الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خرجت إلى أرض بني عامر لألقى المجنون فدللت عليه وعلى محلته فلقيت أباه شيخاً كبيراً وحوله أخوة المجنون مع أبيهم رجالاً فسألتهم عنه فبكوه وقال الشيخ أما والله لهو كان آثر عندي من هؤلاء جميعاً وإنه عشق امرأة من قومه والله ما كانت تطمع في مثله، فلما فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجه إياها بعد ما ظهر من أمرهما فزوجها غيره وكان أول ما كلف بها يجلس إليها في نفر من قومها فيتحدثان كما يتحدث الفتيان إلى الفتيات وكان أجملهم وأظرفهم وأرواهم لأشعار العرب فيفيضون في الحديث فيكون أحسنهم فيه إفاضة فتعرض عنه وتقبل على غيره وقد وقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه فظنت به ما هو عليه من حبها فأقبلت عليه يوماً وقد خلت فقالت:
كلانا مظهر للناس بغضاً
…
وكلٌ عند صاحبه مكين
وأسرار الملاحظ ليس تخفى
…
إذا نطقت بما تخفي العيون
غنّت في الأول عريب خفيف رمل وقيل أن هذا الغناء لشارية والبيت الأخير ليس من شعره.
قال: فخرَّ مغشياً عليه ثم أفاق فاقداً عقله، فكان لا يلبس ثوباً إلا خرقه ولا يمشي إلا عارياً ويلعب بالتراب ويجمع العظام حوله فإذا ذكرت ليلى أنشأ يحدث عنها ولا يخطيء حرفاً، وترك الصلاة، فإذا قيل له ما لك لا تصلي لم يرد حرفاً، وكنا نحبسه ونقيده فيعض لسانه وشفتيه حتى خشينا عليه فخلينا سبيله، فهو يهيم.
قال الهيثم: فولى مروان بن الحكم عمر بن عبد الرحمن بن عوف صدقات بني كعب وقشير وجعدة والحريش وحبيب وعبد الله فنظر إلى المجنون قبل أن يستحكم جنونه فكلمه وأنشده فأعجب به، فسأله أن يخرج معه فأجابه إلى ذلك، فلما أراد الرواح جاءه قرمة فأخبروه خبره ليلى وإن أهلها إستعدوا السلطان عليه فأهدر دمه إن أتاهم فأضرب عما وعده له بقلائص فلما علم بذلك وأتى بالقلائص ردّها عليه وأنصرف.
وذكر أبو نصر أحمد بن حاتم عن جماعة من الرواة أن المجنون هو الذي سأل عمر بن عبد الرحمن أن يخرج قال له: أكون معك في هذا الجمع الذي تجمعه غداً فأربي في أصحابك وأتجمل في عشيرتك وأفخر بقربك، فجاءه رهط من رهط ليلى وأخبروه بقصته، أنه لا يريد التجمل به وإنما يريد أن يدخل عليهم بيوتهم ويفضحهم في امرأة منهم يهواها وأنهم قد شكوه إلى السلطان فأهدر دمه إن دخل عليهم فأعرض عما أجابه إليه معه وأمر له بقلائص فردّها وقال:
وددت قلائص القرشي لما
…
بدا لي النقض منه للعهود
وراحوا مقصرين وخلفوني
…
إلى حزن أعالجه شديد
قال: ورجع آيساً فعاد إلى حاله الأولى.
قال: فلم تزل تلك حاله إلا أنه غير مستوحش إنما يكون في جنبات الحي منفرداً عارياً لا يلبس ثوباً إلا خرقه ويهذي ويخطط في الأرض ويلعب بالتراب والحجارة ولا يجيب أحداً إن سأله عن شيء، فإذا أحبوا أن يتكلم أو يثوب عقله ذكروا له ليلى فيقول: بأبي هي وأمي، ثم يرجع إليه عقله فيخاطبونه ويجيبهم ويأتيه أحداث الحي فيحدثونه عنها وينشدونه فيجيبهم جواباً صحيحاً وينشدهم أشعاراً.
ومن شعره:
أيا ويح من أمسى تخلس عقله
…
فأصبح مذهوباً به كل مذهب
خلياً من الخلان إلا معذراً
…
يضاحكني من كان يهوى تجني
الغناء لحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى من جامع أغانيه.
ومن شعره أيضاً:
إذا ذكرت ليلى عُقلت وراجعت
…
روائع عقلي من هوىً متشعب
وقالوا صحيح ما به طيف جنة
…
ولا الهم إلا بإفتراء التكذيب
وشاهد وجدي دمع عيني وحبها
…
برى اللحم أنحاء عظمي ومنكبي
وقال:
تجنبت ليلى أن يلح بك الهوى
…
وهيهات كان الحب قبل التجنب
ألا إنما غادرت يا أمَ مالك
…
صدىِّ أينما تذهب به الريح يذهب
الغناء لإسحق خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وفيه لإبن جامع هزج من رواية الهشامي وهي قصيدة طويلة.
ومما يغني فيه منها قوله:
فلم أرَ ليلى بعد موقف ساعة
…
يخيف مني ترى جمار المحصب
ويبدي الحصى منها إذا قذفت به من البرد أطراف البنان المخضب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر
…
مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
ألا إنما غادرت يا أمَ مالك
…
صدى إينما تذهب به الريح يذهب
فيه ثقيل أول مطلق بإستهلال ذكر إبن المكي أنه لأبيه يحيى، وذكر الهشامي أنه للواثق، وذكر حبش أنه لإبن محرز وهو في جامع أغاني سليمان منسوب إليه.
أنشدني الأخفش عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب للمجنون:
فو الله ثم الله إني لدائب
…
أفكر ما ذنبي إليها وأعجب
ووالله ما أدري علامَ قتلتني
…
وأي أموري فيك يا ليل اركب
أأقطع حبل الوصل فالموت دونه
…
أم أشرب رنقاً منكم ليس يشرب
أم أهرب حتى لا أرى لي مجاوراً
…
أم أصنع ماذا أم أبوح فأغلب
فأيهما يا ليلَ ما ترتضيه
…
فإني لمظلوم وإني لمتعب
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر ن شبة قال: ذكر هشام بن الكلبي ووافقه في روايته أبو نصر أحمد بن حاتم وأخبرنا الحسن بن علي قال: حدثني إبن أبي سعد قال: حدثني علي بن الصباح عن هشام بن الكلبي عن أبيه أن أبا المجنون وأمه ورجال عشيرته إجتمعوا إلى أبي ليلى فوعظوه وناشدوه الله والرحم وقالوا له أن هذا الرجل لهالك وقبل ذلك ففي اقبح من الهلاك بذهاب عقله وإنك فاجع به أباه وأهله فنشدناك الله والرحم أن تفعل ذلك، فو الله ما هي أشرف منه ولا لك مثل مال أبيه وقد حكمك في المهر وإن شئت أن يخلع نفسه إليك من ماله فعل، فأبى وحلف بالله وبطلان أمها أنه لا يزوجه إياها أبداً وقال: أفضح نفسي وعشيرتي وآتي ما لم يأتهِ أحد من العرب وأسم إبنتي بميسم فضيحة، فأنصرفوا عنه.
