المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القحطانية والعدنانية في الإسلام: - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ٢

[جواد علي]

الفصل: ‌القحطانية والعدنانية في الإسلام:

لقد حارب الإسلام العصبية الجاهلية، وآخى الرسول بين المهاجرين والأنصار، وحالف بين قريش وأهل يثرب، ونهى عن أحلاف الجاهلية، ورُوِيَ عنه أنه قال:"لا حلف في الإسلام" 1؛ لما ينتج عنه من فتن ومن قتال بين القبائل وغارات؛ ولأن الإسلام قد عوَّض عن الحلف وزاده شدة بنزوله9، "وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة"2، وعدَّ "التعرب" بعد الهجرة، أي أن يعود المرء إلى البادية ويقيم مع الأعراب، كبيرة من الكبائر، حتى عد من يعود إلى موضعه من البادية بعد الهجرة كالمرتد3. ومع ذلك، لم يكن من الممكن تناسي العصبيات، وغسل آثار الجاهلية، وطمس معالمها تمامًا، فتحزبت القبائل وتكتلت، وكانت تحارب على أنها همدان4، أو ربيعة5، أو طيئ6، أو مضر7، أو قريش8، أو قيس9، أو الأزد، أو ربيعة10، أو تميم11، أو غير ذلك من أسماء قبائل.

1 تفسير الطبري "5/ 36".

2 تفسير الطبري "5/ 36".

3 "وفي الحديث: ثلاث من الكبائر، منها التعرب بعد الهجرة، هو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرًا. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر، يعدونه كالمرتد"، لسان العرب "2/ 76".

4 مروج "2/ 22".

5 مروج "2/ 22".

6 مروج "2/ 22".

7 اليعقوبي "2/ 165"، الكامل "4/ 85".

8 اليعقوبي "3/ 3"، الكامل "4/ 61".

9 الكامل "4/ 14، 63".

10 الكامل "4/ 58".

11 الكامل "4/ 58".

ص: 144

‌القحطانية والعدنانية في الإسلام:

الحق: إن ما نسميه قحطانية أو عدنانية إنما هو صفحة من صفحات النزاع الحزبي عند العرب في الإسلام، شاء أصحابه ومثيروه إرجاعه إلى الماضي البعيد، ووضع تأريخ قديم له، فجعلوا له أصولًا زعموا أنها ترجع إلى ما قبل الإسلام

ص: 144

بكثير، وروَوْا في ذلك شعرًا لا يخرج في نظرنا عن هذا الشعر الذي يحفظه الرواة على لسان آدم وهابيل وقابيل والجن.

وفي هذا الصراع القحطاني العدناني العنيف شرع في تدوين الأنساب وتثبيتها في القراطيس والكتب. فكان لهذا الصراع ولوضع القبائل وتكتلاتها في هذا الوقت أثر خطير في تثبيت أنساب القبائل وتسجيلها، ليس في هذا العهد فقط، بل في تثبيت أنساب قبائل الجاهلية وتسجيلها أيضًا. إذ سجلت هذه الأنساب: جاهلية وإسلامية على الرأي السائد في النسب يوم شرع في التسجيل والتدوين، أي: في أَوْجِ هذه العصبية العنيفة التي عمت الناس في صدر الإسلام. ومن هنا كان لا بد لفهم الفكرة القحطانية العدنانية من الإلمام بنزاع قحطان وعدنان في الإسلام.

والذين قاموا بتسجيل الأنساب وتدوينها وتثبيتها في الكتب، كانوا هم أنفسهم من أصحاب العصبية لنزار أو لليمن ومن المتأثرين بالأحوال السياسية لذلك العهد؛ ولهذا نجد في أقوال بعضهم تحزبًا وتطرفًا وميلًا إلى تأييد فريق على فريق. ومن هنا كان لا بد لنا من التنبه لهذه العصبية، واتخاذ الحيطة والحذر عند دراسة هذا النزاع القحطاني العدناني.

وقد استعملت في هذا العهد "مضر" في مقابل "الأزد"1، كما استعملت الأزد في مقابل تميم، وورد "أهل اليمن" أو اليمانية2. ولكننا قلما نسمع في نداء القبائل وأخبار هذه الفتن أو الحروب التي وقعت في هذا العهد استعمال كلمة "عدنان" في مقابل "قحطان"، ويقال مثل ذلك في الأشعار أيضًا، في مثل شعر "الفرزدق" الذي استعمل كلمة "قحطان" في مقابل كلمة "نزار" وكلمة "يمن" في مقابل "نزار" أو "الأزد" في مقابل "نزار"3. كما استعمل الحكم بن عبدل "قحطان" في مقابل "معد"4. وقد ذكر الأعشى

1 الكامل "4/ 58".

