:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «كَلِمَةٌ مِنْ الْحِكْمَةِ يَتَعَلَّمُهَا الرَّجُلُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا» .
ثُمَّ قَالَ وَانْظُرْ كُلَّ مَا ارْتَضَاهُ السَّلَفُ مِنْ الْعُلُومِ قَدْ انْدَرَسَ وَمَا رَكِبَ النَّاسُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَأَكْثَرُهُ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ، وَقَدْ صَحَّ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ قِيلَ: وَمَنْ الْغُرَبَاءُ؟ فَقَالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي وَاَلَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَمَاتُوهُ مِنْ سُنَّتِي» وَفِي خَبَرٍ آخَرَ مَرْوِيٍّ «هُمْ الْمُتَمَسِّكُونَ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ» .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «نَاسٌ قَلِيلُونَ صَالِحُونَ بَيْنَ نَاسٍ كَثِيرٍ مَنْ يَبْغُضُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ» ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا رَأَيْتُمْ الْعَالِمَ كَثِيرَ الْأَصْدِقَاءِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ مُخْلِطٌ؛ لِأَنَّهُ
إنْ نَطَقَ بِالْحَقِّ أَبْغَضُوهُ انْتَهَى.
وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَيْضًا وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالصَّوْنِ عَنْ طُرُقِ الشُّبُهَاتِ وَيُقَلِّلَ الضَّحِكَ وَالْكَلَامَ بِمَا لَا فَائِدَ فِيهِ وَيَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالْحِلْمِ وَالْوَقَارِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلْفُقَرَاءِ وَيَجْتَنِبَ التَّكَبُّرَ وَالْإِعْجَابَ وَيَتَجَافَى عَنْ الدُّنْيَا وَأَبْنَائِهَا إنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ انْتَهَى وَإِنْ لَمْ يَخَفْ خَالَطَهُمْ بِالظَّاهِرِ مَعَ سَلَامَةِ بَاطِنِهِ لِيُبَلِّغَهُمْ أَحْكَامَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَتْرُكُ الْجِدَالَ وَالْمِرَاءَ وَيَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالرِّفْقِ وَالْأَدَبِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُؤْمَنُ شَرُّهُ وَيُرْجَى خَيْرُهُ وَيُسْلَمُ مِنْ ضَرِّهِ وَأَنْ لَا يَسْمَعَ مِمَّنْ ثَمَّ عِنْدَهُ وَيُصَاحِبُ مَنْ يُعَاوِنُهُ عَلَى الْخَيْرِ وَيَدُلُّهُ عَلَى الصِّدْقِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيُزَيِّنُهُ وَلَا يَشِينُهُ انْتَهَى.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ التَّقْصِيرِ مُشْفِقًا عَلَى نَفْسِهِ فِي التَّبْلِيغِ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَهْلًا لِذَلِكَ وَيَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ أَقَلُّ عَبِيدِ اللَّهِ وَأَكْثَرُهُمْ حَاجَةً إلَيْهِ وَأَفْقَرُهُمْ إلَى التَّعْلِيمِ كَمَا قِيلَ: الْعَالِمُ عَالِمٌ مَا كَانَ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ جَاهِلٌ فَإِذَا رَأَى نَفْسَهُ أَنَّهُ عَالِمٌ فَقَدْ جَهِلَ بَلْ مُسْتَرْشِدٌ مُتَعَلِّمٌ يَقْعُدُ مَعَ إخْوَانِهِ يُرْشِدُهُمْ وَيَسْتَرْشِدُ مِنْهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ وَقَعَ لِي سُؤَالٌ مَعَ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رحمه الله لَمَّا جِئْت أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لِي أَمَا تَقْرَأُ عَلَى الْعُلَمَاءِ فَقُلْت: أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك فَقَالَ: لِي كَيْفَ تَتْرُكُ الْعُلَمَاءَ وَتَأْتِي تَقْرَأُ عَلَى مِثْلِي فَقُلْت: أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك فَقَالَ: اسْتَخِرْ اللَّهَ تَعَالَى فَاسْتَخَرْت اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ جِئْت إلَيْهِ فَقُلْت: أَقْرَأُ قَالَ: عَزَمْت قُلْت: نَعَمْ فَقَالَ: لِي لَا يَخْطِرُ بِخَاطِرِك وَلَا يَمُرُّ بِبَالِك أَنَّك تَقْرَأُ عَلَى عَالِمٍ وَلَا أَنَّك بَيْنَ يَدَيْ شَيْخٍ إنَّمَا نَحْنُ إخْوَانٌ مُجْتَمِعُونَ نَتَذَاكَرُ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا فَعَلَى أَيِّ لِسَانٍ خَلَقَ اللَّهُ الصَّوَابَ وَالْحَقَّ قَبِلْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا مِنْ الْمَكْتَبِ.
فَإِذَا قَعَدَ الْإِنْسَانُ لِلتَّعْلِيمِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي ذُكِرَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مَنْزِلَةً وَأَكْثَرِهِمْ خَيْرًا وَبَرَكَةً أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ
ثُمَّ قَعَدَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ نُودِيَ فِي السَّمَوَاتِ عَظِيمًا» .
وَبِهَذَا تَوَاطَأَتْ الْأَخْبَارُ وَنَقَلَتْ الْأُمَّةُ خَلْفًا عَنْ سَلَفٍ أَعْنِي تَعْظِيمَ الْعَالِمِ وَرَفْعَ مَنْزِلَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا الْعُلَمَاءُ ثُمَّ بَعْدَ دَرَجَتِهِمْ دَرَجَةُ الشُّهَدَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «لَوْ وُزِنَ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ وَدَمُ الشُّهَدَاءِ لَرَجَحَ عَلَيْهِ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ» .
وَهَذَا بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ دَمَ الشُّهَدَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ أَوْ سَاعَاتٍ ثُمَّ انْفَصَلَ الْأَمْرُ فِيهِ لِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، وَمِدَادُ الْعُلَمَاءِ هُوَ وَظِيفَةُ الْعُمُرِ لَيْلًا وَنَهَارًا ثُمَّ إنَّهُ مُحْتَاجٌ فِيهِ لِمُبَاشَرَةِ غَيْرِهِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يُعَلِّمَ أَوْ يَتَعَلَّمَ، وَكِلَاهُمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُجَاهِدَةٍ عَظِيمَةٍ لِأَجْلِ خِلْطَةِ النَّاسِ وَمُبَاشَرَتِهِمْ، وَذَلِكَ أَمْرٌ عَسِيرٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنَّ كُلَّ مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ يَنْفَصِلُ، وَهُوَ طَيِّبُ النَّفْسِ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ بِذَلِكَ مَضَتْ السُّنَّةُ وَانْقَرَضَ السَّلَفُ عَلَيْهِ.
وَهَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ تَخْلِيصُ الذِّمَّةِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ فِيهَا، وَعَلَيْهَا مِنْ حُقُوقِ الْإِخْوَانِ فِي الْحَضْرَةِ وَالْغَيْبَةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ لَهُمْ وَمُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمْ وَإِنْصَافِهِمْ فِي الْخِلْطَةِ وَالتَّوْفِيَةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَعْبٌ عَسِيرٌ فَضْلًا عَنْ مُكَابَدَةِ فَهْمِ الْمَسَائِلِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهَا وَغَامِضِ خَبَايَاهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ مَعَ مَا يَنْزِلُ مِنْ النَّوَازِلِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ فِي زَمَانِهِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ رحمه الله، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْعُلَمَاءَ بِفَضِيلَةٍ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل يُعْبَدُ بِتَقْوَاهُمْ وَيُعْرَفُ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ بِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ مُطَالَبُونَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ مُدَافِعُونَ لِوُجُودِ كُلِّ فِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ وَحَادِثَةٍ وَبِدْعَةٍ انْتَهَى.
وَهَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ إذْ بِهِ يُعْبَدُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُطَاعُ وَبِهِ يُنْهَى عَنْ مَعَاصِيهِ وَتُتْرَكُ فَكُلُّ مَنْ تَرَكَ مَعْصِيَةً أَوْ بِدْعَةً فَفِي صَحِيفَتِهِ، بَلْ وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَعَبَدَ اللَّهَ فَذَلِكَ فِي صَحِيفَتِهِ أَيْضًا.
وَقَدْ «قَالَ عليه الصلاة والسلام لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» فَكَيْفَ تَكُونُ صَحِيفَةُ هَذَا الْعَالِمِ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ مَنْزِلَتُهُ؟ وَكَيْفَ
يَكُونُ حَالُهُ عِنْدَ الْوُفُودِ عَلَى رَبِّهِ عِنْدَ ظُهُورِ السَّرَائِرِ وَالْمُخَبَّآتِ؟ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ الْعِلْمُ يَحْرُسُك وَالْمَالُ تَحْرُسُهُ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو بِالنَّفَقَةِ.
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْعَالِمُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْمُجَاهِدِ، وَإِذَا مَاتَ الْعَالِمُ انْثَلَمَتْ فِي الْإِسْلَامِ ثُلْمَةٌ لَا يَسُدُّهَا إلَّا خَلْفٌ مِنْهُ» .
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزَّ مِنْ الْعِلْمِ الْمُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رضي الله عنهما خُيِّرَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عليهما السلام بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالْمُلْكِ فَاخْتَارَ الْعِلْمَ فَأُعْطِيَ الْمَالَ وَالْمُلْكَ مَعَهُ.
وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مَنْ النَّاسُ فَقَالَ: الْعُلَمَاءُ قِيلَ: فَمَنْ الْمُلُوكُ، قَالَ الزُّهَّادُ: قِيلَ، فَمَنْ السَّفَلَةُ قَالَ الَّذِي يَأْكُلُ بِدِينِهِ دُنْيَاهُ فَلَمْ يَجْعَلْ غَيْرَ الْعَالَمِ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا النَّاسُ عَنْ سَائِرِ الْبَهَائِمِ هُوَ الْعِلْمُ الْإِنْسَانُ إنْسَانٌ بِمَا هُوَ شَرِيفٌ لِأَجْلِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقُوَّةِ الشَّخْصِ فَإِنَّ الْجَمَلَ أَقْوَى مِنْهُ وَلَا بِعِظَمِ جِسْمِهِ فَإِنَّ الْفِيلَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَلَا بِشَجَاعَتِهِ فَإِنَّ السَّبُعَ أَشْجَعُ مِنْهُ وَلَا بِأَكْلِهِ فَإِنَّ الْجَمَلَ أَوْسَعُ بَطْنًا مِنْهُ وَلَا بِمُجَامَعَتِهِ فَإِنَّ أَخَسَّ الْعَصَافِيرِ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى السِّفَادِ، بَلْ لَمْ يُخْلَقْ الْإِنْسَانُ إلَّا لِلْعِلْمِ.
وَقَدْ ذُكِرَ رحمه الله فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَمَا جَاءَ فِيهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَأَكْثَرُ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِهِ فَإِنَّهُ أَطْنَبَ فِي ذَلِكَ وَأَمْعَنَ فِيهِ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
لَكِنْ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ الْمُؤَاخَذَةُ أَشَدَّ إذْ أَنَّهُ يُحَاسِبُ عَلَى أُمُورٍ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا غَيْرُهُ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَمَدَّ رِجْلَهُ لِيَسْتَرِيحَ ثُمَّ قَبَضَهَا وَجَعَلَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا تَقَدَّمَ، وَهَذَا مَوْجُودٌ عِنْدَنَا حِسًّا؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ عِنْدَنَا لَا يُؤَاخِذُ السَّائِسَ بِمَا يُؤَاخِذُهُ بِهِ النَّائِبُ وَالْوَزِيرُ كُلٌّ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَكُلٌّ يُخَاطَبُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَعَقْلِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَيَنْبَغِي لِهَذَا الْعَالِمِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ حَالِهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ مِنْ أَنْ يُدَنِّسَهُ بِمُخَالَفَةٍ أَوْ بِدْعَةٍ يَتَأَوَّلُهَا أَوْ يُبِيحُهَا أَوْ يَسْهُو عَنْ سُنَّةٍ أَوْ يَغْفُلُ عَنْهَا أَوْ يَتْرُكُ بِدْعَةً مَعَ رُؤْيَتِهَا بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا أَوْ يَمُرُّ عَلَيْهِ مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِ عِلْمِهِ لَا يَحُضُّ فِيهِ عَلَى السُّنَّةِ وَلَا يَأْمُرُ فِيهِ بِاجْتِنَابِ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا انْعَقَدَتْ مَجَالِسُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانُوا يُكَرِّرُونَ مَجَالِسَهُمْ حِينَ كَانَتْ السُّنَنُ قَائِمَةً وَالْبِدَعُ خَامِدَةً فَكَيْفَ بِهِ الْيَوْمَ؟ .
وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ تَعَيَّنَ الْيَوْمَ عَلَى كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَضْلًا عَنْ مَسَائِلَ لِكَثْرَةِ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَشَنَاعَتِهَا وَقُبْحِهَا إذْ أَنَّهَا كُلُّهَا صَارَتْ كَأَنَّهَا شَعَائِرُ الدِّينِ وَمِنْ الْأُمُورِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْنَا وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَقْوَالِنَا وَتَصَرُّفِنَا وَلَيْسَ لَنَا طَرِيقٌ لِمَعْرِفَةِ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ إلَّا مِنْ مَجَالِسِ عُلَمَائِنَا فَبَانَ مِنْ هَذَا أَتَمَّ بَيَانٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُتَعَيَّنٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يُبَاشِرْ الْبِدَعَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَرَهَا.
أَمَّا مَعَ رُؤْيَتِهَا فَلَا يُمْكِنُ لِلْعَالِمِ تَرْكُهَا لِمَا وَرَدَ فِي قَوْله تَعَالَى حِينِ قَرَأَ الْقَارِئُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَقَالَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: لَا تَأْخُذُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إذَا ظَهَرَ فِيكُمْ الْمُنْكَرُ فَلَمْ تُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّ اللَّهُ الْكُلَّ بِعَذَابٍ» وَسَيَأْتِي لِهَذَا زِيَادَةُ بَيَانٍ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي التَّغْيِيرِ بِالْيَدِ ثُمَّ بِاللِّسَانِ ثُمَّ بِالْقَلْبِ عَلَى مَا مَرَّ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إنَّ التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَبِاللِّسَانِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَبِالْقَلْبِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَمَا قَالُوهُ هُوَ فِي غَالِبِ الْحَالِ، وَإِلَّا فَقَدْ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُ يَتَعَيَّنُ تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ عَلَى غَيْرِ الْأَمِيرِ وَغَيْرِ الْعَالِمِ فَضْلًا عَنْهُمَا.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَنْقَسِمُ التَّغْيِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَالِمِ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَتَغَيَّرُ بِالْيَدِ، وَقِسْمٌ يَتَغَيَّرُ بِاللِّسَانِ، وَالشَّاذُّ النَّادِرُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ مَا هَذَا لَفْظُهُ إنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِمَا لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إذْ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَأْمُرَ بِالْمُنْكَرِ لِجَهْلِهِ بِحُكْمِهِمَا وَتَتَمَيَّزُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ الْمُنْكَرَ إلَى مُنْكَرٍ أَكْبَرَ مِنْهُ مِثْلَ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَيُؤَوَّلُ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ إلَى قَتْلِ نَفْسٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ إنْكَارَهُ الْمُنْكَرَ مُزِيلٌ لَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ مُؤَثِّرٌ وَنَافِعٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ وَلَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ.
فَالشَّرْطَانِ: الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُشْتَرَطَانِ فِي الْجَوَازِ وَالشَّرْطُ الثَّالِثِ مُشْتَرَطٌ فِي الْوُجُوبِ فَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْمُرَ وَلَا يَنْهَى، وَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَوُجِدَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي جَازَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَقِيَ عَلَيْهِ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْلَ فَمَا دُونَهُ فَيَجُوزُ إنْ لَمْ يَأْمَنْ لِحَدِيثِ «أَعْظَمُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ تُقَالُ: عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» .