وخالفهم لوقته فزوجّها رجلاً من قومها وأدخلها إليه فما أمسى إلا وقد بنى بها، وبلغه الخبر فأيس منها حينئذ وزال عقله جملة فقال الحي لأبيه: أحجج به إلى مكة وأدعِ الله عز وجل له ومره أن يتعلق بأستار الكعبة فيسأل الله أن يعافيه مما به ويبغضها إليه فلعل الله يخلصه من هذا البلاء، فحج به ابوه، فلما صاروا بمنى سمع صائحاً في الليل يصيح: يا ليلى، فصرخ صرخة ظنوا أن نفسه قد تلفت وسقط مغشياً عليه، فلم يزل كذلك حتى أصبح ثم أفاق حائل اللون ذاهلاً فأنشأ يقول:
عرضت على قلبي العزاء فقال لي
…
من الآن فأيأس لا أعزك من صبر
إذا بان من تهوى وأصبح نائياً
…
فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى
…
فهيج أطراب الفؤاد وما يدري
دعا بإسم ليلى غيرها فكأنما
…
أطار بليلى طائراً كان في صدري
دعا بإسم ليلى ضلل الله سعيه
…
وليلى بأرضٍ عنه نازحه قفر
وقال:
أيا حرجات الحي حين تحملوا
…
بذي سلم لا جادكنّ ربيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى
…
بلين بلا لم تبلهن ربوع
ندمت على ما كان مني ندامة
…
كما يندم المغبون حين يبيع
فقدتك من نفس شعاع فإنني
…
نهيتك عن هذا وأنت جميع
فقرّبتِ لي غير القريب فأشرقتإليك ثنايا ما لهن طلوع وذكر خالد بن جميل وخالد بن كلثوم في أخبارهما التي صنعاها أن ليلى وعدته بل أن يختلط أن تستزيره ليلة وجدت فرصة لذلك، فمكث مدة يراسلها في الوفاء وهي تعده وتسوّفه، فأتى أهلها ذات يوم والحي خلوف فجلس إلى نسوة من أهلها حجرة منها بحيث تسمع كلامه فحادثهن طويلاً ثم قال: ألا أنشدكنّ أبياتاً أحدثتها في هذه الأيام، قلن بلى، فأنشدهنّ:
يا للرجال لهمَّ بات يعروني
…
مستطرف وقديم كاد يبليني
من عاذري من غريم غير ذي عسرٍ
…
يأتي فيمطلني ديني ويلويني
لا يبعد النقد من حقي فينكره
…
ولا يحدثني إن سوف يقضيني
وما كشكري شكر لو يوافقني
…
ولا مناي سواه لو يوافيني
أطعته وعصيت الناس كلهم
…
في أمره وهواه وهو يعصيني
قال: فقلن له: ما أنصفك هذا الغريم الذي ذكرته، وجعلن يتضاحكن وهو يبكي، فأستحيت ليلى منهنّ ورقّت له حتى بكت وقامت فدخلت بيتها وأنصرف هو.
في الثلاثة الأبيات الأول من هذه الأبيات هزج طنبوري للمسدود، قالا في حبرهما:
هذا وكان للمجنون أبنا عم يأتيانه فيحدثانه ويسليانه ويؤانسانه فوقف عليهما يوماً وهما جالسان فقالا: يا أبا المهدي ألا تجلس، قال لا بل أمضي إلى منزل ليلى فأترسمه وأرى آثارها فيه فاشفي بعض ما في صدري، فقالا له: نحن معك، فقال: إذا فعلتما أكرمتما وأحسنتما، فقاما معه حتى أتى دار ليلى فوقف بها طويلاً يتتبع آثارها ويبكي، ويقف في كل موضع منها ويبكي ثم قال:
يا صاحبيّ ألما بي بمنزلة
…
قد مر حين عليها أيما حين
لا خير في الحب ليست فيه قارعة
…
كأن صاحبها في نزع موتون
إني أرى رجعات الحب تقتلني
…
وكان في بدئها ما كان يكفيني
إن قال هذا له مهلاً فإن لهم
…
قال الهوى غير هذا القول يغنيني
ألقى من الحي ثارات فتقتني
…
وللرجاء بشاشات فتحييني
الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل من جامع غنائه: وقال هشام بن الكلبي عن غبن مسكين أن جماعة من بني عامر حدثوه قالوا: كان رجل من بني عامر بن عقيل يقال له معاذ وكان يدعى المجنون وكان صاحب غزل ومجالسة للنساء، فخرج على ناقة له يسير فمرّ بإمرأة من بني عقيل يقال لها كريمة وكانت جميلة عاقلة معها نسوة فعرفنه ودعونه إلى الجلوس والحديث وعليه حلتان فاخرتان وطيلسان وقلنسوة، فنزل يحدثهن وينشدهن وهنّ أعجب شيء به فيما يري، فلما أعجبه ذلك منهن عقر لهن ناقته وقمن إليها فجعلن يشوين ويأكلن إلى أن أمسى فأقبل غلام شاب حسن الوجه من حيهن فجلس إليهن فأقبلن عليه بوجوههن يقلن له: كيف ظللت يا منازل اليوم، فلما رأى ذلك من فعلهن غضب فقام وتركهن وهو يقول:
أأعقر من جرّا كريمة ناقتي
…
ووصلي مفروش لوصل منازل
إذا جاء قعقعن الحلي ولم أكن
…
إذا جئت أرض صوت تلك الخلاخل
قال: فقال له الفتى: هلمّ نتصارع أو نتناضل، فقال له: إن شئت ذلك فقم إلى حيث لا تراهن ولا يرينك ثم ما شئت فأفعل. وقال:
إذا ما إنتضلنا في الخلاء نضلة
…
وإن يرم رشقاً عندها فهو ناضل
وقال إبن الكلبي في هذا الخبر: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقته ومضى متعرضاً لهن فألقى ليلى جالسة بفناء بيتها وكانت معهن يومئذ جالسة ود علق بقلبها وهويته وعندها جويرات يحدثنها فوقف يهن وسلم فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره قال: أي لعمري، فنزل وفعل فعلته بالأمس. فأرادت أن تعلم لها عنده مثل ما له عندها فجعلت تعرض ن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره وقد كان علق حبها بقلبه وشغفه وأستملحها. فبينا هي تحدثه إ أقبل فتى من الحي فدعته فسارّته سِراراً طويلاً ثم قالت له إنصرف.
ونظرت إلى وجه المجنون فرأته قد تغير وأنتقع وشق عليه ما فعلت، فأنشأت تقول:
كلانا مظهرٌ للناس بغضاً
…
وكلٌ عند صاحبه مكين
تبلغا العيون مقالتينا
…
وفي القلبين ثم هوى دفين
فلما سمع هذين البيتين شهق شهقة عظيمة فأغمي عليه، فمكث ساعة، ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق. وتمكن حب واحد منهما في قلب صاحبه وبلغ منه كل مبلغ.
حدثني عمي عبد الله بن أبي سعد عن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل القرشي قال: حدثنا أبو العالية عن أبي تمامة الجعدي قال: لا يُعرف فينا مجنون إلا قيس إبن الملوح، قال: وحدثني بعض العشيرة قال: قلت لقيس بن الملوح قبل أن يخالط: ما أعجب شيء أصابك في وجدك ليلى قال: طرقتنا ذات ليلة أضياف ولم يكن عندنا لهم أدم فبعثني أبي إلى منزل أبي ليلى وقال لي أطلب منه أدماً، فأتيته فوقفت على خبائه فصحت به فقال: ما تشاء، فقلت: طرقنا ضيفان ولا أدم عندنا فأرسلني أبي نطلب منك أدماً، فقال: با ليلى، أخرجي إليه ذلك النحى فأملئي له إناءه من السمن، فأخرجته ومعي قعب فجعلت تصب السمن فيه ونتحدث فألهي بالحديث وهي تصب السمن وقد إمتلأ القصب ولا نعلم جميعاً وهو يسيل حتى إستنقعت أرجلنا في السمن.