2 الكامل "4/ 61".

3 ديوان الفرزدق "طبعة بوشيه"Boucher "ص8، 59، 68، 86".

Muh. Stud. Bd. I، S. 98

4

فما صادفت في قحطان مثلي

كما صادفت مثلك في معد

الأغاني "2/ 148".

ص: 145

في شعر له: "ومن معدّ قد أتى ابن عدنان"، وذلك في مقابل "قحطان"1.

وفي أيام معاوية وابنه "يزيد" و"مروان بن الحكم"، نالت "كلب" مركزًا ساميًا؛ لتزوج معاوية امرأةً من كلب هي "ميسون بنت بحدَل"، فأصبحت هي والقبائل التي تؤيدها مقربة عند الخلفاء، مع أن الخلفاء من قريش، وقريش من قيس؛ وهذا مما أغضب قيسًا المعروفة بعدائها لكلب. وقد كانت لفظة "قيس" في هذا العهد ترادف كلمة "معد" و"مضر" و"نزار"2، وأما "كلب" فترادفه اليمن. وقد عرفت المعركة التي وقعت في "مرج راهط" بين مروان وابن الزبير بأنها معركة "قيس" و"كلب"؛ لأن قيسا حاربت فيها عن "ابن الزبير"، أما كلب فقاتلت عن مروان، وقد أوجد هذا الانتصار حقدا كبيرا بين "قيس" وحلفائها من القبائل، وبين كلب وأنصارها من القبائل التي ادعت أنها من اليمن؛ فوقعت حروب بين قيس وكلب هلك فيها خلق كثير من الفريقين3، ولعب دورا مهما في تكتل القبائل وفي تجمع القحطانيين والعدنانيين.

وقد أسهم الخلفاء الذين جاءوا بعد "عبد الملك"، ويا للأسف، في هذا النزاع، متأثرين بعاطفتهم وبدمهم من الأمهات، فكان بعضهم يؤيد القيسيين إذا كانت أمهم من قيس، وكان آخرون يؤيدون "كلبًا" إذا كانت أمهم من اليمن. وسار على هذه السياسة الولاة والعمال، فكانت النتيجة تكتل القبائل وانقسامها إلى معسكرين "قيس" و"يمن"، وتزعمت "أزد عمان" في البصرة وخراسان حزب "يمن" في مقابل "قيس" و"تميم"4.

ووقعت وقائع دموية بين يمن وقيس، أنهكت العرب جميعًا، وصارت من جملة العوامل التي عجلت بسقوط الأمويين.

وحمل الشعراء مشاعل هذا النزاع، وأمدوا ناره بوقود غزير؛ نظموا القصائد في مدح قيس ومدح يمن، وفي ذم يمن وذم قيس بحسب قبيلة الشاعر ونسبه، أسهم فيه

1

سار بجمع كالقطا من قحطان

ومن معد قد أتى ابن عدنان

الأغاني "5/ 151".

2 enc. Vol. 2، p. 655

3 enc. Vol. 2، p. 655، Werner caskel، die bedeutung der beduinen in der geschichite der araber، s. 13

4 wellhausen، das arabische reich und sein stuetz، s. 40، enc. Vol. 2، p. 655

ص: 146

الأخطل والكُميت ودِعْبِل الخزاعي وجرير بن عطية بن الخَطَفَى التميمي وإسحاق بن سويد العَدَوي وغيرهم، فكان مدح وكان ذم، وكان تباهٍ وافتخار، وكان قذع وهجاء. وبدلًا من أن يتدخل الحكام ومسيرو الأمة في إخماد نار هذه الفتنة وإسكات الشعراء جمعًا للصف، أسهموا هم أنفسهم كما قلت في هذه المعركة وشجعوا المحاربين فيها؛ ففرقوا بين العرب بسياستهم هذه وأطمعوا الأعاجم فيهم، وجعلوا العرب يقاتل بعضهم بعضًا، وبذلك توقفت الفتوحات العربية الإسلامية؛ نتيجةً لهذه السياسة المفرقة الخرقاء.