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة: 105] الْآيَةَ مَعْنَاهُ فِي الزَّمَانِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ فِيهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا يَقْوَى مَنْ يُنْكِرُهُ، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَيَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ سِوَى الْإِنْكَارِ بِقَلْبِهِ وَلَا يَضُرُّهُ مَعَ ذَلِكَ مَنْ ضَلَّ يُبَيِّنُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى يُتْرَكُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ: إذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي بَنْيِ إسْرَائِيلَ قِيلَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إذَا ظَهَرَ الِادِّهَانُ فِي خِيَارِكُمْ وَالْفَاحِشَةُ فِي شِرَارِكُمْ وَتَحَوَّلَ الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ وَالْفِقْهُ فِي أَرَاذِلِكُمْ» .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: «سَأَلْت أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْت: كَيْفَ نَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ
قُلْت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة: 105] الْآيَةَ فَقَالَ: لِي أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهُوا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، فَمَنْ صَبَرَ فِيهِنَّ قَبَضَ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْكُمْ يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» .
وَمَا أَشْبَهَ زَمَانَنَا هَذَا بِهَذَا الزَّمَانِ تَغَمَّدَنَا اللَّهُ بِعَفْوٍ مِنْهُ وَغُفْرَانٍ انْتَهَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا مُنْتَبِهًا لِتَغْيِيرِ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ عِنْدَنَا مَوْجُودٌ مُبَاشَرٌ فِي بَعْضِ مَجَالِسِ عِلْمِنَا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَجَالِسِ، وَيَا لَيْتَنَا لَوْ كُنَّا نُبَاشِرُهُ عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ أَوْ مَكْرُوهٌ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَّا كَذَلِكَ لَرُجِيَ لِأَحَدِنَا أَنْ يُقْلِعَ عَنْ ذَلِكَ وَيَتُوبَ، وَلَكِنَّا قَدْ أَخَذْنَا أَكْثَرَ ذَلِكَ فَجَعَلْنَاهُ شَعِيرَةً لَنَا وَدِينًا وَتَقْوَى مُقْتَفِينَ فِي ذَلِكَ آثَارَ مَنْ غَلِطَ أَوْ سَهَا أَوْ غَفَلَ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةً أَوْ حُجَجًا مَرْدُودَةً عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِ حَالِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَقَوْلِهِ وَحُجَّتِهِ، وَنَجْعَلُ ذَلِكَ قُدْوَةً لَنَا فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ يُغَيِّرُ عَلَيْنَا مَا ارْتَكَبْنَا مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ شَنَّعْنَا عَلَيْهِ الْأَمْرَ.
وَقُلْنَا: إنْ حَسَّنَّا بِهِ الظَّنَّ وَكَانَ لَهُ تَوْقِيرٌ فِي قُلُوبِنَا هَذَا وَرَعٌ أَوْ مَرْبُوطٌ قَدْ أَفْتَى فُلَانٌ بِجَوَازِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُغَيِّرُ عَلَيْنَا مِمَّنْ لَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَعْتَقِدُهُ فَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنَّا مَا لَا يَظُنُّهُ وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ فِينَا
فَصَارَ حَالُنَا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذُكِرَ أَنْ بَقِينَا مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ الَّذِي قَسَّمَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: عَالِمٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ فَيُتَعَلَّمُ مِنْهُ وَجَاهِلٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ فَعَلِّمُوهُ وَعَالِمٌ، وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهُ عَالِمٌ فَنَبِّهُوهُ تَنْتَفِعُوا بِهِ وَجَاهِلٌ، وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهُ جَاهِلٌ فَاهْرَبُوا مِنْهُ فَقَدْ صَارَتْ أَحْوَالُنَا
الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الرَّابِعِ، وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْجَهْلُ بِالْجَهْلِ هَذَا هُوَ السُّمُّ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّا لَوْ رَأَيْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْجَهْلِ لَرُجِيَ لَنَا الِانْتِقَالُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ الذَّمِيمَةِ وَلَكِنْ مَنْ يَنْتَقِلُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ لَا يَنْتَقِلُ أَحَدٌ عَنْ ذَلِكَ وَظَنَنَّا بِأَنْفُسِنَا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَلَوْلَا مَا تَرَكَّبَ فِينَا مِنْ سُمِّ الْجَهْلِ مَا أَقَمْنَا الْحُجَّةَ فِي دِينِنَا بِمَنْ سَهَا أَوْ غَلِطَ أَوْ غَفَلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ الْإِنْسَانُ فِي دِينِهِ إلَّا مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ وَذَلِكَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ إلَّا أَوْ مَنْ شَهِدَ لَهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْرِ، وَهُوَ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ لِقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» .
وَقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «أَصْحَابِي مِثْلُ النُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ فَقِيلَ لَهُ: فَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ الَّتِي ذَكَرْت فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ يَعْنِي لَا شَيْءَ» .
وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام فِي الْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ يَعْنِي فِي غَالِبِ الْحَالِ مِنْهُمْ مَا ذَكَرَ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ لَا يُقْتَدَى بِهِمْ، وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ أَلَا تَرَى إلَى مَالِكٍ رحمه الله إذْ قَالَ فِي مُوَطَّئِهِ، وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْت النَّاسَ وَمَا رَأَيْت النَّاسَ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ الْعُلَمَاءَ، فَالنَّاسُ عِنْدَهُمْ هُمْ الْعُلَمَاءُ فَالْحَدِيثُ مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ لَيْسَ إلَّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الْمَخْصُوصِ الْمُشَارِ إلَيْهِ مِنْ صَاحِبِ الْعِصْمَةِ بِالْخَيْرِ صلى الله عليه وسلم.
وَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ وَكَيْفَ خَصَّهُمْ بِالْفَضِيلَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ؟ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْقُرُونِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ لَكِنْ اخْتَصَّتْ تِلْكَ الْقُرُونُ بِمَزِيَّةٍ لَا يُوَازِيهِمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل خَصَّهُمْ لِإِقَامَةِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَالْقَرْنُ الْأَوَّلُ
خَصَّهُمْ اللَّهُ عز وجل بِخُصُوصِيَّةٍ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ أَنْ يَلْحَقَ غُبَارَ أَحَدِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ خَصَّهُمْ بِرُؤْيَةِ نَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام وَمُشَاهَدَتِهِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ غَضًّا طَرِيًّا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَتَلَقَّاهُ مِنْ جِبْرِيلَ عليه السلام وَخَصَّهُمْ بِالْقِتَالِ بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ وَنُصْرَتِهِ وَحِمَايَتِهِ وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ وَإِخْمَادِهِ وَرَفْعِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَائِهِ وَحِفْظِهِمْ آيِ الْقُرْآنَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ نُجُومًا نُجُومًا فَأَهَّلَهُمْ اللَّهُ لِحِفْظِهِ حَتَّى لَمْ يَضِعْ مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ فَجَمَعُوهُ وَيَسَّرُوهُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَفَتَحُوا الْبِلَادَ وَالْأَقَالِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَهَّدُوهَا لَهُمْ وَحَفِظُوا أَحَادِيثَ نَبِيِّهِمْ عليه الصلاة والسلام فِي صُدُورِهِمْ وَأَثْبَتُوهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ عَدَمِ اللَّحْنِ وَالْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ.
وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ رحمه الله إذَا شَكَّ فِي الْحَدِيثِ تَرَكَهُ أَلْبَتَّةَ فَلَا يُحَدِّثُ بِهِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ قَرْنِهِمْ بَلْ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي فَمَا بَالُك بِهِمْ وَهُمْ خَيْرُ الْخِيَارِ؟ وَصْفُهُمْ فِي الْحِفْظِ وَالضَّبْطِ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَلَا يَصِلُ إلَيْهِ أَحَدٌ فَجَزَاهُمْ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِ خَيْرًا لَقَدْ أَخْلَصُوا لِلَّهِ تَعَالَى الدَّعْوَةَ وَذَبُّوا عَنْ دِينِهِ بِالْحُجَّةِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلِيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا وَأَحْسَنَهَا حَالًا اخْتَارَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ انْتَهَى.
فَلَمَّا أَنْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ طَاهِرِينَ عَقَبَهُمْ التَّابِعُونَ لَهُمْ رضي الله عنهم فَجَمَعُوا مَا كَانَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مُتَفَرِّقًا وَبَقِيَ أَحَدُهُمْ يَرْحَلُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَضَبَطُوا أَمْرَ الشَّرِيعَةِ أَتَمَّ ضَبْطٍ وَتَلَقَّوْا الْأَحْكَامَ وَالتَّفْسِيرَ مِنْ فِي الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِثْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يَقُولُ: سَلُونِي مَا دُمْت بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَإِنِّي أَعْرَفُ بِأَزِقَّةِ السَّمَاءِ كَمَا أَنَا أَعْرَفُ بِأَزِقَّةِ الْأَرْضِ " «وَقَالَ عليه الصلاة والسلام فِي ابْنِ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ
الْقُرْآنِ» ، فَمَنْ لَقِيَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ كَيْفَ يَكُونُ عِلْمُهُ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ وَعَمَلُهُ؟ فَحَصَلَ لِلْقَرْنِ الثَّانِي نَصِيبٌ وَافِرٌ أَيْضًا فِي إقَامَةِ هَذَا الدِّينِ وَرُؤْيَةِ مَنْ رَأَى بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَلِذَلِكَ كَانُوا خَيْرًا مِنْ الَّذِينَ بَعْدَهُمْ ثُمَّ عَقَبَهُمْ التَّابِعُونَ لَهُمْ وَهُمْ تَابِعُو التَّابِعِينَ رضي الله عنهم فِيهِمْ حَدَثَ الْفُقَهَاءُ الْمُقَلَّدُونَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِمْ فِي النَّوَازِلِ الْكَاشِفُونَ لِلْكُرُوبِ فَوَجَدُوا الْقُرْآنَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَجْمُوعًا مُيَسَّرًا وَوَجَدُوا الْأَحَادِيثَ قَدْ ضُبِطَتْ وَأُحْرِزَتْ فَجَمَعُوا مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا وَتَفَقَّهُوا فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَاسْتَخْرَجُوا فَوَائِدَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ وَاسْتَنْبَطُوا مِنْهَا فَوَائِدَ وَأَحْكَامًا وَبَيَّنُوا عَلَى مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَدَوَّنُوا الدَّوَاوِينَ وَيَسَّرُوا عَلَى النَّاسِ وَبَيَّنُوا الْمُشْكِلَاتِ بِاسْتِخْرَاجِ الْفُرُوعِ مِنْ الْأُصُولِ وَرَدُّوا الْفَرْعَ إلَى أَصْلِهِ وَبَيَّنُوا الْأَصْلَ مِنْ فَرْعِهِ.
فَانْتَظَمَ الْحَالُ وَاسْتَقَرَّ مِنْ الدِّينِ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِسَبَبِهِمْ الْخَيْرُ الْعَمِيمُ فَحَصَلَتْ لَهُمْ فِي إقَامَةِ هَذَا الدِّينِ خُصُوصِيَّةٌ أَيْضًا بِلِقَائِهِمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى صَاحِبَ الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُبْقُوا لِمَنْ بَعْدَهُمْ شَيْئًا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُومَ بِهِ، بَلْ كُلُّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ مُقَلِّدٌ لَهُمْ فِي الْغَالِبِ وَتَابِعٌ لَهُمْ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ فِقْهٌ غَيْرُ فِقْهِهِمْ أَوْ فَائِدَةٌ غَيْرُ فَائِدَتِهِمْ فَمَرْدُودٌ كُلُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يَزِيدَ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ أَوْ يَنْقُصَ مِنْهَا فَذَلِكَ مَرْدُودٌ بِالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا مَا اسْتَخْرَجَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفَرَائِضِ غَيْرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ فَمَقْبُولٌ «لِقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام فِي الْقُرْآنِ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ» فَعَجَائِبُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ لَا يَنْقَضِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلُّ قَرْنٍ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ فَوَائِدَ جَمَّةً خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا وَضَمَّهَا إلَيْهِ لِتَكُونَ بَرَكَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَمِرَّةً إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
قَالَ: عليه الصلاة والسلام «أُمَّتِي مِثْلُ
الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَيُّهُ أَنْفَعُ أَوَّلُهُ أَوْ آخِرُهُ» أَوْ كَمَا قَالَ: عليه الصلاة والسلام يَعْنِي فِي الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ وَالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَبْيِينِ الْأَحْكَامِ لَا أَنَّهُمْ يُحْدِثُونَ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ اللَّهُمَّ إلَّا مَا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ لَا بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقَوْلِ وَلَا بِالْبَيَانِ فَيَجِبُ إذْ ذَاكَ أَنْ يُنْظَرَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ الْمُبَيَّنَةِ الصَّرِيحَةِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى أُصُولِهِمْ قَبِلْنَاهُ فَلَمَّا أَنْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ طَاهِرِينَ ثُمَّ أَتَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَلَمْ يَجِدْ فِي هَذَا الدِّينِ وَظِيفَةً يَقُومُ بِهَا وَيَخْتَصُّ بِهَا، بَلْ وَجَدَ الْأَمْرَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا أَنْ يَحْفَظَ مَا دَوَّنُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ وَاسْتَخْرَجُوهُ وَأَفَادُوهُ فَاخْتَصَّتْ إقَامَةُ هَذَا الدِّينِ بِالْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ إلَّا، فَلِأَجَلِ ذَلِكَ كَانُوا خَيْرًا مِمَّنْ أَتَى بَعْدَهُمْ وَلَا يَحْصُلُ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ إلَّا بِالِاتِّبَاعِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْخَيْرِ فَبَقِيَ كُلُّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ فِي مِيزَانِهِمْ وَمِنْ بَعْضِ حَسَنَاتِهِمْ فَبَانَ مَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» .
فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ فَكُلُّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ يَقُولُ فِي بِدْعَةٍ إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ثُمَّ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلٍ خَارِجٍ عَنْ أُصُولِهِمْ، فَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، بَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِفَ أَحْوَالَهُمْ فِي الْبِدَعِ أَوَّلًا كَيْفَ كَانَتْ؟ وَكَيْفَ كَانُوا يُرَاعُونَ هَذَا الْأَصْلَ وَيُسْتَحْفَظُونَ عَلَيْهِ؟ فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَعُمْدَتِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَكَيْفِيَّةِ جَمْعِهِ وَمَا قَالُوا: بِسَبَبِ ذَلِكَ وَإِشْفَاقِهِمْ مِنْ الْأَخْذِ فِيهِ مَعَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى جَمْعِهِ إذْ أَنَّهُ لَوْلَا جَمْعُهُ لَذَهَبَ هَذَا الدِّينُ فَانْظُرْ مَعَ جَمْعِهِ وَضَبْطِهِ كَيْفَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ الْكَثِيرُ فِي التَّأْوِيلِ؟ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ التِّلَاوَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كُفْرًا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَرْسَلَ إلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ مَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ
الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ يُجْمَعَ الْقُرْآنُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَقُلْت لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ صَدْرِي فَرَأَيْت الَّذِي رَآهُ عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ: وَغَيْرُهُ وَعُمَرُ جَالِسٌ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّك رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُك قَدْ كُنْت تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاَللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْت: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَمَرَ بِهِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقُمْت فَتَتَبَّعْت الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعَسِيبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْت مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [التوبة: 128] إلَى آخِرِ السُّورَةِ انْتَهَى.
فَانْظُرْ مَعَ هَذَا النَّفْعِ الْعَظِيمِ الَّذِي وَقَعَ بِجَمْعِهِ أَشْفَقُوا أَنْ يَفْعَلُوهُ وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَدَثًا يُحْدِثُونَهُ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ عليه الصلاة والسلام فَمَا بَالُك بِبِدْعَةٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا نَفْعٌ أَوْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُظُوظُ النُّفُوسِ أَوْ الرُّكُونُ إلَى الْعَوَائِدِ؟ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَهَا فَضْلًا عَنْ الْكَلَامِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا اخْتِلَافُهُمْ فِي شَكْلِ الْمُصْحَفِ وَنَقْطِهِ وَتَعْشِيرِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعُظْمَى الَّتِي قَدْ ظَهَرَتْ فِي الْأُمَّةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَفْسِيرِهِ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ فِي الْمُصْحَفِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُحْكِمُهُ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ وَالطِّيبَ فِي الْمُصْحَفِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ سَمِعْت مَالِكًا حِينَ سُئِلَ عَنْ الْعُشُورِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمُصْحَفِ بِالْحُمْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَلْوَانِ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: تَعْشِيرُ الْمُصْحَفِ بِالْحِبْرِ لَا بَأْسَ بِهِ سُئِلَ عَنْ الْمَصَاحِفِ تُكْتَبُ فِيهَا خَوَاتِمُ السُّوَرِ فِي كُلِّ سُورَةٍ مَا فِيهَا مِنْ آيَةٍ قَالَ: إنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ فِي أُمَّهَاتِ الْمَصَاحِفِ أَنْ يُكْتَبَ فِيهَا
شَيْءٌ أَوْ تُشَكَّلَ فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّمُ بِهِ الْغِلْمَانُ مِنْ الْمَصَاحِفِ فَلَا أَرَى فِي ذَلِكَ بَأْسًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَدَءُوا فَنَقَّطُوا ثُمَّ خَمَّسُوا ثُمَّ عَشَّرُوا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ كَانَ الْقُرْآنُ مُحْكَمًا مُجَرَّدًا فِي الْمَصَاحِفِ فَأَوَّلُ مَا أَحْدَثُوا فِيهِ النُّقَطَ عَلَى الْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ وَقَالُوا: لَا بَأْسَ هُوَ نُورٌ لَهُ ثُمَّ أَحْدَثُوا نُقَطًا عِنْدَ مُنْتَهَى الْآيَةِ ثُمَّ أَحْدَثُوا الْفَوَاتِحَ وَالْخَوَاتِمَ.
وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: رَأَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فِي مُصْحَفٍ فَاتِحَةَ سُورَةِ كَذَا فَقَالَ: اُمْحُهُ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لَا تَخْلِطُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَيْسَ مِنْهُ انْتَهَى فَانْظُرْ مَا تَرَتَّبَ عَلَى نَقْطِهِ وَشَكْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْعُظْمَى لِلصِّغَارِ، وَمَنْ لَا يَقْرَأُ مِنْ الْكِبَارِ كَيْفَ كَرِهُوا ذَلِكَ مَعَ هَذِهِ الْفَائِدَةِ الْعُظْمَى؟ عَلَى هَذَا كَانَ مِنْهَاجُهُمْ فِي تَحَرِّيهِمْ لِلْبِدَعِ. أَلَا تَرَى إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لَمَّا أَنْ دَخَلَ الْخَلَاءَ وَرَأَى ذُبَابًا قَدْ وَقَعَ عَلَى فَضْلَةٍ كَانَتْ هُنَاكَ ثُمَّ طَارَ وَوَقَعَ عَلَى ثَوْبِهِ فَعَزَمَ أَنَّهُ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الذُّبَابِ إذَا خَرَجَ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ غَسْلَهُ أَشْفَقَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَكُونُ بِأَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَ بِدْعَةً فِي الْإِسْلَامِ انْتَهَى.
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَتْ الْبِدَعُ عِنْدَهُمْ؟ وَكَيْفَ كَانَ تَحَرِّيهِمْ لَهَا؟
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرُوِيَ عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ أَنَّهُ جَاءَ مَعَ الْقُرَّاءِ إلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقِيلَ لَهُ: اقْرَأْ فَرَفَعَ صَوْتَهُ وَطَرِبَ وَكَانَ رَفِيعَ الصَّوْتِ فَكَشَفَ أَنَسٌ عَنْ وَجْهِهِ وَكَانَ عَلَى وَجْهِهِ خِرْقَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا مَا هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَكَانَ إذَا رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ كَشَفَ الْخِرْقَةَ عَنْ وَجْهِهِ وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَكَرِهَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كُلُّهُمْ كَرِهُوا رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّطْرِيبِ فِيهِ انْتَهَى.
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ عَنْهُمْ فِي أَوْرَادِهِمْ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسَاجِدِهِمْ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ كَأَنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ
صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَيُسْمَعُ لَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، كُلُّ هَذَا إشْفَاقٌ مِنْهُمْ أَنْ يَرْفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَدَثًا لَا سِيَّمَا فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ النَّهْيِ، وَقَدْ خَرَجَ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالْقُرْآنِ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ:«لَا يَجْهَرُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الْحِلْيَةِ رحمه الله وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي الْبُحْتُرِيِّ قَالَ أَخْبَرَ رَجُلٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِيهِمْ رَجُلٌ يَقُولُ: كَبِّرُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا وَسَبِّحُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا وَاحْمَدُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَيَقُولُونَ ذَلِكَ قَالَ: نَعَمْ فَإِذَا رَأَيْتهمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِمَجْلِسِهِمْ قَالَ: فَأَتَيْته فَأَخْبَرْته بِمَجْلِسِهِمْ فَأَتَاهُمْ، وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ لَهُ فَجَلَسَ فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُونَ قَامَ وَكَانَ رَجُلًا حَدِيدًا فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا أَوْ لَقَدْ فُقْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِلْمًا فَقَالَ: أَحَدُهُمْ مُعْتَذِرًا وَاَللَّهِ مَا جِئْنَا بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا وَلَا فُقْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِلْمًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالطَّرِيقِ فَالْزَمُوهُ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَتَضِلُّونَ ضَلَالًا بَعِيدًا.
وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْجَامِّ فِي ذَمِّ الْعَوَامّ لَهُ: اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ قَاطِبَةً عَلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ وَزَجْرِ الْمُبْتَدِعِ وَتَعْتِيبِ مَنْ يُعْرَفُ بِالْبِدْعَةِ، فَهَذَا مَفْهُومٌ عَلَى الضَّرُورَةِ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي مَحِلِّ الظَّنِّ وَذَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبِدْعَةَ وَعُلِمَ بِتَوَاتُرٍ مَجْمُوعُ أَخْبَارٍ تُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ جُمْلَتُهَا فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» .
وَقَالَ: صلى الله عليه وسلم «اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِمَا ابْتَدَعُوا
فِي دِينِهِمْ وَتَرَكُوا سُنَنَ أَنْبِيَائِهِمْ وَقَالُوا بِآرَائِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَقَالَ: صلى الله عليه وسلم «إذَا مَاتَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ فَقَدْ فُتِحَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتْحٌ» .
وَقَالَ: صلى الله عليه وسلم «مَنْ مَشَى إلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ» ، وَقَالَ: صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَعْرَضَ عَنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ بُغْضًا لَهُ فِي اللَّهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا وَمَنْ انْتَهَرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ رَفَعَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ دَرَجَةٍ وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ أَوْ لَقِيَهُ بِالْبِشْرِ أَوْ اسْتَقْبَلَهُ بِمَا يَسُرُّهُ فَقَدْ اسْتَخَفَّ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» .
وَقَالَ: صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَوْمًا وَلَا صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً وَلَا جِهَادًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَيَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَوْ كَمَا يَخْرُجُ الشَّعْرُ مِنْ الْعَجِينِ» انْتَهَى مَا نَقَلَهُ بِلَفْظِهِ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَحْوَالُهُمْ مُتَعَدِّدَةٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا وَلَا عَدُّهَا وَالْكِتَابُ يَضِيقُ عَنْ الْإِكْثَارِ مِنْهَا وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَيْفَ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ عِنْدَنَا مِمَّا نَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّنَا؟ وَكَيْفَ كَانَ إسْرَاعُهُمْ إلَى تَغْيِيرِهَا وَانْزِعَاجُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهَا وَشِدَّتُهُمْ فِي أَمْرِهَا؟ فَانْظُرْ بِنَظَرِك فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَجِيبِ مَا بَيْنَ حَالِنَا وَحَالِهِمْ إذْ مَا نَتَقَرَّبُ بِهِ الْيَوْمَ كَانَ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ الِانْزِعَاجِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى اقْتَصَرْت فِي التَّمْثِيلِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ عَلَى مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَصْلِ الدِّينِ وَعُمْدَتِهِ الَّذِي مَنْ يَفْعَلُهُ الْيَوْمَ عِنْدَنَا هُوَ الرَّجُلُ الْأَعْظَمُ الَّذِي تَغْتَنِمُ خَيْرَهُ وَبَرَكَتَهُ فَمَا بَالُك بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَصْلُ الدِّينِ وَعُمْدَتُهُ وَقِوَامُهُ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ بِالْجُوعِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى إحْرَازِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ الَّتِي تَأْتِي عَلَيْهِ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَغَيْرِهَا وَالْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ مَا الْإِنْسَانُ مُخَاطَبٌ بِهِ فِي تَغْيِيرِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذَا ظَهَرَ فِي هَذَا الْأَصْلِ الشَّرِيفِ
فَيَبْدَأُ أَوَّلًا بِالتَّغْيِيرِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَيَنْظُرُ إلَى مَا حَدَثَ فِي زَمَانِ مَنْ شُهِدَ فِيهِمْ بِالْخَيْرِ فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيَتَدَيَّنُ بِهِ وَمَا حَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ فَالتَّرْكُ لِذَلِكَ أَوْلَى مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَمُوَاصَلَةِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَالتَّدَيُّنُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِبَعْضِ ذَلِكَ وَالْأَخْذُ عَلَى يَدِ فَاعِلِهِ إنْ كَانَ لِلْإِنْسَانِ شَوْكَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ الْعُلُومِ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ.
قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَالْعَالِمُ لَهُ الشَّوْكَةُ بِالضَّرُورَةِ الْقَطْعِيَّةِ وَهِيَ الْعِلْمُ الَّذِي عِنْدَهُ كَمَا قِيلَ: مَنْ دَرَسَ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَكَلَّمَ وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَمَا عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أُمِرَ بِتَغْيِيرِهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِالْقَوْلِ فَيَذْكُرُ الْحُكْمَ فِيهِ، فَإِنْ سُمِعَ مِنْهُ وَرُجِعَ إلَيْهِ حَصَلَ الْمُرَادُ وَإِنْ تُرِكَ قَوْلُهُ كَانَ قَدْ أَقَامَ عِنْدَ اللَّهِ عُذْرَهُ وَقَامَ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَيَسْلَمُ أَيْضًا مِنْ الْآفَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي عَلَيْهِ فِي عَدَمِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ «أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَعَلَّقُ الرَّجُلُ بِالرَّجُلِ لَا يَعْرِفُهُ فَيَقُولُ لَهُ: مَا لَك مَا رَأَيْتُك قَطُّ فَيَقُولُ: بَلَى رَأَيْتنِي يَوْمًا عَلَى مُنْكَرٍ فَلَمْ تُغَيِّرْهُ عَلَيَّ» .
أَوْ كَمَا قَالَ، وَهَذَا أَمْرٌ خَطَرٌ قَلَّ أَنْ تَقَعَ السَّلَامَةُ مِنْهُ وَبِالْكَلَامِ يَنْجُو مِنْ هَذَا الْخَطَرِ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَلَا تَعَبٌ، وَأَكْثَرُ الْمَنَاكِرِ وَالْبِدَعِ فِي زَمَانِنَا هَذَا لَيْسَ عَلَى الْعَالِمِ مَشَقَّةٌ وَلَا خَوْفٌ فِي الْكَلَامِ فِيهَا وَلَا فِي الْحَضِّ عَلَى تَرْكِهَا، وَإِنَّمَا يَتْرُكُهَا مَعَ رُؤْيَتِهَا وَلَا يَحُضُّ عَلَيْهَا فِي مَجْلِسِهِ فِي الْغَالِبِ لِاسْتِئْنَاسِ النُّفُوسِ بِالْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَهْلَكَ مَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ تَعَالَى:{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] وَكَذَلِكَ {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، وَقَدْ أَهْلَكَهَا اللَّهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَهْلَكْتَهُمْ وَكُنْت أَعْرِفُ
فِيهَا رَجُلًا صَالِحًا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا مُوسَى إنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْ لِي مُنْكَرًا فَأَفَادَ هَذَا الْخَبَرُ أَنَّهُ لَوْ غَيَّرَ عَلَيْهِمْ أَيْ: مَنَعَهُمْ مِنْ فِعْلِ الْمُنْكَرِ مَا هَلَكَ وَلَا هَلَكُوا، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ هِيَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِتَرْكِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْمُخَالَفَاتِ فَلَمَّا أَنْ وَقَعُوا فِي الْمُخَالَفَاتِ وَسَكَتَ هُوَ كَانَ ذَلِكَ وُقُوعًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ السُّكُوتِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الْمُخَالَفَاتِ فَاسْتَوَى مَعَهُمْ فِي ارْتِكَابِ الْمَنْهِيَّاتِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ إذْ ذَاكَ مَنْ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ عَنْهُمْ إذْ نَزَلَ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ إنَّمَا يَرْفَعُهُ الِامْتِثَالُ فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ إذْ ذَاكَ مُمْتَثِلٌ فَحَصَلَ مَا حَصَلَ وَهَا هُوَ الْيَوْمَ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا خَفَاءَ فِي وُقُوعِ هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَنَا لِوُقُوعِ مَا يَقَعُ وَسُكُوتِ عُلَمَائِنَا فِي الْجَمِيعِ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَلَا يَحُضُّونَ فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ عَلَى تَرْكِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ مُوجِبَاتِ نُزُولِ الْعَذَابِ كُلِّهَا مُتَوَفِّرَةٌ عِنْدَنَا فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ.
لَا جَرَمَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْخَسْفُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَعَمَّ الْآفَاقَ وَمِنْ الْأَحْيَاءِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْعُلَمَاءُ يُحْشَرُونَ فِي زُمْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْقُضَاةُ يُحْشَرُونَ فِي زُمْرَةِ السَّلَاطِين وَفِي مَعْنَى الْقُضَاةِ كُلُّ فَقِيهٍ قَصَدَ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعِلْمِهِ.
قَالَ: وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْدُمُ مُوسَى صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي مُوسَى صَفِيُّ اللَّهِ حَدَّثَنِي مُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ حَدَّثَنِي مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ حَتَّى أَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ فَفَقَدَهُ مُوسَى فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُ فَلَا يَحُسُّ لَهُ أَثَرًا حَتَّى جَاءَهُ ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ وَفِي يَدِهِ خِنْزِيرٌ وَفِي عُنُقِهِ حَبْلٌ أَسْوَدُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى صلى الله عليه وسلم: أَتَعْرِفُ فُلَانًا؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ هَذَا الْخِنْزِيرُ فَقَالَ مُوسَى عليه السلام: يَا رَبِّ أَسْأَلُك أَنْ تَرُدَّهُ إلَى حَالِهِ حَتَّى أَسْأَلَهُ بِمَ أَصَابَهُ هَذَا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ عز وجل إلَيْهِ يَا مُوسَى لَوْ دَعَوْتنِي بِاَلَّذِي دَعَانِي بِهِ آدَم، فَمَنْ دُونَهُ مَا أَجَبْتُك فِيهِ وَلَكِنْ أُخْبِرُك لِمَ صَنَعْت هَذَا بِهِ؟ لِأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ.
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رحمه الله يَقُولُ: كَانَ الْخَسْفُ لِمَنْ قَبْلِنَا بِالْإِعْدَامِ وَلِكَرَامَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِينَا رُفِعَ عَنَّا خَسْفُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَلَبَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يَخْسِفَ بِأُمَّتِهِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ فَشَفَّعَهُ اللَّهُ فِيمَا طَلَبَ فِي الظَّاهِرِ لِيَقَعَ بِذَلِكَ السَّتْرُ. .
أَمَّا خَسْفُ الْبَاطِنِ فَلَمْ يَرْفَعْهُ عَلَى مَا وَرَدَ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا يَرْتَابُ أَحَدٌ فِيهِ وَلَا يَشُكُّ أَلَا تَرَى إلَى الْخِنْزِيرِ وَحَالَتِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ التَّنْجِيسِ وَالتَّقْذِيرِ فَانْظُرْ إلَى شَارِبِ الْخَمْرِ هَلْ تَجِدُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا؟ إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَانِي قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَهُمَا.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا نَظَرْت إلَى الثُّعْبَانِ تَجِدُهُ نَاعِمًا أَمْلَسَ مَلِيحَ الْمَنْظَرِ فَإِذَا قَرُبْته قَتَلَك بِسُمِّهِ وَأَنْتَ تَرَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْوَقْتِ كَذَلِكَ فَتَنْظُرُ فِي أَحَدِهِمْ تَرَى الْعِبَارَةَ الْعَذْبَةَ وَالْكَلَامَ الطَّيِّبَ، وَكَأَنَّهُ أَعْظَمُ النَّاسِ لَك فِي الْمَحَبَّةِ فَإِذَا اطْمَأْنَنْت إلَيْهِ أَوْ رَكَنْت إلَى جَانِبِهِ أَوْ غِبْت عَنْهُ أَهْلَكَك بِحَسَبِ حَالِهِ وَحَالِك، إمَّا فِي مَالِك أَوْ عِرْضِك أَوْ دِينِك، وَذَلِكَ سُمُّهُ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَانِي جَامِعَةٌ بَيْنَهُمَا.