قال: فأتيتهم ليلة ثانية أطلب ناراً وأنا متلفع ببردٍ لي، فأخرجت لي ناراً في عطية فأعطتنيها ووقفنا نتحدث، فلما إحترقت العطبة خرقت من بردي خرقة وجعلت النار فيها، فلما إحترقت خرقت أخرى وأذكيت بها النار حتى لم يبقَ عليّ من البرد إلا ما وارى عورتي وما أعقل ما أصنع وأنشدني:
أمستقبلي نفح الصبا ثم شائقي
…
ببرد ثنايا أم حسان شائق
كان على أنيابها الخمر شجّها
…
بماء الندى من آخر الليل عائق
وما ذقته إلا بعيني تفرساً
…
كما شيم في أعلى السحابة بارق
ومن الناس من يروي هذا الخبر لنصيب ولكن هكذا روي في الخبر.
أخبرنا محمد بن خلف وكيع عن عبد الملك بن محمد القرشي عن عبد الصمد إبن المعذل قال: سمعت الأصمعي يقول: وتذاكرنا مجنون بني عامر قال: هو قيس بن معاذ العقلي، قم قال: لم يكن مجنوناً إنما كانت به لوثة، وهو القائل:
أخذت محاسن كل ما
…
ضنّت محاسنه بحسنه
كاد الغزال يكونها
…
لولا الشوى ونشوز قرنه
قال، وهو القائل:
ولم أرَ ليلى بعد موقف ساعة
…
بخيف مني ترمي جمار المحصب
ويبدي الحصا منها إذا قذفت به
…
من البرد أطراف البنان المخضب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر
…
مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
ألا إنما غادرت يا أم مالك
…
صدى أينما تذهب به الريح يذهب
أخبرني محمد بن الحسن الكندي خطيب مسجد القادسية قال: حدثنا الرياشي قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: سمعت معاذاً وبشر بن الفضل جميعاً ينشدان هذين البيتين وينسبا أنهما لمجنون بني عامر:
طمعت بليلى أن تريع وإنما
…
تقطع اعناق الرجال المطامع
وداينت ليلى في خلاء ولم يكن
…
شهود على ليلى عدول مقانع
وحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا أبو خليفة عن إبن سلام قال: قضى عبد الله إبن الحسن بن الحصين بن الحر العنبري على رجل من قومه قضية أوجبها الحكم عليه، وظن العنبري أنه تحمل عليه وأنصرف مغضباً، ثم لقيه في طريق فأخذ بلجام بغلته وكان شديداً أبداً، ثم قال له: أيه يا أبا عبد الله:
طمعت بليلى أن تريع وإنما
…
نقطع أعناق الرجال المطامع
فقال عبد الله:
وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن
…
شهود عدول عند ليلى مقانع
خلِ عن البغلة قال الصولي في خبره هذا والبيتان للبعيث. هكذا قال، لا أدري أمن قوله هوام حكاية عن أبي خليفة.
أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري عن عبد الله بن خلف الدلاّل قال: حدثنا زكريا بن موسى عن شعيب بن السكن عن يونس النحوي قال: لما إختلط عقل قيس بن الملوح وترك الطعام والشراب مضت أمه إلى ليلى فقالت لها إن قيساً قد ذهب حبكِ بعقله وترك الطعام والشرب، فلو جئته وقتاً لرجوتِ أن يثوب إليه عقله، فقالت ليلى: أما نهاراً فلا آمن قومي على نفسي، ولكن ليلاً، فأتته ليلاً فقالت له: يا قيس، إن أمك تزعم أنك جننت من أجلي وتركت المطعم والمشرب، فأتقِ الله وأبقِ على نفسك. فبكى وأنشأ يقول:
قالت جننت على أيشٍ فقلت لها
…
الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه
…
وإنما يصرع المجنون في الحين
قال: بكت معه، وتحدثا حتى كاد الصبح أن يسفر، ثم ودعته وأنصرفت فكان آخر عهده بها.
أخبرنا إبن الرزبان قال: قال القحدمي لما قال المجنون:
قضاها لغيري وأبتلاني بحبها
…
فهلا بشيء غير ليلى إبتلاني
سلب عقله.
الغناء لحكم ثقيل أول وقيل أنه لإبن الهزير وفيه لمتيم خفيف ثقيل أول من جامع أغانيه. وحدثني جحظة بهذا الخبر عن ميمون بن هرون أنه لما بلغه أنه قال هذا البيت بُرص.
أخبرني الحسن بن علي القرشي عن عائشة قال: إنما سمِّي المجنون بقوله:
ما بال قلبك يا مجنون قد خلعا
…
في حب من لا ترى في نيله طمعا
الحب والود نيطا بالفؤاد لهافأصبحا في فؤادي ثابتين معا حدثنا وكيع عن إبن يونس قال: قال الأصمعي: لم يكن المجنون مجنوناً إنما جنته العشق، وأنشد له:
يسمونني المجنون حين يرونني
…
نعم بي من ليلى الغداة جنون
لياليَّ يزها بي شبابٌ وشدّة
…
وغذ بي من خفض المعيشة لين
أخبرني محمد بن المرزبان عن إسحق بن محمد بن أبان قال: حدثني عن بن سهل عن المدائني أنه ذكر عنده مجنون بني عامر فقال لم يكن مجنوناً وإنما قيل له المجنون بقوله:
وإني لمجنون بليلى موكلٌ
…
ولست عزوفاً من هواها ولا جلدا
إذا ذكرت ليلى بكيت صبابةً
…
لتذكارها حتى يبل البكا الخدّا
أخبرني عمر بن جميل العتكي قال، حدثنا إبن شبة قال: حدثنا عون بن عبد الله العامري قال: ما كان والله المجنون الذي تعزونه إلينا مجنوناً إنما كانت به لوثه وسهو أحدثهما به حب ليلى، وأنشد له:
وبي من هوى ليلى الذي لو أبثه
…
جماعة أعدائي بكت لي عيونها
أرى النفس ن ليلى أن تطيعني
…
فقد جنّ من وجدي بليلى جنونها
أخبرني إبن المزبان قال: قال العتبي إنما سمي المجنون بقوله:
يقول أناسٌ علّ مجنون عامر
…
يروم سواً قلت أني بيا
وقد لامني في حب ليلى قرابتي
…
أخي وأين عمي وإبن خالي وخاليا
يقولون ليلى أهل بيت عداوة
…
بنفسي ليلى من عدوٍ وماليا
ولو كان في ليلى شذاً من خصومة
…
لألويت أعناق الخصوم الملاويا
أخبرني هاشم الخزاعي عن عيسى بن إسماعيل قال: قال بن سلام: لو حلفت أن مجنون بني عامر لم يكن مجنوناً لصدقت ولكن قوله لما زُوّجت ليلى وأيقن اليأس منها، ألم تسمع إلى قوله:
يا ويح من أمسى يخلس عقله
…
فأصبح هذهوباً به كل مذهب
خليعاً من الخلان إلا مجاملاً
…
يساعدني من كان يهوى تجنبي
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت
…
عوازب قلبي من هوى متشعب
قال: وأنشدنا له أيضاً:
وشغلت عن فهم الحديث سوى
…
ما كان فيك فإنه شغلي
وأديم لحظ محدثي ليرى
…
أن قد فهمت وعندكم عقلي
أخبرني إبن المزربان عن محمد بن الحسن بن دينار الأحول عن علي بن المغيرة الأثرم عن أبي عبيدة أن صاحبة مجنون بني عامر التي كلف بها ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن الحريش وكنيتها أم مالك. وقد ذكر هذه الكنية المجنون في شعره فقال:
تكاد بلاد الله يا أم مالكٍ
…
بما رحبت يوماً عليّ تضيق
وقال أيضاً:
فإن الذي أملت من أم مالكٍ
…
أشاب قذالي وأستهام فؤاديا
خليليّ إن دارت على أم مالك
…
صروف الليالي فأبغيا لي ناعيا
وقال أبو عمرو الشيباني: علق المجنون ليلى بنت مهدي ن سعد بمن بني الحريش وكنيتها أم مالك، فشهر بها وعُرف خبره فحٌجبت عنه، فشق ذلك عليه، فخطبها إلى أبيها فردّه وأبي أن يزوجه إياها، فأشتد به الأمر حتى جن وقيل فيه مجنون بني عامر، فكان على حاله يجلس ي نادي ومه فلا يفهم ما يحدّث به ولا يعقله أحد إلا إذا ذكرت ليلى.