ولم يقف هذا النزع على التباهي بقحطان وعدنان وبالأيام وبالشجعان، بل تجاوز ذلك إلى التباهي بارتباط كل فريق بجماعة من الأعاجم بروابط الدم والنسب والثقافة، فافتخرت النزارية بالفرس على اليمانية، وعدوهم من ولد "إسحاق بن إبراهيم" وافتخروا بإبراهيم جد العرب والفرس. ونظم "جرير بن عطية بن الخطفى التميمي" في ذلك شعرًا، جاء فيه":

أبونا خليل الله لا تنكرونه

فأكرم بإبراهيم جدًّا ومفخرا

وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا

حمائل موت لابسينَ السّنَّورا

إذا افتخروا عدوا الصبهبذ منهم

وكسرى وعدوا الهرمزان وقيصرا

أبونا أبو إسحاق يجمع بيننا

أب لا نبالي بعده من تأخرا

أبونا خليل الله، والله ربنا

رضينا بما أعطى الإله وقدرا1

ومن هذا القبيل، قول إسحاق بن سويد العدوي:

إذا افتخرت قحطان يومًا بسؤدد

أتى فخرنا أعلى عليها وأسودا

ملكناهم بدءًا بإسحاق عمنا

وكانوا لنا عونًا على الدهر أعبدا

ويجمعنا والغر أبناء فارس

أب لا نبالي بعده من تفردا2

وقول بعض النزارية:

وإسحاق وإسماعيل مدَّا

معالي الفخر والحسب اللبابا

فوارس فارس وبنو نزار

كلا الفرعين قد كبرا وطابا3

1 التنبيه "ص95".

2 التنبيه "ص95".

3 التنبيه "ص95".

ص: 147

ولم يقف النزاريون عند هذا الحد، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن هذا النسب قديم، وأن قرابة الفرس بالعدنانيين قديمة، وأن الفرس كانت في سالف الدهر تقصد إلى البيت الحرام بالنذور العظام تعظيمًا لإبراهيم الخليل بانيه، وأنه عندهم أجل الهياكل السبعة العظيمة والبيوت المشرفة في العالم، وأن رجلا تولاه وأعطاه العدة والبقاء، واستشهدوا على صحة دعواهم بشعر زعموا أن قائله هو أحد شعراء الجاهلية:

زمزمت الفرس على زمزم

وذاك في سالفها الأقدم1

وترتب على هذا وضع نسب للفرس يتصل بنسب العرب العدنانيين، فزعموا أن "منوشهر" الذي ينتسب إليه الفرس هو "منشخر بن منشخرباغ"، وهو "يعيش بن ويزك"، و"ويزك" هو إسحاق بن إبراهيم الخليل، واستشهدوا على زعمهم هذا بشعر، قالوا: إن بعض شعراء الفرس في الإسلام قاله مفتخرًا:

أبونا ويزك وبه أسامي

إذا افتخر المفاخر بالولاده

أبونا ويزك عبد رسول

له شرف الرسالة والزهادة2

أما "يعيش بن ويزك" جد الفرس الجديد، فهو "عيسو""Esau"، وفي العبرانية "Usu"، ومعناها "مشعر" أو "خشن"، وهو شقيق يعقوب وجد الأدوميين في التوراة وابن إسحاق3. وأما "ويزك" فهو "يزك" أو "إيزك" "Isaac" "Icaak" وهو "إسحاق"، وهو في العبرانية "يصحق" "يصحك" "يصحاك" "Yishak" أي: "الضحاك". ويرى علماء التوراة أن الأصل اسم قبيلة كان يقال لها "يصحقيل""يصحق ال""يضحك ال""Yishhakel""Yishakil"، وهو والد "عيسو" و"يعقوب"4.

وقد أسهم بعض الفرس أنفسهم في إذاعة هذا النسب ونشره، وقد استشهد على صحة دعواه بالأشعار المذكورة التي تفتخر بالفرس على اليمانية، وأنهم من

1 التنبيه "ص95".

2 التنبيه "ص96".

3 Enc. Bibli. P. 1333، budde، urgeschi. S. 217، hastings، p. 235

4 Enc. Bibli. P. 2175، hastings، p. 386

ص: 148

ولد أبيهم إبراهيم1. ولعلهم قالوا ذلك تقربًا إلى الحكومة، وهي عدنانية، ولعوامل سياسية أخرى، منها تقريب الفرس من العرب، وضمان تعاونهم مع الخلافة في وجه النعرات القومية التي ظهرت في إيران.