أَلَا تَرَى إلَى السَّبُعِ وَحَالَتِهِ وَإِيذَائِهِ وَرُعْبِهِ لِلنَّاسِ وَخَوْفِهِمْ مِنْهُ إذَا سَمِعُوا بِحِسِّهِ فَضْلًا عَنْ رُؤْيَتِهِ، بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ رُؤْيَتَهُ فَمَا رَآهُ إلَّا وَيَهْلَكُ، وَهُوَ مَطْبُوعٌ عَلَى الضَّرَرِ الْكُلِّيِّ أَلَا تَرَى إلَى حَالِهِ إذْ قَدْ يَكُونُ شَبْعَانًا رَيَّانًا وَمَعَ ذَلِكَ إذَا رَأَى آدَمِيًّا أَوْ مَاشِيَةً لَمْ يَتَمَالَكْ نَفْسَهُ إلَّا أَنْ يَنْقَضَّ عَلَيْهِ يَعْبَثَ بِهِ وَيَقْتُلَهُ ثُمَّ يَمْضِيَ وَيَتْرُكَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ لِشِبَعِهِ فَانْظُرْ إلَى هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ وَمَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ حَتَّى لَمْ يُبْقِ لَهُمْ أُمْنِيَّةً إلَّا وَهِيَ حَاصِلَةٌ فَضْلًا عَنْ الضَّرُورَاتِ ثُمَّ فَضَلَتْ الْأَمْوَالُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لَهُمْ بِهَا حَاجَةٌ يُدْبِرُونَ عَلَى بَعْضِهَا بِالدَّفْنِ، وَعَلَى بَعْضِهَا بِالْحُرُمَاتِ وَفِي الْبُنْيَانِ وَالْإِسْرَافِ ثُمَّ مَعَ مَا مُدَّ لَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْوَالِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَتْرُكَ لِلضَّعِيفِ الْمِسْكِينِ دِرْهَمًا يَكْتَسِبُ بِهِ لِنَفْسِهِ وَعَائِلَتِهِ.
بَلْ يَضْرِبُونَ النَّاسَ الْفُقَرَاءَ عَلَى الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الضَّرْبَ الْمُؤْلِمَ وَيَسُوءُونَ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ وَالْغَرَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ
وَالرُّعْبِ لِلْمَسَاكِينِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَا يَسْتَطِيعُونَ رُؤْيَتَهُمْ لِشِدَّةِ سَطْوَتِهِمْ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّبُعِ؟ إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَانِي جَامِعَةٌ بَيْنَهُمَا.
أَلَا تَرَى إلَى الْكِلَابِ وَحَالَتِهَا وَإِيذَائِهَا وَتَسْلِيطِهَا عَلَى رُعْبِ النَّاسِ مَرَّةً بِرُؤْيَتِهَا وَمَرَّةً بِصَوْتِهَا وَمَرَّةً بِتَقْطِيعِهَا الثِّيَابَ وَإِيذَائِهَا فِي الْبَدَنِ، وَقَدْ يُؤَوَّلُ أَمْرُهَا أَنَّ كُلَّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ سَوَاءٌ كَانَ صَبِيًّا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ضَعِيفًا إلَى الْإِعْدَامِ أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا مَنْ هُوَ كَلْبٌ فَيَهْلَكُ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا كَثِيرًا، وَهُوَ كَثِيرٌ مُتَعَارَفٌ.
فَانْظُرْ إلَى هَؤُلَاءِ الْحَرَسِ الْمُجْتَزِئَةِ الْجَنَادِرَةِ فِي إرْعَابِهِمْ الْمُسْلِمِينَ وَتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالْأَذِيَّةِ الْعَظِيمَةِ فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ وَالْمَالِ وَالرُّوحِ وَالرُّعْبِ الْحَاصِلِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِلصِّبْيَانِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ الضُّعَفَاءِ الْمَسَاكِينِ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكِلَابِ؟ إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَانِي.
أَلَا تَرَى إلَى الْعَقْرَبِ وَحَالَتِهَا وَإِيذَائِهَا وَكَثْرَةِ تَعْقِيدِهَا وَسُمِّهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا صَدْرٌ فَانْظُرْ إلَى بَعْضِهِمْ تَجِدْهُ كَذَلِكَ ضَيِّقَ الصَّدْرِ وَمَعْقُودَ الْوَجْهِ لَا تَسْتَطِيعُ رُؤْيَتَهُ لِتَعَقُّدِ وَجْهِهِ وَضِيقِ صَدْرِهِ، فَإِنْ قَرُبْته وَأَنْتَ لَا تَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِك مِنْهُ حَصَلَ لَك مِنْهُ الْأَذِيَّةُ الْعُظْمَى إمَّا فِي مَالِك أَوْ بَدَنِك أَوْ عِرْضِك، وَذَلِكَ سُمُّهُ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ؟ وَالْمَعَانِي جَامِعَةٌ بَيْنَهُمَا انْتَهَى بِالْمَعْنَى.
وَهَذَا كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ وَلَا عَدُّهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا رحمه الله تَمْثِيلًا لِمَنْ لَهُ لُبٌّ فَيَنْظُرُ إلَى كَيْفِيَّةِ الْخَسْفِ الْوَاقِعِ لِكُلِّ إنْسَانٍ بِحَسَبِ حَالِهِ وَحَالِ دِينِهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى خَسْفِ الْقُلُوبِ وَعَدَمِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ الْمُوَاطَأَةُ مِنْ الْبَعْضِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُخَالَفَاتِ وَمِنْ الْبَعْضِ عَلَى السُّكُوتِ عِنْدَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ أَوْ سَمَاعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَغْيِيرَ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالْيَدِ مَرَّةً وَبِاللِّسَانِ مَرَّةً وَالشَّاذُّ لُزُومُ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ التَّأْثِيرُ وَالْبُغْضُ الَّذِي يَجِدُهُ فِي قَلْبِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ الْآدَابِ
فِي ذَلِكَ وَالْكَمَالِ أَنْ يُغَيِّرَ عَلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا قَبْلَ غَيْرِهِ بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ فَإِذَا اسْتَقَامَتْ النَّفْسُ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ الِامْتِثَالِ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ يُغَيِّرُ عَلَيْهِ بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ بِحَسَبِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ.
، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَحْتَاجُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ أَوَّلَ دُخُولِهِ لِمَوْضِعِ التَّدْرِيسِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا فَلَا يَخْلُو مَوْضِعُ التَّدْرِيسِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْتًا أَوْ مَدْرَسَةً أَوْ مَسْجِدًا وَأَفْضَلُ مَوَاضِعِ التَّدْرِيسِ الْمَسْجِدُ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ لِلتَّدْرِيسِ إنَّمَا فَائِدَتُهُ أَنْ تَظْهَرَ بِهِ سُنَّةٌ أَوْ تَخْمَدُ بِهِ بِدْعَةٌ أَوْ يُتَعَلَّمُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَالْمَسْجِدُ يَحْصُلُ فِيهِ هَذَا الْغَرَضُ مُتَوَفِّرًا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ مُجْتَمَعِ النَّاسِ رَفِيعِهِمْ وَوَضِيعِهِمْ وَعَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ بِخِلَافِ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَى النَّاسِ إلَّا مَنْ أُبِيحَ لَهُ، وَذَلِكَ لِأُنَاسٍ مَخْصُوصِينَ، وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ قَدْ أَبَاحَ بَيْتَهُ لِكُلِّ مَنْ أَتَى لَكِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الْبُيُوتَ تُحْتَرَمُ وَتُهَابُ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَحْصُلُ لَهُ الْإِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ الْمَسْجِدُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ فِي تَوْصِيلِ الْأَحْكَامِ وَتَبْلِيغِهَا لِلْأُمَّةِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا بِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْمَسْجِدُ أَفْضَلَ مِنْ الْمَدْرَسَةِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّلَفَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَدَارِسُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُدَرِّسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَدْرَسَةِ فِيهِ الْمَنْفَعَةُ وَالْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ لَكِنْ لَمَّا أَنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِلسَّلَفِ رضي الله عنهم كَانَ أَخْذُهُ فِي الْمَسَاجِدِ فِيهِ صُورَةُ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَجُوزُ وَكَفَى لَنَا أُسْوَةٌ بِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَدْرَسَةَ لَا يَدْخُلُهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا آحَادُ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَقْصِدُ الْمَدْرَسَةَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَعَمُّهُمْ الْمَسَاجِدَ، وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ أَيْضًا لَهُ رَغْبَةٌ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَإِذَا كَانَ التَّدْرِيسُ أَيْضًا فِي الْمَدْرَسَةِ امْتَنَعَ تَوْصِيلُ الْعِلْمِ عَلَى مَنْ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ بِالتَّدْرِيسِ كَمَا تَقَدَّمَ إنَّمَا هُوَ التَّبْيِينُ لِلْأُمَّةِ وَإِرْشَادُ الضَّالِّ وَتَعْلِيمُهُ وَدَلَالَةُ الْخَيْرَاتِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمَسْجِدِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَدْرَسَةِ ضَرُورَةً، وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ أَفْضَلَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ إلَى
الْأَفْضَلِ وَيَتْرُكَ مَا عَدَاهُ اللَّهُمَّ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَاتُ لَهَا أَحْكَامٌ أُخَرُ، وَإِذَا قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ أَيْضًا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ بَارِزًا لِلنَّاسِ بِمَوْضِعٍ يَصِلُ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمِسْكِينُ وَالْعَامِّيُّ الْجَاهِلُ لِكَيْ يَسْمَعُوا أَحْكَامَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ مَسْأَلَةٌ يَجْهَلُهَا، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْهَا سَمِعَهَا اسْتَفَادَهَا حِينَ إلْقَاءِ الْمَسَائِلِ وَالْإِيرَادِ عَلَيْهَا وَالْجَوَابِ عَنْهَا.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ تَنْشِيطًا لَهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ عَنْهُ وَالْعَمَلِ عَلَى تَحْصِيلِهِ فَيَرْجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَتُوبُ مِنْ جَهْلِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ثَمَّ آخَرُ يَسْأَلُ عَمَّا وَقَعَ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْمَحِلَّ قَابِلًا لِلسُّؤَالِ فَسَأَلَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَآخَرُ تَحْصُلُ لَهُ بَرَكَةُ الْعِلْمِ وَحُضُورِ الْمَجْلِسِ وَآخَرُ تَحْصُلُ لَهُ بَرَكَةُ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَجْلِسَ الَّذِي جَلَسَهُ هَذَا الْعَالِمُ هُوَ الْمَجْلِسُ الْمَشْهُودُ خَيْرُهُ الْمَعْرُوفُ بَرَكَتُهُ الْمُسْتَفِيضُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِرُّهُ وَاحْتِرَامُهُ الشَّائِعُ الذَّائِعُ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى إلَّا حَفَّتْ بِهِمْ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.
(وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا مَجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَنَحْمَدُهُ لِمَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِهِ فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ انْتَهَى.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: الذِّكْرُ وَالْمَجَالِسُ الْمَذْكُورَاتُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَجْلِسُ الْعِلْمِ وَهِيَ مَجَالِسُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟ كَيْفَ يَتَوَضَّأُ؟ وَمَا يَجِبُ فِيهِ وَمَا يُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ وَكَيْفَ يُصَلِّي؟ وَمَا يَجِبُ فِيهَا وَيُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ وَكَيْفَ يَنْكِحُ؟ وَمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ وَيُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ وَكَيْفَ يَبِيعُ؟ وَكَيْفَ يَشْتَرِي؟ وَمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ وَيُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالنُّطْقِ وَالصَّمْتِ فَيَجِبُ أَنْ تَعْرِفَ الْأَحْكَامَ عَلَيْك فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِهَذَا هِيَ الْإِشَارَةُ، بَلْ التَّصْرِيحُ مِنْ الصَّحَابِيِّ، وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه حِينَ خَرَجَ إلَى النَّاسِ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ فَنَادَى فِيهِمْ مَا بَالُكُمْ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَسَّمُ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ أُمَّتِهِ وَأَنْتُمْ مُشْتَغِلُونَ فِي الْأَسْوَاقِ فَتَرَكُوا السُّوقَ وَأَتَوْا إلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدُوا النَّاسَ حِلَقًا حِلَقًا لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَقَالُوا: وَأَيْنَ مَا ذَكَرْت يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: قَالَ: هَذَا مِيرَاثُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ وَهَا هُوَ ذَا أَوْ كَمَا قَالَ فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الصَّحَابِيُّ رضي الله عنه الْمُرَادَ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الَّذِي قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي حَقِّهِ «إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» ، وَقَالَتْ الصَّحَابَةُ فِي حَقِّهِ: مَا كُنَّا نَرَى إلَّا أَنَّ مَلَكًا عَلَى لِسَانِهِ يَنْطِقُ، وَأَنَّ مَلَكًا مَعَهُ يُسَدِّدُهُ: يَا أَيَّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ رِدَاءً يُحِبُّهُ، فَمَنْ طَلَب بَابًا مِنْ الْعِلْمِ رَدَّاهُ اللَّهُ عز وجل بِرِدَائِهِ فَإِنْ أَذْنَبَ اسْتَعْتَبَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِئَلَّا يَسْلُبَهُ رِدَاءَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ ذَلِكَ الذَّنْبُ حَتَّى يَمُوتَ فَعَلَى هَذَا الْكَلَامِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِهِ بِاللِّسَانِ انْتَهَى.
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ خَاصَّةً بَلْ الْمَقْصُودُ مَعْرِفَةُ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ وَفُرُوعِهِ وَالْمَشْيِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي هُوَ مُحْتَاجٌ
إلَيْهَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا وَبِهَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ بَابِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ إنْ قَامَ بِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ الْكَثِيرُ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَقَدْ أَتَى بِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَكُونُ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَرْعًا عَنْ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي حَصَلَ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَبِيبُ الدِّينِ، وَقَدْ عَهِدْنَا فِي مَرَضِ الْبَدَنِ أَنَّ الطَّبِيبَ لَا يُعْطِي الدَّوَاءَ إلَّا بَعْدَ الْحِمْيَةِ فَإِذَا احْتَمَى الْعَلِيلُ حِينَئِذٍ يُعْطِيهِ الطَّبِيبُ الدَّوَاءَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَرْضَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِالْحِمْيَةِ وَيَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ أَخْذِ الدَّوَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِ الْعَلِيلُ فَقَلَّ أَنْ يُعْطِيَهُ الطَّبِيبُ الدَّوَاءَ، وَإِنْ أَعْطَاهُ قَلَّ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، بَلْ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ الْحِمْيَةُ أَوَّلًا وَهِيَ مَجَالِسُ الْعِلْمِ فَيَعْرِفُ مِنْهَا الْإِنْسَانُ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ وَيَجِبُ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَمَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَوْجَبُ فَيَعْمَلُ عَلَى مُقْتَضَى مَا يَحْصُلُ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ.
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَصَلَ لَهُ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ فِي الِامْتِثَالِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى الْمَسَائِلِ بِمَا يَأْتِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِفِعْلِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَتَحْصُلُ لَهُ تِلَاوَةُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّرَضِّي عَنْ أَصْحَابِهِ وَمَعْرِفَةُ فَضْلِهِمْ وَمَحَبَّتُهُمْ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ.
وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ تِلَاوَةُ كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَحْصُلُ لِقَلْبِهِ الذِّكْرُ أَيْضًا، وَهُوَ الْفِكْرَةُ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَتَفَهُّمِهَا وَيَحْصُلُ لِأَعْضَائِهِ أَيْضًا كَسْبُهَا، وَهُوَ مَا امْتَثَلَتْ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَا اسْتَفَادَتْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى هَذَا الذِّكْرَ لِوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ وَأَهْلِهِ لِحَمْلِهِ لَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَمَعْرِفَتِهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عز وجل فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ ذِكْرِهِ هُوَ ثُمَّ يَتَعَدَّى ذَلِكَ لِمَعَارِفِهِ وَإِخْوَانِهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ لِمُعَامَلَتِهِ لَهُمْ
بِذَلِكَ وَتَصَرُّفِهِ مَعَهُمْ بِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ مِمَّنْ خَالَطَهُ أَوْ اقْتَبَسَ مِنْهُ أَوْ رَآهُ أَوْ رَأَى مَنْ رَآهُ ثُمَّ يَتَعَدَّى ذَلِكَ لِلثَّقَلَيْنِ جِنِّهِمْ، وَإِنْسِهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ لِتَعَلُّمِهِ حُكْمَ اللَّهِ فِي الْجَمِيعِ وَتَعْلِيمُ ذَلِكَ مِثْلِ قَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ» .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ كَانَ الْعَالِمُ إذَا مَاتَ بَكَى عَلَيْهِ كُلُّ الْخَلْقِ حَتَّى الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكُ فِي الْمَاءِ لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ فَيَرْتَفِعُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ لِأَجْلِ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهِمْ بِالْجَهْلِ عَذَابٌ لَهُمْ نَهَى عليه الصلاة والسلام أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْمَقْتَلِ وَنَهَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ أَحَدٌ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَسْأَلُ الْعُودَ لِمَ خَدَشَ الْعُودَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ كَثِيرٌ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: أَهْلُ الذِّكْرِ فِي الْآيَةِ هُمْ الْعُلَمَاءُ فَهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْ النَّوَازِلِ وَبِفَتْوَاهُمْ يُعْبَدُ اللَّهُ وَيُطَاعُ وَيُمْتَثَلُ أَمْرُهُ وَيُجْتَنَبُ نَهْيُهُ فَعَلَى هَذَا فَأَهْلُ الذِّكْرِ هُمْ الْعُلَمَاءُ لِنَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلِهَذَا الْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي الْمَذْكُورِ قَدْ وَرَدَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ:«لَمَجْلِسُ عَالِمٍ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ سَنَةٍ لَا يُعْصَى اللَّهُ فِيهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ» .
وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي أَنَّ الْخَشْيَةَ لِلَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ لِلَّهِ تَعَالَى هِيَ الْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ وَلَا يُرَادُ الذِّكْرُ إلَّا لِأَجْلِهَا، وَهِيَ لَا تَحْصُلُ إلَّا لِلْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ عز وجل قَالَ:" إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ " وَإِنَّمَا لِلْحَصْرِ عَلَى مَا قَالَهُ النَّحْوِيُّونَ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وَأَيْنَ هَذَا الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَهَذَا الْفَضْلُ كُلُّهُ مِنْ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي أَنَّ الْخَيْرَ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مِنْ الْخَيْرِ الْقَاصِرِ عَلَى الْمَرْءِ نَفْسِهِ فَبَانَ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ الذِّكْرِ وَالْقَاعِدَةُ فِي أَلْفَاظِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ وَأَوْلَى وَأَفْضَلُ بَلْ الِاقْتِصَارُ عَلَى الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ دُونَ عِلْمٍ مَكْرُوهٍ لِمَا جَاءَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
أَوْحَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ أَظُنُّهُ دَاوُد عليه السلام (يَا دَاوُد قُلْ لِلظَّالِمِينَ لَا يَذْكُرُونِي فَإِنِّي آلَيْت عَلَى نَفْسِي أَنَّ مَنْ ذَكَرَنِي ذَكَرْته، فَإِنْ هُمْ ذَكَرُونِي ذَكَرْتهمْ بِالْغَضَبِ) .
وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: رضي الله عنها كَمْ مِنْ قَارِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ يَقْرَأُ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَهُوَ ظَالِمٌ) انْتَهَى وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الظُّلْمَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ مَدَّ يَدَهُ لِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ الظُّلْمُ أَعَمُّ فَقَدْ يَكُونُ يَظْلِمُ نَفْسَهُ فِي ارْتِكَابِهِ لِلْمُخَالَفَاتِ أَوْ تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ يَتْلُو الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَمَعَانِيهِ، وَذَلِكَ فِي مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَتِلَاوَتِهِ بِاللِّسَانِ فَرْعٌ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ الْمَقْصُودِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الطَّبِيبِ الْأَعْظَمِ وَصَاحِبِ النُّورِ الْأَكْمَلِ إلَّا عَلَى الْأَصْلِ وَالْمَقْصُودِ الَّذِي يَجْمَعُ الْخَيْرَاتِ كُلَّهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَفَا عَنْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا وَسَاقَهَا فِي فَضْلِ اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ مُجْتَمَعِينَ وَفَضْلِ الْقَارِئِينَ وَالسَّامِعِينَ وَبَيَانِ فَضِيلَةِ مَنْ حَضَّهُمْ وَجَمَعَهُمْ عَلَيْهَا وَنَدَبَهُمْ إلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ مُجْتَمَعِينَ مُسْتَحَبَّةٌ لَهُمْ بِالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ وَأَفْعَالِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ الْمُتَظَافِرَةِ انْتَهَى.
وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ رحمه الله فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى مَعْرِفَةِ تَلَقِّي الصَّحَابَةِ لَهَا كَيْفَ تَلَقَّوْهَا مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِالْمَقَالِ وَأَفْقَهُ بِالْحَالِ انْتَهَى؟ .
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا يَنُصُّ عَلَى أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا عَلَى مَا تُرْجِمَ عَلَيْهِ أَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ» فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ يَتَرَاسَلُونَ بَيْنَهُمْ صَوْتًا وَاحِدًا، بَلْ ذَلِكَ عَامٌّ هَلْ كَانَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ
بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ ارْتِكَابِهِمْ ذَلِكَ وَنَهْيِهِمْ عَنْهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ رحمه الله نُبَذًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ نَفْسِهِ.
فَقَالَ وَعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الدِّرَاسَةَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ هِشَامُ بْنُ إسْمَاعِيلَ فِي قُدُومِهِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُد عَنْ الضَّحَّاكِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ أَنْكَرَ هَذِهِ الدِّرَاسَةَ، وَقَالَ: مَا رَأَيْت وَلَا سَمِعْت وَلَا أَدْرَكْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهَا وَعَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: قُلْت لِمَالِكٍ رضي الله عنه أَرَأَيْت الْقَوْمَ يَجْتَمِعُونَ فَيَقْرَءُونَ جَمِيعًا سُورَةً وَاحِدَةً حَتَّى يَخْتِمُوهَا فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَعَابَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ يَصْنَعُ النَّاسُ إنَّمَا كَانَ يَقْرَأُ الرَّجُلُ عَلَى الْآخَرِ يَعْرِضُهُ فَقَدْ نَقَلَ رحمه الله مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَبَيَّنَهُ، وَقَدْ قَالَ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي تَرْجَمَهَا مَا قَالَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ ثُمَّ نَقَلَ فِعْلَهُمْ عَلَى الضِّدِّ مِمَّا تَرْجَمَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ كَيْفَ كَانَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي الْمَسْجِدِ يُسْمَعُ لَهُمْ فِيهِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ كُلُّ إنْسَانٍ يَذْكُرُ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ وَلَا بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ جَمَاعَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ إنْكَارُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَهُمْ وَقَوْلُهُ لَهُمْ: وَاَللَّهِ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا أَوْ لَقَدْ فُقْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِلْمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ عليه الصلاة والسلام بِقَوْلِهِ:«لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ وَمُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يَكُونَ» عليه الصلاة والسلام نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ فَيَجْتَمِعُونَ لِلذِّكْرِ رَافِعِينَ أَصْوَاتَهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ مُبَادَرَةً لِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ عليه الصلاة والسلام وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ وَلَا يُظَنُّ فِيهِمْ غَيْرُ مَا وَصَفَ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ عَزَّ مَنْ قَائِلٍ {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي إشْفَاقِهِ مِنْ غَسْلِ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الذُّبَابُ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَقَوْلُهُ: وَاَللَّهِ مَا أَكُونُ بِأَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَ بِدْعَةً فِي الْإِسْلَامِ
أَمَّا قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ» .
فَالدِّرَاسَةُ الْمَذْكُورَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى التِّلَاوَةِ صَوْتًا وَاحِدًا مُتَرَاسِلِينَ؛ لِأَنَّ الْمُدَارَسَةَ إنَّمَا تَكُونُ تَلْقِينًا أَوْ عَرْضًا، وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُمْ. أَمَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ بِمَرْوِيٍّ عَنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا خُرُوجُهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا مَجْلِسُكُمْ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ، فَهَذَا أَفْصَحُ بِالْمُرَادِ فِي الْجَمِيعِ وَكَيْفَ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ؟ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ جَهْرًا لَمْ يَحْتَجْ عليه السلام إلَى أَنْ يَسْتَفْهِمَهُمْ بَلْ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِالْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ فَلَمَّا أَنْ اسْتَفْهَمَ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُمْ كَانَ سِرًّا وَكَذَلِكَ جَوَابُهُمْ لَهُ عليه الصلاة والسلام بِقَوْلِهِمْ جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى سِرًّا إذْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذِكْرُهُمْ جَهْرًا لَمَا كَانَ لِأَخْبَارِهِمْ بِذَلِكَ مَعْنًى زَائِدًا إذْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَكَانَ جَوَابُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: جَلَسْنَا لِمَا سَمِعْته أَوْ لِمَا رَأَيْته مِنَّا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُمْ يَتَحَاشَوْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ الْجَوَابُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ فَبَانَ وَاتَّضَحَ أَنَّ ذِكْرَهُمْ كَانَ سِرًّا لَا جَهْرًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] أَوْ كَانُوا يَتَذَاكَرُونَ بَيْنَهُمْ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْإِيمَانِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَتَعْظُمُ عِنْدَهُمْ النِّعَمُ عِنْدَ تَذَكُّرِ ذَلِكَ فَيَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا.
أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَتَذَاكَرُونَ بَيْنَهُمْ الْأَشْيَاءَ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ يَسْمَعُهُمْ فَيَتَبَسَّمُ أَحْيَانًا مِنْ حِكَايَاتِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْحَلْقَةُ الَّتِي خَرَجَ عليه الصلاة والسلام عَلَيْهَا قَاعِدَةً لِذَلِكَ الْمَعْنَى فَحَصَلَ لَهُمْ
مَا حَصَلَ مِنْ الْمُبَاهَاةِ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَذَاكَرُوا ذَلِكَ فِيهِ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ وَلَا بِقُدْرَتِهِمْ فَتَعْظُمُ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنْ هَدَاهُمْ وَأَنْقَذَهُمْ وَأَضَلَّ غَيْرَهُمْ وَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَاهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ كَمَا جَاءَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الذِّكْرَ الْخَفِيَّ يَفْضُلُ الْجَلِيَّ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً وَمُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا مَا هُوَ أَفْضَلُ وَيَفْعَلُونَ الْمَفْضُولَ وَمُحَالٌ فِي حَقِّهِ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَرَاهُمْ يَفْعَلُونَ الْمَفْضُولَ وَلَا يُرْشِدُهُمْ إلَى الْأَفْضَلِ وَلَا يُنَبِّهُهُمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فَرَأَى مَجْلِسَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَدْعُونَ اللَّهَ عز وجل وَيَرْغَبُونَ إلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ عز وجل إنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ. أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ، وَإِنَّمَا بُعِثْت مُعَلِّمًا ثُمَّ عَدَلَ إلَيْهِمْ وَجَلَسَ مَعَهُمْ» انْتَهَى.
فَقَدْ فَسَّرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الذِّكْرَ الَّذِي كَانَ بِالْحَلْقَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ الدُّعَاءُ، وَالدُّعَاءُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ لَا يَكُونُ إلَّا جَهْرًا إذْ أَنَّهُمْ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ الدَّاعِي وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَحَادِيثُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا نَصٌّ عَلَى الْمُرَادِ الَّذِي تَرْجَمَ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ وَتَقَرَّرَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ رضي الله عنهم تَرْكُ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيْنَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
رَوَى الدَّارِمِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَنْ اسْتَمَعَ إلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا) . فَانْظُرْ إنْ كَانَ فِي هَذَا شَيْءٌ يَمَسُّ مُرَادَهُ إذْ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَنْ اسْتَمَعَ إلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَصْوَاتٍ جُمْلَةٍ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ بَلْ ذَلِكَ أَعَمُّ، وَإِذَا كَانَ أَعَمَّ فَيُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ وَلَا سَبِيلَ إلَى عُرْفِ غَيْرِهِمْ وَعَادَتِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه كَانَ يُدَرِّسُ الْقُرْآنَ مَعَهُ نَفَرٌ يَقْرَءُونَ جَمِيعًا، فَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي أَرَادَ فِي تَرْجَمَتِهِ إذْ التَّدْرِيسُ
لَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ حَضَرَ بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ وَتَعْلِيمُهُ لِوَاحِدٍ لَيْسَ إلَّا فِيهِ كَتْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَمَنْ كَتَمَ عِلْمًا أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ عَلَى مَا وَرَدَ، وَهَذَا مُتَعَارَفٌ مُتَعَاهَدٌ مِنْ زَمَانِهِمْ إلَى زَمَانِنَا هَذَا فَعَلَى التَّدْرِيسِ لِلْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ مُجْتَمِعَيْنِ هَذَا فِي آيَةٍ، وَهَذَا فِي أُخْرَى، وَهَذَا فِي سُورَةٍ، وَهَذَا فِي سُورَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا فِي حِزْبٍ، وَهَذَا فِي آخَرَ، وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله فِي الْجَمَاعَةِ إذَا اجْتَمَعُوا يُرِيدُونَ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ وَلَا يَسَعُهُمْ الْوَقْتُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ هَلْ يَقْرَأُ الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي حِزْبٍ وَاحِدٍ؛ لِعُذْرِ ضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لَا يَقْرَأُ إلَّا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ فَقَالَ: مَرَّةً يَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَرَأَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ بَقِيَ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِكَثْرَتِهِمْ وَضِيقِ الْوَقْتِ.
وَمَرَّةً قَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ رُشْدٍ رحمه الله فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِقَوْلِ مَالِكٍ رحمه الله لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَلَى مَا فُهِمَ هَذَا النَّقْلُ رحمه الله لَمْ يَقُلْ مَالِكٌ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى، وَهُوَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ كَانَ يُدَرِّسُهُمْ الْقُرْآنَ إمَّا تَلْقِينًا أَوْ فِي الْأَلْوَاحِ أَوْ فِي الْمَصَاحِفِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْجَمَاعَةُ يَقْرَءُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ. أَمَّا الْحُفَّاظُ يَجْتَمِعُونَ لِلْقِرَاءَةِ يَقْرَءُونَ مَعًا لِلثَّوَابِ فَلَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَلَا بِمَرْوِيٍّ عَنْهُمْ.
، وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْأَذَانِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ إذْ إنَّ ذَلِكَ كَانَ يُفْعَلُ عَلَى زَمَانِ مَنْ مَضَى رضي الله عنهم، وَعَلَى رَأْسِ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُصَرِّحُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنَّ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ
مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» .
فَذَكَرَ عليه السلام فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا يُمْكِنُ فِيهِ فَالتَّهْجِيرُ ذَكَرَ لَهُ الِاسْتِبَاقَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِيهِ وَالْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ ذَكَرَ لَهُمَا الْحَبْوَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ رَاحَةٍ وَغَفْلَةٍ وَنَوْمٍ وَكَسَلٍ فَذَكَرَ لَهُ مَا يَلِيقُ بِالْكَسَلِ، وَهُوَ الْحَبْوُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَذَانُ قَدْ يَتَعَذَّرُ فِيهِ الِاسْتِبَاقُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَدْ يَأْتُونَ مَعًا دَفْعَةً وَاحِدَةً وَالزَّمَانُ لَا يَسَعُهُمْ لِلْأَذَانِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ لَا يَسَعُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمْ أَوْلَى بِهَذِهِ الطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي الْإِتْيَانِ فَاحْتَاجُوا إلَى الْقُرْعَةِ فِي ذَلِكَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ.