وأنشد له ابو عمرو:
الا ما لليلى تُرى مشجعي
…
بليل ولا يجري بذلك طائر
بلى أن عجم الطير تجري إذا جرت
…
بليلى ولكن ليس للطير زاجر
أزالت عن العهد الذي كان بيننا
…
بذي الأئل أم قد غيرتها المقادر
فوالله ما في القرب لي منك راحة
…
ولا البعد يسليني ولا أنا صابر
ووالله ما أدري بأية حلة
…
وأي مرامٍ أو خطار أخاطر
وتالله أن الدهر في ذات بيننا
…
علي لها في كل حال لجائر
فلو كنت إذا أزمعت هجري تركتني
…
جميع القوى والعقل مني وافر
ولكن أيامي بحقل عنيزة
…
وبالرضم أيامٌ جناها التجاور
وقد أصبح الود الذي كان بيننا
…
أماني نفس والمؤمل حائر
لعمري لقد رنقت يا أم مالك
…
حياتي وساقني إليك المقادر
قال أبو عمرو:
أخبرني بعض الشاميين قال: دخلت أرض بني عامر فسألت عن المجنون الذي قتله احب فخبروني عنه أنه كان عاشقاً لجارية منهم يقال لها ليلى ربي معها ثم حجبت عنه فأشتد ذلك عليه وذهب عقله فأتاه أخوان من إخوانه يلومونه على ما صنع بنفسه فقال:
يا صاحبيّ ألما بي بمنزلةٍ
…
قد مرّ حين عليها أيما حين
في كل منزلة ديوان معرفة
…
لم يبق باقية ذكر الدواوين
إني أرى رجعات الحب تقتلني
…
وكان في بدئها ما كان يكفيني
الغناء لإبن جامع خفيف ثقيل.
أخبرني هاشم الخزاعي عن الرياشي قال: ذكر العتبي عن أبيه قال: كان المجنون في بدء أمره يرى ليلى ويألفها ويأنس بها ثم غُيبت عن ناظره فكان أهله يعزونه عنها ويقولون: نزوجك أنفس جارية في عشيرتك فيأبى إلا ليلى ويهذي بها ويذكرها، وكان كلما هاج عليه الحزن والهم فلا يملك مما هو فيه أن يهيم على وجهه وذلك قبل أن يتوحش مع البهائم في القفار، فكان قومه يلومونه ويعذلونه، فأكثروا عليه في الملامة والعذل يوماً فقال:
يا للرجال لهمّ بات يعروني
…
مستطرف وقديماً كان يعنيني
على غريم مليء غير ذي عدمٍ
…
يأتي فيمطلني ديني ويلويني
لا يذكر البعض من ديني فينكره
…
ولا يحدثني أن سوف يقضيني
وما كشكري شكرٌ لو يوافقني
…
ولا منيّ كمناه إذ يمنيني
أطعته وعصيت الناس كلهم
…
في أمره ثم يأبى فهو يعصيني
خيري لمن يبتغي خيري ويأمله
…
من دون شرّي وشري غير مأمون
وما أشارك في رأيي أخا ضعفٍ
…
ولا أقول أخي من لا يواتيني
في هذه الأبيات هزج طنبوري للمسدود من جامعه.
وقال أبو عمر الشيباني: حدثني رياح العامري قال: كان المجنون أول ما علق ليلى كثير الذكر لها والإتيان بالليل إليها، والعرب ترى ذلك غير منكر أن يتحدث الفتيات إلى الفتيان، فلما علم أهلها بعشقه لها منعوه من إتيانها وتقدموا إليه فذهب لذلك عقله ويئس منه قومه وأعتنوا بأمره إجتمعوا إليه ولاموه وعذلوه على ما يصنع بنفسه وقالوا: والله ما هي لك بهذه الحال، فلو تناسيتها رجونا أن تسلو قليلاً، فقال لما سمع مقالتهم وقد غلب عليه البكاء:
فوا كبداً من حب من لا يحبني
…
ومن زفرات ما لهن فناء
أريتك إن لم أعطك الحب عن يد
…
ولم يك عندي إذ أبيت إباء
أتاركتي للموت أنت فعيتٌ
…
وما للنفوس الخائفات بقاء
ثم أقبل على القوم فقال: إن الذي بي ليس يهين، فأقلوا من ملامكم فلست بسامع فيها ولا مطيع لقول قائل.
أخبرني عمي ومحمد بن حبيب وإبن المرزبان عن عبد الله بن أبي سعد عن عبد العزيز بم صالح عن أبيه عن إبن وأب عن رباح بن حبيب العامري أنه سأله عن حال المجنون وليلى فقال: كانت ليلى من بني الحريش وهي بنت مهدي بن سعيد بن مهدي بن ربيمة بن الحريش وكانت من أجمل النساء واظرفهن وأحسنهن جسماً وعقلاً وأفضلهن أدباً واملحهن شكلاً، وكان المجنون كلفاً بمحادثة النساء صبابهن، فبلغه خبرها ونعتت له فصبا إليها وعزم على زيارتها، فتأهب لذلك ولبس افضل ثيابه ورجل جمته ومسّ طيباً كان عنده وأرتحل ناقة كريمة برحل حسن وتقلد سيفه وأتاها فسلم فردت عليه السلام وأخفت المسئلة، وجلس إليها فحادثته وحادثها فأكثرا وكل واحد منهما مقبل على صاحبه مجب به، فلم يزالا كذلك حتى أمسيا فأنصرف إلى أهله فبات أطول ليلة شوقاً إليها حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى ثم إنصرف إلى أهله فبات بأطول من ليلته الأولى وأجتهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا
…
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري الحديث وبالمنى
…
ويجمعني والهم بالليل جامع
لقد ثبتت في القلب منك محية
…
كما ثبتت في الراحتين الأصابع
عروضه من الطويل والغناء لإبراهيم الموصلي رمل الوسطى عن عمرو، قال: وأدام زيارتها وترك من كان يأتيه فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها في كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع حتى إذا أمسى إنصرف.
خرج ذات يوم يريد زيارتها، فلما قرب من منزلها لقيته جارية عسراء فتطير منها وأنشأ يقول:
وكيف يرجى وصل ليلى وقد جزى
…
بجد القوى والوصل أعسر حاسر
صديع العصا صعب المرام إذا إنتحى
…
لوصل أمريء جذب عليه الأواصر
ثم سار إليها في غد فحدثها بقصته وطيرته ممن لقيه وانه يخاف تغير عهدها وأنتكائه، وبكى فقالت: لا ترعَ، حاشا الله من تغير عهدي، لا يكون والله ذلك إن شاء الله. فلم يزل عندها يحدثها بقية يومه ووقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه.
جاءها يوماً كما كان يجيء وأقبل يحدثها فأعرضت عنه وأقبلت على غيره بحديثها تريد بذلك محنته وأن تعلم ما في قلبه، فلما رأى ذلك جزع جزعاً شديداً حتى بان في وجهه وعرف فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمسرة إليه فقالت:
كلانا مظهرٌ للناس بغضاً
…
وكلٌ عند صاحبه مكين
فسرى عنه وعلم ما في قلبها، فقالت له: إنما أردت أن أمتحنك، والذي عندي أكثر من الذي عندك، وأعطي الله عهداً إن جالست بعد يومي هذا رجلاً سواك حتى أذوق الموت، إلا أن أكره على ذلك.