ولم يكتف العدنانيون بقرابتهم للفرس وللإسرائيليين، بل زعموا أن الأكراد من أقربائهم كذلك، وأنهم من نسل ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل، أو أنهم من نسل ربيعة بن نزار بن معد، أو أنهم من نسل مضر بن نزار، أو من ولد كرد بن مرد بن صعصعة بن هوازن، وأنهم انفردوا في قديم الزمان لوقائع ودماء كانت بينهم وبين غسان، وأنهم اعتصموا بالجبال فحادوا عن اللغة العربية لما جاورهم من الأمم، وصارت لغتهم أعجمية، فذلك على رأي أهل الأخبار بدء نسب الأكراد2.

وقد لقي هذا النسب الجديد للأكراد تشجيعًا من بعض الأكراد في أيام العباسيين، وربما في أيام أواخر الدولة الأموية كذلك، فأيدوه وانقسموا أيضا فرقًا في شجرات النسب، فمنهم من أخذ بشجرة كرد بن مرد، ومنهم من أخذ بانتسابهم إلى سبيع بن هوازن، ومنهم من انتسب إلى ربيعة ثم إلى بكر بن وائل3.

وكان من الطبيعي أن يجعل القحطانيون أعداء الفرس من ذوي أرحامهم، وهم اليونان، فقالوا: إن يونان أخ لقحطان، وإنه من ولد عابر بن شالخ، وإنه خرج من أرض اليمن في جماعة من ولده وأهله ومن انضاف إلى جملته حتى وافى أقاصي بلاد المغرب فأقام هناك، وأنسل في تلك الديار، واستعجم لسانه ووازى من كان هناك في اللغة الأعجمية من الإفرنجة، فزالت نسبته، وانقطع نسبه وصار منسيا في ديار اليمن، وقالوا أيضا: إن الإسكندر من تبع4. وكان من الطبيعي انزعاج العدنانيين من ربط نسب قحطان بيونان، فانبروا للرد عليه، وكيف يرضون أن يكون للقحطانيين أبناء عم على شاكلة اليونانيين، وقد

1 التنبيه "ص94".

2 مروج الذهب "1/ 307 فما بعدها" التنبيه "ص78".

3 التنبيه والإشراف "ص78".

4 مروج الذهب "1/ 178" "وقد ذكر أن يونان أخو قحطان

وقد كان يعقوب بن إسحاق الكندي يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا".

ص: 149

كانوا أمهر من الفرس، ولهم دولة كبرى. فقال أحدهم، وهو أبو العباس الناشئ:

وتخلط يونانًا بقحطان ضلَّةً

لَعَمْرِي لقد باعدت بينهما جِدَّا1

وأضاف القحطانيون الأتراك إليهم أيضا، فزعموا أن معظم أجناس الترك وهم "التبت" من حمير، وأن التبع "شمر يرعش" أو تبعًا آخر رتبهم هناك، وأن "شمر يرعش" هو الذي أمر ببناء "سمرقند"، إلى غير ذلك من أقوال لا ترضي العدنانيين بالطبع، وفي ذلك يقول "دعبل بن علي الخزاعي" في قصيدته التي يرد بها على "الكميت"، وفخر فيها بمن سلف من ملوكهم وسير في الأرض، وأن لهم من الفضل ما ليس لمعد بن عدنان، فقال في شعره:

همو كتبوا الكتاب بباب مَرْوٍ

وباب الصين كانوا الكاتبينا

وهم جمعوا الجموع بسمرقند

وهم غرسوا هناك التبتينا2

وأضافوا "الضحاك" إليهم، وصيروه من "الأزد"، والأزد من اليمن، فهو يماني إذن أصيل3. و"الضحاك" هو "بيوراسب" عند أهل الأخبار، وقد ملكوه ألف سنة، وهو بطل أسطوري عند الفرس4. وقد أخذ أهل الأخبار "ضحاكهم" هذا من "إسحاق"، كما أخذ العدنانيون "ويزكهم" من "إسحاق" فصيروه "منشخر" على نحو ما ذكرت، وقد قلت: إن معنى "إسحاق" في العبرانية الضحاك. فالقحطانيون فعلوا هذا فعل العدنانيين، لجئوا إلى إسحاق فصيروه "الضحاك"، وبدلا من أن يقولوا: إنه "ويزك" من اسم "إسحاق" في العبرانية أخذوا معنى الاسم فصيروه اسما عربيا هو الضحاك، وجعلوه قحطانيا من الأزد.