لَكِنْ قَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إذَا تَزَاحَمَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى الْأَذَانِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ وَضَاقَ الْوَقْتُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَجُوزُ الْأَذَانُ جَمَاعَةً وَشَرَطُوا فِي جَوَازِهِ أَنْ لَا يَكُونَ نَسَقًا وَاحِدًا بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمْ فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَالْآخَرُ فِي التَّكْبِيرِ وَالْآخَرُ فِي الْحَيْعَلَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْشِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَوْتِ صَاحِبِهِ هَذَا الَّذِي أَجَازَهُ عُلَمَاؤُنَا. أَمَّا مَا اعْتَادَهُ الْمُؤَذِّنُونَ الْيَوْمَ مِنْ الْأَذَانِ جَمَاعَةً مُتَرَاسِلِينَ نَسَقًا وَاحِدًا مُجْتَمَعِينَ فَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ جَوَازُهُ وَهَا هُوَ الْيَوْمَ هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَعْمُولُ بِهِ وَمَنْ فَعَلَ غَيْرَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ كَأَنَّهُ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فِي الدِّينِ وَأَتَى بِشَيْءٍ لَا يُعْرَفُ وَلَا يُعْهَدُ.
وَكَذَلِكَ فِي الْمُدَارَسَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ كَانُوا يَدْرُسُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْفُرُوعَ وَالْأَحْكَامَ مُجْتَمَعِينَ يَتَلَقَّى بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حِفْظَ ذَلِكَ وَفَوَائِدَهُ فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ الْيَوْمَ وَصَارَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْيَوْمَ إلَّا الْعَوَائِدُ الَّتِي ارْتَكَبْنَاهَا وَمَضَتْ عَلَيْهَا عَادَتُنَا وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ تَرَكْنَاهُ وَرَجَعْنَا نَنْقُلُ عَنْ عَوَائِدَ اتَّخَذْنَاهَا لِأَنْفُسِنَا وَاصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا أَنَّهَا سُنَّةُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَلَفِنَا وَخَلْفِنَا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاقِلَ الْمَذْكُورَ رحمه الله قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ.
وَقَدْ نَقَلَ مَالِكٌ رحمه الله فِعْلَ السَّلَفِ حِينَ ذَكَرَ لَهُ ابْنُ وَهْبٍ مَا ذَكَرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ
وَعَابَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ يَصْنَعُ النَّاسُ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُنْكِرَ نَقْلَ مَالِكٌ رحمه الله عَنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَلَا يَرُدُّهُ لِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ ثِقَتِهِ وَأَمَانَتِهِ فِي نَقْلِهِ عَنْهُمْ. أَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ مَذْهَبِهِ، فَهَذَا الَّذِي الْإِنْسَانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ إنْ شَاءَ قَلَّدَهُ، وَإِنْ شَاءَ قَلَّدَ غَيْرَهُ. أَمَّا نَقْلُهُ عَنْ السَّلَفِ فَلَيْسَ إلَى مُخَالَفَتِهِ مِنْ سَبِيلٍ إلَّا أَنْ يَتَأَوَّلَ فِعْلَ السَّلَفِ فَذَلِكَ يُمْكِنُ إنْ كَانَ التَّأْوِيلُ تَقْبَلُهُ أَحْوَالُهُمْ وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ مَالِكٌ رحمه الله لِكَوْنِ مَذْهَبِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْأَخْذِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إذْ أَنَّ لَفْظَهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ عَنْهُ مُخْتَصًّا بِبَلَدِهِ يَقُولُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْت أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا بَلَدُهُ عَلَى مَا هُوَ مَوْجُودٌ عَنْهُ فِي لَفْظِهِ بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِ فَلَمَّا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَهْلَ بَلَدِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَيْضًا فَقَدْ نَقَلَ غَيْرُهُ ذَلِكَ وَصَرَّحَ بِهِ وَلَيْسَ بِبَلَدِهِ، بَلْ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ عَامٌّ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا.
وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ التَّقْلِيدُ فِي أُمُورِ الدِّينِ لِمَنْ سَهَا أَوْ غَفَلَ أَوْ غَلِطَ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ إنَّمَا يَكُونُ لِخَيْرِ الْقُرُونِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْخَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله فِي الْقِرَاءَةِ جَمَاعَةً وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً أَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ رُشْدٍ رحمه الله فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ فَلَوْ صَحَّ عِنْدَهُ أَوْ نَقَلَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ كَيْفَ يُمْكِنُهُ التَّصْرِيحُ بِكَرَاهِيَتِهِ؟ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهِ أَوْ يَكْرَهَهُ فَلَمَّا أَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي كَرَاهِيَتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُمْ فِيهِ إلَّا التَّرْكَ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْإِنْكَارَ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ إذَا شَغَلَ عَبْدِي ثَنَاؤُهُ عَلَيَّ أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ
لَأَنْ أَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مِنْ غُدْوَةٍ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) .
وَقَالَ: هُمْ يَتَحَلَّقُونَ الْحِلَقَ وَيَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ هَذَا تَفْسِيرُ خَادِمِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يُقَابِلُهُ تَفْسِيرُ مُتَأَخِّرِي هَذَا الزَّمَانِ؟ وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: لَا يَزَالُ الْفَقِيهُ يُصَلِّي قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ: لَا تَلْقَاهُ إلَّا وَذِكْرُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ يُحِلُّ حَلَالًا وَيُحَرِّمُ حَرَامًا.
قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ: رحمه الله وَقَدْ ظَفِرْت بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُهَيْمِنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَارُونَ وَمُوسَى لَمَّا بَعَثَهُمَا إلَى فِرْعَوْنَ {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42] فَسَمَّى تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ ذِكْرًا فَعَلَى هَذَا يَتَحَقَّقُ أَنَّ حِلَقَ الْعِلْمِ وَمَا يَتَحَاوَرُونَ فِيهِ فِي الْعِلْمِ وَيَتَرَاجَعُونَ مِنْ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ أَنَّهَا حِلَقُ الذِّكْرِ، وَهَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] يَعْنِي أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ.
نَقَلَ ذَلِكَ الطُّرْطُوشِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ الذِّكْرِ لَهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالَمِ الْيَوْمَ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَى الْعَوَائِدِ الَّتِي اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا وَلَا لِكَوْنِ سَلَفِنَا مَضَوْا عَلَيْهَا إذْ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِهَا غَفْلَةٌ أَوْ غَلَطٌ أَوْ سَهْوٌ وَلَكِنْ يُنْظَرُ إلَى الْقُرُونِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، فَإِنْ فَعَلَ هُوَ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا يَرَاهُ مَصْلَحَةً فِي وَقْتِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ وَيَعْتَرِفَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُ مُحْدِثٌ وَيُبَيِّنَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ فَعَلَ ذَلِكَ.
قَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رحمه الله يَأْخُذُ هَذِهِ الْأَحْزَابَ وَيَقْرَؤُهَا جَمَاعَةً وَيَذْكُرُهَا جَمَاعَةً بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ دَأْبُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى مَوْتِهِ وَكَانَ رحمه الله يُخْبِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِضَرُورَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْهِمَمَ قَدْ قَلَّتْ وَقَلَّ فَقِيرٌ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ أَوْ الْعَصْرَ ثُمَّ يَقُومُ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَقْرَأُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ الْمَشْهُودَيْنِ إلَّا أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مِنْ مُصَلَّاهُمْ إمَّا لِلنَّوْمِ إنْ كَانَ فِي الصُّبْحِ أَوْ لِلتَّحَدُّثِ فِيمَا لَا يَعْنِي إنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ إنْ سَلِمُوا مِنْ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فَلَمَّا أَنْ تَحَقَّقُوا وُقُوعَ هَذَا الْمَحْذُورِ وَدَعَوْهُ لِهَذَا الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مِنْ ارْتِكَابِ
الْمَحْذُورَاتِ هَكَذَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى السُّنَنِ وَحِفْظِهَا فَيُنَبِّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا وَيُعَلِّمُهُمْ بِالْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا وَيُخْبِرُهُمْ بِالضَّرُورَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِفِعْلِهَا وَلِأَجْلِ الْغَفْلَةِ عَنْ هَذَا التَّنْبِيهِ وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ الِادِّعَاءِ بِهَا بِأَنَّهَا سُنَّةُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ تَحْسِينُ ظَنِّهِمْ بِمَشَايِخِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَ، وَأَنَّهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ لَمْ يَرَ خَطَأَ شَيْخِهِ صَوَابًا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ فَيُحْمَلُ لِأَجْلِ هَذَا مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا فَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رحمه الله يَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ بِذِكْرِهِ لِذَلِكَ وَتَعْلِيلِهِ؛ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا.
وَقَدْ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ الْقُدْوَةِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الْمُحَقِّقِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّمَّاطِ رحمه الله حَكَى لِي ذَلِكَ عَنْهُ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ رحمه الله قَالَ كَانَ عَارِفًا بِالْفِقْهِ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً وَكَانَ الْفُقَرَاءُ عِنْدَهُ فِي مَجَالِسِهِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا الْبَحْثَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟ فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ وَلَمْ يَرْجِعْ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فِيهِ يَأْتُونَ إلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ عَنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُرِيدُونَهَا فَيَأْمُرُهُمْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْفُقَهَاءِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْهَا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُحِلْهُمْ عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ أَعْرَفُ النَّاسِ بِالنَّوَازِلِ الَّتِي كَانَتْ تَنْزِلُ بِهِمْ فَقَالَ: رحمه الله أَخَافُ أَنْ أُفْتِيَهُمْ فَيَقَعَ لَهُمْ الْخَلَلُ بِسَبَبِ أَنِّي إنْ مِتُّ بَقِيَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ مَوْقُوفًا عَلَيَّ لَا يَعْرِفُونَ أَمْرَ دِينِهِمْ إلَّا مِنْ جِهَتِي فَيَقُولُونَ: قَالَ الشَّيْخُ كَذَا وَذَهَبَ الشَّيْخُ إلَى كَذَا، وَكَانَ طَرِيقُ الشَّيْخِ كَذَا.
فَيَظُنُّونَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ خُرُوجُهَا مِنْ قِبَلِ الْمَشَايِخِ فَيُرْسِلُهُمْ إلَى الْفُقَهَاءِ لِسَدِّ هَذِهِ الثُّلْمَةِ وَلِكَيْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا أَصْلُهُ وَعِمَادُهُ وَاَلَّذِي يَقَعُ بِهِ الْحَلُّ وَالرَّبْطُ عِنْدَنَا هُوَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَرْعٌ عَنْ ذَلِكَ فَيَنْتَظِمُ الْحَالُ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ.
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى مُحَافَظَةِ هَذَا السَّيِّدِ رحمه الله عَلَيْهِ عَلَى مَنْصِبِ الشَّرِيعَةِ كَيْفَ تَرَكَ أَنْ يُجِيبَ الْفُقَرَاءَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ؟ لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَ
مَعْرُوفًا وَمَنْسُوبًا إلَى تَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ وَتَسْلِيكِهِمْ وَتَرَقِّيهمْ فِي الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمُنَازَلَاتِ خَافَ أَنْ يُنْسَبَ مَا يُفْتِي بِهِ مِنْ الْفِقْهِ إلَى مَا كَانَ بِصَدَدِهِ مِنْ التَّرْبِيَةِ فَتَرَكَ الْمَنْدُوبَ، وَهُوَ الْفَتْوَى فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ تَحَفُّظًا مِنْهُ رحمه الله أَنْ يُنْسَبَ شَيْءٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ الَّذِي عَنْهُ يُؤْخَذُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَحَفَّظَ مِنْهُ هَذَا السَّيِّدُ رحمه الله هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ الْيَوْمَ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ تَجِدُ أَحَدَهُمْ يَعْمَلُ الْبِدْعَةَ وَيَتَهَاوَنُ بِهَا فَتَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَوْ تُرْشِدُهُ إلَى التَّرْكِ فَيَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ لِكَوْنِهِ رَأَى شَيْخَهُ وَمَنْ يَعْتَقِدُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا أَوْ بِدْعَةً.
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي فُلَانٌ يَعْمَلُهَا؟ فَيَسْتَدِلُّ بِفِعْلِ سَلَفِهِ وَخَلْفِهِ وَشُيُوخِهِ عَلَى جَوَازِ تِلْكَ الْبِدْعَةِ، وَأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فَصَارَ فِعْلُ الْمَشَايِخِ حُجَّةً عَلَى مَا تَقَرَّرَ بِأَيْدِينَا مِنْ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ وَلَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ وَلَا مِمَّنْ شَهِدَ لَهُمْ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مَرْدُودٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ لَوَقَعَ الْخَلَلُ فِي الشَّرِيعَةِ بِسَبَبِهِ فَأَيٌّ مَنْ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا وَفَعَلَهُ وَأَيٌّ مَنْ كَرِهَ شَيْئًا وَتَرَكَهُ يَقَعُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ؟ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْصًا مَعَاذَ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ بِأَيْدِينَا الْيَوْمَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَقَدْ عَصَمَ اللَّهُ هَذِهِ الْمِلَّةَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِنْ التَّبْدِيلِ فَكُلُّ مَنْ أَتَى بِشَيْءٍ مُخَالِفٍ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمُو هَذِهِ الْأُمَّةِ وَسَلَفُهَا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ مَحْجُوجٌ بِفِعْلِهِمْ وَبِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَذْهَبَ شَرِيعَةَ عِيسَى عليه السلام أَعْنِي التَّقْلِيدَ لِأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ دُونَ دَلِيلٍ يَدُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صَارَ أَمْرُهُمْ أَنَّهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مِنْ الْأَحَدِ إلَى الْأَحَدِ يُجَدِّدُ لَهُمْ الْقِسِّيسُ شَرِيعَةً جَدِيدَةً بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ لَهُمْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي وَقْتِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيه نَظَرُهُ وَتَسْدِيدُهُ عَلَى زَعْمِهِ فَتَجِدُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ كَنَائِسِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ لَقَدْ جَدَّدَ الْيَوْمَ شَرِيعَةً مَلِيحَةً، وَقَدْ عَصَمَ اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الْعُضَالِ فَإِنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ مَغْفُولٌ
عَنْهُ وَقَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهُ إلَّا مَنْ كَانَ مُرَاقِبًا لَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ يَزِنُهَا عَلَى أَفْعَالِ السَّلَفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَقْتَدِيَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ إلَّا بِمَا كَانَ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِدَاءِ بِالْمُتَقَدِّمِينَ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِلَّا فَبِالسُّؤَالِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَّبِعِينَ مِنْهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيَتَبَيَّنُ لَهُ. أَمَّا إنْ نَظَرَ إلَى أَفْعَالِهِمْ وَوَزَنَهَا بِغَرَضٍ غَيْرِ هَذَا فَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّشَاغُلِ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَالْبَحْثِ عَنْ مَثَالِبِهِمْ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ لَكِنْ نَذْكُرُ أَوَّلًا مَا بَقِيَ مِنْ الْفَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا النَّاقِلُ رحمه الله فِي إجَازَةِ ذَلِكَ.
فَقَالَ رحمه الله بَعْدَ نَقْلِهِ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي نَقَلَهَا فِي ذَلِكَ: وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ مَا ذُكِرَ مِنْ إنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فَعَلَ فَلَمَّا أَنْ نَقَلَ قَوْلَ مَالِكٍ لِابْنِ وَهْبٍ، وَأَنَّهُ عَابَ مَا ذُكِرَ لَهُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَكَرِهَهُ، وَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ يَصْنَعُ النَّاسُ فَقَالَ رحمه الله حِينَ نَقَلَ هَذَا عَنْهُ:، فَهَذَا الْإِنْكَارُ مِنْهُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلْفُ وَلِمَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ فَهُوَ مَتْرُوكٌ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اسْتِحْبَابِهَا انْتَهَى.
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى هَذِهِ السُّنَّةِ مِنْ هَذَا النَّاقِلِ مَعَ حِذْقِهِ وَحِفْظِهِ كَيْفَ أَتَى بِنَقْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ وَإِعَابَتِهِ؟ وَلَمْ يُرَدَّ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ وَلَا بِنَقْلٍ عَنْ غَيْرِهِمْ بِضِدِّ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَأْتِ إلَّا بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَا مِنْ فِعْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَقَابَلَ مَا نَقَلَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بِقَوْلِهِ: أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ فِعْلَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ وَهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا مِنْ مَذْهَبِهِمْ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ بَلْ نَقَلُوا عَنْ سَلَفِهِمْ وَلَمْ يُقَابِلْهُمْ بِأَنَّ غَيْرَهُمْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُقَلَّدِينَ.