قال: فأنصرفت عنه وهو من أشد الناس سروراً واقرهم عيناً وقال:
أظن هواها تاركي بمضلة
…
من الأرض لا مال لديّ ولا أهل
ولا أحد أفضي إليه وصيتي
…
ولا صاحب إلا المطية والرحل
محاجبها حب الأولى منّ قبلها
…
وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل
أخبرني ابو جعفر بن قدامى عن أبي العيناء عن العتبي قال: لما حجبت ليلى عن المجنون خطبها جماعة فلم يرضهم أهلها، وخطبها رجل من بني ثقيف موسر فزوجوه وأخفوا ذلك عن المجنون. ثم نمي إليه طرف منه لم يتحققه فقال:
دعوت إلهي دعوة ما جهلتها
…
وربي بما تخفي الصدور بصير
لئن كنت تهدي برد أنيابها العلا
…
لأفقر مني إنني لفقير
فقد شاعت الأخبار أن قد تزوجت
…
فهل يأتيني بالطلاق بشير
وقال أيضاً:
ألا تلك ليلى العامرية أصبحت
…
تقطع إلا من ثقيف حبالها
هم حبسوها محبس البدن وابتغى
…
بها المال أقوامٌ ألا قلّ ما لها
إذا ما إلتفت والعيس صعرٌ من البرا
…
بنخلة جلت عبرة العين حالها
قال: وجعل يمر ببيتها فلا يسأل عنها ولا يلتفت إليها ويقول إذا جاوزه:
الا أيها البيت الذي لا أزوره
…
وإن حله شخص إليّ حبيب
هجرتك إشفاقاً وزرتك خائفاً
…
وفيك عليّ منك رقيب
ساستعتب الأيام لعلها
…
بيوم سرور في الزمان تؤوب
الغناء لعريب ثاني ثقيل بالوسطى. قال: وبلغه أن أهلها يريدون نقلها إلى الثقفي فقال:
كأن القلب ليلة قيل يغدي
…
بليلى العامية أو يراح
قطاة غزّها شرك فباتت
…
تجاذبه وقد علق الجناح
عروضه من الوفر. الغناء لإبن المكي خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحق وفيه خفيف ثقيل لسليمان مطلق في مجرى البنصر وفيه لإبراهيم رمل بالوسطى في مجراها عن الهشامي.
قال: لما نقلت إلى الشقفي قال:
طربت وشاقتك الحمول الدوافع
…
غداة دعا بالبين أسحم نازع
شحافاه نعباً بالفراق كأنه
…
حريب سليب نازح الدار جازع
فقلت ألا قد بين الأمر فأنصرف
…
فقد راعنا بالبين قبلك رائع
سقيت سموماً من غرابٍ فإنني
…
تبينت ما خبرت مذ أنت واقع
ألم ترَ أني لا محب ألومه
…
ولا ببدل بعدهم أنا قانع
وقد يتناءى الإلف من بعد غلفه
…
ويصدع ما بين الخليطين صادع
وكم من هوى أو جيرة قد الفتهم
…
زماناً فلم يمنعه للبين مانع
كأنه غداة البين ميت جوبة
…
أخو ظمأ سدّت عليه المشارع
تخلس من أوشال ماء صبابة
…
فلا الشرب مبذول ولا هو ناقع
وبيض تطلى بالبعير كانما
…
نعاج الملا جيبت عليها البراقع
تحملهن من وادي الأراك فأومضت
…
لهن بأطراف العيون المدامع
فما رضن ربع الدار حتى تشابهت
…
هجائنها والجون منها الخواضع
وحتى حملن الحور من كل جانب
…
وخاضت سدول الرقم منها الأكارع
فلما إستوت تحت الخدود وقد جرت
…
عبير وسك بالعرانين رادع
أشرن بأن حثوا الجمال فقد بدا
…
من الصيف يوم لافع الحر مانع
فلما لحقنا بالخمول تباشرت
…
بنا مقصرات غاب عنها المطامع
تعرضين بالدل المليح ران يرد
…
جناحهن مشغوف فهن موانع
فقلت لأصحابي ودمعي مسبلٌ
…
وقد صدع الشمل المشتت صادع
أليلى بأبواب الخدور تعرضت
…
لعينيّ أم قرن من الشمس طالع
أخبرني عيسى بن الحسين الورَّاق قال. حدثنا الهيثم بن فرَّاس قال: حدثني العمري عن الهيثم بن عدي أن أبا المجنون حج به ليدعو الله عز وجل في الموقف أن يعاقبه فسار معه غبن عمه زياد بن كعب بن مزاحم فمرّ بحمامة تدعو على أيكة فوقف يبكي فقال له زياد: أي شيء هذا ما يبكيك ايضاً، سر بنا نلحق الرفقة فقال.
أن هتفت يماً بوادٍ حمامة بكيت ولم يعذرك بالجهل عاذر
دعت ساق حرّ بعدما علت الضحى
…
فهاج لك الحزان إن ناح طائر
نعيّ الضحى والصبح في مر حجنة
…
كثاف الأعالي تحتها الماء حائر
كأن لم يكن بالغيل أو بطن أيكة
…
أو الجزع من تول الأشاءة حاضر
يقول زياد إذ رأى الحي هجروا
…
أرى الحي قد ساروا فهل أنت سائر
وإني وإن غال التقادم حاجتي
…
ملم على أوطان ليلى مناظر
أخبرني إبن أبي الأزهر عن محمد بن عبد الله البكري عن موسى بن جعفر إبن أبي كثير، وأخبرني عمي عن إبن شبيب عن الهروي عن موسى بن جعفر عن إبن أبي كثير. وأخبرني إبن المرزبان عن إبن الهيثم عن العمري عن العتبي، قالوا جميعاً: كان المجنون وليلى وهما صبيان يعيان غنماً لأهلهما عند جبل في بلادهما يقال له التوباد، فلما ذهب عقله وتوحش كان يجيء إلى ذلك الجبل فيقيم به، فإذا تذاكر أيام كان يطيف هو وليلى به جزع جزعاً شديداً فهام على وجهه حتى يأتي نواحي الشأم فإذا ثاب إليه عقله رأى بلد لا يعرفه فيقول الناس الذين يلقاهم بأبي أنتم اين التوباد من أرض بني عامر فيقال له وأين أنت من أرض بني عامر، أنت بالشأم، عليك بنجم كذا فأمه، فيمضي على وجهه نحو ذلك النجم حتى يقع بأرض اليمن فيرى بلاداً ينكرها وقوماً لا يعرفهم فيسألهم عن التوباد وارض بني عامر فيقولون وأين أنت من أرض بني عامر، عليك بنجم كذا وكذا، فلا يزال كذلك حتى يقع على التوباد، فإذا رآه قال في ذلك:
وأجهشت للتوباد حين رأيته
…
وكبّر الرحمن حين رآني
وأذرفت له دمع العين حين عرفته
…
ونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلت له قد كان حولك جيرة
…
وعهدي بذاك الصرم منذ زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم
…
ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وإني لأبكي اليوم من حذري غدا
…
فراقك والحيان مجتمعان
سجالاً وبهتاناً ووبلاً وديمةً
…
وسحاً وتسجلماً وتنهملان
أخبرني عمي عن إبن شبيب عن هرون بن موسى القروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: قال المجنون:
خليليّ لا والله لا أملك الذي
…
قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وأبتلاني بحبها
…
فهلا بشيء غير ليلى إبتلانيا
سلب عقله.
وحدثني جحظة عن ميمون بن هرون عن إسحق الموصلي أنه لما قالهما برص.
قال موسى بن جعفر في خبره المذكور: وكان المجنون يسير مع أصحابه فسمع صائحاً يصيح يا ليلى، في ليلة ظلماء، أو توهم ذلك، فقال لبعض من معه: أما تسمع هذا الصوت، فقال: ما سمعت شيئاً، قال: والله هاتف يهتف ليلى.