وكان كل فريق يرد على مزاعم الفريق الآخر، حين يضيف إليه أمة من الأمم. فلما ادعى العدنانيون أنهم هم والإسرائيليين والأعاجم من نسب واحد،

1 مروج الذهب "1/ 178"، ابن خلدون "2/ 184".

2 مروج الذهب "1/ 300".

3 مروج الذهب "ص76".

4 التنبيه "ص75".

ص: 150

انبرى "دعبل الخزاعي" يرد عليهم في قصيدة ساخرة يقول فيها:

فإن يك آل إسرائيل منكم

وكنتم بالأعاجم فاخرينا

فلا تنسَ الخنازير اللواتي

مُسِخْنَ مع القرود الخاسئينا

بأيلة والخليج لهم رسوم

وآثار قدمن وما محينا

لقد علمت نزار أن قومي

إلى نصر النبوة فاخرينا

قال هذه القصيدة في الرد على "الكميت"، وهو لسان من ألسنة النزارية، وقد تعرض فيها باليمانية وتهكم عليهم1.

حتى الموالي، وهم كما نعلم من أصل غير عربي، أسهموا في هذه المعركة، وحاربوا في الصفوف الأولى منها، تعصب كل منهم للجانب الذي دخل في ولائه. هذا "أبو نواس"، وهو مولى "بني حكم بن سعد العشيرة"، يتعصب للقحطانية ويدافع بكل قواه عنها؛ لأن "بني الحكم" من اليمن. وقد حمله تعصبه لهم على نظم قصيدة هجا فيها قبائل نزار بأسرها وافتخر بقحطان وقبائلها، وقد أوجعت النزاريين وآلمتهم، فشكوه إلى الخليفة الرشيد وهو منهم، فأمر بحبسه بسببها، وقيل: إنه حده لأجلها، وأولها:

لست لدار عفت وغيَّرها

ضربان من قطرها وحاصبها

ثم قال مفتخرًا باليمن وذاكرًا للضحاك:

فنحن أرباب ناعظ ولنا

صنعاء والمسك في محاربها

وكان منا الضحاك يعبده الـ

ـخابل والطير في مساربها

ثم يستمر فيقول في هجاء نزار:

واهجُ نزارًا وافرِ جلدتها

وكشِّفِ السترَ عن مثالبها2

وأثارت هذه القصيدة جماعة من النزارية، فردت عليه. وكان منهم رجل

1 مروج "1/ 300".

2 التنبيه "ص76 فما بعدها".

ص: 151

من "بني ربيعة بن نزار"، فقال يذكر نزارًا ومناقبها، واليمن ومثالبها في قصيدة أولها:

دع مدح دار خبا وانتهى

عهد معدّ بزعم عاتبها

ثم استمر، فقال:

فامدح معدًّا وافخر بمنصبها الـ

ـعالي على الناس في مناصبها

وهتك الستر عن ذوي يمن

أولاد قحطان غير هائبها1

وقد أنتج هذا النزاع القحطاني العدناني قصصًا وحكايات وشعرًا دُوِّن في الكتب، وأُنتج "حديثا" زعمٌ أن قائله هو الرسول، قاله في مدح قحطان أو في مدح عدنان، وأحيانا في مدح القبائل، مثل: حمير ومذحج وهمدان وغسان، وقبائل أخرى أو في مدح بيوتات معينة من مثل هذه القبائل.

لقد تلون هذا النزاع بلون أدبي زاهٍ لا يخلو من طرافة وإن كان قد أساء من الناحية السياسية إلى هذه الأمة أيما إساءة. فقد لون اليمانيون تأريخهم القديم بألوان زاهية جميلة من القصص والحكايات والأخبار، فهم الذين زعموا أن قحطان هو ابن هود النبي، فأوصلوا نسبهم بالأنبياء، وهم الذين أوصلوا نسب قحطان إلى إسماعيل، فنفوا بذلك أي فضل كان للعدنانيين على القحطانيين في الآباء والأجداد، وهم المسئولون عن هذا التقسيم المشهور المعروف للعرب وجعل القحطانيين في الطبقة الأولى من العربية بالنسبة إلى العدنانيين، وهم الذين نظموا في الإسلام تلك الأشعار والقصائد التي ذكرها الرواة على أنها من نظم التبابعة وملوك القحطانيين، وهم الذين ساقوا تلك الحكايات عن الفتوحات العظيمة لملوك اليمن وعن حكم القحطانيين للعدنانيين واستذلالهم إياهم.