وَنَقْلُ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يَرُدُّهُ النَّقْلُ عَمَّنْ هُوَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْهُمْ وَنَقْلُهُمْ يَرُدُّ كُلَّ مَا تُرْجِمَ عَلَيْهِ وَقَرَّرَهُ وَيُبَيِّنُ أَنَّ فِعْلَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ غَيْرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَتَبَيَّنْ ذَلِكَ وَتَفَهَّمْهُ يَظْهَرْ لَك الصَّوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا. أَمَّا فَضِيلَةُ جَمْعِهِمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ
فَفِيهَا نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] انْتَهَى.
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ هَلْ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَتَى بِهِ مَا يَمَسُّ مُرَادَهُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ إلَّا أَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ وَفِي نَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَهِدَ عَلَيْهِ مَنْ أَدْرَكَ وَمَضَوْا عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ عَنْهُمْ فِي الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ أَنَّهُ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ الِاجْتِمَاعِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ فَأَتَى بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ إلَى الِاتِّبَاعِ وَالْقُرْبِ فَجَعَلَهُ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَا هَذَا عَلَيْك بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَآكَدُ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ اتِّبَاعُ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِالسُّنَّةِ مِنَّا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مَعَ خَيْرِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رحمه الله أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيُبَيِّنُ السَّبَبَ فِي فِعْلِهِ وَالضَّرُورَةَ الدَّاعِيَةَ إلَيْهِ مَخَافَةً مِنْهُ رحمه الله أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْمُتَقَدِّمِينَ مَا لَمْ يَفْعَلُوا وَأَنْ يَخْتَلِطَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ الْمُحْدِثِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ رحمه الله يَذْهَبُ إلَى غَيْرِ مَا كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رحمه الله فِي هَذَا فَكَانَ يَقُولُ إنَّ بَطَالَةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالنَّوْمِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ جَهْرًا إنْ كَانَ الذِّكْرُ جَهْرًا سَالِمًا مِنْ الدَّسَائِسِ الْمَحْذُورَةِ الْمُتَوَقَّعَةِ فِيهِ فَإِنْ دَخَلَهُ شَيْءٌ مِنْ الدَّسَائِسِ فَهُوَ الْخُسْرَانُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخُسْرَانِ وَكَانَ يُبَيِّنُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام فِي أَنَّ «الذِّكْرَ الْخَفِيَّ يَفْضُلُ الْجَلِيَّ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً» .
وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ» وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» وَذَكَرَ فِيهِمْ «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» وَمِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَنَا
وَعُلِمَ أَنَّ التَّاجِرَ إذَا وَجَدَ الرِّبْحَ فِي سِلْعَةٍ سَبْعِينَ دِينَارًا وَأُخْرَى وَاحِدًا أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا فِيهِ رِبْحُ سَبْعِينَ وَلَا يَأْخُذُ السِّلْعَةَ الَّتِي يَحْصُلُ لَهُ فِيهَا الدِّينَارُ الْوَاحِدُ فَإِنْ عَكَسَ التَّاجِرُ ذَلِكَ وَأَخَذَ السِّلْعَةَ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا الدِّينَارُ الْوَاحِدُ وَتَرَكَ السِّلْعَةَ الَّتِي يَأْخُذُ فِيهَا السَّبْعِينَ قُلْنَا عَنْهُ تَاجِرٌ سَفِيهٌ وَالتَّاجِرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْمُؤْمِنُ لِأَنَّهُ يَتَّجِرُ فِيمَا يَبْقَى وَغَيْرُهُ يَتَّجِرُ فِيمَا يَفْنَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَقْدُمُ عَلَى فِعْلٍ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَاحِدٌ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ سَبْعُونَ هَذَا سَفَهٌ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذِهِ التِّجَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّاسَ إنَّمَا تَفَاضَلُوا بِحَسَبِ نِيَّاتِهِمْ وَمُحَاوِلَةِ أَعْمَالِهِمْ وَتَنْمِيَتِهَا فَيَحْتَاجُ عَلَى هَذَا أَنْ يُبَادِرَ إلَى تِلَاوَةِ السِّرِّ وَالذِّكْرِ فِي السِّرِّ إذْ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ بِسَبْعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى سِرًّا فَلَوْ ذَكَرَ اللَّهَ مَثَلًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ بِسَبْعِينَ فَتَكُونُ الثَّلَاثُ تَسْبِيحَاتٍ بِمِائَتَيْ حَسَنَةٍ وَعَشْرِ حَسَنَاتٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْفِقَ رَأْسَهُ فِي نَوْمِهِ مِنْ وَقْتِهِ ذَلِكَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مَرَّاتٍ وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَفِيقَ عَلَى نَفْسِهِ قَلِيلًا يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَذْكُرُ اللَّهَ مَا قَدَرَ لَهُ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِسَبْعِينَ ثُمَّ يَغْلِبُ عَلَيْهِ النَّوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامَ، وَهُوَ مُنْكَسِرُ الْخَاطِرِ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِشَيْءٍ وَيَرَى أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ غَنِمَ وَحَصَّلَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمَشْهُورِ خَيْرًا، وَهُوَ فِي غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ فَيَحْصُلُ لَهُ التَّذَلُّلُ وَالِانْكِسَارُ فَيَكُونُ مَا تَحَصَّلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا فَاتَهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام إخْبَارًا «عَنْ رَبِّهِ عز وجل يَقُولُ اُطْلُبُونِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي» .
هَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ لَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا الْأَفْذَاذُ فَإِنْ زَادَ عَلَى هَذَا بِأَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ فَهُوَ أَعْظَمُ وَأَعْلَى لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ» .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ دُعَاءَ الْأَخِ لِأَخِيهِ فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابٌ هَذَا وَأَخُوهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ الْخَطَأِ
وَلَا مِنْ الزَّلَلِ فَمَا بَالُك بِاسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ رِضًا مِمَّنْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى فِي وَصْفِهِمْ {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ إلَى أَنْ يَقُومَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مُصَلَّاهُ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا مَعْنَاهُ «أَنَّ مَنْ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَيُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى كَعُمْرَةٍ مَعَهُ عليه الصلاة والسلام» وَمَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ أَيَبْقَى عَلَيْهِ ذَنْبٌ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يُسَبِّحَ رَكْعَتَيْ الضُّحَى لَا يَقُولُ إلَّا خَيْرًا غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ» انْتَهَى.
فَاجْتَمَعَ اسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ مَعَ بَرَكَةِ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَعَ رَاحَةِ الْبَدَنِ فِي الْمَشْيِ أَوْ رَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّعَبِ مَعَ التَّحَقُّقِ بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَلْحَقُهُ فِي الذِّكْرِ بِالْجَهْرِ مَعَ تَرْكِ التَّعَبِ وَمَعَ حُصُولِ فَضِيلَةِ تَرْكِ الْكَلَامِ لِمَا نَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ رحمه الله فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لَهُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْكَلَامَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَقْبَلَ عَلَى الذِّكْرِ أُجِرَ عَلَى الذِّكْرِ، وَعَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ وَإِنْ تَرَكَ الْكَلَامَ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ أُجِرَ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله وَهَذَا إذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ نَامَ مِنْ حِينِ صَلَاتِهِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَوْ فِي أَكْثَرِهَا مُتَيَقِّظًا مُقْبِلًا عَلَى التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأُجُورِ بِتَعْظِيمِ النِّيَّةِ وَالْأَعْمَالِ وَمُحَاوَلَةِ ذَلِكَ وَتَنْمِيَتِهِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهَا إلَّا الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ صَلَّى الصُّبْحَ وَقَامَ مِنْ حِينِهِ مِنْ مُصَلَّاهُ حَتَّى لَا تَجِدُ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ سَبِيلًا إلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ جَهْرًا فَقَدْ يَتْعَبُ مِمَّا يَرْفَعُ صَوْتُهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ لَمْ يَصِلْ إلَى الْمِائَتَيْنِ وَالْعَشَرَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي الثَّلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
فَتَطْلُعُ الشَّمْسُ عَلَى هَذَا، وَهُوَ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ إلَى أَجْرِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِأَجْلِ تَضْعِيفِ الْأُجُورِ لِذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهَذَا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ كُلِّ مَا يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ رِيَاءٌ أَوْ سُمْعَةٌ أَوْ حُظْوَةٌ عِنْدَ شَيْخِهِ أَوْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْحَاضِرِينَ أَوْ يُقَالُ عَنْهُ أَوْ يُشَارُ إلَيْهِ أَوْ تُقَبَّلُ يَدُهُ أَوْ يُثْنَى عَلَيْهِ وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ مِنْ الْعَجَبِ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ عَظِيمٍ بِسَبَبِ تَعْمِيرِهِ لِذَلِكَ الْوَقْتِ بِالذِّكْرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالْبَطَالَةُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَجَبِ.
وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ مُجْتَمَعِينَ عَلَى ذَلِكَ صَوْتًا وَاحِدًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الَّذِي هُوَ بَابُ الْجَوَازِ إلَى بَابِ هَلْ يُكْرَهُ أَوْ يَجُوزُ لِأَنَّ الذِّكْرَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ اخْتَلَفَ الشُّيُوخُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهِ هَلْ يُعْمَلُ رَعْيًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ لِكَيْ يَسْلَمُوا مِنْ الْبَطَالَةِ وَالْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي أَوْ لَا يُعْمَلُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى فِعْلِهِ رَعْيًا لِلْمَصْلَحَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى مَنْعِهِ لِأَنَّ تِلْكَ صُورَةٌ لَمْ تَكُنْ لِمَنْ مَضَى وَكَفَى بِهَا وَلَوْ كَانَ فِيهَا التَّنْشِيطُ وَغَيْرُهُ إذْ أَنَّهُ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ مُخَالِفٌ لِلِاقْتِدَاءِ.
أَلَا تَرَى إلَى جَوَابِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه لِعَامِلِهِ حِينَ كَتَبَ لَهُ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ كَثُرَ عِنْدَنَا شُرْبُ الْخَمْرِ وَكَثُرَتْ الْحُدُودُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَفَتَرَى أَنْ أَزِيدَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَحُدَّهُ فَإِنْ شَرِبَ فَحُدَّهُ فَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فَلَا رَدَّهُ اللَّهُ أَوْ كَمَا قَالَ وَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ النَّوْمِ وَالْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي بِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ وَمَجَالِسِ الْعِلْمِ فَلَا رَدَّهُ اللَّهُ
وَلَوْ سُومِحَ فِي هَذَا لَذَهَبَ الدِّينُ مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ لِأَنَّهُ إذَا وَجَدْنَا مَنْ لَمْ يَرْجِعْ بِالسُّنَّةِ أَحْدَثْنَا لَهُ فِي الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهِمَا شَيْئًا لِيَرْجِعَ بِهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَفِي هَذَا ذَهَابُ الدِّينِ
وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْ عُمَرَ حَيْثُ سَدَّ هَذَا الْبَابَ فَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَ لَهُ الشَّرْعُ فَلَا حَاجَةَ بِهِ. ثُمَّ نَرْجِعُ لِمَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ
وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ مِنْ تَقْطِيعِ الْآيَاتِ لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ نَفَسُهُ فِي آيَةٍ فَيَتَنَفَّسُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُتِمَّ الْآيَةَ فَيَجِدُ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ مَعَهُ قَدْ سَبَقُوهُ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إلَى أَنْ يَقْرَأَ مَا فَاتَهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهُمْ حَرْفًا بِحَرْفٍ فَيَحْتَاجُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضَ آيَاتٍ وَيَتْرُكَ أُخَرَ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ أُنْزِلَ وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنْ التَّخْلِيطِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ تَخْتَلِطُ آيَةُ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ وَآيَةُ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ لَا يَقْدِرُ مَنْ يَقْرَأُ مَعَ جَمَاعَةٍ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى غَيْرِ مَا وُصِفَ وَلَوْ احْتَرَزَ مَا عَسَى، وَهَذَا أَيْضًا إذْ سَلِمَ مِنْ الْجَهْرِ بِذَلِكَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ بِهِ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ الْجَهْرُ لَكِنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يَعْقِرُ حَلْقَهُ فَإِذَا كَرِهُوا ذَلِكَ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ الْجَهْرُ فَمَا بَالُك فِيمَا شُرِعَ فِيهِ الْإِسْرَارُ وَالْإِخْفَاءُ وَكَثِيرًا مَا تَجِدُ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَقْعُدُونَ لِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْأَحْزَابِ تَنْعَقِرُ أَصْوَاتُهُمْ لِشِدَّةِ انْزِعَاجِهِمْ فِي جَهْرِهِمْ وَيَخْرُجُونَ بِذَلِكَ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ وَهَذَا أَيْضًا مُشَاهَدٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ بَاشَرَهُمْ وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَسْجِدٍ فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ النَّهْيِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ «قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام حِينَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَوَجَدَهُمْ يَتَنَفَّلُونَ وَيَجْهَرُونَ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ تَبَعٌ لِلصَّلَاةِ مَا لَمْ تَضُرَّ التِّلَاوَةُ بِالصَّلَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لَهَا فَإِذَا أَضَرَّتْ بِهَا مُنِعَتْ وَقَلَّ أَنْ يَخْلُوَ مَسْجِدٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَإِنْ خَلَتْ فَهِيَ مُعَرَّضَةٌ لِلصَّلَاةِ فَإِذَا دَخَلَ الدَّاخِلُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِتَحِيَّتِهِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ لِفَرِيضَةٍ فَإِنْ دَخَلَ لِفَرِيضَةٍ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى فَعَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ فَالدَّاخِلُ إلَى الْمَسْجِدِ يَجِدُ التَّشْوِيشَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى صَلَاتِهِ فَيُمْنَعُ كُلُّ مَا يُشَوِّشُ عَلَى الْمُصَلِّي.
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي
قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ شَيْءٌ يَتَشَوَّشُ مِنْهُ فَفِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِنَصِّ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ أَوْلَادٌ وَعَائِلَةٌ يَشْتَغِلُ خَاطِرُهُ بِحَدِيثِهِمْ وَكَلَامِهِمْ فَفِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا لِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِخَاطِرِهِ وَهَمِّهِ وَتَحْصِيلُ جَمْعِ خَاطِرِهِ وَهَمِّهِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ فَضِيلَةِ التَّنَفُّلِ فِي الْبَيْتِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِذَا جَاءَ الْإِنْسَانُ إلَى الْمَسْجِدِ لِيُحَصِّلَ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً فِي بَيْتِهِ فَيَجِدُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ مَا هُوَ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا فِي بَيْتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» .
وَقَدْ وَرَدَ «لَأَنْ تَلْقَى اللَّهَ عز وجل بِقِرَابِ الْأَرْضِ ذُنُوبًا فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَهُ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَلْقَاهُ بِتَبِعَةٍ مِنْ التَّبِعَاتِ» لِأَنَّك إذَا لَقِيته بِذُنُوبٍ بَيْنَك وَبَيْنَهُ تَلْقَاهُ غَنِيًّا كَرِيمًا مُتَفَضِّلًا مَنَّانًا لَا تَضُرُّهُ السَّيِّئَاتُ وَلَا تَنْفَعُهُ الْحَسَنَاتُ وَلَا يُنْقِصُهُ الْعَطَاءُ غَنِيًّا عَنْ عَذَابِك غَيْرَ مُحْتَاجٍ لِحَسَنَاتِك، وَإِذَا لَقِيته بِشَيْءٍ مِنْ التَّبَعَاتِ فَصَاحِبُ التَّبَعَاتِ فَقِيرٌ مُضْطَرٌّ شَحِيحٌ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ فَزِعٌ مَذْعُورٌ مُشْفِقٌ مِنْ عَدَمِ الْخَلَاصِ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ وَجَدَ حَقًّا لَهُ عَلَى أَبَوَيْهِ أَوْ بَنِيهِ لَعَلَّهُ يَتَخَلَّصُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَإِذَا كَانَ لَهُ قِبَلَ أَحَدٍ حَقٌّ قَلَّ أَنْ يَتْرُكَهُ وَلَوْ كَانَ ذَرَّةً وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يُعْلَمُ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَعْنِي مَنْعَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ وُجُودِ مُصَلٍّ يَقَعُ لَهُ التَّشْوِيشُ بِسَبَبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى أَوْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ مِنْ صَلَاةِ الْجَهْرِ أَنَّهُ إذَا قَامَ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَإِنَّهُ يَخْفِضُ صَوْتَهُ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ فَيَجْهَرُ فِي ذَلِكَ بِأَقَلَّ مَرَاتِبِ الْجَهْرِ، وَهُوَ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه خِيفَةَ أَنْ يُشَوِّشَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسْبُوقِينَ، هَذَا وَهُوَ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ فَمَا بَالُك بِرَفْعِ صَوْتِ مَنْ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ
يُمْنَعَ مِنْهُ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْكَلَامُ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ ذِكْرِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَذِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ تَأَذَّتْ الْمَلَائِكَةُ.
قَالَ عليه الصلاة والسلام «فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ جَهْرًا أَوْ جَمَاعَةً يَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ لِنَصِّ الْعُلَمَاءِ وَفِعْلِهِمْ، وَهُوَ أَخْذُ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ مَالِكًا رحمه الله سُئِلَ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ عِلْمٌ وَرَفْعُ صَوْتٍ فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ عِلْمٌ فِيهِ رَفْعُ صَوْتٍ، وَقَدْ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ كَأَخِي السِّرَارِ فَإِذَا كَانَ مَجْلِسُ عِلْمٍ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّبَاعِ فَلَيْسَ فِيهِ رَفْعُ صَوْتٍ فَإِنْ وُجِدَ رَفْعُ صَوْتٍ مُنِعَ مِنْهُ وَأُخْرِجَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ «مَسْجِدُنَا هَذَا لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ» .
وَهُوَ عَامٌّ وَالضَّرَرُ وَاقِعٌ فَيُمْنَعُ، وَإِذَا كَانَ فِي الذِّكْرِ بِالْجَهْرِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ وَإِنْ سَلِمَ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا فَقَدْ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا الْبَاقُونَ وَالْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فَإِذَا سَلِمْت أَنْتَ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ لِحُسْنِ نِيَّتِك وَقَصْدِك الظَّاهِرِ فَيُحْتَاجُ أَنْ تُرَاعِيَ حَقَّ أَخِيك الْمُؤْمِنِ وَجَلِيسِك «إنَّ اللَّهَ يَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ» فَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الدَّسَائِسِ وَغَيْرِهَا فَيَقَعُ فِي الْمَحْذُورِ وَتَكُونُ أَنْتَ بِنِيَّتِك الصَّالِحَةِ فِي هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي أَصْلَحْته سَبَبًا لِأَخِيك وَجَلِيسِك وَشَرِيكِك فِي ذِكْرِ رَبِّك لِعَدَمِ الْعِلْمِ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَهُ وَحَصَلَتْ لَهُ حَتَّى وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ نَامَ عَلَى الْحَالَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ذَكَرَ اللَّهَ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ أَنَّهُ فِي أَمَانٍ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا وَغَيْرُهُ مُعَرَّضٌ لَهَا، وَقَدْ قِيلَ لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ جَهْرًا وَجَمَاعَةً فَالْجَوَابُ أَنَّ
الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ وَجَاءَ فِعْلُ السَّلَفِ بِأَحَدِهِمَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ.
أَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ يَقُولُ بِصَوْتِهِ الْأَعْلَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» .
وَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْأُمِّ حَيْثُ قَالَ وَاخْتَارَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَنْ يَذْكُرَا اللَّهَ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ الصَّلَاةِ وَيُخْفِيَا الذِّكْرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا يَجِبُ أَنْ يُتَعَلَّمَ مِنْهُ فَيَجْهَرُ حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ تُعُلِّمَ مِنْهُ ثُمَّ يُسِرُّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالدُّعَاءِ لَا تَجْهَرْ تَرْفَعْ وَلَا تُخَافِتْ حَتَّى لَا تُسْمِعَ نَفْسَك وَأَحْسَبُ مَا رَوَى ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ تَهْلِيلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تَكْبِيرِهِ كَمَا رَوَيْنَاهُ إنَّمَا جَهَرَ قَلِيلًا لِيَتَعَلَّمَ النَّاسُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي كَتَبْنَاهَا مَعَ هَذَا وَغَيْرِهَا لَيْسَ يُذْكَرُ فِيهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ تَهْلِيلٌ وَلَا تَكْبِيرٌ، وَقَدْ يُذْكَرُ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِمَا وَصَفْت وَيُذْكَرُ انْصِرَافُهُ بِلَا ذِكْرٍ، وَقَدْ ذَكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها مُكْثَهُ وَلَمْ تَذْكُرْ جَهْرًا وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَمْ يَمْكُثْ إلَّا لِيَذْكُرَ ذِكْرًا غَيْرَ جَهْرٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ وَمَا مِثْلُ ذَا قُلْت مِثْلُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الْمِنْبَرِ يَكُونُ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ عَلَيْهِ وَيُقَهْقِرُ حَتَّى يَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ وَأَكْثَرُ عُمْرِهِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ مِمَّا رَأَى أَحَبَّ أَنْ يُعَلِّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهُ كَيْفَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالرَّفْعُ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَعَةً انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
فَهَذَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ
التَّعْلِيمِ فَإِنْ حَصَلَ التَّعْلِيمُ أَمْسَكَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يُعْهَدُ الْيَوْمَ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ جَهْرًا وَجَمَاعَةً فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ التَّعْلِيمَ بَلْ الثَّوَابَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ رحمه الله فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْمُجَاهِدِينَ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ إلَى الْآنَ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُجَاهِدِينَ إذَا صَلَّوْا الْخَمْسَ فَيُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ يُكَبِّرُوا جَهْرًا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ لِيُرْهِبُوا الْعَدُوَّ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَنْسُوخًا بِالْإِجْمَاعِ قَالَ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ بِهِ وَالْإِجْمَاعُ لَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ انْتَهَى، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله. أَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَيُسْتَحْسَنُ لِيُرْهِبُوا الْعَدُوَّ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَغَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ.
أَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي دَاوُد (عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ ضَجِيجَ النَّاسِ بِالْمَسْجِدِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ فَقَالَ طُوبَى لِهَؤُلَاءِ كَانُوا أَحَبَّ النَّاسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فَهَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ الْجَهْرُ لَيْسَ إلَّا وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْقِرَاءَةُ جَمَاعَةً عَلَى مَا يُعْهَدُ الْيَوْمَ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَعَادَتَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ وَمَا رُوِيَ عَنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى عَادَتِهِمْ وَعَادَتُهُمْ إنَّمَا كَانَتْ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ التَّلْقِين أَوْ الْعَرْضِ فَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَلَقَّنُونَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ يَعْرِضُونَ أَوْ يَدْرُسُونَ كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى شَيْخِهِ أَوْ عَلَى رَفِيقِهِ وَجَلِيسِهِ فَسَمِعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ضَجَّتَهُمْ فَذَكَرَ مَا ذَكَرَ فِي حَقِّهِمْ وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى فَضِيلَةِ مَجْلِسِ الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَجَالِسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَمُدَارَسَتَهُ هُوَ أَصْلُ الْعُلُومِ كُلِّهَا، وَهُوَ مَعْدِنُ الْجَمِيعِ فَإِذَا حُفِظَ فَقَدْ حُفِظَ عَلَى النَّاسِ أَصْلُ دِينِهِمْ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانُوا أَحَبَّ النَّاسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ النَّاقِلُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا رحمه الله عَلَى إبَاحَةِ الْقُرْآنِ جَمَاعَةً وَجَهْرًا أَيْضًا بِأَنْ قَالَ وَفِي إثْبَاتِ الْجَهْرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
أَمَّا الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَأَكْثَرُ
مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ. فَهَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْهُ رحمه الله بَيِّنٌ فِي الْجَهْرِ لَيْسَ إلَّا دُونَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَا يُعْهَدُ الْيَوْمَ مِنْ الْجَمْعِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَيْضًا رَاجِعٌ إلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي رُوِيَ عَنْهُمْ فِيهَا الْجَهْرُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرْوَ عَنْهُمْ ذَلِكَ مُطْلَقًا بَلْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَكَانُوا يَجْهَرُونَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ قَدْ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَتَوَاعَدُونَ لِضَرُورَاتِهِمْ لِقِيَامِ الْقُرَّاءِ بِاللَّيْلِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ فَيَقْرَأُ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِكَيْ يَسْمَعُوا كَلَامَ رَبِّهِمْ وَكَذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِمْ بِالْحَجِّ وَتَلْبِيَتِهِمْ طُولَ إحْرَامِهِمْ وَذِكْرِهِمْ بَعْدَ الْإِحْلَالِ مِنْ إحْرَامِهِمْ بِمِنًى كَانُوا يَسْمَعُونَ تَكْبِيرَ أَهْلِ مِنًى وَهُمْ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ اتِّصَالِ التَّكْبِيرِ وَكَثْرَةِ النَّاسِ وَكَذَلِكَ فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ وَفِي تَعَلُّمِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ وَفِي إقْرَائِهِمْ وَفِي مُذَاكَرَتِهِمْ وَبَحْثِهِمْ وَكَذَلِكَ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِمَامِ تَعْلِيمَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُشْبِهُ مَا ذُكِرَ مِنْ جَهْرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ مَعْلُومَةٍ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِنْ الْجَهْرِ عَلَى مَا وَرَدَ عَنْهُمْ، وَعَلَى مَا تَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ عَنْهُمْ، وَعَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْك مِمَّا يُشْبِهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْهَا إنْ رُجِعَ إلَى نَقْلِ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ يَتَأَوَّلُ الْأَحَادِيثَ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وَيَتْرُكُ تَأْوِيلَ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ كُلِّهِ وَزُبْدَتِهِ وَفَائِدَتِهِ هُوَ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْفَضَائِلِ وَالْخَيْرَاتِ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ فَالْمُرَادُ بِهَا هَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي جَلَسَهُ هَذَا الْعَالِمُ لِتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَذْكَارِ دَاخِلٌ مُنْطَوٍ تَحْتَ فَضِيلَةِ هَذَا الْمَجْلِسِ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْتَرِمَهُ وَيُعَظِّمَهُ إذْ أَنَّهُ أَعْظَمُ شَعَائِرِ الدِّينِ وَأَزْكَاهَا وَأَرْجَحُهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وَقَالَ تَعَالَى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] وَمِنْ جُمْلَةِ التَّعْظِيمِ لِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْعُظْمَى الْإِجْلَالُ لَهَا بِالْفِعْلِ فَإِذَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ
بِالْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ فَيَكُونُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ أَوْ النَّدْبِ لِيَتَّصِفَ بِالْعَمَلِ كَمَا اتَّصَفَ بِالْقَوْلِ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي قَوْله تَعَالَى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]
وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُؤَذِّنِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنَّ يُؤَذِّنَ عَلَى طَهَارَةٍ لِيَكُونَ عَقِبَ أَذَانِهِ يَرْكَعُ لِأَنَّهُ مُنَادٍ إلَى الصَّلَاةِ فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ لِمَا نَادَى إلَيْهِ لِيَنْتَفِعَ النَّاسُ بِأَذَانِهِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا خَرَجَ مِنْ عَامِلٍ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عَامِلٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ فَيُسْتَحَبُّ لِأَجْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ حَتَّى يَنْتَفِعَ النَّاسُ بِأَمْرِهِ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا ذَكَرَ الْمُحَرَّمَ أَوْ الْمَكْرُوهَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ إلَى التَّرْكِ فَيَكُونُ سَالِمًا مِنْ ارْتِكَابِ الْمَحْذُورَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ بِحَسَبِ جَهْدِهِ وَطَاقَتِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَهَذَا آكَدُ مِنْ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ رضي الله عنهما.
فَمَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ فَلَا يُقْرَبُ لِنَصِّ هَذَا الْحَدِيثِ وَالنَّهْيُ إذَا وَرَدَ يَتَنَاوَلُ الْمُحَرَّمَ وَالْمَكْرُوهَ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ إذَا وَرَدَ يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ هَذَا الْعَالِمُ عَلَى التَّرْكِ بِالْكُلِّيَّةِ وَغَلَبَتْهُ نَفْسُهُ فِي ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْبِدَعِ فَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَيَكُونُ مُسْتَتِرًا وَيَتُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهُوَ أَقَلُّ الْمَرَاتِبِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَعْنِي التَّسَتُّرَ بِالْبِدَعِ وَالْمُخَالَفَاتِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بُلِيَ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيْءٍ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَةَ وَجْهِهِ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ» ) أَوْ كَمَا قَالَ وَالْحُدُودُ رَاجِعَةٌ إلَى حَالِ مَا يَقَعُ مِنْ الشَّخْصِ فَرُبَّ فِعْلٍ حَدُّهُ الْجَلْدُ وَآخَرَ حَدُّهُ الْهِجْرَانُ وَآخَرَ حَدُّهُ الْبُغْضُ وَآخَرَ حَدُّهُ الزَّجْرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
لَكِنْ الْعَالِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسَتُّرُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ شَرَّهُ وَمَعْصِيَتَهُ وَمُخَالَفَتَهُ وَبِدْعَتَهُ إنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ خَيْرَهُ كَذَلِكَ مُتَعَدٍّ لَكِنْ التَّعَدِّي بِهَذَا الْفَنِّ أَكْثَرُ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النُّفُوسِ الِاقْتِدَاءُ فِي شَهَوَاتِهَا وَمَلْذُوذَاتِهَا وَعَادَاتِهَا أَكْثَرُ مِمَّا تَقْتَدِي بِهِ فِي التَّعَبُّدِ الَّذِي لَيْسَ لَهَا فِيهِ حَظٌّ فَإِذَا رَأَتْ ذَلِكَ مِنْ عَالِمٍ وَإِنْ أَيْقَنَتْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ بِدْعَةٌ تُعْذِرُ نَفْسَهَا فِي ارْتِكَابِهَا لِذَلِكَ إنْ سَلِمَتْ مِنْ سُمِّ الْجَهْلِ تَقُولُ لَعَلَّ عِنْدَ هَذَا الْعَالِمِ الْعِلْمَ بِجَوَازِ ذَلِكَ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَوْ رَخَّصَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ لَهُمْ، وَهُوَ كَثِيرٌ مُشَاهَدٌ فَإِذَا رَأَتْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ يَرْتَكِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ الِاسْتِصْغَارُ وَالتَّهَاوُنُ بِمَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ السُّمُّ الْقَاتِلُ.
وَقَدْ قَالُوا ارْتِكَابُ الْكَبَائِرِ أَهْوَنُ مِنْ الِاسْتِصْغَارِ بِالصَّغَائِرِ لِأَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ يُرْجَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اللَّهِ وَيَتُوبَ وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالصَّغَائِرِ قَلَّ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَقَدْ قَالُوا لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَهَذَا بَيِّنٌ لِأَنَّ الصَّغَائِرَ إذَا اجْتَمَعَتْ صَارَتْ كَبَائِرَ فَيَكُونُ هَذَا الْعَالِمُ الَّذِي يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْبِدَعِ سَبَبًا لِعَطَبِ مَنْ يَرَاهُ مِمَّنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ رُتْبَةً فِي الدِّينِ لِاقْتِدَائِهِ بِهِ وَاسْتِسْهَالِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ سَبَكَ الْفَقِيهُ أَبُو الْمَنْصُورِ فَتْحُ بْنُ عَلِيٍّ الدِّمْيَاطِيُّ هَذَا الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ مِنْهَا
أَيُّهَا الْعَالِمُ إيَّاكَ الزَّلَلْ
…
وَاحْذَرْ الْهَفْوَةَ فَالْخَطْبُ جَلَلْ
هَفْوَةُ الْعَالِمِ مُسْتَعْظَمَةٌ
…
إنْ هَفَا أَصْبَحَ فِي الْخَلْقِ مَثَلْ
وَعَلَى زَلَّتِهِ عُمْدَتُهُمْ
…
فِيهَا يَحْتَجُّ مَنْ أَخْطَأَ وَزَلْ
لَا تَقُلْ يُسْتَرُ عَلَى زَلَّتِي
…
بَلْ بِهَا يَحْصُلُ فِي الْعِلْمِ الْخَلَلْ
إنْ تَكُنْ عِنْدَك مُسْتَحْقَرَةً
…
فَهِيَ عِنْدَ اللَّهِ وَالنَّاسِ جَبَلْ
لَيْسَ مَنْ يَتْبَعُهُ الْعَالِمُ فِي
…
كُلِّ مَا دَقَّ مِنْ الْأَمْرِ وَجَلْ