ثم أنشأ يقول:
اقول لأدنى صحابيَّ كليمة
…
أسرت من الأقصى أجب ذا المناديا
إذا سرت في أرض الفضاء رأيتني
…
أصانع رحلي أن تميل حباليا
يميناً إذا كانت يميناً وإن تكن
…
شمالاً ينازعني الهوى عن شماليا
وقال إبن شبيب: وحدثني هرون بن موسى قال: قلت لعرير بن طلحة المخزومي: مَن اشعر الناس ممن قال شعراً في منى ومكة وعرفات فقال: أصحابنا القرشيون. ولقد أحسن المجنون حيث يقول:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى
…
فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا بإسم ليلى غيرها فكأنما
…
أطار بليلى طائراً في صدري
فقلت له: هل ترون للمجنون غير هذا، قال نعم وأنشدني له:
أما والذي أرسى تبيراً مكانه
…
عليه السحاب فوقه يتنصب
وما سلك الموماة من كل حسرة
…
طليح كجفن السيف تهوي فتركب
لقد عشت من ليلى زماناً أحبها
…
أخا الموت إذ بعض المحبين يكذب
أخبرني محمد بن يزيد عن حماد عن أبيه قال: كانت كنية ليلى أم عمرو، وأنشد للمجنون:
أبى القلب إلا حبه عامرية
…
لها كنية عمرو وليس لها عمرو
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها
…
وينبت في أطرافها الورق الخضر
الغناء لعريب ثقيل أول، وقال حبش فيه لإسحق خفيف ثقيل.
أخبرني هاشم الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة قال: خطب ليلى صاحبة المجنون جماعة من قومها فكرهتهم فخطبها رجل من ثقيف موسر فرضيته وكان جميلاً فتزوجها وخرج بها، فقال المجنون في ذلك:
ألا أن ليلى كالمنيحة أصبحت
…
تقطع إلا من ثقيف حبالها
فقد حبسوها محبس البدن وابتغى
…
بها الريح أقوام تساحت مآلها
خليليّ هل من حيلة تعلمانها
…
يدني لنا تكليم ليلى إحتيالها
فإن أنتما لم تعلماها فلستما
…
بأول باغٍ حاجة لا ينالها
كأن مع الركب الذين إغتدوا بها
…
غمامة صيف زعزعتها شمالها
نظرت بمفضى سيل جوشن إذ غدوا
…
تخب بأطراف المخادم آلها
بشافية الأحزان هيج شوقها
…
مجامعة الآلاف ثم زيالها
إذا إلتفتت من خلفها وهي تعتلي
…
بها العيس جلى عبرة العين حالها
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي نصر أحمد بن حاتم قال: وأنشدناه امبرد للمجنون فقال:
وأحبس عنك النفس والنفس صبةً
…
بذكراك والممشى إليك قريب
مخافة أن تسعة الوشاة بظنة
…
وأحرسكم أن يستريب مريب
فقد جعلت نفسي وأنت إجترمته
…
وكنت أعز الناس عنك تطيب
فلو شئت لم أغضب عليك ولم يزل
…
لك الدهر مني ما حييت نصيب
أما والذي يبلى السرائر كلها
…
ويعلم ما تبدي به وتغيب
لقد كنت ممن يصطفي الناس خلةً
…
لها دون خلان الصفاء حجوب
ذكر يحيى المكي أنه لإبن سريج ثقيل أول، وقال الهشامي أنه من منحول يحيى إليه.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني الحسن بن محمد بن طالب الديناري قال: إسحق الموصلي وأخبرني به محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحق عن أبيه قال: حدثني سعيد بن سليمان عن أبي الحسن الببغا قال: بينا أنا وصديق لي من قريش بالبلاط ليلاً إذ يظل نسوة في القمر، فسمعت إحداهن تقول: أهو هو، فقالت لها الأخرى معها: أي والله إنه لهو، فدنت مني ثم قالت: يا كهل، قل لهذا الذي معك:
ليست لياليك في خاخٍ بعائدة
…
كما عهدت ولا أيام ذي سلم
فقلت لها يا عز كل مصيبة إذا وطنت يوماً لها النفس ذلتَ ثم مضينا حتى إذا كنا بمفرق طريقين مضى الفتى إلى منزله ومضيت إلى منزلي فإذا أنا بجويرية تجذب ردائي فألتفت فقال لي: المرأة التي كلمتها تدعوك.
فمضيت معها حتى دخلت داراً واسعة ثم صرت إلى بيت فيه حصير وقد ثنت لي وسادة جلست عليها، ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها، ثم جاءت المرأة فجلست عليها فقالت لي: أنت المجيب، قلت نعم، قالت: ما كان أفظ جوابك وأغلظه، فقلت لها: ما حضرني غيره، فسكتت ثم قالت: لا والله، ما خلق الله خلقاً أحب إليّ من إنسان كان معك، فقلت لها: أنا الضامن لك عنه ما تحبين، فقالت: هيهات أن يقع بذلك وفاء، فقلت: أنا الضامن وعليّ أن آتيك به في الليلة القابلة.
فأنصرفت فإذا الفتى بابي فقلت: ما جاء بك قال: ظننت أنها سترسل إليك وسألت عنك فلم أعرف لك خبراً فظننت أنك عندها فجلست أنتظرك، فقلت له: وقد كان الذي ظننت، وقد وعدتها أن آتيك فأمضي بك إليها في الليلة المقبلة.
فلما أصبحا هيأنا وانتظرنا المساء، فلما جاء الليل رحلنا إليها فإذا الجارية منتظرة لنا، فمضت أمامنا حين رأتنا حتى دخلت تلك الدار ودخلنا معها فإذا رائحة طيبة ومجلس قد أعد ونضد فجلسنا على وسائد قد ثنيت وجلست ملياً، ثم أقبلت عليه فعاتبته ملياً ثم قالت:
وأنت الذي أخبرتني ما وعدتني
…
وأشمت بي من كان فيك يلوم
وابرزتني للناس ثم تركتني
…
لهم غرضاً أرمى وأنت سليم
فلو كان قولٌ يكلم الجلد قد بدا
…
بجلدي من قول الوشاة كلوم
هذه الأبيات لآمنة امرأة إبن الدمينة وفيها غناء لإبراهيم الموصلي ذكره إسحق ولم يجنسه. وقال الهشامي هو خفيف رمل وفيه لعريب خفيف ثقيل أول ينسب إلى حكم الوادي وإلى يعقوب. قال: ثم سكنت وسكت الفتى هنيهة ثم قال:
غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن
…
وفي بعض هذا للمحب عزاء
جزيتك ضعف الود ثم صرمتني
…
فحبك من قلبي إليك أداء
فالتفتت غليّ فقالت: ألا تسمع ما يقول قد خبرتك، فغمرته إن كف فكف، ثم أقبلت عليه وقالت:
نجاهلت وصلي حين جدت عمايتي
…
فهلا صرمت الحبل إذ أنا أبصر
ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته
…
نصيب وإذ رأيي جميع موقر
ولكنما آذنت بالصرم بغتة
…
ولست على مثل الذي جئت أقدر
فقال:
لقد جعلت نفسي وأنت إجترمته
…
وكنت أعز الناس عنك تطيب
قال: فبكت ثم قالت: أو قد طابت نفسك لا والله ما فيك بعدها خير. ثم إلتفتت إليّ وقالت: قد علمت أنك لا تفي بضمانك ولا يفي به عنك.
وهذا البيت الأخير للمجنون وإنما ذكر هذا الخبر هنا وليس من أخبار المجنون لذكره فيه.