وقد استغل العدنانيون ظهور الرسول بينهم، فاتخذوا من هذا الشرف ذريعة للتفاخر والتباهي على القحطانيين. وقد أجابهم اليمانيون على ذلك بأنهم هم الذين كان لهم شرف نصرة الرسول وإعلاء كلمة الله، وهم الذين كونوا مادة الجيش الإسلامي، وهم الذين آووا الرسول وفتحوا مكة. وتمسك العدنانيون بأذيال

1 التنبيه "ص77".

ص: 152

إبراهيم وعدوه جدهم الخاص بهم، مع أنه جد العرب عامة كما في القرآن الكريم، ونفوا كل مشاركة للقحطانيين في هذا النسب الشريف. وقد كان لهم ما يساعدهم في تقوية حجتهم، فقد كان الرسول من صلب إسماعيل والرسول منهم، فإبراهيم هو أبو المختص بهم. ولرد دعوى الإسماعيليين هذه من اختصاص إسماعيل وإبراهيم بهم، وصل بعض رواتهم نسب قحطان بإسماعيل وإبراهيم، ولم يكتفوا بذلك فلا بد لهم من شرف زائد، ورجحان على العدنانيين الذين لم يبدأ ملكهم إلا في الإسلام، فاختصوا هودًا بهم، وجعلوه نبيا يمانيا. ثم لم يقبلوا بنبي واحد زيادة على الأنبياء الذين اختص بهم العدنانيون، فأضافوا إليهم صالحًا النبي وقالوا: إنه من صميم حمير وإنه صالح بن الهميع بن ذي ماذن نبي حمير من آل ذي رعين، وزعموا أن ثقيفا كان غلاما له1، وحصلوا بذلك على نبي وطعنوا في ثقيف، وهم من العدنانيين في الوقت نفسه، وأضافوا إليهم نبيا آخر من صميم حمير سموه أسعد تبع الكامل بن ملكي كرب بن تبع الأكبر بن تبع الأقرن، وقالوا: إنه ذو القرنين الذي قال الله تعالى فيه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 2. وذكروا أنه كان من أعظم التبابعة وأفصح شعراء العرب؛ ولذلك قال بعض العلماء فيه: ذهب ملك تبع بشعره، ولولا ذلك لما قدم عليه شاعر من العرب وقالوا: نهى النبي عن سبه؛ لأنه آمن به قبل ظهوره بسبعمائة عام، وليس ذلك إلا بوحي من الله عز وجل، وهو أول من كسا البيت، وجعل له مفتاحا من ذهب. وأوردوا له أشعارا لإثبات إيمانه بالرسول تمنى فيها لو أدرك أيامه إذًا لآمن به، ولكان له وزيرا وابن عم، ولألزم طاعته كل من على الأرض من عرب وعجم، ورووا له أبياتا في البيت الحرام، وكيف كان يقصده فيمكث فيه تسعة أشهر، وكيف كان ينحر في العام سبعين ألفًا من البدن3.

وزعموا فوق هذا كله أنه تنبأ بعودة ملك حمير حيث يظهر المهدي منهم، وهو رجل حميري سبئي الأبوين، يعيد الملك إلى حمير بالعدل، في هذه الأبيات التي رواها عُبيد بن شَرْيَةَ الجُرهمي:

1 منتخبات "ص62".

2 منتخبات "ص13".

3 منتخبات "ص13".

ص: 153

ومن العجائب أن حمـ

ـير سوف تعلى بالقهور

ويسودها أهل الموا

شي من نضير أو نضير

يعني النضر بن كنانة، وهو قريش.

ويثيرها المنصور من

جنبي أزال كالصقور

وهو الإمام المرتجى المـ

ـذكور من قدم الدهور

وأنه قال:

بمنصور حمير المرتجى

يعود من الملك ما قد ذهب

ويرجع بالعدل سلطانها

على الناس في عجمها والعرب

وقالوا: إن المنصور هو لقب القائم المنتظر الذي سيظهر ليعيد ملك حمير المسلوب1.