وقيل إن هذا الشعر للمجنون:
كأن القلب ليلة قيل يغدى
…
بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرَّها فباتت
…
تجاذبه وقد علق الجناح
الغناء ليحيى المكي خفيف ثقسل بالوسطى عن عمرو وفيه رمل ينسب إلى إبراهيم وإلى أحمد بن المكي، وقال حبش فيه خفيف ثقيل لسليم.
وقال الهيثم بن عدي في خبره: حدثني عبد الله بن عياش الهمداني قال: حدثني رجل من بني عامر قال: مطرنا مطراً شديداً في ربيع إرتبعناه ودام ثلاثاً ثم أصبحنا في اليوم الرابع على صحو وخرج الناس يمشون على الوادي فرأيت رجلاً جالساً حجرة وحده فقصدته فإذا هو المجنون جالس وحده يبكي، فوعظته وكلمته طويلاً وهو ساكت لم يرفع رأسه إليّ.
ثم أنشدني بصوت حزين لا أنساه ابداً وحرقته:
جرى الدمع فأستبكاني السيل إذ حرى
…
وفاضت له من مقلتيَّ غروب
وما ذاك إلا حين أيقنت أنه
…
يكون بوادٍ أنت فيه قريب
يكون أجاجاً دونكم فإذا أنتهى
…
إليكم نلتقي طيبكم فيطيب
أظل غريب الدار في أرض عامرٍ
…
ألا كل مهجور هناك غريب
وإن الكثيب الفرد من أيمن الحمى
…
إليّ وإن لم آتة لحبيب
فلا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر
…
حبيباً ولم يطرب إليك حبيب
وأول هذه القصيدة وفيه غناء:
ألا أيها البيت الذي لا أزوره
…
وهجرانه مني إليه ذنوب
هجرتك مشتاقاً وزرتك خائفاً
…
وفيّ عليك الدهر منك رقيب
سأستعطف الأيام فيك لعلها
…
بيوم سرور في هواك تثيب
هذه الأبيات في شعر محمد بن أمية مروية ورويت ههنا للمجنون وفيها لعريب ثقيل أول ولعبد الله بن العباس ثاني ثقيل ولأحمد بن المكي خفيف ثقيل:
وأفردت أفراد الطريد وباعدت
…
إلى النفس حاجات وهن قريب
لئن حال يأس دون ليلى لربما
…
أتى اليأس دون الأمر وهو قريب
ومنيتني حتى إذا ما رأيتني
…
على شرف للناظرين يريب
صددت وأشمت العدو بصرمنا
…
أثابك يا ليلى الجزاء مثيب
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا مهدي إبن سابق قال: حدثنا بعض مشايخ بني عامر أن المجنون مرّ في توحشه فصادف حي ليلى راحلاً ولقيها فجأة فعرفها وعرفته فصعق وخرّ مغشياً على وجهه وأقبل فتيان من حي ليلى أخذوه ومسحوا التراب عن وجهه وأسندوه إلى صدورهم وسألوا ليلى أن تقف له وقفة فرقت لما رأته به وقالت: أما هذا فلا يجوز أن أفتضح به ولكن يا فلانة لامة لها: إذهبي إلى قيس فقولي له ليلى تقرأ عليك السلام وتقول لك أعزز عليّ بما أنت فيه، ولو وجدت سبيلاً إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي منه.
مضت الوليدة إليه وأخبرته بقولها فأفاق وجلس وقال: ابلغيها السلام وقولي لها: هيهات، إن دائي ودوائي أنت وإن حياتي ووفاتي لفي يديك، ولقد وكلت بي شقاء لازماً وبلاء طويلا.
ثم بكى وأنشأ يقول:
أقول لصحابي هي الشمس ضوؤها
…
قريب ولكن في ناولها بُعد
لقد عارضتنا الريح منها بنفحة
…
على كبدي من طيب أرواحها برد
فما زلت مغشياً عليّ وقد مضت
…
أناة ولا عندي جواب ولا رد
أقلب بالأيدي وأهلي بعولة
…
يفدونني لو يستطيعون أن يفدوا
ولم يبقَ إلا الجلد والعظم عارياً
…
ولا عظم لي إن دام ما بي ولا جلد
أدنياي ما لي في إنقطاعي ورغبتي
…
إليك ثواب منك دين ولا نقد
عديني بنفسي أنت وعداً فربما
…
جلا كربة المكروب عن قلبه الوعد
وقد يبتلى قوم ولا كبليتي
…
ولا مثل جدي في الشفاء بكم جد
غزتني جنود الحب من كل جانب
…
إذا حان من جند أقول أتى جند
وقال أبو نصر أحمد بن حاتم: كان أبو عمرو المدني يقول: قال نوفل بن مساحق: عن المجنون أن سبب نوحشه أنه كان يوماً بضرية جالساً وحده إذ ناداه مناد من الجبل:
كلانا يا أخيّ يحب ليلى
…
بفيِّ وفيك من ليلى التراب
لقد خبلت فؤادك ثم ثنت
…
بقلبي فهو مهمومٌ مصاب
شركتك في هوى من ليس تبدي
…
لنا الأيام منه سوى إجتناب
قال: فتنفس الصعداء وغشي عليه وكان هذا سبب توحشه، فلم يُرَ له أثر حتى وجده نوفل إبن مساحق.
قال نوفل: قدمت البادية فسألت عنه فقيل لي توحش وما لنا به عهد ولا ندري إلى أين صار. فخرجت يوماً أتصيد الأروى ومعي جماعة من أصحابي حتى إذا كنت بناحية الحمى إذا نحن بأراكة عظيمة قد بدا منها قطيع من الظباء فيها شخص إنسانُ يرى من خلل تلك الأريكة، فعجب أصحابي من ذلك، فعرفته وأتيته وعرفت أنه المجنون الذي أخبرت عنه، فنزلت عن دابتي وتخففت من ثيابي وخرجت أمشي رويداً حتى أتيت الأراكة فأرتقيت حتى صرت على أعلاها وأشرفت عليه وعلى الظباء فإذا به وقد تدلى الشعر على وجهه فلم أكد أعرفه إلا بتأمل شديد وهو يرتعي في ثمر تلك الأراكة، فرفع رأسه فتمثلت ببيت من شعره:
أتبكي على ليلى ونفسك باعدت
…
مزارك من ليلى وشعبا كما معا
قال: فنفرت الظباء وأندفع في باقي القصيدة ينشدها، فما أنسى نغمته وحسن صوته وهو يقول:
فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً
…
وتجزع إن داعي الصبابة إسمعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها
…
عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
…
على كبدي من خشية أن تصدعا
فليست عشيات الحمى برولجع
…
عليك ولكن خل عينيك تدمعا
معي كل عز قد عصى عازلاته
…
بوصل الغواني من لدن أن ترعرعا
إذا راح يمشي في الرداءين أسرعت
…
إليه العيون الناظرات التطلعا
قال: ثم سقط مغشياً عليه فتمثلت بقوله:
يا دار ليلى قد درست
…
إلا الثمام وإلا موقد النار
ما تفتأ الدار من ليلى تموت كذا
…
في موقف وقفته أو على دار
أبلى عظامك بعد اللحم ذكركها
…
كما ينحت قدح الشوحط الباري
فرفع رأسه إليّ وقال: من أنت حياك الله، فقلت أنا نوفل بن مساحق، فحياني فقلت له: ما أحدثت بعدي في يأسك منها، فأنشدني يقول:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها
…
عليَّ يميناً جاهداً لا أزورها
وأوعدني فيها رجال أبوهم
…
أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير جرم غير أني أحبهاوإن فؤادي رهنها وأسيرها ثم قال: سنحت له ظباء فقام في أثرها حتى لحقها فمضى معها:
حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني علي بن الصباح عن إبن الكلبي قال لما قال مجنون بني عامر: قضاها لغيري وأبتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى إبتلانيا نودي في الليل أنت المتسخط لقضاء الله والمعترض في أحكامه، وأختلس عقله فتوحش منذ تلك الليلة وذهب مع الوحش على وجهه. وهذه القصيدة التي قال فيها هذا البيت من أشهر أشعاره، والصوت المذكور بذكره أخبار المجنون ههنا منها وفيها أيضاً عدة أبيات يغني فيها.