وذكروا أنه كان في جملة ما قاله من شعر قوله:

واعلم بنيَّ بأن كل قبيلة

ستذل إن نهضت لها قحطان2

إلى غير ذلك من أشعار نسبت إليه وإلى غيره من التبابعة تتحدث عن حقد القحطانيين على العدنانيين، وعن ألمهم الشديد لفراق ملكهم وانتقال الحكم منهم إلى المكيين، وقد كانوا من أتباعهم بالأمس. فعللوا أنفسهم بالتحدث عن الماضي، ثم صبروا أنفسهم بالحديث عن ملك سيعود، وعن دولة ستأتي، وعن مهدي يأخذ بالثأر، كالذي يفعله المغلوبون، وجعلوا ذا القرنين الذي ورد اسمه في سورة الكهف منهم3، فقالوا: هو الهميسع بن عمرو بن زيد بن كهلان، أو الصعب بن عبد الله بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر، أو تبع الأكبر بن تبع الأقرن، أو تبع الأقرن، وكان مؤمنا عالما عادلا، ملك جميع الأرض وطافها، ومات في شمال بلاد الروم حيث يكون النهار ليلا إذا انتهت الشمس إلى برج الجدي. وقد كان يقول الشعر، وهو الذي بشر

1 منتخبات "ص103".

2 منتخبات "ص83".

3 سورة الكهف: 18، الآية 83، 86، 94.

ص: 154

بالنبي في شعره، وطبيعي أن يكون واضعو هذه الأشعار أناسًا من الأنصار ومن بقية فروع قحطان1.

وتعلق متعصبو اليمانية بالأبنية الفخمة وبالمدن الكبرى، فجعلوها من أبنية ملوكهم أو من أبنية أسلافهم العرب العاربة. وقد ذكر المسعودي أن من اليمانية من يرى أن الهرمين اللذين في الجانب الغربي من فُسطاط مصر، هما قبرا "شداد بن عاد وغيره من ملوكهم السالفة الذين غلبوا على بلاد مصر في قديم الدهر، وهم العرب العاربة من العماليق وغيرهم"2. ونسبوا لملوكهم الفتوحات الفخمة في الشرق والغرب.

وأضافوا إليهم لقمان الحكيم، زعموا أنه لقمان الحميري، وقالوا: إنه كان حكيمًا عالمًا بعلم الأبدان والأزمان، وهو الذي وَقَّت المواقيت، وسمى الشهور بأسماء مواقيتها. وزعموا أن ياسر ينعم ملك بعد سليمان بن داود، وسمي ينعم؛ لأنه رد الملك إلى حمير بعد ذهابه، وأن الضحاك ملك من الأزد كان في وقت إبراهيم فنصره، وبذلك كانت للقحطانيين منة قديمة على إبراهيم وعلى العدنانيين بصورة خاصة. وقالوا أشياء أخرى كثيرة، قد يخرجنا ذكرها من صلب هذا الموضوع، من أعمال وفتوحات لشمر يرعش وغيره من التبابعة3.

وقد لوَّن العدنانيون تأريخهم، واستعانوا بالشعر، فوضعوا منه ما شاءوا في الرد على القحطانيين. قال ابن سلام:"نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام"4، وعقبوا على الروايات القحطانية، فلما ادعى اليمانيون مثلا أن تبعهم "أبا كرب" فتح العراق والشام والحجاز، وأنه امتلك البيت الحرام، ونكل بالعدنانيين شر تنكيل، وأنه قال شعرا، منه:

1 قال النعمان بن بشير:

فمن ذا يفاخرنا من الناس معشر

كرام، فذو القرنين منا وحاتم

ونحن بنينا سد يأجوج فاستوى

بأيماننا، هل يهدم السد هادم؟

وقال لبيد:

والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا

بالحنو في جدث هناك مقيم

منتخبات "ص61، 84 فما بعدها".

2 التنبيه "ص18".

3 منتخبات "ص56، 65".

4 في الأدب الجاهلي "ص123".

ص: 155

لست بالتبع اليماني إن لم

تركض الخيل في سواد العراق

أو تؤدي ربيعة الخرج قسرًا

أو تعقني عوائق العواق

قال العدنانيون: نعم، وقد كانت بين تبع هذا وقبائل نزار بن معد وقائع وحروب، واجتمعت عليه معد من ربيعة ومضر وإياد وأنمار، فانتصرت عليه، وأخذت الثأر منه، وفي ذلك قال أبو دُوَاد الإيادي:

ضربنا على تبع حربه

حبال البرود وخرج الذهب

وولى أبو كرب هاربًا

وكان جبانًا كثير الرهب

وأتبعته فهوى للجبين

وكان العزيز بها من غلب1

إلى غير ذلك من القصص والحكايات التي وضعها الرواة في صدر الإسلام حين احتدم الخلاف بين الأنصار وقريش، سجلت في الكتب، ورُويت للناس، وانتشرت بينهم على أنها أمور واقعية، وأن العرب كانوا من أصلين: قحطان وعدنان.

وقد كان لكل فريق رواة وأهل أخبار يقصون على الناس قصصًا وأخبارًا في أخبار النزاع القحطاني العدناني. فوضع "عبيد بن شرية الجرهمي" كثيرًا من القصص والأشعار عن العرب الأولى وعن القحطانيين، وضع ذلك لمعاوية بن أبي سفيان، وكان معاوية مغرمًا بسماع أساطير الأولين وأخبار الماضين، كما سبق أن أشرت إلى ذلك.

ووضع "يزيد بن ربيعة بن مفرغ" المتوفى سنة "69" للهجرة، وهو شاعر متعصب لليمن، قصص "تبع"2. جاء في كتاب الأغاني:"سُئِل الأصمعي عن شعر تبع وقصته ومن وضعهما، فقال: ابن مفرغ. وذلك أن يزيد بن معاوية لما سيره إلى الشام وتخلصه من عبيد الله بن زياد، أنزله الجزيرة وكان مقيمًا برأس عين، وزعم أنه من حمير، ووضع سيرة تبع وأشعاره، وكان النمر بن قاسط يدعى أنه منهم"3.

1 مروج الذهب "1/ 300".

2 Muh. Stud. Bd. I،S. 97

3 الأغاني "17/ 52".

ص: 156

وظهرت كتب ضمت أخبار التبابعة وقصصهم، أشار إليها المسعودي، دعاها بـ"كتب التبابعة"1. وقد وقف عليها ونقل منها، وهي كما يظهر من نقله ومن نقل غيره منها من هذه الأساطير المنسوبة إلى عبيد ووهب ويزيد بن المفرغ وأمثالهم من أصحاب القصص والأساطير.

وكان بين العدنانيين والقحطانيين جدل وكلام في لغة "إسماعيل"، فاليمانيون ومنهم "الهيثم بن عدي الطائي" كانوا يرون أن لسان "إسماعيل" الأول هو اللسان السرياني، ولم يكن يعرف العربية. فلما جاء إلى مكة وتصاهر مع جرهم، أخذ لسانهم وتكلم به، فصار عربيًّا. أما النزارية، فكانت تنفي ذلك نفيا قاطعا، وترده ردا شديدا، وتقول: لو كان الحال كما تزعمون "لوجب أن تكون لغته موافقة للغة جرهم أو لغيرها ممن نزل مكة، وقد وجدنا قحطان سرياني اللسان، وولده يعرب بخلاف لسانه. وليست منزلة يعرب عند الله أعلى من منزلة إسماعيل، ولا منزلة قحطان أعلى من منزلة إبراهيم، فأعطاه فضيلة اللسان العربي التي أعطيها يعرب بن قحطان"2. فنفى النزارية العربية عن قحطان أيضا وصيروه كإسماعيل سرياني اللسان.

وقد عقب "المسعودي" على هذا النزاع النزاري القحطاني بقوله: "ولولد نزار وولد قحطان خطب طويل ومناظرات كثيرة لا يأتي عليها كتابنا هذا في التنازع والتفاخر بالأنبياء والملوك وغير ذلك مما قد أتينا على ذكر جمل من حجاجهم وما أدلى به كل فريق منهم ممن سلف وخلف"3. ونجد جملًا كثيرة من هذا النوع مبثوثة في كتابيه: مروج الذهب، والتنبيه والإشراف، تتحدث عن ذلك النزاع المرّ المؤسف الذي وقع بين العرب في تلك الأيام.

ولعل هذه العصبية الجاهلية، هي التي حملت جماعة من المتكلمين منهم "ضرار بن عمرو بن ثمامة بن الأشرس" و"عمرو بن بحر الجاحظ" على الرغم، أن "النبط" خير من العرب؛ لأن الرسول منهم، ففضلوهم بذلك على العدنانيين والقحطانيين، وهو قول رد العدنانيون والقحطانيون عليه4. قال به المتكلمون متأثرين بآراء أهل الكتاب في أنساب أبناء إسماعيل وبآرائهم الاعتزالية التي تكره التعصب في مثل هذه الأمور. وقد ذكر "المسعودي" شيئًا من الرد الذي وضعه القحطانيون والعدنانيون ضد هؤلاء.

1 مروج الذهب "279".

2 مروج الذهب "1/ 277".

3 مروج الذهب "1/ 277".

4 مروج الذهب "1/ 266 فما بعدها".

ص: 157