فمن ذلك قال:
أعد الليالي ليلة بعد ليلة
…
وقد عشت دهراً أعد اللياليا
أراني إذا صليت يممت نحوها
…
بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
وما بي إشراكٌ ولكن حبها
…
كعود الشجا أعيا الطبيب المداويا
أحب من الأسماء ما وافق إسمها
…
وأشبهه أو كان منه مدانيا
وقال:
وخبرتماني أن تيماء منزل
…
لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عني قد إنقطعت
…
فما للنوى يرمي بليلى المراميا
وقال:
فلو كان واشٍ باليمامة بيته
…
وداري بأعلى حضرموت إهتدى ليا
وماذا لهم لا أحسن الله حفظهم
…
من الحظ في صريم ليلى حباليا
فأنت الذي إن شئت أشقيت عيشتي
…
وإن شئت بعد الله أنعمت باليا
وأنت الذي ما من صديق ولا عدى
…
يرى نضو ما أبقيت إلا رثى ليا
أمضروبة ليلى على أن أزورها
…
ومتخذ ذنباً لها أن ترانيا
إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتني
…
أصانع رجلي أن تميل حياليا
يميناً إذا كانت يميناً وإن تكن
…
شمالاً ينازعني الهوى عن شماليا
أحب من الأسماء ما وافق إسمها
…
وأشبهه أو كان منه مدانيا
هي السحر إلا أن للسحر رقيةً
…
وإني لا ألفي لها الدهر راقيا
وأنشد أبو نصر للمجنون وفيه غناء وقال:
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها
…
وينبت في أطرافها الورق الخضر
أبا القلب إلا حبها عامرية
…
لها كنية عمرو وليس لها عمرو
الغناء لعريب ثقيل أول، وذكر الهشامي أن فيه لإسحق خفيف ثقيل.
أخبرني محمد إبن مزيد بن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحق عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال: أنشدني جماعة من بني عقيل للمجنون يرثي أباه ومات قبل إختلاطه وتوحشه فعقر على قبره ورثاه بهذه الأبيات:
عقرت على قبر الملوح ناقتي
…
بذي السرح لما أن جفته أقاربه
وقلت لها كوني عقيراً فإنني
…
غداة غد ماش وبالأمس راكبه
فلا يبعدنك الله يا إبن مزاحم
…
وكل أمريء فالموت لا بد شاربه
فقد كنت طلاّع النجاد ومعطي الجياد وسيفاً لا تفل مضاربه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال:
حدثنا عبد الله بن شبيب عن الحزامي عن محمد بن معن قال: بلغني أن رجلاً من بني جعدة بن كعب كان أخاً وخِلاً للمجنون مرّ به يوماً وهو جالس يخط في الأرض ويعبث بالحصى سلم عليه وجلس عنده فأقبل يخاطبه ويعظه ويسليه وهو ينظر إليه ويلعب بيده كما كان وهو مفكر قد غمره ما هو فيه، فلما طال خطابه إياه قال: يا أخي: أما لكلامي جواب، فقال له: والله يا أخي ما علمت أنك تكلمني، فأعذرني فإني منا ترى مذهوب العقل مشترك اللب.
وبكى ثم أنشأ يقول:
وشغلت عن فهم الحديث سوى
…
ما كان منك فإنه شغلي
وأديم حظ محدثي ليرى
…
إن قد فهمت وعندكم عقلي
الغناء علوية. وقال الهيثم: مر المجنون يراد في أيام الربيع وحمامه يتجاوب فأنشأ يقول:
ألا يا حمام الأيك ما لك باكياً
…
أفارقت إلفاً أم جفاك حبيب
دعاك الهوى والشوق لما ترنمت
…
هتوف الضحى بين الغصون طروب
تجاوب ورقا قد أذن لصوتها
…
فكل لكل مسعد ومجيب
الغناء لرداد ثقيل أولمطلق في مجرى الوسطى.
وقال خالد بن حمل: حدثني رجال من بني عامر أن زوج ليلى وأباها خرجا في أمر طرق الحي إلى مكة فأرست ليلى بأمة لها إلى المجنون فدعته فأقام عندها ليلة فأخرجته في السحر وقالت له: سر إليّ في كل ليلة ما دام القوم سفراً، فكان يختلف إليها حتى قدموا.
وقال فيها في آخر ليلة لقيها وودعته:
تمتع بليلى إنما أنت هامة
…
من إلهام يدنو كل يوم حمامها
تمتع إلى أن يرجع الركب أنهم
…
متى يرجعوا يحرم عليك كلامها
وقال الهيثم: مض المجنون قبل أن يختلط فعاده قومه ونساؤهم ولم تعده ليلى فيمن عاده فقال:
ألا ما لليلى لا تُرى عند مضجعي
…
بليل ولا يجري بها لي طائر
بلى إن عجم الطير تجري إذا جرت
…
بليلى ولكن ليس للطير زاجر
أحالت عن العهد الذي كان بيننا
…
بذي الرمث أم قد غيبتها المقابر
الغناء لسليم ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي.
ومن قوله:
فو الله ما في القرب لي منك راحة
…
ولا البعد يسليني ولا أنا صابر
ووالله ما أدري بأية حيلة
…
وأي مرام أو خطار أخاطر
ووالله إن الدهر في ذات بيننا
…
عليّ لها في كل أمر لجائر
فلو كنت إذا زمعت هجري تركتني
…
جميع القوى والعقل مني وافر
ولكن أيامي يجفل عنيزة
…
وذي الرمث أيام حناها التجاور
فقد أصبح الود الذي كان بيننا
…
أماني نفس أن تخبر خابر
لعمري لقد أرهقت يا أم مالك
…
حياتي وساقتني إليك المقادر
أخبرني عمي قال: حدثني محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالحزنبل عن عمرو بن أبي عمو الشيباني ن أبيه قال: قال حدثني بعض ني عقيل قال: قيل للمجنون: أي شيء رأيته أحب إليك، قال ليلى، قيل دع ليلى فقد عرفنا ما لها عندك ولكنت سواها، قال: والله ما أعجبني شيء قط فذكرت ليلى إلا سقط من عيني وأذهب ذكرها بشاشته عندي، غير أني رأيت ظبياً مرة فتأملته وذكرت ليلى فجعل يزداد في عيني حسناً، ثم وهرب منه فتبعته حتى خفيا عني وجدت الذئب قد صرعه وأكل بعضه رميته بسهم فما خطأت مقتله وبقرت بطنه فأخرجت ما أكل منه ثم جمعته إلى بقية شلوه ودفنته وأحرقت الذئب وقلت في ذلك:
أبى أن تبقى لحي بشاشة
…
فصبراً على ما شاءه الله لي صبرا
رأيت غزالاً يرتعي وسط روضة
…
فقلت أرى ليلى تراءت لنا ظهرا
فيا ظبي كل رغداًَ هنيئاً ولا تخف
…
فإنك لي جارٌ ولا ترهب الدهرا
وعندي لكم حصن حصين وصارم
…
حسام إذا أعملته أحسن الهبرا
فما راعني إلا وذئب قد إنتحى
…
فأعلق في أحشائه الناب والظفرا
ففوقت سهمي في كوم غمزتها
…
فخالط سهمي مهجة الذئب والنحرا
فأذهب غيظي قتله وشفى جوى
…
بقلبي إن الحر قد يدرك الوترا
قال أبو نصر: